من أحكام اللباس
ويكره لبسٌ فيه شهرة لابسٍ وواصف جلدٍ لا لزوجٍ وسيدِ
إذاً: يُنهى عن اللباس الذي يتميز به الإنسان عن سائر الناس، اللباس الذي يلفت الأنظار، فهو لباس شهرة، وقد توعد صاحبه يوم القيامة أن يُلهب فيه النار، وبالنسبة للمرأة لا يجوز لها أن تلبس ما يصف الجلد، إلا لزوجها، أو سيدها إذا كانت أمة.
وإن كان يبدي عورةً لسواهما فذلك محذورٌ بغير تردد
وخير خلال المرء جمعاً توسط الأمور وحالٌ بين أردى وأجودِ
أي: لا تلبس غالياً جداً ولا رديئاً جداً.
وأحسن ملبوسٍ بياضٌ لميت وحيٍ فبيض مطلقاً لا تسود
فلبس البياض سنة للحي والميت.
وأحمر قانٍ والمعصفر فاكرهن للبس رجال حسبُ في نص أحمدِ
فإذاً لبس الأحمر القاني للرجال منهي عنه، أما إذا كان أحمر مخططاً فلا بأس، لبس النبي عليه الصلاة والسلام حبرةً أو إزاراً أو ثوباً فيه خطوط، أما الثوب الأحمر القاني فلا يلبسه الرجل، نعم تلبسه المرأة، أما الرجل فلا يلبس الأحمر القاني، لا بدلة رياضة ولا غيرها.
إما إذا كان مخلوطاً بغيره كهذه الأغطية للرأس مخلوطةٌ بالبياض فلا تدخل في ذلك، والمعصفر المصبوغ بالعصفر هذا لا يلبس أيضاً للرجال، وهو من ثياب النساء.
قال رحمه الله:
ويحرم سترٌ أو لباس الفتى الذي حوى صورةً للحي في نصِ أحمدٍ
فالثوب الذي فيه صورة من ذوات الأرواح لا يجوز لبسه لا للصغار ولا للكبار، لا للنساء ولا للرجال، الثياب التي فيها صور لذوات الأرواح لا يجوز لبسها.
وأطول ذيل المرء للكعب والنسا من الأزر شبراً أو ذراعاً لتزددي
بالنسبة للرجل لا يلبس تحت الكعبين، بالنسبة للمرأة ترخي شبراً أو ذراعاً لأجل عدم انكشاف الساقين عند هبوب الريح أو عند طلوعها ونزولها مثلاً، فيُرخص للمرأة أن تُرخي ذيلها شبراً أو ذراعاً من الخلف حتى إذا هبت الريح لم تكشف شيئاً من عورتها.
وأشرف ملبوسٍ إلى نصف ساقه وما تحت كعب فاكرهنه وصعّدِ
اصعد فوق الكعبين، وأحسنه إلى منتصف الساق.
وللرسغ كم المصطفى فإن ارتخى تناهى إلى أقصى أصابعه قدِ
السنة الكم إلى الرسغ، فإن تناهى أطراف الأصابع لا بأس، لكن بعض الناس عندهم أكمامٌ ذات أخراج وعمائم ذات أبراج، فهذه من أنواع الإسبال، فهناك شيء اسمه إسبال الأكمام، إذا كانت الأكمام واسعة جداً، فهذا من إسبال الأكمام فيُنهى عنه، وكذلك ما يلبس الواحد كماً يُغطي اليدين والأصابع ويمتد، والسنة أن يكون إلى الرسغ، ولو جاوزه قليلاً فلا حرج.
ويحسن تنظيف الثياب وطيها ويكره مع طول الغنى لبسك الردي
تنظيف الثياب وطيها مستحسن، وإذا كنت غنياً فلا تلبس الردي: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
ومن يرتضي أدنى اللباس تواضعاً سيكسى الثياب العبقريات في غدِ
الذي يتواضع في لباسه يكسوه الله يوم القيامة من الحلل ما شاء لأنه تواضع.
وقل لأخٍ: أبل وأخلق ويخلف الـ إله كذا قل عش حميداً تسدد
فيقال لمن لبس ملبوساً جديداً: أبل وأخلق، ويخلف الله، كذلك تقول له: (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمر.(56/21)
من أحكام الخواتم
ولا بأس بالخاتم من فضةٍ ومن عقيق وبلورٍ وشبه المعددِ
يجوز اتخاذ خاتم الفضة للرجال، ولو كان فيه فص من عقيق أو بلور فلا بأس بذلك.
ويكره من صُفرٍ رصاصٍ حديدهم ويحرم للذكران خاتم عسجدِ
(من صفر) هو النحاس، (رصاص) خاتم الرصاص، (حديدهم): خاتم الحديد، يكره هذا للرجال، (ويحرم للذكران خاتم عسجد) يحرم على الذكر أن يلبس خاتماً من الذهب.
ويحصل في اليسرى كـ أحمد وصحبه ويُكره في الوسطى وسبابة اليدِ
إذا لبست الخاتم باليمين أو لبسته بالشمال، فكلاهما وارد في السنة، وتضعه في الخنصر أو البنصر، لا تضعه في الوسطى ولا السبابة، فقد ورد النهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم في النهي عن لبس الخاتم في السبابة أو الوسطى والتي تليها، فلا تلبس في الوسطى ولا السبابة، والبس في الخنصر أو البنصر.
ويحسن في اليمنى ابتداء انتعاله وفي الخلع عكسٌ واكره العكس ترشدِ
فإذاً عند الخلع تخلع اليسرى أولاً ثم اليمنى، وعند اللبس تلبس اليمنى أولاً ثم اليسرى.
ويكره مشي المرء في فرد نعله اختياراً أصخ حتى لإصلاح مفسدِ
فإذاً يكره للإنسان أن يمشي في النعل الواحدة، والسبب أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنها مشية الشيطان (فإن الشيطان يمشي في النعل الواحدة) وإن انقطعت إحدى الفردتين، فاقتلع الاثنتين حتى تصلحها وتمشي بهما جميعاً أو تحفيهما جميعاً.
وسر حافياً أو حاذياً وامش واركبن تمعدد واخشوشن ولا تتعودِ
إذاً من السنة أن الإنسان يمشي حافياً أحياناً، لأجل أن يخشوشن وقوله: تمعددُ أي: انتسبوا إلى معد بن عدنان، إلى معد الذي كان من عادته الرجولة والخشونة.
ويكره في المشي المطيطي ونحوها مظنة كبرٍ غير في حرب جحدِ
(المطيطي) مشية فيها خيلاء، وقوله: (غير في حرب جحدِ) أما في الحرب فيجوز أن تتبختر وتتمخطر بين الصفين إغاظة للعدو.
ويكره لبس الخف والأزر قائماً كذاك التصاق اثنين عرياً بمرقدِ
لا تلبس حذاء يحتاج إلى مئونة في لبسه واقفاً، كالأحذية التي لها رباطات، قيل: حتى لا يسقط، وقيل: حتى لا يظهر قفاه ظهوراً قبيحاً، وقيل: إنه دليل على الكبر، فنزوله إلى الأرض لربط حذائه أحسن، فإذاً الأحذية التي فيها رباطات يُنهى عن لبسها قائماً، فالسنة أن يلبسها جالساً، أما هذه النعال التي تُدخل الرجل فيها إدخالاً يسيراً فلا يحتاج إلى جلوس للبسها.(56/22)
من آداب النوم
ويكره لبس الخف والأزر قائماً كذاك التصاق اثنين عرياً بمرقدِ
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتصق اثنين عرياً بمرقدٍ واحد، نهى أن يضطجع الرجلان ويتغطيان بغطاءٍ ليس عليهما شيءٌ من الثياب.
وثنتين وافرق في المضاجع بينهم ولو إخوةً من بعد عشرٍ تُسدد
يتأكد التفريق بين الأطفال في المضاجع، حتى لا يقع الفساد بينهم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، لا شك أن التفريق بين الذكور والإناث أوجب، ولكن حتى لو كانوا ذكوراً بمفردهم بمعزل أو إناثاً بمعزل أيضاً يفرق بينهم في المضاجع، وبالذات بعد سن العشر.
ويكره نوم المرء من قبل غسله من الدهن والألبان للفم واليدِ
حتى لا ينام وفيه زفر، قال:
ويكره نومٌ فوق سطحٍ ولم يُحط عليه بتحجيرٍ لخوفٍ من الردي
الذي ينام على سطح ما له سور، يمكن أن يكون عرضة للسقوط، فلا يفعل ذلك حتى لا يسقط، فمن فعله فقد برئت منه العهدة.
ويكره بين الظل والشمس جلسةٌ ونومٌ على وجه الفتى المتمددِ
وذلك لأن الجلوس بين الظل والشمس مجلس الشيطان؛ فلا تجلس فيه، والنوم على البطن منهي عنه؛ لأنه ضجعة أهل النار؛ فلا تضطجع هذه الضجعة.
ويحسُن عند النوم نفض فراشه ونومٌ على اليمنى وكحلٌ بإثمدِ
(ويحسُن عند النوم نفض فراشه) كما جاء في السنة، فربما كان فيه شيء أو حشرة.
والكحل الإثمد لونه يميل إلى الأحمر أو الأصفر أو البني، وهو يجلو البصر، ولذلك الاكتحال بالإثمد مما يجلو البصر ويُحسن النظر.(56/23)
من آداب الزواج
وخذ لك من نصحي أُخَيَّ نصيحةً وكن حازماً واحضر بقلبٍ مؤيدِ
ولا تنكحن من تسمو فوقك رتبةً تكن أبداً في حكمها في تنكدِ
إذا أردت أن تتزوج فلا تتزوج واحدة أغنى منك، أو أشرف منك أو أعلى رتبة منك، فإنها ستتطاول عليك وتقول: أنا كذا وأنت كذا، علماً أن هذا ليس بشرط، غير أنها في العادة تتطاول خاصة عند حصول الخلاف، وتذكرك بفضلها عليك في مالٍ أو نسبٍ.
ولا تَرْغَبَنْ في مالها وأثاثها إذا كنت ذا فقرٍ تذل وتضهدِ
إذا كنت ذا فقرٍ، فلا تأخذ منها، وليس بالضرورة إذا أخذ منها أن تذله، لكن الإنسان يستغني أحسن.
ولا تَسْكُنَنْ في دارها عند أهلها تسمع أذىً أنواع من متعددِ
أحسن لك ألا تسكن عند أهل المرأة، اسكن لوحدك، حتى لا تسمع شيئاً من الأذى، وأيضاً هذا ليس بالضرورة، قد يكون أهلها فيهم خير وطيبة، وأنت محتاج فلا بأس.
وكن حافظاً إن النساء ودائعٌ عوانٍ لدينا احفظ وصية مرشدِ
وخير النسا من سرت الزوج منظراً ومن حفظته في مغيبٍ ومشهدِ
قصيرة ألفاظٍ قصيرة بيتها قصيرة طرف العين عن كل أبعدِ
تغض البصر، قليلة الكلام، دائماً في البيت.
عليك بذات الدين تظفر بالمنى الودود الولود الأصل ذات التعبدِ
ذات التعبد: صاحبة الدين.(56/24)
نصائح لطالب العلم
ثم قال رحمه الله:
ولا يذهبن العمر منك سبهللاً ولا تُغبننْ بالنعمتين بل اجهد
سبهللاً: أي فراغاً بدون فائدة، ولا تغبننْ بالنعمتين: أي الصحة والفراغ.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد
أي: ندماً بعد الموت حين فات الأوان.
وخير جليس المرء كتبٌ تفيده لوماً وآداباً كعقلٍ مؤيدِ
وخالط إذا خالطت كل موفقٍ من العلما أهل التقى والتعبدِ
يفيدك من علمٍ وينهاك عن هوى فصاحبه تُهدى من هداه وترشدِ
وإياك والهماز إن قمت عنه البذي فإن المرء بالمرء يقتدي
وحافظ على فعل الفروض بوقتها وخذ بنصيبٍ في الدجى من تهجدِ
وناد إذا ما قمت بالليل سامعاً قريباً مجيباً بالفواضل يبتدي
ومد إليه كف فقرك ضارعاً بقلبٍ منيبٍ وادع تعط وتسعدِ
ولا تطلبن العلم للمال والريا فإن ملاك الأمر في حسن مقصدِ
وكن عاملاً بالعلم فيما استطعته ليُهدى بك المرء الذي بك يقتدي
حريصاً على نفع الورى وهداهم تنل كل خيرٍ في نعيمٍ مؤبدِ
ادعُ إلى الله وعلم الناس الخير.
وإياك والإعجاب والكبر تحظ بالسعادة في الدارين فارشد وأرشد
وها قد بذلت النصح جهدي وإنني مقرٌ بتقصيري وبالله أهتدي
تقضت بحمد الله ليست ذميمةً ولكنها كالدر في عقد خُرَّدِ
يحار لها قلب اللبيب وعارفٌ كريمان إن جالا بفكر منضدِ
ثم قال في آخر بيت من هذه القصيدة
وقد كملت والحمد لله وحده على كل حالٍ دائماً لم يصدد
فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً ممن استفاد وأفاد، وأخذ من السنة ما يعمل به في حياته، ونسأله عز وجل أن يختم لنا بالصالحات أعمالنا.(56/25)
الأسئلة(56/26)
حال حديث: (خاتم الحديد حلية أهل النار)
السؤال
حديث: (خاتم الحديد حلية أهل النار) حديثٌ ضعيف كما نص عليه أهل العلم؟
الجواب
هذا أمرٌ مختلفٌ فيه، فبعضهم صحح الحديث.(56/27)
التربع عند الأكل من الاتكاء
السؤال
هل التربع من الاتكاء؟
الجواب
عند الأكل.(56/28)
مرجع قصيدة الآداب لابن عبد القوي
السؤال
ما هو اسم الكتاب الذي توجد فيه القصيدة؟
الجواب
قلنا: إن القصيدة هي قصيدة الآداب لابن عبد القوي شرحها السفاريني في غذاء الألباب في مجلدين، وهي موجودة في آخر المجلد الرابع من موارد الظمآن، يمكنك الرجوع إليها، فهي فيه متتابعة.(56/29)
من خصائص الإثمد
السؤال
ما هو الإثمد؟
الجواب
الإثمد: الذي يميل إلى الاحمرار.(56/30)
وقوع الطلاق إذا كان باللفظ الصريح
السؤال
هل يقع الطلاق إذا قال: عليّ الطلاق أنتِ طالق؟
الجواب
نعم، إذا ما وقع هكذا فإنه يقع، أي: أنه ما ترك لنفسه مجالاً.(56/31)
أين يكون الإسبال؟
السؤال
الإسبال يكون في الأكمام، فهل يأخذ هذا الإسبال حكم إسبال الثياب فيما نزل عن الكعبين؟
الجواب
هو إسبال لكن أخف منه.(56/32)
من تعامل الأعراب مع المرأة
السؤال
يقول الأعراب: إذا صاب الحرمة ماعون في البيت اكسره؟
الجواب
لا، هذا ما هو بهذه الدرجة، بحيث لا تجعلها تتملك شيئاً، وإذا صار لها ماعون تكسره حتى لا يكون لها فضل عليك، هذا ليس بصحيح، وقد تكون المرأة غنية وزوجها فقير.(56/33)
حكم التنفس في الإناء الخاص بالشارب
السؤال
ما حكم التنفس في كأسٍ خاص بشاربه؟
الجواب
حتى التنفس في كأسٍ للشارب قد يضر نفسه.(56/34)
حكم تصديق من يخاطبون الجن
السؤال
إذا كان هناك من يخاطب الجن ويذكرون له بعض الأخبار عندهم وغير ذلك، فهل نصدق هذه الأخبار؟
الجواب
لا، لأننا لا ندري بحالهم وقد يكونون كفرة، وقد يكونون كاذبين.(56/35)
حكم قتل حيات البيوت إذا كانت سوداء
السؤال
إذا كان لون حيات البيوت أسود؟
الجواب
ولو كان أسود، لأن التخصيص بالسواد للكلاب السود.(56/36)
حكم تملك القطط
السؤال
هل يجوز تملك القطط؟
الجواب
نعم، لكن ورد النهي عن شرائها وبيعها.(56/37)
حكم تهذيب اللحية
السؤال
هل تعديل اللحية حرام؟
الجواب
نعم، لا يجوز الأخذ من اللحية، لا من طولها ولا من عرضها، لكن بعض العلماء أجازوا أخذ ما طال عن القبضة كما كان ابن عمر يفعل في الحج والعمرة، لكن كثيرٌ منهم يرون عدم المس بها مطلقاً وعدم الأخذ منها أبداً.(56/38)
حكم انعقاد البيع عن طريق الهاتف
السؤال
هل ينعقد مجلس البيع عن طريق الهاتف؟
الجواب
نعم، إذا قال: بعت وقال: اشتريت وانفصلوا، يعتبر بيعاً.(56/39)
حكم البيع إذا لم يتم بلفظ صريح
السؤال
اتفقت مع أحد التجار على أن يُقدم لي خدمة عن طريق الهاتف، فأعطاني تسعيرة وأرسلتُ إليه عينة ليقوم بفحصها ومعاينتها ويعيد النظر في تسعيرته، وفعل ذلك، وقام بخفض السعر، وعندما عزمت إرسال باقي البضاعة عليه حسب الاتفاق أخبرني بتغيير السعر، لعدم ملاءمته له؟
الجواب
ما دام لم يتم البيع، المسألة مسألة مراسلات بينك وبينه وعروض، ولا يوجد عقد وقع ولا لفظ: (بعت واشتريت) فلم يتم البيع.(56/40)
حكم التسمية عند قتل الحيوان
السؤال
ما حكم البسملة عند قتل أي حيوان؟
الجواب
لا بأس، لأن البسملة وردت في جميع الحالات.(56/41)
الكلب الأسود شيطان
السؤال
هل جميع الكلاب السود شياطين؟
الجواب
نعم: (الكلب الأسود شيطان).(56/42)
أهمية استحضار الطبيب لنية الزيارة
السؤال
يحصل لمن يشتغل بالطب أنه كثيراً ما يدخل على المرضى في اليوم الواحد، فينسى الدخول على المريض بنية عيادة المريض حتى يصبح روتيناً؟
الجواب
ولذلك يجب أن يذكر نفسه دائماً باستمرار ويحتسب الأجر أن يعتبرها مثل عيادة مريض ويؤجر عليها.(56/43)
وصف ذي الطفيتين
السؤال
هل ثعبان الكوبرا الذي سمه قاتل في رأسه خطان أسودان يتحول كالورقة عند الغضب هو نفسه ذو الطفيتين؟
الجواب
ذو الطفيتين هذا على ظهره الخطان ممتدان، ولا شك أن هذا الثعبان مما يقتل.(56/44)
حكم الجهاز الكهربائي الذي يقتل الحشرات
السؤال
ما حكم استخدام جهاز كهربائي فيه ضوء يجذب الحشرات فيقتلها؟
الجواب
ننظر في الحشرات المقتولة فإن وجدناها محترقة، عرفنا أنه هذا يُلحق بالنار، فلا نستعمله، وإن وجدناها كاملة لكن قُتلت بالصعق وليس بالحرق، فلا بأس بذلك، فالحكم يعتمد على عمل هذا الجهاز هل يحرق أو يصعق، إن كان يحرق فلا نستعمله، وإن كان يصعق الحشرة كاملة بالصدمة الكهربائية، فلا بأس باستخدامه.(56/45)
رشف الشاي وآدابه
السؤال
بعض الإخوان عندما يرشفون الشاي أو القهوة يحدثون صوتاً عالياً.
الجواب
هذا من قلة الأدب في الشرب، وليس معنى الرشف أن يحدث الإنسان صوتاً عالياً.(56/46)
قتل الغراب والحدأة والفأر ولو لم تؤذ
السؤال
الغراب والحدأة والفأر هل أقتلها ولو أنها لا تؤذيني؟
الجواب
نعم.(56/47)
كيفية تمييز ثلث الطعام
السؤال
كيف أعرف الثلث المذكور في الحديث: (وثلث لطعامك)؟
الجواب
هم يقولون: إن معدة بني آدم ثمانية عشر شبراً، فقالوا: يأكل ستة أشبار؛ هكذا مكتوب، كيف يأكل ستة أشبار؟ لا أدري!! لكن على أية حال الإنسان يعرف نفسه؛ ولنفترض مثلاً أنه يشبع الشبعة التامة بستين لقمة، فليأكل عشرين لقمة ويصير هذا ثلثاً.(56/48)
حكم تداول الإناء لشرب اللبن
السؤال
عندنا عادة في نوع من الأكل، وهو عبارة عن خبز يؤكل مع الشرب من لبن يتداول شربه من قدح، فنأكل اللقمة ثم نشرب عليها ملء الفم تقريباً من اللبن، وتُعطي الذي يليك.
الجواب
تداول الإناء لا مانع منه.(56/49)
معنى حديث: [البذاذة من الإيمان]
السؤال
ما معنى حديث: (البذاذة من الإيمان)؟
الجواب
أي: التواضع في اللباس من الإيمان.(56/50)
حكم الاتكاء على اليدين
السؤال
ما حكم الاتكاء على اليدين الاثنتين؟
الجواب
لا أعلم فيه تحريماً، ولكن يحتاج إلى مراجعة الحديث، لأن فيه عند أبي داود أيضاً إلقاء اليدين خلف الظهر، فنحتاج أن نراجع صحته ومعناه.(56/51)
حكم كي المواشي
السؤال
هل كي المواشي للتوسيم جائز؟
الجواب
جائز في غير الوجه.(56/52)
حكم شق آذان الأغنام
السؤال
ما حكم شق آذان الأغنام ليبين أنها قد طببت؟
الجواب
استخدم وسيلة أخرى كالرش من بخاخ.(56/53)
مسألة في القدر
السؤال
رجل كافر ومات على الكفر، هل يدخل النار علماً أن الله قدر عليه الكفر والموت عليه قبل الولادة؟
الجواب
لا شك في ذلك، فهو عنده قدرة وعنده إرادة، وسمع بالحق، لماذا لم يتبعه؟! أليس قد اتبع هواه؟!(56/54)
قاعدة في أكل الحيوانات
السؤال
هل يجوز أكل الحيوانات الواردة في الكتاب والسنة فقط؟
الجواب
هناك أشياء واردة في الكتاب والسنة لا يجوز أكلها كالحمار الأهلي والكلب، لكن كل ما هو مستقذر عند عرب الحجاز وقت نزول الشريعة لا يجوز أكله، وكل ما له نابٌ لا يجوز أكله، وكل ما له مخلبٌ لا يجوز أكله، والجلالة التي تأكل القاذورات والنجاسات لا يجوز أكلها.
وقد ورد في الشريعة ضوابط للحيوانات التي لا تؤكل، مثلاً: القرد، الكلب، الحمار الأهلي، بخلاف حمار الوحش، القنفذ، الخنزير، هذه الأشياء لا تؤكل، ومن الأشياء التي تؤكل قطعاً بهيمة الأنعام، والسمك، والأرنب، والدجاج وغيرها، ومن الأشياء التي اختلفوا فيها: التمساح، قالوا: إنه حيوان مائي، وبعضهم قال: إنه ذو أنياب فاختلفوا! والتمساح هو الحيوان الوحيد الذي يفتح فمه إلى الأعلى، وجميع الحيوانات تفتح فكها إلى الأسفل.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(56/55)
النجاسات الحسية والمعنوية
الطهارة هي رفع الحدث وإزالة النجاسة، وقد أمر الله عز وجل بها وأثنى على أهلها، وقد لخص الشيخ في هذه الخطبة طائفة من الأحكام تختص بالطهارة، وقد اقتصر فيها على القول الراجح، فتناول مسألة التطهير بغير الماء كالمنظفات الكيماوية والشمس والريح، والاستحالة، وتطهير السطوح الصقيلة بمسحها، مفصلاً القول في كيفية تطهير الأرض والسجاد والبئر، ومبيناً حكم السمن إذا وقعت فيه النجاسة، وأردف ذلك بذكر نجاسة الكلب وطهارة الهرة، وفرق بين حكم المني وحكم كل من المذي والودي من حيث الطهارة.
ثم ذكر أقسام الدماء، وشرح كيفية تطهير الخف، وكيفية التطهر من بول الغلام وبول الجارية، وختم خطبته بذم الوسوسة والموسوسين، والتذكير بقبح النجاسة المعنوية كالشرك والنفاق.(57/1)
أهمية معرفة أحكام الطهارة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن حديثنا -أيها الإخوة- في هذه الخطبة عن إزالة النجاسات، وقد اخترت هذا الموضوع لعدد من الأسباب، منها: أنه لا تصح بعض العبادات إلا بذلك، فإن من شروط الصلاة مثلاً إزالة النجاسات من الثوب والبدن والبقعة، وكذلك فإن السؤال يكثر عنها، وأيضاً يقع الاستحياء من السؤال، فعدد من الناس باقٍ على الجهالة، ثم إن هذا الأمر فيه خطورة؛ لأن من أسباب عذاب القبر إهماله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بقبرين، قال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير -ثم قال:- وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله) رواه البخاري رحمه الله تعالى.
وكذلك فإن من الأسباب الدافعة إلى طرح هذا الموضوع انتشار أمر الوسوسة فيه، ومن سبل القضاء عليها معرفة الطريقة الصحيحة لإزالة النجاسة، واليقين الذي يقضي على الوسوسة أمر مطلوب، فلا يزاد على الطريقة الشرعية.
وكذلك فهذا الموضوع من التفقه في الدين: (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
ثم إن النجاسات الحسية تذكرنا بأمور أخرى من المعنويات ستأتي الإشارات إليها في آخر الخطبة إن شاء الله تعالى.(57/2)
تعريف الطهارة
عباد الله: لقد أمرنا الله عز وجل بالطهارة، وأثنى على المتطهرين، والطهارة: رفع الحدث وإزالة النجاسة، فهي طهارة من الحدث وطهارة من النجاسة، فطهارة الجسد والثوب والمكان الذي يصلي فيه المصلي، وإزالة النجاسة منه مشروعة ومأمور بها، قال الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] وقال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].
وقال صلى الله عليه وسلم: (اغسلي الدم وصلي).(57/3)
تعريف النجاسة وأقسامها
والنجاسة هي: الخبث والقذر، وكل ما هو مستقذر شرعاً، وهي إما أن تكون حسية كالبول والغائط والميتة، أو معنوية كنجاسة الكفار والأصنام والمعتقدات الشركية، وهي: إما أن تكون عينية، فالنجس عيناً لا يطهر بحال أبداً، فلو أتيت بماء البحر وأهرقته على روثة حمار لم تطهر، أو أعيان متنجسة نجاسة حكمية؛ كأي شيء كان طاهراًَ في الأصل، ثم طرأت عليه النجاسة، فيكون في حكم النجس، وهذا يمكن تطهيره.
وقد قسم بعض العلماء النجاسة إلى أقسام باعتبار آخر، فقالوا: منها ما هو مغلظ، وهي نجاسة الكلب، ومنها ما هو مخفف كبول الذكر الرضيع، ومنها ما هو متوسط كسائر النجاسات من البول والغائط.(57/4)
استحباب المبادرة إلى إزالة النجاسة
وتنبغي المبادرة إلى إزالة النجاسة؛ فإذا أصاب البدن أو الثوب أو البقعة نجاسة، فعليك أن تبادر -أيها المسلم- إلى إزالة ذلك وبسرعة.
أولاً: لأن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولما بال الأعرابي في المسجد، قال عليه الصلاة والسلام للصحابة لما قضى بوله: (أهريقوا عليه دلواً من ماء) وفي رواية: (أمر بذَنوب من ماء فأريق عليه)، فبادر عليه الصلاة والسلام إلى إزالتها.
وثانياً: لأنه تخلص من القذر والخبث والرائحة الكريهة.
وثالثاً: حتى لا يقع الإنسان في النسيان، فينسى النجاسة أو يجهل مكانها بعد ذلك، وربما أدى ذلك إلى الصلاة في النجاسة.
فبادر يا عبد الله إلى إزالة النجاسة حال وقوعها.
وهنالك نجاسات اتفق العلماء عليها، كالميتة والبول والعذرة من الآدمي، وبعضها قد اختلف فيه كنجاسة الدم وغير ذلك.
وقد اتفق العلماء على أن التطهير من النجاسة لا يحتاج إلى نية، فليست النية شرطاً في طهارة الخبث، فلو أزاله بغير نية ثم صلى، فصلاته صحيحة.(57/5)
التطهير بالماء وأحوال التطهير بغير الماء
وهاكم يا أيها المسلمون طائفة من الأحكام لخصتها لكم من كلام أهل العلم، فانتبهوا رحمكم الله لها، قد اختصرت الكلام فيها على القول الراجح مع الدليل ما أمكن.
لقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على أن الماء المطلق رافعٌ للحدث مزيلٌ للنجاسة، لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] ولحديث أسماء قالت: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، فماذا تصنع به؟ قال: تحته، ثم تقرصه، ثم تنضحه بالماء، ثم تصلي فيه) متفق عليه.(57/6)
التطهير بالاستحالة
وقد اتفق الفقهاء على أن هناك نجاسات تزول بالاستحالة، كقولهم في الخمر باعتبار أنها نجسة عندهم: إنها تزول بالاستحالة إذا انقلبت خلاً بنفسها، وكذلك إذا تنجس بالتغير، فزال التغير بنفسه طهر، وجاء في بعض الأحاديث التطهير بالدباغة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.(57/7)
التطهير بالمنظفات الكيماوية وبتكرير مياه المجاري
لكن هل يشترط في إزالة النجاسة الماء، أو يصح بكل مزيل حتى لو لم يكن ماءً؟ الراجح أنه يزول ويصح التطهير بأي طريقة، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال العلامة الشوكاني: والحق أن الماء أصلٌ في التطهير، لوصفه بذلك كتاباً وسنة، لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل، ولم يأت دليل بحصر التطهير في الماء.
فبأي مزيل زالت النجاسة أجزأ ذلك، حتى لو كان بالمعقمات والمطهرات الكيماوية، فإن ذلك مجزئ على الراجح.
فمادام قد زال وصف النجاسة، فلا ريح ولا طعم ولا لون، فقد صار الشيء طاهراً، وقد كثرت وسائل التعقيم والتكرير، فها أنت ترى في بعض الأماكن تكرير مياه المجاري حتى تعود نظيفة، فهذه إذا زال وصف النجاسة عنها عادت إلى الطهارة، وكذلك بعض المغاسل تنظف الملابس بالمنظفات الكيماوية، فإذا زالت النجاسة وعينها وأوصافها، فهذا يرجع إلى الطهارة، وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى.(57/8)
التطهير بالشمس والريح
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم -وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى- أن الشمس تطهر المتنجس إذا زال أثر النجاسة به، إذ أن المقصود هو الإزالة، وكذلك الريح تطهر المتنجس، ولكن مجرد اليبس ليس تطهيراً، بل لابد أن يمضي عليه زمن تزول عين النجاسة منه، ولذلك إذا وقعت النجاسة على ثوب أو أرض، ثم جفت فلابد من غسلها.(57/9)
تطهير السطوح الصقيلة
وأما السطوح المصقولة، كالمرآة والسكين والرخام وبعض البلاط في زمننا هذا، فإنه يكفي دلكه حتى تزول النجاسة منه، فلو تنجست مرآة ثم دلكتها حتى أصبحت واضحة لا دنس فيها، فإنها تطهر على الراجح.
وزوال النجاسة بالدلك كذلك اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، وكذلك اختار أن النجاسة لو تحولت فصارت رماداً أو ملحاً فإنها تطهر بهذه الاستحالة، وكذلك اختار ذلك تلميذه ابن القيم رحمه الله، كما في أعلام الموقعين.(57/10)
كيفية غسل النجاسة
وإذا كانت النجاسة مرئية، فإنه يطهر المحل المتنجس بها بزوال عينها، ولو بغسلةٍ واحدة على الصحيح، ولو كانت النجاسة كثيرة، ولا يشترط تكرار الغسل، فلو قال إنسان: كم غسلة نغسل ثلاثاً أو سبعاً؟ فنقول: لم يرد في الشرع تحديد لعدد مرات غسل النجاسات، فإذا زال بغسلةٍ واحدة كفى ذلك، وإذا احتاج الأمر إلى اثنتين غسلت اثنتين، أو إلى ثلاث غسلت ثلاثاً، وهكذا، إلا نجاسة لعاب الكلب كما سيأتي.
فأنت تستمر في غسل النجاسة حتى يزول الطعم واللون والريح، فإن عسر زوال اللون، كما يقع كثيراً في غسل الدم عن الثوب، فإنه لا يضر ذلك، فاللون والريح إذا تعسر زوالهما، فإنه لا بأس بترك ما بقي إذا تعسر، والدين مبني على رفع الحرج.
عباد الله! إذا أزيلت النجاسة بكل ما حولها من رطوبة ونحوه، كما لو اجتثت اجتثاثاً وقلعت اقتلاعاً، فإنه حين ذلك لا حاجة إلى غسل، لأن الذي تلوث بالنجاسة قد أزيل كله.
وإذا علم موضع النجاسة في الثوب مثلاً، فإن غسل موضع النجاسة كافٍ، ولا حاجة إلى غسل الثوب كله.
وإن خفيت، فإن كان يمكن غسله كله غسل كله، كالثوب والبقعة الضيقة من الأرض، وإن كان المكان واسعاً، وخفيت النجاسة أو نسيت، غسل ما غلب على الظن ويكفي ذلك.(57/11)
كيفية تطهير الأرض
وإذا طرأت النجاسة على أرض فإنه يشترط لطهارتها أن تزول عين النجاسة، ولو كان بغسلة واحدة كما تقدم، والدليل أن الأعرابي لما بال في المسجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله ذنوباً من ماء) ولم يأمر بعدد، فأريق ذنوب واحد عليه، فإن كانت النجاسة على وجه الأرض، وما اتصل بها من الحيطان والأحواض والصخور، فتكفي غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، وإن كانت النجاسة ذات جرم، فإنه لابد من إزالة عين النجاسة أولاً وجرمها، كما لو وقعت عذرة -وهي الغائط- على مكان فإنها تقتلع أولاً، ثم تتبع بالماء.(57/12)
كيفية تطهير السجاد إذا عسر نزعه
ويسأل كثير من الناس عن تنظيف سجاد البيوت الملصوق بالغراء على أرض البيت إذا وقعت عليه النجاسة، فكذلك تزال النجاسة من بول وغائط وتقلع، وبعد ذلك نسكب ماءً وننشفه، ونسكب وننشف، وهكذا حتى تزول النجاسة من ذلك المكان، وإذا أمكن اقتلاعه وغسله فعل ذلك، وإلا فهذه الوسيلة كافية.
وإذا أصاب الأرض ماء المطر أو السيول، فغمرها وجرى عليها، فكما لو صب عليها الماء، فإنها تطهر، ولا تعتبر النية في ذلك.(57/13)
تطهير البئر
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وأن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس، ومعنى ذلك أن الماء إذا لم يزل أحد أوصافه ويتغير بنجاسة، فإنه باق على طهارته، وخصوصاً إذا كان كثيراً كالقلتين: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وأما إذا حصل تغير في لونه أو طعمه أو ريحه، فإن تطهير المياه النجسة يكون بأشياء، كصب الماء عليها ومكاثرتها بالماء حتى يزول التغير، أو نزح بعض الماء الذي فيه النجاسة حتى يزول التغير، ولو زال التغير بنفسه عاد الماء طهوراً.
وقد ذهب العلماء رحمهم الله إلى أن البئر إذا حصلت فيها نجاسة يكاثر بالماء، فيزاد عليه ويصب فيه حتى يزول أثر النجاسة، أو إذا نبع فيه الماء واستمر في النبع حتى زال أثر النجاسة عاد طهوراً وجاز الوضوء منه.
وأما الغسالة التي يوسوس فيها كثير من الناس بسبب الماء المنفصل عن الشيء المتنجس إذا غسل، فأقول: إذا غسلنا ثوباً نجساً، فانفصل عنه ماء الغسالة، فإذا كان ماء الغسالة متغيراً بالنجاسة بلون أو طعم أو ريح، فإنه نجس، أما لو نزل من الثوب ماء نظيف ليس فيه أثر للنجاسة، فإن ماء الغسالة في هذه الحالة ماء طهور، فلا توسوس -يا عبد الله- فيما انفصل عن البدن أو الثوب عند غسل النجاسة إذا كان لم يتغير بشيء.(57/14)
حكم السمن إذا وقعت فيه النجاسة
وإذا وقعت النجاسة في شيء جامد كالسمن، فإن النجاسة ترفع وما حولها وتطرح، ويكون الباقي طاهراً، لقول ميمونة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم) رواه البخاري رحمه الله.
وإذا وقعت النجاسة في مائع، فإنه ينجس ولا يطهر عند جمهور الفقهاء، وذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى عدم التفريق بين المائع والجامد وأن الزيادة التي وردت في التفريق ضعيفة.(57/15)
التطهير من ولوغ الكلب وحكم ولوغ الهرة
وأما ولوغ الكلب، فإذا ولغ الكلب بلسانه في إناء، أو لحس ثوباً أو شيئاً، فطهارته بسبع غسلات أولاهن بالتراب، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم.
وهذا يفيد كثيراً، فأما لو أمسك الكلب بفيه صيداً، فإن ذلك مما عفي عنه شرعاً، هذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله، ولا يجب غسل ما أصاب فم الكلب عن صيده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا ولغ، ولم يقل: إذا عض.
وهذه الأحكام تفيد الذين يستعملون الكلاب، ككلب الزرع والصيد والماشية، والذين يستعملونها لشم المواد الضارة كالمخدرات لاكتشافها وتتبع أثر المجرمين ونحو ذلك.
أما كلاب البيوت وكلاب الألعاب، وكلاب الذين يتشبهون بالكفار والذين يصحبونها للنزهة -وقد رأيناهم بأعيننا يمشون بالكلاب، فرأينا كلاباً تقود كلاباً- فإن اتخاذ ذلك حرامٌ ولا شك، ينقص من عمل صاحبه قراريط، وهو يداوم على اتخاذها، وهؤلاء لا من الله يستحيون، ولا من خلقه أيضاً، فهم على إزعاجهم قائمون مستمرون، يتخذون الكلاب في البيوت، وهناك وسائل كثيرة للأمن والحراسة، ومع ذلك يتخذونها، وكثير منهم يفعل ذلك تشبهاً بالكفرة.
أما ولوغ الهر في الإناء فلا يضره، لأنه من الطوافين علينا الذين يكثر تطوافهم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(57/16)
حكم ميتة ما لا نفس له سائلة وبول وروث ما يؤكل لحمه
وأما ما لا نفس له سائلة فإنه لا ينجس بالموت، فلو وقعت الخنفساء أو العقرب أو البق أو البعوض أو الجراد أو الذباب في ماء وماتت فيه، فإنه لا ينجس، وكذلك بول وروث ما أكل لحمه، كبول الإبل والبقر والغنم والغزلان والأرانب وذرق الحمام، يقول بعض الناس: كنا نمشي إلى المسجد فأصابنا شيء مما سقط من الحمام، فنقول: هو طاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها لما أصابتهم الحمى، وأذن صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرابض الغنم، مع أنها لا تخلو من بولها وروثها.(57/17)
العفو عن يسير جميع النجاسات
والعفو عن يسير جميع النجاسات قول مبني على قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} [الحج:78] وهو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، ويستدل أيضاً بأن الشريعة لا توجب غسل الأثر الباقي بعد الاستجمار، ومعلوم أنه لو استجمر فلابد أن يبقى أثرٌ، وربما حصلت رطوبة أو عرق في المكان، ومع ذلك فإن هذا كله لا يضر ولله الحمد، وكذلك أهل الحمير الذين يمارسونها يشق عليهم التحرز من كل شيء.(57/18)
طهارة المني ورطوبة فرج المرأة ونجاسة المذي والودي
أما إذا سألت يا عبد الله عن أثر الجنابة في الثوب، وقلت: أصاب الثوب منيٌّ، فماذا نفعل به؟ فنقول لك: افعل به كما حدثت عائشة رضي الله عنها: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابساً، وأغسله إذا كان رطبا) ولا فرق في ذلك بين مني الرجل والمرأة، والراجح أن مني الآدمي طاهر، ومنه خلق الأنبياء والأولياء وسائر الناس، والأصل في الأشياء الطهارة، وعائشة رضي الله عنها كانت تفرك اليابس من مني النبي صلى الله عليه وسلم وتغسل الرطب منه، ولو كان نجساً ما اكتفت بذلك، ولوجب غسله حتى لو كان يابساً، ولكن لما اكتفت بالفرك علمنا أن المني طاهر بخلاف دم الحيض مثلاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحته ثم تقرصه بالماء) فإذا جف على ثوبها تحتّه؛ وتفركه وتزيل أثره، ثم بعد ذلك تقرصه بالماء، أي: تغسله بالماء، ثم تنضحه ثم تصلي فيه، وكذلك ريق الإنسان ومخاطه وعرقه وبلغمه ودمعه ولعابه كل ذلك طاهر.
ورطوبة فرج المرأة وما يسيل منها أثناء حملها، الراجح أنه طاهر أيضاً.
أما المذي والودي: المذي: سائل أبيض رقيق لزج يخرج عند الشهوة واللمس والنظر، بلا دفق ولا شهوة أثناء خروجه، ولا يعقبه فتور، وربما لا يحس الإنسان بخروجه.
أما الودي: ماء أبيض كدر ثخين يشبه المني، ولا رائحة له بخلاف المني، وهو كدر بخلاف المني فإنه صافٍ، وهذا الودي يخرج عقيب البول من بعض الناس في بعض الحالات، أو عند حمل شيء ثقيل فاتفق العلماء على نجاستهما.
وقد جاء في حديث علي: كنت رجلاً مذاءً، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة المقداد، فقال عليه الصلاة والسلام: (يغسل ذكره ويتوضأ) رواه البخاري ومسلم، وغسل الأنثيين عند أبي داود.
والودي يخرج عقب البول فهو ملحق بالنجاسات فهذه السوائل تغسل وجوباً بخلاف المني، وقد بينا الفرق بينهما، فلا تلتبس عليك يا عبد الله.
ونجاسة المذي مخففة لحديث سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناءً، وكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنما يجزيك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله! كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه قد أصاب منه) فإذاً لو نضحه كان ذلك كافياً عند بعض أهل العلم لهذا الحديث.(57/19)
أقسام الدماء من حيث الطهارة والنجاسة
وأما الدماء فإن العلماء قالوا: إن الدماء على ثلاثة أقسام: دم نجس لا يعفى عن شيء منه كدم الحيض وكالدم الخارج من السبيلين، وثانياً: دم نجس يعفى عن يسيره، وقد ضرب له جمهور العلماء مثلاً بدم الآدمي الذي يخرج من الجرح، والقول القوي أن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السبيلين لأدلة كثيرة، والثالث: الدم الطاهر وهو دم السمك مثلاً؛ لأن ميتته طاهرة، والدم اليسير الذي لا يسيل، كدم البعوضة والبق والذباب عند قتلها مثلاً، فلو تلوث الثوب بشيء منه فهو طاهر لا يجب غسله.
ويستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) ومعلوم أن غمسه يسبب قتله، ومع ذلك قال: (فليطرحه، وليطعمه بعد ذلك إذا أراد).
وكذلك الدم الذي يبقى في الشاة المذبوحة مثلاً بعد ذبحها وتذكيتها، والدم الموجود في العروق والقلب والطحال والكبد، فكل هذا طاهر قليله وكثيره، ودم الشهيد طاهر؛ حتى إن أكثر من يقول من العلماء بنجاسة دم الآدمي يقولون بطهارة دم الشهيد، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل دمائهم، وأمر أن يزملوا بها، لأنهم يبعثون بها يوم القيامة، ولها رائحة كرائحة المسك.
ويغسل الدم النجس حتى يزول، وإن بقي له أثر فلا يضر ذلك، إذا اجتهد الإنسان في غسله.(57/20)
كيفية تطهير الخف
وأما الخف إذا علقت به نجاسة، فقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى، فليمسحه- وقد كانت الشوارع والطرقات متربة- وليصل فيهما) وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم بنعليه الأذى، فإن التراب له طهور) وفي لفظ: (إذا وطئ الأذى بخفيه، فطهوره التراب) رواه أبو داود وابن خزيمة، وسنده حسن.(57/21)
كيفية تطهير بول الغلام والجارية
فإن قلت: فما حكم بول الغلام والجارية؟ فاعلم رحمك الله أنه يجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام، لم يأكل الطعام بشهوة ولا إرادة منه، وإنما لا زال على رضاع أمه، فإن نجاسة بوله نجاسة مخففة، ولو كان يلعق العسل أو الشيء اليسير، لحديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله، وقال صلى الله عليه وسلم: (ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية) فبول الغلام إذا أصاب ثوبك يكفي أن ترشه بالماء، وبول الجارية -وهي البنت الصغيرة- لا يجزئه إلا الغسل.(57/22)
حكم استعمال آنية الكفار
وكذلك يسأل بعض الناس عن آنية الكفار وملابسهم، فاعلموا أن هذه الأعيان الأصل فيها الطهارة، فإنها طاهرة مادمنا لا نعلم فيها نجاسة، واستثنى العلماء السراويل التي تلتصق بأجسامهم، لأنهم أناس لا يتوقون النجاسات، فلا تستخدم إلا بعد غسلها، وأما الآنية فإنه يكره استخدامها لحديث أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض أهل الكتاب، أنأكل في آنيتهم؟ قال: (لا تأكلوا في آنيتهم إلا ألا تجدوا بدا، فإن لم تجدوا بداً فاغسلوها وكلوا فيها).
فهذه الأواني -أواني الكفار- تغسل قبل استخدامها، والملابس التي عليهم إذا كانت خارجية، فإنه لا بأس باستعمالها، ومن الأدلة على أن الأصل الطهارة في أواني الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة امرأة مشركة.(57/23)
ما صبغ بالنجاسة أو طبخ بها
وأما المصبوغ بالنجاسة، فإنه لا يطهر بغسله، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يطهر بغسله وإن بقي لونه.
وأما اللحوم المطبوخة بالنجاسات، كما يفعل بعض الكفرة في الطبخ بدهن الخنزير أو يخلطون الخمر معه، فقد ذهب عدد من أهل العلم إلى أنه لا سبيل إلى تطهيرها، وقال بعضهم: تغلى وتغلى ويسكب عليها الماء الطهور وتغلى إلى أن يخرج منها كل شيء.(57/24)
لا يكلف الإنسان بغسل ما في داخله من النجاسات
والنجاسات -يا عباد الله- إذا لم تخرج خارج الإنسان فلا حكم لها، فلا يكلف الإنسان بغسل ما بداخله من النجاسة، مادامت لم تخرج، ولو أحس بانتقال شيء من البول ولم يخرج خارج الذكر فلا غسل، ولا وجوب لإزالة النجاسة، وكل آدمي داخله نجاسة، ألم يقل القائل: أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وفيما بين ذلك بول وعذرة؟! ففي داخل كل إنسان نجاسات، لكن لا يكلف بها إلا إذا خرجت، وهذا علاج ناجع للوسوسة والموسوسين الذين يحاولون إدخال الأشياء لإخراج النجاسة أو غسلها ونحو ذلك، وهذا تنطع لم يأت في دين الله تعالى.
هذه طائفة من أحكام النجاسات، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لتطهير قلوبنا وتطهير أبداننا وثيابنا من سائر النجاسات.
ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في دينه واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(57/25)
ذم الوسوسة في الطهارة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الحق المبين، شرع لنا هذه الشريعة، وأنزل علينا الكتاب، وأرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، أشهد أنه رسول الله، وحجة الله على خلقه، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى ذريته والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن ما ذكرنا بصحة الاهتمام بغسل النجاسات لا يصح أن يدفع أبداً إلى الوقوع في الوسوسة التي مرض بها كثير من الناس، حتى صار الواحد منهم يغسل ويفرك ويتأكد من وصول الماء إلى بدنه، ثم يشك بعد ذلك أنه تطهر، وربما مكث الساعات الطوال في دورة المياه والحمامات والمراحيض، وربما فاتته تكبيرة الإحرام، أو فاتته صلاة الجماعة، وأحياناً فاتته الصلاة كلها، ولبعضهم أفعال كأفعال المجانين، لا يمكن أن نصدق أنهم عقلاء، وهم يقومون بها.
واعلموا أن الشريعة قد جاءت بالأدلة البينة على ذم الوسوسة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيء فأشكل عليه أخرج منه شيئاً أم لا، فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) رواه مسلم.
فإذاً لا تجوز الوسوسة بحال، وهي اتباع للشيطان، ولعلاجها نُهينا عن البول في المستحم؛ وهو المكان الذي نغتسل فيه، لأجل قطع الوسوسة، وكذلك أرشدنا إلى نضح ما أمام مكان خروج النجاسة بالماء ورشه، حتى إذا حس الإنسان ببلل، قال: هذا من الماء الذي رششته قبل قليل، وكذلك فإنه ينهى عن الإسراف في استخدام الماء الذي هو شعار الموسوسين.
قال محمد بن عجلان رحمه الله: الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء، وقال الإمام أحمد: كان يقال: من قلة فقه الرجل ولَعه بالماء.
واعلم يا عبد الله أن الوسوسة داء لا علاج له إلا بإهماله وقطعه.
إن التنطع داء لا دواء له إلا تركك إياه برمته(57/26)
من أعاجيب الموسوسين في الطهارة
وقد ابتدع البعض إجراءات عجيبة لأجل الطهارة من البول بزعمهم، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله، فقال: يفعلون بعد البول عشرة أشياء: السلت، والنتر، والنحنحة، والمشي، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة.
فأما السلت: فهو عصر الذكر ليخرج منه البول، والنتر: نفضه ليخرج ما بداخله بزعمهم بعد الاستنجاء، والنحنحة لإخراج الفضلة، والقفز بالارتفاع عن الأرض ثم الجلوس فجأة وبسرعة، والحبل يتخذه بعضهم يتعلق به حتى يكاد يرتفع ثم يقعد، والتفقد النظر في المخرج، هل بقي فيه شيء أم لا، والوجور: أن يفتح الثقب ويصب الماء فيه، والحشو: أن يدخل قطناً ونحوه، والعصابة: أن يعصبه بخرقة لئلا يخرج منه شيء، والدرجة أن يصعد في السلم قليلاً ثم ينزل بسرعة.
فهذا هراء، وهو من استدراج إبليس، ولا شك أنه فعل المجانين، والشريعة لم تأمر بذلك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وذلك كله وسواس وبدعة، فأنت تغسل ما خرج فقط.
عباد الله: إذا وطئ الإنسان على نجاسة جافة وهو جاف فهو لا ينجس، يقول الفقهاء: جاف على جاف طاهر بلا خلاف، فانظر كم من الناس يوسوسون وينشغلون بهذا.(57/27)
النجاسات المعنوية(57/28)
نجاسة المشركين
ثم اعلموا رحمكم الله -وقد تكلمنا عن هذه النجاسات الحسية- أن الكلام يذكرنا بالنجاسات المعنوية التي هي أشد وأسوأ من النجاسات الحسية، فمثلاً: الكفار نجس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] فهل عندما تقابل كافراً -يا عبد الله- تحس باشمئزاز لنجاسته في شركه؟ لأنه جاحد لله، ومشرك مع الله، ومستهزئ بالله، وتارك لكل ما فرض الله، وهل يكون اشمئزازك من الكافر أشد من اشمئزازك من البول والغائط؟ لا يلزم أن تظهر له ذلك خصوصاً إذا كنت في مقام الدعوة، ولكن هل تشعرون أيها الموظفون المخالطون للكفار بالاشمئزاز منهم عند رؤيتهم أشد من اشمئزازكم من العذرة والبول؟ قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:28] أي: لما حرم دخول الكفار إلى الحرم، قال بعض المسلمين: ذهبت التجارات، وستكسد أموالنا لأن الرواد سيقلون.
مثلما يقول الآن عدد من الناس في بعض بلدان المسلمين، إذا قال لهم العلماء والدعاة: امنعوا السائحين من الكفار من دخول مساجدكم وأماكنكم، وفيهم قذر وأمراض، قالوا: هذا ينقص الدخل القومي، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة:28] أي: فقراً أو نقصاً في الدخل {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:28].
وقد أغنى الله الصحابة لما اتقوا الله بأموال الجزية أضعاف أضعاف ما كان يأتيهم من أموال الكفار إذا دخلوا الحرم.(57/29)
نجاسة المنافقين
وقال الله في المنافقين: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} [التوبة:95] أي: خبثاء أنجاس البواطن والمعتقدات، وقال الله عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125].
لقد كان هذا الشعور عند المسلم في العصر الأول شعوراً متأصلاً؛ فعندما قدم أبو سفيان رضي الله عنه قبل أن يسلم إلى المدينة يريد أن يجدد عهد الحديبية، دخل على ابنته أم حبيبة، وهي رملة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب أبوها ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندها، طوته عنه، فقال: يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ يقول: هل أنا أقل من الفراش فطويتيه عني، أم الفراش أقل من مستواي فطويتيه عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول لأبيها: أنت رجل مشرك نجس، هكذا كان شعورهم، ومن كان هذا شعوره أنى له أن يقلد الكافر أو يحبه ويتأثر به؟! ولكن انظر إلى الناس الآن ماذا يفعلون، لأنهم لا يشعرون أن الكفار نجس، ولذلك يحبونهم ويقلدونهم، وقصة رملة عند ابن إسحاق بإسناد حسن.(57/30)
نجاسة الميسر والأوثان والمعاصي
ومن النجاسات المعنوية نجاسة الميسر والأوثان وسائر المعاصي لقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] نجاسة المعاصي والآثام، قال بعض السلف: لو كان للذنوب رائحة ما طاق الجلوس إلي منكم أحد، وهذا من تواضعه، فالذنوب لو كان لها رائحة، ماذا يكون حالنا نحن؟ لو كان للذنوب رائحة كرائحة العذرة التي تخرج من الدبر، ماذا يكون حالنا نحن؟ وكيف تكون روائحنا أيها المسلمون؟ إن بعض الناس قطعاً متلطخ بالآثام والأوزار ما يكون أشدَّ من تلطخ الإنسان بالبول والعذرة من رأسه إلى أخمص قدميه لكن من الذي يحس بالقاذورات المعنوية؟ الناس يتخلصون من القاذورات الحسية، وبعضهم لا يتخلص حتى من القاذورات الحسية، فيعملون هذه المراحيض المعلقة على الجدران لقضاء الحاجة، يبول ثم يرفع أحدهم الثوب والبنطلون كما يفعل الكافر، وهؤلاء يضع أحدهم أماكن قضاء الحاجة والشطاف بجانبه، وتعجب معي كيف ينتقل من كرسي قضاء الحاجة إلى الشطاف، حتى الفرنجة في أماكن قضاء الحاجة فعلناها كما فعلوها.
فالشاهد -أيها المسلمون- وجوب النظافة من القذارات الحسية والمعنوية: الكذب، والنظر الحرام، شهادة الزور، أكل المال الحرام، ونحو ذلك من القاذورات، كم يا ترى على آكل الربا من القاذورات وهو لا يشعر؟ نسأل الله السلامة والعافية، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن أعنتهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا ممن أصلحت بواطنهم وظواهرهم، اللهم اجعلنا من المتطهرين، واجعلنا من عبادك المخلصين، وانصر المجاهدين، واقمع أعداء الدين، واجعلنا في بلداننا آمنين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور، والإرشاد للأئمة وولاة الأمور، والمغفرة لنا يا عزيز يا غفور! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(57/31)
مسئولية المسلم عن سمعه
السمع نعمة عظيمة من نعم الله تعالى التي أنعم بها على الإنسان؛ فهي وسيلة من وسائل الإدراك، وطريق لتحصيل العلم وغيره، إلا أن هناك من لا يشعر بعظيم هذه النعمة فيحولها إلى نقمة، فيصد عن سبيل الله تعالى ويكون ممن قال الله فيهم: (قالوا سمعنا وهم لا يَسْمَعون).
وفي هذه المادة حديث رائع حول ذلك.(58/1)
السمع نعمة من نعم الله العظيمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول الله في محكم تنزيله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] ولما أعطانا الله هذه النعم؛ فإنه سيسألنا عنها يوم القيامة فيما استخدمناها، وفي أي مجال استعملناها.
أيها الإخوة! إن السمع من نعم الله العظيمة، وهو أكبر مدخل إلى القلب، ومن يفقد السمع فهو أسوأ ممن يفقد البصر؛ فإن عقله يضعف جداً، بل غالباً ما تجده في عداد المجانين.(58/2)
إدراك العلم بالسمع
السمع طريق عظيم لاكتساب العلم، والمدرَك بحاسة السمع أعم وأشمل من المدرَك بحاسة البصر، فللسمع العموم والشمول، والإحاطة بالموجود والمعدوم، والحاضر والغائب، والحسي والمعنوي، فالسمع أساس العقل وأصل الإيمان، وقد أمر الله عزوجل بالسماع، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} [المائدة:108]، وقال عزوجل: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16]، سماعٌ يترتب عليه إدراك وفهم وقبول، وإجابة لنداء الله عزوجل.
إنَّ إخواننا المؤمنين من الجن لما سمعوا كلام الله عزوجل أدركوا معنى ذلك القول، قال الله تعالى عنهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1 - 2] فاتصل بسمعهم لكلام الله إيمانٌ وإجابة.
ومما هو مطلوب من السامع الفهم لكلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا الفهم الذي حرمه كثير من العصاة والفجرة فضلاً عن الكفار، فشبههم الله عزوجل بالموتى، فقال سبحانه وتعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52]، وهذا هو سماع الفهم.(58/3)
سماع القبول والإجابة
وأما سماع القبول والإجابة فإنه يتمثل في قول الله عزوجل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285] فترتب على السماع طاعة الله عزوجل، ولذلك كان من علامات أهل الباطل أنهم يسدُّون أسماعهم عن سماع الحق، ولذلك كان نوح عليه السلام قد تعب مع قومه تعباً شديداً وهو يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بما أمرهم الله به، وينهاهم عما نهى الله عنه، ولكنهم قابلوا ذلك بسدِّ الآذان {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7].
وبمثل هذا الإعراض قابل الكفار من قريش دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن الذي تلي عليهم، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26] ولما صعَّد كفار قريش حملاتهم الإعلامية على دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يقفون على مداخل مكة، فمن جاء من خارج مكة ليدخلها استلمه أولئك الضُلاَّل المضلِّون، وقالوا له: إياك والفتنة! إياك أن يؤثر فيك الساحر المجنون! إياك وكلام الكاهن الذي فرق بين القريب وقريبه، وأتانا بما لا نعرف، سفَّه ديننا، وعاب آلهتنا.
وعلى إثر ذلك وصل أثر تلك الحملات الإعلامية أنَّ بعض الداخلين إلى مكة كان يحشو أذنيه كرسفاً، وهو القطن؛ حتى لا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(58/4)
الصد عن سماع الحق
إن الجاهلية تحارب الحق بشتى الوسائل إنها تحارب الحق عبر الوسائل المختلفة حتى تجعله في أعين الناس باطلاً، وحتى تصور دعاة الحق كأنَّهم ثعابين يلدغون الناس، وتُصوِّر دعاة الحق كأنَّهم سحرة يسحرون الناس، كأنَّهم مجرمون يريدون أن يغووا الناس، ولذلك ترى كثيراً من سفهاء الناس من المتأثرين بأقوال شياطين الإنس يحشون آذانهم حتى لا يسمعوا كلام دعاة الإسلام، ويعرضون عنهم بشتى الوسائل.
ولئن كان الأولون يحشون آذانهم كرسفاً حتى لا يسمعوا الحق؛ فإن آذان كثير من الناس اليوم قد حُشيت بوسائل اللهو والإلهاء والانشغال بالمحرمات عن سماع الحق وأهل الحق، والله عزوجل وصف الكفرة فقال فيهم: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] لماذا لا يسمعون؟ هل لأنهم ليست لديهم آذان؟ كلا، بل لديهم آذان، ولكن لا يسمعون بها الحق {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
لماذا شبه الله الكفرة بالأنعام؟ ولماذا وصفهم بأنهم أضل من الأنعام؟ لأن بعض الناس عندما يسمع كلام الله، وعندما يسمع الحق؛ فإنه لا يأنس به ولا ينقاد له، وإنما يعرض عنه إعراضاً شديداً، أما البهائم والغنم فإنها إذا سمعت حادي الراعي ونعيف الراعي بها؛ فإنها تأنس لصوته، وتستجيب له، وتنقاد إليه، فتأتي إلى الراعي وهو يدعوها.
إذاً: الأنعام أفضل من هؤلاء، فإن الأنعام تأنس بالصوت وتأتي، أما أولئك فهم يفرون ويبعدون.
وما أكثر أحوال الناس اليوم في هذا الجانب! فليتهم يسمعون الحق ثم ينقذونه لو شاءوا، ولكنهم يرفضون سماع الحق من البداية، وإن رفض سماع الحق من البداية مشكلة عويصة؛ إذ كيف تحاول أن تهدي الناس إلى سبيل الرشاد وهم يرفضون سماعك أصلاً! كيف يستجيبون وهم يوصدون الأبواب في وجهك من البداية؟ كيف يتَّبعونك وهم يطردونك ويأمرونك بالسكوت قبل أن تتكلم؟ وكثير منهم يقولون: نحن نعرف ما تريد أن تقول، ونحن سمعناه قبلك، ولكن لا فائدة، لا تحاول معنا.(58/5)
تفاعل السمع مع الواقع وأنواع السماع
السمع -أيها الإخوة- جاء في الدين متفاعلاً مع أحداث الواقع، هذا السمع يجب أن يكون حياً متفاعلاً مع الواقع ومع أحداث الواقع، ولذلك ترى بعض الأحاديث الآتية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين هذا التفاعل، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعت النداء فأجب داعي الله) أي: الأذان، والحديث صحيح، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) (إذا سمعتم صوت الديكة فاسلوا الله من فضله) (إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان) (من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا).
والتفاعل مع سماع الأخبار أمر مهم، قال عليه الصلاة والسلام: (من سمع بالدجال فلينأ عنه) لا يقل: أنا أتحداه، لا.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فلينأ عنه وليهرب منه؛ فإن الرجل يأتيه ويظن أنه مؤمن، فإذا قابله انقلب إلى الكفر والعياذ بالله (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا فيها).
أيها الإخوة: المطلوب من المسلم عندما يسمع الأخبار أن يتفاعل معها، فإذا سمع نبأً عن انتصار المسلمين أن يحمد الله ويسأل الله المزيد، ويدعو لإخوانه بالتثبيت والنصر على الأعداء، وإذا سمع أنباءً تفيد شراً حصل بالمسلمين، وعذاباً وقع بهم، وتشريداً حصل لهم، ونكايةً؛ فإن عليه أن يتفاعل مع هذه الأخبار إن كان في قلبه إيمان، ولو بالدعاء لهم، فإن المؤمن يألم لأهل الإيمان، والمؤمن في أهل الإيمان كالعضو من الجسد (إذا اشتكى عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
إن التفاعل مع الأخبار التي تُسمع يوجب تأييداً ودعماً، وإن التفاعل مع المنكرات التي يسمع الإنسان عنها في حيه وفي بلده ينبغي أن توجب له تحركاً لدرء هذا المنكر وتغييره والأخذ على أيدي السفهاء.
إن الناس اليوم الذين يسمعون أحوال المنكرات فلا يتغير في أنفسهم شيء إن هم إلا {كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، إنهم يسمعون الأحداث لكن لا يتفاعلون معها.(58/6)
سماع القرآن
ومن أعظم العبادات المرتبطة بالسماع: سماع القرآن.
فهذا السماع حادٍ يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحركٌ يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أحد الصحابة أن يقرأ فيسمع لقراءته، ويقول: (إني أحب أن أسمعه من غيري).
وكانت طريقة الصحابة -رضوان الله عليهم- في سماعهم للقرآن إذا جلسوا في جماعة أن يتحلّقوا فيأمروا واحداً منهم أن يقرأ ثم يستمع الباقون.
والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة، فإذا امتلأ من محبة الله وسماع كلام محبوبه فإنه يتفاعل مع كلام الله، وأما من امتلأ قلبه من محبة الشياطين واللهو فإنه يقبل على سماع اللهو والغناء، وحرام على قلب قد تربى على غذاء السماع الشيطاني أن يجد من ذلك في سماع القرآن، بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبيل الصوت المشترك، بمعنى أن بعض الناس اليوم إذا فتحوا الإذاعة فوجدوا قارئاً يقرأ، وقد يكون هذا القارئ من الذين يُلحِّنون القرآن بحسب ألحان الأغاني -والعياذ بالله- ويأتي بالإيقاعات في قراءته كإيقاعات الأغاني والموسيقى، بل إن بعض من سمع أخبار بعض المقرئين الذين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) حديث صحيح.
يقول: وفي حفلات الغناء للمطربات المشهورات تجد في الصف الأول نفراً من المشتهرين بقراءة القرآن تذاع أصواتهم، يجلسون في تلك الحفلات لكي يكتسبوا إيقاع تلك الأغاني، فينقلوه إلى قراءتهم فيما بعد والعياذ بالله! إن بعض الناس اليوم قد يتفاعل مع سماع القرآن، لكن أي نوع من أنواع التفاعل؟ إنه يطرب لصوت القارئ، ولكنه لا يتفاعل مع المعنى، ولذلك تجد هؤلاء يتأوهون بالآهات الطويلة بعد فراغ المقرئ من مقطع أو آية، تأوهات تدل على الطرب والنشوة، ولكن ليس لله ولا لمعنى القرآن، وإنما للحن الجميل الذي أعجبهم فتأوهوا عند سماعه، ولذلك كان لا بد من انتقاء المقرئين الذين إذا قرءوا القرآن تأثر الناس بقراءتهم تأثراً بالمعنى، وخشعت قلوبهم لذكر الله، وليس أن تخشع أسماعهم وغرائزهم لجودة الألحان والإيقاعات الموسيقية في القراءة.
وقد ذم السلف التمطيط في القراءة، ولذلك تجد بعض الناس اليوم يقتنون أشرطةً مسجلةً لبعض المشهورين من القراء، فيسمعونها في بعض الأحيان، ولكن لأن الصوت شجي جميل فيه ألحان وإيقاعات، فعليكم أن تقتنوا من أصوات قراء القرآن ما يؤثر في النفس تأثيراً إيمانياً يتفاعل مع معنى القرآن.(58/7)
سماع الشيطان
وأما السماع المقابل لسماع القرآن فهو سماع الشيطان؛ وهو الغناء الذي ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، فإنه ما اعتاده أحدٌ إلا نافق قلبه وهو لا يشعر، وما اجتمع في قلب عبدٍ قط محبة الغناء ومحبة القرآن إلا طردت إحداهما الأخرى.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ولقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرمهم به -يتبرمون بسماع القرآن- وصياحهم بالقارئ إذا أطال عليهم، وعدم انتفاع قلوبهم بما يقرأ، فلا تتحرك ولا تخشع، فإذا جاء قرآن الشيطان فلا إله إلا الله! كيف تخشع الأصوات، وتهدأ الحركات، وتسكن القلوب وتطمئن، ويقع طِيب السَّهر، وتمنّي طول الليل.
أيها الإخوة: إن كثيراً ممن ابتلي بسماع الأغاني يسهرون الليالي، ويَطرَبُون في سماع تلك الأغاني.
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفةً لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا والله ما رقصوا من أجل الله
دف ومزمار ونغمة شاهد فهل شهدت عبادةً بملاهي
ثقل الكتاب عليهموا لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
لماذا لا يحبون سماع القرآن؟ لأن القرآن يمتلأ بالأوامر والنواهي، والنفس تريد الخفة لا تريد أوامر ونواهي وتقييدات تكاليف، تريد أن تنتشي، وأن تخفَّ من هذه الأشياء وتنطلق وتتحرر، ولذلك يسمعون الأغاني أكثر مما يسمعون القرآن.
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النشوان عند تلاهي
فاحكم بأي الخمرتين أحق بالـ تحريم والتأثيم عند الله
النشوة الحاصلة بالخمرة، النشوة الحاصلة عند سماع الأغاني؟ ولأنه ليس موضوعنا -أيها الإخوة- الكلام عن الغناء فنكتفي بهذا القدر، وإلا فإنَّ أثر الغناء في نفوس العصاة اليوم أثر عظيم يستخف به العصاة، وهو يدمِّر نفوسهم تدميراً، ويسد عليهم الطرق لسماع كلام الله والتأثر به، ولذلك فإن الله عوض أهل الجنة الذين امتنعوا عن سماع الملاهي في الدنيا بسماع أغاني الحور العين يوم القيامة في الجنة، فإن الحور العين ليغنيِّن أزواجهم أغاني جميلة جداً لا تقارن بأغاني أهل الدنيا، فمن امتنع عن سماع الأغاني في الدنيا فسيعوضه الله بسماع أغاني الحور العين يوم القيامة، كما أن من امتنع عن شرب الخمر في الدنيا فسيعوضه الله بشرب خمرة لا كخمر الدنيا يوم القيامة، ومن امتنع عن لبس الحرير ممن حُرِّم عليه في الدنيا فسيعوضه الله بلبس الحرير يوم القيامة، ومن امتنع عن الزنا في الدنيا فسيعوضه الله بالحور العين يوم القيامة، وبالزوجات الصالحات، وبالقدرة على الجماع حتى أنَّ أحدهم يُعطى قوة مائة رجل.
أيها الإخوة: لا تظنوا أنكم إذا حرمتم أنفسكم اليوم من شيء من المحرمات التي حرمها الله أن ذلك سيضيع، قال الله عن أهل الجنة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15]، يحبرون أي: يسمعون سماعاً طيباً.
نسأل الله أن نكون من أهلها.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة، وأعلِ مراتبنا فيها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(58/8)
حكم السماع
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أيها الإخوة: وأما حكم السماع فهو بحسب المسموع، فإن كان المسموع يحبه الله فقد يكون واجباً أو مستحباً، وإن كان يبغضه الله فهو محرم، وإن كان مما سكتت عنه الشريعة فهو سماع مباح، ولهذا أمثلة كثيرة: فمن السماع الواجب: سماع القرآن، وخصوصاً في الصلاة.
ومن السماع المقابل لهذا السماع المحرم قول الله عز وجل فيما يصف به المؤمنين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55]، وهذا من إعجاز القرآن وبلاغته، فإن كلمة اللغو تشمل جميع المحرمات بل والمكروهات من المسموعات؛ ولذلك كان من الأمور المحرمة سماع الكذب والأخذ والتصديق به، وسماع الغيبة وسماع النميمة.
ومن المسموعات كذلك المذمومة ما ذم الله تعالى في كتابه نفراً، فقال: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47]، ومعنى سماعون لهم: أي: مستجيبون لهم.
واليوم يقدم كثير من المسلمين ليعيروا آذانهم لأعداء الله ليسمعوا منهم الباطل، ويسمعوا منهم ما يقال عن دعاة الإسلام، ويسمعوا منهم الشبهات التي تحاك وتدار حول الدين إنهم يسمعون منهم الأوامر التي فيها هدم للدين، والله نهى عن الركون إليهم، وعن الاستماع إليهم.
وكذلك من أنواع المسموعات المحرمة المخربة تخريباً شديداً في المجتمع المسلم: سماع الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الأخ وأخيه الوشاة الذين يريدون أن يفرقوا بين الملتزم بدينه ومن يلتف حوله الوشاة الذين يريدون أن يخربوا المجتمع الأخوي المسلم إن على الواعين من المسلمين وغير الواعين أن يعوا هذه المسألة؛ وهي مسألة سماع الوشاة.
وسماع الوشاة له أمثلة كثيرة وصور عديدة، فإن بعض الناس لا يدققون فيما يسمعون، ولا يطلبون البينة على الاتهامات الباطلة التي يسمعونها، بل إنه يعطي سمعه لكل أحد صادقاً أو كاذباً؛ وهذا -أيها الإخوة- أمر خطير يُؤدي إلى اتهام البريء، وقد يؤدي كذلك إلى تبرئة المذنب، وكم من بيوت قد خربت، وعلاقات قد فصمت وانقطعت بسبب سماع كلام الوشاة! ومن المسموعات المذمومة كذلك: سماع الصوفية المنحرفين كالغناء والألحان التي أوردنا ذكر بعضها، بل إنهم يوهمون غيرهم من السذج أنهم يسمعون الجماد، وأنهم قد وصلوا إلى مستويات إيمانية عالية، قال أحدهم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة، فقال: يا أبا عبد الرحمن: أتدري ماذا تقول هذه البكرة؟ فقلت: لا.
قال: تقول: الله الله.
انظروا إلى هذه الخرافة، وإلى هذه التراهات التي ينطق بها هؤلاء! ولئن كنتم لا تسمعون أنتم في واقعكم مثل هذه الخرافات فإن في بيئات أخرى ومجتمعات أخرى أناساً عندهم هذا الغلو وأضعافه، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً يقظاً وهو يسمع مثل ذلك الكلام.
وما أحسن أن يستمع المسلم إلى شكوى أخيه المسلم؛ أن يستمع الموظف -مثلاً- إلى شكوى مراجع فيقضي له بالحق وينصفه، وكثير من الناس الذين أُكلَت حقوقهم اليوم إنما سبب ذلك عدم سماع شكاويهم، وعدم إنفاذ الحق فيها، ولذلك لا بد من سماع شكوى المظلوم وإحقاق الحق له، وما أحلى أن يسمع الأخ المسلم الهمَّ الذي يعتلج في نفس أخيه فيفرج همه، وما أحلى أن يسمع ما يدور في خاطره من أنواع الهموم فيسري عنه! وما أحلى أن يسمع مشاكله فيحل له تلك المشاكل، ويوجد له العلاجات والحلول لهذه الأشياء التي يعاني منها.
إن السماع والإنصات مهم جداً في إيجاد الحلول للناس، فعلى دعاة الإسلام أن يفقهوا هذه المسألة، وإن سماع كلام أهل العلم من أقرب العبادات إلى الله عز وجل، فبها تزول ظلمات الجهل والشك والريبة.
والحديث طويل -أيها الإخوة- في أنواع السماع، ولكن وصيةٌ أخيرة نوصي بها أنفسنا -جميعاً- ونحن نعيش في أتون الجاهلية المحرقة، التي يراد من ورائها إسماعنا أشياء لا نريد سماعها، بل إنه حتى على مستوى البيت، فإنك تجد إنساناً شاباً قد التزم بدين الله، فيأتي فاسق من الفسقة في ذلك البيت فيرفع صوت الأغنية مثلاً إلى أقصى حد نكاية بذلك الملتزم بدينه، وحتى يسمعه رغماً عنه، وهنا لا بد أن يستعيذ المسلم بالله من شر ما يسمع، وما يفرض عليه أن يسمع، وما يراد منه أن يسمع؛ لكي يسير في طريق الشيطان، وعليه أن يعتصم بالله، فكأنه موجود وغير موجود، فهو في عزلة شعورية عن هذا الواقع الفاسد، لا يسمع المحرمات، ويحاول أن يشغل نفسه بسماع الأشياء الطيبة، وأن يعتزل تلك المجالس، ولذلك فرق علماؤنا بين السماع والاستماع، ولمَّا تحدث ابن القيم رحمه الله عن قصة ابن عمر عندما كان يسير فسمع مزمار راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع ذلك، قال: ولا يجب على كل مسلم أن يفعل هذا، بل إنه إذا وجد في نفسه نفرة من ذلك؛ كإنسان يسير في الشارع فسمع غناءً من بيت، فلا يجب عليه أن يغلق أذنيه بإصبعيه، ولو فعل ذلك لكان أمراً محموداً، ولكن ما دام أنه يحس بنفرة مما يسمع وبكراهية لما يسمع، فهو لا يستمع لها ولكنه يسمعها، فهو لا ينصت لها ولا يتأثر بها، أما إذا أحس في قلبه تأثراً، أو وجد في قلبه ميلاً للسماع فبدأت مرحلة الاستماع؛ فإن عليه أن يغلق أذنيه، وعليه أن يهرب من ذلك المكان بأسرع وقت ممكن.
اللهم يا عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، يا فاطر السماوات والأرض أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.
اللهم واجعل ما نسمع من طاعتك، اللهم وأبعدنا عن المحرمات من المسموعات، اللهم وافتح أسماعنا لكل من يريد أن يخبرنا بحق، أو يدلنا على حق، أو يأمرنا بحق، اللهم وأغلق آذاننا أمام كل من يريد أن يجرفنا إلى منكراً، أو يسمعنا منكر، اللهم واجعلنا من عبادك الذين يخشونك بالسر والعلانية، اللهم واجعلنا ممن أحببتهم وأحبوك، واقذف في قلوب عبادك حبنا، واجعلنا ممن يحبك ويحب من يحبك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(58/9)
إن الله مع الصالحين
أمر الله الناس بعمل الصالحات، وأثنى على الصالحين، وجعل أجرهم عظيماً.
وهذه المادة قد بينت فوائد الصلاح وضوابطه، ومصير النفس الصالحة، وأشارت في ختامها إلى فضل صيام ست من شوال.(59/1)
الثناء على الصالحين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: لقد ندبنا الله عز وجل لعمل الصالحات، وأثنى على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكر الصالحين في مقامٍ عظيم، فقال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70].
الصالحون وما أدراك ما الصالحون؟! الذين اتقوا ربهم فأطاعوه في ما أمر، واجتنبوا ما نهى عنه وزجر، الذين اقتفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتزموا بها، الصالحون الذين يورثهم الله تعالى الأرض، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} [الأعراف:128] وقال: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
فهم ورثة الأرض، الله يستخلفهم فيها، وينصرهم على عدوهم، فيقيمون شرع الله فيها، والعاقبة لهم، وإن تغلب الكفار حيناً من الزمن فإن العاقبة للمتقين الصالحين.
أيها المسلمون: إن هذه المرتبة العظيمة؛ مرتبة الصالحين التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم عند موته أن يلحق بها، فقالت عائشة رضي الله عنها، كما جاء في صحيح مسلم: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحة يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، قالت: فظننته خُيِّر حينئذٍ بين البقاء في الدنيا وبين الرحيل ليكون معهم، فاختار الرحيل ليكون معهم، وهم الرفيق الأعلى، وحسن أولئك رفيقاً، واختارهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بل الرفيق الأعلى).
هؤلاء الصالحون آنية الله في الأرض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه الطبراني: (إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).(59/2)
مصير النفس الصالحة
لقد انتدب النبي صلى الله عليه وسلم الناس للصلاة على رجلٍ؛ لأنه من الصالحين مع أنه لم يمت بينهم، وإنما مات بعيداً عنهم، ولكن لأنه من الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد توفي اليوم رجلٌ صالح من الحبشة، فهلم فصلوا عليه، قال: فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه صفوف) كأن الجنازة موضوعة أمامهم، كما جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى؛ جنائز الصالحين تختلف عن جنائز غيرهم، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً، قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحةٍ، قالت: يا ويلها أين يذهبون بها، يسمع صوتها كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعه صعق) رواه البخاري.
فالصالح إذا رفعت جنازته على الأكتاف، وحملت وسير بها، فإنها تتكلم بكلامٍ حقيقي، تقول: قدموني؛ لأنها تريد ما أعد الله لها، وتتشوق إلى ما بعد الموت من الجزاء الحسن.
أما في القبر، فإن الصالح منزلته عظيمة، وثوابه جزيل وحاله حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة، أخرجي حميدة، وأبشري بروحٍ وريحان، وربٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقالُ: من هذا؟ فيقول: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروحٍ وريحان، وربٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى).
وبعد ذلك يكون في القبر من أنواع النعيم ما فيه، فإنه يفسح له سبعين في سبعين، ويجعل عليه خضراً إلى يوم يبعثون، وينور له، ويأتيه عمله الصالح في أحسن صورة، ويفتح له بابٌ إلى الجنة، فيأتيه من طيبها وروحها وريحانها ما الله به عليم، هذا جزاؤه في القبر.
أما في الآخرة، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]) رواه البخاري رحمه الله تعالى.
والله عز وجل يتولى الصالحين، فينصرهم ويحوطهم، ويرعاهم ويكلؤهم ويحفظهم عز وجل، يتولاهم الله بصلاحهم، ويدافع عنهم، ويطرح لهم القبول في الأرض، ويجعل الألسنة تلهج بذكرهم، وتثني عليهم، ويقتدي الناس بهم، يثبتهم الله، فينزل عليهم بركةً ورحمةً من عنده، وسكينةً يسكنهم بها، ويجعل قلوبهم عامرة، ويجعلهم محبين له مثنين عليه.(59/3)
فوائد الصلاح
من فوائد الصلاح: أن الله يحفظ أصحابه، ألم تسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، من دابةٍ أو أذى ونحو ذلك) ثم يقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها -وفي روايةٍ: (فاغفر لها) وكلاهما في البخاري - وإن أرسلتها -أي: لم تقض عليها بالموت في تلك النومة وفي تلك الليلة، وكتبت لها الحياة- وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) فالله يحفظ الصالحين ويتولاهم، بل إن الله يحفظ أولادهم وأحفادهم بصلاحهم وعبادتهم، قال الله عز وجل في قصة موسى مع الخضر لما أقام الجدار: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] بصلاح أبيهم، قال ابن كثير رحمه الله:" وكان أبوهما صالحاً" فيه دليلٌ على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وتشملهم بركة عبادته في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجةٍ في الجنة، لتقر عينه بهم، كما جاء في القرآن ووردت السنة به: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ولو كانت الذرية أدنى منه في العمل؛ فإن الله يلحق ذريته به في الجنة، لتكون قرة عينٍ له، فيفرح بهم، وبمصاحبتهم حين يكونون معه.
انظروا إلى الصلاح -أيها المسلمون- ما فائدته العجيبة، يرفع ناساً في الجنة من منزلة إلى منزلةٍ أعلى لصلاح الأب، ويحفظ مال اليتيم بصلاح أبيه وجده، بل ربما بصلاح أجداده، فإن الدعوة تبلغ في الذرية مبلغاً عظيماً، من قبل الرجل الصالح.
قال ابن كثير رحمه الله: قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظ بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاحاً، ما ذكر لنا أنه لما بلغا أشدهما كانا صالحين، وإنما ذكر أنهما حفظا وحفظ المال لهما بصلاح أبيهما، ولم يذكر لهما صلاحاً، وتقدم أنه كان الأب السابع على ما قاله بعض المفسرين، الصالح دعوته تبلغ في ذريته مبلغاً عظيماً، ودرجةً بالغة.
والصالحون -أيها المسلمون- تنفعهم أعمالهم في اللحظات الحرجة، والمواقف الدقيقة، ولذلك لما انطبقت الصخرة على الثلاثة في الغار، لم يكن لهم طريقٌ للخروج إلا أن يدعو كلٌ منهم الله عز وجل بعملٍ صالحٍ كان قد عمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انطلق ثلاثة رهطٍ ممن كان قبلكم حتى آووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان الحديث) في الصحيحين وغيرهما دليلٌ على أن الأعمال الصالحة تنقذ الإنسان من الورطة، والعمل الصالح والولد الصالح ينفع أباه، كما أن الأب الصالح ينفع ولده، كما تقدم قبل قليل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له) يؤتى بالرحمة بسبب صلاح ولده، يرفع في الجنة، يقول مم ذاك؟ فيقال: بدعوة ولدك لك، صلاح الولد نفع الأب، تأمل عظم الصالح عند الله تعالى وشرف منزلته.
والأعمال الصالحة حماية من النار، لو كان الإنسان عليه مظالم، فإنه يؤخذ من أعماله الصالحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم، إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه، فحمل عليه، ثم طرح في النار).
فالعمل الصالح حماية، ورؤيا الرجل الصالح تختلف عن رؤيا غيره، إن منام الرجل الصالح ليس كمنام عامة الناس، منام الرجل الصالح له منزلةٌ خاصة، له قيمة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة) رواه مسلم.
ولذلك فيها وضوحٌ وصدقٌ، فيها فائدةٌ وتحذيرٌ وتبشيرٌ: (رؤيا الرجل الصالح جزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة) فتأمل -يا عبد الله- حتى المنامات تتأثر بصلاح أصحابها، ثم إن الرجل الصالح إذا مرض أو سافر أو اعتل أو أصابه شيء، فإن عمله الصالح لا يزال يجري له مع أنه قعد عنه بمرضه وعلته.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً، فشغله عنه مرضٌ أو سفرٌ، كتب له كصالح ما كان يعمل وهو صحيحٌ مقيم) فهذا من بركة الصالح، أن الله يمضي له أجر العمل وهو لا يقوم به؛ لأنه معتل أو مسافر؛ لأنه كان صالحاً في أيام صحته وإقامته، فيجري له مثل أجر ما كان يعمل.
الصالحون هم الوسط الذي يُعاش فيه، الصالحون هم الجو الذي تحيا فيه النفوس، الصالحون هم الرفقة والأخلاء الذين لا يندم من صاحبهم، فالرجل الذي قتل مائة نفس نصحه العالم بالذهاب من قريته إلى قريةٍ أخرى؛ لأن فيها قوماً صالحين، ليعبد الله معهم فهم الذين يذهب إليهم، ويسافر إليهم، يخالطون ويُعاش معهم وبينهم.
الرجل الصالح أمنية، ألم يأتك حديث البخاري في قصة سعد رضي الله عنه من مناقبه، قالت عائشة: أرق النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة؛ أصابه الأرق لم يأته النوم، فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) تمنى أمنية (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت السلاح، قال: من هذا؟ قال: سعد يا رسول الله! جئت أحرسك -قيظ الله لنبيه رجلاً صالحاً هو سعد يأتيه فيحرسه- فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه) قرت عينه واطمأنت نفسه ونام لحراسة الرجل الصالح، فالرجل الصالح أمنية، فالرجل الصالح هو الجدير بالاستئجار والتوظيف، قال الله عز وجل: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وعنون عليه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل في صحيحه باب استئجار الرجل الصالح.
إن الرجل الصالح جديرٌ بالتزويج، قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
فلا تتوقف لضعف وظيفته وقلة راتبه وضآلة ماله، فالله يبارك ويكثر ويغني من فضله، المهم أن يكون صالحاً.
المرأة الصالحة أمنية الأمنيات، قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها: (الدنيا متاعٌ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، إذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه) إذا جاءها رعته وأطاعته، المرأة الصالحة أمنية.
الصالحون من أسباب النصر على الأعداء، وكان بعض القواد يأتي بالصالحين معه مع أنهم ليسوا من أصحاب الحرب، يرجو بركة دعائهم وصلاحهم، يستعينون ببركة دعائهم وصلاحهم فينصر الله الجيش، الصالحون عملة نادرة، الصالحون أسباب إنقاذ المجتمع، الصالحون هم الراحلة، وهم الرواحل التي تحمل المسئوليات.
اللهم اجعلنا من الصالحين، اللهم أصلح ذات بيننا، وأصلح شأننا، وأصلح عملنا، وأصلح ألسنتنا وقلوبنا، وأصلح مكاننا عندك يا رب العالمين! اللهم أصلح زوجاتنا وذرياتنا، إنك أنت خير مسئولٍ وأنت أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(59/4)
أجر الصالحين
الحمد لله معزِّ من أطاعه ومذلِّ من عصاه، الحمد لله الذي كتب الصلاح لمن شاء، وكتب الشقاء على من شاء، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، وأصلي وأسلم على نبينا محمد رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، هو البشير النذير والسراج المنير، بلغ الدعوة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى أصحابه الذين نصروه، وعلى آله وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى الصالحين.
أيها المسلمون: الصالحون عملةٌ نادرة لا يبقون كثيراً، فإن الله يحبهم، وبما أنه أعد لهم أجراً عظيماً، فإنه سرعان ما يقبضهم إليه، ويبقى شرار الناس في آخر الزمان لا يوجد رجلٌ صالحٌ واحد، تقوم الساعة على شرار الخلق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقبض الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة التمر والشعير- والحثالة هي: الرديء من كل شيء- لا يعبأ الله بهم شيئاً) رواه البخاري رحمه الله.
والصالحون قد يشدد عليهم، فيبتلون ويضطهدون، ويؤذون في ذات الله فيصبرون، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الصالحين يشدد عليهم، وإنه لا يصيب مؤمناً نكبةٌ من شوكةٍ فما فوق ذلك، إلا حطت عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة) حديثٌ صحيحٌ رواه الإمام أحمد وغيره.
والآن انتبه معي -أيها الأخ المسلم- لما يصيب الصالحين من الفائدة العظيمة في كل صلاة ٍنصليها ويصليها غيرنا من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل صلاةٍ صلاها الأنبياء والشهداء والصديقون، والسابقون الأولون والمهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم، وكل صلاةٍ صلاها إمام من أئمة السلف أو المهتدين من الخلف، كل صلاةٍ صليت في العالم وتصلى إلى قيام الساعة تحدث فيها فائدة عظيمة للصالحين، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوت والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتموها، أصابت كل عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) رواه البخاري.
فكل صلاةٍ فيها التحيات صُليت وتُصلى وستُصلى، فإن للصالحين منها نصيباً، كم صلاة صُليت من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين؟ وستُصلى؟ وفي كل صلاة فائدة للصالحين، ودعوة لهم، تصيب الدعوة الصالحين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، تصيب كل عبدٍ صالحٍ لله في الأرض وفي السماء.
والله تعالى أخبرنا عن دعاء بعض أنبيائه {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].
اللحوق بالصالحين منية، إنها أمنية أن نكون صالحين، أن يكون الرجل صالحاً فهذا شيءٌ عظيم، وأجره جزيل، ومقامه رفيع، وثوابه لا يُعلم عند الله عز وجل مكتوب.(59/5)
السيئات تخرج الإنسان من مسمى الصالحين
تأملوا -أيها المسلمون- الآن: كم واحد منا أخرج نفسه من الصالحين بأعمالٍ فاسقة؟ كم واحد أخرج نفسه من اسم الصالحين بفاحشةٍ ارتكبها ويرتكبها؟ وبغناءٍ سمعه ويسمعه؟ وبنظرةٍ محرمةٍ يلحظها بعينه؟ وبمسلسلٍ وفلمٍ يتابعه؟ وبمحرمٍ يكسبه؟ وبكذبٍ يلفظ به؟ وبخيانةٍ يأتي بها؟ وبرشوةٍ يقبضها؟ وبسيئةٍ يقترفها؟ كم واحدٍ منا أخرج نفسه من عداد الصالحين، وحرم نفسه هذه البركة بالسيئات؟! أليست خسارة؟! أليس فوات مغنم أن نخرج أنفسنا من مسمى الصالحين؟ نخرج أنفسنا من لقبهم، ونحرم أنفسنا من درجتهم، ومما تقدم ذكره من أجرهم وفائدتهم وغير ذلك، نخرج أنفسنا من ذلك بفسقنا وسيئاتنا وإسرافنا وتقصيرنا ومعصيتنا لله، وعودتنا إلى السيئات بعد رمضان.
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وتب علينا يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من الصالحين، واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم، واجعلنا في درجتهم يا أكرم الأكرمين!(59/6)
صيام الست من شوال
وصيام الست من شوال متتابعاً أو متفرقاً صحيح، وإن جعله إثنين وخميس، وإثنين وخميس، وإثنين وخميس، فهو صحيح، وإن جعل أيام البيض منه صحيح، ولكن ليكن لك نيةٌ -يا عبد الله- من الليل، فإن بعض أهل العلم يشترط لصيام النفل المعين نية، فكن على نيةٍ من الليل تنوي بها صيام غد ٍليكون يوماً من شوال تضاعف لك فيه الحسنة بعشرة أمثالها، فلا تفرط ولا يلهينكَ ما ترى من الدنيا عن عمل الصالحات ونعيم الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يأخذ بأيدينا إلى طريق الحق والصواب، اللهم تب علينا وارحم ضعفنا، اللهم أغننا من فقر، اللهم أبدلنا من بعد خوفنا أمناً، اللهم اجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين وسائر المسلمين، اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمةٍ تلم بها شعثنا، وتصلح بها شأننا، وتغفر بها ذنبنا، وترفع بها درجتنا يا أكرم الأكرمين! اللهم ارحم المجاهدين، واجمع كلمتهم على الحق المبين، اللهم انصرهم على عدوهم وعدوك يا رب العالمين! اللهم دمر أعداء الدين، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(59/7)
دليل أعمال الخير
لقد جاء في السنة النبوية الكثير من الأحاديث التي تدلنا على الخير وترغبنا فيه وتحثنا عليه، وأكثر هذه الأحاديث تختلف عن بعضها، فهي أعمال مختلفة حتى لا يمل الإنسان عندما يقضي ليله ونهاره في عمل واحد، ومن هذه الأعمال أعمال يسيرة إذا عملها الإنسان بصدق فإنها تكون سبباً في دخول الجنة، وهذا دليل على عظمة هذا الدين.(60/1)
أبواب الخير
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فما أكثر ذكر الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ لقد ذكرهم في القرآن كثيراً جداً، وأمر الله تعالى بالمسارعة في الخيرات وأثنى على أنبيائه في هذا الجانب بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، وأمر بالتنافس فيها وحث على ذلك بقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
وعمل الخيرات هو المنجِّي يوم القيامة، والحرص على الخير يشغل النفس عن الشر، ومعرفة الأجر في الخير يحث عليه، ويحمِّس إليه، ولذلك اعتنى العلماء بكتابة كتب الترغيب والترهيب في ذكر الترغيب في الأعمال الفاضلات.
ونحتاج -أيها الإحوة- أن نذكر أنفسنا ببعض الأعمال الصالحة، وبأجر هذه الأعمال لكي نتحمَّس إليها، وننشغل بها؛ لأن عليها مدار الفوز والنجاة يوم القيامة.
وهذه الأعمال لا يتم الأجر لصاحبها إلا إذا نوى بها وجه الله تعالى، وإذا عرف ما فيها من الأجر كان ذلك عاملاً مهماً للاحتساب؛ فإنه إذا احتسب الأجر زاد أجره فيها.
فتعالوا -أيها الإخوة- نذكر أنفسنا بطائفة من الأعمال الصالحة؛ نراجع بها مسيرة حياتنا على ضوئها، وننظر في تقصيرنا وتفريطنا، ونحمِّس أنفسنا للعمل بها، لعل الله أن يتغمدنا برحمته، ولا شك أن هذا جزءٌ عظيمٌ من التربية الإيمانية التي ينبغي أن يربي المسلمُ نفسَه عليها.
في هذه الطائفة المختارة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيها أبواباً عظيمة من الخير:(60/2)
تعلَّم العلم والدعوة إلى الله
قال عليه الصلاة والسلام: (مَن علم علماً فله أجر مَن عمل به لا ينقص مِن أجر العامل) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن دل على خيرٍ فله مثل أجر فاعله) رواه أحمد ومسلم.
يبين -أيها الإخوة- فضل تعليم العلم.
فاعقدوا يا طلبة العلم المجالسَ للناس، واقرءوا عليهم الكتب المناسبة لحالهم؛ في تفسير القرآن الكريم، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كـ رياض الصالحين ومختصري الشيخين رحمهما الله تعالى، وكذلك يُقرأ عليهم ما ينفعهم في عباداتهم ومعاملاتهم من الفتاوى الفقهية الموثوقة، بحيث أنه يخرج من المسجد وقد استفاد علماً جزيلاً.
فيكون لك يا طالب العلم مثل أجره عندما يطبِّق، بالإضافة إلى أجر التعليم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيُّما داعٍ دعا إلى هدىً فاتُّبع، فإن له مثل أجور مَن اتبعه ولا ينقُص مِن أجورهم شيئاً) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من استسنَّ خيراً فاستُنَّ به -كأن أحيا سنة ماتت بين الناس- كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استن به ولا ينتقص من أجورهم شيئاً) رواه ابن ماجة، وهو حديث صحيح.
فهنيئاً للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يدْعون الناس إلى الهدى، ويدلونهم على الخير، ويفتح الله بهم مغاليق القلوب، والذين يكتب الله على أيديهم هداية البشر.
يا عبد الله: يا من قعد به الشيطان، يا من فتر، يا من تكاسل عن تبليغ الدعوة وعن القيام بها! انظر في هذا الأجر، كل إنسانٍ تدعوه إلى الله، وتدله على الخير، وتزيل عنه غبار الغفلة، وصدأ قلبه يكون لك من الأجر مثلما عمل طيلة حياته بعد أن كنت سبباً في هدايته.
فلماذا التقاعس عن الدعوة إلى الله؟! ولماذا لا نتعامل مع هؤلاء الذين أصابتهم الغفلة ونصبر على أذاهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المؤمن وهو الداعية الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم؟ لأي شيء؟ ليعلمهم، ويهديهم سبل السلام بإذن ربهم.
فقوموا إلى الدعوة إلى الله يرحمكم الله، وإياكم والتخاذل عن هذا الواجب المهم! فما انتشرت المنكرات إلا لما ضُيِّعت هذه الفريضة العظيمة؛ فريضة الدعوة إلى الله عزوجل.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعةً من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قومٍ يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعة) حديث حسن.
فضل عقد مجالس الذكر التي تزيد الإيمان، وفيها العلم النافع بعد الفجر، وبعد العصر، وسائر اليوم والليلة.
قال عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قومٌ على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) حديث صحيح.
وقال: (ما جلس قوم يذكرون الله فيقومون حتى يقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم وبُدِّلت سيئاتكم حسنات) حديث صحيح.(60/3)
حفظ القرآن الكريم
وحفظ القرآن الكريم، وما أدراك ما حفظ القرآن الكريم؟! له أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (لو جُمع القرآن في إهابٍ ما أحرقه الله بالنار) حديث حسن.
فهذا الذي جمع القرآن في صدره يكون حفظه له من أسباب وقايته من النار.
وقال عليه الصلاة والسلام: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا ربِّ! حَلِّه، فيُلْبَس تاج الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ! زِدْه، فيُلْبَس حلة الكرامة، ثم يقول: يا ربِّ! ارضَ عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
فهنيئاً لمن حفظ، وهنيئاً لمن أكثر التلاوة.(60/4)
التبكير إلى الصلاة
قال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتِب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق) رواه الترمذي، وهو حديث حسن.
صلى لله أربعين صلاة في جماعة متوالية، يدرك التكبيرة الأولى، يعني: يكون قائماً في الصف عندما يقول الإمام في تكبيرة الإحرام: الله أكبر، ما هي النتيجة؟ تحصل له براءتان: - براءة من النار.
- وبراءة من النفاق.
شيء يفيد في الدنيا وينفع يوم القيامة، وآخر لا شك في فائدته يوم القيامة.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تطهَّر الرجل، ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة -ينتظر الصلاة بعد الطهارة- كَتَب له كاتبه -الملَك الموكَّل- بكل خطوةٍ يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويُكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
فهذا الأجر لمن بكَّر، ولمن انتظر بعدما تطهَّر.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا الله، أستغفرك وأتوب إليك -كالدعاء الذي يقال في كفارة المجلس- كتب في رَقٍّ، ثم جُعِل في طابع، فلم يُكْسَر إلى يوم القيامة) حديث صحيح.
يُخْتَم عليه، ويُجْعَل في ظرفٍ، فلا يُفَك إلا يوم القيامة؛ ليجازي الله به صاحبه.
وقال عليه الصلاة والسلام في يوم الجمعة: (ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخطَّ رقبة مسلم) وما أكثر الذين يتخطون رقاب المسلمين فيؤذونهم بعدما جاءوا متأخرين، وليست هناك فراغات تجعل مَن أمامهم مفرطاً بعدم سدِّها، أو مكان ينفذون منه، فيتخطون الرقاب.
وقال في شأن الذي لا يتخطى: ((ورجل حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخطَّ رقبة مسلم، ولم يؤذِ أحداً) وما أكثر الذين يؤذون حين يسدون بسياراتهم على مَن هو موجود ينتظر ويتأخر، ويشتري وينتهي ليخرج بعد ذلك بشيء من الدعوات عليه، أو المسبات واللعنات؛ وهو يستحقها.
إذاً: (حضرها بإنصات وسكون، ولم يتخطَّ رقبة مسلم، ولم يؤذِ أحداً؛ فهو كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله يقول: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) [الأنعام:160]) حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن السواك بالليل: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليَسْتَك؛ فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملكٌ فاه على فيه، ولا يخرج من فيه شيءٌ إلا دخل فم الملَك) حديث صحيح.(60/5)
الجهاد في سبيل الله
وفي شأن الجهاد في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (أيُّما مسلمٍ رمى بسهمٍ في سبيل الله فبلغ مخطئاً أو مصيباً فله من الأجر كرقبةٍ أعتقها من ولد إسماعيل) حديث صحيح.
وقال: (لَقِيام رجل في الصف في سبيل الله عزوجل ساعةً أفضل من عبادة ستين سنة).
وقال: (موقف ساعة في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود).
وقال: (حُرِّم على عينين أن تنالهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) لا تحرس المحاربين فقط، وإنما تحرس الإسلام؛ فعين رقيبٍ، وعين منافحٍ عن الدين ينظر ماذا يكتبون ليرد عليهم، وماذا يعملون ليفضحهم، ويقوم بحراسة الإسلام، فعينه لا تمسها النار.
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيكم خَلَفَ الخارج في أهله وماله بخيرٍ كان له مثل نصف أجر الخارج) قال: خَلَفَه في أهله وماله بخيرٍ؛ لأن بعضهم لا يخلُف الغائب بخير، فاشترط لمن يخلُفُه بخير أن يكون له ذلك.(60/6)
الصدقة وإنظار المعسر
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيب؛ ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتَرْبو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فُلُوَّهُ أو فَصِيْلَهُ) ولد الخيل الصغير يربَّى ثم يكبر، وكذلك الله تعالى يربِّي الصدقة للمسلم لتعظُم عنده.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) هذا أجر القرض، فما هو أجر إنظار المعسر؟! قال عليه الصلاة والسلام: (مَن أنْظَرَ معسراً، أو وضع عنه؛ أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
وقال: (مَن أنْظَرَ معسراً فله بكل يومٍ مثله صدقة) إذا حلَّ الدَّين فأنْظَرَه فله بكل يومٍ مثله صدقة، وكلما ازداد إنظاراً -كلما أجَّل أجلاً بعد أجل- ازداد الأجر.
المهم: أن يحتسب ذلك، لا أن يُنْظِرَه مكرهاً لأنه لا حل عنده.(60/7)
صلاة الجنازة واتباعها
وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً وكان معها حتى يصلَّى عليها، ويُفْرَغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين؛ كل قيراط مثل أحد، ومَن صلَّى عليها ثم رجع قبل أن تُدْفَن فإنه يرجع بقيراط من الأجر).
وهناك مِن عباد الله مَن يغشون المساجد التي تكثُر فيها الجنائز في صلاة العصر وغيرها لا يدري مَن هو الميت، يقصد أن يصلِّي على ميتٍ، ويتبع جنازته، وهو لا يدري مَن هو، كل ذلك رغبة فيما عند الله وفي موعود الله.
وقال عليه الصلاة والسلام: (مَن صلى على جنازة فله قيراط، ومَن انتظرها حتى توضَع في اللحد فله قيراطان؛ والقيراطان مثل الجبلين العظيمين).
سجدة التلاوة التي يسجدها كثير من الناس ينبغي إمعان الأجر فيها واحتسابه، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قرأ ابن آدم السجود فسجد اعتزله الشيطان يبكي، يقول: يا ويله! أُمِرَ ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود فعصيتُ فلي النار) رواه مسلم رحمه الله.
وفي شأن البنات، والذين يتأففون من البنات، وفي البنات ابتلاءٌ ولا شك، ومن ذاق عرف، قال عليه الصلاة والسلام: (مَن كان له ثلاث بناتٍ فصَبَر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِذَته -يعني: من ماله، وما أعطاه الله- كنَّ له حجاباً من النار يوم القيامة) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.
الصبر على البنات له شأن عظيم؛ لأن تربية البنات في هذا الزمان أمرٌ جلل وخطير للغاية، ولذلك قال: (فصبر عليهن).
وإذا شبت -يا عبد الله- ووخَطَكَ الشيب في طاعة الله فأبشر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل شاب في سبيل الله فهو له نور).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن شاب في ذكره وطاعته.
اللهم اجعل مبدأنا على طاعتك، ومنتهانا على دينك والثبات عليه يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(60/8)
إفشاء السلام
الحمد لله رب العالمين.
أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، لا يموت، والجن والإنس يموتون، خلق السموات بغير عمد، وخلق الأرض فذلَّلها لعباده، سبحانه ما أكرمه! وأشهد أن محمداً رسول الله، والرحمة المهداة، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: ومن أبواب الخير: إفشاء السلام والابتداء به، حتى كان بعض السلف يغشَون الناس لا لشيء إلا لأجل إفشاء السلام.
قال صلى الله عليه وسلم: (السلام اسم من أسماء الله وضعه الله في الأرض، فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقومٍ فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه) وما أكثر الذين يهملون اليوم، ولا يردون السلام، وترفع السَّمَّاعة لتلقي السلام على شخص أو موظف ليقول لك: نعم، وهلا، ونحو ذلك من الألفاظ التي ليس فيها شيء من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بوجوب رد السلام (فإن لم يردوا عليه رد عليه مَن هو خير منهم وأطيب) من هو الذي يرد عليه إذاًَ؟! ملائكة الله عزوجل.
حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (زار رجلٌ أخاً له في قرية، فأرصد الله له ملكاً على مدرجته، فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، فقال: هل له عليك من نعمة تردها؟ قال: لا.
إلا أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك: أن الله أحبك كما أحببته).
فهنيئاً لمن يزور شخصاً قَرُب أو بَعُد في الله ومحبةً في الله، لا لشيء من الدنيا.(60/9)
أبواب مختلفة من الخير
قال صلى الله عليه وسلم: (بَخٍ بَخٍ بَخٍ -كلمة تقولها العرب مدحاً للشيء- لَخَمْسٌ ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يُتَوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه!) حديث صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أحد ينصر مسلماً في موطنٍِ يُنْتَقص فيه مِن عرضه ويُنْتَهك فيه مِن حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيها نُصْرَته) يعني: يوم القيامة.
وقال: (مَن ذبَّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار) حديث صحيح.
فما أكثر الذين يقعون في الأعراض! وما أقل الذين يدافعون! وقال صلى الله عليه وسلم: (ما مِن امرئٍ مسلمٍ يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلُّون عليه -يدعون له بالمغفرة والرحمة- في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح، وله خريف في الجنة على قدر طول طريقه) كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قَطَعَها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس) وفي رواية: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأُنَحَيَنَّ هذا عن المسلمين، لا يؤذيهم، فأُدْخِل الجنة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن رفع حجراً عن طريقٍ كُتِبَ له حسنة، ومَن كانت له حسنة دخل الجنة) حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما مِن راكب يخلو في مسيره بالله وذكره) إذا كنت مسافراً فاستمعت للقرآن الكريم، أو قرأته، أو ذكرت الله تعالى في طريقك، يؤنسك ذكره عزوجل، وسماع كتابه (ما مِن راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان رَدِفَه ملَك) معه ملَك من ملائكة الله عزوجل.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة يحبهم الله: وذكر منهم: والرجل يكون له الجار يؤذيه -وما أكثر المؤذين في هذا الزمن! - فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موتٌ أو ضعنٌ) أحدهما ينتقل، أو يموت، هذا يحبه الله تعالى.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن كَظَمَ غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما شاء) كثيرةٌ هي تلك الأحداث التي تثير الأعصاب، وتُخرج الإنسان عن طوره، ولكن مَن ملَكَ نفسه عند الغضب وكَظَمَ غيظه من رجل أثار حفيظته، واعتدى على شيء شخصي في حقه، فالله تعالى يثيبه يوم القيامة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن قَتَل وَزَغاً في أول ضربة) ذلك الحيوان الذي كان ينفخ على إبراهيم الخليل (مَن قَتَلَ وَزَغاً في أول ضربة كتب له مائة حسنة، ومَن قَتَلَها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة، وإن قَتَلَها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة، أي: أقل) حديث صحيح، رواه الإمام أحمد ومسلم.
ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها تتخذ رُمْحاً لقتل الأوزاغ.
وهذه الأشجار التي يغرسها الناس عشوائياً بسببٍ أو بدون سبب أو تقليداً للآخرين، نادراً من يحتسب فيها الأجر التالي: قال عليه الصلاة والسلام: (ما مِن مسلم يزرع زرعاً، أو يغرس غرساً، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كانت له به صدقة).
أيها الإخوة: هذه طائفة من أبواب الخير مما ذكره العلماء رحمهم الله تعالى في كتب الترغيب، لعل الله تعالى أن ينفعنا بذكرها واستعراضها، فنتذكرها ونتدبرها ونُقْبِل عليها.
نسأله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يفعلون الخيرات، ويتركون المنكرات، ويحبون المساكين.
اللهم ارفع درجاتنا، واغفر خطيئاتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بالخير عاملين، ولسنة نبيك متبعين.
اللهم اجعل خروجنا من هذه الدنيا على شهادة التوحيد (لا إله إلا الله).
اللهم إنا نسألك أن تغفر لأمواتنا وأموات المسلمين.
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واقضِ ديوننا، واستر عيوبنا، وأهلك عدونا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل فرج المسلمين قريباً.
اللهم اكشف البأس عنا وعن المسلمين، اللهم اكشف البأس عنا وعن المسلمين، اللهم اكشف البأس عنا وعن المسلمين، فإنه لا يكشف البأس والكرب إلا أنت يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(60/10)
فتنة النساء
إن الناظر إلى أحوال الناس يعرف أن الرجل لابد له من محبوب ينتهي إليه، ومعبود يعتمد عليه، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، فلابد أن يعبد غير الله من الشهوات والملذات؛ ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الشهوات، وفي هذا العصر تعاظمت فتنة النساء، وتمادى دعاة الشهوات في الدعوة إليها، تكلم الشيخ حفظه الله عن موقف الشريعة من الشهوات، وحكم التعلق بها وعواقبها، وأقوال السلف في التحذير من فتنة النساء.(61/1)
التعلق بالشهوات
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل أساس التوحيد لا إله إلا الله، وهو المستحق وحده أن يكون المقصود والمدعو والمطلوب والمعبود عز وجل، فهذه هي الغاية التي من أجلها خلقنا، ومن نظر في الأحوال عرف أن الرجل لا بد أن يكون له محبوبٌ ينتهي إليه، ومعبودٌ يعتمد عليه، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته فلا بد أن يكون له مراد ومحبوب آخر يستعبده غير الله عز وجل، إما المال، وإما الجاه، وإما الأشكال.
إن الناظر إلى واقعنا -أيها الإخوة- يرى أن الناس قد غرق الكثير منهم في أنواعٍ من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرئاسات، والولع بالألعاب والملاهي.(61/2)
موقف الشريعة من التعلق بالشهوات
ما هو موقف الشريعة تجاه الشهوات؟ إن هذه الشريعة المباركة المنزلة من عند أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى سلكت السبيل الوسط بين أهل الفجور وأصحاب الرهبانية والتشدد، فأهل الفجور أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وغرقوا في المعاصي والآثام، وأهل الرهبانية حرَّموا ما أحل الله من الطيبات، فيقولون: فلان ما ذبح ولا نكح، أي: لم يأكل اللحم، ولم يتزوج النساء، ولم يطأ في عمره؛ فلذلك لم يصبر الناس على طريقتهم، فتركوا الرهبان وهجروهم، بل إن كثيراً من الرهبان لم يصبروا على ما اعتقدوه، فوقعوا هم في أنواع الشهوات الخفية، فاكتشفوا وافتضحوا بين الخلق، وهذه الشريعة هي دين الله عز وجل تراعي أحوال الناس، وأن لهم غرائز وشهوات، وكذلك فإن الشريعة تعترف بها ولكن تضبطها وتهذبها.
ولما كان العبد لا ينفك عن الهوى مادام حياً، وأن الهوى ملازمٌ له؛ كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية غير ممكن، ولذلك فإن الله عز وجل لم يأمرنا بأن نصرف قلوبنا عن هوى النساء بالكلية؛ بل صرفنا إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع، ومن الإماء ما شاء الإنسان، فصرف الهوى إلى الحرام بالهوى إلى المباح، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء).(61/3)
نتائج التعلق بالشهوات
إن المتتبعين لشهواتهم من الأشكال والصور، والطعام والشراب واللباس، لا بد أن يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسيراً للهوى، ولذلك فإن الإنسان إذا صار عبداً لشيءٍ من الدنيا غرق واستولى ذلك الشيء عليه، فصار هو الذي يقوده.
قال الشافعي رحمه الله: من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا.
لا بد أن يكون عبداً لأحدهم، لجمالٍ أو مالٍ، أو شهوة أو رئاسة ونحو ذلك، وإذا كان الإفراط في الشهوات مذموماً شرعاً: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] فكذلك اتباع الشهوات مذمومٌ عقلاً.
إن العاقل إذا تبصر في أمور الذين يتبعون الشهوات ويغرقون فيها، يعرف تمام المعرفة بأن هذا الاتباع للشهوات والعبودية لها يصرف الإنسان عن مصالح كثيرة، ويفوت عليه منافع عظيمة، ولذلك فإن الصبر عن الشهوة -أي: الامتناع عن الشهوة المحرمة- أسهل من الصبر على ما تقتضيه إذا غرق فيها، فإن الصبر عن الشهوة المحرمة تعقبه لذة يقذفها الله في قلب الصابر.
وأما إطلاق العنان للنفس في الشهوات، فإن ذلك يوجب آلاماً وعقوبةً وإن كان في لحظة الفاحشة أو لحظة الحرام سكران لا يدرك ذلك، ومخمور لا يشعر به.
فتأمل يا عبد الله! كيف تورث المعصية بالشهوة حسرة وندامةً بعدها، (لذة ساعة شرٌ إلى قيام الساعة وما بعد قيام الساعة) أو تثلم عرض الإنسان، أي: أنه ينفضح بين الخلق، أو تذهب مالاً له خيراً له أن يبقى عنده، أو تضع قدراً وجاهاً له فيحقر بين الخلق كان حفظ جاهه أنفع له، أو أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، أو أن تطرق لوضيعٍ -إنسان تافه وحقير- طريقاً يتسلط به عليك بسبب الشهوة، فيهدد أو يتوعد، أو يفعل ويأخذ ما يشاء، أو أن تجلب هماً وغماً، وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، أو أن تنسي علماً ذكره ألذ من الشهوة، أو تشمت عدواً شماتة تتمنى أنك لم تقع في تلك الشهوة، أو تقطع الطريق على نعمةٍ مقبلة من الله، أو تبقي عيباً وصفةً لا تزول، والأعمال تورث الصفات والأخلاق.(61/4)
فتنة النساء مستنقع القرن العشرين
وأما شهوة النساء -يا عباد الله- والوقوع في حبائل الشيطان من هذه الجهة؛ فإن السعار الموجود في هذه الأيام والولوغ في مستنقعات الشهوة الآسنة ما أكثر منه، وهؤلاء الذين يتتبعون القنوات وشبكات الإنترنت والصور وغيرها قد سمروا أعينهم على الشاشات في سبيل ملاحقة برامج الفحش والرذيلة، وما أكثر الذين يشدون رحالهم إلى بلاد الفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة، وهذا المستنقع مستنقع القرن العشرين والحادي والعشرين الذي سيقدمون عليه، تعاظمت فيه الشهوات، وبذلت فيه أنواع الفنون في التصوير، وتصوير ذوات الأرواح هو باب الشر العظيم في هذا الزمان، وما أعظم الشريعة حين حرمت تصوير ذوات الأرواح؛ لأن تصوير ذوات الأرواح هو الذي أوقع الناس في ألونٍ كثيرةٍ من الفجور، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] فتكالب شياطين الإنس والجن -يقودهم اليهود- في إفساد العالم، وإغراقه بالجنس، وإشاعة الفاحشة، حتى لا يبقى هناك طهرٌ ولا عفافٌ، ولا عرضٌ محفوظٌ ولا صيانةٌ، ولا تقوى ولا دين، فيسهل لليهود قيادة ذلك القطيع البهيمي، وإرخاء العنان للشهوة، وإحداث السعار والتولع بذلك لا يمكن أن يحدث شبعاً، بخلاف ما يقوله أصحاب النظريات الغربية من أن الإشباع يؤدي إلى الراحة، وهذا لا يمكن إطلاقاً، بل إن الانغماس يؤدي إلى مزيدٍ من الجوع، ولم نسمع أن رجلاً غرق في الزنا فشبع من فتنة النساء فكف وعف.
قال علي الطنطاوي رحمه الله: لو أوتيت مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلافٍ من أجمل النساء من كل لونٍ وكل شكلٍ وكل نوعٍ من أنواع الجمال هل تظن أنك تكتفي؟! لا.
أقولها بالصوت العالي لا.
أكتبها بالقلم العريض، ولكن واحدةٌ بالحلال تكفيك.
ولا تطلبوا مني الدليل، فحيثما نظرتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً، واحدة في الحلال تكفيك كثيراً أو اثنتان في الحلال إلى أربع، وأما في الحرام فلو فجر بألف امرأة من نساء الدنيا فلا يمكن أن يكون عاقبته العفة.
ومن وقع في هذه المفاسد أنهك الجسد، وأتلف المال، وجلب العار، وأزال المروءة، وذهبت جلالته ووقاره، والعجيب أن يكون الرجل العاقل الكبير صاحب الأولاد والذرية قد أقبل على أقبح ما يكون بالوقوع في هذا السعار، والله عز وجل حكيمٌ عليم، وقد قال لنا: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28].(61/5)
أقوال السلف في النظر إلى النساء
قال طاوس رحمه الله: " من نظر إلى النساء لم يصبر ".
وقال ابن عباس: [لم يكن كفر من مضى إلا من قبل النساء] وهو كائنٌ كفر من بقي من قبل النساء، فهذه فتنة بني إسرائيل التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها بقوله: (ما تركت بعدي فتنةً أشد على الرجال من النساء) وهذا قد يكون من أسباب الكفر، فإن بعض الناس إذا دخل في هذا المستنقع كفر، وخصوصاً إذا أعجب بكافرة، وخصوصاً من الذين يذهبون إلى بلاد الكفر والانحلال.(61/6)
بعض قصص الذين فتنوا بالنساء
ساق المؤرخون المسلمون عدداً من القصص حول هذا الموضوع، ومن ذلك:(61/7)
قصة صالح المؤذن
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله: بلغني عن رجلٍ كان بـ بغداد يقال له: صالح المؤذن، أذن أربعين سنة وكان يعرف بالصلاح، صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن؛ فرأى بنت رجلٍ نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟! فقال: توافقيني على ما أريد وإلا قتلتك، فقالت: لا.
إلا أن تترك دينك، فقال: أنا برئ من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكل من لحم الخنزير فأكل، قالت: فاشرب الخمر فشرب، فلما دب الشراب فيه دنا إليها فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفته في ثوبٍ، فجاء أبوها، فقصت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في الطريق، فافتضح أمره بعد ذلك، فرمي في مزبلة مرتداً!!(61/8)
قصة ابن عبد الرحيم
ذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية في حوادث سنة (278هـ) ما يلي: قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدةً من بلاد الروم إذ نظر لامرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهواها فراسلها، ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إلي، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقةً عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة أثناء الحصار وهو فوق وهم حول السور، فقالوا: يا فلان! ما فعل قرآنك؟! ما فعل علمك؟! ما فعل صيامك؟! ما فعل جهادك؟! ما فعلت صلاتك؟! فقال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:2 - 3] وقد صار لي فيهم مالٌ وولد، أي: صار لي عند النصارى مال وولد.
يقول يزيد بن الوليد محذراً من سببٍ من أسباب الوقوع في الخنا والفجور -وهذا السبب منتشر كثيراً جداً في هذا الزمان-: يا بني أمية! إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا.
قال ابن القيم رحمه الله: ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان وتنقاد، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة المعنى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنجشة الصحابي: (يا أنجشة! رويدك رفقاً بالقوارير) أي: النساء.
فكيف إذا استمع إلى هذه الأغنية والدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من شيءٍ لحبلت من الغناء.
لعمر الله كم من حرةٍ صارت بالغناء من البغايا
وكم من حرٍ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا
وكم من غيورٍ تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا
وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا(61/9)
الحكمة من الأمر بغض البصر
النظر المحرم والغناء طريقان مباشران إلى الزنا، ولذلك حرمت الشريعة الحكيمة النظر، وأمرت بغض البصر، وحرمت الغناء والمعازف، رغماً عن أنف كل قذرٍ يفتي بإباحة الموسيقى التي حرمها الله ورسوله، البصر صاحب خبر القلب يأتي إلى القلب بالأخبار رسول القلب يرسله فيأتي بأخبار المبصرات فينقشها في القلب، فيجول القلب في هذه الصور ويشتغل ويفكر وينهمك ويهتم بها، ولذلك يكون بعده الوقوع في الحرام: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ * {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:30 - 31] بدأ بغض البصر قبل حفظ الفرج، لأن هذا هو الطريق إلى وقوع ذاك في الحرام: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وهذا النظر -أيها الإخوة- الذي أطلقه الناس اليوم في النساء العابرات، والفتيات الماشيات، والخارجات، وفي الشاشات وأنواع المسلسلات والصور العاريات؛ خرّب أفئدة كثير من الناس في هذا الزمان، والنظرة سمٌ يؤثر في القلب؛ ولذلك كان من الحكمة أن تقطع من أولها ومبادئها، لأن الناظر إذا استمرأ النظر صعب عليه أن يتركه، ثم تتطور الأمور بامتلاء القلب من الصور المحرمة، وعند ذلك يكون الوقوع في الحرام.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العفة والعفاف، وأن يباعد بيننا وبين المحرمات، وأن يجعلنا من الأتقياء الأطهار، البررة الأبرار، إنه سميعٌ غفار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(61/10)
خطورة اختلاط الرجال بالنساء
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والشافع المشفع يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: كيف إذا انضم إلى ما سبق: الاختلاط وقيام سوق الاختلاط بعمل المرأة مع الرجال؟ كيف إذا انضم إلى ما سبق هذه المخالطة والملابسة والقرب، وأن تجلس بجانبه أو تتكلم إليه، أو يأتي إليها، أو يخلو بها في مستشفى أو مكتب، أو يسمع الصوت بالهاتف، أو يتخذها سكرتيرة ونحو ذلك من الأعمال التي ينادي الكفرة والمنافقون بحصولها بيننا، ويرفعون عقيرتهم بأهميتها، وأنه لا بد من الحرص عليها، وتشغيل نصف المجتمع لتحطيم النصف الثاني وتخريبه، ويكون الخراب في النصفين جميعاً؟! كيف إذا صار الطالب مع الطالبة، والموظف مع الموظفة، والعامل مع العاملة؟ كيف إذا صار الاختلاط يعم؟ فماذا يحدث عند ذلك من أنواع الانغماس في الفواحش والقاذورات؟ عباد الله! قال العلماء: لا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ولما اختلط البغايا بعسكر موسى عليه السلام، وفشت فيهم الفاحشة، أرسل الله عليهم الطاعون، فمات في يومٍ واحدٍ سبعون ألفاً".
والقصة مشهورة في كتب التفسير، فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا.
هذا الكلام يقوله ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية منذ مئات السنين، يقول: من أسباب الموت العام الاختلاط.
وقد رأينا الطواعين في هذا الزمان التي تسبب الموت العام نتيجة الفواحش، فالكلام واحدٌ ومتصل من القديم إلى الحديث، وهذا الولع والانكباب على الشهوات سبب ضعف التوحيد، ويؤدي إلى العشق، والعشق هو الذي يبتلى به أصحاب الإعراض عن الله، وأما المخلصون فلا يقعون فيه، كما قال الله عز وجل عن يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وامرأة العزيز كانت مشركة، فوقعت -مع زواجها- فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف عليه السلام مع عزوبته ومراودتها له واستعانتها عليه بالنسوة والتهديد بالسجن، عصمه الله بإخلاصه.
إذاً: لو كان متزوجاً ولا يريد العفاف فسيقع في الحرام.
وقال عز وجل عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]، وقال تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] والغي: هو اتباع الهوى.
إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من البلايا والعقوبات، ويورث عمى لا يبصر حقارة ما يعمله ولا قبحه، كما قال عز وجل: {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] هؤلاء قوم لوط الذين في الفواحش، فأعماهم ذلك عن معرفة قبح ذنبهم فأدمنوا عليه، والإنسان إذا أصيب بالإدمان فمن ذا الذي يخرجه؟! والتعلق بالحرام لا يكاد الإنسان يفارقه حتى يعود إليه، ولذلك كانت عقوبتهم في البرزخ (في الفرن في التنور) الهبوط ثم الصعود، حتى إذا كادوا يخرجوا من التنور رجعوا في قعره مرة أخرى، كما جاء في حديث البخاري، أنه عليه الصلاة والسلام (رأى الزناة والزواني في تنورٍ أعلاه ضيق وأسفله واسع توقد تحته نار، فيه رجالٌ ونساءٌ عراةٌ، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا أخرجت رجعوا فيها) وهكذا لا يخرج هذا العاشق ولا المدمن على الحرام منه حتى يرجع إليه، بسبب ما فرط في جنب الله عز وجل.(61/11)
بيان خطورة ما يعرض من الفحش على الإنترنت والقنوات المشفرة
أيها الإخوة! ولقد وصلتني عددٌ من الرسائل في هذا المسجد، وخلاصتها ومن آخرها: رسالةٌ من امرأةٍ تقول: زوجي كان صاحب دينٍ يختلط بالأخيار ويغشى مجالسهم، وكانت حالنا في البيت جيدة وعلاقته بي وبأولاده ممتازة، وهناك استقرارٌ بيتيٌ وعاطفي، ومنذ أن أدخل اشتراك الإنترنت في بيته -لا بارك الله فيه- انقلبت الأحوال، فصار يغلق على نفسه الباب، وطال انحباسه عنا، ثم تهاون بصلاة الجماعة في المسجد، ثم تهاون بالصلاة أصلاً حتى في البيت، ثم حلق اللحية، ثم ترك الأخيار وترك مجالس الخير، وصار عاكفاً على هذا الصنم، وساءت العلاقة بيننا، وغاب عن أولاده، وصرنا في غاية السوء، وقال: إذا لم يعجبك الحال الحقي بأهلك.
ورسالة ثانية: نفس القضية ولكن بالقنوات الفضائية، وببعض القنوات المشفرة وغير المشفرة التي تبث في أوقاتٍ مختلفة، وبأجهزة تركب على الدش ووو وغير ذلك من أبواب الفواحش التي انفتحت على الناس، فخربت البيوت، وأفسدت العلاقات، وضاع الأولاد، وأزهقت المرأة من هذه الحياة، والمرأة السليمة تغار أن يرى زوجها هذا الحرام، وتقبل عليه تنصحه ولكن أذنٌ من طينٍ، وأذنٌ من عجين، طينٌ حرام وعجين إبليس الذي يسد به طريق النصيحة فلا تصل.
أيها الإخوة: إننا -والله- أمام كارثة كبيرة قد أحدثت ببيوتنا وبشبابنا بل وبشيباننا، وترى الرجل الكبير العاقل تفتنه هذه الأمور القذرة.
نحن نعلم أننا في آخر الزمان، وأن كيد يهود في نشر هذه الأمور كبير جداً، ولكن أين ذكر الله؟ أين التحصن بالله؟ أين عبادة الله؟ أين بيوت الله التي تقي من دخل فيها؟ من دخلها كان آمناً من الشهوات إذا دخلها بصدق، أين مرافقة الأخيار الذين يحوطونك فيمنعونك من الوقوع في مثل هذه التراهات إذا أنت عملت فيهم بقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] لا دشاً ولا شبكةً ولا مجلة ولا سوقاً ولا هاتف مغازلة، ولا باب مدرسة بنات، ولا غير ذلك {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعل قلوبنا معمورة بذكرك، اللهم اصرف عنا الشهوات المحرمة، اللهم اصرف عنا كيد إبليس، اللهم اصرف عنا فتنة النساء، اللهم ارزقنا غض البصر.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن رزقوا العفاف.
اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك في الغيب والشهادة أمام النا، ومن وراء الناس، وإذا غاب الناس.
اللهم اجعلنا ممن يخشاك كأنه يراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تذلنا بمعصيتك، واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، واحفظ أولادنا وأولاد المسلمين، وطهر بيوتنا وبيوت المسلمين.
اللهم انصر المسلمين في بلاد الشيشان على الروس الكفرة، وانصر المسلمين في كشمير على هؤلاء الهنود، اللهم إنا نسألك النصر للإسلام وأهله في بلاد فلسطين على اليهود الغاصبين، اللهم إنا نسألك النصر العاجل لأهل الإسلام في أصقاع الأرض يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(61/12)
محبة الله والطريق إليها
المحبة كما يعرفها ابن القيم: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها تسمى السابقون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون إلى آخره.
وقد ذكر الشيخ علامات تدل على حب الله للعبد، والأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله عز وجل، وكذلك بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع.(62/1)
محبة الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فاعلموا -يا إخواني- أن محبة الله تعالى والطريق إليها موضوع له أهمية عظيمة في حياتنا التي نعيشها اليوم.
فمن الأسباب المهمة الملجئة لطرق الموضوع: أنه إذا تأمل الإنسان نفسه، وتأمل مَن حوله، فإننا نجد -أيها الإخوة- أن كثيراً من عباداتنا مثل الصلاة وغيرها، قد تحولت إلى عادات.
فصرنا ندخل المساجد، ونكبر وراء الإمام، ونقوم بأداء الركعات، ثم نسلم ونحن لم نفقه من أمر الصلاة شيئاً.
وإذا أتى الصيام تناول الواحد السحور بعملية أوتوماتيكية ثم يفطر، وهكذا يمر شهر رمضان وهو لم يستفد من الصيام شيئاً.
ويذهب الواحد إلى الحج، وقد تثور في نفسه بعض المشاهد التي تذكره بالله عز وجل؛ ولكن إذا كرر هذه العبادة، فإن هذا الحماس وهذا التأثير يتلاشى.
كذلك -يا إخواني- كثيرٌ من الذين يتمسكون بالإسلام، ويلتزمون به يكون تمسكهم بالإسلام في البداية على غير أساس صحيح؛ لأنهم دخلوا في هذا التمسك تقليداً لا محبة لله عز وجل، كأن يرى مَن حوله يصلون فيصلي، ويرى من حوله لا يسمعون الأغاني فيترك الأغاني، ويرى مَن حوله يقصر ثوبه فيقصر ثوبه، تقليداً لا حباً في الله عز وجل، فبَعد فترة من الزمن ينتكس هذا الشخص وينقلب على عقبيه.
فالشاهد -أيها الإخوة- أن هذا الموضوع (محبة الله عز وجل) موضوع مهم وخطير جداً.
حتى نصحح العبادات، وحتى نصحح الالتزام بالإسلام، ونصحح طريق السير إلى الله تعالى لا بد أن نعرف: ما هي محبة الله؟ كيف تكون محبة الله؟ ما هي علامات حب الله للعبد؟ وما هي الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله عز وجل؟ أشياء كثيرة لا بد من معرفتها.
والمحبة -أيها الإخوة- من أعمال القلوب؛ لأننا نعلم أن الإيمان هو: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
وهنا كلامٌ سأسوقه إليكم الآن وهو مُجَمَّعٌ أكثره من كلام العالم الرباني شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى، جمعتُ بعضَه، ووجدت بعضه مجموعاً في بحوث لبعض الأشخاص.
ولا بد قبل البداية -أيها الإخوة- أن أسرد عليكم مقدمات لهذا الموضوع ذكرها هذا الرجل الفذ في بعض كتبه؛ لأنها عظيمة في المعنى.
فيقول رحمه الله تعالى: " الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظَفَر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً، وحرَّك بها النفوس -يعني: بالمحبة- إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيلاً، والمحبة: هي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه " عبادة ليس فيها محبة كالجسد لا روح فيه، تدخل وتخرج من العبادة بدون أي تأثير.
ثم يقول رحمه الله: " المحبة: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شَمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون فهي قوت القلوب -محبة الله قوت القلوب، هي الوقود، وهي الدافع للأعمال- وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو في جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبداً بغيرها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة.
والمحبة -أيها الإخوة- تتنوع، كل إنسان يحب شيئاً، وأنت إذا نظرت إلى مراد الأشخاص ومحبيهم في الدنيا، وجدتها متعددة! فسبحان من صرَّف عليها القلوب أنواعاً وأقساماً بين بريته، وفصلها تفصيلاً! فجعل لكل محبوب لمحبه نصيباً! فقسمها بين: - محب للرحمن.
- ومحب للأوثان.
- ومحب للنيران.
- ومحب للصلبان.
- ومحب للأوطان.
- ومحب للإخوان.
- ومحب للقرآن.
- ومحب للنسوان.
- ومحب للأثمان.
يعني: الأموال والتجارات.
- ومحب للألحان.
يعني: الأغاني.
فهي شجرة: عرقها الفكر في العواقب -ماذا سيحدث بعد الموت- وساقها: الصبر، وأغصانها: العلم، وورقها: حسن الخلق، وثمرتها: الحكمة.
فإذا غُرِسَت هذه الشجرة في القلب، وسُقِيَت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهما ركنا العمل الصالح أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بأمر ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى.
ولأجل المحبة -أيها الإخوة- أنزل الله الكتاب والحديد، فجعل الكتاب هادياً إليها، ودالاً عليها، وجعل الحديد لمن خرج عنها وأشرك بها مع الله أحداً غيره، ولذلك ذم الله المشركين الذين يحبون أندادهم مثل محبة الله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] هذا شرك المحبة ".(62/2)
علامات حب الله للعبد
فإذا سألت -يا أخي المسلم- ما هي العلامات التي أعرف بها أن الله يحبني بها؟ كيف أعرف هذا؟(62/3)
حمايته من الدنيا
أولاً: المحبة على الصحيح من أقوال العلماء ليس لها تعريف إلا لفظها فقط، ولها مترادفات، وكثير ممن عرَّفها إنما عرَّفوها بآثار لها، آثار المحبة عرَّفوها بالمحبة، والصحيح: أنه لا تعريف لها، ولا يمكن تعريفها؛ لأنها شيءٌ شعوريٌ يقوم في القلب، لا يمكن تحديده بألفاظ مطلقاً.
فإذا نظرت لبعض الآيات والأحاديث التي فيها علامات محبة الله للعبد نجد بعضاً منها على النحو التالي:- عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدُكم يحمي سقيمه الماء) أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني.
حديث: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء).
(حماه الدنيا): يعني: يحميه من فتنة الدنيا، من فتنة أموالها وبهرجها وزخرفها وزينتها، يحميه من هذه الأشياء، (حماه الدنيا): مَن الحِمْيَة، وهي: المنع.
(كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء): أحياناً يكون الماء مضراً للمريض، فتجد أهل المريض يمنعون عنه ما يضره، فإذا قال لهم الأطباء: أن كثرة شرب الماء مضر للمريض منعوا عنه الماء، كذلك يحمي الله تعالى عبده الذي يحبه كما يحمي أهلُ المريض المريضَ من شرب الماء الذي يكون مضراً به في بعض الأحيان.(62/4)
العلامة الثانية من العلامات: الابتلاء
فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِطَ فله السُّخْط).
وهذا الابتلاء -أيها الإخوة- يكون على قدر الإيمان، فلما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلَى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وليس عليه خطيئة).
يقول تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
يكون البلاء -أيها الإخوة- أحياناً نتيجة معاصٍ وذنوب، وأحياناً قد يكون الإنسان طائعاً لله، سائراً على طريق الله، صالحاً؛ لكن يأتيه البلاء، فهل هذا عقاب؟ لا.
بل يكون لمحبة الله لعبده، أي: أن الله عز وجل قد قدر على العبد أن يصل إلى الدرجة الفلانية في الجنة.
وأعمال العبد؛ الصلاة، والصيام، والصدقات، والدعوة، والتعلُّم لا توصله إلى هذه المرتبة! إذاً فكيف يرفعه من هذه المرتبة التي بلغها بهذه الأعمال إلى المرتبة التي قدَّرها؟! يكون ذلك بالابتلاء كأن يضاعف عليه البلاء، والمصائب، والأمراض، والفقر، والجوع، ويموت قريبه، ويمرض ابنه، ويفقد ماله، فيصبر على هذا البلاء فيرفعه الله إلى تلك الدرجة، ولولا البلاء لم يبلغ تلك الدرجة، هذا من حِكَم الله جل وعلا.(62/5)
القبول في الأرض
وكذلك من علامة حب الله للعبد: القبول في الأرض: وهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم جاء فيه قصة: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى أمور الناس، وحج بهم أطل على الناس، فقال أحد أبناء التابعين لأبيه: [هذا -يعني: عمر بن عبد العزيز - يحبه الله تعالى - قال: إن الله يحب عمر بن عبد العزيز - فقال له أبوه: كيف عرفت ذلك يا بني؟ قال: إن الناس يحبون عمر بن عبد العزيز، فلا بد أن يكون الله قد أحبه قبل أن يحبه الناس، فقال: صدقت يا بني] ثم روى لابنه الحديث التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض) وتجد كل الناس يحبونه؛ لأن الله قد أحبه، وأحبته الملائكة قبل أن يحبه أهل الأرض، فيحبه الجميع، أهل السماوات وأهل الأرض.
وهذه نعمة -أيها الإخوة- لا تشترى بالمال، ومهما عمل التجار، ومهما عمل الكادحون، فلا يصلون إليها إلا بتقوى الله والأعمال الصالحة.
كذلك يُسْتَدل من هذا الحديث على أن محبة قلوب الناس للشخص هي علامة على محبة الله.(62/6)
الرفق
الشيء الرابع من علامات محبة الله للعبد: الرفق: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في صحيح الجامع: (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق).
تجد أمورهم تسير بغاية الرفق، تجد الزوج يرفق بزوجته، والزوجة ترفق بزوجها، وهما يرفقان بأولادهم، والأولاد يرفقون بأبيهم، وييسر الله لهم سبل الرزق، فيأتيهم رزقهم رغداً من كل مكان من حيث لا يحتسبون.(62/7)
حسن تدبير الله للعبد
من ضمن العلامات كذلك: حسن تدبير الله للعبد، وحسن تربية الله لعبده منذ صغره:- فتجد التوفيق حليفه دائماً، لا يطرق باباً إلا ويجده مفتوحاً، ولا يتعسر عليه أمر إلا ويكون التيسير حليفه بعد حين، {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6].
" فإن الله -كما يقول ابن القيم رحمه الله- إذا أحب عبداً اصطنعه لنفسه -مثلما اصطنع موسى- واجتباه لمحبته -ومثلما اجتبى إبراهيم- واستخلصه لعبادته، فشغل همه به، ولسانه بذكره، وجوارحه بخدمته ".
فيشغل الله جسد الإنسان بعبادته، ويشغل لسان عبده بذكره، ويشغل همه وتفكيره في كيف يرضي الله عز وجل.
وهذا توفيقٌ من الله.(62/8)
موافقة العبد لله فيما يقوله من كلام وأحكام
كذلك -أيها الإخوة- من العلامات: موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام: وأكبر شاهد على هذه القضية: ما حصل في غزوة الحديبية! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح مع الكفار استشاط بعض المسلمين غضباً لشروط الصلح، وظنوا أن شروط الصلح تملي عليهم أشياء تخالف موقف القوة، وتضعهم في موقف ضعف، هكذا ظنوا؛ ولكن الله أراد أمراً آخر.
وكان عمر بن الخطاب ذا نفسية لا ترضى بالدون، ولا ترضى بالضعف، لَمَّا شاهد الشروط ثار وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟!) كيف نوافق على شروط مثل هذه؟! كيف إذا جاءنا المسلم نرده، وإذا ذهب واحد منا من المدينة إلى قريش لا يردونه؟! كيف نوافق على هذه الشروط؟! فماذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه -هكذا أمرني ربي- فقال له عمر: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطَّوَّف - نطوف- به؟! فقال عليه الصلاة السلام: أقلت لك أنك تأتيه العام؟) -قلت لك أنك ستأتيه هذا العام الذي عقدنا فيه الصلح؟ - (قال: لا، قال: فإنك آتيه ومُطَّوِّفٌ به) يعني: يا عمر! ستأتي البيت في يوم من الأيام وتطوف به.
فكلام عمر ليس عن عدم اقتناع، وإنما أراد أن يزداد إيماناً، وأن يتثبت في موقفه، ثم ذهب فوجد أبا بكر الصديق فعرض عليه نفس الأسئلة، ولم يعلم أبو بكر بما دار من حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمر؛ لأنه كان بعيداً، قال عمر لـ أبي بكر: (ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟! قال أبو بكر -بالحرف الواحد-: إنه رسول الله، وهو ناصره، وليس يعصيه) ماذا قال الرسول؟ (إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه) طرح عمر السؤال الثاني، قال: (ألم يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنا سنأتي البيت فنَطَّوَّف به؟! فقال أبو بكر: أقال لك أنك تأتيه العام؟ -ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ -قال: قلتُ لك أنك تأتيه العام؟ توافُق- قال عمر: لا.
-كما قال للرسول صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر له: فإنك آتيه ومطَّوِّف به) ماذا قال عليه الصلاة السلام؟ (فإنك آتيه ومطَّوِّفٌ به).
هذا التوافق -أيها الإخوة- ليس عبثاً، لكن إذا أحب العبدُ اللهَ وفق اللهُ العبدَ فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق.
وعمر كان من أصحاب هذه المرتبة، فلذلك يقول: [وافقت ربي في ثلاث، أو في أربع:].
وافق عمر ربه في ثلاث: - كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر.
- كان يتمنى نزول آية الحجاب؛ فنزلت آية الحجاب.
- كان له موقف من أسارى بدر؛ فنزل القرآن تصديقاً له.
هؤلاء الأولياء -أيها الإخوة- يُجْرِي الله الحق على لسانِهم، فيوافقون الله ورسوله، حتى لو لَمْ يطَّلِعوا، فيوفقهم الله ويسددهم.
ولذلك -أيها الإخوة- كلما قويت مَحبة العبد لله قوي سلطان القلب في الْمَحبة فاقتفى أثر الطاعات، وترك المعاصي والْمُخالَفات.
وممن تصدر المعصية؟ تصدر المعصية ممن ضعفت محبته.
وهناك فرق عظيم بين مَن تَحمله المحبة على فعل الطاعة، وبين مَن يَحمله الخوف من السوط والضرب والعقوبة على فعل الطاعة.
بعض الناس عندما يعمل الطاعة تقول له: لماذا تعمل؟ يقول لك: لأني أخاف إذا ما عملت أن أدخل جهنم، هذا شعور ممدوح؛ لكن هناك شعور أكمل من هذا.
ما هو الشعور الأكمل من هذا؟ أنني أعبد الله عز وجل لأنني أحبه، والذي يحب أحداً يسعى لإرضائه.
أعبد الله لأني أحبه، وأطمع في جنته، وأخاف من ناره، بعض الناس يعبدون الله خوفاً من العقوبة لا حباً له، وهذه مرتبة أدنى من مرتبة الذي يعبد الله مُحِباً له، طائعاً له، طامعاً في جنته، خائفاً من ناره.
ولذلك -أيها الإخوة- المحبة المجردة عن التعظيم تكون ميِّتة، لا يتبعها عمل.
لذلك قال السلف: "من عَبَد الله بالحب وحده؛ فهو زنديق.
ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ.
ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري ".
الزنادقة المنافقون، إذا قلت لأحدهم تقول: أنت تحب الله؟ يقول: طبعاً نحب الله.
فإذا نظرت إلى واقعه، فهو أسوأ ما يكون! المحبة خرجت من اللسان وليس من القلب.
فالذي يزعم أنه يحب الله فقط بدون عمل فهذا زنديق.
أما الذي يقول: أنا أعبد الله بالرجاء، أتمنى على الله الأماني، وأتمنى أن الله يدخلني الجنة، وأتمنى الفوز بها والنجاة من النار، فهل أنت تعمل لهذا؟ لا يعمل؛ لكن يتمنى على الله الأماني، هذا من المرجئة.(62/9)
أنواع المحبة
اعلموا -أيها الإخوة- أن المحبة أنواع: - محبة طبيعية: مثل محبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء.
- محبة رحمة وشفقة: مثل محبة الوالد لولده، والأم لولدها.
- محبة أنس وألفة: مثل محبة الإخوان بعضهم لبعض، ومثل محبة أصحاب الحرفة الواحدة بعضهم لبعض.
- محبة الله وهي تختلف عن كل هذه الأنواع وأهم شيء في محبة الله أنه يقترن بها التعظيم.
الوالد عندما يحب ولده هل يعظم الولد ويخاف من الولد؟ لا.
وكذلك محبة الإخوان عندما يحب أحدهم الآخر.
الجائع عندما يحب الطعام هل يخاف من الطعام ويعظم الطعام؟ لا يعظم الطعام.
محبة الله من صفاتِها: أنَّها محبة تَجمع بالإضافة إليها الخوف والتعظيم، وهذه الأشياء لا يمكن أن تُجمَع إلا بمحبة الله عز وجل، فإذا صُرِف التعظيم إلى غير الله وقعنا في الشرك؛ لذلك ليس هناك محبة مقترنة بالتعظيم، وصحيحة إلا محبة الله عز وجل.(62/10)
المحبة تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية
والمحبة -أيها الإخوة- كغيرها من أعمال القلوب تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية.
فالذي يعمل المعاصي لا نقول: إنه لا يحب الله مطلقاً! هذا خطأ، وإنما يقال: هو يحب الله على قدر أعماله الصالحة.
والذي تزداد طاعته لا نقول: إنه بلغ الْحَد الأعلى، وعنده بعض الْمَعاصي، نقول: إنه يبلغ من الْمَحبة بقدر أعماله الصالِحة.
ما هو الدليل على هذا؟ الدليل ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب: (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُضْحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب -يعني: في الخمر - فأتي به يوماً فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم -من الصحابة-: اللهم العنه، وقال أحدهم: قاتلك الله! ما أكثر ما يؤتى بك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله) أو كما قال عليه السلام.
الله عز وجل أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي على أن هذا الرجل فيه حب لله، حتى لو فعل هذه المعصية، ما زال فيه حب لله، لكن الذي تنتفي منه محبة الله نهائياً هذا كافر.
والذي يرتكب بعض المعاصي، ويكون فيه حب لله بقدر الطاعات التي يؤديها، فإن محبته تنقص بقدر المعاصي، كلما عمل معاصي أكثر نقصت المحبة أكثر، حتى يصل إلى درجة والعياذ بالله إذا صارت أعماله معاصي في معاصٍ، وليس هناك طاعات، إلى درجة الكفر.
بعض الناس عندهم حجج! يأتي ويقول: كيف تريدني أن أكره الخمر والله أوجدها في الدنيا؟! ولو كان الله لا يحب الخمر لما أوجدها في الدنيا، كيف تريدني أن أمتنع عن الزنا والله قدر علي هذا الشيء؟! ولو كان الله لا يحب هذا لما قدره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ناقشتُ بعض هؤلاء الذين عندهم هذا المنطق، فقال لي -هذا الرجل المارق الملحد- قال: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب -يعني: المحبة تحرق كل شيء إلا الذي يريده الله، فأي شيء موجود معناه أن الله يحبه، بزعم الرجل هذا- والكون كله مراده، فأي شيء أبغض منه؟! قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب -يعني: الله عز وجل- قد أبغض بعض ما في الكون، فأبغض قوماً ومَقََتَهم ولعنهم وعاداهم -أبغض شُرَّاب الخمر، وأبغض الزانيات، والزواني، والذين يأكلون الربا، والكفار، والمشركين، أبغضهم ولعنهم ومقتهم، فجئت أنت وواليتهم وأحببتهم تكون موالياً للمحبوب؟! -يعني: لله عز وجل- موافقاً له، أم مخالفاً له ومعادياً؟! قال: فكأنما أُلْقِمَ حجراً ".
إن الله عز وجل خلق بعض الأشياء فتنة للناس: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20] لماذا خلق الله عز وجل الشر والخير؟ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] لو لم يكن هناك شر فإن كل الناس سيدخلون الجنة، بدون تميير؛ لأنك لا تميز الخير من الشر، فالله عز وجل له حكمة في خلق الشر، حتى تتميز النفوس، وإلا لم يصلح الناس لدخول الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية) ليست رخيصة حتى يدخلها كل واحد، لذلك هناك أناس سيدخلون في جهنم ويخلدون فيها، وأناس سيحترقون ثم يخرجون إلى الجنة بحسب الإيمان والكفر ودرجاتهما.(62/11)
الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله
لذلك -أيها الإخوة- أمرنا الله عز وجل بأشياء كثيرة حتى نتوصل بها إلى محبته، فمن هذه الأشياء:(62/12)
ذكر الله تعالى
مثلاً: ذكر الله تعالى: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يأتيك الموت إلا ولسانك رطب من ذكر الله، هذه الأشياء مهمة، فالإنسان إذا أحب شخصاً ماذا يفعل؟ تجد ذكر الشخص هذا وسيرته دائماً على لسان الرجل الذي يحبه، فإذا كنا نحب الله فعلاً لا بد أن يكون ذكر الله على لساننا دائماً.
ما هو ذكر الله؟ أشياء كثيرة من ذكر الله منها: - قراءة القرآن.
- التحميد، والتهليل، والتسبيح.
- الدعاء.
- الدعوة إلى الله.
- طلب العلم الشرعي.
- العبادات بأنواعها.
فيجب أن يكون لسان الإنسان وجوارحه دائماً مشتغلة بذكر الله، إذا أراد فعلاً أن يثبت أنه يحب الله.
ولذلك بعض الشعراء في الجاهلية كانوا إذا أرادوا أن يظهروا إخلاصهم فماذا يفعلون إذا عشق أحدهم امرأة وأراد أن يظهر شدة محبته لها؟ يذكرها في الحرب أثناء شدة القتال، يقول عنترة بن شداد:
ولقد ذكرتُك والرماحُ كأنها أشطان بئر في لِبان الأدهم
فهو يتفاخر بذكر محبوبته أثناء الحرب، والله عز وجل أمرنا بأكثر من هذا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} [الأنفال:45] يعني: في الحرب: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
لماذا كان ذكر الله في الحرب عند القتال من العلامات الدالة على المحبة؟ لأن الإنسان في حالة الخوف -أيها الإخوة- ينسى كل شيء، همه أن يهرب، وأن يقي نفسه الهلاك، وألا يُقْتَل، ولا يُصْرَع، ففي تلك اللحظة إذا ذكر الإنسان الله، فمعناه أن محبة الله متأسسة في نفسه ومغروسة، لدرجة أنه حتى في حالة الشدة يذكر الله، فلذلك أمرنا الله أن نذكره في جميع الأحوال وخص ذلك بالأمر بذكره في حالة القتال والخوف.(62/13)
السعي في تحصيل محبوب المحبوب
كذلك -أيها الإخوة- من علامات المحبة أن يسعى الإنسان في تحصيل محبوب محبوبه: إذا كان محبوبك يحب شيئاً، ماذا تفعل أنت؟ تحاول أن تصل بشتى الوسائل إلى ذلك المحبوب -الشيء الذي يحبه محبوبك- وتحققه، إذا كنت تحب محبوبك فعلاً.
وأي شيء يبغضه محبوبك أنت تبغضه وتبتعد عنه، إذا كنت صادقاً في المحبة.(62/14)
الرضا بقضاء الله
وكذلك الرضا بقضاء الله: إذا رضي الإنسان بقضاء الله صارت نفسه مطمئنة، وصار هذا دليلاً على محبته لله.
أما إذا تسخَّط وتشكَّى وتبرَّم فيكون هذا دليلاً على كذبه في المحبة، وواقعه يشهد بضد ما يقول.(62/15)
الأنس بالله عز وجل
كذلك من الأمور التي تدل على محبة العبد لله عز وجل: أن يكون أنسه الخلوة بالله: أي: يرتاح تماماً عندما يخلو بالله؛ في الصلاة، في الثلث الأخير من الليل، ومعنى يخلو: ينقطع عن الناس أحياناً وليس دائماً، حسب المصلحة الشرعية إلى الله عز وجل، يخلو به ويذكره ويدعوه بينه وبين نفسه، ليس هناك واسطة بينهما، فيتلو كتاب الله، ويجتهد ويواظب ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت وانقطاع العوائق والعلائق الدنيوية، ويُقْبِل على الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
فمتى فعل الإنسان هذه الأشياء صارت محبة الله عز وجل تسهِّل له هذه الطاعات وتحثه وتدفعه عليها، ويكون في لذة أعظم من لذة الظمآن عندما يشرب الماء البارد، وأعظم من لذة الجائع شديد الجوع عندما يجد الطعام الشهي.
فلذلك -أيها الإخوة- المؤمنون عندما يحبون الله يكلمونه ويدعونه، يرفعون أيديهم ويدعون، يحبون أن يتكلموا مع الله ويخاطبون ربهم، إذا أحب الإنسان شخصاً أحب أن يتكلم معه وأن يخاطبه وأن يجاذبه أطراف الحديث، وأن يفضي إليه بهمومه وأشجانه، وأن يصارحه بما عنده، هذا ما يقع الآن بين الأشخاص في الدنيا.
فإذا أحب الإنسان الله فإنه يحب أن يتكلم مع الله.
كيف يتكلم مع الله؟! جاء الحديث بتوضيح هذا: (من أراد أن يتكلم مع ربه فليقرأ القرآن) يدعو الله عز وجل، يشكو حزنه إلى الله، يقول يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] ما قال: إلى فلان وفلان {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] إلى الله عز وجل مباشرة.
فليس هناك -أيها الإخوة- أطيب من الخلوة بالله عز وجل، ومناجاته، والمثول بين يديه، والانقطاع عن الخلق من أجل الخلوة بالله عز وجل، ومن أعظم الخلوات: الصلاة؛ لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتاح جداً عندما يصلي، وكان يقول لـ بلال: (يا بلال! أرحنا بالصلاة) وهذا من معاني قول بعض السلف: " إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "، ما هي جنة الدنيا؟ اللذة الحاصلة بالطاعات، (أرحنا بالصلاة يا بلال!).
فيقول ابن القيم رحمه الله: " فالصلاة قرة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها، كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة ".
فهؤلاء المحبون إذا دخلوا في الصلاة فهم في هَمٍّ.
ما هو هذا الهم؟ كيف ستَنْتَهي الصلاة؟! ماذا نعمل بعد أن تنتهي الصلاة؟! يقولون: نحن نريد أن نبقى في صلاة، وهذه مرتبة كبيرة، فالواحد لو فكر في نفسه يجد مراحل بين حال هؤلاء وحالنا، إذا دخل في الصلاة صار مهموماً لأن الصلاة ستنقضي، يحمل هَمّاً وهو داخل الصلاة، مصيبة! ستصير المصيبة أنه سينتهي من الصلاة، كما يحمل الفارغ البطال هَمَّ الصلاة؛ متى تنتهي الصلاة؟! انظر الفرق بين الطائفتين! يدخل بعض الناس في الصلاة فيقول في نفسه: طوَّل الإمام! فتراه يتثاقل، ويقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى، ويتأفف في الصلاة، هذا في الصلاة، أولاً: متى تنتهي؟! وبعد الصلاة يتبرم ويشتكي ويرفع صوته في المسجد فيقول للإمام: طولت علينا، وبعد ذلك يخرج من الصلاة فيقول: الله لا يبارك في فلان.
ما هو الفرق؟! فكلهم بنو آدم! وكلهم بشر! الفرق: محبة الله عز وجل! يحس الواحد عندما يكبر في الصلاة أنه يُقْبِل على الله، وأن الله قد انتصب أمامه؛ لأن الله عز وجل ينتصب لعبده في الصلاة، لذلك الإنسان يستأنس عندما يصلي ويكبر ويُقْبِل على الله عز وجل.
" فلهم فيها شأن -للمحبين في الصلاة شأن- وللنقَّارين شأن -النقارون الذين ينقرون الصلاة مثل نقر الغراب أو نقر الديك، لا تلحقه، يسرع، لا تدري هل قال الرجل: (سبحان ربي الأعلى) نصف مرة أو ربع مرة - فله فيها شأن، وللنقَّارين شأن آخر، يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها -هؤلاء المحبون يشكون إلى الله سوء صنيع البطالين بالصلاة، كيف ينقرونها نقراً؟! - إذا أتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه -شخص يشتكي من الإمام، أحياناً يأتم بواحد مخل بالصلاة يشتكي من فعله بالصلاة ومن تخريبه، وآخر يشتكي من تطويل الإمام في الصلاة- فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم.
وبالجملة: فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه، ولا أنعم عنده من الصلاة، ويود أنه لو قطع عمره بها غير مستغنٍ بغيرها وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب ((ورجل قلبه معلق المساجد) كلما خرج من صلاة بماذا يفكر؟! متى يأتي وقت الصلاة الجديدة؟! - فهو دائماً يتوق إليها، فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة -ليس هناك أعظم من ميزان الصلاة- فإنه الميزان العادل ".
لذلك -أيها الإخوة- من الحكم كما يقول ابن القيم رحمه الله في النهي عن المرور بين المصلي وبين السترة: أن الإنسان عندما يكبر في الصلاة يقف أمام الله عز وجل، لذلك يكره الإنسان أي شيء يمر أمامه ويقطعه عن الله عز وجل، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بدفع المار، ونهى عن المرور بين الرجل وبين سترته.
فحالُ المحبين الصادقين -أيها الإخوة- هي في الدوام على طاعة الله عز وجل، ولذلك ورد في عدة أحاديث أشياء يحبها الله تعالى، فمن ذلك: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ) فالأشياء التي يداوم عليها صاحبها هي أحب الأعمال إلى الله؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، يعني: دائماً يعمل به، ما ينقطع مرة ويترك مرة ويفعل مرة، فكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار -بعد طلوع الشمس- اثنتي عشرة ركعة، وهي السنة لمن فاتته صلاة الوتر في الليل.
هذه الصلاة -أيها الإخوة- تحتاج إلى مكابدة، ما تأتي اللذة بها هكذا، تحتاج إلى مجاهدة.
لذلك يقول أحد السلف: " كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة أخرى " يعني: جلست فترة طويلة حتى أعود نفسي على أن ألتَذَّ بالصلاة، وبعد فترة من الجهاد وصلت إلى المرحلة التي أحس بها في اللذة، لأنه لا يعقل -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة وكبر مباشرة يشعر باللذة، لا.
إن اللذة تحتاج إلى مقاومة ومدافعة للوساوس وللشيطان وللدنيا، والمجاهدة على التطويل في الصلاة، وعلى الخشوع، وعلى استحضار معاني الآيات وعلى التفكير، هذا معروف، لا بد من التدرج حتى يصل الإنسان إلى مثل هذه المراحل.
تظهر محبة العبد لله على فراش الموت: عند الموت يخرج قلب الإنسان ما فيه كأنك ضغطت على زر مسجل والشريط ظل يتكلم بدون إرادة من المسجل.
إن الإنسان في الحياة -يا إخواني- يستطيع أن يسيطر على نفسه، فقد يخفي في قلبه شيئاً ولا يظهره للناس، عنده قوة تحكم وإرادة بهذا، أما عند الموت -الموت إذا نزل نسأل الله السلامة وأن يسلمنا وإياكم في ذلك الموقف الذي لا بد أن يأتي- عند الموت يفقد الإنسان قدرته على التحكم في إظهار ما في قلبه، فتبدأ الأشياء التي في قلبه تظهر على لسانه، فأما من كان محباً لله عز وجل فتظهر الشهادة على لسانه عند الموت وذكر الله بكل يسر وسهولة، لماذا؟ لأن هذا ما يخفيه في قلبه؛ لكن كثيراً من الناس والعياذ بالله يحصل لهم من سوء الخاتمة الأمور العجيبة فتظهر في حال الاحتضار على فراش الموت المكنونات التي كانت مخبأة في القلوب، بعضهم على فراش الموت كان يغني أغنية؛ لأن قلبه متعلق بالأغاني ويحب الأغاني ودائماً يردد الأغاني، ولو أن إنساناً من هؤلاء الإخوة الذين يسمعون الأغاني يحاسب نفسه: هل يردد الأغاني أكثر أو ذكر الله؟ يجد أنه يردد الأغاني أكثر: لأن في السيارة أغاني، وفي البيت أغاني، وينام على الأغاني، ويصحو على الأغاني وهكذا ديدنه، لذلك لا يستبعد حال الموت أن لسانه ينخرس عن ذكر الله ويظهر ما في القلب مباشرة، وهذا حصل في الواقع، وهناك قصص كثيرة لأناس جاءهم الموت وهم يرددون مقطعاً من أغنية لفلان وفلان.
وأحدهم قابل أصحاب حادث سيارة على الطريق، فوجد أحدهم النزع الأخير وهو يشتد، فأراد أن يذكره بـ (لا إله إلا الله) قال: قل: (لا إله إلا الله)، فكان يقول: (إِتِّي إِتِّي) يشجع الاتفاق أو الاتحاد، يشجع فريقاً.
وبعضهم كان يحب المال والتجارة بشكل كبير طغى على محبته لله عز وجل، فصار وهو على فراش الموت يقول -وأخبرني رجل قريب له أنه حضره عند الموت، وكان تاجراً يبيع القماش فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص، يساوي كذا وكذا، حتى مات.
وبعضهم يقول: بعتُ واشتريت بفلس بفلس.
وبعضهم يقول: شاه ملك، يعني: مات؛ لأنه كان يلعب الشطرنج وهو مغرم به، فكان يقول: مات، يعني: في اللعبة هذه.
وهكذا تظهر الأشياء الحقيقية في تلك اللحظة.
أما المحبون لله فماذا يظهر على ألسنتهم؟ تظهر الشهادتان؛ لذلك كان لا بد من الإخلاص في الأعمال، ومجاهدة النفس للتخلص من الرياء؛ لذلك كان اهتمام السلف بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، يعني: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل.(62/16)
خفض البصر أمام المحبوب مهابة له
كذلك -أيها الإخوة- من علامات محبة العبد لله: أن المحب -الحب الذي فيه تعظيم - عندما يقف أمام محبوبه ينظر إلى الأرض، ولا ينظر إلى وجه محبوبه، مهابةً له وحياءً منه.
لذلك -مثلاً- تجد الواحد إذا وقف أمام الرئيس أو أمام الوزير أو أمام الكبير لا يحدق فيه ببصره طوال الوقت، هذا يعتبر من قلة الأدب، وهذه من الأشياء التي تبغض الرئيس، وإنما تجد عيونه في الأرض، مطرقاً، وعليه المهابة، والتعظيم، هذا من التعظيم.
إذا وقف الإنسان في الصلاة أين يضع بصره؟ في موضع سجوده، ولا ينظر إلى الأعلى، لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى السماء؟! وقال: (أما يخشى الذي يرفع بصره في الصلاة أن يحول الله رأسه رأس حمار؟!) لماذا هذا الوعيد الشديد؟! لأن من محبة الله عز وجل التي يقترن بها التعظيم أن تضع بصرك كالمطأطئ له، المعظم مهابةً وخشوعاً.
وهذا الحديث أحد الأدلة على أن الله في السماء، لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع المصلي بصره إلى الله عز وجل، وإنما ينظر إلى الأرض مهابةًَ له، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدباً جداً في غاية التأدب لما صعد إلى الله عز وجل في المعراج، ماذا قال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى الأعلى ما جلس ينظر هناك عند الله عز وجل، وإنما أطرق في الأرض تعظيماً ومهابةً لله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].(62/17)
محبة دار المحبوب
ومن هذه الأشياء أيضاً: محبة دار المحبوب: ألا ترى أن الإنسان في الدنيا إذا أحب شخصاً ازداد تكرار زيارته له ومجيئه إليه في بيته، وتراه دائماً يحضر إليه، يجلس معه، ويذهب إليه، حتى لو كان بعيداً يسافر إليه؛ لذلك جعل الله تعالى الحج إلى بيته العتيق من علامات المحبة، وكانت نفوس المحبين تتعلق ببيت الله عز وجل، لا لأنه أحجار ولأنه بناء بهذا الشكل؛ وإنما لأن الله أضافه إلى نفسه فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] أضاف البيت إلى نفسه.(62/18)
محبة أحباب المحبوب
كذلك محبة أحباب المحبوب من الأشياء التي يُستدل بها على محبة الإنسان لله: لذلك كانت مجالسة العلماء والصلحاء والأخيار وأولياء الله عز وجل من الأمور المطلوبة شرعاً، بدلاً من مجالسة أهل السفاهة والضلال والإفساد في الأرض، وقد بلغ الأمر الآن ببعض الناس الذين يحبون -مثلاً- أن يحب أحدهم امرأة ويهواها هوىً شديداً، حتى تجد أن قلبه يتعلق بكل ما يتعلق بها، فتجده يحب حتى حذاءها ونعلها وثوبها، ويحب هذه التوافه، وتجد بعضهم في أشعارهم -بعض هؤلاء الماجنين- يقول: وأحببت فيها حتى كذا وحتى كذا من الأشياء التافهة.
انظر إلى أنس بن مالك في الحديث عندما كان يقول: (فأنا أحب الدُّبَّاء كثيراً) الدُّبَّاء هذا: نوع من القرع، لماذا كان يحب أنس الدُّبَّاء؟! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدُّبَّاء، وكان يتتبعها في الصحفة، يعني: رأى أنس الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء في جوانب الصحفة -صحفة الطعام- لاحظوا -يا جماعة- أن هذه القضية ليست بسيطة -يعني: هذه قضية أكل- فانتقلت المحبة هكذا، فصار أنس يحب الدُّبَّاء؛ لأن الرسول يحب الدُّبَّاء، وهذه المسألة ليست مطلوبة شرعاً، وليست من السنن؛ لأن السنن تنقسم إلى قسمين: - سنة عادة.
- وسنة عبادة.
وهذه من سنن العادة، لكن وصل الأمر بالصحابي إلى هذه الدرجة.(62/19)
بذل النفس في رضاء المحبوب
كذلك كان من واجبات الحب في الله أو المحب لحبيبه أن يبذل نفسه في رضاء المحبوب:- حتى بذل الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المعارك؛ لأنهم يحبونه، فكان أحدهم يأتي أمام الرسول والسهام تتطاير ويقول: (يا رسول الله! نحري دون نحرك) يصيبني ولا يصيبك، فإذا كانت هذه هي حالهم في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف حالهم في محبة رب الرسول صلى الله عليه وسلم؟! لذلك يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى حبيباً مواتيا
ظل يدعو الكفرة في قريش بضع عشرة حجة! وليس هناك فائدة!
ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم يرَ مَن يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقرت بها النوى وأصبح مسروراً بطَيْبَة راضيا
بذلنا له الأموال من حل مالنا وأنفسنا عند الورى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعاً وإن كان الحبيبَ المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا
يعادون من يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدافعون عنه، ويبذلون أموالهم.
هذه هي الأشياء التي تدل على المحبة.(62/20)
الأسباب التي تجلب محبة الله
كذلك -أيها الإخوة- هناك أسباب جالبة للمحبة منها:(62/21)
قراءة القرآن
قراءة القرآن الكريم، وتدبره، والتفهم لمعانيه، وما أُرِيْدَ به: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم ".(62/22)
التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض
كذلك من ضمن الأشياء التي تؤدي إلى المحبة: التقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض: فإنها توصل إلى درجة عالية من المحبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه).
فإذاً: التقرب إلى الله بالنوافل من أسباب محبة الله عز وجل، حتى يصل الأمر إلى درجة عظيمة جداً كما في الحديث: (فإذا أحببته -ماذا يحصل؟ - فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).(62/23)
إيثار محبة الله على محاب النفس
كذلك -أيها الإخوة- إيثار محبة الله على محاب النفس وما يحبه الله على هوى النفس: الإيثار يقتضي شيئين: - الأول: فعل ما يحبه الله إذا كانت النفس تكرهه: أحياناً النفس تكره شيئاً من العبادة، كأن يكون فيها بخل أو شح أو كسل، فالإيثار الحقيقي أن تقدم محبة الله على كره نفسك.
- النوع الثاني من الإيثار: ترك ما يكرهه الله عز وجل حتى لو كانت نفسك تحبه وتهواه.(62/24)
التفكر في بر الله وإحسانه وآلائه
كذلك من ضمن الأمور: مشاهدة بر الله وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى المحبة: الناس في الدنيا يحبون من أحسن إليهم؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها؟! إذا أعطاك إنسان أشياءً وأنعم عليك بأشياءٍ طيبة وأهداك ألا تحب هذا الرجل؟! نعم.
فإذاً: من الأشياء الجالبة للمحبة: أن تتفكر في نعم الله عز وجل، التي لا تعد ولا تحصى.
مثال: هذا التنفس أليس هو نعمة من الله عز وجل؟! لولا التنفس لانقطع عنك النَّفَس -لا سمح الله- ولو انقطع ماذا يحصل بك؟! تموت، ما هي إلا بضع دقائق فتختنق وتموت، كل نفس لوحده نعمة من الله عز وجل، كم نتنفس نحن الآن، كم نتنفس في الدقيقة؟! لا أدري كم يقول الأطباء؟! كم نَفَساً في الدقيقة؟ ثلاثون؟ عشرون! لم تحسب المسألة، فكم نَفَساً في اليوم! تجد أنها قريبة من أربعين ألف نَفَس، كل نفس بحد ذاته نعمة من الله عز وجل.
كل يوم أربعون ألف نعمة هذا فقط في نعمة التنفس وأما النعم الأخرى فلم نحسبها، فعندما نستشعر هذه الأشياء نحب الله عز وجل، عظمت كثرة النعمة وأحسسنا بها أحببنا الله عز وجل أكثر وأكثر.
فلذلك كان التفكر بنعم الله على عباده، وبره بهم، وإحسانه إليهم، وحفظه لهم، يؤدي للمحبة: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] مَن الذي يحفظكم غير الله عز وجل؟! هل هناك أحد يحفظ البشر غير الله عز وجل؟! {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
كذلك -أيها الإخوة- من نعم الله عز وجل: أنه فتح لنا باب الدعاء وباب الإجابة: هذه نعمة عظيمة، تأمل معي في هذا الحديث، حديث النزول الإلهي! (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا) تأمل في هذه النعمة، ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا، يسأل عن عباده، ويستعرض أحوالهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم أن يسأله قضاء حاجته في كل ليلة، (ينزل الله إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) إلى آخره، ينزل الله إلى السماء الدنيا يتفقد حوائج عباده بنفسه عز وجل، ويطلب.
فيقول: يا أيها العباد اسألوني، اسألوني أعطِكم هل تريد أعظم من هذه النعمة؟! تأمل معي هذه الآية في سورة البروج! قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] الآن تتكلم الآية عن ماذا؟ تتكلم عن أصحاب الأخدود هؤلاء الطواغيت الذين أحرقوا المؤمنين لما رفضوا العبودية لغير الله، أحرقوهم داخل الأخاديد التي شقوها في الطرقات، ماذا قال الله عز وجل عن هؤلاء الفجرة الكفرة الذين أحرقوا المؤمنين؟ قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] يعني: فتنوهم عن دينهم وعذبوهم وأحرقوهم: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] تصوَّر! مع هذه الشناعة في الأعمال، أحرقوا عباده ودفنوهم في الأخاديد، ثم قال الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] ما قطع عنهم التوبة قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] يعني: لو أنهم تابوا لتاب عليهم، مع شناعة جرمهم كان تاب عليهم.(62/25)
التفكر في أسماء الله
كذلك -أيها الإخوة-: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلب النفس في رياض هذه الأسماء من أعظم الأسباب الجالبة للمحبة: أسماء الله وصفاته عظيمة، ما يكفي أن نطبع هذه الأسماء في أوراق صغيرة ويأتي الواحد يقرأها قراءة عادية ويضعها في مكان، لا.
وإنما عليه أن يفكر في هذه الأسماء! ماذا تعني كلمة الرحمن؟! ماذا تعني كلمة الرحيم؟! ماذا تعني السميع، البصير، الودود؟! الودود: المتودد إلى خلقه، إنها أسماء عظيمة إذا تأملنا في معانيها، وكل اسم له معنى يدل عليه تختلف عن الأسماء الأخرى مع ترابطها مع بعضها ودلالتها على ذات واحدة هي ذات الله عز وجل، هذه أشياء تجلب المحبة للنفس.
لذلك كان المؤولة المعطلة بقايا الفرعونية والجهمية قُطَّاع الطرق ولصوص القلوب الذين يسرقون حب الله من قلوب عباده، وليس هذا الآن مجال الرد عليهم وتبيان شبههم، ولكن تأمل أسماء الله ومعرفة معانيها مهم جداً لمحبته عز وجل.
ولذلك تفاوت الخلق بمنازلهم ومراتبهم في محبة الله على حسب تفاوت مراتبهم في معرفة الله والعلم به، فأعرفهم بالله أحبهم له، ولهذا (كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً، وأعرف الأمة، وأشدهم حباً لله؛ خليل الله محمد صلى الله عليه وسلم، وخليل الله إبراهيم) أفضل الأنبياء قاطبة محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه في الأفضلية كما قال علماء السلف أهل السنة والجماعة: إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.(62/26)
الانكسار والخضوع بين يدي الله عز وجل
وأيضاً -أيها الإخوة- من الأشياء التي تجلب المحبة: الانكسار بين يدي الله عز وجل والتذلل له والخضوع والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له: فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، عندما ينكسر الإنسان أمام الله، ويُظْهِر الضعف والاستكانة، فإن الله عز وجل يجبر هذا الكسر، ويقوي هذا الضعف، ويغني هذا الفقر، وما أدنى النصر والرحمة والرزق من حال الإنسان المتذلل الكسير أمام ربه الذي يُظْهِر ضعفه وحاجته ولجوءه إلى الله عز وجل.
يضرب ابن القيم رحمه الله مثلاً جميلاً لانطراح الإنسان أمام الله عز وجل، ثم إقبال الله على هذا الإنسان، يقول: " تأمل هذا الحال - وهذا الحال يُشْبِه ليس هو مثله بالضبط- فإن انطراح الإنسان وإقبال الله عليه كرجل كان في رعاية أبيه، يغذيه أبوه بأفضل الطعام والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، فيبعثه أبوه في حاجة له، فيخرج عليه في الطريق عدو يأسر هذا الولد ويكتفه ويشد وثاقه، ثم يذهب به إلى بلاد الأعداء ويسومه سوء العذاب، ويعامله بضد ما كان أبوه يعامله أبوه، فهو يتذكر تربية أبيه، وإحسان أبيه، وبر أبيه به، وعطفه عليه، الفينة بعد الفينة -كلما يعذَّب يتذكر تلك الأيام- فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر -يعني: ذبحه- إذ حانت منه التفاتة إلى ديار أبيه، فرأى أباه قريباً منه، فسعى إليه، وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يدي أبيه، يستغيثه: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه انظر إلى ولده وما هو فيه، ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه أباه والتزمه وعدوه يسعى في طلبه حتى وقف على رأسه والابن منطرح متمسك بأبيه، فهل تقول أنت أيها الإنسان: إن والده يُسْلِمُه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبين العدو؟! ".
إنسان اجتاله الشيطان عن طريق الله، كان يمشي في طريق الله، والله عز وجل منعم عليه، يطيع الله عز وجل, ويرغب إلى الله عز وجل بالطاعات ويفعلها، ثم اجتاله الشيطان -انتكس هذا الرجل- وذهب الشيطان به ينزله منزلة بعد المنزلة في العصيان حتى أوشك أن يهلكه ويقذفه في مهاوي الكفر والضلال، ثم إن هذا الرجل الذي أغواه الشيطان التفت وأحس بالله عز وجل قريباً منه ينتظر متى يتوب، فانقلع عن هذه الأشياء وفر من الشيطان وطرق الضلال إلى الله عز وجل معترفاً بذنبه مقراً، يطلب التوبة واللجوء إلى الله، هل يطرده الله عز وجل ويرده خائباً؟!(62/27)
مجالسة المحبين الصادقين
كذلك -أيها الإخوة-: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب الثمرات من كلامهم كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وهذه النقطة من الطرق العظيمة التي توصل إلى محبة الله: لذلك كان لا بد من الرفقة الصالحة، والجماعة الصالحة، ولا بد لكل إنسان بل يجب عليه فرضاً، خصوصاً في هذا العصر أن يبحث عن رفقة صالحة يجتمع معهم ويجالسهم ويتعلم منهم وينتفع بهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].(62/28)
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والزهد في الدنيا
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسباب العظيمة لمحبة الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
الزهد في الدنيا والتقلل منها من أسباب محبة الله: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً) -هذا الطعام الذي نأكله نحن الآن الغداء والعشاء هذا مثل للدنيا، كيف؟ - يقول عليه السلام: (فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزَّحه وملحه قد علم إلى ما يصير) هذا الطعام تطبخه وتعتني فيه وتملحه وتحسنه وتعتني بطهيه، وترى شكله الآن جميلاً قبل أن تتناوله، فإذا أكلته كيف يخرج منك بعد ذلك؟! قاذورات ونجاسات، هكذا حال الدنيا.
انظر إلى دقة الرسول صلى الله عليه وسلم في المثل، يضرب الطعام هذا بمثل الدنيا هذه، في البداية تكون جميلة، لكن ماذا تصير بعد ذلك؟!(62/29)
الصدق في الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار
كذلك -أيها الإخوة-: الصدق في الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب اللهَ ورسولَه أو يحبه اللهُ ورسولُه فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤدِّ أمانته إذا اؤتُمِن، وليُحسن جوار من جاوره).
إن البحث مازال فيه أشياء كثيرة، فما هي الخصال التي يحبها الله عز وجل؟! ترجع إلى أحاديث كثيرة مثل: أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا، إن الله يحب كذا وكذا.
أشياء كثيرة في القرآن والسنة، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
لكن -أيها الإخوة- لا أرى الآن المجال لذكرها، لأن الوقت قد طال بنا، فنقتصر على ما ذكرناه فيما يتعلق بهذا الموضوع (محبة الله والطريق إليها).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يحبهم ونحبه حق المحبة عز وجل، وأن يوفقنا إلى ذلك، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه عز وجل، وأن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة، وأن يوفقنا لطرق محبته وذكره حق الذكر والثناء عليه سبحانه وتعالى، وصلى الله على سيدنا محمد.(62/30)
الأسئلة(62/31)
أخذ رأي المرأة عند الزواج
السؤال
تقول السائلة: ما حكم أخذ رأي المرأة عند الزواج؟
الجواب
حكم الإسلام في أخذ رأي المرأة عند الزواج معروف وواضح، ألا وهو: أنه لا يجوز لولي المرأة أن يزوج ابنته أو أخته -مثلاً- إلا برضاها، إذا لم تكن راضية لا يجوز له أن يزوجها، ويأثم لو زوَّجها بغير رضاها؛ بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسخ نكاح امرأة زوجها أبوها بدون رضاها جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تشتكي أنها لا تريد فلاناً وقد زوَّجها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ارجعي) أرْجَعَها، فلا بد من أخذ رأي المرأة.
لكن أحياناً قد يتقدم إلى الفتاة رجلان: - أحدهما مطيع لله عز وجل، يخاف الله عز وجل، تقي؛ لكن المرأة تقول: لا أريده.
- ويأتي رجل آخر عاصٍ فاسق متلبس بالمعاصي؛ وتقول المرأة: أريد هذا.
عند ذلك رأي المرأة لا قيمة له شرعاً ولوليها أن يرفض أي رجل يتقدم إليها إذا كان من غير أهل الصلاح.
يقول الشيخ ابن عثيمين: " ولا يأثم ولي المرأة إذا رد كل خاطب فاسق لا يؤتمن على دينه، حتى لو بقيت المرأة بغير زواج طيلة حياتها " وهذا الكلام يريحنا تماماً عندما تعترض امرأة على أبيها وتقول له عندما تبلغ حد العنوسة: ما زوجتني أنت فعلت بي كذا أنت أوصلتني إلى هذه الدرجة أنت كذا أنت ضريتني أنت كذا لو أخذت فلاناً كنت الآن مبسوطة ولو أخذت فلاناً إلخ.
هذا خطأ، إذا كان الرجل المتقدم عاصياً لله عز وجل.(62/32)
جواز ترك الجماعة لعذر شرعي
السؤال
أنا رجل أعمل في الجبيل وأعود إلى الخُبَر يومياً، والشركة التي أعمل فيها عندها حافلتان، الأولى تتحرك الساعة الثالثة والنصف، والثانية تتحرك الساعة الخامسة، والساعة الثالثة والنصف فيها إقامة الصلاة، فلو صعدت في الحافلة الأولى فلا أصلي العصر جماعة، ولو صليت العصر فسوف أنتظر ساعة ونصف حتى أرجع مع الحافلة الثانية، فما هو الحكم؟
الجواب
يقول الشيخ ابن عثيمين جزاه الله خيراً في هذا السؤال: " هذا عذر له في ترك الجماعة " إذا كان سيتأخر ساعة ونصف لكي يدرك الجماعة فإنه يجوز له أن يصعد في الحافلة الأولى ويصلي العصر هنا، طبعاً إذا كان سيمكنه؛ ولا يخرج الوقت إذا جاء، فيجوز له هذا.(62/33)
كراهية التحدث بالرؤية السيئة
السؤال
أحياناً يرى الإنسان أشياء طيبة وغير طيبة، فهل يحدث بكل ما يراه؟
الجواب
إذا كان طيباً يحمد الله، وإذا كان سيئاً يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كان بعضه طيب وبعضه سيئ ماذا يفعل؟ أجاب عن هذا السؤال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقال: " يحمد الله على الجزء الطيب من الرؤيا أو هذا المنام، ويستعيذ بالله من الأشياء السيئة التي رآها.(62/34)
حكم الأوراق المكتوب عليها (حاسب نفسك) أو ما شابهها
السؤال
عن الأوراق التي مكتوب فيها (حاسب نفسك) وفيها: هل أديت صلاة الفجر في جماعة؟ هل صليت كذا؟ هل المحاسبة بالأسئلة، أظن رأيتموها؛ لأنها منتشرة ومطبوعة.
الجواب
هذه يقول فيها الشيخ ابن عثيمين: " هذه من البدع، والسلف رحمهم الله تعالى ما حاسبوا أنفسهم بهذه الطريقة "، ويقول: " وللأسف كُتِبَت على هذه الأوراق آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ثم جاء بهذه الأسئلة الطويلة، يقول الشيخ ابن عثيمين: " هل هذه الآية نزلت بعد السلف؟! " لا.
هل السلف يعرفون في المحاسبة أقل منا، ونحن نعرف أكثر منهم؟! لا.
يقول: فهذه الأوراق أو المحاسبة بها بدعة، وهناك أيضاً بعض النماذج فيها سطور، وتضع (صح)، صليت (صح) (صح) (خطأ) وتجمع العلامات، إذا كنت أكثر من هكذا تصير طيِّباً، وما كنت كذا فهذه -أيها الإخوة- ليست من طرق المحاسبة الشرعية إطلاقاً، والشيخ ابن عثيمين يشدد فيها كثيراً، فقد: قال فيها كلاماً شديداً، ثم قال: " ما أحسن أن يأتي طلبة العلم إلى العلماء ويسألونهم عن مثل هذه الأشياء؛ حتى يبينوا هذه البدع للناس! وقال أيضاً من ضمن التعليلات قال: " أحياناً الإنسان يرى أنه إذا فعل طاعة في يوم معين بالنسبة له يستطيع أن يفعل أكثر من طاعة أخرى؛ ولكن هذه الورقة تلزمه؛ لا بد أن يفعل جميع البنود، مع أنه قد يرى أن فعل بند معين أكثر من مرة يعني: هو مُقْبِل عليه أكثر من فعل بند معين مثلاً.
ومن ضمن الأشياء -مثلاً- قال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الصيام إلى الله صيام داوُد، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) قال: ومع ذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصوم يوماً ويفطر يوماً، هل خالف الرسول صلى الله عليه وسلم الشرع؟ قال: لا؛ لكن كانت عنده شواغل تشغله على أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، كان يحتاج قوته ليستجمعها في الجهاد.
وفي المعارك، وفي السفر، فما كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.(62/35)
حكم قراءة الإنجيل
السؤال
هل يصح قراءة كتاب الإنجيل؟ ولماذا؟ أرجو التوضيح.
الجواب
قراءة الكتب الأخرى المحرفة -وليس هناك أصلاً كتب ليست محرفة إلا القرآن الكريم- غير جائزة بتاتاً، فقد شنع الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر تشنيعاً شديداً لما رأى في يده صفحة من التوراة، والذي يقرأ فيها كأنه يقول: إن القرآن ما يكفيني لذلك، وإنما يريد أن يتوسع.
لو قال أحدهم: أنا أقرأ من باب حب الاستطلاع، نقول له: أيضاً ما يجوز.
لماذا؟ لأنه قد يدخل في نفسك شيء من الشبه، وأنت تقرأ من باب حب الاستطلاع، فلو تقفل هذا الباب يكون أحسن.
لكن أجاز بعض أهل العلم قراءة هذه الكتب في حالة واحدة وهي: لمن كان على علم يعني: كان عالماً في أمور الدين، وشبه اليهود والنصارى، فقرأها ليرد عليهم ويناقشهم، مثل ما يفعل الآن بعض كبار المفكرين من المسلمين يضطرون للمناظرات مع الكفار، ولا بد أن يقرءوا ليقول لهم: أنتم قلتم في كتابكم كذا، وهذا خطأ، أنتم تقولون: كذا، والذي في كتابكم يخالف إلى آخره.
فلا يجوز قراءتها إلا للعلماء من أجل مناظرة الكفار ودعوتهم إلى الله عز وجل.(62/36)
ترك سماع الأغاني وحكم ترديدها سراً
السؤال
بفضل من الله تركت الأغاني والموسيقى؛ ولكنني أردد الأغاني بيني وبين نفسي فهل هذا حرام؟
الجواب
طبعاً هذا الشيء واقعي، فالقضية ليست غريبة؛ لأن هذا الشيء يكون تلقائياً لماذا؟ لأن الإنسان عندما يعيش في جاهلية جهلاء يعني: في معاصٍ، وأغانٍ، ويرتكب جميع أنواع المعاصي، فالأغاني هذه يسمعها يومياً ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، في الطريق وفي السيارة وفي البيت، فكثرة السماع تطبع الأغاني في القلب طبعاً، ويحفظ الإنسان هذه الأشياء فيصير يرددها بين الحين والحين بغير حس أو شعور، بغير ما يشعر تجد لسانه ينطلق بالأغاني، هذا واقع، وعندما يهديه الله عز وجل تبقى في النفس -أيها الإخوة- رواسب من الجاهلية؛ لذلك كما يقول أحد كبار المفكرين في هذا العصر الأستاذ سيد رحمه الله تعالى يقول: " فلا بد للإنسان الذي يدخل عتبة الإسلام أن يخلع -الذي يدخل في الإسلام ويلتزم به- أن يخلع على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية ".
من ملابس الجاهلية مثلاً: الأغاني، فالإنسان حتى بعد أن يمن الله عليه بالهداية والتوفيق؛ لابد أن تبقى فيه رواسب.
أبو ذر رضي الله عنه مع صدقه وثبوت قَدَمِه في الإسلام حصل له موقف مع بلال رضي الله عنه، وقال له كلمة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) فالآن -أيها الإخوة- هذه حال كثير من الإخوة الملتزمين، فإنه لا يزال في أنفسهم أو لا يزال في بعض النفوس رواسب جاهلية سابقة تظهر بين الحين والحين، وليس بغريب أن الواحد أحياناً وهو ملتزم ينتبه فجأة وإذا به يردد أغنية، لماذا؟ لأنه أساساً عندما كان في ماضيه الأسود كان يحفظ هذه الأشياء وقد ترسَّخت في داخله، فتنطلق منه أحياناً بغير شعور.
فينبغي إذا حصل منه هذا أن يتوب إلى الله ويستغفره، ويحاول أن يجاهد نفسه قدر الإمكان، ويخلص نفسه من هذه الألبسة الجاهلية، وإلا فإن هذه الملابس ستثور عليه يوماً ما وتطغى عليه وينتكس ويعود إلى الماضي.(62/37)
كفارة الحلف على شيء واحد أكثر من مرة
السؤال
ما كفارة الحلف على شيء واحد أكثر من مرة؟
الجواب
قال العلماء إذا أقسم عدة أقسام على شيء واحد، ثم نكث بيمينه، فالكفارة واحدة، مثلاً: إنسان أقسم في يوم خمس مرات أنه لا يشرب السيجارة، يعني: أقسم خمس مرات، في الصباح، وفي الظهر، وفي العصر، وفي المغرب، وفي العشاء، ولكنه ما استطاع أن يصبر فشرب سيجارةً في الليل؟ فعليه كفارة يمين واحدة.
أما إذا أقسم ثم نكث بيمينه، ثم أقسم ثم نكث بيمينه، هذا حالته مختلفة، نحن نتكلم على شخص أقسم أكثر من مرة على شيء ثم نكث فيه مرة واحدة فهذا عليه كفارة واحدة، كفارة يمين واحدة: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] وهذا لا يعني أنك عندما تصبح عليك كفارة تشرب السيجارة، لا.
الكفارة تكون إلزاماً عليك بالإضافة إلى الإثم الذي ترتب عليه من شرب السيجارة.(62/38)
الحل لترك سماع الأغاني
السؤال
أنا والحمد لله أؤدي الصلاة وتوجد لدي الأشرطة الدينية؛ ولكن مشكلتي أنني أحاول ألا أسمع الأغاني، ولكن محاولتي تبوء بالفشل، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه المحاولات والحمد لله تدل على أنك اهتديت، وأديت الصلاة، وعندك أشرطة إسلامية طيبة تنتفع بها، وهذه مهمة -أيها الإخوة- إيجاد البديل، فالواحد عندما يكثر من سماع الأغاني ثم يتوب لا بد أن ينشغل بأشرطة أخرى طيبة، أشرطة أخرى فيها مثلاً: أشياء حماسية، أو فيها مثلاً: أناشيد حماسية، ليست بالأناشيد الصوفية الضالة -مثلاًَ- أو فيها -مثلاً- أخلاقيات أو تعلم النفس الشمائل الطيبة، لا بأس بهذا، وكذلك المحاضرات، والخطب المفيدة، لا بد من الاستبدال، لا بد من استبدال السيء بالحسن، أما المحاولات -يا أخي- فلا بد أن تجاهد نفسك، وكما ذكرنا أن الوصول إلى هذه المراتب يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى شدة وإلى معاناة؛ ولكن يعتمد على ضعف الإيمان وقوة الإيمان.
وليس هناك وصف سحري أول ما تستخدمه تترك الأغاني، هذا غير ممكن، لا بد من مجاهدة، ولا بد من الاحتكاك ومخالطة الأصحاب الطيبين الذين يشغلون وقتك بالعلوم النافعة والأشياء الطيبة عن سماع مثل هذه الأغاني، وحاول ألا تخلو بنفسك حتى يسوِّل لك الشيطان؛ لأن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد.
وفقنا الله وإياكم لطاعته ومحبته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(62/39)
أهمية الرفق في حياة المسلم
الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والألطف، وهو أهم ما يكون في حياة المسلم وبالذات في حياة الداعية؛ لأنه يواجه الكثير من الأشياء التي يحتاج فيها إلى اللين والرفق، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لجميع الدعاة في هذا الجانب، فهو أرفق الناس بأمته عليه الصلاة والسلام.(63/1)
أهمية الرفق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فهذا موضوعٌ أخلاقيٌ عظيمٌ من الأخلاق الفاضلة التي حث عليها الإسلام حثاً شديداً كما سيتبين معنا إن شاء الله في طيات الآيات والأحاديث، وهذا الموضوع -أيها الإخوة- موضوع الرفق يدخل في أعمال كثيرة من الأعمال التي يقوم بها الإنسان المسلم، ولعلكم تتبينون معي إن شاء الله تعالى بحوله وقوته دخول هذا الخلق العظيم في مواضيع شتى من الأشياء التي يؤديها المسلم يومياً، بل إنه يدخل في أبواب عظيمة من أبواب الإسلام.
والرفق -أيها الإخوة- كما يعرفه علماؤنا يقولون: الرفق: هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل واللطف وحسن الصنيع، وضده العنف والشدة, والرفق -أيها الإخوة- نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، من أعطاه الله إياها، فقد فاز بخيرٍ عظيمٍ في الدنيا والآخرة، ولذلك امتن الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رفق ولان لإخوانه المسلمين، فجمعهم الله عز وجل على رسوله بهذا الرفق وبهذا اللين، فقال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] قال ابن كثير رحمه الله: أي لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب عليهم، لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم.
فالدرس الأول من هذه الآية يا إخواني: أنك إذا سألت ما هو الشيء الذي يجمع قلوب الناس وأنفسهم في مجتمع واحد على رجل واحد تكون كلمتهم واحدة ويداً واحدة؟ إنه الرفق واللين الذي قال الله تعالى عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] وإذا سألت عن سبب تفرق القلوب الذي ينتج عنه تفرق الأجسام والتنازع الذي يحصل بين أفراد المجتمع، فاعلم يا أخي المسلم بأنه العنف والحدة والغلظة التي هي ضد الرفق، ولذلك قال عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ولذلك كان وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن قول الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو إذاً بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ، أما صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة من قبلنا، فهو ما رواه البخاري رحمه الله تعالى بإسنادٍ صحيح إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] قال: (في التوراة مقابل هذه الآية: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاباً في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن ليعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتحوا بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).
رواه البخاري.
فالشاهد من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قوله: ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخابٍ في الأسواق، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس فظاً، ولا غليظاً، وهذه الصفة في الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي جمعت عليه الصحابة، وفتحت له قلوب الناس، فكانوا معه يداً واحدة، يأتمرون أمرهم على قلب رجلٍ واحدٍ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على كل رجل يريد أن يؤلف الناس على الإسلام أن يلين لهم ويرفق بهم، وهذا الخلق العظيم من الأخلاق التي يحبها الله عز وجل، فلذلك روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) قال ابن حجر رحمه الله في كتاب الأدب من صحيح البخاري عن هذا الحديث: يعني: أن الرفق يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده، تأتيك بالرفق أشياء، وتنفتح لك مغاليق أمورٍ لا تنفتح لك بغير الرفق مطلقاً، ولذلك قال الشاعر:
من يستعن بالرفق في أمره قد يخرج الحية من جحرها
أشياء كثيرة قد تبدو مستحيلة في ظاهرها، وفي بداية الأمر صعبة جداً، تنال بالرفق، الرفق هو الذي يأتيك بها؛ لأن الله كتب أنه يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، يعطي عليه أشياء صعبة مستحيل أن يعطيها بغير الرفق، أما بالعنف، فلا يأتي شيء البتة، ولا تستفيد منه مطلقاً، وتظل الأمور منغلقة عليك.
والقول الثاني في هذا الحديث كما يقول ابن حجر رحمه الله: وقيل المراد يثيب على الرفق ما لا يثيب على غيره، يعني: يعطي ثواباً على الرفق ما لا يعطي على شيء آخر، ولذلك يقول عليه السلام مبيناً الأثر السلبي والدرجة الواطئة التي يكون عليها الرجل العنيد الذي حرم الرفق بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي الدرداء مرفوعاً: (من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير) إذا لم يوجد رفق يعني: لا يوجد خير، هكذا بهذه البساطة، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الآخر: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) قال النووي رحمه الله: أي: يحرم كل الخير الناشئ والناتج من الرفق، وغلظ القلب كما قال العلماء: هو عبارة عن تجهم وجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكى على أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبلِ
فالذي ليس عنده رفق، ولا عنده هذا اللين، لن يبكي على المحرومين من خلق الله مطلقاً.(63/2)
أبواب يدخل فيها الرفق
والرفق أيها الإخوة! له جوانب عديدة وتطبيقات كثيرة، ويدخل في أبواب عظيمة، فمن هذه الأبواب:(63/3)
تربية النفس
أولاً: تربية النفس، وأخذ الدين، كيف يدخل الرفق في تربية النفس، وفي أخذ الدين؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) حديث حسن، رواه الإمام أحمد والنسائي مرفوعاً في صحيح الجامع.
ما معنى (فأوغلوا فيه برفق)؟ قال ابن الأثير رحمه الله في كتابه النهاية: يريد سر فيه برفق، وابلغ الغاية القصوى منه، لأن بعض الناس ربما يفهم سر برفق يعني: خذ قليلاً برفق هكذا يفهم بعض الناس، ومعنى هذا أنك لا تبلغ الغاية العظمى لنفسك في الدين، إذا فهمت هذا المفهوم الخاطئ، ولذلك يقول ابن الأثير رحمه الله: يريد سر فيه برفق، وابلغ الغاية القصوى منه.
أنت حدد أن القمة هي الهدف، لا تقل: أنا سأبقى عند السفل، حدد أنك ستصل إلى القمة، لكن كيف تصل؟ تصل برفق، لكن هذا لا يعني أن تضع في حسبانك أنك ستبقى في أسفل الجبل، لا.
ويقول: بالرفق لا على سبيل التهافت والخرق، ولا تحمل على نفسك وتكلفها ما لا تطيق، فتعجز وتترك الدين والعمل، أي أن المقصود من الحديث سر برفق، ولا تحمل نفسك ما لا تطيق، لأنك إذا حملت نفسك في البداية تكليفات عظيمة، فإنك ستعجز بعد فترة قليلة من الزمن، لأنك لا تستطيع أن تمشي فجأة بدون تجرد سيراً سريعاً في الدين، فيبدأ بصيام النفل فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ويقوم أكثر الليل، ويقرأ خمس ساعات في اليوم، في البداية لو أنك اتخذت هذا المنهج وهذا الأسلوب بدون تدرج، فإنك ستعجز، وستنقطع عن الدين وعن العمل، وهذا حال كثير من الجهلة الذين يهجمون على الدين هجوماً يريدون أن يتعلموا الدين ويطبقوه في أيام، فتكون النتيجة انقلاب مفاجئ بعد فترة قصيرة من الزمن.
وهذه الأحاديث التربوية أيها الإخوة على جانب عظيم من الأهمية، وانظروا إلى مدى دخول الرفق في هذه الجوانب، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد والحاكم عن بريدة وهو حديث صحيح في صحيح الجامع: (عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه) الذي يشاد الدين يغلبه الدين، ما معنى: (عليكم هدياً قاصداً) قال المناوي رحمه الله في فيض القدير: أي: طريقاً معتدلاً غير شاقٍ، الزموا القصد في العمل وهو استقامة الطريق، والأخذ بالأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير.
وهذا الكلام مهم، لأن بعض الناس يقول: أنا آخذ من الدين نسبة بسيطة، يعني: أقع في محرمات لا بأس، لا أريد أن أضغط على نفسي، وليس هذا هو المقصود من الحديث، المقصود من الحديث: أنك تسير في طريق لا غلو فيه، ولا تقصير، فالغلو مثلما كان يفعل الخوارج، أو مثلما جاء الثلاثة إلى أبيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال أحدهم: أنا أقوم الليل ولا أنام، وأحدهم قال: أنا أصوم ولا أفطر، وأحدهم قال: أنا لا أتزوج النساء، هذا غلو، لكن ليس من الغلو أن تلتزم بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم في مظهرك وملبسك، وليس من الغلو أن تؤدي صلاة الجماعة في المسجد حتى صلاة الفجر، والأمثلة كثيرة يظنها الناس غلواً وليست بغلو، وإنما أتوا من جهلهم بالدين وغفلتهم وسطحيتهم في فهم الدين.
والأخذ بالأمر الذي لا غلو فيه ولا تقصير، هو معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم هدياً قاصداً) ما معنى: أنك إذا شاددت الدين، يغلبك؟ يعني: من يقاومه ويقاويه ويكلف نفسه من العبادات فوق طاقته، يؤدي به ذلك إلى التقصير في العمل، وترك الواجبات، النفس -أيها الإخوة- ليست آلة، وإنما لها حدود وطاقات، فإذا قمت من البداية بالالتزام بالنوافل الكثيرة من غير تدرج وترويض وألزمت بها نفسك، فإنك ستتعب، ولا يمكن أن تواصل في نفس المستوى، فسينقطع بك الطريق، وتسقط في هاوية الانحراف والنكوص على عقبيك والعياذ بالله.
فإذاً: الرفق في أخذ الدين مهم، ومن الشواهد الصحيحة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يلي: قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة مرفوعاً: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) وإن قل: لا يعني: أن ينزل إلى درجة المحرمات، أو ترك الواجبات، لا.
أنت ملتزم بالواجبات، ومنته عن المحرمات، لكنك لا تأخذ من نوافل الأمور أشياء أكثر من الذي تطيقها نفسك بغير تدرج: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
فحتى لا تصبح المسألة -أيها الإخوة- مسألة حماس واندفاعية مؤقتة تنتهي بعد فترة قصيرة من الزمن، لا بد من الرفق في أخذ الدين، هذا جانب يدخل فيه -أيضاً- الرفق في طلب العلم، بعض الناس يريدون أن يطلبوا العلم فيتحمسون، يتحمس من كلمة يسمعها، أو خطبة، أو شريط، أو يفكر في نفسه، فيرى أنه مقصر جداً في طلب العلم، ماذا يفعل؟ يذهب ويبدأ بالمجلدات الضخمة التي ليس عنده قدرة على فهمها والقراءة فيها، ويقول: أنا سأقرأ اليوم خمس ساعات، سبع ساعات، لابد أن أجلس، وأجلس، وأجاهد نفسي، من البداية وهذا لا يصلح، لا بد أن ترفق بنفسك، فتأخذ الكتب بالتدرج، الأسهل فالأصعب فالأصعب وهكذا، تأخذ الأشياء الواضحة في المعنى المبسطة في الأسلوب، ثم بعد ذلك ترتقي في قراءتك وفهمك حتى تصل إلى المستوى الذي تقرأ فيه أصعب الكتب، وهذا لا يعني تثبيطاً ولا تخذيلاً، وإنما سلوك الطريق الصحيح.(63/4)
الرفق مع الإخوان
النوع الآخر الذي يدخل فيه الرفق: الرفق مع الإخوان: الإنسان منا -أيها الإخوة- له أصدقاء وله زملاء وله إخوان في الله، أناس كثيرون له علاقة بهم، هؤلاء الناس لا بد أن يرفق بهم، قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] اخفض جناحك: أي: كن ليناً هيناً رفيقاً بهم متواضعاً لهم فرِساً معهم، لذلك -أيها الإخوة- إذا دققت في الأسباب التي تؤدي إلى انفصام عرى الأخوة بين كثير من المسلمين، وجدتها في طرف من الأطراف، أو في كلا الطرفين، لوجدت الأمر حدة في الطبع، وصعوبة في التعامل، وخشونة في الألفاظ، وغلظة، وعزة على المسلمين، بدلاً من أن يكون الأمر: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
انقلب الأمر عند كثير من المسلمين اليوم للأسف إلى أن يكونوا أذلة على الكافرين، أعزة على إخوانهم المؤمنين، فكثيراً ما يجد الأخ بينه وبين أخيه وحشة وتنافراً، لو دقق في التفكير لوجد السبب يعود إلى هذه العوامل التي ذكرناها التي يسببها فقدان الرفق.
انعدام الرفق هو الذي يسبب هذه الوحشة وهذا التقاطع وهذا التنافر، لا بد -أيها الإخوة- من قبول أعذار الناس، والمساهلة معهم كما قال علماء السلف، لا بد من اللين مع الإخوان في المعاملة، ولا بد من خفض الجناح، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام أبو داود والحاكم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو له) انظروا إلى لين الرسول صلى الله عليه وسلم ورفقه بإخوانه، كانوا في الجيش فإذا تقدم الناس كان الرسول يتخلف إلى الوراء، ولا يكون دائماً في المقدمة، فيرى من هو الضعيف، ومن هو المسكين العاجز، ومن هو الذي ليس عنده دابة تحمله، فيحمله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هو الذي يحتاج إلى مساعدة وإعانة، فيعينه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل والدعاء، لأنه قال في الحديث: (كان يتخلف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف) يردفه وراءه على دابته رفقاً بهم وبحالتهم، (ويدعو لهم) وهكذا في صحيح الجامع.(63/5)
الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وكذلك -أيها الإخوة- يدخل الرفق دخولاً أساسياً في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نحن الآن نستعرض استعراضاً بعض الجوانب التي يدخل فيها الرفق، ولا نريد أن نفصل في جانب معين، لأن هذا الجانب يصلح أن يكون موضوعاً مستقلاً بذاته.
الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من القواعد التي وضعها علماؤنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يقول: لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً فيما يأمر، عالماً فيما ينهى رفيقاً فيما يأمر، رفيقاً فيما ينهى.
بعض الناس قد يكون عندهم علم أن هذا معروف، وأن هذا منكر، لكن ليس عنده رفق في الدعوة، ليس عنده رفق في أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك ترى نتيجة جهود هذا الرجل عشوائية ساقطة فاسدة، لا أحد يستجيب له، ولا يصغي إليه، بل إن النتيجة هي الإعراض وشذوذ الناس الذين يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ما هو السبب؟ افتقاد هذا الخلق الإسلامي العظيم، خلق الرفق في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، انظروا معي إلى هذه الحادثة التي لو سارت بشكل آخر، لو سارت الحادثة كما سارت في بدايتها، كيف ستكون النتيجة؟ روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [قام أعرابي، فبال في المسجد] جريمة عظيمة جداً أن يقوم أحدهم ويبول في المسجد، مكان العبادة وأطهر مكان، فالصحابة انبهروا لهذا التصرف، فتناوله الناس، وفي رواية للبخاري -أيضاً- فسار الناس ليقعوا فيه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوه لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بوله، قد ينحبس البول فيتضرر الرجل، أو يهرب وتنتشر النجاسة في بقعة أوسع من المسجد، فلما قضى الأعرابي بوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريقوا على بوله سجلاً، -بمعنى دلواً وزناً ومعنى- فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري رحمه الله في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد.
لو أن الأمور سارت بالشكل الذي بدأ به الصحابة، كيف ستكون النتيجة؟ أولاً: الوحشة في نفس الأعرابي، وربما يترك الإسلام، وربما كان قادماً ليسلم، فربما يرجع بعد أن يجد هذه المعاملة، وأيضاً: انتشار البول، وقد يتضرر شخصياً.
ما دام الأمر حدث وانتهى، فلا بد من درء أعلى المفسدتين في ارتكاب أدناهما، فلذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أوقفهم، وجاءت الروايات بعد ذلك أن هذا الأعرابي قال: [اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً] لأن هذا هو التصرف الذي رآه من الرجل العظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بد من اللين، ولذلك قال الله تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] لماذا قولاً ليناً؟ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] بعث أعظم داعيتين في زمانهما إلى أسوء مخلوق في زمانه فرعون، وقال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فما بالكم اليوم بإخواننا المسلمين الذين يخطئون كيف نوجههم ونرشدهم؟ إذا كان أعظم داعية أرسل إلى أسوء مخلوق، فقيل له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فكيف يجب أن يكون موقفنا نحن؟ فقد يرى بعض الناس منكراً، فيثورون بعنف بلا حكمة، ولو أنهم تريثوا في الأمر وألانوا القول لكان خيراً لهم.
ومن الأمور التي يدخل فيها الرفق -أيضاً- في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أنه إذا كان النهي عن المنكر يحصل بدون عنف وغلظة وهي ضد الرفق، فلا داعي لها عندئذٍ، ومما يشهد لهذا المعنى ما رواه البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (دخل وفدٌ من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم -يعني: الموت- فـ عائشة تقول: ففهمتها - عائشة كانت فطنة وذكية- قالت: ففهمتها، وقلت: وعليك السام واللعنة، إخوان القردة والخنازير، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت: يا رسول الله! أولم تسمع ما قالوا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد قلت وعليهم -يعني: سمعت ما قالوا وفهمت أيضاً- ولكن قلت: وعليكم، وبما أننا يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا، فدعاؤنا عليهم مستجاب، ودعاؤهم علينا غير مستجاب) فهم قالوا: الموت عليكم، فأنا قلت: وعليكم، فالذي يستجاب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعاء المؤمن على هذا الرجل اليهودي أو النصراني، أو الكافر الذي يقول له: السام عليكم، فمادام -أيها الإخوة- حصل المقصود، ورد كيد اليهود في نحورهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وعليكم) فما دام أن الغلظة عليهم، لأننا الآن مأمورون بالغلظة على اليهود والكفار، لا نعاملهم المعاملة الحسنة، لكن هذا لا يعني -يا إخواني- أن نطلق السباب والشتائم عليهم بغير داعي، لما حصل المقصود بالدعاء عليهم بالموت، والرد عليهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وعليكم) فلماذا قول: وعليكم السام واللعنة إخوان القردة والخنازير؟ فيقول ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد ألا يتعود لسانها بالفحش، أو أنكر عليها الإفراط في السب.(63/6)
الرفق في دعوة الناس إلى الإسلام
والرفق -أيها الإخوة! - يدخل دخولاً أساسياً كذلك في دعوة الناس إلى الإسلام، وتعليمهم إياه، وتربيتهم عليه.
أما الرفق في دعوة الناس إلى الإسلام، فله أمثلة كثيرة في السيرة النبوية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أتسمع يا أبا الوليد؟ أتجلس؟)، وكان يقول لـ ثمامة: (ما عندك يا ثمامة؟) وكان يقول لفلان: (ألا أدلك على أمر خير من هذا؟) كان صلى الله عليه وسلم يتلطف في أسلوب الدعوة، كان ليناً في دعوة الناس إلى الإسلام، ولذلك فتح الله له برفقه مغاليق قلوب زعماء الكفر والإلحاد، وألان له نفوسهم كما يلان الحديد، ألينت له نفوسهم بسبب السلاح الفتاك الذي استعمله وهو الرفق، الرفق سلاح فعال استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة، فأسلم ثمامة، وأسلم غيره من الكفرة الذين كانوا من زعماء الضلال والشرك، وصاروا قادة في الإسلام، وقدوات في الدين بعد ذلك، كان السبب هو أسلوب الرفق المستخدم في دعوته إلى الإسلام.(63/7)
الرفق في تعليم الناس
وأما استخدام الرفق في تعليم الناس، فأمثلته كثيرة -أيضاً- ومنها: ما رواه مسلم وغيره في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه وهو رجل أتى من البادية، وكان قبل ذلك موجوداً لكنه خرج في عمل له في البادية، وكان الكلام في الصلاة مباحاً، وكان بعض الصحابة يقول لأخيه: هذه الآيات التي يقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي سورة؟ ومتى نزلت؟ كان الكلام مباحاً في الصلاة، ثم نزل قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فحرم الكلام، هذا الرجل جاء من البادية ولم يعلم بأن الكلام في الصلاة قد صار محرماً، فدخل في الصلاة مع الناس، قال: (بين أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: وا ثكل أمياه!) يعني: وافقد أمي إياي فإني هلكت فقال: (وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟) يعني: انظر عندما لا يكون هناك رفق، الأمور تسوء أكثر، لأن الرجل ماذا قال في الأول؟ قال: يرحمك الله، الآن هذا الرجل مستحيل تعليمه فكيف يتعلم؟ رموه بأبصارهم فزاد الأمر سوءً، وتكلم الرجل زيادة، قال: وا ثكل أمياه، مالكم تنظرون إلي؟ والصحابة -أيضاً- لا يستطيعون أن يتكلموا (فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم -زيادة في التنبيه- فلما رأيتهم يصمتونني، لكنني سكت) قال في السيرة: لما رأيتهم يصمتونني، يعني: غضبت وتغيرت، لكني سكت.
(فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذه من لفظة معاوية، ربما ما كان يحفظ الحديث بالضبط، ولذلك قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطريقة الصحيحة عندما يروي الإنسان حديثاً ليس متمكناً من ألفاظه.
ووقع في رواية لـ أبي داود: (فما رأيت معلماً قط أرفق من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لاحظ هذه العبارة ولاحظ كيف أدى الرفق في التعليم الهدف المطلوب، الكلام حصل في الصلاة وانتهينا، الآن لا نستطيع أن نرجع الزمن ونعدل الأمور، فإذاً ما هو الحل؟ أن نصبر على هذا الرجل حتى تتاح الفرصة المناسبة لتفهيمه وتعليمه، وعند ذلك ينتهي الإشكال.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً بمن يعلمهم، كان الناس يأتون الرسول صلى الله عليه وسلم من شتى الأماكن ليتعلموا، يسافرون إلى المدينة لطلب العلم، فيجلسون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الناس الذين يأتون عندهم أهل يشتاقون إليهم، فماذا كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الناس الذين يأتون ليتعلموا؟ انظر كيف كان يرفق بهم، من كلام هؤلاء الرجال روى البخاري رحمه الله عن مالك بن الحويرث، قال: (أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون) شببة يعني: جمع شاب تجمع على شببة، متقاربون يعني: في السن، مالك بن الحويرث جاء مع إخوانه شباب حديثي عهد، أعمارهم متقاربة (فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلةً نتعلم، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: ارجعوا) هؤلاء الصحابة جاءوا لكن اشتاقوا إلى أهليهم واستوحشوا، وتغيرت نفسياتهم نوعاً ما بسبب ابتعادهم وحنينهم، فالغريب يحن إلى أهله، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا، قال: (ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم).
لماذا قال: (وليؤمكم أكبركم) ولم يقل: يؤمكم أقرأكم؟ لأن هؤلاء الناس جاءوا مع بعض، وتعلموا مع بعض، يعني: أنهم حفظوا مع بعض، فكان علمهم متقارباً وهجرتهم واحدة، فانتقل الأمر إلى كبر السن، فقال: (وليؤمكم أكبركم) والأفضل أن الناس يؤمهم أقرؤهم بشرط أنه إذا كان هناك ثلاثة علماء هل يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، يعني: أحفظهم للكتاب، وأجودهم قراءة، أم يؤمهم أفقههم في الدين؟ فقال بعض العلماء: يؤمهم الأفقه، فإذا تفاوتوا في الفقه، ينظر في الحفظ، وقال بعضهم: يؤم الأحفظ مطلقاً، والقول الوسط الذي جمع ابن حجر رحمه الله بين القولين، قال: يؤم الأحفظ بشرط أن يكون عنده من الفقه ما يقيم به صلاته، ويعرف كيف يتصرف إذا أخطأ في الصلاة، مثل أحكام سجود السهو، وترك الواجب إلى آخره، فعند ذلك يؤم الأحفظ، وإذا لم يكن فقيهاً فيؤم الأفقه، قال ابن حجر: باتفاق العلماء.
فقال: (فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم).
إذاً -أيها الإخوة- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفق بمن يعلم، فكان إذا شعر بأنهم قد حنوا إلى أهليهم، يسمح لهم بالذهاب، بل هو يأمرهم بالذهاب، يقول: (ارجعوا إلى أهليكم) والرجوع إلى الأهل على أية حال ليس شراً وانقطاعاً عن الخير، لا.
بل فيه خير عظيم أيضاً، بأن ينشر الإنسان فيهم الدعوة، وينشر فيهم العلم، ويعلمهم ما تعلم من الخير، فرجوع الإنسان إلى موطنه من بلد العالم فيه خير ونفع عظيم.(63/8)
الرفق بالمسلمين إذا ولي من أمرهم شيئاً
ثم نأتي -أيها الإخوة- على مسألة أخرى: وهي تحمل المسئولية؛ وتحمل المسئولية لا بد فيها من الرفق، وأؤكد على هذا الجانب بالذات تأكيداً شديداً، لأن الذي يتولى أمور المسلمين إذا لم يكن رفيقاً بهم، فإن الفساد والفوضى ستعم، والظلم سينتشر، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم.
لاحظ العبارة: (ومن ولي من أمر أمتي شيئاً) لا يشترط أن يكون الخليفة، فيمكن أن يكون أدنى منه بكثير، من ولي ولو أمر رجل واحد، من ولي أمر رجل واحد من المسلمين، يجب عليه أن يرفق به، فما بالك بالذي يلي أمر اثنين، أو ثلاثة، أو عشرة، أو مجموعة من البشر.
فالمدير في مدرسته، والوزير في دائرته، وكل صاحب سلطان وولاية، وكل صاحب أسرة يجب أن يرفق بمن تحت يديه، وبمن هو مسئول عنه، وإلا فإن الله سيشق عليهم يوم القيامة، وفي الدنيا أيضاً، فالدعاء عام: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) وهذا الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاءٌ مستجاب، ويؤكد عليه الصلاة والسلام هذا المعنى بقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن عائد بن عمر رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن شر الرعاع الحطمة) الراعي الذي يرعى الغنم، أو البقر إما أن يكون رحيماً بها، فيذهب بها إلى موارد الماء والعشب، ويريحها، ويعطيها فترة النوم والراحة، وإما أن يتعبها فيشق عليها، ويشد عليها، ويمنعها الأكل والماء والعشب، هذا الرجل الذي يحطم هذا القطيع الذي يرعاه هو من شر الناس.
(إن شر الرعاع الحطمة) أي: شر الرعاع الراعي الذي يحطم قطيعه، قال العلماء في شرح الحديث: هذا مثل لطيف ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم للراعي والرعية، فشر الناس الذي إذا تولى أمر رعية من المسلمين، جعل يحطمهم كما يحطم ذلك الراعي الغنم، وخيرهم الذي يرفق بهم ويلين معهم، ويسد خلتهم.
وهذا عمر رضي الله عنه خرج في الليل يعس، فسمع صوتاً من أحد البيوت، فاقترب منه فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل أداعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
تقول المرأة وهي زوجة لرجل ذهب في الجهاد، وتشكو نفسها، ولولا مخافة الله لحصل أمراً آخر، فـ عمر رفيق بالرعية، فقام فجمع النساء، فسأل: [كم تستطيع المرأة أن تصبر على زوجها؟ فقلن له: أربعة أشهر، فقال: إذاً لا أحد من الجنود يتغيب عن زوجته أربعة أشهر] فكان يجعل بينهم مناوبات فيذهب الأول ويبقى الثاني ويرجع الأول ويذهب الثاني وهكذا حتى تبقى العلاقة بين الزوج وزوجته، فكان رفيقاً برعيته، وهكذا يجب أن يكون كل من تولى مسئولية، أو أمراً من أمور المسلمين أن يكون رفيقاً بهم، فبعض الناس تجدهم يشدون على من تحت أيديهم من المسلمين، ويهلكونهم بالأعمال، وهذا -أيها الإخوة- فيه خطر عظيم، فيسبب العصيان والتمرد، ويسبب الوحشة في النفس والكراهية حتى على مستوى الصغير في البيت تجد الأولاد يكرهون الأب إذا كان شديداً عليهم، والزوجة تكره زوجها إذا كان شديداً عليها، وقد يتمرد الأولاد ويعصون الأب بسبب فقدان الرفق.
فإذاً هذا هو مدار التعامل، ومدار استقامة الأمور.(63/9)
الرفق في الإمامة بالناس
ومن جوانب الرفق كذلك أيها الإخوة: الرفق في الإمامة بالناس، بعض الأئمة يصلون بالناس، فيطيلون الصلاة جداً، وينهكون قوى الناس الذين يصلون وراءهم، وهذا الحديث يوضح هذا الأمر، فعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان -الإمام- مما يطيل بنا، يقول الراوي: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذٍ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة) متفق عليه.
فلا بد من الرفق بالمأمومين، وهذا الإمام الذي تولى أمر الناس الذين وراءه لا بد أن يرفق بهم، ولا يطيل بهم، ولكن هنا نقطة لا بد من توضيحها، وإن كانت ليست في صلب الموضوع، ما معنى: فليوجز؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز) هل معنى يوجز أن يقرأ قل هو الله أحد وإنا أعطيناك الكوثر في الصلوات، هل هذا هو الإيجاز المطلوب؟ المعنى -أيها الإخوة- كما ذكر العلماء يعني: ليقتصر على ما ثبت في السنة ولا يزيد عليها مع إتمام الأركان والسنن، فلو أن الإنسان منا صلى الجمعة، فقرأ بالناس سورة المنافقين وسورة الجمعة، فاستغرق في القراءة -مثلاً- ربع ساعة، هل يعتبر هذا الرجل مطولاً على من وراءه، وأنه شق عليهم، وأنه نفرهم؟ لا.
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صلى بالناس الجمعة، قرأ بهم سورة الجمعة والمنافقين، وقرأ -أيضاً- سبح والغاشية، كان ينوع، ويقرأ -مثلاً- ق والرحمن أحياناً، فإذاً هذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فليوجز) وليس معناه أن يقرأ والعصر، وإنا أعطيناك الكوثر، وقل هو الله أحد.(63/10)
الرفق بالأهل والأولاد
كذلك -أيها الإخوة- من الجوانب التي يدخل فيها الرفق أيضاً: الرفق في البيت بشكل عام ومع الزوجة والأولاد بشكل خاص، وهذه نقطة اجتماعية حساسة وخطيرة، ولا بد من الانتباه إليها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم) رواه الطبراني عن ابن عمر صحيح الجامع.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً، أدخل عليهم الرفق) قال شارح الحديث: يعني أدخل عليهم الرفق بحيث يرفق بعضهم ببعض، فيرفق الزوج بالزوجة، ويرفق الرجل بأبيه وأمه، ويرفق الأب والأم بالولد، ويرفق الإخوة بعضهم ببعض، وهم يرفقون بجيرانهم، وهكذا وعامة البيوت التي تفوح منها روائح المشاكل والخلافات والنعرات والشتات والفرقة، إذا تأملت فيها وجدت السبب عدم الرفق في علاقة أفراد البيت بعضهم ببعض، فإذا أتينا إلى مسألة الرفق بالزوجة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (فإن ذهبت تقيمه كسرته، وكسرها طلاقها).
الشاهد: (استوصوا بالنساء خيراً) أي: ارفقوا بهن، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني الذي يرويه الترمذي: (فإنما هنَّ عوانٌّ عندكم) معنى عوان: أسيرات، المرأة في بيت زوجها كالأسير عند السجان، لا حول لها ولا قوة، هذا هو الغالب من أمر النساء، فلما كانت المرأة مسكينة لا حول لها ولا قوة، والأمر بيد الرجل، ولا بد من استئذانه، كان لا بد من أن يرفق بها الرجل، وأن يشفق عليها، وأن يرحمها، وأن يستوصي بها خيراً، ومرة اشتكى الصحابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تمرد النساء، فأذن لهم بالضرب عند الحاجة، فلما أذن بالضرب قام الرجال فأخذ كل واحد زوجته ونزل فيها ضرباً، فيقول الراوي: (فجاء النساء إلى أبيات الرسول صلى الله عليه وسلم يشتكين) وهذا من فوائد كثرة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم اختصه بأنه تزوج أكثر من أربع، هذه الخاصية له من دون الأمة، فإن سأل سائل عن السبب، فهناك أسباب كثيرة منها متعلق بهذا الحديث؛ أن زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كثرتهن تؤدي إلى سهولة نقل أوضاع المجتمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يعلق عليها ويعقب، فكان نساء المجتمع يأتين إلى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ويخبرنهن بما يردنه، وهؤلاء ينقلن بدورهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المرأة -أيها الإخوة- فيها حساسية ليست في الرجل، وفيها ثقة ليست في الرجل، فلا بد من الاستيصاء بالنساء خيراً، وكثيرٌ من الرجال يستعملون العنف بشكل عجيب مع الزوجات، فمنهم من يضرب زوجته في الوجه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الضرب بالوجه، حتى لو كانت مخطئة وتريد أن تعزرها بعد أن وعظتها في الكلام وهجرتها في المضجع، ووصلت إلى الضرب، فإنك تضرب، لكن لا تضرب الوجه، تضرب على الكتف، وعلى العقب، وعلى الظهر، وعلى الرجل في مكان لا يؤذي، أما الضرب على الوجه الذي قد يكسر سناً، أو يفقأ عيناً، أو يفقد السمع، هذا الضرب لا يجوز حتى لو كنت مصيباً، لا يجوز لك أن تضرب على الوجه، وبعض الرجال يمسكون التسلسل بالمقلوب، لا يبدأ بالموعظة الحسنة، ثم الهجر بالمضجع، ثم الضرب، أما البدء بالضرب فليس من الإسلام، ولا هذه تعاليم الإسلام، وليست هذه هي المعاملة الصحيحة.
أيها الإخوة! نسمع أحياناً أشياء عجيبةً عن فعل بعض الرجال بزوجاتهم، يفعلون والله بهن أفعالاً لا ترضي الله عز وجل مطلقاً، وتعجب أحياناً لرجل ظاهره الصدق والالتزام كيف يتعامل مع زوجته ألوان من التعامل لا تخطر ببال، بل قد يصل الأمر ببعضهم إلى أن يستعمل العنف حتى في جماع زوجته حتى تكرهه، يقول: أنا أريد أن أتزوج واحدة أخرى، فما هو الحل؟ يكون معها عنيفاً حتى تكرهه، وتقول: اذهب واكفنا من شرك، واذهب تزوج.
فيا أيها الإخوة! ليس هذا هو الطريق، بعض الناس يعامل زوجته بهذه النفسية، وهذه القضية خطيرة جداً، ومخالفة صريحة واضحة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أين الاستيصاء بالنساء؟ وأين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس أولئك بخياركم)؟ أي: ليس أولئك الرجال بخياركم، وهذا الموضوع البسط فيه وارد جداً من واقع معاملات الناس اليوم، الغالب أن الرجل ليس هو المظلوم، الذي يحصل أن الرجل هو الذي يفرض عضلاته ويستخدم قوته، ويضرب زوجته ضرباً مبرحاً، ويوقع عليها شتى أنواع الإهانة والسب والشتم، أحياناً قد يكون أشد من الضرب بعدة مراحل، فيهينها ويحقرها، ويذكر معايبها، ولا يترك شاردة ولا واردة إلا ويقع فيها.
فلا بد -أيها الإخوة- من تطبيق الإسلام، ليس الإسلام فقط خارج البيت وأمام الناس في المساجد، ومع الزملاء والأصدقاء وفي حلقات العلم، لا.
لا بد من تطبيق الإسلام في البيوت، وإلا فماذا نستفيد إذا كان بيت كل واحد منا مهلهلاً مشتتاً مبعثراً، ليس هناك أواصر الرحمة بين الزوج وزوجته، وبعد ذلك ليسوا أولئك بخياركم حتى لو كانوا أعلم وأفقه وأكثر نشاطاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، إذا أردت أن تصبح إنساناً ملتزماً بالإسلام، وجاداً في الالتزام بالإسلام فعليك أن ترفق بأهل بيتك.
والرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة في طريق سفر أمر بالرفق بالنساء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان معه بعض نسائه، وكن النساء يركبن الإبل، وكان هناك حادٍ يحدو هذه الإبل وهو غلام أسود حسن الصوت يقال له: أنجشة أي: يصدر الأصوات التي تحدو الإبل، وعليها نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعهن أم سليم امرأة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رويدك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير) قال أبو قلابة من رواة الحديث: يعني النساء.
رواه البخاري في كتاب الأدب في صحيحه.
قال العلماء في شرح الحديث: كنى عن النساء بالقوارير لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء شبهن بالقوارير في الرقة وضعف البنية، وقيل: إذا أسرعت الإبل لم يؤمن على النساء السقوط، يعني: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أنجشة: (يا أنجشة! رفقاً بالقوارير) أقل من الحداء قليلاً، حتى لا تسرع الإبل زيادة بفعل الحداء، وهذه المرأة رقيقة، ولا تتحمل سرعة الإبل، وقد لا تثبت على البعير وتستوي عليه استواءً كاملاً، فتسقط لأنها ضعيفة، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ أنجشة: ارفق بهذه الإبل في المسير كأن على ظهورها قوارير، كيف لو كان على ظهور الإبل قوارير هل تسرع فيها؟ لا.
لأن القوارير تتكسر.
وقيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن تسمع النساء الحداء، فشبه ضعف عزائمهن، وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخشى من الفتنة، وكان يسد كل طريق فيه فتنة، فكان يخشى أن هذا الرجل الذي صوته جميل، أن يفتن النساء بصوته، فيأتي في قلوبهن أشياء لا يرضاها الله تعالى، فقال له: (رفقاً بالقوارير) وبعض العلماء جمع بين المعنيين، ومنهم القرطبي رحمه الله في مسلم، فقال: شبههن بالقوارير لسرعة تأثرهن وعدم تجلدهن، فخاف عليهن من حتف السير بسرعة السقوط، أو التألم من كثرة الحركة والاضطراب الناشئ من السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد، فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رفقاً بالقوارير).
الخلاصة -أيها الإخوة- أنه يجب علينا أن نرفق بنسائنا، يرفق الإنسان بزوجته وأمه وأخته وابنته.
أما بالنسبة للرفق بالأولاد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يرفق بالصبيان كثيراً، فورد في صحيح الجامع من رواية أبي داود الطيالسي عن أنس (أنه عليه الصلاة والسلام كان رحيماً بالعيال) وورد -أيضاً- في الحديث المتفق عليه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم، وقد كان يركب على ظهره الحسن والحسين، وكان يطيل السجود حتى ينزل الولد من على ظهره صلى الله عليه وسلم، وكان مرةً يخطب فترك الخطبة، لأنه رأى الحسن والحسين يمشيان ويتعثران في مشيتهما، فخشي عليهما، فقطع الخطبة ونزل وأخذهما وضمهما إليه، وهذا هو الحنان والرفق.
والرجل الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكم تقبلون صبيانكم، إن عندي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟) أي: ماذا تريدني أن أفعل لك إن نزع الله الرحمة من قلبك؟ فالشاهد هنا -أيها الإخوة- أن بعض الناس لا يرأفون بأولادهم، ويشتدون عليهم في الضرب والعقوبة، وتحدث لذلك مآسٍ كثيرة، وبعض الأخبار التي نسمعها تجعلك تأسف جداً من هذه المعاملة، وتقف مندهشاً وتقول: أي أبٍ وأي أم اللذين يفعلان بأولادهما هذه الأفعال؟! ولقد سمعت من ولدٍ أن أباه كان إذا أراد أن يضربه أخذ سلكاً من النحاس الغليظ -سلك كهرب- وبدأ يضربه، وإذا لم يجد الأب السلك ذهبت الأم لتأتي بهذا السلك، وإذا أراد الولد أن يأكل لا يأكل معهم، يأكل بعدما ينتهون، يقولون: أنت نجس لا يصلح أن تأكل معنا، لكن بعد أن نقوم تعال فكل، وأن أباه مرةً في الشتاء القارس طرده إلى سطح البيت لينام في عشة للحمام، وأغلق عليه من غير غطاء.
هذه الألوان، وهذا التحجر وغلظة القلب يمكن أن يؤدي -أيها الإخوة- ببساطة إلىمثل الذي حد(63/11)
الرفق في المعيشة
كذلك أيها الإخوة! الرفق لا بد أن يكون -أيضاً- في المعيشة، يرفق الإنسان بمعيشته، بعض الناس يبذرون أموالهم في المأكولات واللبس وفرش البيت وغير ذلك، فلا بد أن يكون الإنسان رفيقاً في هذه الأشياء، ولذلك ورد في بعض الآثار عن سالم بن أبي الجعد أن رجلاً صعد إلى أبي الدرداء وهو في غرفة له، وهو يلتقط حباً منثوراً، فما جاء بالمكنسة وكنس الحب ورماه، وإنما ظل يلتقط هذا الحب، فقال أبو الدرداء: [إن من فقه الرجل رفقه في معيشته] هذا الحديث روي مرفوعاً، لكنه ضعيف وهو موقوف محتمل للتحسين، قال أبو الدرداء: [إن من فقه الرجل رفقه في معيشته] يعني: لا يتكلف ويتبسط في الحياة.
بعض الناس عندهم تعقيد، ولذلك يعيش في شقاء، لأنه لا يمكن أن تنزل هذه الموضة والموديل في السوق دون أن يقتنيه، فيجلس ويتابع ويشقى، ويجري وراء هذه الأشياء المجمعة، ليس هذا هو الرفق في المعيشة الذي قال عنه أبو الدرداء: [إن من فقه الرجل رفقه في معيشته].(63/12)
الرفق بالحيوان
كذلك من أنواع الرفق: الرفق بالحيوانات، والرفق بالحيوانات أدلته كثيرة، وهذا الأدب العظيم الذي سبق الكلام به الرسول الكفار الغربيين بمئات السنين، وبعض الكفرة اليوم يتعالون على المسلمين الجهلة، ويقولون: انظروا إلى ما عندنا من المحاسن، نحن لدينا جمعيات رفق بالحيوان، ونفعل ونفعل.
إذاً تعال معي -يا أخي المسلم- لأستعرض معك بعض الأحاديث التي تنسف ما زعمه هؤلاء، وترد هذا الجهل المتأصل في نفوس بعض المسلمين المخدوعين بما عند الغرب.
روى أبو داود رحمه الله بإسناد صحيح عن عبد الله بن جعفر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جملٌ في البستان، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الجمل حن الجمل وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح سراته إلى سنامه، يعني: مسح ظهره إلى سنامه، وزجراه، يعني: أصل أذنه، فسكن البعير، لمسح الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، انظر الرفق! فقال: (من رب هذا الجمل؟) يعني: من صاحب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله! فقال: (أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتدئبه) يعني: تتعبه وتكده، وهذه من المعجزات.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم بمعنى الحديث: اتقوا الله في هذه البهيمة العجماء يعني: التي لا تنطق، ولا تشتكي، وهناك أناس اختصاصهم وهوايتهم تعذيب الحيوانات، ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئاً فيه روح غرضاً يرمى إليه، كأن يضع أحدهم دجاجة، ويتسلى عليها في الرمي، أو يضع أرنباً ويتسلى عليه، وهذه المرأة التي حبست الهرة حتى ماتت فدخلت النار، وامرأة من البغايا من الزناة من بني إسرائيل رحمت كلباً، فنزلت في بئر، فملأت خفها ماءً، فسقت كلباً قد عطش، فأدخلها الله الجنة بهذا الفعل.
وكذلك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجل واضع رجله على صفحة شاة -على رقبة شاة- وهو يحد شفرته وهي تلحظ إليه ببصرها، هكذا يقول الراوي: فقال: (أفلا قبل هذا؟) يعني: أفلا حددت الشفرة قبل هذا؟ (أتريد أن تميتها موتتين).
عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فانطلق لحاجة، فرأينا حمرةً -طائراً صغيراً لونه أحمر- فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش -يعني: ترفرف بجناحيها وتقترب من الأرض وهي تبحث وتتحسس على هذين الفرخين- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها عليها) انظر إلى رفق الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه الأحاديث كلها صحيحة وموجودة في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول.
إذاً -أيها الإخوة- هذه بعض الجوانب التي يدخل فيها الرفق، فتأمل معي عظم هذا الخلق العظيم، وشموليته، ودخوله في نواحي كثيرة من الحياة.(63/13)
ضرورة الحذر من انقلاب الرفق إلى ذل ومهانة
وختاماً: لا بد أن نؤكد -أيها الإخوة- على نقطة مهمة وهي أن الرفق قد ينقلب أحياناً إلى ذلٍ ومهانةٍ، بعض الناس يخطئون في المكان الذي يرفقون فيه، يعني: الموقف الذي يستخدم فيه الرفق يكون خطأ، المفروض أنه لا يستخدم الرفق في هذا الجانب، فينقلب الرفق في حقه إلى ذل ومهانة، فلا بد من التوسط في الأمور، ولذلك قال بعض السلف: لا تكن رطباً فتعصر، ولا يابساً فتكسر، وقال بعضهم: لا تكن حلواً فتبلع، ولا مراً فتلفظ إلى الخارج، هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفق في كل المواقف؟ لما قتل أسامة بن زيد الرجل الذي قال لا إله إلا الله، حيث رفع أسامة سيفه على رجل من الكفار قتل من المسلمين في إحدى المعارك خلقاً كثيراً، فلما رفع السيف عليه، قال الكافر: لا إله إلا الله، فقال أسامة: بعد ماذا؟ قتلت كل الناس والآن تقول لا إله إلا الله، فقتله، فلما رفع الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف القصة، لم يقف موقف الرفق، وإنما وقف موقف الشدة الشديدة جداً، وجلس يوبخ أسامة بن زيد، ويقول له: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله) أو قال له: (ماذا تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) حتى يقول أسامة: [فتمنيت أني ما أسلمت قبل يومئذٍ] يعني: تمنيت لو أني كنت كافراً لما قتلت الرجل وأسلمت بعدما قتلته، من شدة اللوم الذي شعر به.
لماذا لم يقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الرفق؟ لأنه ليس موقفاً مناسباً، إذا انتهكت أمامك حرمات الله، هل تقف موقف اللين والرفق مع الناس، وتبتسم وتضحك وهم ينتهكون حرمات الله أمامك ويستهزئون بالدين، ويسبون الرسول والقرآن والرب عز وجل والعياذ بالله تعالى! فإذاً -أيها الإخوة- كل شيء له حدود، وكل شيء له موقف معين يتخذ فيه، فهناك فرقٌ بين الرفق والتساهل غير الشرعي، وتمييع الأمور، لا يعني الأمر بالرفق أن نترك الناس على راحتهم، لو أن زوجتي ارتكبت محرماً، أو أن ولدي نظر إلى محرم، هل أكون رفيقاً به بمعنى أني ألين معه فلا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؟ لا.
وفرقٌ -أيها الإخوة- بين أن يكون الرفق وسيلة إلى تحصيل المقصود، وبين أن يكون الرفق هو الهدف، المهم أنه يصل إلى اللين حتى لو كان الوضع لا يسمح.
الرفق يجب أن يكون وسيلة يحقق المقصود، فإذا كان المقصود لا يتحقق بالرفق، وإنما يتحقق بالشدة والغلظة، فلا يجوز استخدام الرفق في هذه الحالة، ولا يعني الرفق الذلة للكفار، والذلة للذين يستهزئون بالمسلمين كالصور التي يطبقونها، وكالذين يسبون الله عز وجل، فهؤلاء ليس لهم الرفق، إذا دعوا إلى الله، ودين الله والحكمة، ووعظوا، وأصروا، فليس لهم إلا الغلظة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9] هذا التنبيه مهم جداً حتى لا تنقلب الأمور، وحتى لا تخرج عن إطارها الصحيح.
وفقنا الله وإياكم لأن نسلك طريق الرفق، ونسأله عز وجل أن ينمي هذا الخلق العظيم في أنفسنا، ويجعله لنا سبيلاً ومنهجاً ومسلكاً، وأستغفر الله لي ولكم.(63/14)
الأسئلة(63/15)
التحذير من وصف العلماء برجال الدين
السؤال
يقول: هل هناك تقسيمات في علماء الدين كما عند اليهود والنصارى، وهل هذه الألقاب لها أصل في الإسلام؟ ولماذا تطلق بعض الألفاظ على بعض العلماء؟
الجواب
أيها الإخوة: ليس هناك شيء اسمه رجال دين في الإسلام، لأن المسلمين كلهم يجب أن يكونوا رجال دين، ورجال الدين هذه تسميتها وردت إلينا من النصارى، هم الذين ابتدعوا هذه التسمية، لأن عندهم الدين مختص برجال، وبقية المجتمع بلا دين، وقت الحاجة تذهب إلى الكنيسة، قال بعض مفكريهم: إن الناس في إنجلترا يعبدون بنك إنجلترا ستة أيام في الأسبوع، ثم يتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة، هذه هي حالهم فعلاً، يعبدون البنك المركزي ستة أيام في الأسبوع، ثم يتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة.(63/16)
التفريق بين الرفق في إنكار المنكر
السؤال
يقول: كيف أفرق بين الرفق في إنكار المنكر والمداهنة في الدين؟
الجواب
إذا كان تصرفك سيكون على حساب أن يفهم الناس الإسلام فهماً خاطئاً بأن يفعل أحدهم منكراً وأنت تسكت، وتقول: والله لعله فعل كذا، ولعله فعل كذا، من الأعذار السخيفة فالناس يفهمون أن هذا الفعل ليس فيه شيء، ويفهمون أنك ليس لديك موقف، ولا عندك جرأة وثبات.
أما الرفق فإنك تتخذ اللين في أسلوب عرض الدعوة بدون التخلي عن مبدأ واحد من مبادئ الدعوة، المبادئ باقية لم تتغير، فقط الأسلوب الذي تغير بدل أن أرفع صوتي وأهدد آتي باللين، هذا هو الفرق باختصار بين المداهنة وبين الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(63/17)
حكم الصلاة خلف الإمام المبتدع
السؤال
ما حكم الصلاة خلف الإمام المبتدع المجاهر ببدعته؟
الجواب
إذا كان الإمام فاسقاً فيحاول الناس أن يغيروه، لكن إلى أن يتغير تجوز الصلاة وراءه، ولو كان فاسقاً، لا تترك صلاة الجماعة في المسجد لأن الإمام فاسق، قد يكون الإمام مبتدعاً، والبدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة كفرية تخرج من الملة مثل: بدعة الذين يقولون أن الأولياء يعلمون الغيب، وأن الأولياء يصرفون أمور الكون، أو بدعة الذين يشركون بالله ويطوفون في القبور إلى آخره، هؤلاء المشركون لا تجوز الصلاة وراءهم مطلقاً، بل تقام جماعة أخرى إلن لم يستطيعوا تغيير الإمام، وإذا كانت البدعة غير كفرية، فتكره الصلاة وراء هذا الرجل، ولا بد من تغييره، لأن البدعة -أيها الإخوة- خطيرة، بل عدها العلماء من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وبعدها قتل النفس، لكن لو جهلنا عقيدة إمام معين، ولا نعرف عقيدة هذا الإمام هل هو من أهل السنة والجماعة، أم أنه رجل مبتدع؟ أقول: لم يكلفنا الإسلام بالتنقيب عن قلوب الناس، نقول: تعال يا فلان قبل أن تصلي بنا، يجب أن نختبرك أين الله؟ وما هي عقيدتك في الأسماء والصفات؟ وأي معتقدك في جوهري الألوهية، وفصل لنا في كلام الله، ونقول له: ما هي عقيدتك في الولاء والبراء؟ لم يكلفنا الإسلام بهذا، إذا كان ظاهره الصلاح والاستقامة فيكفي حتى يثبت أنه على بدعة، فعند ذلك نتخذ الموقف، لكن ما دام أنه لم يثبت، فنحن لم نكلف بالتفتيش والتنقيب، وأن نمتحن الناس، هذه خلاصة كلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
نكتفي بهذا، وأسأل الله عز وجل لي ولكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجمعنا وإياكم على طاعته، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(63/18)
احتجاج المذنبين بالقدر
إن اعتذار المذنبين واحتجاجهم بالقدر يعتبر من المزالق الخطيرة التي تزيد في غضب الرب عز وجل؛ لأن هذا الاعتذار ينافي التوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي، ويعتبر خللاً في العقيدة، وينقل العبد من دائرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر، ويؤدي إلى فساد عقيدة الولاء والبراء؛ ففي هذه المادة رد على من يحتج بالقدر، وبيان للمنهج السليم في التعامل مع القدر.(64/1)
شبهة الاحتجاج بالقدر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلَّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المسلمون! نتحدث اليوم عن موضوع يتعلق بنفسية التائب إلى الله عز وجل، ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً مسألة الاعتذار؛ الاعتذار إلى الله عز وجل عن الذنوب التي ارتكبها العبد.(64/2)
خطر الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي
وهاهنا -أيها الإخوة- مزلق عظيم يقع فيه كثير من الناس، ويتورطون فيه وهو من مصائد الشيطان، وذلك أن أحدهم إذا جاء ليعتذر إلى ربه عن الذنوب والسيئات التي ارتكبها، فإنه يعتذر إليه بالقدر، يعتذر إلى ربه اعتذار المخاصم، واعتذار الذي كأنه يقول: لست أنا الذي أخطأت وأذنبت، وإنما أنت الذي قدرت عليَّ هذا الذنب، وأنت الذي أجبرتني على فعله.
ولذلك كان هذا المزلق الخطير من الأمور التي تزيد في غضب الرب عز وجل، بدلاً من أن تنقل هذا الإنسان إلى مواقع الرحمة وعظيم رضوان الله تعالى.
وإن كثيراً من الذين يزعمون أنهم يتوبون إنما هم مخاصمون لله عز وجل في مسائل القدر، وأحياناً يكون خصامهم عن جهل، وهو جهل قبيح جداً لا يعذر فيه المسلم، وأحياناً يكون عن شُبَهٍ، وأحياناً يكون عن إصرار وإقدام، فهذا كيف يغفر الله عز وجل له؟ فالذي يزني ثم يقول لربه -بينه وبين نفسه-: أنت الذي قدرت عليَّ الزنا، وأنت الذي أجبرتني عليه، فما هي حيلتي؟ وما هو ذنبي؟ هذا القائل -أيها الإخوة- على خطر عظيم؛ لأنه لم يُرد بالاعتذار التقرب إلى الله عز وجل، وإظهار ضعفه، والمسكنة بين يديه، وتبيان غلبة العدو عليه، ولكنه أراد أن يخاصم ربه، وأن يحتج عليه، فكيف يقبل الله اعتذار هذا الرجل، فمثل هذا الذي يخاصم ربه مخاصمته منافية للتوبة.
فإن العبد أذنب فقال: يا رب هذا قضاؤك، وأنت قدرت عليّ، وأنت حكمت عليَّ، وأنت كتبت عليَّ، فالله يقول له: وأنت عملت، وكسبت، وأردت واجتهدت، وأنا أعاقبك عليه؛ لأن هذا ليس بعذر إطلاقاً، أما إذا كان لسان حال العبد يقول: يا رب أنا ظلمت، وأخطأت، واعتديت، وفعلت، فعند ذلك ترى الله يقول له: وأنا قدرت عليك، وقضيت وكتبت، وأنا أغفر لك.
فالاعتذار أيها الإخوة! اعتذاران: اعتذار ينافي الاعتراف، فهذا مناف للتوبة، واعتذار يقرر الاعتراف، يقول: يا رب أنا فعلت وقصرت، وأخطأت وأذنبت وأجرمت، وأنا مقر بذنوبي ومعترف بها، واعتذر إليك عما فعلت، فهذا الاعتذار -أيها الإخوة- هو الذي يرضاه الله عز وجل، ويقبله.
وأما من خاصم الله تعالى، وقال له: أنت قدرت عليَّ، فما هو ذنبي؟ فعذره غير مقبول، وهذا الاعتذار بالقدَر يتضمن تنزيه الجاني لنفسه، فكأنه يقول لربه: أنا لست مذنباً، فينزه نفسه وهو الذي تمرغ في أوحال الذنوب والمعاصي، وينزه ساحته وهو الظالم الجاهل، الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] والكنود هو: الكفور الذي يجحد نعم الله، ويعد المصائب وينسى النعم، هو الذي تنسيه الخصلة الواحد من الإساءة، الخصال الكثيرة من الإحسان، هذا هو الكنود.
هذا الظالم الجاهل لو تأمل في حال نفسه، لعلم بأنه هو الذي قعد على طريق مصالحه يقطعها عن الوصول إليه، هذا هو الحجر الذي يمنع تسرب الماء، وهذا هو الغي الذي يمنع شمس الهدى عن التدفق إلى القلب والسطوع عليه، فما أضر هذا الاعتذار السيئ على هذا العبد.
ما تبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
هذا الجاهل نفسه تجني عليه، وهو يتضرر بهذه الأعذار القبيحة أكبر مما يتضرر من اعتداء الأعداء عليه، هذا الرجل ينادي ويقول: طردوني وأبعدوني، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب؛ بل هو الذي أغلقه على نفسه، وأضاع المفاتيح وكسرها.
هذا الرجل الذي يعتذر بالقدر، يقول لله: أنت قدرت عليّ، أنا ليس لي حيلة، وهو الذي ولى ظهره إلى الباب، وكسر المفاتيح بعدما أغلق الباب، ثم يقول: طردوني وأغلقوا الباب دوني.
هذا الرجل الذي جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفيق وأخذ بحجزته عن النار، يريد أن يمنعه من التقحم في النار، وهو يجاذبه ثوبه ويغلبه ويقتحمها، ثم يقول: ما حيلتي وقد قدموني إلى هذه الحفرة وقذفوني فيها! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصحه، وقال له: الحذر الحذر من الوقوع في هذه الحفرة! وبين له مصائر الذين تقحموا فيها قبله، وتلا عليه من الوحي كيف كان الكفار والفسقة والعصاة، وكيف أوردتهم ذنوبهم وكفرهم إلى حفر النار، وهو ينازع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يمنعه من جهنم، ينازعه ويتقحم في النار، ثم يقول: هو الذي قذفني فيها.(64/3)
أمثلة واقعية تبطل الاحتجاج بالقدر
كيف هي عقلية هذا الرجل؟ يا ويله! ظهيراً للشيطان على ربه، خصماً لله مع نفسه، عاجز الرأي، مضياعاً لفرصته، معاتباً لأقدار ربه، يحتج على ربه بما لا يقبله من عبده وأمته.
لو أن إنساناً -أيها الإخوة- قال لأحد أولاده: ائتني بكأس من الماء، أو قال لزوجته: ائتيني بالحاجة الفلانية، ثم إن هذا الولد أو هذه المرأة عصت هذا الرجل، ورفضت الانقياد له، وهذا الولد لم يأتِ لأبيه بكوب الماء، فلما غضب أبوه عليه وقال له: لماذا امتنعت؟ قال: هذا قدر الله، والله قدر علي ألا أطيعك وألا آتيك بالكأس من الماء، ماذا ترى هذا الأب يفعل؟ هل يرضى بهذا العذر السخيف من الولد؟ أم تراه يقوم إليه معاقباً، وعلى رأسه ضارباً ومهدداً ومتوعداً، بهذا العذر السخيف.
فيكف يرضى هذا الرجل أن يعذر نفسه بأعذار لا يقبلها من زوجته ولا من ولده، فلو أمر أحدهم بأمر ففرط فيه، أو نهاه عن شيء فارتكبه وقال هذا المذنب: القدر ساقني إلى ذلك لما قبل منه هذه الحجة، ولبادر إلى عقوبته.
إذا تسبب أحد الموظفين في خسارة، فلما ناقشه مديره قال: إن القدر ألجئني إلى هذا الشيء، وأنا ليس لي ذنب فيه، هل يرضى المدير من الموظف هذا العذر؟ كلا.(64/4)
الرد على المحتجين بالقدر
إذاً: لماذا يعتذر ويحتج أولئك الفسقة والعصاة إلى ربهم بهذه الأعذار، ويقول أحدهم: أنا ليس لي حيلة، وليس لي مهرب، أنت الذي قدرت عليَّ، وهذا مع تواتر إحسان الله إلى هذا العبد، أحسن إليك أشد الإحسان، أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل وهم الرسل، وأعطاك مؤونة السفر، وزودك بالتوجيهات القرآنية والنبوية، وأعطاك ما تحارب به قطاع الطريق من الأبالسة، وشياطين الإنس الذين يوقعونك في المعاصي، وأعطاك ما تحذر منهم، من الأدوات التي تحاربهم بها، وأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، والنافع والضار، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه، ويسره للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام من الملائكة، يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك، ويطردونه عنك -وهذه من وظيفة الملائكة- ويريدون منك ألا تميل إلى هذا العدو ولا تصالحه.
وأنت تأبى إلاَّ مظاهرة هذا العدو عليهم، واتباع طريق الشيطان، وموالاته دونهم؛ بل تظاهره وتواليه دون وليك الحق الذي هو أولى بك.
لماذا طرد الله إبليس من سمائه؟ ولماذا حرمه الجنة وأبعده عن قربه؟ لأنه رفض أن يسجد لك أنت أيها الإنسان، لكرامتك عند الله طرد إبليس من أجلك؛ لأنه لم يسجد لك واحتقرك وامتهنك، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
من أجلك أنت طرد الله إبليس عن سمائه، وأخرجه من جنته، ثم أنت توالي هذا الشيطان، وتسير في ركابه، وتسلك طريقه معادياً ربك الذي أكرمك أنت بطرد إبليس.
وبعدما توالي هذا العدو، وتميل إليه وتصالحه تتظلم وتشتكي بالطرد والإبعاد.
أمرك الله بشكره لا لحاجته إليك، ولكن لتنال أنت المزيد من فضله، فجعلت كفر نعم الله والاستعانة بها على مساخطه من أكبر أسباب زوال النعم، وأمرك الله بذكره ليحسن إليك بالثواب، فجعلت نسيان الله ديدنك، فجعلت الله ينساك: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
أيها الإخوة! إن هذا الرجل لا يصلح على عافية ولا على ابتلاء، فالعافية تسبب الزيادة في المعاصي، وكفران النعمة، والابتلاء يجعل الإنسان يشتكي إلى الخلق ويقول: {رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته، ثم فتحه لك فما عرجت عليه ولا ولجته، أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته فعصيت الرسول، وقلت: لا أبيع ناجزاً بغائب، ولا نقداً بنسيئة.
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل
هذا لسان حال العصاة، يقول: آخذ النعيم الذي أراه الآن أمامي، لا أنتظر النعيم الآخر المؤجل الغائب عن نظري، أنا أريد هذا النعيم.
إذا وافق حظ هذا الإنسان طاعة الرسول أطاعه؛ لا طاعةً وحباً في رسول الله، ولكن ليحصل على مبتغاه، ومع ذلك فإن الله تعالى لم ييئيسك من رحمته؛ بل قال: متى جئتني قبلتك، إن أتيتني ليلاً قبلتك، وإن أتيتني نهاراً قبلتك، وإن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً، وإن تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، وإن مشيت إليَّ هرولت إليك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة، ولو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ومن أعظم مني جوداً وكرماً، عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل إليّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إليّ، فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب.
بلغ من رحمة الله أنه يبتلي بعض العباد بالمصائب ليكفر عنهم ذنوبهم، من آثرني على سواي، آثرته على سواه، الحسنة عندي بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندم عليها واستغفرني غفرتها له، اشكر اليسير من العمل، واغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، أنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، قال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض مهلكة دوية عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها، نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، قد تعلق خطامها بالشجرة، فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته).(64/5)
أهمية التركيز على موضوع القدر
أيها الإخوة: ما حال كثير من الناس اليوم الذين يعذرون أنفسهم بذنوبهم، ويخاصمون الله تعالى؛ بل إنهم يعذرون العصاة فترى أحدهم إذا رأى رجلاً منغمساً في المعاصي، قال: هذا مسكين معذور! تسلط عليه إبليس شهوته قوية لا يستطيع أن يمنع نفسه، وهكذا.
بل بلغت الوقاحة ببعضهم أنه رأى سارقاً قد قطعت يده، فقال: إنه مسكين أجبره الله على السرقة، ثم قطع يده عليها، هكذا هؤلاء الكفرة القدرية الذين يخاصمون الله تعالى، وسيكون الله خصمهم يوم القيامة.
واعلموا -أيها الإخوة- إن التركيز على هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لأنه -وللأسف الشديد- قد تطرق الخلل إلى عقيدة كثير من العامة في هذا الأمر.
كثير من العامة إذا جئت تناقشهم يقول: هذا قدر الله ماذا أفعل؟! هذا كتبه الله عليَّ، فما هي حيلتي وما هو ذنبي؟ هذا الخلل خطير جداً في العقيدة، وهذا الخلل قد ينقلك من حظيرة الإسلام إلى دائرة الشرك والكفر.
وهذا الخلل عظيم ينبغي الانتباه إليه اليوم كثيراً، وينبغي لدعاة الإسلام أن يتحسسوا مواطنه في قلوب الناس، ويزيلوا عن أعينهم هذه الأغشية من الشبهات، ويوضحوا عقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر، إيضاحاً شافياً كافياً للناس.
إن الله أعطانا الإرادة، وسهل لنا سبيل الخير، وأنزل علينا الكتب، وأرسلنا إلينا الرسل، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:5 - 10].
جعلنا الله وإياكم من أهل طاعته، وأهل طريق الخير والسعادة، ونسأله أن ييسرنا لليسرى، وصلى الله على نبينا محمد.(64/6)
جوانب الاعتذار بالقدر
الحمد لله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين.(64/7)
الاعتذار بالقدر في حقوق العباد
أيها الإخوة: هناك جانب من الاعتذار لا بأس أن يقوم به الإنسان، وهذا الاعتذار هو ما كان في حق العبد للعبد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعذر في حقه، فإذا كان الخطأ في حقك أنت أيها المسلم، فإن من السنة أن تعذر أخاك المسلم في حقك، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله).
وقال أنس رضي الله عنه: (خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه، وكان إذا عاتبني بعض أهله قال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه فلو قضي شيء لكان).
كان يعذر المسلمين بالقدر للأخطاء التي تكون في حقه، والأخطاء التي تكون في حقه صلى الله عليه وسلم كرجل كان يعذر الناس فيها، فلم يكن يضربهم ولا يلومهم ولا يقرعهم.(64/8)
منع الاعتذار بالقدر في حق الله تعالى
أما الأشياء التي تكون في حق الله، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعذر فيها أحداً بالقدر مطلقاً، فإنه لما سرقت المرأة قطع يدها، وما قال الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً: هذه المرأة قدر الله عليها بالسرقة، وما ذنبها، إذاً لا نقطع يدها، كلا؛ بل قطع يدها؛ لأن هذا حق من حقوق الله عز وجل.
وكذلك لما تخلف بعض الناس عن صلاة الجماعة، ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا قضاء الله وقدره، دعونا نستسلم للقضاء والقدر ولا نعاقب هؤلاء؛ بل قد همَّ بتحريق بيوتهم عليهم.
ولما زنت المرأة، وزنى الرجل رجمهما صلى الله عليه وسلم، ولم يعذرها بالقدر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف بالله وبحقه من أن يحتج بالقدر على ترك أمر الله تعالى، ولكنه يقبل هذا إذا كان في حقه، فقد عذر أنس بالقدر في حقه وقال: (لو قضي شيء لكان) فصلوات الله وسلامه عليه.(64/9)
مفاسد الاعتذار العباد بالقدر في حقوق الله تعالى
أما عذر النفس بالذنوب، أو عذر العباد في تقصيرهم في حقوق الله تعالى، فهذا مزلق عظيم يؤدي إلى معذرة عبدة الأصنام والأوثان، وقتلة الأنبياء، وعذر فرعون وهامان، ونمرود بن كنعان وأبو جهل وأصحابه، وسيؤدي بك الأمر إلى إعذار إبليس وجنوده، وكل كافر وظالم ومتعدٍ لحدود الله.
ثم إن من عقيدة أهل السنة والجماعة الموالاة والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله، وكثيرٌ من المسلمين -اليوم- يحبون من أبغض الله، ويبغضون من أحب الله، ويوالون من عادى الله، ويعادون من والى الله، زالت عقيدة الولاء والبراء من نفوس هؤلاء الناس، هذا الرجل المجرم العاصي الفاسق المتعدي على حدود الله، والمنتهك لأوامره ولشرعه؛ أنت تحبه والله يبغضه، أنت تواليه والله يعاديه، كيف يكون هذا؟! كيف تكون أنت رجلاً مسلماً وأنت توالي من عادى الله! إذا عذرت الناس بالقدر على معاصيهم، فإنك توالي أعداء الله، وتحب أعداء الله.
الاحتجاج بالقدر -أيها الإخوة- يؤدي إلى فساد عقيدة الولاء والبراء، وهكذا الشرك والكفر، هذه الظلمات يؤدي بعضها إلى فساد بعض، ويعود بعضها بالنقض على بعض.
إذا اختل شيء بذاك الأساس تضاعف في الصرح ذاك الخلل
إذا كانت العقيدة مهزوزة، وفيها شروخ وأخطاء انعكس ذلك على العمل، وعلى المواقف من النفس والناس الآخرين، فلابد من تصحيح عقيدة الولاء والقدر في نفوسنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ أن يصفي عقائدنا من دخن الشرك والكفر والزيغ والبدع، اللهم واجعلنا على عقيدة أهل السنة والجماعة سائرين، وبتوحيدك متمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متشبثين.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد سيد الأبرار.(64/10)
من أحكام التوبة
للتوبة أهمية عظيمة؛ فقد أمر الله بها جميع المؤمنين، بل قسم الخليقة إلى تائب وظالم، فالتوبة مطلوبة من المحسن والمسيء، لا يختص بها فرد بعينه أو مجتمع بذاته.
وهناك علاماتٌ تظهر على حال التائب يستدل منها على صحة التوبة أو فسادها، بعضها ظاهرة جلية وبعضها دقيقة خفية.
ومن لم يقع في كبيرة فعليه أن يحذر من احتقار التائبين من أهل الكبائر؛ لأن احتقارهم كبيرة من نوعٍ آخر.(65/1)
أهمية التوبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: كنا قد تكلمنا في الخطبة الماضية عن أطراف مما يتعلق بموضوع التوبة، ونظراً لأهمية هذا الموضوع من جهتين على الأقل، فإنه بدا لي أن أتوسع فيه بذكر بعض النقاط الأخرى المهمة في هذا الشأن العظيم من شئون الإسلام.(65/2)
تقسيم أهمية التوبة إلى عامة وخاصة
وأهمية التوبة ترجع إلى أهمية عامة وأهمية خاصة: فأما الأهمية العامة -أيها الإخوة-: فإن هذا الأمر -التوبة- من الأمور العظيمة جداً في الإسلام، حيث أمر الله تعالى به المؤمنين، فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فهو لم يوجه الأمر بالتوبة إلى الفسقة والظلمة والكفار فقط، وإنما أمر بتوبة المؤمنين أيضاً، وهذا مما يدل على أهميتها في الإسلام، وعلى عظم شأنها عند الله عز وجل.
والأمر الآخر -أيها الإخوة-: أنه في هذا الظرف الذي نعيش فيه من تكالب الحياة المادية على نفوس البشر، وابتعادهم عن الإسلام، وعن الصحوة الإسلامية التي بدأت تدب في نفوس الناس، فإن الحديث عن التوبة حديث ذو شجون، وله من الأهمية شيء عظيم جداً؛ لأن الكلام في هذا الموضوع هو بداية التصحيح، وهو المعيار الحساس الذي يحس به أولئك العائدون إلى الله عز وجل، الذين بدأ انتشالهم من أوحال المعاصي والذنوب.
ولذلك كان لابد من معاودة الكلام وتكراره في المجالس، ولابد للدعاة إلى الله عز وجل أن يحوموا حول هذا الموضوع وأن يقعوا فيه، وأن يبينوا للناس عظم شأن التوبة بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، وعظم شأنها في الإسلام.
لأن هذا الموضوع هو النور الذي ينير لمن ابتعد عن شرع الله عز وجل، وهو منار الهدى الذي تهفو إليه أفئدة وبصائر أولئك الناس الذين اغتالتهم الشياطين بعيداً عن دينهم، وإن هذا الموضوع هو الذي يجدد الأمل في نفوس التائبين، ويزيل اليأس من نفوس العائدين إلى مائدة الله عز وجل، وإلى شرع الله تعالى(65/3)
تقسيم الخليقة إلى تائب وظالم
فقسم الله عز وجل الخليقة إلى قسمين: فقال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] فانقسم العباد إلى قسمين: إلى تائب وإلى ظالم، وليس ثمة قسم ثالث ألبتة، فهم إما تائبون وإما ظالمون {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.(65/4)
توبة المفاليس
واعلموا أيها الإخوة! أن للتوبة الصحيحة علامات، وللتوبة السقيمة المريضة المرفوضة علامات أيضاً: فمن علامات التوبة السقيمة: أنها لا تؤدي إلى الإقلاع عن الذنب، ولا إلى تعظيم الله عز وجل، بل إنها تكون غالباً لظرف دنيوي بحت، لا علاقة له بالخوف من الله عز وجل إطلاقاً.
والتائب من هذا النوع -التوبة السقيمة المرفوضة- لا يشعر أصلاً بأنها توبة، وهي ما سماه السلف بتوبة أرباب الحوائج والمفاليس، الذين يتوبون من بعض الأمور للمحافظة على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس، فبعض الناس يتوب إما محافظة على حاله، فهذا تاب للحال، لا توبة من خوف ذي الجلال.
وبعض الناس يتوب طلباً للراحة من الكد في تحصيل الذنب، بعض الذنوب تتعب الإنسان جسدياً وذهنياً، فيقلع بعض الناس عن بعض هذه الذنوب طلباً لراحة الجسم والتفكير، كمن يخطط للاختلاس، فإن ذهنه يتعب، وكمن يخطط لتهريب الأمور المحرمة، فإنه يتعب ذهنه وبدنه، فهذا قد يقلع عن هذا الذنب، ليس خوفاً من الله عز وجل، وإنما طلباً لراحة ذهنه وجسمه، فهذا توبته مرفوضة وغير صحيحة.
أو تاب اتقاء لما يخافه على عرضه وماله ومنصبه، كقاض يقع في ذنوب كبيرة، فيتركها لأنه يخاف أن يفتضح بين الناس، أو رجل وجيه وصاحب منصب، يخشى أن يلوك الناس عرضه، وأن يتكلموا عنه في المجالس، فيترك هذا الذنب لا خوفاً من الله عز وجل، وإنما خوفاً على منصبه وسمعته، ويخاف الفضيحة بين الناس فيترك الذنب، فهذا توبته سقيمة غير صحيحة.
وأحياناً تكون التوبة لضعف داعي المعصية في القلب، وخمود نار الشهوة، كرجل زانٍ بقي يزني مدة طويلة في شبابه، فلما اقترب من سن الشيخوخة ودخلها، ضعفت الشهوة في جسمه، وذبل هذا الدافع لجريمة الزنا، فترك الزنا لا خوفاً من الله تعالى، ولا خوفاً من النار، ولا لعلمه بأن هذا أمر محرم، ولكنه ترك الزنا لأن جسمه لم يعد يقوى على الزنا، فهذه توبة سيئة لا يرضاها الله عز وجل.
أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من متاع الحياة الدنيا، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفاً من الله وتعظيماً له ولحرماته، وإجلالاً له وخوفاً من سقوط المنزلة عند الله والبعد منه والطرد عنه.
فهذه التوبة -أيها الإخوة- لون، وتوبة الصادقين المخلصين لون آخر.(65/5)
علامات التوبة الصحيحة
وأما التوبة الصحيحة فإن لها علامات تدل عليها.(65/6)
تعظيم الجناية
ومن هذه العلامات أيها الإخوة: تعظيم الجناية التي وقع فيها العبد: تعظم في عينيه وتظهر له كوحش كاسر يريد أن يفترسه، وكجبل عظيم يوشك أن يقع عليه، فكلما عظمت الجناية في عين العبد؛ كانت توبته منها أشد وأصح، وعلى قدر تعظيم الجناية يكون ندمه على ارتكابها أكبر، فإن من استهان بضياع فلس -وهو الشيء الحقير من المال- ولم يندم على إضاعته، فإذا تبين له أن الذي ضاع منه في الحقيقة دينار وليس فلساً فهنا ينقلب الأمر في نفسه، ويشتد ندمه على هذا الأمر العظيم الذي أضاعه وفقده.
الناس عندما يرتكبون الذنوب يستصغرون شأنها، وتكون في أعينهم غير ذات بال وشأن، ولكنهم إذا تابوا إلى الله استعظموا الذنوب، وبدت لهم الذنوب التي عملوها ليست صغيرة، وإنما هي أمور عظيمة، فتكون توبتهم أكبر وأشد حرارة إلى الله عز وجل.
وتعظيم الجناية أيها الإخوة ينشأ عن ثلاثة أمور: الأمر الأول: تعظيم الأمر الذي وقع فيه هذا الرجل.
والأمر الثاني: تعظيم الآمر الذي أمر بالابتعاد عن هذا الشيء، ثم أنت وقعت فيه، وهذا هو الأهم؛ فإن من أسماء الله عز وجل -العظيم- فكلما آمنت بهذا الاسم العظيم فإنك تشتد هيبة من الله عز وجل، وبعداً عن الوقوع في المحرمات.
والأمر الثالث: التصديق بالجزاء، التصديق بأن هذا الأمر إذا صممت عليه فإن عقوبته النار عند الله عز وجل(65/7)
اتهام صحة التوبة
والأمر الثاني -أيها الإخوة- من علامات صحة التوبة: اتهام التوبة نفسها، بأنك تخاف أن تكون هذه التوبة لم تقع على الوجه المطلوب منك، وعلى الوجه الذي من المفترض أن تؤديها عليه، فتخاف أنك لم توفها حقها، وأنها لم تقبل منك، وأنك لم تبذل جهدك في صحة هذه التوبة، وأنها قد تكون من توبات العلل التي تكلمنا عنها قبل قليل، أنك تشك في صحة هذه التوبة، ليس الشك الذي يجعلك موسوساً مبتعداً عن رحمة الله واقعاً في اليأس والقنوط، وإنما الخوف أن تكون هذه التوبة فيها نقص أو غير مقبولة عند الله، إن هذا الأمر يساعدك على تعظيم التوبة وتوكيدها أكثر من ذي قبل.
وكذلك -أيها الإخوة- من العلامات التي تقابل هذا الأمر في التوبة السقيمة: أن التائب يطمئن ويثق تماماً بأن الله قد قبل توبته، حتى كأنه أعطي منشوراً بالأمان كما يقول ابن القيم رحمه الله: كأنه أعطي صكاً بدخول الجنة، هذه التوبة تخوّف، وهذه التوبة في خطر؛ لأن هذا -أيها الإخوة- من علامات التهمة، تتهم بها نفسك، لو أنك أحسست من بعد التوبة بأنك قد ضمنت دخول الجنة، وأنك متيقن بأن الذنب قد انتهى وأن الله قد غفره.(65/8)
الإقبال على الله والبكاء على الذنب
ومن علامات صحة التوبة: الإقبال على الله عز وجل، والبكاء على الذنب الذي حصل، وإذراف الدموع على تلك المعصية التي وقعت فيها، بخلاف الأمر في التوبة السقيمة التي يكون من علاماتها: جمود العين، لا دموع ولا عبرات تسكب خوفاً من الله تعالى من هذا الذنب الذي وقعت فيه(65/9)
الإلحاح على الله بقبول التوبة
أيها الإخوة: إن من علامات التوبة الصحيحة: أنك تتملق الله عز وجل، ومعنى التملق هو: الإلحاح إلى الله تعالى، والاعتذار إليه عما وقع منك، والاعتراف والإلحاح على الله بقبول التوبة، والاعتراف عند الله مهم جداً، لذلك كان في ضمن سيد الاستغفار، أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ -أبوء أي: اعترف- وأبوء بذنبي فاغفر لي).
فإذاً: صار الاعتراف بالذنب عند الله عز وجل من الأمور المهمة.(65/10)
من علامات التوبة الصحيحة: كسرةٌ خاصة تحصل للقلب
وكذلك انخلاع القلب وتقطعه ندماً وخوفاً من هذا الأمر العظيم.
وكذلك من موجبات التوبة الصحيحة كسرة خاصة تحصل للقلب لا تحصل بأي شيء آخر سواه، لا بعبادة ولا بغيرها.
الانكسار الذي يحدث في نفسك عند التوبة إلى الله عز وجل، هذا النوع من الانكسار لا يحدث إلا بالتوبة، إذا ما حصل هذا الانكسار وهذه الذلة أمام الله تعالى، والخجل والحياء من الله عز وجل؛ فعند ذلك تتهم التوبة.
فانكسار القلب بين يدي الرب عز وجل، كسرة تامة وإلقاؤه بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً، كحال عبد هرب من سيده، فأُخذ وأمسك وأحضر بين يديه، ولم يجد ما ينجيه من سطوته ولا منه مهرباً، وعلم إحاطة سيده بتفاصيل جنايته، هذا مع حبه لسيده وحاجته إليه، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده، وذله وعزة سيده، فتجتمع في هذه الحال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد! وما أحسن عائدتها عليه! وما أعظم جبرها! وما أقربه بها إلى سيده! فليس شيء من الأشياء يعدل هذه الكسرة، وهذا الخضوع والتذلل، فيقول ابن القيم رحمه الله: فلله ما أحلى قول القائل: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.
هذه هي حال التائب توبة حقيقة، هذا لسانه يعبر به عما يستجيش في نفسه، وعما يختلج في قلبه من الشعور بأهمية رحمة الله وبأهمية حصوله عليها.
فما أصعب التوبة الصحيحة أيها الإخوة! وما أسهلها باللسان والدعوى! التوبة باللسان والدعاوي سهلة، لكن التوبة الصحيحة التي تجتمع فيها هذه العلامات توبة صعبة، ولكن من أقبل على الله وأخلص له، فإنه لابد أن يوفقه لهذه التوبة الصحيحة.(65/11)
خطر احتقار التائبين
ثم إن هناك أمراً مهماً -أيها الإخوة- يغفل عنه كثيرٌ ممن ينتسبون إلى الصلاح والاستقامة، فيقول ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء الناس: وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات، يقعون في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها.
بعض الناس لا يشرب خمراً ولا يزني ولا يسرق ولا يخون ولا يكذب، ولكنه واقع في أمر لا يقل نكارة عن هذه الأمور من الكبائر التي ذكرناها الآن.
ما هو هذا الأمر الذي قد يقع فيه هذا الرجل؟ الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم، ومنته على الخلق بلسان الحال.
أي: أن بعض الناس لا يرتكبون الكبائر المعروفة التي ذكرناها، ولكنهم يحتقرون التائبين الذين سبق لهم الوقوع في المعصية، يحتقرهم أولاً لأنهم قد وقعوا فيها، فيحتقرهم مع أنهم تابوا منها، وهذا الاحتقار خطير أيها الإخوة، لأنك تحتقر من تاب، رجل وقع في الذنب ثم تاب إلى الله، لماذا تحتقره؟ إن احتقارك له يعني أولاً: احتقارك لتوبته، يعني احتقارك لهذه العبادة العظيمة التي قام بها هذا التائب.
ثانياً: احتقارهم لأنه يعتقد أنه أرفع منهم شأناً، وأصلح منهم حالاً، وأعلى منهم ذاتاً، وأقرب منهم إلى الله، وأنه صاحب عبادة وصيام وصلاة وتهجد وعلم ودعوة، فهو يستعلي على أولئك الناس لا استعلاء إيمانياً صحيحاً، وإنما استعلاء تجبر وتكبر واحتقار، وهذا لا يقل خطورة عن تلك الكبائر التي وقع فيها أولئك الناس.
أيها الإخوة: أن يرى الإنسان نفسه أعلى من الآخرين، وأنهم حقيرون بجانبه، وأنه ليس لهم شأن، وأنه هو صاحب الصلاة والصيام والزكاة والدعوة والعلم، وأنه أحسن منهم حالاً؛ شعور يؤدي إلى التكبر عليهم، واحتقارهم في توبتهم.
هذا اللسان -أيها الإخوة- من أنواع ألسنة الحال خطير جداً، الرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه ودعوته وجهاده وطاعته وعبادته وخشوعه وذله، كان إلى الله ذليلاً منكسراً، يحقر من شأن نفسه، ويرتمي على عتبة الله عز وجل، يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالذين يحتقرون الناس ويتكبرون عليهم لاعتقادهم بأنهم هم الذين يدخلون الجنة والآخرون إلى النار، هذه النفسية من أسوأ النفسيات.
يقول ابن القيم رحمه الله: وقد يكون من رحمة الله تعالى بهذه النوعية من البشر، أن يبتليهم بكبيرة يقعون فيها، يقع يوماً من الأيام في الزنا أو السرقة أو شرب الخمر.
ولماذا يكون هذا من رحمة الله بهذه النوعية المستعلية استعلاءً حقيراً خاطئاً؟ يكون وجه الرحمة -أيها الإخوة- أن يجعل الله نفوس هؤلاء تنكسر إليه بعد تكبرها وصلفها وتجبرها واحتقارها للناس.
الواحد بهذه النفسية -نفسية المتكبر المحتقر للآخرين التائبين من الذنوب- إذا ابتلاه الله في يوم من الأيام بفاحشة من الفواحش، فقد يكون في هذا خير له؛ لأن نفسه ستنكسر، ويعلم أنه ليس بهذا المستوى الذي يظن نفسه فيه.
وأنا لا أدعو بهذا الكلام أصحاب الصراط المستقيم الذين تنزهوا عن الفواحش، أن يقعوا فيها مرة واحدة، لا.
ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود نزع التكبر والاحتقار لعباد الله من النفس، وتطمينها والدعوة إلى الله بالحسنى.
يا أخي الداعية: يجب أن يشعر الناس وأنت تدعوهم أنك لا تحتقرهم، أنك تنصحهم نصيحة أخ مشفق على حالهم، تطامن إليهم، تتودد إليهم، وليس أن تستعلي عليهم استعلاء الاستكبار والاحتقار.(65/12)
أحكام التوبة
وكذلك -أيها الإخوة- فإن للتوبة أحكاماً مهمة لابد من معرفة بعضها: فمن هذه الأحكام: أن المبادرة إلى الله عز وجل من الذنب هي فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها بأي حال من الأحوال، فمن فعل ذنباً وأخر التوبة فقد عصى الله تعالى بذنب آخر وهو تأخير التوبة، من فعل ذنباً وأخر التوبة إلى الله فقد وقع في ذنب ثان، ألا وهو تأخير التوبة.
فلو أن هذا الرجل كان يشرب الخمر وأخر التوبة إلى ما بعد سنتين أو ثلاث، ولم يتب إلى الله، ثم تاب بعد سنتين من شرب الخمر، فهذا قد تاب من ذلك الذنب الأول، وبقي عليه توبة أخرى وهي: التوبة من تأخير التوبة.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: وهذا أمر يفوت على كثير من الناس ولا يدركونه، ويشبه هذا الأمر أمر آخر وهو: أننا قد نقع في ذنوب، ونحن لا نحس بأننا قد وقعنا فيها، يمكن أن نغتاب في مجلس ولكننا ننسى ولا نذكر مطلقاً بأننا قد وقعنا في الغيبة، وقد نقع في الذنوب ونحن نجهلها، نقع في أشياء ونحن مذهولون عنها لم نعِ أننا وقعنا في الذنب، هذا يحدث كثيراً.
ما هو الحل والعلاج؟ العلاج في سنة نبيك صلى الله عليه وسلم فاستمع لها يا أخي المسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟)، ما دام أن الشرك خفي جداً لا يتفطن إليه كثير من الناس، قد تقول في مجلس: أنا اعتمدت على الله وعليك، وتفوت عليك هذه الكلمة، أو تقسم بغير الله، تقول: وحياة أبي، أو والأمانة، أو وشرفي إلخ.
ويفوت عليك أنك حلفت بغير الله، وأن هذا من الشرك الأصغر، لا تنتبه لهذا الأمر، ما هو العلاج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم).
انظر إلى دقة قضية التوبة في الإسلام، إنه يأمر المسلم أن يتوب إلى الله من الأشياء التي يجهل أنها ذنوب، ولا يعلم بأنه وقع فيها.
ولذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو في صلاته: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي، لا إله إلا أنت).
وكان يقول أيضاً في دعائه: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه -صغيره- وجله -عظيمه- خطأه وعمده، سره وعلانيته، أوله وآخره).
فهذا التعميم والشمول في الاستغفار؛ لتأتي التوبة على جميع الذنوب التي وقع فيها العبد، سواء كان عالماً بها أو غير عالم، شاعراً بها أو غير شاعر.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم للتوبة النصوح، والإنابة إلى الله، وصلّى الله على نبينا محمد.(65/13)
مسائل تتعلق بالتوبة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين المتقين، وقابل التوب وغافر الذنب شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو وإليه المصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي علمنا التوبة وشرائطها وأدعيتها؛ لنلتزم بها، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/14)
حكم التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر
وهنا في هذا الموضوع -أيها الإخوة- قد يرد سؤالٌ في أذهان البعض: هل تصح التوبة من الذنب مع الإصرار على ذنب آخر؟ إنسان يزني ويشرب الخمر، ثم تاب إلى الله من الزنا، ولكنه ما زال مصراً على شرب الخمر، فهل يقبل الله توبته من الزنا أم لا؟ اختلف العلماء في هذه القضية، ولكن ابن القيم رحمه الله تعالى أتى بكلام وسط طيب في هذه المجال فقال: الذي عندي في هذه المسألة: أن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه، وأما التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر ليس مثله في النوع، فإنها توبة صحيحة مقبولة إذا توفرت فيها الشروط.
فيضرب لذلك أمثلة فيقول: فمن تاب من الربا، ولم يتب من شرب الخمر مثلاً، فإن توبته من الربا صحيحة مقبولة، ولكن إذا تاب من ربا الفضل -نوع من أنواع الربا- ولم يتب من ربا النسيئة -وهو نوع آخر من أنواع الربا - وأصر على النوع الثاني، وتاب من النوع الأول من أنواع الربا أو بالعكس، فإن توبته غير صحيحة؛ لأنه مازال مرابياً، لا يعني أنه أقلع عن نوع من أنواع الربا أن توبته صحيحة من النوع الآخر؛ لأنه مازال واقعاً في الربا.
أو مَن تاب مِن تناول المخدرات وأصر على شرب الخمر -التي يقول ابن القيم عنها الحشيشة- هل توبته من المخدرات صحيحة؟ لا.
لماذا؟ لأنه مازال واقعاً في نفس النوع من الذنب وهو السكر، فهذا لا تصح توبته.
وكمن يتوب من الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بامرأة أخرى، واحد يزني بامرأتين -لا حول ولا قوة إلا بالله! نسأل الله لنا ولكم السلامة- فتاب من الزنا بإحداهما، ولكنه ما زال مصمماً ومصراً على الزنا بالمرأة الأخرى، فهل توبته من الزنا بالمرأة الأولى صحيحة؟
الجواب
كلا.
ليست توبته صحيحة؛ لأنه مازال واقعاً في فاحشة الزنا، وإن تنوعت أشكالها ومحل وقوعها، أو من تاب من شرب عصير العنب المسكر، وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة، فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب، هذا بخلاف من تاب من معصية، ولكنه مصرٌ على معصية من نوع آخر، فإن الله يقبل توبته من المعصية المختلفة.(65/15)
سبب الوقوع في المعصية بعد الإقلاع عن معصية أعظم
بعض الناس -أيها الإخوة- يقلعون عن المعاصي، ويتشبثون بمعاص أخرى، ما هو السبب؟ السبب: لأنه يتوب من معصية؛ لأن وزرها أعظم، ويتشبث بمعصية أخرى؛ لأن وزرها أخف، هكذا يعتقد، يتوب من الزنا لكنه يبقى مصمماً على النظر إلى المرأة الأجنبية، سواء كان في التلفاز أو الجرائد والمجلات أو الشارع أو السوق.
لماذا يصمم بعض الناس على النظر إلى المرأة الأجنبية لكنه لا يقع في الزنا؟ لأنه يعتقد أن الزنا إثمه كبير، أما النظر إلى المرأة الأجنبية فإثمه قليل، فذلك لا بأس بفعله.
وهذا مدخل خطير؛ لأن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة كما هي القاعدة عند أهل السنة.
وإما لغلبة داعي الطبع عليه.
كمن طبعه متعود على معصية، لكن معصية أخرى ليس متعوداً عليها، فيترك المعصية الأخرى ولا يأتيها؛ لأنه غير متعود عليها، ويصمم على المعصية التي هو متعود عليها.
وآخر أسباب المعصية حاضرة أمامه، بينما أسباب المعصية الأخرى ليست حاضرة أمامه.
مثلاً واحد يزني؛ لأنه يعرف الزانيات، والسبيل إلى الوصول إليهن سهل، لكنه لا يستعمل المخدرات؛ لأن سبيل الوصول إلى المخدرات صعب، فلذلك هو يقع في الزنا، لكنه لا يستعمل المخدرات، هذه أحد الأسباب التي تجعل الناس يقعون في ذنوب ويتركون ذنوباً أخرى.
وإما لاستحواذ قرنائه وخلطائه عليه، فيزينون له معاصي، لكن لا يزينون له معاصي أخرى، فيقع في هذه المعصية مجاراة لأصحاب السوء الذين يزينون له هذه المعصية.
وإما لجاه وحظوة لا تطاوعه نفسه على إفساد جاهه بالتوبة، كما قال أبو نواس لـ أبي العتاهية وقد لامه على تهتكه في المعاصي:
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي
هذا الرجل جاهه عند الناس أن يفعل المعاصي، لو أقلع عن المعاصي ما صارت له قيمة عند الناس، وزالت أهمية منصبه، فهو لذلك يقترف المعاصي لكي يبقي على حظوته وجاهه عند الخلق.(65/16)
الإساءة المتخللة بين الطاعتين ترتفع بالتوبة
وكذلك أيها الإخوة! لو أن إنساناً كان يعمل الحسنات، ثم عمل السيئات، بقدر تلك الحسنات أو أكثر، فمحيت تلك الحسنات بهذه السيئات -سقطت تلك الحسنات- فهل إذا تاب إلى الله عز وجل بعد ذلك تعود إليه حسناته أم لا؟ يجيبك على ذلك هذا الحديث الصحيح الذي يرويه حكيم بن حزام أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت عتاقة أعتقتها في الجاهيلة - هو أعتق عبداً في الجاهلية وهو كافر- وصدقة تصدقت بها في الجاهلية -وهو كافر- وصلة وصلت بها رحمي في الجاهلية، فهل لي فيها من أجر؟ -بعد أن أسلم الآن والتزم شرع الله، فهل تعود إليه تلك الحسنات؟ - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: كان إسلامك على ما أسلفت من خير، أي: أعمالك الصالحة السابقة إذا تبت إلى الله وعدت وأسلمت تحسب لك من جديد.
يقول ابن القيم رحمه الله في تعليل هذا: وذلك لأن الإساءة المتخللة بين الطاعتين قد ارتفعت بالتوبة، وصارت كأنها لم تكن، فتلاقت الطاعتان التي قبل التوبة والتي بعد التوبة، فاجتمعتا.
وهذا من رحمة الله أيها الإخوة! إذا تبت إلى الله تعود إليك الحسنات التي محيت بسبب السيئات.
وكذلك لابد في التوبة من إرجاع الحقوق إلى الآدميين، ولعلنا نسرد فصلاً بهذا في المستقبل إن شاء الله.(65/17)
هل يرجع العاصي بتوبته إلى درجته قبل معصيته؟
النقطة الأخيرة: بعض الناس عندما يتوب من الذنب يتساءل في نفسه تساؤل النادم المتحسر: هل الآن بعد توبتي أرجع إلى ما كنت عليه قبل حصول الذنب مني؟ واحد كان على درجة من تقوى الله، فعل معصية أو معاصي، نزلت مرتبته عند الله بسبب المعاصي، لو تاب من هذه المعاصي، هل يعود إلى نفس الدرجة الأولى؟ رجل عند الله عز وجل في الدرجة العشرين من الجنة مثلاً، ثم عمل معاصي فنزل إلى الدرجة العاشرة، ثم تاب من المعاصي هل يعود إلى الدرجة الأولى أم لا؟ بعض العلماء قال: لا يمكن أن يعود، وقد مثل لذلك ابن الجوزي في صيد الخاطر، فقال: لأن من لبس ثوباً سليماً ليس كمن لبس ثوباً مرقعاً، وبعض الناس قال: يعود مطلقاً إلى المرتبة التي كان فيها.
وفصل ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا الأمر تفصيلاً ممتازاً، فقال: إن من التائبين من لا يعود إلى درجته، ومنهم من يعود إليها.
من التائبين من لا يعود إلى درجته الأولى أبداً، فيبقى أنزل منها، ومنهم من يعود إليها، ومنهم من يعود إلى أعلى منها، فمن التائبين من يعود إلى أعلى من الدرجة التي كان فيها، فيصير خيراً مما كان قبل الذنب.
وكان داود عليه الصلاة والسلام بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قال: وهذا بحسب حال التائب بعد توبته وجده وعزمه وحذره وتشميره، فإن كان هذا الجد والعزم والتشمير على طاعة الله بعد التوبة كبير جداً، بحيث إنه فاق سرعة الطاعة قبل التوبة، فهذا يعود إلى مرتبة أحسن من التي كان عليها قبل وقوع الذنب.
وإن عاد في سيره إلى مثل ما كان عليه قبل الذنب -نفس السرعة- فإنه يعود إلى نفس الدرجة، وإن كان سيره أبطأ، ترك الذنب وتاب، لكن دخل في نفسه نوع من الفتور والكسل، فصار سيره أقل في الطاعات، فهذا لا يعود إلى المرحلة الأولى أبداً.
وهذا أيها الإخوة! كرجل مسافر سائر على الطريق بطمأنينة وأمن، فهو يعدو مرة ويمشي مرة، ويستريح مرة، وينام مرة، وهكذا، فبينما هو كذلك إذا عرض له ظل ظليل، وماء بارد، وروضة مزهرة، فدعته نفسه إلى النزول في ذلك المكان، فنزل فيه، فوثب عليه عدو من ذلك المكان، فوثقه وربطه، فلما أيس هذا الرجل واعتقد أنه هالك، وأنه سيصبح رزقاً للوحوش والسباع، وبينما هو في هذه الحالة تتقاذفه الظنون، إذا واقف على رأسه والده الشفيق القادر، فحل وثاقه وقيوده، وقال له: اركب الطريق واحذر هذا العدو مرة أخرى، فإنه على منازل الطريق لك بالمرصاد، واعلم أنك ما دمت حاذراً منه، متيقظاً له، فإنه لا يقدر عليك.
فإن كان هذا الرجل كيساً فطناً لبيباً، فإنه سيسرع في الطريق إسراعاً أكثر من إسراعه الأول، حتى لا يغويه شيء من الزينة في مراحل الطريق، وقد يكون سيره أضعف، فيعود في سيره في الطريق إلى نفس السرعة الأولى، وقد يكون سيره أقل.
فهذا مثل من عمل الذنب ثم تاب منه، فمنهم من يكون بعد التوبة من الذنب أشد لحوقاً بالمشوار، وأكثر سيراً وطاعة، فهذا يصبح أحسن منه قبل الذنب، وهكذا كما ذكرنا في تفصيل المثال.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، وفقنا إلى التوبة النصوح يا رب العالمين، اللهم واجعل توبتنا إليك توبة صحيحة، لا عودة بعدها إلى الذنوب، اللهم واجعلنا من التائبين والقانتين لك، والمخبتين إليك، واجعلنا من الأوابين المنيبين التوابين، واغفر ذنوبنا واغسل حوبتنا، اللهم اسلل من نفوسنا سخام الخطايا والذنوب والشرك، واجعلنا من المتعبدين لك على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العقيدة الصحيحة وبها متمسكين، وبسنة نبيك صلى الله عليه وسلم وعليها سائرين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(65/18)
علاج الهوى
إن الله خلق الخلق وجعل من طباعهم التسلط والتكبر والظلم على وجه هذه الأرض، فإذا اتبع العبد هواه وشهواته عاش في جحيم في الدنيا والآخرة؛ لذلك لابد من معالجة هوى النفس، وكبت الشهوة بالرجوع إلى الله عز وجل، والتعلق به سبحانه، وإيثار إرضاء الله وطاعته على هواه وشهوته، وليكن ذلك بعلو الهمة وإدمان النظر في الكتاب والسنة.(66/1)
أهمية علاج الهوى وأحوال العبد تجاهه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
إخواني في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فاستكمالاً لما كنا قد تحدثنا عنه في موضوع: الهوى، فذكرنا بعض الحالات التي يدخل فيها الهوى، وما هو تعريف الهوى، وتحذير القرآن والسنة من الهوى، وحال السلف الصالح رحمهم الله تعالى في هذا الشأن، ونحن نتكلم اليوم إن شاء الله عن علاج الهوى، وهذا هو لب الموضوع، وهي الثمرة والفائدة المراد معرفتها من طرق هذا الموضوع، وإن كان جزءٌ كبيرٌ من العلاج يكون في اكتشاف الحالات التي يقع فيها الهوى، لأنه كثيراً من الأحيان -أيها الإخوة- لا يدري الإنسان أن هذا التصرف الذي وقع به هو عبارة عن هوى، ولذلك قمنا في المرة الماضية بتسليط الضوء عن كثير من الحالات التي يقع فيها الهوى، قال الشاطبي رحمه الله تعالى: مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، وحال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، كفار قريش خرجوا في معركة بدر وأهلكوا النفوس والأموال في سبيل الهوى الذي استقر في نفوسهم، وتمكن من قلوبهم، فحرمهم الاستفادة والاستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، الهوى سواءً كان عند أبي جهل وغيره هو: حب الرئاسة، وسواءً كان عند سدنة الأصنام هو: حب الأصنام، وسواءً عند الغوغائيين والتبع هو: حب من يعتقدون أنه قدوتهم وأنه من أئمتهم وهم من أئمة النار في الحقيقة.
فإذاً هؤلاء رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى، أليس كذلك؟ حتى قال الله تعالى في شأنهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] ويقول ابن القيم رحمه الله مبيناً أهمية تخليص الأعمال من الهوى، يقول في شأن القلب وحال الإنسان: ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص.
وللإنسان مع الهوى ثلاثة أحوال كما يقول أحد السلف: الحالة الأولى: أن يغلبه الهوى، فيملكه، ولا يستطيع له خلافاً، وهو حال أكثر الخلق، وهو الذي قال الله فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23].
الثاني: أن يكون الحرب بينهما سجالاً، تارةً له اليد، وتارةً عليه اليد، تارةً يغلب الهوى، وتارةً يغلب الإنسان هواه.
الثالثة: أن يغلب الإنسان هواه، فيصير مستولياً عليه؛ مستولياً على هذا الهوى لا يقهره بحال من الأحوال، وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر، قال عليه الصلاة والسلام: (ما من أحدٍ إلا وله شيطان) أي: يأمر بالشر، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يأمره بالشر، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) قيل: إن هذا الشيطان أسلم أي: صار مسلماً، وقيل: المعنى: فأسلم أنا من شره، أي: حتى الشيطان للرسول صلى الله عليه وسلم أسلم، فصار الرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يأمره بالشر.
فإذاً هذا منتهى النعيم العظيم أن الإنسان يسيطر على هواه، فلا يدخل الهوى عليه، ولا يجد عليه سبيلاً.(66/2)
علاج الهوى بالرجوع إلى الكتاب والسنة وترك مناهج أهل الضلال
ونحن في علاجنا للهوى -أيها الإخوة- يجب أن نتوجه إلى دين الله نستمد منه النور والضياء، وإلا فلو أننا تركنا لأنفسنا من أن نضع منهجاً لعلاج الهوى، فإننا لن نحل المعضلة، بل سنزيدها تعقيداً، لذلك كان لا بد من الذهاب إلى القرآن والسنة لمعرفة المنهج الذي على أساسه نحارب الهوى ونسيطر عليه.
وقد وضع أقوامٌ من البشر مناهج يعالجون فيها الهوى، فضلوا أيما ضلال، وارتكبوا أخطاء شنيعة، ومن هؤلاء الأقوام الصوفية ومن نحا منحاهم في طريقة علاجهم للهوى، فإنهم أتوا بأشياء لم ينزل الله بها من سلطان، وابتدعوا في دين الله أشياء عجيبة، فمن ذلك أن أحدهم قال لمريد تابع له: إن أردت استخراج الهوى من نفسك، واستخراج الكبر، والاستعلاء على البشر، فعليك أن تفعل هذا الذي آمرك به، ما هو هذا الشيء؟ قال له: اذهب الساعة إلى الحجام، واحلق رأسك ولحيتك، وانزع عنك هذا اللباس، وابرز بعباءة، وعلق في عنقك حقيبة، واملأها جوزاً، واجمع حولك صبياناً، وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من يصفعني صفعةً فأعطيه جوزةً، وادخل إلى سوقك الذي تعظم فيه، هذا هو علاج الهوى عند هذا الرجل، حلق الرأس واللحية، ولبس الثياب البالية، ويعطي الأطفال جوزاً، ويقول: من يصفعني صفعة أعطيه جوزة.
فهذا المنهج الضال الذي لم ينزل الله به سلطاناً ليس هو المنهج الصحيح في علاج الهوى، وهذا آخر من البشر غلبه هواه فنظر إلى جارية، فلم يفعل ما يأمره الله به من التوبة والاستغفار، وإنما ماذا حصل؟ قلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هذا هو العلاج!! أن يقلع عينه التي نظر بها إلى المحرم، هل هذا هو العلاج الذي أمر الله به من ينظر إلى المحرمات؟! فإذاً أيها الإخوة! الناس إذا ابتعدوا عن منهج الله، يأتون بأشياء مبتدعة غير صحيحة وهذه من جملتها، لذلك كان لا بد من التمعن في طريقة القرآن والسنة في علاج الهوى، ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقت تحدث عليه الحوادث من هذا الهوى جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين وهما لا يتناقضان، ولا يتعارضان، إذ أن الصحيح من الشرع لا يعارض الصريح من العقل مطلقاً كما دلت على ذلك قواعد القرآن والسنة، معرفة أن هذا الهوى ابتلاء من الله عز وجل مهم جداً، معرفة أن هذا الذي تميل إليه نفسك من المحرمات أنه ابتلاء يبتليك الله به حتى يعلم مدى صمودك، ومدى ثباتك، ومدى مقاومتك لنفسك في سلوك الطريق المحرم.(66/3)
كيفية علاج الهوى(66/4)
الاستعانة بالله عز وجل وربط القلب به سبحانه
أيها الإخوة: أول ما يحتاج الإنسان في معالجته الاستعانة بمولاه على هذا الأمر، من هو مولانا الذي نستعين به على الشدائد وعلى الأهواء التي نكابدها ونلاقيها؟ إنه الله عز وجل، ولذلك -أيها الإخوة- كان لا بد من فتح الطريق مباشرةً بين العبد وبين ربه في استعانته بمولاه على هذا الهوى الذي يصيبه، ومن ضمن الأشياء التي يشتمل عليها هذا المنهج في الاتصال بين العبد وربه الدعاء؛ فإنه من أنفع الأمور التي تنفع العبد في التغلب على الهوى، ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي والطبراني والحاكم عن زيد بن علاقة رضي الله عنه وهو حديث صحيح وهو في صحيح الجامع، كان من دعائه عليه السلام: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسلم شيطانه، فسلم من شره، ولم يعد أحدٌ يوسوس إليه بالشر، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الأهواء، فما بالنا نحن الضعفاء الذين لا يقارن حالنا بحال رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وربط القلب بالله عز وجل خوفاً وطمعاً، ورهبةً ورغبةً، والوقوف بين يدي الله تعالى من أكبر الأشياء التي تنفع في مقاومة الهوى، والدليل على ذلك قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] قال مجاهد: هو العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
إذاً من أين أتى نهي النفس عن الهوى؟ كيف حصل للإنسان أن ينهى نفسه عن الهوى؟ حصل له هذا الشيء بالخوف من الله عز وجل، لأن الله قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ولذلك كان نهي النفس عن الهوى هي نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو سبب البلوى، وينبوع الشر، وقلَّ أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى.(66/5)
العزيمة والخوف من الله
خوف الإنسان من الله عز وجل، خوفه من عقاب الله في الدنيا، ومن عذاب الله في الآخرة هو الوسيلة حقيقةً لأن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، وقد عقد العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عليه في كتابه: روضة المحبين، فصلاً في آخر الكتاب ذكر فيه أموراً كثيرةً من الأشياء التي تعين على مقاومة الهوى، ولخص بعضها من كتاب: ذم الهوى لـ ابن الجوزي رحمه الله تعالى، فقال: ويمكن التخلص منه بأمور بعون الله وتوفيقه: أولاً: عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها.
والمشكلة أن قوانا تضعف وتخور أمام مواجهة الأهواء والشهوات، فلا بد من العزيمة التي تملأ النفس صموداً وثباتاً ومقاومةً لهذه الأهواء والشهوات، ولا بد من جرعة صبر يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة، لأن امتناع الإنسان عن ولوج المعصية وقت المعصية طعمه مر، وقت حصول المعصية وأنت تواجهها لا تستطيع أن تنزع نفسك بسهولة، بمشقة شديدة جداً، ولكن عندما تطعم نفسك هذا الصبر الذي يكون علقماً في بعض الأحيان مثل: الدواء للمريض، يكون الدواء في بعض الأحيان مراً، ولكن لا بد منه وهو علاجٌ نافعٌ، فلا بد من تناوله، فأنت حين تقاوم وتجاهد، ستشعر بمرارة فراق المعصية، ولكن إذا تجاوزت هذه المرحلة، فإن الله يعقب في نفسك حلاوةً عظيمةً تجدها في نفسك بعد انتصارك على نفسك.
لحظات المعركة يكون الوقع شديداً ليس سهلاً، لا تأتي الفرحة مباشرةً، ويأتي السرور مباشرة، لا بد من لحظات مجاهدة شديدة على النفس وشاقة وصعبة، بعد الانتصار يعقب الله في نفس العبد حلاوة الطاعة وحلاوة ترك المعصية، فالذي يصبر على العلقم في البداية يجد الحلاوة في النهاية، ولا بد من قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، ولا بد من ملاحظة حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة، أنت تعرف أن مقاومة الهوى ليست سهلة، تعرف أن الامتناع عن المعصية صعب، لكن أنت إذا جلست تفكر في العاقبة التي ستكون لك بعد امتناعك عن الوقوع في هذه المحرمات وفي هذه الشهوات، هذا يسهل عليك الأمر، وإذا جلست تفكر في الحلاوة التي ستجدها بعد المرارة، وفي النعيم الذي ستجده في الآخرة، سيسهل عليك الأمر، وكذلك يتفكر الإنسان أنه لم يخلق للهوى، وإنما هو لأمرٍ عظيمٍ لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قال الشاعر:
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
لما يفكر الإنسان أنه ما خلق من أجل أن يتبع أهواءه، وإنما خلق من أجل طاعة ربه.
هناك -أيها الإخوة- هدف عظيم، هناك من الناس من لا يختلفون مطلقاً عن الدواب، يمشي كالبهيمة يتبع شهواته وأهواءه، لما يفكر الإنسان أنه وجد على هذه الأرض لا لاتباع الهوى، وإنما لاتباع شيء آخر.
قد هيئوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
قد هيئوك: أنت أيها العبد المسلم قد هيئت لأمر عظيم وهو عبادة الله.
لو فطنت له: المشكلة أن أكثر الناس لا يفطنون له.
فاربأ بنفسك: ارتفع بنفسك.
أن ترعى مع هذا الهمل، ومع هذه الحيوانات التي ليس لها همٌّ إلا اتباع الهوى والشهوات.(66/6)
ألا يختار لنفسه أن تكون الحيوانات أحسن منه
وكذلك ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان أحسن حالاً منه، ولهذا تساق الحيوانات إلى منحرها وهي منهمكة في شهواتها، أنت الآن عندما تنظر إلى حال رعاة الغنم تجد أنهم يسوقون القطعان إلى المنحر وإلى المجزرة، القطيع وهو يمشي على الأرض إلى المنحر، ويكون في الطريق أعشاب ماذا يحدث؟ يأكل من هذه الأعشاب وهو يمشي إلى المنحر، وإلى المكان الذي ستزهق فيه روحه، ويذبح ويهلك فيه وهو يأكل حتى آخر لحظة من هذه الحشائش الموجودة في الأرض.
إذاً: لا نريد أن نساق إلى جهنم، ونحن قد جعلت على أعيننا غشاوة الهوى والمسكرات من المنكرات؛ لأن الشهوات والمنكرات تسكر، فلا يعيش الإنسان في حالة وعي؛ فيساق إلى جهنم، فلا يكون الحيوان أحسن حالاً من الإنسان، يجب على الإنسان أن يرتفع فوق مستوى البهائم، ولو فكر العاقل لحظة قضاء وطره وقارنها بما سيعقب بعد ذلك من الحسرة التي سيقضي فيها بقية عمره؛ لما اقترب من هذا الوطر ولو أعطي الدنيا، والطريق الأعظم في الحذر ألا يتعرض لسبب الفتنة ولا يقاربه، كم من معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، ولذلك فإنه لا بد للمسلم أن يسير بقلبه في عواقب الهوى، فيتأمل كم فوتت هذه المعصية من فضيلة! وكم أوقعت في رذيلة! وكم أكلة منعت أكلات!! الآن بعض الناس يأكلون بغير حساب؛ فيضر كثرة الأكل أجسامهم، فيذهب إلى الطبيب يشتكي، فيمنعه الطبيب من قائمة كثيرة من الأكلات، ويحدد له أكلات قصيرة، أكلات ضئيلة قليلة، يحرمه من تلك الأكلات، ما الذي منعه من هذه الأكلات الطيبات؟ إنه كان يأكل بغير نظام في الماضي، فلذلك كم من شهوةٍ كسرت جاهاً، ونكست رأساً، وأورثت ذماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يغسله الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء!! هذه المعاصي أيها الإخوة! الله عز وجل جعل سنته في الكون أن العاصي لا بد أن يعاقب في الدنيا، فكم من شهوةٍ كسرت جاهاً بسبب هذه المعاصي، حتى أن الإنسان وأمام الناس ليس له وجه، المعصية كسرت جاهه، وأوقعته من مكانته أمام الناس، ونكست رأسه، فلا يستطيع أن يرفع رأسه أمام الناس، وأورثت له ذماً، وأعقبت له ذلاً، وألزمته عاراً لا يغسله الماء بسبب الغشاوة التي على أعين متبعي الهوى.(66/7)
التأمل في العاقبة
وكذلك مما يعين على علاج الهوى: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر، هب أن رجلاً أراد أن يزني وجاءه هوى الشهوة، فعليه أن يفكر قبل أن يقع في الزنا، يفكر لو أنه قضى وطره من هذه المرأة المحرمة، ماذا سيكون بعد ذلك؟ تأمل العاقبة مهم جداً؛ لأنه هو الذي يمنعك من الوقوع في البداية، والله سبحانه وتعالى قد شبه من يتبعون أهواءهم بأخس الحيوانات وأذلها وأحقرها ألا وهو الكلب، فقال عز وجل عن الرجل الذي أعرض عن آيات الله عز وجل: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] فالرجل الذي يتبع الهوى عندما يتصور بأن حاله مثل حال الكلب، هل يا ترى يقدم على هذه الجريمة، وعلى هذه الشهوة؟! وشبههم الله تعالى مرة بالحمير، فقال: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:50 - 51].(66/8)
أن يتأمل آيات الله عز وجل
وكذلك إذا تأمل متبع الهوى حاله من بعض الآيات كقول الله عز وجل: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] لو تأمل هذه الآية سيجد أن عز وجل حرم الإمامة على متبع الهوى، لماذا؟ لأن الله يقول في آية أخرى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29] وهناك قال: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] فالظالم يتبع الهوى، والظالم قد حرم من الإمامة، فمتبع الهوى قد حرم من الإمامة في الدين، فلا يمكن أن يجعله الله عز وجل إماماً يؤتم به في الدين وهو متبع للهوى، فهو ليس بأهل لأن يطاع، ولا أن يكون إماماً ولا متبوعاً في الخير.
وجعل الله متبع الهوى بمثابة عابد الوثن، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] وجعل الله حظار جهنم -الشيء الذي يحوط جهنم- الهوى والشهوات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الهوى من المهلكات، فقال: (أما المهلكات: فهوىً متبع، وشحٌ مطاع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه).
ولو تأمل صاحب الهوى، أو الذي يأتيه الهوى ما له من العاقبة الحسنة إذا خالفه هواه، ومن النور الذي يدخله الله في قلبه، لثبت عند هذا ووقف، قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده.
تأمل! الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، فتح مدينة بأكملها من شخص واحد أمر عسير جداً، لكن أعسر منه أن يخالف الإنسان هواه.
وكذلك جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، ثم يخرج إليهم.(66/9)
المجاهدة والصبر على مقاومة الهوى
وكذلك الذي يمتنع عن الهوى كأنه سيأخذ دواءً مراً، ولا بد أن يصبر على هذا الدواء، ولا بد أن يتبع نظاماً في الحمية من الهوى كما يتبع الرجل الذي يأكل الأكل المضر نظاماً في الحمية، ولذلك قال عبد الملك بن قريب: مررت بأعرابي به رمد شديد في عينيه، ودموعه تسيل على خديه، فقلت: ألا تمسح عينيك؟ قال: نهاني الطبيب عن ذلك، وقال لي: إذا مسحت عينيك، يزداد الألم، ويزداد المرض شدة.
ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر، وإذا أمر لا يأتمر، فعلاً الآن الذين يصيبهم الرمد هذا مثل حرق العين يريد أن يحك عينه، وقد يكون الطبيب نهاه عن هذا الفعل، وأخبره إن هو حك عينه، أن المرض سينتشر وسيشتد، فماذا يفعل؟ تجد الإنسان قوي الإرادة كأنه قد ربط بحبل يقاوم يده أن تمتد إلى عينه مع أنها تحرقه جداً، لكنه يقاوم أن يمد يده إلى عينه، قد يصيب جلد الإنسان حساسية أو حبوب , فيخبره الطبيب ألا يحك جلده مطلقاً؛ لأنه إذا حكها سينتشر، ماذا يكون شعور الإنسان في تلك الحالة؟ الشخص العاقل يحس بأن هناك دافعاً قوياً لأن يحك جلده، لكنه يصبر على الحك، لأن الحك سيجعل الأمر أسوأ من ذي قبل، كذلك حال الذي يأتيه الهوى، إذا اتبع الهوى سيكون الأمر أسوأ، ولذلك هو يصبر كما يصبر هذا الرجل الذي به رمد شديد وحرقة في عينيه، فلا يحك عينه لأنه أمر بهذا، يقول عبد الملك بن قريب: فقلت لهذا الأعرابي: ألا تشتهي شيئاً؟ قال: بلى، ولكني أحتمي، عندي نظام في الحمية، الطبيب نهاني عن أكلات، يقول الأعرابي: إن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا، الله عز وجل أمرهم أن يمتنعوا عن أشياء، يتبعوا نظام الحمية من أشياء معينة، فغلبت شهوتهم حميتهم فهلكوا.
قال الفضيل بن عياض في كلام على أن اتباع الهوى يحرم العبد من إصابة الحق، ومن معرفة الدليل، ومن التوفيق في أمور الدنيا والآخرة، يقول: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات، انقطعت عنه موارد التوفيق، فالذي ينغمس في الهوى لا يكاد الله يوفقه إلى خيرٍ أبداً، بل تجد بأن الطرق بينه وبين الخير مسدودة، والعوائق موجودة، لا يستطيع أن يصل إلى الخير؛ لأنه متبع للشهوات والهوى، ما اتخذ الأسباب فكيف يهديه الله؟! {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والذين لم يجاهدوا فينا، ماذا ستكون عاقبتهم؟ وكذلك كان بعضهم يطوف في البيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بها واللذات والدين
قال: أنا أهوى الدين، لكن اللذات التي أراها تعجبني، فكيف أجمع بين هوى اللذات وبين الدين؟ فقالت المرأة: دع أحدهما تنل الآخر، فعلاً دع الدين تنل الهوى، الإنسان عنده هذه الإرادة: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:1] طريق الخير وطريق الشر، أنت مخير، لا أحد يرغمك على سلوك أحد الطريقين، دع أحدهما تنل الآخر، وهذا ترك الهوى، الآن لحظات تمر على الإنسان يعاين فيها مواقفاً من الشهوات والهوى، فإذا هو قاوم نفسه هذه المقاومة فإن هذه المواقف في الدنيا التي يقاوم فيها الهوى لا تنسى عند الله يوم القيامة مطلقاً، في ذلك الموقف الذي تزل فيه الأقدام، والذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، لا ينسى الله تعالى لعبده أبداً هذه المواقف التي وقفها في الدنيا.
أحدهم ترك شهوات وأهواء ولذائذ كثيرة في الدنيا محرمة من أجل الله عز وجل، فلا ينساها الله تعالى له يوم القيامة، وقال عبد الرحمن بن مهدي: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام -بعض المنامات التي ترى للصالحين لا بأس من حكايتها، إذا لم يرد فيها مخالفات شرعية، فبعض المنامات أو الرؤى التي رآها صالحون لأناس صالحين، كان السلف رحمهم الله يدرجونها في كتبهم، ويكتبونها وينشرونها، لأنها تؤثر، الرؤيا الصالحة عاجل بشرى المؤمن- فقال عبد الرحمن بن مهدي وهو من كبار أئمة الدين: رأيت سفيان الثوري رحمه الله تعالى في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً، ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أدور بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركةً إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، فقال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ فقلت: إي والله، فأخذني النثار من كل جانب -النثار في اللغة: هو ما يرش على العروس في ليلة العرس من الزينة، أو الذهب، أو الزهور، إلى آخر ذلك.
نسأل الله تعالى أن تكون هذه من الرؤى الصالحة التي رئيت لـ سفيان الثوري رحمه الله، فإنه كان من المجاهدين في الله حق جهاده في العلم والتقوى، ونال الإمامة في الدين.
يقول ابن القيم رحمه الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) كيف نالوا هذا الظل؟ يقول: إذا تأملت السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى، فإن الإمام المسلط القادر لا يتمكن من العدل إلا بمخالفة هواه؛ لأن عنده من القوة والنفوذ والسيطرة ما يستطيع به بسهولة أن يتابع هواه، فلما قاوم نفسه وقاوم هواه، وحكم شرع الله تعالى، ولم يتبع شهواته، وعدل بين الرعية كان له الظل يوم أن تدنو الشمس من رءوس العباد.
والشاب المؤثر عبادة الله على داعي الشباب لولا مخالفة هواه لم يقدر على ذلك، لولا أن هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله خالف هواه لما نشأ في طاعة الله، والرجل الذي قلبه معلقٌ بالمساجد إنما حمله على ذلك مخالفة هواه الداعي له إلى أماكن اللذات، خالف الهوى الذي يدعوه إلى الذهاب إلى أماكن اللذات، وصار يذهب إلى أماكن العبادة والمساجد، أعقب الله عز وجل له الأجر الجزيل بأن أظله في ظل عرشه.
والمتصدق المخفي لصدقته عن شماله لولا قهره لهواه (هوى الرياء) وهوى أن يشاهده الناس، وأن يتحدثوا عن كرمه لم يقدر على ذلك، لو ما خالف هذا الهوى لما صار في هذا المكان يوم القيامة.
والذي دعته المرأة الشريفة الجميلة، فخاف الله عز وجل وخالف هواه، نال نفس الكرامة.
والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشيته، إنما أوصله إلى ذلك مخالفة هواه، فلم يكن لحر الموقف وعرقه وشدته سبيلاً عليهم يوم القيامة.(66/10)
تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى
ومن الأشياء التي تعين في علاج الهوى: تأمل اللذة التي تنتج عن مخالفة الهوى، فإن في قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، وغالب الهوى يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قهر هواه، بينما الذي يتبع الهوى يكون ذليلاً؛ لأنه اتبع هواه، فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن.
أحياناً يا إخواني! الشيطان يزين للإنسان المعصية، فيراها جميلة جداً، فينظر إلى المعاصي بعين الحسن، المفروض أن ينظر إلى المعاصي بعين الاستقباح وعين الكراهية لهذا الأمر، كما أن اللص يرى لذة أخذ المال من الحرز الذي يأخذه بكل يسر وسهوله، لكنه لا يرى بعين الفكر قطع اليد، فلذلك يسرق.
وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة، فإن استوثق منه ضابطه كفه، الهوى مثل السبع، ومثل الأسد، إذا ربطته بسلسلة قوية، ما ينفلت منك.
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر: على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط.(66/11)
أنه إذا جاءك الهوى فخالفه
ومن الأمور المهمة في معالجة الهوى: أنه إذا جاءك الهوى في مسألة فخالفه، النفس الأمارة بالسوء، أو الشيطان يأمرك أن تفعل هذا الأمر، فعليك بمخالفته فوراً، قال أحد السلف: اعلم أن البلاء كله في الهوى، والشفاء كله في مخالفتك إياه، قال بعض الحكماء: إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.
مثلاً: الإنسان موقفه من الأحكام الشرعية يحتار هل هذا هو الصحيح، أم هذا هو الصحيح؟ أحياناً يكون الإنسان صادقاً ومخلصاً ويريد أن يصل إلى الحق، فيحتار ما هو الحل؟ فمن ضمن الأشياء التي ترجح قولاً على آخر أن ينظر الإنسان ويدقق ويفتش في نفسه، فينظر أي القولين أقرب إلى هواه فيخالفه ويأخذ الآخر، لماذا؟ لأن النفس في العادة تميل إلى المحرمات، وتميل إلى الخطأ، تميل إلى الأسهل، تميل إلى ما يشبع رغبتها، تميل إلى الحكم الذي لا يكلف الإنسان عناءً ولا مشقةً، لذلك ترى كثيراً من الناس يتبعون أهواءهم في الأحكام الفقهية، فيأخذ الحكم الذي لا يكلفه، لنفترض أن رجلاً من الناس قد وقف أمام حكمين في مسألة فقهية لم يستطع أن يرجح أحدهما على الآخر، فما هي أحد المرجحات التي يستطيع أن يستخدمها؟ أن ينظر نفسه إلى أي قول من هذه الأقوال تميل، فينظر القول الذي تلين له نفسه، ثم يتركه ويأخذ الآخر، إذا اشتبه عليك أمران، فانظر أقربهما من هواك فاجتنبه.
أحياناً في بعض التصرفات الإنسان قد يشتبه عليه أكلة من الأكلات، هل هذه الأكلة فيها شيء محرم، أم ليس فيها شيء محرم؟ وليس عنده دليل يقطع فيها بأنها محرمة، فهل يأكل، أو لا يأكل؟ ينظر ماذا تميل إليه نفسه، غالباً يجد أن نفسه تميل إلى الأكل، فإذاً يخالف الهوى ولا يأكل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا الشبهات) وغالباً ما تهوى النفس الوقوع في الشبهات، فلذلك لا بد من المخالفة، وهذا من أكبر العلاجات، ويقول ابن الجوزي رحمه الله: تأملت أمراً عجيباً وهو انهيال الابتلاء على المؤمن، وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على فعلها، فقلت: سبحان الله! هاهنا يتبين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين، عندما تقف أمام الهوى أو الشهوة.
كما أرجو -أيها الإخوة- عندما أذكر في كلامي الشهوة، لا يعني شهوة الجنس فقط، لا فقد تكون شهوة المال، وقد تكون شهوة الوقوع في الغيبة والنميمة، وقد تكون شهوة الجور في الحكم بين الأولاد، أو بين الناس، أشياء كثيرة كلها شهوات في الحقيقة، شهوة الجاه والمنصب.
أقول: سبحان الله! هاهنا يبين أثر الإيمان فعلاً عند الوقوف أمام المحك، أمام المنعطف، هنا يبين أثر الإيمان، لا يبين في صلاة ركعتين مثلما يبين في هذا الموقف، والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، تأملوا حاله لو كان وافق هواه، فعلاً، تأمل حال يوسف وفكر لما دعته امرأة العزيز {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] يوسف الآن أمام هذا الموقف، امرأة جميلة وصاحبة منصب وهي سيدة، وهو عبدٌ, وهو غريبٌ عن بلده وشابٌ، وهو أعزبٌ، وقد غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، وسيدها ليس له غيرة، لأنه قال بعد ذلك: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29] ليس للسيد غيرة، وليس هناك أحدٌ يشاهد، واجتمعت دواعي وقوع الفاحشة أمام يوسف عليه السلام مما لا يجتمع مثله بين رجل وامرأة قط، لما حدث هذا الأمر تأمل لو أن يوسف عليه السلام وافق هواه ووقع على تلك المرأة، هل سيصبح نبياً صديقاً؟! ولكن وقوف يوسف عليه السلام في تلك المحنة أمام شهوته هو الذي أوصله إلى ذلك المقام: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].
ولذلك كان سؤال الله الصراط المستقيم في الصلاة أكثر من مرة دائماً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فيه تذكير للإنسان بألا يتبع الهوى، ويسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم: الطريق المستقيم لا طريق الهوى.(66/12)
استطراد في الكلام حول هوى الشهوة والتعلق والعشق
وأنا أتكلم في هذا المقام الآن على نوع من الهوى فهو مهم وخطير، ولا بد من تفتيح العقل على معالجة هذا النوع من الهوى ألا وهو: هوى الشهوة، وهوى العشق، وهوى التعلق بالمخلوقين، هذه المشكلة التي كانت ولا زالت سبباً كبيراً من أسباب انحراف الناس عن شرع الله عز وجل، ومن وقوعهم في حبائل الشيطان.(66/13)
محاربة أعداء الله للمسلمين عن طريق الشهوة
إن أعداء الإسلام لمعرفتهم بخطر هذا النوع من الهوى، صاروا يستخدمونه ضد المسلمين، لذلك تجد اليوم نشر المغريات من أنواع الفساد، وتزيين الشهوات في أعين الناس، وفي عرضها عليهم من أكبر ما يورط الناس في الوقوع في المحرمات، أعداء الإسلام ما كفوا لحظة واحدة عن دراسة الوسائل التي تحرف المسلمين عن الصراط المستقيم، فكان من أقوى هذه الوسائل دواعي الشهوة، واستغلال الغريزة الكامنة في نفوس الناس لحرفهم عن الصراط المستقيم، قال ابن القيم رحمه الله: وإذا أراد النصارى أن ينصروا الأسير -يعني: المسلم- أروه امرأة جميلة، وأمروها أن تقنعه في نفسها، يعني: هي التي تدخل عليه في سجنه، وتقدم له الأكل، وهي التي تنظفه، أو تلبسه ثيابه وهو مأسور، وهو في السجن لا يستطيع مقاومة، وتتلطف وتتودد إليه بالتصرفات والكلمات الجميلة المعسولة، وتطمعه في نفسها، حتى إذا تمكن حبها من قلبه، فعندما يشتاق إليها ويقع في حبائلها، بذلت له نفسها إن ترك دينه، فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] هذه كانت من وسائل النصارى في القديم، فالنصارى من زمان وهم يفعلون ويخططون للمسلمين هذه المخططات، هكذا كانوا يفعلون بأسارى المسلمين، من أي منطلق ينطلقون؟ وأي سبيل يسلكون لكي يصلوا إلى هدفهم في تنصير المسلمين؟ إنهم ينطلقون ويسلكون مسلك الغريزة واستغلال الشهوة، هوى الشهوة في نفس المسلم لكي يوقعوه في حبائلهم، فيصبح نصرانياً مرتداً عن ملة الإسلام وعن دين الله عز وجل.(66/14)
شهوة الجنس مشكلة العصر
وهنا من أكبر الشهوات التي تواجه الناس اليوم قضية شهوة الجنس المتمثلة في ميل الرجال إلى النساء، وميل النساء إلى الرجال، هذه المشكلة -أيها الإخوة- من أكبر المشاكل في قضية الهوى، وكذلك قضية العشق: وهو تعلق القلب بالصور الجميلة سواءً كانت صورة امرأة، أو أمرد حسن، هذه من البلايا والطامات التي ابتلي بها المسلمون، وهي تحدث بكثرة في أوساط المسلمين، رفع إلى ابن عباس وهو بـ عرفة شابٌ قد انتحل حتى عاد لحماً على عظم، فقال ما شأن هذا؟ قالوا: به العشق، فجعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق عامة يومه، لما رأى حال هذا الشاب الذي أدى به العشق إلى هذه الحالة، جعل ابن عباس يستعيذ بالله من العشق من هذه المسألة عامة يومه وهو بـ عرفة.
وقد بلغ بالعشاق عشقهم مبالغ عظيمة من التردي في المهاوي والمهالك، بل إنه أدى بهم إلى الوقوع في سوء الخاتمة والعياذ بالله، قال ابن القيم رحمه الله في كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: يروى أن رجلاً تعلق قلبه برجل، فتعلق به وهواه واشتهاه، وصارت صورة هذا الرجل منطبعة في ذهن هذا الإنسان، ومستغلقةً عليه، حتى أن قلبه قد تعلق به أشد التعلق، فاشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه، حتى وقع من هذا الألم، ولزم الفراش بسببه، وتمنع ذلك الشخص عليه واشتد نفاره عنه، نفر عنه نفرةً شديدةً، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده، فأخبره بذلك الناس، الناس أخبروا هذا الرجل الذي مرض بسبب العشق والعياذ بالله بأن معشوقه سيزوره، فماذا حدث؟ ففرح واشتد فرحه وانجلى غمه، وجعل ينتظره للميعاد الذي يضرب له، فبينما هو كذلك، إذ جاءه الساعي بينهما، فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق، لكنه غير رأيه ورجع، ورغبت إليه وكلمته، فقال: إنه ذكرني وفرح بي، يعني: هذا العاشق ذكرني وفرح بي، ولا أدخل مدخل الريبة، ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته، فأبى وانصرف، فلما سمع البائس أسقط في يده، وعاد إلى أشد مما كان عليه، وبدت عليه علائم الموت، فجعل يقول في تلك الحالة:
أسلم يا راحة العليل ويا شفى المدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
يقول هذا العاشق وهو فيه علائم الموت قد ظهرت:
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
فقلت له: يا فلان اتق الله، قال: قد كان، أي: حصل الذي حصل، فقمت عنه، فما جاوزت داره حتى سمعت صيحة الموت، فعياذاً بالله من سوء العاقبة وشؤم الخاتمة.
هذه قضايا العشق والشهوة، والتعلق بالمخلوقين، وبالصور الجميلة، كلها ناتجة عن اتباع الهوى، وعن إسلاس القياد للنفس، وعن إسلاس النفس لتسير مع شهوتها، ومع متعلقاتها حتى تقع في الهاوية، والذي يتعلق قلبه بشيء -أيها الإخوة- من الصعب أن ينفك عنه، والذي يتراجع في بداية الطريق أسهل بكثير من التراجع وقد مضى شوطاً في الطريق؛ لأنه كلما مضى أكثر كلما تعلق قلبه أكثر، وقد تبدأ العملية في بدايتها في نوع من الإعجاب بتصرفات الشخص الآخر، والإكثار من ذكره وقصصه وسيرته، ولكنها تنتهي في النهاية إلى نوع من التعلق الشديد الذي يطغى على حب الله تعالى، ويصبح إرضاء ذلك الشخص هم العاشق الوحيد الذي تعلق قلبه بمعشوقه، حتى أنه يقدم إرضاء ذلك الشخص على رضا الله تعالى، فيكون قد وقع في شرك المحبة وهو الشرك العظيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] وهذه القضية -أيها الإخوة- فيها من الخطورة شيء عظيم، فإنها تسبب شقاء القلب وكلالته وتعبه حتى أنه ليسقط مريضاً مما ينعكس على الجسد فيمرض كما يقول هذا الشاعر:
فما في الأرض أشقى من محبٍ وإن وجد الهوى حلو المذاقِ
تراه باكياً في كل حينٍ مخافة فرقةٍ أو لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنو حذر الفراقِ
إذا ابتعد عنه بكى شوقاً إليه، وإن اقترب منه خاف على نفسه، فبكى خوف الفراق، ما الذي يسبب وقوع هذا النوع من المشاكل في قلوب بعض الناس؟ إنه القلب الفارغ من محبة الله عز وجل، هو الذي يسبب وقوع هؤلاء الناس في العشق وفي الهوى، قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
الشاهد: الشطر الأخير (فصادف قلباً خالياً فتمكنا) القلب إذا كان معموراً بحب الله عز وجل، والإنابة إليه، والإخبات إليه، والتوكل عليه، ومراقبة الله عز وجل دائماً، هذا القلب الممتلئ بهذه الصفات الإيمانية من أعمال القلوب كيف يدخل فيه تعلق بالمخلوقين؟! كيف يحدث فيه عشقٌ؟! لا يحدث، لذلك لا تحدث هذه المشكلة إلا في قلوب الناس الذين فرغت قلوبهم من محبة الله.(66/15)
القلب إذا لم تشغله بطاعة الله شغلك بمعصيته
والقلب -أيها الإخوة- لا بد أن يشغل بحب شيء، القلوب تهوى وتحب، النفوس تحب، لا بد أن تشغل بحب شيءٍ، فإن لم تشغلها بحب الله تعالى أشغلتك بحب المخلوقين، ونحن لا نتكلم الآن عن الحب الصحيح، أو الحب الشرعي كحب الرجل لزوجته، أو الحب الطبيعي كحب الجائع للطعام، ولكننا نتكلم عن هذا النوع من الحب والعشق المحرم الذي يقع فيه كثير من الناس لداعي الهوى، فقد تقدم أن العبد لا يترك ما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبةً لأقواهما محبة، كما أنه يفعل ما يكرهه لحصول ما محبته أقوى عنده من كراهة ما يفعله، أو لخلاصه من مكروه، هذا كلامٌ دقيقٌ، لأن بعض الناس قد يكون في قلوبهم حبٌ لله، لكن هذا الحب قليل، فيدخل في قلب هذا الرجل حبٌ لشخص آخر، فيطغى هذا الحب على ذلك الحب، وبهذا التفسير نستطيع أن نفهم كيف يقع بعض الناس الذين يسلكون سبيل الطاعة بالتعلق بالمخلوقين؟ وفي عشق الصور الجميلة؟ لأن هذا الرجل الطائع فيه محبة لله، كيف وقع في العشق؟ كيف وقع في التعلق؟ إنه وقع في التعلق بسبب أن محبة الله في قلبه أقل من محبته لذلك الشخص، فطغت محبته لذلك الشخص على محبة الله، فأخرجت محبة الله من قلبه وطردتها طرداً، وأشغلت القلب كله بهذا الشيء، ولذلك كان لا بد من التدقيق في علاج هذه المشاكل، ومن الانتباه لها من بدايتها حتى لا تستفحل، وحتى لا تؤدي إلى ترك طريق الاستقامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(66/16)
كيفية معالجة التعلق والعشق(66/17)
تذكر مناتن المعشوق
فمن الأشياء التي يستطاع أن يتغلب بها على هذا الأمر أمور كثيرة منها: قال ابن مسعود: [إذا أعجبت أحدكم امرأة، فليتذكر مناتنها] مناتنها: جمع منتن، المكان الذي يكون فيه النتن، والوسخ، والقذارة، إذا أعجبت أحدكم امرأة فليتذكر مناتنها، هذا التذكر للمناتن يساعد على التخلص من عشق هذه المرأة، ونفس القضية بالنسبة للمرأة مع الرجل، فتتذكر مناتنه، لأن كل مخلوق من البشر فيه مناتن؛ بول، وعذرة، وعرق، ورائحة كريهة، وبخرٌ يخرج من الفم من جراء هضم الطعام في المعدة، هذه المناتن والقبائح التي تكون في الشخص تذكرها يعين على الخلاص من هذه المشكلة.
ويضرب ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر مثلاً آخر لهذا الموضوع، فيقول: إن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكر في تقلبه في الفم وبلعه، الآن عندما يرى الإنسان طبقاً من الطعام جميل وشهي، ويسيل اللعاب عند رؤية هذا الطعام، الإنسان عندما يأكل الطعام في العادة هل يتذكر هذا الرجل صورة هذا الطعام وهذا اللحم المشوي، أو هذه الفاكهة اللذيذة، أو هذه الخضار الناضجة، هل يتذكر وهو يأكلها في الغالب كيف يكون في فمه وهو يطحن واللعاب يختلط به، وكيف ينزل إلى المعدة فتنزل عليه العصارات، فتشوه شكله بالكلية، إنك لو أكلت أشهى لقمة من لحم مشوي، فمضغتها في فمك، ثم أخرجتها من فمك لأي سبب كيف يكون شكلها؟ تأمل، كيف يكون شكل هذه اللقمة بعد إخراجها من فمك ومضغها.
إذاً تدبر مناتن من تتعلق بهم من الأمور المساعدة على صرف التعلق، وعلى صرف النظر عن هؤلاء الأشخاص؛ لأن لكل أشخاص قبائح، ولكن المشكلة أن كثيراً من الناس يفتنون بظاهر الشخص، لا يعرفون عيوبه الداخلية، فلو قدر لهم معرفة عيوبه الداخلية لما فتنوا به.
فيقول ابن القيم رحمه الله: والداخل في الشيء لا يرى عيوبه، والخارج منه الذي لم يدخل فيه لا يرى عيوبه، ولا يرى عيوبه إلا من دخل فيه ثم خرج منه -الذي يدخل في الشيء، لأن الذي هو داخل فيه لا يرى عيوبه، والشخص الخارج تماماً الذي ما دخل لا يرى عيوبه، من الذي يرى عيوبه؟ الذي دخل ثم خرج، ثم قال جملةً جميلةً- ولهذا كان الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد الكفر خيراً من الذين ولدوا في الإسلام؛ لأنهم عرفوا حلاوة الإسلام لما كانوا في الجاهلية ثم خرجوا إلى الإسلام، فعرفوا بالمقارنة مناتن الجاهلية، وعرفوا حال الشقاء الذي كانوا يعيشونه، فكانت المقارنة، وانتقالهم من تلك الحال إلى هذه الحال من أكبر الأمور التي أعانتهم على التشبث بهذا الإسلام، ومعرفة حلاوته وذوقها، والعيش فيها بأحسن صورة وأجمل حال، وهذا الأمر ليس مطرداً طبعاً، لا يعني أن كل من ولد في الإسلام هو دون من كان في الجاهلية ثم انتقل إلى الإسلام، لكن من الأمور التي تعين على معرفة العيوب أن يكون الإنسان في الشيء ثم يخرج منه إلى الصورة الصحيحة، عند ذلك يعرف الأمر تماماً.(66/18)
أن يعتقد أن هذا ابتلاء من الله
ومن الأمور المساعدة على النجاة من هذا الابتلاء: أن من ابتلي بعشق امرأة، أو امرأة ابتليت بعشق رجل، أو رجل ابتلي بعشق أمرد من الناس، هؤلاء الناس يجب عليهم أمور: الأمر الأول: أن يعتقد بأن هذا ابتلاء من الله عز وجل، قد ابتلاه به ليعلم أيصبر أو لا يصبر؟ أيجاهد أو لا يجاهد؟ فإذا علم أن هذا ابتلاء، فإنه يسهل عليه.(66/19)
الإقبال على الله والفرار إليه
الأمر الثاني: هذا الابتلاء يدفع إلى التعلق والفرار إلى الله عز وجل، وطلب الخلاص منه، والدعاء، والإقبال عليه بحرارة.(66/20)
الابتعاد عن مصدر الفتنة
الأمر الثالث: الابتعاد عن مصدر الفتنة، وهذا أمرٌ مهمٌ -أيها الإخوة- لدرجة أن بعض العلماء قالوا في علاج مثل هذه الحالات المشكلة: أن يبتعد الشخصان عن بعضهما حتى لا يرى أحدهما الآخر، ولا يسمع له خبراً، ولا يقف له على أثر، وإن كان في حي هو معه فيه، فإنه ينتقل إلى حي آخر، وإذا لم ينته الأمر بهذا، فإنه يترك بلده للبلد الآخر، فإن هذه الهجرة في سبيل الله، ولكن من استعان بالله قد لا يضطر إلى اللجوء إلى هذه الحلول، أما إذا تضايقت الأمور، ولم يتمكن الإنسان من علاج نفسه إلا بالمفارقة الكلية، فلا بد من فعلها والإقدام عليها.
وكذلك التعلق بالله عز وجل، وازدياد الأمور التي تحبب هذا الإنسان بالله تعالى تطرد حب هذه الأشياء إلى الخارج، أنت عندما تحب امرأة، أو تتعلق بإنسان ما، ثم بعد ذلك تسلك السبل التي تزيد محبة الله في نفسك من فعل الطاعات، والإكثار من النوافل، وقراءة القرآن، وتعلم العلم النافع، والاشتغال بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هذه الأمور -أيها الإخوة- تساعد في طرد محبة هذا الشخص سواءً كان رجلاً أو امرأةً من هذا القلب الذي مرض به، وتدبر معايب المتعلق به كما ذكرنا، وإشغال الذهن بالمفيد، فإن كثيراً من الناس الذين ابتلوا بما يسمونه الحب أو العشق يشغلون أذهانهم ليلاً ونهاراً، ولذلك -وهذه من المصائب للأسف في هذا العصر- ترى شعرهم الذي يكتبونه كله في هذه القضية، إذا فتحت صفحات جرائد ومجلات كثيرة، تجدها ممتلئة تماماً بهذه القصائد التي فيها مخاطبة الحبيب والحبيبة، لماذا؟ لأن العشق تمكن من قلوبهم حتى صاروا يصدرون أشعاراً تعبر عن مواقفهم تجاه هذه الأمور المحرمة، فاشتغل ذهنه بهذا الأمر، فصار يصدر أشعاراً تعبر عن ما في قلبه، ولو أنهم أشغلوا أذهانهم بالأشياء المفيدة كطلب العلم، والتفكر في الأمور التي تدل على الله عز وجل، وخشية الله عز وجل، فلو شغل الإنسان نفسه بمشاكل الدعوة إلى الله عز وجل، لما وقع في هذه المشاكل مطلقاً.(66/21)
أن يعلي همته ويتدبر قصة يوسف
وكذلك أن يعلي الإنسان همته، فيحاول أن يصل إلى معالي الأمور، وليس سفسافها وحقيرها.
وكذلك تدبر قصة يوسف عليه السلام، لأنها من أنفع الأشياء، حتى قال ابن القيم رحمه الله: وفي هذه القصة نحواً من ألف فائدة، ولعل الله أن يعينني لإفرادها بمصنفٍ مستقلٍ، يقول ابن القيم في الجواب الكافي: ألف فائدة.
وكذلك البعد عن أسباب الفتنة، وكتمان العاطفة، فإنه من الحزن كتمان العاطفة.(66/22)
ومن علاج الهوى التجرد الحقيقي لله عز وجل
وبعد هذا النوع من الاستطراد في هذه المشكلة التي قد تقع أحياناً، فإننا نعاود الكلام في النقطة الأخيرة في هذا الموضوع عن الحل الأساسي في علاج الهوى: وهو التجرد.
التجرد لله عز وجل من العلائق الدنيوية، التجرد من حظوظ النفس ومن شهواتها، فنحن عندما ذكرنا أمثلة في المرة الماضية نعيد سردها مع عرض جانب التجرد فيها، عندما ينتقد الإنسان، وتوجه إليه النصيحة، يجب عليك يا أخي المسلم وعليَّ أنا أيضاً أن أقف موقف المتجرد عندما توجه لي النصيحة، وأفكر هل هذا الأمر الذي نصحت فيه فعلاً أنا واقعٌ فيه، أم لا؟ لا داعي لأن أكابر، وأن أرد، وأن أقول للآخر: من أنت حتى تنصحني؟ هذا من اتباع الهوى الذي يحملك على أن تربأ وتنأى بنفسك عن كل انتقاد وعن كل نصيحة، لأن حظ النفس وهوى النفس ألا تنتقد، فتجرد عندما توجه إليك النصيحة، عندما تقرر بخطأ ما، تناقش هل أنت أخطأت في هذا الأمر أم لم تخطئ؟ تجرد لله عز وجل وأنت تقرر بهذا الخطأ، تجرد لله عز وجل إن كان الأمر فيه اعتراف بالخطأ، ولا داعي للمكابرة، ومحاولة إيجاد التبريرات والأعذار السقيمة التي تجعلك تشعر أنك بمنأى عن الخطأ وأنك لم تقع فيه، وهذه بلية قد ابتلي فيها كثير من الناس، فإنهم إذا وقعوا في أخطاء، وجاءوا يناقشون ويقررون بأخطائهم، يرفضون الاعتراف.
إنه من جانب الهوى، تجرد وتفكر، تجرد لله عز وجل، قل: أنا أخطأت، قولك: إنني مخطئ يزيدك في أعين الناس جلالةً وقدراً، خلاف ما يصور لك الشيطان، وما يصور لك اتباع الهوى من أنه ينقصك ويدني منزلتك، كلا، إن كثيراً من السلف من الأسباب التي وصلوا إليها أنهم كانوا معترفين بأخطائهم، عمر بن الخطاب كان يقف على المنبر، ويعلن أمام الناس أنه مخطئ، ولذلك شهد التاريخ لنا بعظمة عمر؛ لأنه كان من جوانب عظمته أنه كان يقر بخطئه وهو خليفة المسلمين، الرجل الذي يجب أن يظهر أمام الناس بأحسن صورة، حتى لا يقول الناس أخطأ الخليفة، من هذا الرجل المولى علينا، كيف نمشي وراءه ونقتدي به، مع ذلك كان إذا قرر على خطئه أقر، وترى اليوم أناساً مغمورين في أبواب الدعوة إلى الله ينكرون أدنى خطأ ينسب إليهم؛ بسبب الهوى الحامل لهم على التعصب الذي يعمي أبصارهم عن رؤية أخطائهم وعن الاعتراف فيها.
إن هذه المسألة من الخطورة بمكان -أيها الإخوة- لأنها تقضي على كل محاولة للتصحيح، لأن التصحيح ينشأ من الاعتراف بالخطأ، أنت إذا أقررت بالخطأ بدأت تسلك الطريق الصحيح، أما إذا أنكرت وكابرت، وقلت: أنا غير مخطئ، فلن تصحح مطلقاً، هذه من البلايا التي ابتلي بها كثيرٌ من المسلمين اليوم.
تجرد إلى الله من هذا الهوى، وراقب الله، وكف بصرك، وكذلك وأنت تحاول ونفسك تحاول أن تتملص من بعض الأحكام الشرعية تجرد إلى الله، وحاسب نفسك، وقل: هل أنا في تملصي هذا على حق، أم أنني مخطئ، ويجب أن أتمسك بهذه الأحكام؟ وأنت تتعامل مع إخوانك تجرد إلى الله من الأهواء، تجرد إلى الله من هوى الجور بينهم، فإن كثيراً من الناس يجورون في الحكم بين إخوانهم.
تجرد إلى الله من هوى الميل إلى بعضهم على حساب بعض، ورفع أناس لا يستحقون الرفعة، وخفض آخرين هم أهل لها بسبب الهوى الذي يحملك على تقديم فلان من الناس، لا لأنه أتقى لله وأعلم، وإنما لأنه أظرف، أو أجمل صورة، أو أخف دماً مثلاً، هذه المعايير الجاهلية التي يسلكها كثيرٌ من الناس في تقدير منازل العالم كلها من باب الهوى.
تجرد إلى الله وأنت تقيم الأشخاص، تجرد إلى الله وأنت تعدد مساوئهم ومحاسنهم، حبك الشيء يعمي ويصم، كثيرٌ من الناس إذا طلب منه مثلاً شهادةً في فلان من الناس، فتراه يخفضه ويرفعه من مقياس الهوى، لا من المقياس الشرعي الصحيح، وهذه من الطامات التي تسبب محق البركة في العلم.
وكذلك تجرد من الهوى وأنت مع إخوانك عندما تعاملهم، فأنت قد تغلظ على إنسان في القول، أو في الفعل، لأنه لا يوافق مزاجك، ولا طريقة تفكيرك، بينما أنت تحسن إلى فلان، وقد يكون أقل تقوىً، وأقل علماً من ذلك الرجل لمجرد أنه دخل في مزاجك، أو استهويت شخصيته.
وتجرد إلى الله عز وجل، والهوى يغالبك في عدم القيام لصلاة الفجر، ويجعلك تشد إلى الفراش لتريح جسدك أكثر وتنام أكثر.
وتتجرد المرأة لله تعالى، تتجرد لله تعالى وتقاوم هواها وهي تحكم بين أولادها.
ويتجرد الإنسان إلى الله عز وجل من هوى الفوضى الذي يحمله على عدم ضبط مواعيده، وعلى عدم الانضباط في طلب العلم والإقبال على مائدة القرآن والسنة.
تجرد إلى الله، بعض الناس يأتيه الهوى، فيقول: أنا أستطيع أن أتعلم لوحدي، أنا أستطيع أن أمشي لوحدي، وهذا في نفسه هوى الفوضوية هو الذي يعمي عينيه عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية).
تجرد إلى الله من هوى المشاركة في المجالات التي كلها لهو ولعب.
وتجرد إلى الله عز وجل من هوى الزواج بالجميلة حتى ولو كانت أقلَّ ديناً، أو حتى لو لم تكن ذات دين.
تجرد إلى الله عز وجل وأنت تقرأ الكتب.
تجرد إلى الله عز وجل في قراءة الكتب الصحيحة النافعة، وليس في قراءة الروايات والقصص التي تهواها النفس وتميل إليها.
وتجرد إلى الله عز وجل يا أخي الطالب وأنت تدرس، وقدم دينك وخدمة دعوة نبيك على كل غرض دنيوي، ووازن بين الأمور، لا يطغى جانبٌ على جانب، الموازنة الوسطية هي من صفات هذه الأمة، الوسطية (لا ضرر ولا ضرار) لا تتضرر في خدمة قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا في خدمة طلب العلم، ولا في خدمة الدراسة، وازن بين الأمور، لا يحملك الهوى على الانقطاع عن جانب والانغماس تماماً في الجانب الآخر.
تجرد إلى الله تماماً يا أخي الموظف وأنت في دائرة عملك، وتعايش كثيراً من المنكرات، ويأتيك الهوى، فيقول لك: من المصلحة أن تسكت، فإنك إذا تكلمت قد تطرد من العمل، وقد تضايق.
تجرد إلى الله وأنت تعرض عليك الوظيفة في مكان من الأماكن المحرمة، تجرد إلى الله وهوى نفسك يدفعك إلى أن تقبل بها، لأنها أكثر راتباً، أو أعلى منصباً.
تجرد إلى الله عز وجل في موقفك من الأقوال والأحكام الفقهية، في موقفك من العلماء، بعض الناس يتعصبون لعلماء على آخرين، ولمذاهب على مذاهب، هذا النوع من اتباع الهوى خطير، ويؤدي إلى الضلال، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] فالهوى يجعلك تبخس فلاناً حقه، وفلاناً جميله، وتنكر فضل فلان عليك، لا، تجرد إلى الله من هذا الهوى، أقر بفضل فلان وفلان من أهل الفضل، ولا تتعصب لعالم على آخر، اتبع الحق بدليله، لا تتبع هواك في انتقاء الأحكام.
فإذاً، أيها الإخوة! قضية التجرد ليست سهلة، لكن الذي يجاهد نفسه في سبيل الله، فلا بد أن يهديه الله السبل التي يستطيع بها أن يصل إلى مبتغاه.
أظن أن فيما ذكرنا كفاية، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من هذا.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم لاتباع الحق.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيينا حياة طيبةً، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله أولاً وآخراً، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم رحمة الله وبركاته.(66/23)
حق العالم على المسلم
العلماء هم أهل خشية الله، وهم ورثة الأنبياء، وحملة الحق من بعدهم، لحومهم مسمومة، وعادة الله فيمن تنقَّصَهم معلومة.
للعلماء صفات يعرفون بها، أوردتها هذه المادة، بالإضافة إلى موضوعها الأساس في بيان حقوق العلماء على الناس، ومكانة العلماء الحقيقية في المجتمع.(67/1)
منزلة العلماء عند ربهم
الحمد لله العالم ما في السماوات وما في الأرض، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم، وقال له في محكم التنزيل: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113]، وأمر الله نبيه بالاستزادة من شيء واحد لم يأمره بالاستزادة من غيره، فقال جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن آثارهم على الناس، وما أقبح آثار الناس عليهم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ولما قال الله جل وعلا في الكتاب العزيز: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء:59] قال علماؤنا في التفسير: المراد بأولي الأمر: بها العلماء العاملون، الذين يعلمون الوحي ويعملون به ويعلمونه للناس، وأشهد الله العلماء على أعظم حقيقة في هذا الكون، وفضَّلهم بالشهادة عليها على الملائكة، فقال الله جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] هذه أعظم حقيقة أيها الإخوة، من أشهد الله عليها؟ أولو العلم، ونفى الله المساواة بين العلماء والجهال، فقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].(67/2)
خطر غيبة العلماء أو انتقاصهم
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في بيان فضل العلماء وخطر شأنهم: واعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالسلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] فالذي يغتاب العلماء إنما يأكل لحماً مسموماً.
وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، إذ أن هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم أولياء الله جل وعلا، فإذا لم ينتقم من أعداء هؤلاء العلماء فممن ينتقم؟! وقد أخبر أن من أسمائه المنتقم.
فهؤلاء العلماء -أيها الإخوة- هم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، والأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم وارثو علم الأنبياء.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فشهد لهم بأنهم هم الذين يخشونه حق الخشية، علماؤنا -أيها الإخوة- من السلف والخلف الملجأ إليهم بعد الله عند نزول الملمات، عند حلول الكربات، هم الذين يفرجون عن عباد الله ظلمات الجاهلية، ويرفعون عن الناس ظلمات الجهل، إليهم الملجأ بعد الله إذا اشتد الخطب في الأمة.(67/3)
فضل العلماء في التصدي للفتن
ولذلك -أيها الإخوة- كان لعلمائنا الأجلاء فضل عظيم في الوقوف أمام ظلمات الفتن والأهواء والبدع، فهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى قام في وقت عصيب قد طغت فيه البدعة على السنة، عقد المبتدعة ألوية بدعتهم وقاموا فيها وأعلنوها واستعلنوا بها، فمن الذي رد الناس كلهم إلى الحق مثل الإمام أحمد.
وعندما غزا التتر بلاد الإسلام وولغوا في دماء المسلمين، من الذي أنقذ الله الأمة على يديه؟ إنه مجدد الأمة في عصره الإمام ابن تيمية رحمه الله، فالعالم -أيها الإخوة- في البلد كمثل عين عذبة يرتوي منها كل الناس، وكان علماؤنا في الماضي لهم مكانة عظيمة، وكانت مجالسهم في مدن المسلمين مشهورة مزدحمة، فهذا مجلس عاصم بن علي شيخ البخاري كان يحضره ما يزيد على سبعين ألف إنسان، وكان من ضخامته أنه يكون فيه أناس يسمعون غيرهم، لأن هؤلاء السبعين ألفاً كانوا لا يستطيعون كلهم السماع مباشرة.(67/4)
صفات العلماء التي يعرفون بها
أخرج ابن كثير في كتابه البداية والنهاية أن أبا محمد البربهاري الحنبلي، عطس يوماً وهو يعظ في مجلس الوعظ الضخم فشمته الحاضرون، ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد، فانتهت الضجة إلى دار الخلافة، هؤلاء العلماء -أيها الإخوة- لهم صفات لا بد من معرفتها حتى نعلم من هو العالم الذي تجب طاعته؟ ومن هو العالم الذي يجب الاقتداء به؟ ومن هو العالم الذي نلجأ إليه بعد الله إذا نزل بالبلاد والعباد الكرب وعمت الأهواء؟ ليس أي أحد يلجأ إليه في مثل هذه الأمور، وقد صنف علماؤنا في بيان صفات أهل العلم مصنفات عديدة وليس هذا الدرس مكاناً لذكر صفات العلماء بالتفصيل ولكن نعرج عليها بسرعة:(67/5)
صفات العلماء المتعلقة بالعلم والعمل
أولاً: لا بد أن يكون العالم ذو علم صحيح، مستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، وأن يكون له عموم اطلاع على أقوال أهل العلم المعتبرين، ولا بد أن يكون مخلصاً لله جل وعلا، لا يرجو في إبلاغ علمه للناس جزاءً ولا شكوراً، إلا رضا الله جل وعلا، وكذلك سنَّ علماؤنا نهجاً واضحاً في التخفف من الدنيا والابتعاد عن إذلال النفس وإهانتها، في سبيل تحصيل فضول العيش، وكانوا لا يستنكفون عن القيام بأي عمل يدوي مهما كان حتى يعيشوا من ورائه، وكانت لهم صفة مهمة، كذلك كانوا ملتصقين بالناس ما كانوا يعيشون في كهوف أو تحت الأرض، أوفي الظلام، أو وراء الكواليس لا يدري عنهم أحد ولا يسمع بهم أحد، بل كانوا يظهرون إلى الناس، ويعايشون مشكلات المجتمع ويفتون في المواقف التي تنزل بالمسلمين، لم يكونوا بمعزل عن الحياة كانوا يخالطون الناس في مساجدهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، ولذلك نجحوا في علاج مشكلات الناس، وكان لهم وزن في المجتمع، ولذا حاول الاستعمار أو الاستخراب عندما دخل بلاد المسلمين، كان من أول أهدافه: عزل العلماء عن الأمة؛ لأنهم شعروا بخطر القضية.
وكذلك من صفات العلماء العمل بالعلم، فإن الله ذم اليهود؛ فقال جلَّ وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] العالم من اليهود {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ولذلك كان علماؤنا يحرصون على العمل بالعلم، فهذا الإمام أحمد كان يحرص على ألا يدع حديثاً في مسنده الذي كان مسنداً ضخماً بلغت أحاديثه تقريباً أربعين ألف حديث كان لا يضع حديثاً حتى يعمل به ولو مرة واحدة، وقال عن نفسه: احتجمت فأعطيت الحجام ديناراً؛ لأنه ثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً.
وكانت محبتهم للظهور معدومة، ما كانوا يحبون الظهور بمعنى: المراءاة والتباهي بالعلم، إذا غابوا لم يفتقدوا، كانوا بعيدين عن الأضواء، والمقصود بالأضواء ليس مخالطة الناس، وإنما مجتمعات الثناء والتكريم مجتمعات الأعطيات والأموال والهدايا الثمينة كانوا يبتعدون عنها.
وكانوا يتصفون بصحة العقيدة، فإذاً العالم الحق هو الذي يكون صحيح العقيدة، ولا يشترط أن يكون العالم مجتهداً ملماً في جميع الأمور؛ بل قد يكون العالم مختصاً بنوع من أنواع العلوم، ومع ذلك يعتبر عالماً.(67/6)
موقف العلماء من بعضهم بعضاً
كذلك يا إخواني موقف العلماء بعضهم من بعض يدل على صفات عظيمة يجب أن تكون في العلماء، فثناء بعضهم على بعض كان صفة لازمة للمخلصين منهم، كانوا يثنون على بعضهم في المجالس وفي حلقات العلم، وكان اللاحق منهم يترحم على السابق إذا ذكر فائدة أخذها عنه، وكانوا يستفيدون من كتب بعضهم، وكان يحضر بعضهم مجالس بعض، ما كانوا متكبرين ولا متعالين، ومع أن بعضهم قد يكون حدث بينه وبين بعض العلماء أشياء ولكنهم كانوا رجاعين إلى الحق.
هذا شيخ الهند في عصره وعالمها الإمام صديق حسن خان، كان بينه وبين عبد الحي اللكنوي، منافسات شديدة، فلما توفي اللكنوي تأسف صديق خان بموته تأسفاً شديداً، وما أكل الطعام في تلك الليلة، وقال حفيده: إنه أمر بإغلاق مدينة بهوبال التي هو ملكها؛ لأنه كان ملكاً عالماً ثلاثة أيام حزناً على الشيخ أبي الحسنات اللكنوي، وقال: اليوم مات ذوق العلم.
وقال: ما كان بيننا من منافسات إنما كان للوقوف على المزيد من العمل والتحقيق.
وهذا شيخنا العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لا يكاد يجد فرصة يذكر فيها أحد علماء العصر إلا ويثني عليه، تواضعاً منه وما حباه الله به من هذه الصفة العظيمة، فتراه مثلاً يقول عن محدث العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، يقول: لا أعلم تحت أديم السماء رجلاً أعلم منه بالحديث، ولا أشد اشتغالاً ولا تفرغاً ولا عناية به من أحد من أهل العلم بالحديث، وهذا كلام سمعته منه بنفسي، وقد نفى أنه قال: ليس تحت أديم السماء أعلم من الألباني بالحديث، قال: أنا لا أقول بهذا، أنا أقول: لا أعلم شخصياً، يقول الشيخ: لأن الإحاطة لله جل وعلا.
ويثني على الشيخ الشنقيطي رحمه الله، ويثني على الشيخ ابن عثيمين في المجالس، وعلى الشيخ الفوزان وبقية العلماء.
التواضع صفة لازمة، قال الله جل وعلا {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] ولذلك كانوا يكثرون من قولة: لا أدري، إذا سئلوا عن مسألة لا يعلمونها، يقول أحدهم: لا أدري، وكان لا يستحون من ذكر هذه الكلمة، بل إن ذكرها أيها الإخوة دليل اطمئنان وارتياح للعالم الذي يقولها، لأنك تثق من كلامه عندما يقول في المسألة: لا أدري، لا يزعم الإحاطة والعلم بالأمور ويفتي بغير علم.
وقد سألته مرة حفظه الله: هل الغيرة من الحسد أم لا؟ فلبث ملياً متفكراً، ثم قال: لا أدري، قد يقول قائل: هذه مسألة لا علاقة لها بالفقه وليس فيها أحكام، ولكن فيها درس لكل عالم ولكل طالب علم بالتورع عن القول بما لا يدري، وعن الوقوف ولا ينزل من شأنه أن يقول: لا أدري، وهذا الإمام مالك سئل عن ثمانية وأربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين منها: لا أدري، فقال له السائل: ماذا أقول للناس إذا رجعت إليهم قال: قل لهم: يقول مالك: لا أدري.(67/7)
رجوع العلماء إلى الحق وعدم اتباع الأهواء
ومن صفاتهم كذلك: الرجوع إلى الحق وعدم اتباع الهوى، ومن صفاتهم: الخشية، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وبعض الناس تجد عنده علماً لكن ليس لديه خوف من الله جل وعلا ولا خشية، ولذلك قد لا يعمل بعلمه، وقد يفتي بالهوى ويتبع الشهوات والآراء، وهذا حال كثير من المتعالمين الذين يدعون العلم لا تجد عند كثير منهم الخشية، وهي صفة مهمة من صفات العالم، وكان علماؤنا في مرحلة الطلب يحرصون على اختبار مشايخهم قبل الأخذ عنه، يبتلي العالم هل هو الرجل المطلوب أم لا؟ احتياطاً في الدين وورعاً في الأخذ، ما كانوا يأخذون عن أي أحد، وقد جاء في ترجمة أبي نعيم الفضل بن دكين، أن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل أتيا يريدان أن يسمعا حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومعهما ولد صغير فعندما أتيا قال يحيى بن معين لـ أحمد بن حنبل: نختبر الرجل قبل أن نأخذ عنه، فقال أحمد بن حنبل: الرجل فذ لا يحتاج إلى اختبار، قال: ما نعلم عن حاله بل لابد أن نختبره، فقرأ عليه يحيى بن معين أحاديث ويزيد مع كل عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، أي: يحيى بن معين كان يحفظ من أحاديث أبي نعيم، فجاء يسأل أبا نعيم يقول له: هل هذه الأحاديث أنت رويتها؟ فيأتي بعشرة أحاديث ثم يأتي على رأس العشرة بحديث ليس من أحاديث أبي نعيم، اختباراً له، وقرأ عليه ثلاثين حديثاً، وبعد أن انتهت الأحاديث قال أبو نعيم الفضل بن دكين: أما هذا الغلام فصغير، وأما أحمد بن حنبل فأورع من أن يفعل هذا، والذي فعل هذا أنت، أي أنه فطن لها، فأخذ رجله وجعل يرفس يحيى بن معين حتى قلبه على قفاه، فقال أحمد بعد أن انتهت القضية، ألم أقل لك: إن الرجل فذ! قال يحيى: والله إن رفسته أحب إلي من كذا وكذا.
فكانوا يختبرون علماءهم قبل أن يأخذوا عنهم، قال البخاري رحمه الله تعالى في أول كتاب الفرائض من صحيحه: قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: [تعلموا قبل الظانين] قال البخاري: أي قبل الذين يتكلمون بالظن، قال النووي في مقدمة المجموع ما معناه: تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين قبل ذهابه ومجيء أقوام يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي.
لذلك لا بد من الحرص على لقاء العلماء قبل أن يذهبوا، والعالم إذا مات انثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا مجيء عالم مثله.(67/8)
حرص العلماء على الأدلة
من صفات العلماء: الحرص على المسائل بأدلتها، وعلى أن يكون موردهم نبع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح، لذلك إذا رأيت العالم يقول: قال فلان قال فلان، فقط، فاعلم أنه ليس بعالم، أو الذي يحفظ قول المذهب فقط من غير أدلة، فليس بعالم.
قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله وأمد في عمره: والعلماء الذين يصح أن يقال عنهم علماء هم الذين تفقهوا في الإيمان وأخذوا علمهم من الكتاب والسنة وليس العالم هو المقلد لفلان أو فلان، أو الذي يعرف مختصراً من المختصرات، أو كتاباً من الكتب فيقلد، ولا يدري عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ عبد العزيز: فهذا لا يعد من العلماء بإجماع أهل العلم، وقال في موضع آخر في مناسبة أخرى: ليس العالم من حفظ متخصر خليل أو زاد المستقنع، العالم من ورد حوض الكتاب والسنة فنهل منهما.(67/9)
أربعة لا يؤخذ العلم عنهم
قال الإمام مالك في وصف العلماء المعتبرين: لا تأخذوا العلم عن أربعة وخذوا العلم ممن سواهم، لا يؤخذ من سفيه معلوم بالسفه، وإن كان أروى الناس -أي: أكثر الناس رواية- ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من شيخ له عبادة وفضل إذا كان لا يعرف الحديث.
هذا الأخير نوع مهم من الواجب معرفته، صاحب العبادة التقي الورع الذي يداوم على الصلاة والصيام، حاله على الرأس والعين، لكن إذا جئنا إلى قضية الأخذ لا نأخذ منه، فرق بين العابد والعالم، العلم لا يؤخذ عن العباد ولكن يؤخذ عن العلماء، وكثير من الناس يغترون بشخصيات من هذا القبيل، فيبدو على رجل ما سمات الصلاح والتقوى، فيأتي إليه أخونا هذا فيسأله وليس هو بمحل للسؤال، ولذلك يقول الإمام مالك في كلام مشهور: من شيوخي من أستسقي بهم -أي: أطلب منهم أن يدعوا الله بالسقيا- لأني أظن أن دعاءهم مستجاب، ولكني لا آخذ حديثهم.
فالورع والصلاح شيء والعلم الشرعي شيء آخر، أقصد شيئاً آخر في معرفة ممن يتلقى، لكني لا أعني التفرقة بينهما بحيث أن العالم لا يشترط فيه أن يكون صالحاً ولا ورعاً ولا زاهداً، بل سبق الكلام أنه لا بد أن يكون كذلك.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: ما حكم الأخذ عن فاسق؟ فقال: ينبغي أن يتحرى الصالحين الطيبين، وإن وجد فائدة عن فاسق أو حتى كافر لا يردها بل يأخذها، فإن الحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.
المقصود بالفائدة: أي فائدة صحيحة، لكن هذا لا يعني أن نأخذ العلم عن المبتدعة وأهل الأهواء، كلا وحاشا، وإذا اجتمع اثنان فأكثر فيجب على الإنسان الاجتهاد في أعلمهم، والبحث عن الأعلم والأورع والأوثق ليقلده إن كان لا يحسن البحث في كتب أهل العلم، ولا سؤال العلماء ومعرفة الأدلة.(67/10)
الاغترار بطلبة العلم المبتدئين
من هذا -أيها الإخوة- نعلم بأن هناك قضية خطيرة منتشرة بين الناس اليوم وهي الاغترار بطلبة العلم الصغار، نظراً لقلة العلماء في هذا الزمان وندرتهم صار كثير من طلبة العلم يبرزون أحياناً بقصد منهم أو بغير قصد، فلا بد من التنبه إلى هذه المسألة، صغار طلبة العلم لا يُسألون، ولا يستفتون أقصد: لا يُعطى لهم مجال للاجتهاد؛ لأنهم ليسوا هم محل الاجتهاد، ومن أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر، فلا يغتر بمثل حال هؤلاء في طلب الفتوى والاجتهاد.
يقول الذهبي رحمه الله تعالى في السير: الفقيه المبتدئ والعامي الذي يحفظ القرآن أو كثيراً من السنة لا يسوغ له الاجتهاد أبداً، فكيف يجتهد؟ وما الذي يقول؟ وعلام يبني؟ أي: يبني اجتهاد الفتوى على ماذا؟ ماذا عنده أصلاً؟ وكيف يطير ولما يريش؟ الطائر الذي لم ينبت له ريش هل يطير؟ فكيف يطير هذا ولما يريش، والريش هو أدوات الفتوى والاجتهاد؟ فإن قال قائل: فما وظيفة طلبة العلم إذاً؟ هل طلبة العلم لا نأخذ عنهم وليس لهم مكانة بيننا؟ كلا.
فإن لطبلة العلم دوراً مهماً جداً في المجتمع، نظراً لقلة العلماء وعدم تيسر البحث والاتصال بهم في كثير من الأحيان أو الوصول إليهم، خصوصاً لغير العالمين بأحوالهم، فإن طلبة العلم عليهم واجب عظيم ألا وهو تبليغ الناس أقوال أهل العلم وفتاويهم.
هم الجسور والقنوات التي تصل بها المعلومات من أهل العلم إلى الناس؛ لأن كثيراً من الناس لا يتصلون بالعلماء ولا يسمعونهم؛ إما لضعف أو هوى أو عدم مقدرة على ذلك، أو جهل بقيمة العالم وهو الغالب، فيبحث عن أي شخص ويسأله، وهذا ما يفعله جهلة الحجاج، تجدهم عندما تعرض لهم مسألة في الحج يستوقف أي رجل عنده لحية ويسأله، يظن أنه يعلم: ما حكم كذا؟ وبعض الجهلة من هؤلاء إذا سئل وهو لا يدري يفتي بغير علم، فيضل ويضل.(67/11)
خطورة ظاهرة التعالم وكيفية الوقاية منها
هناك ظاهرة خطيرة لا بد أن يفرد لها مجالات للنقاش وهي ظاهرة التعالم، ظهور أناس على السطح ليسوا بعلماء يدعون العلم فيضلون الناس، وينشرون الكتب ويقيمون المحاضرات في الفتاوي ويقررون أشياء خطيرة، في مسائل مهمة واقعية للناس في هذا العصر ولشيخنا بكر بن عبد الله أبو زيد رسالة مهمة سوف تظهر إن شاء الله عن ظاهرة التعالم وأثرها السيئ في العالم الإسلامي، لذلك أيها الإخوة كان لا بد من سؤال أهل الاختصاص.
العلماء الآن ليسوا على مرتبة واحدة في جميع درجات وأنواع العلوم، فبعضهم يحسن شيئاً لا يحسنه الآخرون، ويفقه في أشياء من العلم لا يفقه فيها العالم الآخر مثله، لذلك دع كل صانع وصنعته، لا بد من اللجوء إلى أهل الاختصاص، فعندما يكون عندك حديثاً لا تعرف حاله اذهب للعالم بالحديث واسأله عنه، ولا بد إن كان في مسألة فقهية تحتاج إلى فقه اذهب إلى رجل مشهور بالفقه واسأله، وإن كان هناك مسألة أصولية اذهب لأهل الاختصاص في الأصول واسألهم، وإن كان هناك مسألة تتعلق بالواقع المعاصر والمذاهب الهدامة، فاذهب إلى العالمين بقضية المذاهب الهدامة وخطرها على الناس، أو ما يتعلق بالواقع المعاصر واسألهم، فليس كل أحد يجيد أي شيء، وهذا واضح، هذا الكلام الذي أقوله ليس بدعاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم دل في كلامه على بعض أحوال الصحابة في أشياء تشبه هذا، فمن قوله مثلاً: قال: (أرأف أمتي بأمتي أبي بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان -إلى أن قال- وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرأهم أبي بن كعب، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) لذلك يسبق العلماء برتوة يوم القيامة، رمية سهم.
فالصحابة كان عندهم تخصص، فمنهم من برع بالفرائض، ومنهم من برع بالحلال والحرام، ومنهم من برع بالقضاء والفصل في الخصومات بين الناس، ومنهم من برع بعلم القراءات، فلا بد من الذهاب إلى أهل الاختصاص قدر الإمكان.(67/12)
واجب الأمة نحو علمائها
من واجبنا نحو العلماء بالإضافة للذهاب لأهل الاختصاص منهم، نقل الأخبار إليهم، فنذهب إلى المخلصين منهم فنوعيهم بالأمور التي قد لا يدرون عنها، فقد تصدر في المجلات أو الجرائد أو الكتب أشياء قد لا يكون عند العالم الوقت الكافي ليطلع عليها فينقدها أو يبين خطأها أو عوارها، فعند ذلك قد يكون مشغولاً بالقضاء أو بالتعلم، أو التعليم أو قد يكون عاجزاً أو مقعداً أو قليل الحركة أو فيه شيخوخة، أو لا يستطيع الذهاب إلى الأسواق ومعرفة ما نزل من الكتب، لا بد لطلبة العلم أن يذهبوا إلى العلماء ويخبروهم بالأشياء المستجدة وبالقضايا المعاصرة حتى يكون العالم على علم بها، فهؤلاء الطلبة هم بمثابة أدوات الحس للعالم التي يحس بها.
ومرة سئل الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله تعالى عن هذه الورقة التي ظهرت بين الناس، وموجودة هذه الأيام بكثرة ورقة المحاسبة، هل صليت الفجر في جماعة؟ هل اتبعت جنازة؟ هل زرت مريضاً؟ هل كذا؟ وتضع صح أو خطأ، وبعد ذلك تجمع العلامات وتنظر أنت في أي حالة؟ فأجاب بأن هذه الورقة بدعة، وأن السلف ما كان هذا حالهم في المحاسبة، وقال: والعجيب أن من كتب هذه الورقة صدرها بآية {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] فقال هل هذه الآية نزلت في زمن بعد الصحابة والسلف؟ كلا.
هل نحن نعلم بها أكثر من الصحابة؟ كلا.
فإذاً لماذا لم يفعل السلف هذه القضية؟ قال: ما كانت هذه هي طريقة السلف، وأجاب عن أشياء في نقد هذه الورقة، ثم قال معقباً: وما أحسن ما يأتي به أحد الناس إلى العلماء بمثل هذه الأشياء فيطلعهم عليها، ويقول: ما رأيكم فيها؟ ما رأيكم في مثل هذه الأشياء ومثل هذه الرسائل ومثل هذه الأوراق؟ تشيع بين الناس وتنتشر مثل الوصية المزعومة المكذوبة المنتشرة في هذه الأيام لخادم الحرم النبوي، بأنه من لم يصورها ولم يطبعها يحصل له من المصائب كذا وكذا، وللشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة خاصة في نقد هذه الرسالة والرد وتأثيم من ينشرها بين الناس، وبيان كذب ما يوجد فيه.
المقصود: هو الذهاب إلى العلماء في عرض مثل هذه الأشياء.
كذلك من واجبنا نحو العلماء الجري ورائهم، والبحث والتنقيب عنهم، هذا موسى عليه السلام رحل من أجل أن يلقى الخضر عليه السلام ويسأله ويتعلم منه.
العلم يؤتى ولا يأتي، قد لا يكون للعالم فرصة في التجوال على الناس على مجالس الناس، لا بد أن نذهب نحن إليهم ونجري وراءهم، نحن نذهب إلى أماكن وجودهم إلى بيوتهم إلى مساجدهم نتصل بهم هاتفياً نكتب إليهم الرسائل، نحن نجري لأننا نحن أصحاب الحاجة، لا بد من الجري وراءهم.
لذلك كان عبد الله بن عمر يقول: [قل لطالب العلم يتخذ نعليه من حديد، حتى لا تحفى قدميه في الجري وراء العلماء، وطلب العلم] وكان معاذ بن جبل رحمه ورضي عنه يقول وهو على فراش الموت: [اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل -أي: القيام- ولظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر] لا بد من مزاحمة العلماء بالركب في حلق الذكر، فيذهب إليهم الإنسان، لا أقصد المزاحمة، أي: التضييق عليهم؛ لا.
لكن نجري وراءهم ونتعلق بهم ونحرص على لقياهم حتى ولو كان في ذلك السفر إليهم، وفي السفر في طلب العلم مصنفات.
العلماء أحياناً إذا ما جاءهم الناس ما قصدوهم ولا سألوهم قد يموت العلم عندهم، وقد تبرد الحماسة في نفس العالم، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع: "وقد ظهر في بلاد الإسلام حركات تنشد الحق، وتطلب الدليل، وتعنى بالكتاب والسنة"، هذه المسألة كان الناس في غفلة عنها تقليد وتعصب، وجهل، يقول الشيخ: " وإن وقع تقصير من العلماء فعلى طالب العلم أن يسأل العالم ويشجعه على نشر العلم، فإن العالم إذا سئل واتصل به طلبة العلم فإن هذا يعينه على العناية بالعلم ومراجعة الآيات والأحاديث والاستعداد للإجابة ولإظهار العلم، فإن غفل هذا وغفل هذا -يعني العالم وطالب العلم- فمن يبقى؟ يموت العلم".(67/13)
صور من الأدب مع العلماء
كذلك من الأدب مع العلماء: عدم ضرب أقوالهم ببعض، كأن تأتي إلى العالم تسأله ثم بعد أن يجبك تقول: لكن فلان يقول بخلاف قولك، تقصد أن تضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، عندهم، وإظهار ما لديك من علم أو متباهياً به مع هذا العالم، هذا خطأ، لا بد أن تظهر التواضع، لا تقل: فلاناً قال كذا، استخفافاً به وبقوله، أو إظهاراً لخطأه أو لإحراجه.
كذلك عدم نقل كلام بعضهم إلى بعض لإغارة الصدور، لا تذهب إلى عالم وتقول: قال عنك فلان كذا، قد يكون يجهل ما قال فيه فلان، أو لا يدري عنه، تقول: انظر! فلان يقول عنك: لا أدري عنك ولا سمعت فيك، أنت مجهول بالنسبة إليه، يجب نقل الكلام الطيب، وثناء أهل العلم بعضهم على بعض، حتى يحصل بينهم اتصال قلبي، من ثمرته المحبة، لأن مسألة التحاب بين العلماء هدف سام وخطير وكبير ولكن دور طلبة العلم يعتبر دوراً عظيماً في ذلك.
كذلك عدم مجادلتهم وإعنافهم بالسؤال، يقول الماوردي في أدب الدنيا والدين: فربما وجد بعض المتعلمين قوة في نفسه لجودة ذكائه -طالب العلم يكون فيه جودة في ذكائه وحدة في خاطره، فيقصد من يعلمه بالإعناف له، والاعتراض عليه، والازدراء به، فيكون كمن تقدم به المثل السائر:
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
فلا يجوز لطالب العلم الذي عنده ذكاء واجتهاد وحدة خاطر، أن يكون غرضه للقعود في حلقات العلم هو الاعتراض على العلماء، والازدراء بههم، والتنقيب عن أخطائهم، وإظهار جهلهم أمام الناس، هذا مرض خطير، ولكن يذهب إلى العالم ويقول له بالمناصحة بينه وبين نفسه: يا أخي، أنت أخطأت في كذا، أنت قلت كذا، فإن لم يصحح العالم بعد ذلك على الملأ، فإنه يكون له الحق في إظهار الحق، لأنه لا يجوز كتم العلم.
وقضية السؤال لوحدها أدب قائم بنفسه في العلاقة بين طلبة العلم والعلماء، قال عليه الصلاة والسلام: (هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال) ما الذي يشفي الجهل ويذهب الحرج؟ سؤال تقع في مسألة أو مأزق، ولا تعرف كيف تتصرف، ما هو الحل؟ السؤال، ولهذا قال بعض السلف: "العلم خزائن، والسؤالات مفاتيحها"، وقيل: "حسن السؤال نصف العلم"، ومع ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أناساً آخرين بعدما أمر أناساً بالسؤال، فقال: (أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة السؤال، فإنما هلك من قبلكم بكثرة السؤال) هل بين هذه الأحاديث تعارض؟ كلا.
فإنما أمر في الحالة الأولى بالسؤال لمن كان قصده بالسؤال علم ما جهل، جاهل يريد أن يتعلم، لا بد أن يسأل، ونهى في الحالة الثانية عن السؤال إذا قصد بالسؤال إعناف من يسمع منه، أو كان السؤال في غير موضعه، أو المقصود بالسؤال إثارة الشبهات والشكوك، فعند ذلك لا يجوز السؤال، وقيل لـ ابن عباس: بم نلت هذا العلم؟ فقال: [بلسان سئول، وقلب عقول].
وكان من الأسئلة التي وجهت إلى الشيخ ابن باز: إذا سألت عالماً فهل يجب عليَّ أن أتبعه ولا أسأل غيره أو أسأل حتى يطمئن قلبي؟ فقال: هذا القول ليس بصحيح، ويجب على طالب العلم أن يتحرى الأعلم فالأعلم، والأورع فالأورع، وأن يسأل حتى يطمئن قلبه، لأنك قد تسأل ولكن الإجابة لا تشفي غليلك ولا تكفيك، ويظل في نفسك شيء وحرج، وهل الشيخ فهم السؤال أو لم يفهم السؤال؟ هل وقع الجواب على مسألة بعينها أو على مسألة أخرى ما فهمها؟ فلا بأس أن تسأل مرة أخرى وثالثة ورابعة، حتى تطمئن نفسك، هذا إذا كان في نفسك شيء من الشك أما من يذهب ويسأل عالماً معتبراً ثم يفتيه في قضية فلا تعجبه لهوى، يقول: والله هذا الجواب صعب، دعنا نسأل آخر ونرى ماذا عنده! أو تأتي تقول: سألت الشيخ فلان، يقول: يا شيخ، دعه فإنه متشدد، اسأل فلاناً الذي في المسجد الفلاني.
قال ابن عباس: [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] تأخذ علمك ممن؟ تسأل أي واحد؟ ليس كل إمام مسجد أهل للإفتاء والاجتهاد، بل نادر منهم في هذا العصر وهم ندرة جداً، وحسبك أن ينقل إليك أقوال العلماء.
وعن حكم افتراض المسائل والسؤال عنها، يقول سماحة الشيخ: إذا سأل عن مسألة يخشى أن يقع فيها فلا بأس بذلك، أما أ، يسأل عن مسائل افتراضية لا يمكن أن تحصل، لإضاعة الوقت، فهذا منهي عنه، فإذا سأل عالماً ثم سأل عالماً آخر وتنبه أحد طلبة العلم إلى خطأ في الجواب فهل يجوز له أن يتكلم؟ يجوز له أن يتكلم إذا كانت الفتوى باطلة، أو يعلم بطلانها، إذا امتنع يعتبر من كتم العلم، أما إذا كانت الفتوى ليست باطلة فعند ذلك لا يجوز له أن يتكلم، إذا كان المفتى به قولاً معتبراً من أقوال أهل العلم معلوم بالدليل الواضح.
فالخلاصة أن الذين يسألون تتبعاً للرخص وبحثاً عن المتساهلين من العلماء، ويقلبون الحقائق كما يفعل بعض الناس حين يسأل، فلا يعجبه الجواب، فيذهب لشيخ آخر ويغير السؤال، يريد أن يحصل على جواب يوافق هواه، فإن هذا ضلال وزيغ وفعل محرم.(67/14)
عدم المغالاة في اتباع العلماء
فمن واجباتنا نحو العلماء: عدم المغالاة في اتباعهم، فلا ينبغي أن يبعث المتعلم معرفة الحق لهم على قبول الشبهة منهم، ولا يدعوه ترك الإعناف لهم على التقليد فيما أخذه عنهم، فإنه ربما غالى بعض الأتباع في عالمهم، حتى يروا أن قوله دليل، بعض الناس من مغالاتهم وتعصبهم للعالم الفلاني يعتبر أن قوله دليل، فإذا سألته: ما حكم الشيء الفلاني؟ يقول لك: جائز والدليل: قال، فلان كذا.
لا.
قول فلان ليس دليلاً!! الدليل قال الله وقال رسوله وقال الصحابة، هذا هو العلم، هذا هو الدليل، أما قال فلان وفلان فليس بدليل، هذا نقل للفتوى.
فإنه ربما غالى بعض الأتباع في عالمهم حتى يروا أن قوله دليل وإن لم يستدل، حتى لو لم يأت لهم بدليل، وأنه اعتقاده حجة وإن لم يحتج، فيفضي به الأمر إلى التسليم له فيما أخذ عنه، هذا نص كلام الماوردي.
وهنا طرفة تحضرني الآن: بعضهم يناقش الآخر قال: ما حكم النوم بعد صلاة العصر؟ قال: والله ما فيها شيء، قال: ما هو دليلك على ذلك؟ قال: أنا ذهبت للشيخ ابن باز بعد العصر فوجدته نائماً!! أي: هل أصبح هذا دليلاً على قضية حكم النوم بعد صلاة العصر! فالواجب أن نفرق بين فعل العالم لنفسه والحكم، ولذلك قال بعض العلماء: إنك ترى العالم يفعل لنفسه أشياء، فإذا قلت له: هات الدليل، توقف، لأنه قد يجتهد لنفسه في أشياء لكن لا يجوز لنفسه أن يفتي بها الآخرين.
فالعالم ليس رسولاً، يكون تركه حجة، وفعله حجة، وأقواله كلها حجة، لا.
كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الإمام ذلك مالك وهو في الحرم النبوي.
كذلك بعض العلماء عظَّم حق العالم حتى قدمه على حق الوالد، حتى قال بعض الشعراء:
من علم الناس كان خير أب ذاك أبو الروح لا أبو النطف
الأب أبو النطفة، والعالم أبو الروح، هو الذي يشفي روحك ويسمو بها في عالم القرآن والسنة.(67/15)
سؤال الأعلم وليس الأشهر
كذلك من الأدب مع العلماء: ألا يطلب الصيت وحسن الذكر باتباع أهل المنازل من العلماء، يعني عالم في منصب معين أو مشهور ولكن هناك غيره ليس له صيت أو ليس له تلك الشهرة، لا تذهب للعالم الفلاني فتقول: والله سألت الشيخ كذا، أو صاحب المنصب الفلاني حتى تشتهر بمنصبه إذا كان هناك غيره أعلم منه، وإنما تذهب للأعلم حتى لو كان أخفى أو متوارياً عن الأنظار، أو غير معروف بين الناس، القضية قضية الأخذ من الأعلم وليست قضية البحث عن الشهرة.
إذا قرب منك العلم فلا تطلب ما بعد، وإذا سهل من وجه فلا تطلب ما صعب، وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تختبره، فإن العدول عن القريب إلى البعيد عناء، وترك الأسهل بالأصعب بلاء، والانتقال من المفضول إلى غيره - الذي خبرته - سقط.
لا تلح على العالم إذا فتر، أحياناً العالم يفتر مثلاً أو يفتي ويفتي ثم يتعب لا تأتٍ أنت في وقت التعب وفي وقت الراحة وتزعج الرجل، هذا من الأدب مع العالم، لا تأخذ بثوبه إذا نهض، لا تشر إليه بيدك، لا تفش له سراً، لا تمش أمامه، ولا تتبرم منه من طول صحبته، فإنما هو بمنزلة الرحمة فانتظر ما يسقط عليك منه منفعة.
حتى صفة القعدة أوضحها أهل العلم، فقالوا: لو قعد كما قعد جبريل عليه السلام عندما وضع يديه على فخذيه وانتصب أمام العالم احتراماً وإجلالاً له.(67/16)
ستر زلات العلماء وأخطائهم
أيضاً من الآداب الواجبة نحو العلماء ستر زلاتهم، وأخطائهم وهذا سنتكلم عنه بعد قليل كلاماً مفصلاً، لكن الذي أقوله الآن: أن بعض الناس -للأسف- مثل الذباب لا يقعون إلا على النجاسات والأوساخ.(67/17)
مشاورة العلماء والدعاء لهم والقيام على خدمتهم
ومن الأشياء التي يلجأ إليها عند العلماء مشاورتهم حتى في الأمور الخاصة والانقياد لعلمهم والدعاء لهم والترحم عليهم، وحسن الكلام معهم، تقول له: يرحمك الله في القضية الفلانية، أو رضي الله عنك، أو وفقك الله وسددك، عبارات رقيقة تستفتح بها في السؤال.
كان أحد السلف يجمع ويحفظ من أخذ عنه من أهل العلم فيدعو لهم كل ليلة واحداً واحداً قبل أن ينام، والتواضع لهم، والقيام على خدمتهم، وقد يكون العالم ما عنده وقت لأن يأتي ببعض الأشياء الضرورية له، وقد يجهل مكانها، فأنت تذهب وتقدم له شيئاً يسهل له شيئاً من أمور حياته القيام على خدمته، هذا من الأدب نحو العلماء والتقرب إلى الله بذلك، والتواضع له.
أخذ ابن عباس على جلالة قدره بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، وقال: [هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا] كذلك تعظيم حرمتهم والرد على من يغتابهم أو يتكلم فيهم، فإن عجز الإنسان عن ذلك يجب عليه أن يقوم ويفارق المجلس، لا يجلس مع أناس يتكلمون ويلغون في أعراض العلماء.
كذلك التحري في إدخال السرور على قلوب العلماء، وإتحاف أولادهم استلطافاً لهم، حتى يتعدى الاحترام التوقير والمنفعة إلى ولد العالم، فتستلطف أولاد العالم مثلاً حتى تتقرب إلى قلب العالم وتنال من محبته.(67/18)
معنى مقولة: نحن رجال وهم رجال
هناك لفظة شنيعة يقولها بعض الناس عندما يقال له: هذا قول عالم، أو تقول له مثلاً: قال الشيخ فلان كذا، يقول لك: نحن رجال وهم رجال، هذه قولة سخيفة وباطلة يقصد بها احتقار واستنقاص العلماء، تقول له: أليس فلان رجلاً عنده عقل وتفكير؟ يقول: نعم وأنا عندي عقل وتفكير إذاً أنا أفكر على كيفي، وأستنبط من كلام السنة على كيفي، يعني أنا حر!! هذا أيها الإخوة يشبه فعل الخوارج، ويشبه منهج الخوارج.
أبو حنيفة على جلالة قدره قال هذه العبارة في أي مناسبة؟ قال: إذا أتى العلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة أخذنا به، وإذا جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
نقول: أولاً: ما قالها عن الصحابة ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: قالها عمن عاصرهم من التابعين ولحق بآخرهم، لكن أن يأتي الآن بعض الجهلة صغار الناس ويقول: نحن رجال وهم رجال، كيف ذلك؟! أيها الإخوة! يجب الإنكار على قائلها، وهذا ليس في قلبه أدنى احترام للعلماء الذي يقول مثل هذه الكلمة، ومن التأدب مع العلماء عدم الإفتاء بحضرتهم، أحياناً يأتي شخص يسأل الشيخ وتلقى شخص آخر خرج من بين الناس وأعطى الحكم مباشرة، أو يكون هناك زحمة على الشيخ فيأتي أحدهم يريد أن يسأل الشيخ، فيقول له رجل آخر: ماذا تريد؟ وعن أي شيء تسأل؟ فيفتيه مباشرة والعالم موجود، وقال أحدهم: لا يفتى ومالك في المدينة، وكان بعض الصحابة لا يفتي، يقول بعضهم: إن أحدكم يفتي بالمسألة لو أتت على عمر لجمع لها أهل بدر.
والإفتاء الآن كل تجد شخصاً يفتي على كيفه، وبحضور العالم للأسف!! وبعض العلماء لقن أحد طلبته درساً طيباً، فكان جالساً في مجلس وسأل أحدهم سؤالاً في اللغة، فقام الطالب مباشرة وأجاب، فقال له عبارة جميلة قال له: تزببت وأنت حسراً، الآن العنب أول ما يكون حامضاً، ثم يصبح في آخر أمره زبيباً، فقال له: تزببت وأنت حسراً، فهذا من مخالفة الأدب أن يتكلم الرجل ويفتي بحضرة العلماء.(67/19)
الصبر على جفوة الشيخ
الصبر على جفوة الشيخ قد يكون الشيخ مثلاً فيه جفوة أو شدة، والناس خلقوا على طباع مختلفة، فيهم الشديد والسهل واللين، والعلماء من البشر قد يقع عند بعضهم شيء من هذا، قد يكون مثلاً عنده خلق لا يرضى بعض الطلبة أو عنده شدة أو حدة، بعض العلماء كانوا مشهورين بالحدة.
قال بعضهم عن شيخ الإسلام رحمه الله: كان له حدة يقهرها بالحلم حليم يقهر الحدة، وكان له حدة تعتريه حال البحث والسؤال والمناظرة، فيتحمل الطالب إذا شد عليه الشيخ ولا يتركه ويذهب، لا.
يصبر على جفوته، بل يبدأ بالاعتذار حتى لو كان الخطأ من العالم، ولا يدخل عليه في مجلسه إلا بالاستئذان، ولا يطلب القراءة عليه في وقت يشق على الشيخ، أو لم تجرِ عادته بالإقراء فيه، ولا يطرق عليه الباب، بل ينتظره حتى يخرج، ولا يوقظه إن كان نائماً، كان ابن عباس يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك، فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس في الصباح، وكان يقول: أجلس عند باب أحدهم فتسفني الريح على وجهي ثم يخرج، فيقول زيد: يا ابن عم رسول الله، أنا أحق أن آتيك، فأقول: لا.
أنا آتيك، العلم يؤتى ولا يأتي.
وعن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: ما دققت على محدث بابه قط، بل كنت أصبر حتى يخرج إلي، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:5] وروى الخطيب بسنده عن عبيد الله بن عبد الكريم قال: سمعت أحمد بن حنبل وذكر عنده إبراهيم بن طهمان وكان من علماء السلف، وكان متكئاً من علة، الإمام أحمد كان يؤلمه جسده فكان متكئاً فلما ذكر إبراهيم بن طهمان، اعتدل فاستوى جالساً، فقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون ونحن متكئون.
وقال الشافعي: "كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً دقيقاً، هيبة لها، لئلا يسمع وقعها"، يعني: حين يقلب أوراق الكتاب أمام مالك -وكان يطلب العلم عند مالك - كان يقلب الورق برفق لئلا يزعج الشيخ بقلب الأوراق، وكانوا كما ذكرنا سابقاً يذهبون ويسافرون من أجل طلب العلماء والبحث عنهم، والعلماء في أوجه من أوجه الشبه مثل الكعبة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء، يكون العالم جالساً بجنبك في نفس البلد فلا تذهب إليه ولا تعرف قدره، لكن الذي يسمع عنه من بعد يأتي ويحرص، مثل الكعبة يأتيها البعداء ويزهد فيها القرباء.(67/20)
أدب النقاش والمجادلة
وكذلك حسن الظن بهم إذا أخطئوا، والهدوء في النقاش معهم وعدم مجادلتهم وممارتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم) حديث صحيح.
ولا يكثر الكلام عند العالم من غير حاجة، ولا يحكي ما يضحك منه أو ما فيه بذاءة، أو يتضمن سوء مخاطبة أو سوء أدب.(67/21)
أدب دقة النقل
كذلك من الأمور المهمة دقة النقل عنهم في الفتاوي، هذه مسألة على درجة عظيمة من الأهمية، بعض الناس يذكرون لك فتاوي عن بعض العلماء لا تدري أين المستند وأين الأصل؟ وإذا ذهبت وطلبت علو الإسناد أو ذهبت إلى العالم بنفسه وسألته تكشفت لك الدواهي، وتشيع بين الناس فتاوٍ الله أعلم بها، فلا بد من الورع في نقل فتوى العالم والاحتياط، يأتي واحد يقول لك: قال ابن باز، سمعته؟! عمن نقلت أنه قال ابن باز؟! قال ابن عثيمين، قال فلان، من الذي سمعت عنه قال فلان؟ وإذا أتى لك بالحجة والله سمعته بنفسي، سمعته في شريط، سمعته من فلان الذي حضر مجلسه، سمعته من الثقة فلان، عند ذلك تأخذ، أما أن يقول لك: قال فلان، على الماشي، وهناك أشياء تتكشف عندما يذهب الواحد للعالم ويقول له: هل صحيح أنك قلت كذا؟ هل صحيح أنك فعلت كذا؟ فتتكشف أشياء عجيبة جداً.(67/22)
آداب الجلوس في الدرس
كذلك من الأدب مع العالم، الالتفاف إليه، والانتباه له أثناء إلقاء الدرس، وعدم التشاغل بشيء وهو يتكلم، وعدم إظهار -وهذا من دقيق الأدب- الإنسان أنه يعلم ما يقول الشيخ فلا يكترث، إذا كان يعلم ذلك، يقول عطاء: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئاً، وعنه قال: إن الشاب ليتحدث بحديث فأسمع له كأني لم أسمعه من قبل، ولقد سمعته قبل أن يولد.
ونقل مثل هذا عن الشافعي رحمه الله تعالى، كان لا يظهر عليه أنه يعرف الأشياء، لذلك من الخطأ أن تجد بعض طلبة العلم في الحلقات يظهر أنه متشاغل وأن هذا كلام معاد ومكرر، فلا يصغي وينشغل ويظهر أنه يعلم الأشياء التي تقال، وبالتدبر قد يظهر للإنسان في الشيء المعاد أشياء لم تظهر له من قبل.
كتاب الرسالة للشافعي، قال بعض العلماء: قرأتها قرابة خمسمائة مرة، ما قرأتها مرة إلا وظهر لي فيها أشياء جديدة، هناك ملاحظة: هذا الكلام أيها الإخوة في توقير العلماء وفي الأخذ عنهم كذا إلى آخر ما ذكرناه -وهذا في حدود الشرع- فلو أتى العالم بما يخالف الشرع أو لم يأتِ على كلامه بدليل، أو وجد من كلام العلماء الآخرين ما هو أقوى منه، يترك ويؤخذ بالكلام الأقوى والكلام الذي يوافق الدليل.
كذلك هنا نقطة جديرة بالتنبيه أن بعض الناس قد يتكلمون على توقير العلماء والأخذ منهم وو إلى آخره، لكن مدار كلامهم إذا أردت أن تعرف نهاية الكلام ماذا يقصد هذا، تجد أنه يقصد أمراً عجيباً، يقصد التعصب للعلماء، أي: أن التوقير والاحترام للعالم أي التعصب له وعدم الخروج عن رأيه، ونبذ الدليل، وهذا كلام فارغ، واحترام العلماء فيما أتوا به إلينا من الكتاب والسنة، إذا خالفوا أو ببدع أو أتوا بأخطاء فنحن نتبع الحق، فمن كلام علي: [الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال] أي: الحجة للحق على الرجال وليس الحجة للرجال على الحق.(67/23)
الموقف من زلات العلماء
قال الذهبي رحمه الله: إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
قال سعيد بن المسيب: [ليس من شريف ولا عالم، ولا ذي فضل، إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه].
هناك حديث استشهد منه ابن حجر في الفتح استشهاداً جميلاً جداً في هذا الموضوع، تعليقاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه -أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه المشقة والحرج- فقال: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) ما يرتفع شيء إلا وضعه، الكمال لله، فقال الصحابة في رواية أخرى: خلأت القصواء، قيل: القصواء هي العضباء، وقيل: ناقة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة) قال ابن حجر: وفي الحديث جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها.
عالم صوابه كثير لكنه أخطأ مرة، نأتي ونشنع عليه بهذا الخطأ.(67/24)
كلام الذهبي في الاعتذار للعلماء
قال الذهبي رحمه الله مستشهداً استشهاداً جميلاً بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان الذهبي يتكلم على العلماء، قال: بعض العلماء صوابهم كثير وخطأهم قليل، ويعذرون فيما لا يعذر فيه غيرهم، ويتسامح معهم فيما لا يتسامح فيه مع غيرهم ممن كثر خطؤه وقل صوابه، فقال: ألم تر أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، فقال عن أحد العلماء لما ذكر خطأه، قال: وهذا الخطأ مغمور في بحر علمه وفضائله، وكان من كلامه الجميل جداً يقول في ترجمة ابن حزم -وأوصي كل طالب علم أن يقرأ ترجمة الذهبي في سير أعلام النبلاء لـ ابن حزم رحمه الله- قال الذهبي: ولقد وقعت له على تأليف يحث فيه على الاعتناء بالمنطق ويقدمه على العلوم فتألمت له، لأن علم المنطق علم مذموم، وابن حزم كان من أخطائه رحمه الله أنه اهتم بعلم المنطق، فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام متبحر في النقل، عديم النظير على يبس فيه وفرط ظاهرية في الفروع دون الأصول.
كان عنده شيء من الظاهرية وبعض الأخطاء، لكن كيف أثنى عليه؟ ثم قال: فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار، ثم قال: ولي أنا ميل إلى أبي محمد -أي ابن حزم - لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يكتب من الرجال والعلل، وأقطع بخطأه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين وأخضع لفرط ذكائه وسعة علمه.
انظر الآن كيف تجد الذهبي رحمه الله تكلم عن ابن حزم على ما فيه من بعض الأخطاء، كيف أتى بهذا الأسلوب، هل تخرج أنت أيها السامع بالنفور من هذا الرجل؟ وتصد نفسك عن القراءة من أي شيء له؟ لا.
بل تجد فيه محاسن، معرفته بالحديث الصحيح واتباعه له في كثير من الأحيان، وكان رأساً في علوم الإسلام إلى آخر هذا الكلام.(67/25)
أدب الرد عند ابن القيم
وحتى ابن القيم رحمه الله -أفادني بهذه الفائدة أحد الإخوة جزاه الله خيراً- قال: لما جاء ابن القيم يرد على ابن حزم في مسألة السعي في الحج، مع العلم ابن حزم له رأي أن الذي يذهب ويعود هذا شوط واحد، ليس العودة شوط والذهاب شوط كما المعروف والصحيح، فيقول ابن القيم ويرحم الله ابن حزم فإنه لم يحج، ولو حج لتبين له خطأ هذا القول.
فانظر كيف اعتذر له عن خطأه، لأن ابن حزم كان في الأندلس فما تيسر له أن يقدم إلى مكة ويحج.
الخلاصة أيها الإخوة: موضوع العلماء هذا موضوع خطير، والتساهل فيه في الناس كبير، وحقوق العلماء في هذه الأيام ضائعة وللأسف! فيجب علينا القيام بحقوقهم، والقيام على شئونهم وخدمتهم وحسن التلقي عنهم.
وفقنا الله وإياكم لعمل الطاعات، والأخذ عن العلماء المعتبرين، وأن يوفقنا للبحث عنهم والجلوس إليهم، وأن يكون علمنا من الكتاب والسنة وألا نرجع فيه إلى أهوائنا وإلى عقولنا القاصرة، نسأل الله حسن الخاتمة، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(67/26)
الأسئلة(67/27)
شروط طلب العلم
السؤال
ما هي شروط طلب العلم؟
الجواب
هذا الموضوع يحتاج إلى محاضرة كاملة أو أكثر، وأظن الإجابة عليه الآن هي نوع من القصور وغير مناسبة، ولكن رأس العلم مخافة الله والإخلاص في القول والعمل، هذه هي الوصية الأساسية لكل طالب علم.
الإخلاص: أن يكون التعلم لوجه الله، لا للدنيا، وكثير من طلبة العلم يفتقد هذا الأساس، لذلك سأقتصر على ذكر هذه الميزة فقط، وأبقي الموضوع إن شاء الله إلى فرصة أخرى في المستقبل، هناك شريط في الكلام عن صفات طالب العلم للشيخ ابن عثيمين، جزاه الله خيراً.(67/28)
حكم صلاة الكسوف إذا لم يره الناس
السؤال
بعض الإخوان سأل سؤالاً فقهياً عن صلاة الكسوف؟
الجواب
سبق البارحة نقاش مع الشيخ عبد العزيز بن باز حول هذا الموضوع، كان السؤال: لو ظهر غيم في السماء فحجب الشمس فما عدنا نرى الشمس ولا نعرف حالها، لكن علمنا من الجرائد ومن الأخبار أنه حدث كسوف اليوم فما هو العمل؟ فقال الشيخ: لا تصلوا حتى تروا الشمس، فإن لم تروها لا تصلوا، طبعاً حتى لو شوهد الكسوف في مكان آخر ما انطبق الحكم على الناس في هذا المكان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الكسوف خرج فزعاً إلى الصلاة، فالكسوف يحدث في نفس المسلم فزعاً، فإذا لم نر الكسوف كيف نفزع أساساً إلى الصلاة؟ فلذلك كما هي فتوى الشيخ، كما حدث في أغلب المساجد والحمد لله الناس لم يصلوا لأنهم لم يروا، وهذا الذي كلفنا به.(67/29)
حكم الخروج من الدرس بدون استئذان
السؤال
لو نبهت على قيام الناس والعالم يلقي الدرس، وقد أخبرنا القرآن أن الصحابة إذا كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم على أمر جامع لم يقم أحد حتى يستأذنوه؟
الجواب
تنبيه طيب جزاك الله خيراً، لكن أنا أحسن الظن بكل من قام أنه قام لحاجة - يتوضأ مثلاً، أو يريد أن يذهب إلى الخلاء لقضاء حاجة- أما ترك الحلق للهوى ففيه خطر عظيم، كما في الحديث أن رجلين حضرا عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب الثالث، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه) لكن إذا كان الإنسان يريد أن يذهب في حاجة ضرورية، لماذا لا يذهب؟ يذهب إن شاء الله مغفوراً له.(67/30)
رحلة حج محمد الأمين الشنقيطي
في هذا الدرس نبذة صغيرة عن حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، وكيف طلب العلم؛ مع ذكر بعض مشايخه، وكذلك رحلته إلى الحج وذكر ما لاقى فيها من الصعاب، ومن لقي فيها من الطلبة والعلماء، وبيان لمناقشات ومباحثات في سفره مع بعض العلماء والطلبة أثناء رحلته إلى الحج.
وقد تحدث الشيخ حفظه الله عن دور الشيخ العلمي في السعودية وتدريسه للتفسير واللغة والأصول.(68/1)
الشنقيطي وطلبه للعلم وبعض مشايخه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فأما هذا العلامة فقد تقدم أن اسمه: محمد الأمين فاسمه مركب: الأمين اسمه ومحمد أضيفت، كما كان العامة يضيفون للبركة، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح، من أولاد الطالب هوبك، وهذا من قبيلة جكن الأبرجد، وهي القبيلة الكبيرة المعروفة المشهورة بالجكنين، ويرجع نسبهم إلى حمير.
وقد ولد رحمه الله تعالى سنة (1325) هـ عند ماء يسمى تنبة، من أعمال مديرية كيفا من القطر المسمى شنقيط في دولة موريتانيا المعروفة الآن، ونشأ رحمه الله يتيماً.(68/2)
الشنقيطي يبدأ بحفظ القرآن
قال: توفي والدي وأنا صغير، أقرأ في جزء عم، وترك لي ثروة من الحيوان والمال، وكانت سكناي في بيت أخوالي -وأمي بنت عم أبي- وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم، حفظ القرآن وعمره عشر سنوات رحمه الله تعالى، وتعلم رسم المصحف العثماني عن ابن خاله وقرأ عليه التجويد، لقراءة نافع، برواية ورش وكذلك قالون، وأخذ عنه بذلك سنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان عمره ست عشرة سنة، ودرس القرآن منهجاً متكاملاً، بما في ذلك رسمه ونوع كتابته، وضبط المتشابه في الرسم والتلاوة، وحفظ في ذلك السن بعض الأراجيز المتعلقة بهذا الفن والعلم، وكذلك درس مختصرات في فقه الإمام مالك رحمه الله كرجز الشيخ ابن عاشر، وأخذ مبادئ النحو الآجرومية، وتمرينات واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية، أخذها عن أمه، فكانت أمه إذاً عندها علم واضح بهذا، وهذا كثير عند الشناقطة الاهتمام باللغة العربية، وحفظ المنظومات في هذا، وكذلك في الأصول أخذ نظم الغزوات لـ أحمد البدوي الشنقيطي يزيد على خمسمائة بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بـ حماد، ونظم عمود النسب للمؤلف وهو يُعد بالآلاف، ودرس أشياء في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ.
هذا فقط في محيط الأقارب من أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله، وكذلك درس بقية الفنون، مثل الفقه المالكي على الشيخ محمد بن صالح، قسم العبادات، ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك رحمه الله، ودرس على عدد من العلماء الشناقطة الجكنين، كالشيخ محمد بن صالح المشهور بـ ابن أحمد الأفرم، والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار والشيخ العلامة أحمد بن عمر وغيرهم.
قال: وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون، النحو والصرف والأصول والبلاغة، وبعض التفسير والحديث، وأما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة، وكانت طريقة التدريس أن يأتي بعض المشايخ أو بعض العلماء في البوادي يحلون بها، ويتوافد عليهم الطلاب في خيام أو في مبانٍ بدائية تعد لهذا الغرض، وكان الشيخ يُعرف بالمرابط الذي يأتي ويدرس، ولا يأخذ مالاً بل إن كان لديه مال وزعه على الطلبة وأعطاهم، وكانت طريقتهم أنه لا يحق للطالب لديهم أن يجمع بين فنين في وقت واحد، بل يدرس فناً حتى يكمله، كالنحو مثلاً ثم يبدأ في البلاغة، وهكذا، ويبدأ في الفقه ثم بعد ذلك يثني بالأصول ونحو ذلك.
يكتب الطالب في لوح خشبي قد لا يستطيع حفظه ثم يمحوه ثم يكتب قدراً آخر حتى يتم المقرر في الفن، مثل: الألفية في النحو يكتبها أبياتاً حتى يحفظها، ويمحو ويكتب الأبيات التي بعدها وهكذا، فإذا حفظ المتن تقدم للدراسة على الشيخ، يشرحه لهم، في مجالس شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل، وليس العادة أن يفتح الشيخ كتباً عندهم، وبعد ذلك يراجعون ما أخذوه عن الشيخ ويستذكرونه ويناقشونه، ويقابلونه لكي يتأكدوا من ضبط ما أخذوه.(68/3)
رحلة الشنقيطي في طلب العلم
وكان الشنقيطي -رحمه الله- في أول أمره وهو في سن الطفولة ميالاً للهو واللعب كغيره من الأطفال، قال: كنت أميل للهو واللعب أكثر من الدارسة حتى حفظت الحروف الهجائية، وبدءوا يقرءونني إياها بالحركات، بَ فتحة، بِ كسرة، بُ ضمة، وهكذا التاء والثاء، فقلت لهم: أو كل الحروف هكذا؟ إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة، فتركوني فقرأتها، قال: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران، عنيت بي والدتي وأخوالي أشد العناية، وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين، أحدهما عليه مركبي وكتبي والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب، وملابسي كأحسن ما تكون فرحاً بي، وترغيباً لي في طلب العلم إلى أن قال: هكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.
فإذاً الدرس العظيم الذي نأخذه من هذه القصة، أن تنشئة الأطفال على طلب العلم وإظهار الفرح بهم إذا حفظوا شيئاً أو نبغوا في شيء، وإعطائهم من الدنيا والأعطيات والهدايا والملابس الجميلة ونحو ذلك، وبيان قدرهم ورفعة شأنهم من الأشياء التي تحمس الولد على الطلب، وهكذا كانوا يعتنون به ولا شك أن مثل هذه الأم في هذه العناية تخرج مثل الشنقيطي رحمه الله تعالى.
وبعد ذلك سار في هذا المركب، يطوف على أهل العلم في القرى التي حوله يحصل ويجلس إليهم، وقال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل، فسأل عني من أكون في ملأ من تلامذته، فقلت مرتجلاً:
هذا فتى من بني جكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة العلياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبى ألا يميز شكل العين من فعلا
وقلنا: عين الفعل من أكثر المشكلات في دراسة اللغة العربية، وما هي التغيرات التي تطرأ على عين الفعل، وأنواع الأفعال بالنسبة لعين الفعل، قال:
وقد أتى اليوم صَبّاً مولعاً كلفاً فالحمد لله لا أبغي له بدلا
وهذا إشارة إلى قصيدة لامية الأفعال، المبدوءة بالحمد لله، وقصد بقوله شكل العين دارسة قصيدة لامية الأفعال على هذا الشيخ، ولما لُوحِظت نجابته أذن له مشايخه بأن يقرن بين كل فنين -مع أن العادة عندهم عندما يبدأ الطالب لا يجمع أكثر من فن واحد- تفرساً فيه، وحرصاً على سرعة تحصيله، فانصرف بهمة عالية.(68/4)
الزواج في حياة الشنقيطي
قال: ومما قلت في شأن طلب العلم وقد كنت في أخريات زمني في الاشتغال بطلب العلم، دائماً اشتغالي به عن التزويج؛ لأنه ربما عاقني عنه، وكان إذ ذاك بعض البنات ممن يصلح لمثلي يرغبن في زواجي ويطمعن فيه، فلما طال اشتغالي بطلب العلم عن ذلك المنوال أيست مني.
كانت امرأة تريد أن تتزوج منه، لكنها يئست منه؛ لأنه كان في الطلب طويل الباع.
فتزوجت ببعض الأغنياء وقال لي بعض الأصدقاء: إن لم تتزوج الآن، من تصلح لك؟ تزوجت عنك ذوات الحسب والجمال ولم تجد من يصلح لمثلك، يريد أن يصرفني عن طلب العلم، فقلت في ذلك هذه الأبيات:
دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل خلوف اللخط حائلة والوشاح
ضحوكاً عن مؤشرة رقاق تمج الراح بالماء القراح
ثم قال:
فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراح اليوم صاح
ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها غرر الصباح
أراها في المهالك لابسات براقع من معانيها الصحاح
أبيت مفكراً فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح
يقصد مسائل العلم، وأنه قد صار مغرماً بها وأنه اشتغل بها عن النساء، وكما قلنا بأن الشنقيطي رحمه الله لم يكن مُتعبداً بترك الزواج، ولم يكن راغباً عنه مخالفةً للسنة، وهو يعلم أن الزواج سنة المرسلين وتزوج وأنجب أولاداً بعد ذلك، ولكن حيثُ أنه لم يكن ممن يجب عليه الزواج، فإنه لم يُسارع إليه، وإلا لو كان يُخشى على الإنسان من الشهوة أو يخشى على نفسه الحرام ويخشى على نفسه العنت فإنه يجب عليه أن يتزوج حالاً، وذكر نص العلماء في كتب النكاح من كتبهم الفقهية، في أوائل كتاب النكاح في كتب الفقه تجد أحكام النكاح الخمسة، يذكرها بعضهم ومنها: الوجوب، وأنه إذا لم يكن له طريق لتحصين نفسه من الزنا إلا بالنكاح، فيجب عليه أن يتزوج.
وإذا كان ذا شهوة ويصبر ويضبط نفسه، فيستحب له أن يتزوج، وكذلك المرأة، قالوا: إن كانت محتاجة إلى النفقة وإن كانت تواقة إلى الرجل، وإن كانت تخشى على نفسها من دخول واقتحام الفجرة عليها، فيجب عليها أن تتزوج.
المرأة ماذا تفعل؟ تخلي بين الزوج المتقدم وبين النكاح، أي: لا تمتنع، فهي لا تستطيع أن تطوف وتقول: تزوجوني أيها الرجال، لكن ماذا تفعل؟ ما الحل بالنسبة للمرأة؟ إذا وجب عليها النكاح، ألا تمنع من يتقدم إليها، ولا تمتنع عمن يتقدم إليها إن كان ذا خلقٍ ودين.
وبرز الشنقيطي رحمه الله بعلمه مبكراً، فصار يُدرس ويُستفتى ويستقضى ويطلب قضاؤه، ويُرحل إليه في هذا، وصارت أخبار نجابته شائعةً ذائعةً في القطر الموريتاني.(68/5)
الشنقيطي وطريقته في القضاء
اشتغل بالتدريس والفتيا عند خروجه من مسقط رأسه للحج، حيث وجد أرضاً متعطشة للعلم، ولذلك أفتى ودرس وحكم في طريق رحلته إلى الحج ماراً بقرية كيفا في موريتانيا، وتامشقط والعيون والنعمة وغيرها.
وكان مروره في هذه القرى على بعير ثم باعه في قرية النعمة وركب السيارة، وقلنا: لعله أراد بذلك الاستعجال لإدراك موسم الحج قبل فواته، فالرحلة كانت تأخذ وقتاً طويلاً حتى يصل إلى مكة، وأكمل الطريق إلى قرية فاوى مروراً ببلد بنيامي عاصمة النيجر الفرنساوية في ذلك الوقت، وقرية الجنينة، وبلدة أندرمان في السودان، وسيأتي ذكر بعض فوائد هذه الرحلة العظيمة جداً في رحلة الشنقيطي رحمه الله في الحج، وهذا مؤلف مستقل رحلة الحج للشنقيطي رحمه الله.
وطريقته في القضاء أنه إذا أتاه الطرفان استكتب رغبتهما في التقاضي أولاً حتى يذعنا للحكم، يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه في أسفل كتابة الدعوى، ثم يكتب الحكم مع الدعوة والإجابة، ويقول لهما: اذهبا إلى من شئتم من المشايخ أو الحكام أي: القضاة، فلا تأتي هذه العريضة واحداً من المشايخ إلا أقرها وصدق عليها عندما يرى قضاء الشنقيطي وحكمه فيها رحمه الله.
وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، من ورعه رحمه الله، وقد كُونت لجنة بمسمى لجنة الدماء وطُلب من الشيخ الشنقيطي أن يكون فيها، فكان أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره رحمه الله.
ألف في صغره كتاباً أو نظماً في أنساب العرب قبل البلوغ، قال في أوله:
سميته بخالص الجمان في ذكر أنساب بني عدنان
قبل البلوغ، إن أولادنا الآن يلعبون بالأتاري، وبعد البلوغ يلعبون بالأتاري أيضاً، أما الشنقيطي فكان يؤلف نظماً في أنساب العرب، ولكنه بعد البلوغ دفنه، وقال: لأنه كان على نية التفوق على الأقران، لم يكتبه بنية خالصة، وقد لامه بعض المشايخ على دفنه، وقالوا: كان من الممكن تحويل النية وتحسينها، لكنه لم يفعل ذلك، وكتب رجزاً في فروع مذهب مالك، يختص بالعقود من البيوع والرهون يبلغ آلافاً متعددة، يقول فيها:
الحمد لله الذي قد ندبا لأن نميز البيع عن نفس الربا
ومنى بالمؤلفين كتبا تطرد أطواد الجهالة هبا
تكشف عن عين الفؤاد الحجبا إذا حجاب دون علم ضربا
أشار رحمه الله إلى هذا النظم في مصنفه في التفسير، وفي قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] وعلق ما نصه: وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة، في نظم لي طويل في فروع مالك، بقولي:
وكل ما يُذاق من طعام ربا النسي فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وكذلك كما قلنا: إن مسائل الأطعمة من المسائل التي اختلف العلماء في علة الربا فيها، الآن الذهب بالذهب مثلاً بمثل والفضة بالفضة مثلاً بمثل، إذا زاد أو لم يحدث تقابض فهو ربا، وكذلك التمر بالتمر، صاع بصاعين ربا، القمح بالقمح والشعير بالشعير والملح بالملح.
بقية المطعومات وبقية الأشياء، والرز لم يذكر في الحديث، هل يقاس عليها أم لا؟ وهذه الأشياء كالزبيب والأشياء الأخرى التي لم تذكر مثل اللحوم، هل يجري فيها الربا أم لا؟ وغير ذلك من الثمار ونحوها ما هو الضابط، إذا بعت كيلوين بكيلو هل يصير ربا؟ ما هو الضابط؟ ما هي حدود الأشياء التي يجري فيها الربا؟ قيل الطعام.
وقال بعضهم: العلة الوزن، إذا كانت الأطعمة توزن، أما إذا كانت معدودة كتفاحتين بتفاحة، مثلاً فلا بأس وهكذا.
والآن صارت بعض الأشياء توزن، وبعض الأشياء كانت تباع بالعدد، البيض مثلاً أو التفاح تباع بالعدد، الآن يباع بالوزن، فهل الآن لما صار الناس يجرون على الوزن تغيرت المسألة الأولى؟ هذه مسألة عويصة فيها نقاش طويل، فقال في المنظومة:
وكل ما يذاق من طعام ربا النسي فيه من الحرام
مقتاتاً أو مدخراً أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن لم يكن يطعم للدواء مجرداً فالمنع ذو انتفاء
إلى آخر الكلام، فكانت هذه إشارة إلى هذه المسألة، المقصود أنه ألف نظماً في هذا، ثم ألف نظماً في الفرائض
أولها تركة الميت بعد الخامس بخمسة محصورة عن سادس
وحصرها في الخمس بالاستقراء وانبذ لحصر العقل بالعراء
إلى آخر القصيدة، وكذلك فإنه رحمه الله تعالى قد ألف منظومات أخرى، ولما عزم على الحج ركب في رحلته المشهورة الزاخرة إلى الحج بأنواع المحاضرات والدروس، والمناظرات، والنكت الأدبية، والعلمية، والفوائد والشروحات التي حصلت وكتابة الفتاوى، وكتابة القضايا، رحمه الله تعالى.(68/6)
الشنقيطي وخروجه لأداء حج بيت الله
بدأ الرحلة في السابع من شهر جمادى الآخرة، وحط عصا الترحال في العشر الأوائل من ذي الحجة من نفس العام، وصل على الموسم رحمه الله، وكان الباعث على الخروج كما بين قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] لا قول عمر بن أبي ربيعة:
إن كنت حاولت دنياً أو أقمت لها ماذا أخذت بترك الحج من ثمن
ثم قال: اعلم أنا خرجنا من عند أهلنا بجانب الوادي والبطاح والمياه والنخيل وودعنا كل قريب وخليل، والبين يولج في القلوب الداء الدخيل، فترى ورد الخدود يطله جمود الدموع، والأعين تنكر السنة والهجوع، ماء العيون في الجفن حائر حسبما قال الشاعر:
ومما قد شجاني أنها يوم ودعت ولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة إلي التفاتاً أسلمته المحاجر
وخرج لسبع مضين من جمادى الآخرة في سنة (1367) هـ، يقول: وكان يوم خروجي لهذه القاعدة الكبيرة لسبع مضين لجمادى الآخرة، ومن سنة (1367) هـ أمننا الله مما نخشاه من الأمام والخلف.(68/7)
وصول الشنقيطي إلى كيفا
فخرجنا من بيتنا يصحبنا بعض تلامذتنا إلى قرية اسمها كيفا فوصلناها في مدة خفيفة، والجمال تسعى بنا في الأودية والرمال، وفي مدة إقامتنا في كيفا، سألتنا كريمة من بنات العم وهي أم الخيرات عن مسألتين فيما يحيك في النفس من عدم الفرق بين علم الجنس واسم الجنس، انظر هذه من النساء تسأل في مسألة لا نعرف معناها، فضلاً عن الراجح فيها، وما هي الأقوال فيها ونحو ذلك.
فأجاب رحمه الله في أربع صفحات وعن السؤال الثاني في صفحة ونصف، قال: ثم ارتحلنا من كيفا عشية بعد أن توادعنا مع من يعز علينا، يُشيعنا فلان وفلان، فمررنا في الطريق بـ أم البوادي أم الخز، ونزلنا عند حي من قبيلة الأقيال اسمها حلة أهل الطالب جدة، فأحسنوا إلينا غاية الإحسان، ومن جملة من زارنا عالم ذلك الحي ومفتيه، الشيخ الأستاذ محمد فال بن أحمد نوح، فسألنا عن قول الأخضري في سلمه -في كلامه- على القياس الاستثنائي، وذكر البيت وجوابه عن القياس الاستثنائي، وبعد ذلك تابع المسيرة، قال: فصلنا عند قرية تامشقط عند صلاة المغرب، فزارنا جُل من فيها من الأكابر والعلماء، وعاملونا معاملة الكرماء، وذكر الذين نزلوا عنده صاحب البيت، وفلان وفلان، ودارت المذاكرة في البيت، والسؤال عن مسألتين فذكرهما، ومنهما تحقيق الفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، فأجاب عن ذلك في ثلاث صحائف، الأولى والثانية في صحيفة.
ثم قال: ثم ذهبنا من قرية تامشقط قبيل غروب الشمس، ونحن على جمالنا في أخريات جمادى الآخرة، وشيعنا جّل من فيها من الأكابر وودعونا وقدم لنا وقت الوداع العالم الأديب الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن جدة بن خليفة القلاوي أبياتاً:
مني إلى المعهود ذي الفتح الجلي درع الكماة إذا التقت في الجحفل(68/8)
مباحثات علمية في قرية العيون وتمبدرة
وذكر قصيدة في مدحه، مشوا وارتحلوا إلى قرية العيون وإلى تمبدرة، وإلى تنبتقة، وهكذا وصلوا إلى ذلك المكان في شهر الله رجب الفرد، قال: في هذه المسألة فتذكرت كل ما مر بي من اسم.
أحياناً يمر بأسماء بلدان، فيذكر أبياتاً شعرية ورد فيها هذا الاسم دليلاً على سعة حفظه للشواهد الشعرية والأبيات بشكل عجيب جداً، ربما لا يُعرف له مثيل في عصرنا، لما وصل قال: وصلناها في شهر الله رجب الفرد، تذكرت قول مسلم بن الوليد الأنصاري المعروف بصريع الغواني:
ما مر بي رجب إلا نعمت به يا حبذا رجب لو دام لي رجب
وحصل هناك مباحثات أيضاً لما نزلوا في ذلك المكان، وكانت من المسائل التي نوقشت النص الفلاني منسوخ بالإجماع، ما حكم قول هذا؟ ودخلوا في مسألة الإجماع، لا يجوز النسخ به شرعاً أم لا؟ وأجاب عن ذلك ودارت مناقشة في مسألة هل يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين؟ لا يجوز الجمع بين الأختين من الحرائر في الزواج من حرائر، أما ملك اليمين إذا اشتريت إماء، هل يجوز أن تشتري أمة وأختها، أم لا؟ هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، هل يشمل قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] عموم يدخل في الإماء أو لا يدخل؟ أجاب عنها بسبع صفحات رحمه الله تعالى، وذكر مناقشات حصلت في فروع مذهب مالك رحمه الله.
ومن المسائل: هل يجوز السلم في الكاغد المتعامل به في فلوس النحاس؟ لأن هناك عُملات ورقية وعُملات معدنية، فأجاب عن ذلك، فهناك من علمائنا الآن من يجيز ذلك عشر ورق بتسع معدن، ومنهم من يقول: لا يجوز؛ لأن الكل ريالات، ومادامت العملة واحدة، ولو كانت من عملات مختلفة، يجوز التفاوت، قد تشتري -مثلاً- دولاراً بأربعة ريالات بشرط التقابض، ريال بمائة ليرة بشرط التقابض، فتفاوت العدد إذاً هنا جائز مادام اختلفت العملات؛ لأن اختلاف العملات ينزل منزلة اختلاف الأجناس، لكن لو كان من عملة واحدة هنا ريال معدن بريال ورق فما هو الحكم؟ فبعض أهل العلم قال: إن هذا مثل استلاف الأجناس، وهذا ورق وهذا معدن، ومنهم من قال: لا.
الريال واحد، الريال هو الريال، وهذه الأوراق في الحقيقة لا قيمة لها من جهة الورق في الكتابة عليه وما يُضمن به من قِبل الجهات التي تضمنه، فليس في الحقيقة للريال قيمة من جهة الورق ككونه ورقاً بخلاف المعدن، قد يكون له قيمة في نفسه، قد يكون المعدن ثميناً، مثلاً: بعض العملات ذهبية وبعضها فضية، إلى آخره، فالمقصود أنه حصل نقاش في هذه المسألة.
وقال: ومما سألونا عنه مذهب أهل السنة في آيات الصفات وأحاديثها كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وقوله عز وجل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان) ونحو ذلك، فأجابهم في أربع عشرة صفحة، والذي يستدعي الوقوف هنا، أن الشنقيطي رحمه الله كان سلفياً منذ أول أمره، في الأسماء والصفات.
ولما سُئل عن هذه الأسئلة أجاب عنها بقول السلف، وهذا موجود مسطر في رحلته في الحج أجابه في أربع عشرة صفحة.(68/9)
الشنقيطي يحفظ الشواهد الشعرية والطرائف
المباحثات العلمية أحياناً تحتاج إلى شيء من الملح والطرائف والنوادر الشعرية للترويح حتى لا تمل النفس ونحو ذلك، وقد حصل في بعض المجالس سؤال عن أيام العرب وأشعارها وملح الأدباء ونوادرهم، وقلنا: إن دروس ابن عباس رضي الله عنه كان فيها درس في التفسير ودرس في الحديث ودرس في كذا، ومنها درس في الشعر، أو في كلام العرب، والشواهد الشعرية هذه مفيدة جداً في تقوية الملكة العربية، والفصاحة ثم معرفة معنى الكلمة، لأن الكلمة عندما توضع في بيت شعر تعطيك معناها حسب السياق تفهم المعنى.
فربما تأتي الكلمة في القرآن أو في السنة، فيرجع العلماء إلى الشواهد الشعرية المذكورة فيها هذه الكلمات لمعرفة معناها عند العرب، فالشواهد الشعرية مهمة؛ ولذلك ترى كتاب ابن جرير الطبري رحمه الله مليئاً بالشواهد الشعرية، فالشواهد لها فوائد في معرفة معاني الكتاب والسنة.
وكذلك ربما كانت تستعمل في الملح والأحماض، لطرد الملل من المجالس، قالوا: ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة، ثناء أدباء الشعراء في قصار النساء، كقول الشاعر:
من كان حرباً للنساء فإنني سلم لهن
فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتهن
وإذا برزن لمحفل فقصارهن ملاحهن
قال: معاني القصر جداً وصف مذموم كما يدل عليه قول كعب بن زهير.
لا يشتكى قصر منها ولا طول
أي: أن من محاسن المرأة أن تكون متوسطة لا مفرطة في الطول ولا في القصر، وكذلك ذكر رحمه الله طرفة، قال: إننا لما دخلنا -أي: ذكر عن بعض العامة، جهلهم- لما جاءوا على مدينة خرطوم في السودان، قال: قال لنا واحد بكلامه الدارج ومضمونه، أنه يغبطنا ويغار منا بسبب أننا نمر من أرض السودان التي فيها موضع شريف، قلنا له: وما ذاك الموضع الشريف -يقول: أنا لا أعرف أن في السودان موضعاً جاء فضله في الكتاب والسنة، مثل مكة والمدينة وبيت المقدس - فقال: الخرطوم، قلنا: وأي شرف للخرطوم؟ قال: مذكور في القرآن العظيم في قوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] فقلنا له: ذاك خرطوم آخر غير الخرطوم الذي تعنيه، فضحك من يفهم من الحاضرين.
وحصل مناقشة في مجلس قال: واستدل بعضهم بدليل هو عليه لا له، وهذه من الأشياء التي يقع فيها حتى بعض الشباب من طلاب العلم ونحوهم فقال بعض الحاضرين وكان عندهم أدب -عندهم الأدب يعني: أنهم يحفظون الأشياء والطرائف- قال: هذا مثل مغني اللصوص، فضحك من له خبرة بقصة مغني اللصوص، وهي قصة مشهورة، ملخصها أن بعض الأمراء أسر لصوصاً كانوا يقطعون الطريق، فقدمهم للقتل واحداً بعد الآخر حتى لم يبقَ منهم إلا واحد، فقال: لا تقتلوني فأنا لست من اللصوص، وإنما كنت مغنياً لهم، أطربهم بالأناشيد والأغاني، فقالوا له: بم كنت تغني لهم؟ ماذا كنت تغني للصوص؟ فقال: أغنيهم بقول الشاعر:
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
فإن كان ذا شر فجانب بسرعة وإن كان ذا خير فقارنه تهتدي
فهذا مغني اللصوص الذي جاء بالأشعار يظنها أنها حجة له فإذا هي حجة عليه.
وطلب منا قوم من أهل النعمة أن أفسر لهم سورة الواقعة، ففسرتها لهم ليلاً، وسأل بعض طلبة العلم عن الفعل المبني للمفعول، هل هو أصل أو فرع، فأجابه عن ذلك، ودخل في المناقشة في قضية تتعلق بهذه المسألة.(68/10)
الشنقيطي في قرية النواري
وقال: بتنا في القرية الفلانية بـ النواري ولم نعرف أحداً من أهلها -يقول: البلد هذه النواري ما عرفنا فيها أحداً- فتذكرت قول الشاعر:
إن للدهر إن تأملت صرخة يكسب المرء حكمة واعتبارا
ها أنا اليوم بـ النواري مقيم أي عهد بيني وبين النواري
ليست لي علاقة فيهم، ولا أعرف أحداً منهم، لكن اضطر الحال إلى أن نزلت في هذه البلد، وليس لي فيها معرفة.
قال: وجاءت بنا السيارة، بلد بامكوف الليلة الثالثة آخر الليل فنزلنا عند تاجر منا طيب الشمائل والأخلاق اسمه أحمد بن الطالب الأمين، وهو من أخص إخواني وتلاميذي، فبالغ في إكرامنا وأهدى لنا ثياباً ودفع عنا أجرة السيارة إلى بلدة نبتا فابتدرنا السفر إلى هذه الجهة، وركب معنا أخونا المذكور في السيارة، وباتت بنا في تلك الليلة في قرية اسمها سكثو وباتت في الليلة الثانية في قرية اسمها صن، ومررننا في طريقنا على قرى صغيرة مساكنها العرش والأخواص، يزرعون الذرة واللوز، وليس على أبدانهم شيء من الثياب أصلاً، ونساؤهم حالقات الرءوس، عاريات جميع البدن، والواحد منهم ذكراً كان أو أنثى يجعل خرقة صغيرة جداً أو ورقة من أوراق الشجر على سوءة قبله، ولا يستتر بشيء غير ذلك، وهم سود الألوان، سمعت بالاستفاضة أنهم وثنيون يعبدون الشجر، وما نزلنا في شيء من قراهم، ولا كلمنا منهم أحداً مع أن السيارة تمر بنا من بين مزارعهم، وسمعت أنهم ربما أكلوا الناس، ويسمون باللسان الدارجي العرايا وهم تحت حكم فرنسا.
ثم جاءت بنا السيارة بلدة مبتى وقت الظهر فنزلنا في دار فيها تجار منا فبالغوا في إكرامنا وبتنا معهم ليلتين، ثم ذهبنا إلى بلدة فاوى ودوينصة، ودخلنا فاوى وقت الضحى، فنزلت عند رجل تاجر من أبناء العلم اسمه الزاوي، وهو رجل طيب الأخلاق والشمائل فأحسن إلينا غاية الإحسان، واجتمع علينا التجار من قبيلتنا الجكنين، كانوا في أرض فاوى فمكثنا معهم أسبوعاً في غاية الإكرام والتبجيل.
وزارنا كثير من أهل فاوى، وسألونا عن مسائل منها: امرأة غاب زوجها، فسمعت في غيبته أنه مات، فظنت صدق الخبر فاعتدت وتزوجت، فحملت من الزوج الثاني ثم انكشف الغيب عن حياة الزوج الأول وعدم فراقه لزوجته، ما الحكم في ذلك في مذهب مالك رحمه الله؟ فأجبناهم بفتوى كتبناها لهم محررة بنصوص فروع مذهب مالك، وذكر صاحبها في صفحة ونصف تقريباً.
يعني هل تبين حكم الزواج بالثاني أنه باطل، لماذا؟ لأنها ما زالت في عصمة الأول؛ لأن الأول ما طلق ولا مات لتعتد عدة صحيحة، فإذاً الزواج الثاني باطل.
فهل ترجع إلى الأول؟ كيف ترجع إلى الأول وفي بطنها حمل؟ إذاً لا بد أن تنتظر حتى تضع حملها فإذا وضعت حملها وصار الرحم نظيفاً وبعد ذلك يُقال للأول: هل تريدها أم لا؟ فإذا قال: أريدها، رجعت إليه، وإن قال: لا أريدها، نقول: طلقها، فيطلقها فتعتد فيتزوجها الثاني زواجاً صحيحاً.
المهم هذه المسألة وفيها مناقشات وأبحاث للفقهاء، على أية حال أجابهم رحمه الله عن ذلك.(68/11)
الشنقيطي يلقى الترحيب والإكرام في أكثر القرى التي مر بها
قال: ولما قدمنا إلى بلدة أنيامي في الضحى بعد الليلة الثانية، نزلنا عند تاجر اسمه الكيدي تورى، وهو رجل كريم السجايا والطبائع، فيه نفع للمار به من عامة المسلمين -جزاه الله عنهم خيراً- ففرح بقدومنا وأكرمنا غاية الإكرام، ورغب جداً في أن نقيم عنده شهر رمضان وقد استهل ونحن عنده، ووعدنا بأن يحملنا من كيسه في طائرة إلى جدة إن أقمنا معه مدة، فقلنا له: لا بد لنا من أن نجد في السير في الوقت الحاضر فأهدى لنا وودعنا.
فقد يقول قائل: ولماذا لم يسافروا بالطائرة إلى جدة؟ يقال: إن في سفره فوائد، فهو يريد أن يفيد الناس، وإذا ذهب إلى جدة بالطائرة فاتت كل الفوائد على الناس، وكذلك ربما يريد رحمه الله أن يدفع من جيبه أجرة الحج لأنه لا شك أنه كلما بذل الإنسان في حجه من جيبه كان أفضل، فالذي يحج على نفقته، أفضل من الذي يحج على نفقة غيره، مع أن الحج على نفقة الغير صحيح ولو كان فرضاً.
في مدة إقامتنا عند الحاج الكيدي تورى جاءنا رجل من أهل العلم من قبيلة تسمى الطلابا اسمه محمد بن إبراهيم وطلب منا أن نبين له معاني سلم الأخضري في فن المنطق بدرس شاف فأجبته، وكان يكتب ما أملي عليه من إيضاح معانيه، ليلاًً ونهاراً خوفاً من معاجلة السفر قبل إتمامه يقول: قبل أن يذهب الشيخ، نكتب ما عنده من العلم ليلاً ونهاراً، يكتب، الطالب قد يتحمل لكن الشيخ جاء من سفر، وفي سفر ومع ذلك بذل نفسه رحمه الله في الإملاء والتعليم، فجاء الإملاء شرحاً وافياً وعن غيره كافياً، الحمد لله رب العالمين.
ثم سألنا عن تعين الناسخ لآية الوصية للوالدين والأقربين ما الذي نسخها؟ فقلت له: كان هذا مشكلاً عليّ في زمن درسي فن أصول الفقه إشكالاً قوياً -فما الذي نسخ الآية؟ هل هي آية المواريث أم آية من القرآن أخرى، أم الذي نسخها من السنة، وهو حديث: (لا وصية لوارث) وإذا كان هذا فهل السنة تنسخ القرآن؟ وفي ذلك بحث طويل- فالشاهد أنه أجابه وبين له وجه الإشكال في خمس صفحات ورد عليه.
قال: ثم بعد ذلك قدمنا إلى بلدة مرادي وفي العشر الأوائل من رمضان أكرمت فيها ونزلت عند أحد أبناء عمي وفي ضيافته خمسة أيام، وقدّمنا فلوساً كانت عندنا إلى فورنلي بطريق الحوالة -يحتاجون إلى إرسال نقود إلى قرية سيأتون عليها، أو بلد سيأتون عليها فأرسلوا لها حوالة -ثم سافرنا من القرية التي تسمى مرادي، إلى بلد اسمها كانو، فلما مشينا قليلاً مررنا على مركز فرنساوي، هو الحدود بين النيجر الفرنسي ونيجيريا الإنجليزية وهذه تحت الاستعمار الفرنسي، وهذه تحت الاستعمار الإنجليزي، فنظر رئيس المركز في جوازات السفر وأمضاها، وبتنا تلك الليلة في بلد اسمها كتنة، ثم من الغد نزلنا وكان آخر النهار فنزلنا عند شريف ظريف، اسمه محمد الأمين الشريف، فأحسن إلينا غاية الإحسان، وبتنا عنده ليلة وبادرنا السفر من صبيحتها متجهين إلى قرية تسمى جص.(68/12)
الشنقيطي وبعض الصعوبات التي واجهته أثناء الرحلة
ركبنا في قطار الحديد إلى قرية تسمى جص فبتنا دونها ليلة، وجئناها من الغد فوجدناها كما قال الشاعر:
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
غريب الوجه: أي: ما ترى فيها عربي، واليد واللسان، ولا لسان عربي، فلم يفهموا كلامنا، ولم نفهم كلامهم، وبتنا فيها ليلة واحدة، ثم وجدنا واحداً يفهم من العربية قليلاً، فحصل بيننا مفاهمة مع صاحب سيارة ذاهبة إلى بلدة مادثري، فدفعنا لصاحبها أجرتها وركبنا فيها، فلما سارت بنا تسعة وستين ميلاً وقع فيها خلل مانع من الحركة، فمكثنا يومين وليلة في محل واحد موحش، كثير البعوض والندى -الرطوبة- في خلاء من الأرض ثم أصلح فسادها حتى لم يبق بيننا وبين البلدة التي يقصدونها إلا مائة ميل وسبعة عاودها الفساد، فمرت بنا سيارة ذاهبة إلى تلك البلدة، فدفعنا الأجرة لصاحبها وركبنا فيها، فأدخلتنا البلدة في تلك الليلة، فنزلنا على تاجر اسمه عبد المحمود، فأصلح لي خللاً كان في جواز رفيقي عند الحكومة، فشكرت له، وتذكرت قول الشاعر:
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعةً من جاهه فكأنها من ماله
ومكثنا في هذه البلدة ليلتين، ثم سافرنا إلى فورنلي، فركبنا بالأجرة في سيارة مشت بنا خمسة أميال ففسدت فساداً مانعاً من الحركة، فبتنا في ذلك المكان، وأرسل الله مطراً كأفواه القرب، فلما كان آخر النهار فعل لها سائقها شبه الإصلاح، وسرنا فيها آخر النهار سيراً ضعيفاً للخلل الواقع بها، فلما سارت بنا ستة أميال راجعها الفساد بأشد من الحالة الأولى فبتنا في ذلك المكان تلك الليلة، ولما ارتفع النهار مرت بنا سيارة، فدفعنا الأجرة إلى صاحبها وركبنا فيها، فسارت بنا بقية اليوم، فلما كان آخر النهار حبسها المطر، في قرية اسمها كنبار، فلما كان من الغد وجاءت بنا آخر النهار إلى بلد اسمها كسرى، فأتعبنا أهل مركزه بتفتيش المتاع، وأخذوا منا جوازات السفر وباتت عندهم.
أي: هذا يؤخذ منه، كيف الذي كان يحج البيت العتيق، يعاني من المشاق الشديدة في السفر، والآن ينبغي أن نحمد الله سبحانه وتعالى على الوسائل التي هيأها للسفر، فكيف كانوا يعانون لأجل الذهاب إلى البيت العتيق، وتعترضهم هذه الاعتراضات.
وذكر قصة أن بعضهم قد أصر على أن يدفع أجرة السيارة عنهم، وأنه دعا له بالخير حيث قال: جزاه الله خيراً، ومعروف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من قال لأخيه جزاك الله خيراً فقد أجزل له في العطاء) أي: إذا صنع لك معروفاً ولم تستطع أن تسدي له مثله، فلتدعو لصاحبه، فبأي شيء تدعو له؟ من السنة أن تدعو له بأن يجزيه الله خيراً، فتقول: جزاك الله خيراً.
قال بعد ذلك: جميع السيارات التي نحن فيها والتي ترافقنا مشحونة من السوادين الذين لا يفهمون كلامنا ولا نفهم كلامهم، وأكثرهم كالبهائم -أي: لا دين ولا عقل- فذكرتني مرافقتنا معهم أبيات -تصور أن واحداً يرافق أناساً لا دين لهم ولا عقل، كالبهائم- لـ محمد بن السالم الشنقيطي:
إذ يطرحوني أرضاً لا يؤانسني إلا لص هريت الشدق نباح
فكم تكنفني في ظل مدرسة شم الأنوف لهم كتب وألواح
وكم يغازل جماء العظام على أنيابها العنبر الهندي والراح
وفي تلك الأيام أغلق الفرنسيون الطريق المعهودة إلى قرية آتيفا، فهاشت بنا السيارة إلى بحر الغزال، فبتنا دونها ليلة وجاء من الغد ورحنا آخر النهار متوجهين إلى قرية آتين في طريق غير معبد، فهو إلى بنيات الطريق أقرب منه إلى الطريق كلما خرجنا من ورطة حبستها أخرى، والأرض هناك رمال لينة جداً، بتنا الليل كله نمشي على أقدامنا، لكن قليلاً قليلاً لكثرة عوائق السيارات من الرمل اللين، فدخلنا وادياً فيه زراعات ومياه، وفيه الفلفل الأحمر بكثرة لا ندري ما اسمه، وقلنا فيه -من القيلولة- ثم رحنا منه آخر النهار.
ثم جئنا بعد ذلك إلى القرية فالتمسنا عربياً نبيت عنده، فدعاني رجل عربي -هذه قصة جيدة- والله ما سألته عن اسمه ولا اسم أبيه خوفاً من الغيبة -الآن دخلوا بلداً فأبوا أن يضيفوهم، حتى جاء رجل عربي رضي أن يضيفهم، لكن لما رأى الشنقيطي رحمه الله مستوى الضيافة، أو ما عند الرجل أو ماذا سيقدم لهم، ما سأله عن اسمه ولا اسم أبيه، خشية الغيبة، خشية أن يذكره بعد ذلك بشر وهو يعرف اسمه- قال: والله ما سألت عن اسمه واسم أبيه خوفاً من الغيبة، فأنزلنا في مكان يعوي منه الكلب، وأغلقه علينا من الخارج، فبتنا بليلة لا أعاد الله علينا مثلها، أشد من ليلة النابغية وأشد من ليلة المهلهلية، فذكرتني ليلة النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
ليلة مرت علينا طويلة جداً من المشقة في ذلك المكان، واستعار أيضاً من المهلهل يصف ليلة طويلة:
كأن كواكب الجوزاء عود معطفة على ربع كسير
كأن الجدي أثناه ربق أسير أو بمنزلة الأسير
هذا الجدي والجوزاء نجوم في السماء، لها منازل إذا مرت الليلة تمر النجوم، يقول: كأن الجدي هذا مربوط كأنه أسير.
كواكبها زواحف لاغبات كأن سماءها بيدي مجير
ثم بعد ذلك مضت تلك الليلة، وصُبح تلك الليلة أحب غائب إلينا، فخرجنا من ذلك الضيق أول النهار.(68/13)
الشنقيطي يناقش مسألة الزواج بنية الطلاق
ونزلوا على الحاج مكي في محطة فقابلهم بالبشر والترحاب، وأكرمهم فدعا له، قال: جزاه الله خيراً، ثم بعد ذلك جاءوا إلى بعض المراكز -يقتربون الآن من مراكز حدودية وتفتيش- قال: ومما سأله عنه أهل قرية الجنينة، تولية المسلم على المسلم إذا كانت صادرة من غير مسلم متغلب، هل هي منعقدة أم لا؟ -متغلب من هو مثلاً: فرنسي أو إنجليزي، إذا ولى مسلماً على مسلم ولاية، هل تنعقد الولاية؟ هل هي شرعاً صحيحة؟ - ومما سألونا عنه صلاة الجمعة في مسجد جديد بناه رجل من أهل البلد في جانب من جوانب البلد، هل يجوز لمن أراد صلاة الجمعة فيه أن يصليها فيه، أو يرسلهم يصلوا في الجامع الكبير الذي هو مسجد الجمعة العتيق؟ ومما سئلنا عنه: الغريب في بلد يريد التزوج فيه ونيته أنه إن أراد العودة لوطنه ترك الزوجة طالقاً في محلها، فهل تزوجه مع نية الفراق بعد مدة، يجعل نكاحه نكاح متعة، فيكون باطلاً أم لا؟ فالمسألة باختصار هل يجوز الزواج بنية الطلاق؟ بدون أن يشرط عليهم ذلك ولا يخبرهم ولا يكلمهم ولا يتفق معهم في العقد ولا شيء، شخص تزوج امرأة بنية أن يطلقها بعد مدة؟ قول جمهور العلماء الجواز، وأنها فرق بين هذا وبين نكاح المتعة، نكاح المتعة نكاح على أجل معلوم بين الزوجين يُذكر في العقد، وبانتهاء المدة ينتهي العقد، أما هذا نية حديثة في النفس غير مخبر عنها ولا متفق عليها ولا هي في العقد، ثم كما يقول الشيخ عبد العزيز في تبين رجحان الجواز، قال: قد يأتيه منها أولاد وقد يرغب فيها، وقد يمسكها ولا يطلقها، وأن الفراق ظني، فقول جمهور العلماء في هذه المسألة: الجواز.
قال: ونزلنا الأبيض بعد ذلك، فنزلنا عند رجل اسمه محمد خير مكثنا في قرية الأبيض ليلتين وصاحبنا الذي نحن في ضيافته، يُرسل لنا في يومينا قبل المغرب قطعة من عصيدة الدخن عليها بعض الإدام، فمرة تركناها وأكلنا من زادنا، ومرة تناولناها، فتذكرت قول الشاعر:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
والموت سوى حين عدّل قسمه بين الخليفة والفقير البائس
يقول: الجوع مطرود بالرغيف اليابس فلماذا أتحسر على طعام لا أشتهيه، أو على طعام ليس بجيد، الجوع يطرد بالرغيف اليابس.(68/14)
الشنقيطي في معهد أم درمان
ثم ذكر بعد ذلك في الطريق أن بعض الأساتذة المدرسين في معهد أم درمان، وأثنى على أم درمان، وعلى معهد أم درمان، وعلى الطلاب الذين في هذا المعهد الديني، وقال: إنه سأله بعض الأساتذة أن يتكلم له على قوله جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد:31] ذكر الجواب في ثلاث صفحات.
ثم سألونا عن وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] وبينا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] وذكر في تفسيره أضواء البيان كلاماً رائعاً حول هذا، والقراءات في (آمرنا وأمّرنا، أمرنا) أن أمر أو أمِر في اللغة تأتي بمعنى الكثير أي: كثرناهم، ويستشهد بقول أبي سفيان: أمِر أمر ابن أبي كبشة أي: عظم وانتشر.
ثم سألني بعض أذكياء الطلبة عن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] في معهد أم درمان سألوه عن تفسيرها، وعن قصة الغرانيق، فأجابهم في تسع صفحات.
ثم سألوه عن تحقيق بيتين في ألفية ابن مالك، فأجابهم عن ذلك، وسألوه عن مسائل أخرى لغوية ونحوية، ذكرها رحمه الله في كتابه الذي هو رحلة الحج، ثم سألنا بعض الطلبة: هل عثرنا على نص من كتاب أو سنة يُفهم منه وجود دولة لليهود في آخر الزمن؟ فأجاب رحمه الله ما ملخصه: إن ذلك قد جاء بالإشارة أن بعض النصوص فيها إشارة إلى هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وأن المقاتلة على وزن مفاعلة، والمفاعلة لا بد أن تكون بين طرفين، هم طرف وأنتم طرف، وإذا كان هذا معنى ذلك أنه لا بد أن يكون هناك جيشان، وإذا كان هناك جيش فلا بد أن يكون هناك اجتماع ونظام وأمير لكل من الطرفين.
فمعنى ذلك، قال: وفي هذا إشارة إلى أنه يكون لليهود دولة وقوة حتى يقاتلوا، هذا كله أخذه من أين؟ كل الكلام هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود) وذكر أن فيها إشارة فعلاً إلى ذلك وأنه لا يصلح أن يقاتلونا وهم كما قال الله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} [الأعراف:168] أنهم مقطعين مشردين فلا بد أن يجتمعوا وتكون لهم قوة ويعملون جيشاً ثم يقاتلون، ولكن ستكون الغلبة في النهاية للمسلمين عليهم.
وسأله بعض الطلاب عن الحديث الثابت في قتال الترك: (كأن وجوههم المجان المطرّقة) فما معنى هذا؟ ومن أين أخذ؟ وقال: لم تزل المذاكرة بينا وبين علماء معهد أم درمان الديني حتى جاء حديث الضيافة والإحسان إلى الضيف في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) ذكروا أن الشعراء ربما هجوا على عدم القِرة -أي: عندما يأتي ضيف فلا يجد أحداً يُضيفه- وذكرت لهم نبذاً من هجاء الشعراء -انظر العالم وميزة العالم، أن كل شيء يأتي تجد أن له فيه إسهاماً، من شعر أو قول فكانت هذه الملح في هذا- قال: وأنهم ربما هجوا على قلة المقدم إليهم، كما قال بعض الأدباء:
أبو جعفر رجل عالم بما يصلح المعدة الفاسدة
تخوف من تخمة أضيافه فعودهم أكلة واحدة
فهذا من بخله، لكن الشاعر، يتندر عليه فيقول: هذا حريص على صحتنا، وعلى عدم تلبك معدتنا.
ولما ذكرت لهم بهذه المناسبة بيتي الأديب أحمد بن عبد الله البوحسني الشنقيطي المعروف بالذئب، وقد استضاف أقواماً فلم يضيفوه، رفضوا أن يضيفوه:
مات الغداء لدينا أهل ذا الأفق والخطب سهل إذا كان العشاء بقي
ولست أحسبه يبقى وقد زعمت عوّاده أنه في آخر الرمق
أي: أنهم سيأكلوا الآن العشاء والضيف يبقى بلا شيء، فضحكوا.
ثم سألني صديق كبير ذو الشمائل الطيبة، أحد أساتذة المعهد المذكور الشيخ إبراهيم يعقوب فقال: أأنت شاعر أم لا؟ فقلت: أما بالجبلة والطبيعة فنعم، الشعر يجري في نفسي، وأما من حيث التوصل بالشعر إلى الأغراض والأكل به من الملوك والأمراء فلا، فألح عليّ أن أسمعه شيئاً كنت قلته من الشعر فيما مضى، فأخبرته أن عهدي ينسج القريض أيام الصبا، وأكثر ما جرى على لساني في عنفوان الشباب، وأني لما عزمت على ألا أقول شعراً قلت أبياتاً في ذلك مقتضاها أن مقاصد الشعراء ليست لي بمقاصد.
المهم أنهم أصروا عليه فأسمعهم بعض الأبيات التي سبق أن نظمها، وسألوه عن آيات أيضاً من القرآن الكريم، ثم قال: لما عزمنا على السفر من أم درمان اجتمع بنا الأخ الفاضل محمد صالح الشنقيطي رئيس لجنة في السودان فأحسن إلينا وأكرمنا غاية الإكرام وجمع بيننا وبين السيد عبد الرحمن فعزيناه في ولد ولده كان متوفى عند ملاقاتنا، ففرح بلقائنا وأظهر لنا البشر والإكرام، وأهدى لنا هدية سنية، وشيعنا بسيارته الخاصة، وأخذ لنا ولجميع من معنا تذاكر السفر في القطار الحديدي؛ كي نسافر.(68/15)
الشنقيطي في أرض الحجاز
سافرنا في العشر الأواخر من ذي القعدة من سنة (1367) هـ متوجهين إلى سواكن، فبتنا دونها، وجئناها من الغد فنزلنا في خيم مبنية للحجاج، وأخذنا جوازات السفر إلى الحجاز، وما توصلنا إلى أخذها حتى تعبنا من الزحام في المركز لكثرة الحجاج المزدحمين لأخذ الجوازات، وكان بواب المركز يُدخل قبلنا كثيراً من أخلاط الناس من أسود وأحمر ونحن جئنا قبلهم، فذكرني ذلك قول عصام بن عبيد الزماني:
أدخلت قبلي قوماً لم يكن لهم في الحق أن يدخلوا الأبواب قدّامي
أي: هذه شغلة الواسطات، دخل ناس قبلنا ونحن واقفون، ثم بعد أن تحصلنا على أخذ الجوازات وبعد أن سلمنا الرسوم المقررة مكثنا في محل النظر في صحة الحجاج ثلاثة أيام، ثم ركبنا في السفينة متوجهين إلى جدة، فمكثت السفينة بنا يوماً وليلة في البحر، ثم نزلنا من الغد في جدة في بيت لآل جمجوم عمومي لنزول أهل قطرنا -أي: هذا البيت مخصص للشناقطة ينزلون فيه- فمكثنا ليلتين في جدة، ولم نجتمع بأحد من أهلنا، لكن اجتمعنا برجل سوداني موظف في بعض الشركات اسمه أحمد بكري، فأحسن إلينا وحملنا إلى مكة المكرمة بواسطة رجل طيب من موظفي إدارة الحج، فركبنا من جدة بعد صلاة المغرب، محرمين ملبين تلبية النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، وكان إحرامنا بالحج مفرداً.
الشنقيطي رحمه الله في كتابه أضواء البيان في سورة الحج، تكلم على أنواع النُسك، ونصر القول بالإفراد نصراً عظيماً وأتى له بالأدلة وحشدها حشداً يكاد القارئ له أن تزول قناعته باستحباب التمتع، ولكن مذهب جمهور أهل العلم كما هو معروف أن التمتع هو الأفضل لكن من أراد أن يَنظر في تقرير استحباب الإفراد فعليه بما كتبه الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان.
وبعد ذلك نزل رحمه الله في منى بجانب بعض الخيام، وسأله بعضهم عن مسائل متعلقة باللغة والشعر، وحصلت مباحثات أيضاً فقهية وغيرها، قال: ثم سافرنا من مكة المكرمة بعد أن اعتمرنا من التنعيم وطفنا وقت السفر طواف الوداع، ودعونا الله ألا يجعل ذلك آخر عهدنا ببيته الحرام، فبتنا ليلة في جدة، وتوجهنا إلى المدينة وركبنا في سيارة ومالكها معنا وهو يحفظ القرآن العظيم وعرض علينا في الطريق أجزاء عديدة من القرآن، أي: حفظاً، هذه قراءة العرض، ولا بأس بقراءته وحفظه، ووقفت بنا السيارة بعد المغرب في محطة اسمها ذُهْبَان، ثم مرت بنا على محطة اسمها: توَل هذه يسمونها الآن البادية، تول بإسكان التاء وغيرهم والحاضر يقولون تُول، ووقفت فيها قليلاً ثم سارت بنا إلى البلدة المعروفة رابغ وذكر قول الشاعر هنا:
فلما أجزنا الميل من بطن رابغ بدت نارها قمراء للمتنور
ولما أضاء الفجر عنّا بدت لنا ذرى النخل والقصر الذي دون عزور
فإذاً هذا موضع آخر عزور هذا في الطريق، وكان كلما جاء إلى مكان، هو يراه لأول مرة، ولكن اسم المكان معروف عنده من شواهد العرب من قبل، فكل ما جاء على بلد وعلى مكان يتذكر ما قيل من الشعر في هذا المكان، قال: ووجدنا غالب الطعام الموجود فيها لحم السمك، وقال: ثم ذهبنا في تلك الليلة من رابغ بعد ظرف قليل من الزمن، صعدت بنا السيارة جبلاً عُبدت فيه الطريق للسيارات فقال لنا صاحب السيارة: هذا الجبل اسمه هرشى، فتذكرت قول الشاعر:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
وأخبرته أنه يُروى، وهذا السفر طبعاً يقطع بمنح وبأشياء وملح وطرائف، فأخبرتهم أنه يروى عن بدوي من الأعراب أنه قرأ سورة إذا زلزلت، وقرأ فيها فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، فقالوا له: قدمت المؤخر وأخرت المقدم، أي: الآية، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] الخير أولاً ثم الشر، فقال لهم:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن طريق
قال هذا من جهله وجفائه.
ثم عرّجنا آخر الليل بين جبال كثيرة وأخذنا هجعة لنستريح، فما استيقظنا حتى اتضح الصبح فتوضأنا، وصلينا الرغيبة وفرض الفجر وركبنا في محطات متعددة، وذكر بعض هذه المحطات إلى أن وصل أبيار علي، حصل للسيارة عائق إلى صلاة العشاء خلصت منه وتقدمت إلى المدينة، وصلوا المسجد النبوي وقد أغلقت أبوابه وانصرف الناس عنه كالعادة، فلم يُقدر لهم صلاة في تلك الليلة في المسجد النبوي.
ثم نزلوا عند الشيخ محمد بن عبد الله بن آد، فتلقانا بالبشر والسرور ولم نُدرك ذلك اليوم صلاة الصبح مع الجماعة، لأننا لم نستيقظ من شدة تعب السفر حتى ضاق الوقت، فصلينا الرغيبة وفرض الصبح في محلنا لضيق الوقت، ولما ارتفعت الشمس وحل النفل -وصارت صلاة النفل جائزة- ذهبنا الحرم المدني.(68/16)
الشنقيطي يقيم نشاطاً دعوياً وعلمياً في السعودية
هذه رحلة الشيخ رحمه الله باختصار، والذي يقرأ الكتاب سيجد فيه الفوائد الكثيرة والعظيمة جداً، وحصل في خِلال إقامة الشيخ أشياء، ومن أهم الأشياء التي حصلت من أن الشيخ كان قد سمع دعايات عن الوهابية في بلده، فقد جاء إلى البلد هنا وعنده فكرة أنه سيواجه الآن أناساً من المنحرفين ومن المتعصبين -الوهابية فيهم وفيهم- مع أن الشيخ عقيدته صحيحة، لكن ليست عنده فكرة صحيحة عن الوهابية الذين أطلقت عنهم الدعايات في مواسم الحج وغيره من الضلال وعمموا بها على العالم الإسلامي، ومن ذلك بلد الشيخ.
فتعامل بعض أهل علماء البلد معه بحكمة، وقُدم للشيخ كتاب المغني في أصل المذهب، وبعض كتب شيخ الإسلام، كمنهج العقيدة، فقرأها وتعددت اللقاءات مع علماء البلد، فوجد مذهباً معلوماً من مذاهب أهل السنة ومنهجاً سليماً في العقيدة، وقيل له: هذا الذي يُدَّرس، وهذا الذي عليه أهل العلم، فعند ذلك انكشفت القضية للشيخ، وعرف حقيقة الأمر واتضحت له القضية، وزيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة، وتوطدت العلاقات بينه وبين علماء هذه البلاد، وأعرب عن رغبته بالتفسير.(68/17)
تدريس الشنقيطي للتفسير واللغة
فقال: ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه أمنيته- تحققت أمنية الشيخ وحقق الله مراده، وبلغه أمنيته، وأُقر له درس في المسجد النبوي وفسر القرآن فيه مرتين، وتوفي ولم يكمل المرة الثالثة، كان بداية الدرس في عام (1369) هـ وعام (1370هـ) على مدار العام، ثم صار مقتصراً على الإجازة الصيفية في عام (1371) هـ حيث كان يدرس في كلية الشريعة واللغة في الرياض، فإذا نزل إلى المدينة في الإجازة الصيفية درس وأكمل التفسير، استمر على ذلك إلى سنة (1381) هـ حيث صار الشيخ مدرساً في الجامعة الإسلامية.
وكان يخص التفسير في وقت من الأوقات، في شهر رمضان من العصر إلى المغرب، ويُظهر فيه الأعاجيب فظهر علمه للناس، وكان يحرص على ربطه بالواقع ما وجد إلى ذلك فرصة، كربط تكشف النساء اليوم بفتنة إبليس لحواء في الجنة، في قوله تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27] وقال: إن فتنة الجاهلية الأولى كانت أن يطوفوا بالبيت عرايا رجالاً ونساء.
وهاهو الشيطان في هذا الزمان يستدرجهن في التكشف شيئاً فشيئاً، بدءاً بكشف الوجه ثم الرأس ثم الذراعين إلى آخر كلامه رحمه الله، ومن أراد أن يرجع إلى كلامه فعليه أن يقرأ أضواء البيان في تفسير هذه الآية، ووصل إلى قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:12] فتكلم في القياس كلاماً عجيباً في إثباته، والرد على ابن حزم وغيرهم من نفاة القياس، فعرف الناس منزلة الشيخ وعلمه واجتمعوا عليه وكان درسه حافلاً وكانت له ثلاث مستويات في التفسير، في الشرح الإسهاب والتوسع في المسجد النبوي في شهر رمضان من كل عام، من العصر إلى قريب الغروب.
الحالة الثانية: التوسط، وهذا كان في تدريسه في الفصل، والاقتضاب إذا رأى في آخر السنة أن الوقت قد ضاق والمنهج لم يكتمل، فإنه كان يختصره اختصاراً، تولى تدريس التفسير في دار العلوم في المدينة، عام (1369) هـ إلى أن انتقل إلى الرياض عام [1371هـ] ودرس التفسير والأصول بالمعهد العلمي وكليتي الشريعة واللغة، وظل هناك عشر سنين استفاد منه من لا يُحصى في الدروس النظامية وغيرها.
كان يتكلم في علم الأصول في الرياض الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ محمد خليل هراس رحمهما الله، فلما جاء الشنقيطي إلى الرياض سُلمت الراية إلى صاحبها، وحصلت المناظرات وعقدت المجالس، وكانت تلك المجالس حافلة جداً، لا شك أنه قد فاتنا الخير العظيم، نحن كلنا ما حضرنا هذا ولا رأيناه، فلا شك أن مثل تلك المجالس يتأسف الإنسان وبود كل واحد أنه حضر تلك المجالس.
الشنقيطي رحمه الله يتكلم في الأصول، لو أنك قلت بأنه لا يُعرف مثل الشنقيطي رحمه الله في التفسير والأصول في هذا العصر -أقصد في هذا الزمن الذي نعيش فيه- لكان ذلك صحيحاً واضحاً، تفسير وأصول لا يُعلى على محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله يُسلم له بذلك، وكان الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد ناصر الدين الألباني يحضران مجلسه في التفسير في المسجد النبوي.
وكان أيضاً يعقد له في صحن المعهد في الرياض بين المغرب والعشاء درس، وكلفه الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق رحمه الله بتدريس أصول الفقه لكبار الطلبة، قال: هو أحق بذلك مني، فعقد درساً خاصاً لنجباء الطلاب بعد صلاة العصر، وأملى وشرح مراقي السعود، وحصل بعد فتح الجامعة الإسلامية عام (1381) للهجرة انتقال الشيخ إلى المدينة، ليدرس في الجامعة.
وفي عام (1386) للهجرة عندما افتتح معهد القضاء العالي بـ الرياض وكانت الطريقة استخدام الأساتذة الزائرين، كان من ضمن وأهم من يزور ذلك المعهد هو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وصار الشنقيطي في لجان لأهل العلم تفتي في القضايا المعاصرة، وقد شهد له أهل العلم بحسن الإدارة، وبعد النظر في الأمور، وحسن التدبر للعواقب، ولما صارت بعض البعثات من الجامعة الإسلامية إلى بعض الدول الإسلامية، للدعوة والتعليم سافر الشنقيطي رحمه الله تعالى وكان لا شك فيه شوق إلى بلده، فذهب في رحلة من السودان انتهت في موريتانيا، موطن الشيخ، رافقه فيها عدد من أهل العلم، ويوجد الآن عشرة أشرطة تسجيل لدروس الشيخ في رحلة أفريقيا، عشرة أشرطة رحلة الشيخ إلى أفريقيا مسجلة وموجودة، ولا زالت محفوظة.(68/18)
الكتب التي ألفها الشنقيطي في بلاد الحرمين
وألف الشيخ رحمه الله في فترة إقامته في هذه البلاد، كتباً عظيمة جداً منها: أضواء البيان، منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز، وحاول أن يرد عليه واحد اسمه عبد العظيم المطعني، ولكنه لا شك أن بين علمه وبين علم الشيخ بوناً شاسعاً، وكذلك فإن الشيخ رحمه الله قد ألف كتابه العظيم دافع الإيهام والاضطراب عن آيات الكتاب، الذي بين فيه التوفيق بين الآيات والنصوص التي ظاهرها التعارض؛ لأن القرآن نزل من عند الحكيم العليم، العزيز الكريم، لا يمكن أن يكون فيه تعارض، فإذا ظهر التعارض فلنا نحن.
فبين رحمه الله أي آيات فيها تعارض، يظهر للشخص وما هو وجه إزالة هذا التعارض، وكذلك فإنه رحمه الله كتب رحلة الحج إلى بيت الله الحرام (1367) هـ موجود ومطبوع، ورسالة في النسخ، ورسالة لمنهج دراسات الأسماء والصفات الذي تم عرضه مسبقاً، وتفسير سورة الوقعة وخبر الآحاد، وحكم صلاة الجمعة في المسجد الجديد، الفوائد التي حصلت في رحلته، قد دونت أيضاً.
وشرح على مراقي السعود لمبتغي الرقي والصعود، شرحه رحمه الله شرحاً لا شك أنه شرح نفيس ومهم جداً لهذا الكتاب، وكذلك بيان الناسخ والمنسوخ من الآي والذكر الحكيم، وشرح على سلم الأخضري، ولعل الشيخ عبد العزيز قد أخذه عنه تلميذاً في هذا الفن.
وكذلك فإن له رسائل متفرقة في التوحيد والوعظ وتحكيم الشرع، وأحوال الاجتماع بين المجتمع والاقتصاد، وكذلك تسلط الكفار على المسلمين، ومشكلة ضعف المسلمين، ومشكلة اختلاف القلوب بين المجتمع، وله محاضرات مطبوعة، منها: في تفنيد شبه حول الرق وحكم الصلاة في الطائرة، وبين صحة ذلك، وقال: أما بعد: فقد طلب مني بعض فضلاء إخواني أن أقيد لهم حروفاً تظهر بها صحة صلاة من صلى في الطائرة، فأجبناهم إلى ذلك.
قلنا: لا شك أن الشيخ كان رحمه الله تعالى سلفي العقيدة، وأنه كان مقاوماً للشرك، ويظهر كلامه في مؤلفاته في رفضه للبدع الشركية والقبور والأضرحة، وتحقيق التوحيد يظهر لمن تأمل تفسيره رحمه الله تعالى، والرد على الصوفية في مسائل الإلهامات والخواطر، والزنادقة والرد عليهم كما في معنى قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] والكلام في مسائل في العقيدة، لأهل الفرق فيها ضلالات، كنزول عيسى وعصمة الأنبياء وغير هذا كثير جداً.(68/19)
وفاة الشنقيطي وبعض الأبيات في رثائه
لما حج الشيخ رحمه الله في آخر عمره جاء للسعي يوم الحج الأكبر سعى شوطاً واحداً على قدميه، ثم أخذت له العربة، فحصل معه ضيق في التنفس من ذلك الشوط الذي طافه على قدميه، ثم تُوفي في اليوم السابع عشر من ذي الحجة، في عام: (1393) للهجرة ضحى يوم الخميس، يقول غاسله الشيخ أحمد بن أحمد الشنقيطي وغسلته في بيته في مكة، بشارع المنصور، وصلى عليه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي مع من حضر من المسلمين ودفن بمقبرة المعلاة بريع الحجون بـ مكة، حرسها الله تعالى، وقد رثاه عدد من العلماء من طلابه ومحبيه، منهم ابن عمه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني الشنقيطي، الذي يقول:
أبكي الأمين وليتني من علمه ما عشت فزت بنيل كل بيان
أبكي الأمين محمداً وإنني أبكي الأمين لشرعة القرآن
من ذا يلومك إن بكيت مفوهاً سمح الخليقة من بني الإنسان
إلى آخر الآبيات، وكذلك الشيخ محمد بن عبد الله بن أحمد المزيدي الجكني الشنقيطي رثاه بقصيدة مطلعها:
نعى الأمين نعاة قد نعوا علما بحراً خضماً بموج العلم ملتطما
أبكته أجيال علم حين عد له ريع الحجون مصيراً بعدما ختما
ما كان يرغب في السكنى بذي بلد غير المدينة طابت مسكن الكرما
فبنى بها وببيت الله دار سكناً فالخير فيما أراد الله منحتما
ثم قال:
من للنوازل مثل الشيخ إن نزلت أو للحوادث إن أدمت بنا كلْما
أضواؤه كشفت أبعاد مطلبه والدفع يدفع ما في الوحي قد وهما
البيت هذا فيه اسم كتابين وهما أضواء البيان، ودافع الإيهام والاضطراب.
إن النصوص لها جرح به أثر قد كان يلئمه بالعلم فالتأما
معروفه عرفت منه الأرامل ما يغني عن الذكر والمسكين والهما
عز العلوم وطلاب العلوم ومن يعرض سؤال علوم أو أصولهما
إلى آخر تلك القصيدة، ورثاه عدد من أهل العلم، منهم أيضاً الشيخ محمد بن مدين الشنقيطي بقوله:
الله أكبر مات العلم والورع يا ليت ما قد مضى من ذاك يرتجع
يبكي الكتاب كتاب الله غيبته كذا المدارس والآداب والجمع
مفسر الذكر الحكيم وما من الحديث إلى المختار يرتفع
أخلاقه الشهد ممزوجاً بماء صفا وما يغير طبعاً زانه طبع
فهو الإمام الذي من غيره تبع له وهل يستوي المتبوع والتبع
إذا ما بدا في الدرس تحسب فيضه على الناس صوب المدجنات السحائب
كما قال في قصيدة أخرى، محمد الأمين محمد المختار رحمه الله.(68/20)
تواضع الشنقيطي وزهده وحسن أخلاقه
أما بالنسبة لسمته وأخلاقه: الإمام أحمد رحمه الله نقل عبارة: أصل العلم خشية الله، وبرؤية العالم يُعرف من شكله وسمته، وهكذا قال بعض من واجهوه، وكان من عنايته بالعلم يقول ابنه عنه: قال لي أبي: لا توجد آية في القرآن إلا درستها على حدة، وأخبرني وكذلك قال أحد تلاميذه: كل آية قال فيها الأقدمون شيئاً فهو عندي، هذا لم يتباه به في مجالس أمام الناس بل قاله لولده، وقاله لأحد أصحابه خاصةً، وكان يلهج دائماً بالوصية، يقول ولده: سألت أبي: ما الذي يطرد وساوس الشيطان؟ قال: التدبر في كتاب الله.
وبهذه الوصية افتتح كتابه وبه ختمه، الوصية بتدبر القرآن، وفي قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] كلام طويل له رحمه الله في هذا، وكان مُتبعاً للسنة، إذا عرف الدليل اتبعه، وكان يقول لبعض الحجاج والزوار من بلده، وكان أهل بلده مذهبهم مالكي، يقول: أنا المالكي لا أنتم، لأني آخذ بالدليل متبعاً في ذلك الإمام مالك رحمه الله لا متعصباً له، ولما سأله بعض تلاميذه أن يدرسوا عليه، قال: ادرسوا عليّ البخاري ومسلماً، ما بين أهمية اعتماده على السنة وتمسكه بها، لكن منيته عاجلت فلم يتحقق تدريسه للبخاري ومسلم في ذلك الموقف.
وكان يجلس في المجلس فيأتي الضيف ولا يشعر به، حتى ينبهه ابنه إلى قدوم الضيف، لانشغال فكره بتجميع شواهد من كتاب الله تعالى، ومنذ أن كان في بلده معروفاً بكثرة التأمل، والعالِم لا بد أن يتأمل، والتأمل شيء ضروري، يقول هو: جئت للشيخ لقراءتي عليه، فشرح لي كما كان يشرح ولكن لم يشفِ ما في نفسي على ما تعودت، ولم يروِ لي ظمئي -هذا كان وهو يطلب العلم- وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس، وكان الوقت ظهراً، فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر، فلم أفرغ من حاجتي، فعاودت حتى المغرب فلم انتهِ، فأوقد لي خادمي أعواداً من الحطب، أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب، وواصلت المطالعة، وأتناول الشاي الأخضر كلما مللت أو كسلت، والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام، وإلى أن ارتفع النهار، وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي، فتركت المطالعة ونمت.
هي مسألة واحدة، هكذا جرى فيها من بعد درس شيخه إلى عصر اليوم التالي رحمه الله تعالى، درس فيها في الليل على ضوء المشاعل، وفي النهار في ضوء النهار، وكان رحمه الله شديد التباعد عن الفتوى، وإذا اضطر يقول: لا أتحمل في ذمتي شيئاً، العلماء يقولون: كذا وكذا، وقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتل، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله، أن الله حرم وحلل، ولا تدري أنك تصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه، ويستشهد بقول الشاعر:
إذا ما قتلت الشيء علماً فقل به ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يرى متصدراً ويكره (لا أدري) أصيبت مقاتله
وجاءه وفد من الكويت في آخر حياته فسألوه عن مسائل فقال: أجيبكم بكتاب الله، ثم جلس مستوفزاً فقال: الله أعلم، هذا الجواب.
قال: أجيبكم بكتاب الله، ثم قال: الله أعلم، قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] لا أعلم فيها عن الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم شيء، وكلام الناس لا أضعه في ذمتي، فلما ألحوا عليه، قالوا: فلان قال كذا -أي من العلماء- قال: وأنا لا أقول شيئاً.(68/21)
زهد الشنقيطي في الدنيا
وكذلك فإنه كان زاهداً في الدنيا عفيفاً عنها، وقال: الذي يُفرحنا أنه لو كانت الدنيا ميتة، لأباح الله لنا منها سد الخُلة، وكان يأخذ من راتبه مصروف الشهر ويوزع الباقي، قال ابنه: كنت أتولى التوزيع على ضعاف طلبة العلم والعجائز الأرامل من القريبات، وكان يقول: والله لو عندي قوت يومي ما أخذت راتباً من الجامعة، ولكنني مضطر لا أعرف أشتغل بيدي، وكان يحذر ولده كثيراً من الدنيا، ويقول: الكفاف منها يكفي، وإن الشيطان ربما سول للإنسان جمعها ليتصدق بها وهو تلبيس، أي: الشيطان يقول: تاجر واربح لأجل أن تتصدق، ثم ينشغل الإنسان بالدنيا ولا يتصدق إلا بالنزر اليسير، وكان لا يُقرض الناس.
يقول: إن كنت محتاجاً إلى ما عندي فلا أعطيه؛ لأني محتاج إليه، وإن كنت غير محتاج فأعطيه من غير قرض، هبة، أو صدقة، أو هدية، أما قرض لا يمكن.
أصلاً ما عنده شيء يقرضه، يأخذ حاجته ويتصدق بالباقي، وكان لا يبعثر النقود بل يعطيهم شيئاً قليلاً تربية لهم، وقال مرة: أنا مختار وعبد الله لا أعطيهم مالاً؛ لأن الأموال تخرب الرجال، وبعض الناس قد يوزع على أولاده بالآلاف، ثم الولد يفسق ويفجر بها، ويرحل ويسافر بالحرام.
وكان الريال والألف عنده سواء، قال: الريال الواحد والألف سواء، المهم أن يكون صرفها سليماً، وأهدي له بيت في الطائف فرده ولم يقبله، وقال: الذي بناه يحتاجه لنفسه أما أنا فلم أبنه ولا أحتاجه، وعندي بيت في المدينة يكفيني، وبيته بناء شعبي سقفها من خشب، وليس من حديد فيه دوران الأول أربع غرف فوق وتحت أربع غرف للطلبة، ويغص بالمغتربين، وكان يشرب من ماء الزير، ويجلس على الحصير، ويكتب في الدهليز ويطالع.
ولم تبع كتبه في حياته، وقال: علم نتعب عليه ويباع وأنا حي، لا يمكن هذا، ولكن أنا أدفع وآخر يدفع المال، يقول: يأتي تاجر يطبع لي كتبي يوزعها وأنا مستعد، أما أن أبيع كتبي فلا، ويوزع للناس مجاناً وقال: أنا أعلم أنه سيصل إلى من لا يستحقه لكن سيصل أيضاً إلى من لا يستطيع الحصول عليه بالمال، أي: قيل له: اطبعها وضعها في المكتبات، فكان يرفض أن تباع كتبه، وكان لا يلتفت إلى المظهر حتى أن نعله ربما تكون ذات لونين، مرة يغلط يلبس نعالاً أخضر وآخر أحمر، ما كان يبالي بالدنيا إطلاقاً، ولا ينظر في نعال ولا في لباس رحمه الله تعالى.
وقال لبعض طلابه: إني لا أعرف فئات العملة الورقية.
لا يعرف أن يميز الخمسين من المائة من العشرة من عزوفه عن الدنيا واشتغاله بالعلم، وقال: جئت من شنقيط، جئت من البلاد ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد وهو القناعة، ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها، فإني لا أوثر الدنيا على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية.
ولما حاول بعض طلابه أن يثنيه عن الحج؛ لأن صحته كان سقيمة في آخر عمره، قال: دع عنك المحاولة إن سفري إلى لندن أريد الشفاء بها، لا بد أن أكفر عنه بحج، قال لهم: أني سافرت إلى لندن للعلاج، هذه لا بد لها من تكفير، مع أنه سفر علاج، قال: تكفير لذلك الحج، ولا طالب بمرتب ولا بترفيع، ولا بمكافأة، ولا بعلاوة، ما جاءه من غير سؤال أخذه، ويوزع ما زاد عن حاجته ولم يخلف ديناراً ولا درهماً إطلاقاً.
اتهموه منذ القديم أن رجلاً هجا رجلاً فأعطى المهجو أبيات يرد فيها على الهاجي، فقال: أنا أدخل بين رجلين نزغ الشيطان بينهما لا يمكن أن يكون، ودافع عن نفسه بقصيدة، قال فيها:
وتمنعني من ذاك نفس عزيزة غلا سعرها في السوق يوم كساده
تهاب الخنا والنقص في كل موطن وقلب يقويها بشدة آبه
ولست بمن يغريه من جاء مغرياً ولا من يعادي الدهر من لم يعاده
وإني لأكسو الخل حلة سندسٍ إذا ما كساني من ثياب حداده
وكائن يغيظ المرء ظن حبيبه به السوء بعض الظن إثم فعاده
وكائن أي: وكأين وكم عَادِ ظن السوء وإياك وظن السوء.
وكانت المروءة شعاره، وكان يذهب مع ولد له إلى الحرم المدني في صلاة الظهر في حر الصيف في السيارة، يرجع وقد امتلأت السيارة طلبة وجيرانا، فيقول لولده: عيب أن تنزل أحداً قد ركب، اذهب أنت ماشياً، وبعض زوجاته تبكي عليه، لأنه كان في غاية المراعاة للزوجة، وكان يقول: هذه ضيفة، كلمة تخرجها من البيت (أنت طالق) ولذلك ما زال يبكي عليه أهله بعد وفاته رحمه الله.(68/22)
الشنقيطي كان رامياً بارعاً
وكان من نوادره أيضاً: من الأشياء العجيبة أنه كان يحرص على الرماية، كان قناصاً لا يخطئ في الرمي، وتُوفي وعنده بندقية شوزن وساكتون، بندقيتان، وكان يصيد خارج حرم المدينة، لا يصيد في حرمها، وكأنه يستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) أثنى عليه العلماء، كالشيخ عبد العزيز بن باز، وحضر مجالسه وتتلمذ عليه، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقال عنه في سعة علومه مدحاً كثيراً، وغيره من أهل العلم، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يقوم له، وما قام لأحد من الباب ليودعه ويرجع، هذه كانت نبذة من سيرة الإمام العلم الكبير فقيد العلم بهذا الزمان، الذي لا يعرف الأكثرون اسمه فضلاً عن أن يقرءوا في كتبه.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(68/23)
كلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب
هذه الرسالة على صغر حجمها إلا أنها عظيمة؛ وذلك لما احتوت عليه من كلام النبوة في التوحيد، وهي معينة لمن أراد معرفة حقيقة التوحيد والرجوع إلى طريق الحق.
وقد لخص الشيخ هذه الرسالة وأتى فيها بما يدل على أهمية شهادة التوحيد، ليس في الدنيا فقط بل وفي الآخرة يوم يقوم الأشهاد، وبما يدل على فضائل هذه الكلمة في الدنيا والآخرة، وهذا بعد أن ذكر ترجمة جميلة للحافظ ابن رجب رحمه الله(69/1)
ترجمة ابن رجب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فالرسالة التي سنستعرضها وإياكم في هذه الليلة بمشيئة الله تعالى هي: (كلمة الإخلاص وتحقيق معناها) للحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل.
ونبذة عن الحافظ ابن رجب رحمه الله قبل الشروع في هذه الرسالة:(69/2)
بداية نشأته
هذا الحافظ الجليل قد عاش في القرن السابع الهجري، وكان وقت ملك دولة المماليك البحرية الذين استلموه بعد الدولة الأيوبية، وكانت ولايتهم على مصر والشام وساحل فلسطين والأردن والحجاز وبلاد الحرمين، ولا شك أنهم ورثوا مسئوليةً عظيمةً في الدفاع عن المسلمين أمام عدوين خطيرين جداً التتار والنصارى.
وهم الذين أوقفوا زحف التتار إبان احتلالهم للعراق، وحصلت في عهدهم الوقائع التاريخية الفاصلة كمعركة عين جالوت سنة [658هـ] والخزندار سنة [699هـ] وشقحب سنة [702هـ] وفي هذا الجو عاش الحافظ ابن رجب رحمه الله.
وكان كذلك هناك من أعداء الإسلام الكسرويين الباطنية والدروز في جبال غرب الشام، وكان الحافظ ابن رجب رحمه الله عز وجل من الذين لم يحرصوا على تولي الولايات والمناصب، وكان مشهوراً بالزهد مع كون المناصب موجودة في دولة المماليك تلك إلا أنه رحمه الله كان عزوفاً عما في أيدي الناس غير مشتغلٍ بالرياسة، ولكنه في ذلك الوقت كان مطلعاً على ما يدور في عصره، وهو قد ذكر في تقسيم الناس أن بعضهم من المشتغلين بالذكر كانوا ملازمين للذكر بحيث يشغلهم ذلك عن مصالحهم المباحة، وينقطعون عن الخلق.
ثم ذكر قسماً ثانياً ممن يذكر الله عز وجل ويستحضر ذكره وعظمته وثوابه وعقابه، ويدخل في مصالح دنياه من اكتساب الحلال، والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يُوصل إليهم به النفع مما هو عبادةٌ في نفسه، كتعليم العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين وهم خلفاء الرسل، لعله رحمه الله تعالى كان من هذا القسم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
وكان رحمه الله تعالى قد عاش في دمشق الفترة العظمى من عمره، وكان فيها العلم منتشراً، وكان العلماء كثرة، والمدارس الشامية في تلك البلد متعددة، وكان العلم يُدرس في الجامع الأموي بـ دمشق، وجامع الجراحين في الباب الصغير، وجامع الحنابلة في الجبل، وجامع النحاس في صالحية دمشق، وجامع باب المصلى، وغير ذلك، وكانت المدارس أيضاً منتشرةً والأوقاف محبسةً عليها لكي تدر مقابلاً يعيش منه أهلها، ومن تلك المدارس أو دور الحديث المشهورة: المدرسة الأشرفية، وكذلك دار الحديث السكرية بالقصاعين، وكان القيم عليها عبد الحليم ابن تيمية والد شيخ الإسلام، وتولى شيخ الإسلام بعده، وبعده تولى الحافظ الذهبي رحمه الله، وقد سكن ابن رجب رحمه الله في هذه المدرسة بالذات ودرس فيها الفقه والحديث.
ومن المدارس المشهورة في ذلك الوقت أيضاً المدرسة الجوزية التي أنشأ لها الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ودرس فيها آل ابن قدامة المقادسة والمرداوي وابن مفلح، وهذه البيئة التي عاش فيها رحمه الله كان فيها انتشار للمذاهب الأربعة وفقهائها، وكانت السيطرة فيها للأشاعرة من جهة المعتقد، ولكن كان هناك مواجهة بينهم وبين أتباع السلف الذين كثيرٌ منهم على مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
والأربطة كانت موجودة في ذلك الوقت وهي مأوى الفقراء وطلبة العلم، وكان الإمام ابن رجب رحمه الله ممن عاش في تلك الأربطة.
أما اسمه فهو: الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب، ورجب اسمه عبد الرحمن، من أجداد الحافظ رحمه الله، وسمي برجب، لأنه ولد في شهر رجب، ابن الحسن السلامي البغدادي الدمشقي الشامي موطناً والحنبلي مذهباً، والسلفي معتقداً، المشهور بـ: ابن رجب رحمه الله، فرجب إذاً هو أحد أجداد الحافظ الذين تحدثوا عنه.
إذاً: اسم مؤلف: كلمة الإخلاص وجامع العلوم والحكم، أو لطائف المعارف أو فتح الباري لابن رجب: عبد الرحمن.
إذاً: العالم الذي نتحدث عنه اسمه عبد الرحمن، وأحد أجداده اسمه عبد الرحمن ولقب برجب ونسب الحافظ إليه، فيقال: ابن رجب، أما لقبه، فهو زين الدين، وأما كنيته، فهي أبو الفرج، ويشترك في ذلك مع أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله، وكذلك الشيخ/ عبد الواحد بن محمد الشيرازي إمام مذهب الحنابلة في الشام، كل هؤلاء الثلاثة كنيتهم (أبو الفرج) ولا يشترط أن يكون له ولد بهذا الاسم، لأن العرب كانت تسابق بالكنية الحسنة حتى لا يُوضع للشخص كنية سيئة ويلقب بلقب سيئ، وهذا من فوائد التكنية عند المسلمين، ومن فوائدها كذلك إظهار الميل إلى الرجولة عند الأطفال كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب أخا أنس بن مالك الصغير بـ أبي عمير.(69/3)
رحلته في طلب العلم
ولد الحافظ ابن رجب رحمه الله سنة (736) هـ على الراجح في بغداد، وصرح بأنه سمع من شيوخ بغداد وهو صغير، وتوفي رحمه الله تعالى سنة (795) هـ بـ دمشق، وعلى ذلك يكون قد عمر نحواً من ستين سنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين) دُفن بمقبرة الباب الصغير بجوار قبر إمام المذهب في الشام عبد الواحد الشيرازي، وكان في وفاته عبرة، فقال العالم: ابن نصر الدين، ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب -حفار القبور- أن الشيخ زين الدين ابن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، فقال لي: احفر لي هنا لحداً، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغت، نزل في القبر واضطجع فيه، فأعجبه، وقال: هذا جيد، قال الحفار: فو الله ما شعرت بعد أيام إلا وقد أتي به محمولاً في نعشه، فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.
فهو لما أحس بدنو أجله رحمه الله، أمر الحفار أن يحفر له ذلك القبر الذي دُفن فيه، وقال ابن عبد الهادي رحمه الله: أنه وجد في هامش كتاب القواعد الفقهية لابن رجب أنه قال عند خروج روحه ثلاثين مرة: يا الله العفو.
الأسرة التي عاش فيها الحافظ ابن رجب كانت أسرة علم، وجده عبد الرحمن رجب بن الحسن السلامي من علماء بغداد، ثم انتقل مع أهله في آخر حياته إلى دمشق.
ويقول ابن رجب: قرأت على جد أبي أحمد بن رجب بن الحسن غير مرة في بغداد وأنا حاضر في الثالثة والرابعة والخامسة، أي: من عمره، لما كان عمره ثلاث سنوات وأربع سنوات وخمس سنوات.
وقرأ أيضاً على أبيه وهو أحمد بن رجب رحمه الله، وقد رحل به أبوه من بغداد إلى دمشق بعد وفاة الجد، فسكنوا دمشق، وكانت للأب رحلات مع ولده الحافظ عبد الرحمن إلى دمشق والقدس من قبل، وأسمعه فيها من المشايخ، ومات أبوه سنة [774هـ] وبذلك يكون الابن قد تتلمذ على أبيه وعلى جده، فكانت بيئةً صالحةً نهل منها الحافظ ابن رجب رحمه الله.
ومما يدل على ذلك أنه في صغره كان يحضر الدروس وأنه قال عن درس حضره وعمره خمس سنين وكان لا يفقهه جيداً، ولكنه حضر؛ وذكر في ترجمة شيخه أبي عبد الله محمد المؤذن الوراق أنه حضر عليه وعمره أربع سنوات قراءة كتاب النكاح من صحيح البخاري بكامله.
وكذلك حضر قراءة على شيخه الربيع علي بن عبد الصمد البغدادي هو في الخامسة من عمره.
فإذاً لا عجب أن تكون هذه الشخصية التي طلبت العلم في هذه المرحلة المبكرة من السن شخصيةً نابغةً، شبَّ في طلب العلم، ورحل مع والده، وحصل السماعات، وسمع ابن القطيعي وأجازه وهو متوفى سنة [739هـ] ولقي في دمشق الحافظ أبا القاسم البرزالي وهو قرين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجاز ابن رجب.
ورحل إلى دمشق وسمع فيها، ومصر، ونابلس، والقدس، وفي عام [749هـ] سافر إلى الحج مع والده، وكان قد سمع قبل تلك الرحلة ثلاثيات البخاري بالسند على عمر بن علي البغدادي سنة [749هـ] بـ بغداد بالحلة اليزيدية.
ومن أشهر شيوخ الحافظ ابن رجب رحمه الله على الإطلاق هو: الإمام العلم ابن القيم أبو عبد الله الذي لازمه ابن رجب أكثر من سنة، وسمع منه كتابه العقيدة النونية، المسماة: (الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية)، وكان يثني على ابن القيم جداً، فإنه قد ذكر في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة ابن القيم، قلت: وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار والافتقار إلى الله، والانكسار له والانطراح بين يديه، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، وقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين -أي: ابن تيمية - في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ إلى آخر الكلام.
توفي ابن القيم رحمه الله سنة [751هـ] وكان عمر ابن رجب تقريباً [15سنة].
إذاً لازم ابن القيم في أوائل شبابه، ولا شك أنها فرصة عظيمة للتأثر من ابن القيم رحمه الله في الإيمان والعلم، وقد قرأ عليه مختصر الخرقي من حفظه، وسمع منه أجزاء كثيرة من مصنفاته.
فإذاً ابن رجب تلقائياً ينتمي إلى مدرسة ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من السلفيين في ذلك الوقت رحمهم الله تعالى، لكن ابن رجب رحمه الله عُني عناية خاصة بالحديث، واستفاد من مدرسة المحدثين من طبقة الحافظ جمال الدين المزي وتلامذته الإمام الذهبي وابن الخباز، ولذلك انصبغ ابن رجب رحمه الله بصبغة حديثية، واجتمعت له العقيدة السلفية والمذهب الحنبلي في الفقه مع غيره بطبيعة الحال والاهتمام بالحديث، ولذلك كان شخصاً مثالياً.(69/4)
بداية تدريسه
لما بلغ مبلغاً من العلم ينتفع به غيره في نظره، تصدر للتدريس، وتولى حلقة الثلاثاء التي كان يقوم بها شيخه ابن قاضي الجبل، تولاها بعد وفاته سنة [771هـ] وكانت حلقة مشهورة يحضرها أناس كثيرون، ودرس في المدرسة الحنبلية وهي قرب الجامع الأموي، وكذلك في مدرسة تربة الصالحين.
تميزت دروس ابن رجب رحمه الله بالشمولية بالفقه والحديث وعلوم السنة، وأفتى بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكان فيه ميزة مهمة جداً وهي: القدرة على الوعظ وتحريك القلوب.
أن تجد بعض العلماء قد يُعلم، لكن في تعليمه شيء من الجفاف، ابن رجب رحمه الله امتاز مع علمه بوعظه، فقيل في صفة جلسته الوعظية: كانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة، وللناس عامة مباركة نافعة، أجمعت الفرق عليه، ومالت القلوب إليه، وواضح جداً تأثر ابن رجب في الوعظ بـ أبي الفرج ابن الجوزي، فإنه يقتبس كثيراً من كلامه، وابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى.
خلّف ابن رجب طلبة مشهورين صاروا علماء منهم: الشيخ علي بن محمد البعلي المشهور بـ ابن اللحام صاحب كتاب القواعد الأصولية في المسائل، والأخبار العلمية الفقهية في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية.
وكذلك الشيخ عمر بن أحمد بن الملقن والذي بلغت مؤلفاته نحواً من ثلاثمائة، وهو من شيوخ ابن حجر العسقلاني.
إذاً ابن رجب من طبقة شيوخ ابن حجر العسقلاني، وكذلك من تلاميذه: أبو ذر عبد الرحمن بن محمد المصري الحنبلي المعروف بـ الزركشي، وكذلك شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي النابلسي.(69/5)
زهده في الدنيا
بالإضافة إلى ما خلف من التلاميذ فإنه قد خلف سيرةً معطرةً بالزهد والورع، فعزف عن المناصب والولايات، والأشياء التي تولاها تدريسية خيرية، ولم يتولَّ قضاءً، ولم يتولَّ رئاسةً، وكان عزوفاً عن السلاطين، والدخول عليهم والطلب منهم، وهذه مشابهة واضحة لسيرة الإمام أحمد رحمه الله عز وجل في زهده وعزوفه عن الدنيا.
والغالب على أكثر أصحاب أحمد العفة والزهادة والنظافة، ومن أسباب عدم انتشار مذهب الحنابلة بشكل كبير: أن كثيراً من فقهاء الحنابلة أخذوا بطريقة أحمد رحمه الله في الزهد والبعد عن الرئاسات، ولا شك أن انتشار المذهب في كثير من الأحيان يُعزى إلى تبوء مناصب ورئاسات، فإذا كان كبير القضاة شافعياً، عين القضاة الشافعية، وإذا كان له مكانة عند السلطان، رتب في المساجد أو المدارس أئمة أو علماء من مذهبه، فانتشر المذهب وحملت كتبه ونسخت، وسارت في الأمصار بأمر السلطان، لكن الكثير من الحنابلة كانوا على مذهب إمامهم رحمه الله الإمام أحمد في البعد عن الولايات والرئاسات، كانوا يسكنون في المدارس والأوقاف والأربطة، ويكتفون من الدنيا بالقليل، ولكن مع ذلك قد خلفوا علماً عظيماً والحمد لله أن الله نشر فقههم وعلمهم، ولا زالت كتبهم مراجع أساسية لدى كثير من الباحثين.
فـ ابن رجب رحمه الله بناءً على تأثره بطريقة الإمام أحمد تقتضي أن يكون صاحب عبادة كبيرة، خصوصاً أنه تخرج على يد عباد مثل: ابن القيم رحمه الله، ولذلك كان ابن رجب رحمه الله قواماً لليل، صاحب عبادة وتهجد ومرتبة في العمل والأذكار والأدعية، وأعمال القلوب، وكان يرجى له الإخلاص في أقواله وأعماله إن شاء الله.
من ورعه ما حكاه تلميذه ابن اللحام، قال: ذكر لنا مرة الشيخ -أي: ابن رجب - مسألةً فأطنب فيها، فعجبت في ذلك ومن إتقانه لها، فوقعت بعد ذلك بمحبر من أرباب المذاهب وغيرهم، فلم يتكلم فيها الكلمة الواحدة.
هو قد شرح لهم المسألة شرحاً مفصلاً مسهباً واسعاً في أحد الدروس، لما جاء ابن رجب ومعه طبعاً تلميذه ابن اللحام والتلميذ يتعلم التواضع من الشيخ، ويتعلم أشياء كثيرة، حضروا بمحضر من أرباب المذاهب، ما تكلم ابن رجب ولا بكلمة، مع أن المسألة قد طرحت هي بذاتها.
فلما قام قلت له: أليس قد كلمت فيها بذلك الكلام؟ قال: إنما أتكلم بما أرجو ثوابه، وقد خفت الكلام في هذا المجلس، أي: أن يكون لا لله، ويكون فيه رياء، أو حب لإظهار ما عندي، ولذلك صمت ولم يتكلم بكلمة واحدة، وكان يحفظ كثيراً من سير أعلام السلف، ويسير على منوالهم، وسكن المدرسة السكرية بالقصاعين في دمشق، وكان فقيراً متعففاً غنياً عن الناس رحمه الله تعالى.
لا شك أن ابن رجب رحمه الله ممن مُدحوا من قبل العلماء، فيقول ابن اللحام: سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام مُحل المشكلات وموضح المبهمات إلى آخر ما مدحه به، وهو مستحقٌ لذلك.(69/6)
عقيدته السلفية ومهارته في العلوم
لكن من الأشياء المهمة جداً في ابن رجب رحمه الله عقيدته السلفية، نظراً لأن السالكين لسبيل تلك العقيدة في ذلك الزمان لم يكونوا هم المسيطرين على الأمور، لأن الغلبة كما قلنا كانت لمذهب الأشاعرة، ولكنهم كافحوا في سبيل تقرير العقيدة السليمة والدفاع عنها مكافحة عظيمة.
فنرى في كتب ابن رجب رحمه الله الخط الواضح الأصيل للعقيدة السلفية في الأبواب المختلفة، فمثلاً في الأسماء والصفات يقول: والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت لا تكييف، ولا تمثيل إلى آخره.
وكذلك في مسألة الرجوع إلى الكتاب والسنة، قال: العلم النافع من هذه العلوم ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، فهو إذاً يضع في رأس العلوم تفسير القرآن ومعاني الحديث، والحلال والحرام، وهذا قمة ما يمكن أن يطمح إليه طالب العلم الشرعي الذي يسير على الطريقة السلفية.
ولأنها تمثل عقيدة أهل السنة والجماعة نقل عنه أهل السنة والجماعة، فلذلك تجد كثيراً من أئمة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ينقلون عن ابن رجب كما ينقلون عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والحافظ لم يكن حنبلياً صرفاً، وإنما كان له اطلاع على المذاهب، وكان له إتقان خاص بمذهب الإمام أحمد رحمه الله يتابعه من غير تَشَهٍ ولا هوى.
وكتاب القواعد الفقهية لـ ابن رجب خير مثال على سعة فقه الرجل وعلمه، وهذه القواعد الكثيرة التي وضعها في هذا المجلد النافع الكبير الذي عُد من عجائب الدهر؛ حتى إن بعض المنتسبين إلى العلم استكثروا على ابن رجب كتاب القواعد، قالوا: هذا ليس من تأليفه، حتى زعم بعضهم إنما وجد قواعد مبددة لـ ابن تيمية رحمه الله، فجمعها ونسبها لنفسه، يقول ابن عبد الهادي رداً عن هذه الفرية: ليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله فوق ذلك.
من كتبه المشهورة: كتابه الحافل ذيل طبقات الحنابلة الذي ذيل به على طبقات الحنابلة لـ أبي يعلى، وأكمله وفيه فوائد فقهية وحديثية وعقدية ولغوية غير المعلومات التاريخية التي سطرها رحمه الله.
وكذلك فإنه حصل له باعٌ كبيرٌ في علم الحديث كما قلنا، ورافق زين الدين العراقي في السماع، ومهر في فنون الحديث أسماءً ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه، وأتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق كما يقول ابن حجر رحمه الله مادحاً ابن رجب.
من أشهر الآثار التي تركها ابن رجب وهي دالةً على سعة اطلاعه في الحديث كتابه العظيم فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لكن اخترمته المنية قبل أن يتمه، ومن العجائب أنه توقف فيه، مات وهو يشرح في كتاب الجنائز من صحيح البخاري، تلقف ابن حجر رحمه الله اسم كتاب ابن رجب وسمى كتابه فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وأتى بالكتاب كاملاً، فالقطعة الموجودة من كتاب ابن رجب فتح الباري في شرح صحيح البخاري شرحٌ نفيسٌ أتى فيه بالعجائب.
وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم الذي شرح فيه الأربعين النووية شرحاً متقناً، وله على جامع الترمذي شرحٌ كبيرٌ يقع في عشرين مجلداً، وقد أجاد فيه، ولكن هذا الكتاب مع الأسف احترق في دمشق خلال إحدى الفتن التي وقعت فيها، ولم يبق منه سوى وريقات، لكن بقي كتاب اسمه شرح علل الترمذي، شرحه ابن رجب وهو مطبوع في مجلدين، ويظهر فيه سعة علم هذا الرجل، لأن الكلام في العلل لا يُحسنه كل أحد، قمة علماء الحديث هم الذين يتكلمون في العلل، العلل يتلكم فيها الدارقطني، يتكلم فيها الإمام أحمد رحمه الله، أو البخاري، يتكلم فيها طبقة معينة من علماء الحديث.
علم العلل يحسنه طبقة خاصة من الناس وذلك واضح جداً من كتاب ابن رجب في شرح علل الترمذي وأنه أحد هؤلاء، حصلت له محنة في آخر حياته نتيجة إفتائه بفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقام عليه أعداء شيخ الإسلام ابن تيمية، وثربوا عليه وعابوه، وحصل لهم عليه منافرة وشغب مما جعله يمتنع عن الإفتاء بهذه الفتاوى مما سبب له في المقابل شيئاً من عتب التيميين، لكنه رحمه الله لعله أراد البعد عن الإشكالات خصوصاً أنه لم يكن صاحب مهاترات وصراعات ودخول في نقاشات تقسي القلب، ولذلك فإنه في آخر عمره آثر شيئاً من الانعزال توفي بعده رحمه الله.
الحافظ ابن رجب له عبارات صوفية، لعل نشأته في بعض الأربطة والأوقاف التي كان يغشاها الصوفية ربما يكون لها أثر في اقتباسه لبعض العبارات، لكنه لم يكن صاحب شطحات وخرافات، لكن في كلامه تأثر ببعض عباراتهم، وعندما ينقل عن بعضهم كـ ذي النون المصري والبسطامي وبشر الحافي ورابعة العدوية ونحوهم، فإنه لا ينقل الأقوال الباطلة والعقائد المنحرفة، وإنما يختار من كلامهم، ويختار من كلام أئمة التصوف ما هو موافق للكتاب والسنة، كقول أبي سليمان: إنه لتمر بي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة.
وقول الجنيد وكان من أئمة الصوفية: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يُقتدى به في علمنا هذا وهكذا.
لكن الرجل بشر، ووقوع الخطأ منه متصور، ولذلك يمكن أن يكون في بعض عبارات ابن رجب كلمات صوفية لا تُرتضى، أو لا تُقر، فإنما تُحمل على أحسن المحامل، ولو كانت خطأ يقال هي خطأ، ولا إشكال في ذلك، لكن الرجل فيه رقة في أسلوبه لعله أخذ من ابن القيم رحمه الله أشياء من هذا، حتى إن بعض عبارات ابن رجب لو قرأتها بدون أن تعرف من الذي قالها، لربما أنك تعزوها لـ ابن القيم رحمه الله، كما قال ابن رجب في كتاب استنشاق نسم الأنس: الحمد لله الذي فتح قلوب أحبائه من فج محبته، وشرح صدور أوليائه بنور معرفته، فأشرق عليهم النور ولاح، أحياهم بين رجائه وخشيته، وغذاهم بولايته ومحبته، عمَّا هم فيه من السرور والأفراح، فسبحان من ذِكره قوت القلوب، وقرة العيون، وسرور النفوس، وروح الحياة، وحياة الأرواح.(69/7)
مؤلفات ابن رجب
لقد ترك الحافظ ابن رجب رحمه الله مؤلفات كثيرة جداً مثل: أحكام الخواتيم، واختيار الأولى في شرح اختصام الملأ الأعلى، وكتاب الخراج، واستنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس وأهوال القبور وأحوال أهلها إلى دار النشور، والبشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار حمى، وتحقيق كلمة الإخلاص، وهو الذي سنتحدث عنه إن شاء الله، وقد يكون له أسماء أخرى من كتاب التوحيد أو شرح معنى لا إله إلا الله، وكذلك له كتاب في تعليق الطلاق بالولادة، والتخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، وتسلية نفوس الآباء والرجال عند فقد الأطفال، وتفسير سورة الإخلاص وسورة الفلق وسورة النصر، كلها في أجزاء منفصلة، وكتاب جامع العلوم والحكم، والحكم الجديرة بالإذاعة من قوله صلى الله عليه وسلم: بعثت بالسيف بين يدي الساعة، والخشوع في الصلاة وهو من أشهر كتيباته أو رسائله الصغيرة، ويُسمى الذل والانكسار للعزيز الجبار، وله كتاب مخطوط ذم قسوة القلوب وذيل طبقات الحنابلة في التاريخ، وسيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، هذا الشاب الذي تُوفي وعمره واحد وعشرون سنة، ابن رجب رحمه الله خصص له رسالة خاصة مع كتاب آخر في مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز.
وشرح حديث أبي الدرداء في طلب العلم، وكذلك أحاديث أخرى متفرقة مثل: (ما ذئبان جائعان) (ويتبع الميت ثلاثة) وغير ذلك، وله كتاب نزهة الأسماع في مسألة السماع في إبطال سماع الغناء، وشرح علل الترمذي في المصطلح، وفتح الباري شرح صحيح البخاري المشار إليه سابقاً، وكتاب الفرق بين النصيحة والتعيير، وصدقة السر وفضلها، وكتاب مهم جداً فضل علم السلف على علم الخلف.
وكذلك كتاب القواعد الفقهية، أو قواعد الفقه الإسلامي، وهو من أقوى كتب ابن رجب الفقهية على الإطلاق، وكشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، ولطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، كتاب مهم جداً ينبغي ألا يستغني عنه أي خطيب أو واعظ، وكذلك المحجة في سير الدلجة ونور الاقتباس من مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس.
وكذلك قطعة من شرح جامع الترمذي الذي ذهب في الحريق كما تقدم، وله عدة كتب أخرى أيضاً.
هذا شيءٌ من تاريخ هذا العلم والإمام الذي ذهب إلى ربه رحمه الله عز وجل.(69/8)
أحاديث الشهادة والمقصود بجزاء قائلها
أما بالنسبة لكتاب كلمة الإخلاص وتحقيق معناها، فإن أهمية هذا الكتاب تنبع من أنه يُوضح معنى شهادة لا إله إلا الله، لأن هذه الكلمة التي خفي معناها على الكثيرين، وجعلها بعضهم وسيلة لدخول الجنة بلا تعب، يقولها كلمات دون أن يعقل معناها، أو يعمل بمقتضاها، أو يوفيها حقها، أو يقوم بشروطها، فأراد ابن رجب رحمه الله أن يبين عِظم هذه الكلمات، وأن مفتاح الإسلام لا إله إلا الله هذه عبارة عظيمة جامعة لها معاني وفيها شروط ينبغي أن تحقق وأن تطبق، استهلها بعد البسملة بقوله: خرّج البخاري ومسلم في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل -ولذلك أحياناً يطلق على هذه الرسالة شرح حديث معاذ - فقال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: ما من عبدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار قال: يا رسول الله ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً).
وكذلك جاء في الصحيحين عن عتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) وكذلك حديث: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة).
وكذلك في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد قال لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، -يقول أبو ذر - قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر).
وكذلك حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حرمه الله على النار) وفي رواية: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه مسلم.
الآن نأتي إلى قضية ما معنى هذه الأحاديث التي فيها أن قول: لا إله إلا الله يدخل الجنة وينجي من النار؟ هل المقصود هو قول هذه الكلمة فقط كما يفهمه كثير من العامة أنك إذا قلت الكلمة دخلت الجنة بمجرد القول، وتنجو من النار؟ وإذا احتججت على بعضهم، أو ناقشته في معاصيه، أو في فسق فلان وفجوره، أو في كفر فلان، قال: هذا يقول لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة.
فما هو الكلام في مسألة التلفظ بالشهادتين، ما حقيقة هذا التلفظ؟ وكيف ينبغي أن يُنظر في الأحاديث هذه التي ساق ابن رجب رحمه الله طرفاً منها؟ قال: وأحاديث هذا الباب نوعان: أحدهما: ما فيه أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة ولم يحجب عنها، وهذا ظاهر.
يقول: هذا لا إشكال فيه، فإن النار لا يخلد فيها أحدٌ من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة ولا يحجب عنها إذا طُهر من ذنوبه في النار.
إذاً أولاً: من قال: لا إله إلا الله، ليس قوله مانعاً من دخوله النار، لكن يدخل الجنة بعد التطهير، وحديث أبي ذر وما في معناه وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، ليس معناه أن من قال: إلا إله إلا الله دخل الجنة بدون عذاب وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، وإن زنا وإن سرق، لا، وإنما معناه أن الموحد وإن زنا وإن سرق سيكون مصيره في النهاية إلى دخول الجنة، أصابه قبل ذلك ما أصابه، ممكن يحترق في النار مليون سنة على معاصي وكبائر عملها، لكن في النهاية سيدخل الجنة.
فإذاً الأحاديث تدل على أن الموحد مصيره في النهاية إلى الجنة، لكن هذه الأحاديث لا تعني إطلاقاً أنه لن يمسه عذاب قبل ذلك، ولذلك ورد في بعض الأحاديث: (من قال: لا إله إلا الله، نفعته يوماً من دهره يصيبه قبل ذلك ما أصابه) وبوضوح أن بعض أهل التوحيد يعذبون، ويصيبهم من النار ما يصيبهم نتيجة كبائر ومعاصي اقترفوها، أو واجبات تركوها، وفي النهاية يخرجون من النار ويدخلون الجنة.
إذاً هذا اتجاه، ومعلم واضح في فهم هذه الأحاديث.
ثانياً: بعض هذه النصوص، فيها أنه يحرم على النار، لا أن يكون مصيره فقط إلى الجنة بل يحرم على النار، فكيف نفهمها؟ وقد دلت أحاديث وآيات كثيرة على أن أصحاب الكبائر يعذبون والعصاة يعذبون والفجرة يعذبون، فكيف نجمع بين هذه النصوص الكثيرة جداً، والتي فيها أن الله يُعذب من شاء من أهل الكبائر والمعاصي وهم موحدون، وبعض النصوص التي فيها أن شهادة أن لا إله إلا الله تحرم صاحبها على النار، نحن الآن انتهينا من أنها تدخل صاحبها الجنة، قلنا: نجمع أنه يدخل الجنة بعد أن يُعذب إلا إذا عفا الله، فكيف نفهم الآن بعض النصوص التي فيها أن من قال هذه الكلمة فإنه يحرم على النار؟ كيف نجمع بين هذا وبين النصوص التي فيها تعذيب بعض أصحاب الكبائر، أو الآثام والمعاصي؟
الجواب
أننا نقول: يحرم الموحد على النار من جهة الخلود فيها، أي: يحرم عليه الخلود في النار لا الدخول والعذاب، أو أنه لا يدخل النار التي فيها خلود، لأن نار جهنم دركات، فالدرك الأعلى يدخله كثيرٌ من العصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين، يدل على هذا حديث الصحيحين: (أن الله تعالى يقول: وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله) فلاحظ هنا الكلام (لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله) إذاً دخلوها، وعذبوا فيها، ثم خرجوا منها.
إذاً: الذي امتنع عنهم هو الخلود وليس الدخول والتعذيب.
إذاً القاعدة الأولى قلنا: الموحد مصيره إلى الجنة في النهاية، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه.
ثانياً: الموحد لا يخلد في النار، ولا بد أن يخرج منها في يوم من الأيام إذا دخلها، هذا فهم للنصوص قال به أهل العلم.
فهمٌ آخر تُفهم به أحاديث: (من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة) (ومن قال لا إله إلا الله، حرم من النار) قالت طائفة من العلماء: المراد من هذه الأحاديث: أن (لا إله إلا الله) سببٌ لدخول الجنة والنجاة من النار، ومقتضٍ لذلك، لكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه.
أي: نقول: إذا أردنا أن نجري النصوص بجميع ما في معناها، أي: نقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله حرم من النار).
إذا انتفت عنه الموانع، وتوفرت فيه الشروط: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله حرم على النار) إذن تقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) بلا عذاب و (من قال لا إله إلا الله، حرم من النار) ولو لحظة، أي: حرم على النار مطلقاً، فلا بد أن تقول إذاً: إذا قام بشروط لا إله إلا الله وحققها، وانتفت الموانع التي تمنع من دخول الجنة دون عذاب، وانتفت الموانع التي توجب دخول النار والتعذيب فيها، لأن بعض الموحدين قد يتخلف عنهم بعض الشروط، أو توجد فيهم موانع تمنع من دخولهم الجنة مباشرة، وابن رجب رحمه الله رجح الثاني وهو قضية الشروط والموانع بأن تفسر النصوص بقضية الشروط والموانع.(69/9)
أهمية الشهادة بالنسبة لما بعدها من الأعمال
قال: وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: " ما أعددت لهذا اليوم؟ -يذكر الفرزدق - قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال الحسن: نِعْمَ العدة، لكن للا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة ".
لأن الشعراء قد يقعون في القذف بسهولة ويحصل في شعره قذف، يهجو فيقذف، فيقول الفرزدق: أنا أعددت شهادة أن لا إله إلا الله لأجل يوم القيامة والحساب، قال: نِعْم العدة، ولكن للا إلا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنة.
إذاً معناها أنه إذا قذف المحصنة، لا يكون قد قام بشروط لا إله إلا الله، فعدته ناقصة.
قال: وقيل للحسن: " إن أناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قال -مفسراً- من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها، دخل الجنة ".
وقال وهب بن منبه لمن سأله: " أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان، فتح لك وإلا لم يُفتح لك ".
وأسنان مفتاح لا إله إلا الله تحقيق شروطها، وانتفاء موانعها، والقيام بحقها، وقد جاء في الصحيحين عن أبي أيوب: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة (أن رجلاً قال: يا رسول الله! دلني على عملٍ إذا عملته، دخلت الجنة قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان فقال الرجل: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا).
وفي المسند عن بشير بن الخصاصية وفي السند مجهول، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة، وأن أحج حجة في الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله! أما اثنتين فوالله لا أطيقهما: الجهاد والصدقة -أي: أضحي بنفسي ومالي! - فإنهم زعموا أن من ولى الدبر، فقد باء بغضبٍ من الله -أي: ولى الأدبار في المعركة، باء بغضبٍ من الله- فأخاف إن حضرت تلك جشعت نفسي وكرهت الموت والصدقة، فوالله ما لي إلا غُنيمة وعشر ذودٍ، أي: من الإبل هنَّ رُسُلُ أهلي وحمولتهُن -أي: هذه عزيزة عليَّ وقليلة- قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حركها، ثم قال: فلا جهاد، ولا صدقة، فبمَ تدخل الجنة إذاً؟ قلت: يا رسول الله أبايعك، فبايعته عليهن كلهن).
ففي هذا الحديث أن الجهاد والصدقة شرطٌ في دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والصيام والحج.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) ففهم الصديق أن من امتنع عن الزكاة يُقاتل، لأنه ما أدى حق لا إله إلا الله، قالوا: فسر معنى الحديث: (فإذا منعوا ذلك، منعوا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله) قال أبو بكر: [الزكاة حق المال] فهذا فهم الصديق الصريح الذي فاء إليه الصحابة ووافقوه عليه وساروا وراءه فيه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
إذاً: لابد من أداء الفرائض مع التوحيد، أي: إذا قال لا إله إلا الله، ولا صلاة، ولا زكاة، يكون من إخواننا في الدين؟ نخلي سبيله؟ لا نقاتله؟ بل نقاتله إذا امتنع عن هذه الفرائض.
فإذا عُلم يا إخواني أن عقوبة الدنيا لا تُرفع عمن أدى الشهادتين مطلقاً: لو زنا، يجلد أو يرجم، ولو سرق، تُقطع يده، بل يُعاقب عليها، وإن أدى الشهادتين يعاقب في الدنيا، وتقام عليه الحدود، فكذلك عقوبة الآخرة لا تمتنع على من خالف، بعض العلماء ذكروا شيئاً، قالوا: إن هذه النصوص (من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة) (من قال لا إله إلا الله، حرم من النار) قيلت قبل نزول الحدود، وقبل نزول تحريم الأشياء، وقبل نزول الفرائض، ولكن هذا القول استبعده الحافظ ابن رجب رحمه الله.
وبعضهم قال: تلك الأحاديث التي سبق تصدير الرسالة منسوخة، ولكن الأرجح أن يُقال: أحاديث محكمة وقيلت في الفرائض وبعد الفرائض ونزول تحريم الأشياء، لكن لا إله إلا الله لها شروط إذا توفرت وانتفت الموانع، حصلت النتيجة وهي الفوز بالجنة والنجاة من العذاب.
ثم يلفت النظر إلى أن بعض النصوص المطلقة قد جاءت مقيدة، ففي أحاديث: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قبله) (من قال: لا إله إلا الله مستيقناً بها) (من قال: لا إله إلا الله يصدق لسانه قلبه) (يقولها حقاً من قلبه) وفي رواية: (قد ذل بها لسانه، واطمأن بها قلبه) هذا الذي ينجو، تخيل رجل لا يؤدي الصلاة ولا الزكاة ولا يحج ولا يصوم ويزني ويشرب الخمر ويكذب ويسرق ويفعل ويفعل ثم يكون مستيقناً بلا إله إلا الله، وقال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه، ممكن؟ لا يمكن أن يكون ذلك.
فإذاً لا بد من هذا المفهوم أن يتضح، وهذه المسألة مهمة، لأن الناس العامة يناقشون في هذه القضية، فلابد من تفهيمهم هذه المسألة، وأن تُعقد الخطب والدروس لشرحها، وأن تكون المواعظ من أجلها والمناقشات في المجالس عليها.(69/10)
علاقة أعمال القلوب بالشهادة
ثم لفت ابن رجب رحمه الله النظر إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن هذه النصوص التي فيها (مستيقناً بها قلبه) (خالصاً من قلبه) تفيد أهمية أعمال القلوب.
فإذاً لا إله إلا الله لها علاقة مباشرة بأعمال القلوب، ما معنى لا إله إلا الله؟ أي: لا يأله القلب غير الله حباً ورجاءً وخوفاً وتوكلاً واستعانةً وخضوعاً وإنابةً وطلباً، وأعمال القلوب كثيرة، فمنها: الوجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2].
الإخبات: {فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54].
الإنابة: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33].
الطمأنينة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
التقوى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
الانشراح: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
السكينة: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4].
اللين: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23].
الخشوع: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16].
الطهارة: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
الهداية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11].
العقل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46].
التدبر: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
الفقه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
الإيمان: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41].
الرضى والتسليم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
إذاً: القلوب لها أعمال مرتبطة ارتباطاً مباشراً بلا إله إلا الله، ثم إنه لا يمكن للإنسان أن يحقق لا إله إلا الله إلا إذا حقق محمد رسول الله، هذا الربط مهم جداً، منه نصل إلى قضية اتباع السنة واجتناب البدعة، وأن المبتدع لم يحقق لا إله إلا الله، من قال لا إله إلا الله، وأطاع الله عز وجل، يُطاع ولا يُعصى هيبةً له وإجلالاً ومحبةً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له، هذا الذي إذا حقق تلك المعاني، فإنه يكون محققاً للا إله إلا الله.
ومما يدل على أن من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله: اجتناب المعاصي، أنه قد جاء في وصف بعض المعاصي بالكفر والشرك، وهذه المعاصي إذا كانت دون الكفر فالمقصود بها إذاً الكفر الأصغر، والشرك الأصغر كما ورد إطلاق الشرك على الرياء، وعلى الحلف بغير الله، وعلى قول من قال: ما شاء الله وشاء فلان، وما لي إلا الله وأنت.
فإذاً هناك أشياء تقدح في كلمة التوحيد مثل هذه الأمور.
فكيف يقال من قال: لا إله إلا الله مجردة تنجيه وتدخله الجنة دون حساب، ولا عذاب؟ ثم هو يقع فيما يناقض لا إله إلا الله بكلامه وأفعاله، وقد وصف بالكفر من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، ووصف كذلك بالشرك بعض الأعمال كما تقدم، وورد إطلاق الإله على الهوى المتبع، قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] وقيل في تفسير هذه الآية: هو الذي لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ليس يحجزه عنه شيء، كلما اشتهى شيئاً أتاه، ولا ورع يمنعه من ذلك ولا تقوى.
إذاً: ممكن أن يقع في العبودية لغير الله أناس يقولون: لا إله إلا الله كما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) هذا كله يدل على أن كل من أحب شيئاً وأطاعه وكان هو غايته ومقصوده وطلبه، ووالى لأجله وعادى لأجله فهو عبده، وإن كان يقول: لا إله إلا الله، وقد سمى الله طاعة الشيطان عبادة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60].
ومن هذا حاله تكون شهادة أن لا إله إلا الله في حقه مدخولة مخترقة بهذه المعاصي والآثام، وقد قال الخليل لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44].
فإذاً: الذين حققوا قول لا إله إلا الله هم عباد الله الذين ليس لإبليس عليهم سلطان، فصدقوا قولهم بفعلهم، ولم يلتفتوا إلى غير الله محبةً ورجاءً وخشيةً وطاعةً وتوكلاً، هؤلاء الذين صدقوا في قول لا إله إلا الله هم أهل لا إله إلا الله حقاً، ولا يمكن أن يكون منهم الذي قال لا إله إلا الله بلسانه، ثم أطاع الشيطان واتبع هواه في معصية الله ومخالفته {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
ثم يقول ابن رجب واعظاً: فيا هذا كن عبد الله لا عبد الهوى، فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار! والله لا ينجو غداً من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده، ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار -أي: ما أطاع شيئاً آخر غير الله عز وجل- من علم أن إلهه معبوده فرد، فليفرده بالعبودية، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً.
فقول لا إله إلا الله تقتضي ألا يحب سواه، فإن الإله هو الذي يطاع، فلا يُعصى مع محبته والخوف منه ورجائه.
قال: ومن تمام محبته محبة ما يُحبه، وكراهية ما يُبغضه، فمن أحب شيئاً يكرهه الله، أو كره شيئاً يُحبه الله لم يكمل توحيده، ولا صدقه في قوله: لا إله إلا الله، وكان فيه من الشرك الخفي بحسب ما أحب من الأمور التي يبغضها الله، وبحسب ما أبغض من الأمور التي يحبها الله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28].
قال: " قال الليث عن مجاهد في قوله: {لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] قال: لا يحبون غيري ".
وقال الحسن: " اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته ".
ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، كل من ادعى محبة الله، ولم يوافق الله في أمره، فدعواه باطلة.
ونقل أيضاً عن يحيى بن معاذ قوله: ليس بصادقٍ من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده.
وقول رويم: " المحبة الموافقة في جميع الأحوال " وهذا من معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
قال الحسن: " قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا حباَ شديداً، فأحب الله أن يجعل لحبه علماً -دليل على صدق المحبة المدعاة- فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومن هنا يُعلم أن شهادة لا إله إلا الله لا تتم إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، فإنه إذا علم أنه لا تتم محبة الله إلا بمحبة ما يحبه وكراهية ما يكرهه.
فكيف تعرف الذي يحبه الله والذي يكرهه الله؟ أليس من كتابه ومن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه؟ فإذاً: الأخذ بالسنة واجبٌ وحتمٌ، وصارت محبة الله مستلزمة لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24] وهدد وقارن الله بين طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة، وقال: (ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) الحديث.
وهذا حال سحرة فرعون لما سكنت المحبة قلوبهم، سمحوا ببذل النفوس، وقالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] ومتى ما تمكنت المحبة في القلب، لم تنبعث الجوارح إلا إلى طاعة الرب.
وهذا معنى الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليًّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
فإذاً لما استغرقت المحبة قلب العبد واستولت عليه، لم تنبعث جوارحه إلا إلى ما يُرضي الرب، وصارت نفسه مطمئنةً بإرادة مولاها عن مرادها وهواها.(69/11)
ومن الناس من يعبد الله على حرف
يقول ابن رجب: " يا هذا اعبد الله لمراده منك لا لمرادك منه " ماذا يريد منك؟ اعبده بناءً على ما يريد منك، ولا تعبده بناءً على ما تريده منه، فإذا جئت مضطراً وغرقت في البحر، جئت تعبده لكي ينجيك، وإذا مرضت، صرت تعبده لكي يشفيك، وإذا افتقرت صرت تعبده لكي يغنيك فقط، يقول: هذا خطير، فمن عبده لمراده منه، فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به، لو جاءك المال قلت: هذه العبادة هذا الأثر منها، ولو جاءتك الصحة بعد المرض، قلت: هذا بسبب الدعاء والعبادة.
ولو طلبت الغنى بعد الفقر وما أتاك الغنى، وطلبت الصحة في المرض وما أتتك الصحة، هنا ينقلب الذين لم تثبت في طريق الدين أقدامهم.
ولذلك قال: " يا هذا اعبد الله لمراده منك، لا لمرادك منه، فمن عبده لمراده منه فهو ممن يعبد الله على حرف، إن أصابه خيرٌ اطمأن به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ".
كان بعضهم يأتي إلى المدينة، يقول: نجرب الإسلام، إن ولدت المرأة ذكراً، وأنتجت الخيل وجاءت بمهر، فهذا دين خير، وإن جاءت زوجته بأنثى وهذه الخيل ماتت والزرع ضاع، قال: هذا دين سوء، لا رغبة فيه.
فإذاً: العبادة على مراد الشخص، وليست على مراد الله، فمن كان يفعل العبادة بناءً على هذا ينتكس وينقلب قال: " وفي بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن شيءٌ عنده آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن شيءٌ عنده آثر من هوى نفسه".
قال الحسن: " ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي؛ حتى أنظر على طاعة الله أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت ".
البطشة أو الكلمة أو النظرة أو الخطوة إن كان طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت، وهكذا تكون حقيقة العبودية أن ينزل العبد أعمال الجوارح على الآيات والأحاديث ومقاييس طاعة الله عز وجل، فإن وافقت مراد الله وما يحبه الله تقدم وعمل، وإن خالفت أحجم ورجع.(69/12)
طهارة قلوب المحبين
قال: " هذا حال خواص المحبين الصادقين، فافهموا رحمكم الله هذا، فإنه من دقائق أسرار التوحيد الغامضة " ثم استشهد بقول المتنبي:
أَرُوحُ وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا
أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يُبق حبك لي حراكا
وفي الأحباب مخصوصٌ بوجدٍ وآخر يدعي معه اشتراكا
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
فأما من بكى فيذوب وجداً وينطق بالهوى من قد تشاكى
فالله سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يرضى أن يزاحم عز وجل بأصنام الهوى، والحق غيور يغار على عبده المؤمن أن يُسكن في قلبه سواه، أو يكون في قلبه شيء غير ما يرضاه.
أردناكم صرفاً فلما مزجتم بَعُدتُم بمقدار التفاتِكُم عنا
بحسب الالتفات إلى غير الله يكون البعد عن الله، وإذا كان النظر دائماً إلى الله سبحانه وتعالى، ومراد الله ومطلوب الله وما يحبه الله، صار العبد ملتجئاً إلى الله عز وجل باستمرار.
قال: " لا ينجو غداً إلا من لقي الله بقلب سليم ليس فيه سواه -أي: سوى محبة الله والأنس به ورجائه وخوفه- قال الله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ".
والسليم من الشبهات والشهوات الطاهر من أدناس المخالفات، أما المتلطخ بشيءٍ من مكروهات الرب، فلا يصلح لمجاورة الله عز وجل، ومجاورة الله تكون في الجنة، لأن الجنة هي جوار الله عز وجل، فكيف يجاوره غير المتطهر، فلا بد من تطهير، فيمر على النار: (إن الله طيبُ لا يقبل إلا طيباً).
قال: " فأما القلوب الطيبة، فتصلح للمجاورة من أول الأمر بدون تطهير، لأنها طاهرةً أصلاً: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل:32].(69/13)
الرياء وأثره على الأعمال
" ومن لم يُحرق اليوم قلبه بنار الأسف على ما سلف -التوبة والندم- فنار جهنم له أشد حراً، ما يحتاج إلى التطهر بنار جهنم إلا من لم يكمل تحقيق التوحيد والقيام بحقوقه.
أول من تُسعر بهم النار من الموحدين العُبّاد المراءون بأعمالهم، وأولهم العالم المرائي بعلمه، والمجاهد والمتصدق للرياء ".
لأن يسير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق، لو عنده علم بعظمة الخالق ما نظر إلى الخلق أثناء عمله، كان عمله إلى الله عز وجل، وعمل لله تعالى.
قال: " المرائي يُزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه ".
البراطيل جمع برطيل وهو: الرشوة، وطبعاً هنا العلاقة بين الله سبحانه وتعالى هو ملك الملوك، والمرائي ماذا يفعل؟ يزور على اسم الملك ليأخذ البراطيل، فكأنه يتزيا بزي العُبّاد، ويتظاهر بالعبادة ليأخذ نصيبه من الناس ثناءً وشكراً وسمعةً.
يزور ليوهم أنه من خاصة الملك، وهو ما يعرفه الملك حقيقةً، وأهل الرياء وأصحاب الشهوة وعبيد الهوى يدخلون النار، الذين أطاعوا هواهم وعصوا مولاهم، أما عبيد الله حقاً، فيقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ولذلك إذا مرَّ أهل الإخلاص والتوحيد على النار أثناء العبور على الصراط، فإنها تكون عليهم برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى لربما كان للنار ضجيجاً من بردهم، فهذا ميراثٌ ورثه المحبون من حال الخليل عليه السلام، وأما الذين يمرون على النار وهم ليسوا من أهل التوحيد الخالص، وقد كدروا التوحيد بالمعاصي والفجور، فإنهم يسقطون في النار، وتنالهم النار بمعاصيهم، فينبغي أن يكون الهم كله لله، ومن أصبح وهمه غير الله فليس من الله قال: " وكان داود الطائي يقول: همك عطل عليَّ الهموم وحالف بيني وبين السهاد -منعني النوم مثل قيام الليل- وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات -أخمدها وقتلها- وحال بيني وبين الشهوات.
يقول ابن رجب رحمه الله: إخواني إذا فهمتم هذا المعنى، فهمتم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله صادقاً من قلبه حرمه الله على النار).
فأما من دخل النار من أهل هذه الكلمة فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت طهرت القلب من كل ما سوى الله.
من صدق في قول لا إله إلا الله لم يحب سواه، ولم يرج سواه، ولم يخش أحداً إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يبق له بقيةً من آثار نفسه وهواه، وكلما زلق العبد في هوة الهوى أخذ بيده سبحانه إلى نجوة النجاة، ويسر له التوبة إذا كان من أهل الله، وينبهه على قبح الزلة فيفزع إلى الاعتذار، ويبتليه بمصائب مكفرة تكفر ما جناه، فلا يعني أن أهل التوحيد الصادقين لا يعصون ولا يقعون في المعصية، لكنهم سريعو الفيئة، والله عز وجل من حبه لهم كلما زلقوا في هوة الهوى أخذ بأيديهم إلى ساحل التوبة والنجاة، وجعلهم يفزعون إلى الاعتذار، ويبتليهم بمصائب ليكفروا آثام المعصية، فيكونوا أنقياء، فيدخلون الجنة أنقياء.
ولذلك قال في الحديث: (الحمى تُذهب الخطايا كما يذهب الكير الخبث) رواه مسلم، وجاء عن عبد الله بن مغفل أن رجلاً رأى امرأة كانت بغياً في الجاهلية، ثم أسلما كلاهما، لكن هذا لما لقيها في الطريق تذكر الماضي، وربما أصابه شيءٌ من الرغبة في العودة، فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها أراد أن يلمسها، فقالت: مه! أي: كف، فإن الله قد أذهب الشرك وجاء بالإسلام، فتركها وولى، أي: اتعظ من كلامها وولى، فجعل يلتفت خلفه ينظر إليها حتى أصاب الحائط وجهه وشُج وسال دمه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر، فقال: (أنت عبدٌ أراد الله بك خيراً) ثم قال: (إن الله إذا أراد بعبده شراً، أمسك ذنبه حتى يوافي به يوم القيامة).
فهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان يدل على أن الله إذا أحب شخصاً في الدنيا، وكان قد عصى، فإن الله إما أن يوفقه إلى توبة، أو يبتليه بمصيبة يُكفر بها ذنبه حتى يلقاه يوم القيامة وهو نقي، لأن من لم تنقه التوبة في الدنيا ولا المصائب، فلا بد من التطهير يوم القيامة، والتطهير لا يكون إلا بالعبور على الصراط وركوب النار وما تأخذه منه بسبب معصيته.(69/14)
فضل كلمة الإخلاص وآثارها
قال" يا قوم! قلوبكم على أصل الطهارة، وإنما أصابها رشاش من نجاسة الذنوب، فرشوا عليها قليلاً من دموع العيون تطهر ".
" اعزموا على فطام النفوس عن رضاع الهوى " هذا من بليغ كلام ابن رجب رحمه الله افطم نفسك عنه الهوى، " فالحمية رأس الدواء ".
" متى طالبتكم -أي: نفوسكم- بمألوفاتها -أي: بهواها، قالت لك: انظر إلى الحرام، امش إلى الحرام، اسمع الغناء الحرام، كل الربا الحرام- فقولوا مقالة تلك المرأة لذاك الرجل الذي دمي وجهه: قد أذهب الله الشرك وجاء بالإسلام، والإسلام يقتضي الاستسلام والانقياد للطاعة.
ذكروها إذا اشتهت المعصية بقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] لعلها إلى الاستقامة ترجع.
عرفوها اطلاع من هو أقرب إليها من حبل الوريد، لعلها تستحي من قربه ونظره: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [لعلق:14] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
راود رجل امرأة في فلاة ليلاً، فأبت، فقال لها: من يرانا إلا الكواكب؟ قالت: فأين مكوكبها؟ أكره رجل امرأة على نفسها وأمرها بغلق الأبواب، فقال لها: هل بقي بابٌ لم يغلق؟ قالت: نعم، الباب الذي بيننا وبين الله تعالى، فتركها ولم يتعرض لها.
رأى بعض العارفين رجلاً يُكلم امرأة في ريبة، فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما ".
المراقبة: علم القلب بقرب الرب؛ وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يستحي من الله كما يستحي من رجل صالح من عشيرته لا يفارقه.
وقال بعضهم: استح من الله على قدر قربه منك، وخف من الله على قدر قدرته عليك.
وبعد أن انتهى ابن رجب رحمه الله من هذه المواعظ والتذكير بمعنى لا إله إلا الله المعنى الحقيقي الذي يغيب عن أذهان الكثيرين، عقد فصلاً في فضل لا إله إلا الله وفضائلها، وقال: إن لها فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها، فلنذكر بعض ما ورد فيها: لأجلها خلق الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
ولأجلها جردت السيوف للجهاد، وهي حق الله على جميع العباد، ما أنعم الله على العباد نعمةً أعظم من أن عرفهم لا إله إلا الله، أعظم نعمة أنه عرفنا لا إله إلا الله.
ولا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا، من قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه هدر، وهي مفتاح الجنة ومفتاح دعوة الرسل، وبها كلم الله موسى كفاحاً، من قالها صادقاً أدخله الله الجنة، وهي ثمن الجنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة.
وهي النجاة من النار، سمع النبي صلى الله عليه وسلم مؤذناً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: (خرج من النار) رواه مسلم.
وهي التي توجب المغفرة، وهي أحسن الحسنات، قلت: (يا رسول الله! - أبو ذر - كلمني بعمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة، فإنها عشر أمثالها.
قلت: يا رسول الله! لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات) رواه الإمام أحمد وسنده حسن.
وهي التي تمحو الذنوب وتحرقها رئي بعض السلف بعد موته في المنام فسئل عن حاله فقال: ما أبقت لا إله إلا الله شيئاً، أي: الحمد لله بإخلاصي فيها قد محيت ذنوبي.
وهي تجدد ما اندرس من الإيمان، كما في المسند عند عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نوحاً قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن في حلقة مبهمة، خصمتهن لا إله إلا الله).
وفي رواية: (قصمتهن) فهي تنفذ إلى كل شيء، قويةٌ غاية القوة، وبلا إله إلا الله ترجح كفة الحسنات، وترجح صحائف الذنوب كما في حديث السجلات والبطاقة وهو حديث صحيح، وهي التي تخرق الحجب حتى تصل إلى الله عز وجل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قال: عبدٌ لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر) رواه الترمذي وحسنه وهو حديث حسن.
وقال أبو أمامة: ما من عبدٍ يهلل تهليلة، فينهنهها شيءٌ دون العرش.
التهليل لا يحبسه شيء عن الله، يصعد إلى الله مباشرة، وهي التي ينظر الله إلى قائلها: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مخلصاً بها روحه، مصدقاً بها لسانه؛ إلا فتق له السماء فتقاً -الله سبحانه وتعالى- حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر إليه أن يعطيه سؤله) رواه النسائي رحمه الله.
وهي الكلمة التي يصدق الله قائلها كما جاء في الحديث الصحيح: (إذا قال العبد لا إله إلا الله، والله أكبر، صدقه ربه).
وهي الكلمة التي من يقولها في مرضه، فيموت لا تطعمه النار، وهي أفضل كلمة قالها النبيون كما ورد في دعاء يوم عرفة، وهي أفضل الذكر على الإطلاق كما في حديث جابر المرفوع: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) وهو حديث حسن.
وهي أفضل الأعمال، وأكثرها تضعيفاً، وتعدل عتق الرقاب، وهي حرزٌ من الشيطان كما جاء في حديث الصحيحين: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يومه مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك) (ومن قالها عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل) أي: من أنفس الرقاب.
وفي حديث السوق: (من قالها -وأضاف فيها-: يحيي ويميت وهو حيٌ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع الله له ألف ألف درجة) حسنه بعض أهل العلم، وهي أمانة من وحشة القبر وهول المحشر، وشعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم، وهي التي تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية كما جاء في حديث عبادة في الصحيحين: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء).
وهذا الحديث الصحيح يبين عظمها وفضلها، وأن أهل النار أيضاً الموحدين لو دخلوا النار بتقصيرهم، فلا بد أن يخرجوا منها لأجل هذه الكلمة، كما جاء في حديث الصحيحين، يقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله).
ولذلك إذا اجتمع الموحدون العصاة في جهنم مع المشركين، وقال المشركون: أنتم كنتم تقولون: لا إله إلا الله في الدنيا، ماذا أغنت عنكم؟ فيغضب الله لهم، فيخرجهم من النار ويدخلهم الجنة.
فإذاً ينجيهم الله بكلمة التوحيد ولو عذبهم فيها ما داموا من الموحدين ليسوا من المشركين.
كان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم إنك قلت عن أهل النار: إنهم {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة:53]-أي: في الدنيا- {لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل:38] ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت، اللهم لا تجمع بين أهل القسمين في دارٍ واحدةٍ.
قال رحمه الله في آخر رسالته: " إخواني! اجتهدوا اليوم في تحقيق التوحيد فإنه لا ينجي من عذاب الله إلا إياه "
ما نطق الناطقون إذا نطقوا أحسن من لا إله إلا هو(69/15)
الأخوة في الله
الأخوة في الله لها أهمية عظيمة، ومما يدل على أهميتها أن الله جل وعلا رتب عليها الأجر العظيم، وهي عبادة نتقرب إلى الله بها، بل قد تكون سبباً من أسباب دخول الجنة.
والإخوة في الله لهم حقوق وواجبات، فمن هذه الحقوق: الزيارات قضاء حوائجهم النصيحة لهم وغير ذلك.
وهناك أخطاء وسلبيات يرتكبها البعض مع إخوانهم في الله منها: كثرة مخالطتهم بغير فائدة عدم التماس الأعذار لهم التعلق المحرم التصرف بأموالهم وممتلكاتهم دون إذنهم إخلاف المواعيد إلخ.(70/1)
أهمية الأخوة في الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
نحمد الله تعالى -أيها الإخوة- أن جمعنا وإياكم في بيتٍ من بيوته عز وجل نذكره سبحانه وتعالى، ونتذاكر نعمه، ومنها نعمة الأخوة، قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
نسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وأن يجعلنا وإياكم من الإخوة في الله المتآخين في سبيل الله ولا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
أيها الإخوة: كما سمعنا في الآيات الكريمة قول الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ} [آل عمران:103] لا بأي شيء آخر: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
أيها الإخوة: لا يوجد في دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب، أو مكان من الأمكنة شيءٌ اسمه الأخوة التي هي بهذا الطعم إلا في الإسلام، لا يمكن أن يوجد مطلقاً؛ لأن هذا الشعور -شعور الأخوة في الله والتآخي في الله- نعمة عظيمة لا يشعر بها إلا المسلمون، لا يشعر بها إلا الذين جعلهم الله إخوة: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
والمجتمع الإسلامي يقوم على دعامتين أساسيتين: الإيمان والأخوة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
فلا يمكن أن يقوم المجتمع الإسلامي قياماً صحيحاً على سوقه كما أمر الله إلا بهاتين الدعامتين الأساسيتين: الإيمان والأخوة، ولذلك أمر الله بالتآخي، وعقد من عنده عز وجل عقد الأخوة بين المؤمنين، فقال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] و (إنما) من فوائدها حصر الخبر في المبتدأ، أو المبتدأ في الخبر {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] أي: ليس المؤمنون إلا إخوة، من عظم الأخوة أن الله جعلها هي الوصف الأكمل للمؤمنين، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الحجرات:10] المؤمنون عبارة عن أي شيء؟ عن إخوة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] فالأخوة تنبثق من التقوى ومن الإسلام.(70/2)
الأخوة في الله عبادة
ما هو أساس الأخوة؟ الاعتصام بحبل الله عز وجل، وبمنهج الله عز وجل، وبطريق الله تعالى.
والأخوة عبادة، ولابد أن نعرف أن الأخوة عبادة من العبادات التي نتقرب بها إلى الله عز وجل، فهي عبادة نتقرب إلى الله بها مثلما نتقرب إليه بالصلاة أو بالصيام، أو بالحج بالدعاء بالتوكل.
فهي عبادة من العبادات الجليلة التي ركب الله تعالى عليها فضلاً عظيماً منه عز وجل، وهي نعمة عظيمة جداً، نعمة عظيمة لا يحس بها إلا من توافرت فيه شروط الأخوة، وإلا فأقول لكم بصراحة: إن كثيراً من الناس اليوم تجده يقول: فلان من أعز أصدقائي، أو هذا فلان صديق عزيز، أو هذا فلان كنت أنا معه من السنة الفلانية، أو من المرحلة الابتدائية، أو كنا معاً في حارة واحدة، هذا فلان من أعز أصدقائي، هذا الكلام -أيها الإخوة- لا يعني مطلقاً أن هذين الرجلين متآخيان في الله، لا.
فقد تكون العلاقة بينهما هي علاقة تجاذب وتقارب وتوافق نفسي فقط، اثنين يرتاحان لبعض، أما الأخوة في الله فهي مسألة أعلى من ذلك بكثير، فهي مراتب وصفات لا يحس بها إلا من عرفها وذاق طعمها.(70/3)
الأخوة والمحبة من سبل النجاة
ومن الأدلة على أن الأخوة في الله عز وجل لها فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم -وهذا يدلك على خطورتها وعلى عظمها ومنزلتها العالية -أن الله عز وجل وصف أهل الجنة بأنهم إخوة في الله، قال عز من قائل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] إذا دخل أهل الجنة الجنة لا يزال في صدورهم بعض الأشياء العالقة من الدنيا، فإذا دخلوا الجنة نزع الله من صدورهم الغل فصارت عندهم أخوة نقية ما فيها شائبة واحدة.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضمن شروط الإيمان (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله) إذا صارت هذه القضية فإن الله تعالى يظل هؤلاء المتحابين تحت ظل عرشه يوم لا ظلَّ إلا ظله ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
إذاً -أيها الإخوة- هذا الحديث الأخير الذي ذكرته الآن يوضح معنى الكلام الذي قلته قبل قليل، وهو أن الأخوة في الله مرتبة عالية، ولها شروط كثيرة، فلذلك ليس أي اثنين تحابا يظلهم الله في ظله، لا.
بل لابد أن تكون الأخوة كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه) اجتمعا من أجل الله وعلى منهج الله، والطريق التي ارتضاها الله عز وجل، وتفرقا على نفس الشيء، ما تغيرت القضية بالمجلس، لما جلسوا ما تغيروا بل تفرقوا على مثلما جلسوا عليه، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، سواء في المجلس أو في مجالس متفرقة، أو كانت في الدنيا عموماً، اجتمعا عليه وفرق الموت بينهما وهما ما زالا على نفس العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهما.
أيها الإخوة: نحن أحياناً لا ندقق في العبارات ولا ندقق في الآيات والأحاديث، لكنك لو دققت تجد أشياءً توضح لك لماذا القضية عظيمة (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن في صحيح الجامع (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله، فلا يفترقان حتى يغفر لهم) والآن نحن نلتقي كثيراً، وكثيراً ما يسلم بعضنا على بعض، لكن هل توافرت الشروط التي تجعل هذا الالتقاء ينتهي بمغفرة الذنوب لكلا الطرفين: (ما من مسلمين يلتقيان فيسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا لله) لماذا نركز على هذا المفهوم؟ لأن الالتقاءات التي تحدث اليوم بين الناس -أيها الإخوة- ليست لله، ولا في الله، وإنما هي من أجل عرضٍ من الدنيا زائل.
الآن الناس يتلاقون فيسلم الواحد على الثاني، ويأخذ بيده ويصافحه، لكن إذا نظرت في الحقيقة لماذا يصاحبه؟ ولماذا يسلم عليه؟ ولماذا يأخذ بيده؟ تجد الغرض من وراء هذا كله مصلحة دنيوية، الآن الناس يلتقون لكن اللقاءات على الماديات الفانية: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] فلذلك لا يحس الواحد من هؤلاء طعماً مطلقاً، لا يجدون حلاوةً للقاء؛ لأن القضية فيها مصلحة، مسألة مصالح؛ ولذلك تجد الواحد يسلم على الثاني ويقابله ويبتسم بوجهه ويرحب به ويكيل له ألفاظ الثناء والمديح فإذا انصرفا وتفرقا، نزل فيه سباً وشتماً وغيبة، لماذا؟! من الأسباب: أن أصل اللقاء فاسد، وما بني على فاسد فهو فاسد، فأصل اللقاء فاسد وهو الدنيا، فمن الطبيعي أن يتفرقوا على أشياء كثيرة من البغضاء والشحناء، وهذه الابتسامات والمودة الظاهرة هي من أجل متاع دنيوي، لذلك لا يمكن لهؤلاء الناس أبداً أن يرتاحوا بهذه العلاقة التي تنشأ بينهما.(70/4)
أجور عظيمة على المحبة في الله
والحب في الله والأخوة في الله عميقة جداً جداً إلى أبعد ما يتصور الإنسان المسلم، وهي عبارة عن محبة متزايدة يدفعها إلى التزايد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تحاب اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) انظروا -أيها الأخوة- محاسن الدين الإسلامي، محاسن الإسلام عظيمة جداً! أحياناً لا نتصور، نتكلم: الإسلام أحسن والإسلام أفضل والإسلام لكن فسر كلامك: كيف الإسلام أحسن؟ لا تجد تفسيراً، لكن عندما ندقق في الآيات والأحاديث (إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه) معناه المحب في ازدياد، وكلما أحببت أخاك أكثر كلما ازددت فضلاً عند الله، فمعنى ذلك: أن الأفراد في المجتمع المسلم متلاصقون في غاية التلاصق، ويحب بعضهم بعضاً حباً جماً، هكذا يريد الله من المسلمين، ولذلك المجتمع الإسلامي مجتمع متماسك لا يمكن أن تتخلله الشائعات ولا الأشياء المغرضة ولا وشايات الأعداء ومخططاتهم؛ لأنه إذا كان الأفراد في تلاحم، فمن أين ينفذ الشر؟ وكيف ينفذ؟.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم موضحاً الأجر العظيم للمحبة في الله والأخوة في الله وبعض بنودها، يقول عليه الصلاة والسلام عن الله عز وجل في حديث قدسي (حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ -صلة زيارة رسالة بالهاتف- وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ -في سبيل الله- وحقت محبتي للمتباذلين فيّ) وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء) هذا يبين عظم المحبة وفضلها ومنزلة المتحابين في الله عند الله عز وجل، يكونون في منابر مرتفعة من نور يغبطهم على هذا المكان النبيون والصديقون والشهداء، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم.
الإخوان -أيها الإخوة- سلعة غالية جداً لا يمكن أن تجد لها بديلاً، ولو بذلت أعلى الأسعار.
إخوانكم لا شيء أغلى منهمُ لا شيء يعدلهمْ من الأشياءِ
وفعلاً، لا يمكن أن تجد سعراً في الدنيا ولا عرضاً من الدنيا يوازي أو يساوي أخاً واحداً في الله، تتآخى أنت وهو في صدق على منهج الله عز وجل.
لنأخذ حالة من الحالات التي تبين لنا أهمية الإخوة في الله.(70/5)
بالأخوة في الله نستطيع مواجهة الحياة
المرء -أيها الإخوة- قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، الواحد منا لوحده لا يقوى أبداً على مواجهة الحياة وظروفها ومشاكلها، والعقبات التي تكون في طريقه، فالمشاكل كثيرة جداً، والهموم عظيمة، والمهمات صعبة، فأنت الآن -أيها المسلم- مكلف بمهمات وستواجهك عقبات أثناء الطريق، إذا ما كنت في وسط إخوة في الله عز وجل ستذوب شخصيتك في هذه الحياة الدنيا الفانية، وستنهال عليك المصائب من كل جانب، ولا من معين.
وتظهر أهمية الأخوة في الله بدلائل كبيرة عندما يكون المسلمون في حالة ضعفٍ واضطهاد، وعندما يكون الإسلام متأخراً في نفوس الناس، وعندما ينحسر المد الإسلامي في العالم، ويحس المسلمون بالغربة؛ عند ذلك تنبع أهمية الأخوة في الله.
أيها الإخوة: إن ما يمر به المسلمون اليوم من ظروفٍ كالليل الحالك، وكالظلمة الشديدة، في خضم هذه الجاهليات العاتية التي تصدم المسلمين من كل جانب، يحتاج الفرد المسلم إلى تقوية نفسه، وإلى إيجاد شيءٍ يرتكز إليه عندما يواجه هذه المصاعب والتحديات، تحديات كثيرة تواجه المسلمين اليوم، لو لم تكن هناك أخوة في الله تثبت هذا المسلم على الدين لتزلزل بفعل العواصف التي تأتي من أعداء الإسلام.
والمسلمون الآن يعيشون في غربة، إذا ما كان هناك أخوة تسهل عليك هذه المصائب، وتزيل عنك هذه الوحشة التي تجدها في قلبك، فكيف يكون لك الاستمرارية في السير في هذا الطريق؟! من هنا كانت الأخوة في الله مهمة جداً، مهمة جداً في طلب العلم، وفي الدعوة إلى الله، مهمة جداً في تربية النفس، مهمة جداً إذا نزلت بك مصائب وواجهتك عقبات.
إذا فكر الإنسان -أيها الإخوة- في مواجهة العالم وأعداء الإسلام لوحده يحس أنه لا شيء، ماذا يمكن أن يفعل لكي يغير الواقع، ماذا يمكن أن يفعل بمفرده؟
الجواب
لا شيء، عندما يفكر منطلقاً من إخوانه يحس أن هناك قوة كبيرة جداً تدفعه إلى الأمام، وتقوي هذه النفسية حتى تجعلها على مستوى التحديات، فتقاوم هذه التيارات وتشق طريقها بقوة، هذه النفسية التي تدعو إلى الله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وبدونها -أي: بدون الأخوة في الله- يشعر الإنسان بالإحباط، ويشعر باليأس ويفقد الأمل في تغيير الواقع.
وإذا أخذنا نموذجاً من النماذج التي كانت عليها حياة السلف في باب الأخوة في الله، كيف كانت مجتمعاتهم؟ كيف كانت جماعاتهم؟ كيف كانت بيئاتهم؟ كيف كانت مجالسهم العلمية؟ فاستمع معي لما يقوله الإمام أبو حازم الأعرج رحمه الله تعالى.
يقول رحمه الله: لقد رأيتنا عند زيد بن أسلم - زيد بن أسلم من العلماء- أربعين فقيهاً أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه -هذا الفقيه- متماريين -متجادلين- ولا متنازعين في حديثٍ لا ينفعنا.
هكذا كانت مجالس السلف، هذا هو العموم الشائع، لا يعني أنه لم تكن هناك مشاكل ولا أمراض، لكن هكذا كانت مجالسهم، أربعون على قلب رجلٍ واحد، لا توجد مشاكل بينهم.(70/6)
ضرورة تطبيق حقوق الأخوة في الواقع
الآن -أيها الإخوة- نحن نتكلم عن الأخوة، والأخوة لها واجبات كثيرة، وتعداد الواجبات قد يكون أكثركم على اطلاعٍ بمعظمها، فتعداد الواجبات قد يأخذ منا وقتاً نحتاجه في عرض مشاكل أخرى، لكن عندما نتكلم عن الأخوة حلاوتها وواجباتها يجب -أيها الإخوة- أن نكون كما أمرنا الله عز وجل، إن الله ذم أناساً من المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] يجب أن نرتفع من مستوى الكلام والنظريات؛ لأن الكلام حول الأخوة قد يكون سهلاً وجميلاً ومستساغاً، وعندما تقرأ تنبسط من الكلام الذي تقرؤه في بعض الكتب، والقصص التي تسمعها عن بعض السلف، وأحدهم ذهب فوجد أخاه في الله غير موجود، فسأل الجارية: أين ذهب؟ قالت: غير موجود.
قال: دلوني على مكان المال، فدلته الجارية، فأخذ ما يحتاج إليه وانصرف، فلما رجع الأخ المسلم وعرف ما فعل أخوه وأنه أخذ المال الذي يحتاجه ولم يشعر بأي حرج، قال للجارية: إن كنت صادقة فأنت حرة لوجه الله، ففتش المال فوجده قد أخذ منه فعلاً فعتقت الجارية.
هذا الكلام جميل جداً، لكن القضية هي الارتفاع من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الواقع العملي والأفعال، هنا النقطة، ليست النقطة في وصف الأخوة والإسهاب في عرض المبادئ النظرية، بل المهم الآن هو التطبيق، لذلك عندما ذكرنا في عنوان المحاضرة: الأخوة في الله بين المفهوم الإسلامي -لأن بعض الناس يعرفون المفهوم الإسلامي- والواقع الحاضر أو التطبيق الحاضر الذي يحدث الآن، المفهوم قد يكون واضحاً لا إشكال فيه، لكن التطبيق كيف؟ كيف نطبق الآن؟ هنا لا بد أن نقف، لكن لا بأس أن نستعرض وإياكم بعض الأحاديث التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي تبين بعض سمات وصفات الأخوة.(70/7)
من واجبات الأخوة(70/8)
إعانة الأخ المسلم في قضاء حوائجه
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذا الحديث الحسن الذي رواه الطبراني عن ابن عمر مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- (أحب الناس إلى الله أنفعهم -الذي ينفع أكثر يحبه الله أكثر- وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة -واقع في مشكلة فتزيلها عنه- أو تقضي عنه ديناً) هذا الأخ عليه ديون وعليه نقود تزوج -مثلاً- وعليه ديون، احتاج لحاجة معينة، صار له حادث سيارة، يبني بيتاً، صار عليه دين- (أو تطرد عنه جوعاً -أحياناً قد يجوع المسلم، قد يجد الطعام أو لا يجده، المهم أن يكون في مناسبة أو في وضع جائع- ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً) المسجد النبوي الصلاة فيه بألف صلاة، وفي بعض الروايات: خمسمائة صلاة، فشخص يعتكف شهراً في المسجد النبوي سيصلي (150) صلاة تقريباً، والاعتكاف ليس فيه (150) صلاة فقط، بل فيه تسبيح وتهليل وأجر الاعتكاف نفسه، فكم سيكون الأجر؟ أجر هائل، اعتكاف في المسجد النبوي فيه (150) صلاه، وتسبيح بعد كل صلاة، وذكر لله، والصلوات التي تكون بين الأذان والإقامة، وأجر الاعتكاف نفسه، وقراءة القرآن، أجر هائل جداً وعظيم لا يُتصور! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إليّ من أن أعتكف في المسجد شهرا) تمشي مع أخيك المسلم في حاجته، فتأخذ أكثر من أجر الاعتكاف في المسجد النبوي شهراً، فهذه المسألة تحتاج إلى تفكير؛ لأن تصورها صعب.
أمشي مع أخي المسلم لأقضي له حاجته: عنده مشكلة، أو عنده شيء يريد مساعدة فيه -أي مساعدة- فأذهب معه حتى أقضي له حاجته وأزيل عنه هذه الكربة أفضل عند الله من الاعتكاف شهراً في المسجد النبوي (ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام) متى تزل الأقدام؟ على الصراط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة، مضروب على متن جهنم يعبر عليه الناس فتزل الأقدام) والذي يمشي في حاجة أخيه المسلم حتى يقضيها له يثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام.
فلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: حتى يقضيها له (ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يقضيها له) لأن بعض الناس -وهذه مشكلة- تأتي تكلمه أن عندك مشكلة، فتقول له: يا أخي! أنا عندي المشكلة الفلانية كذا وكذا، فيقول: أبشر ولا يهمك، أنا مستعد أن أذهب غداً، وهو يعرف أنه لن يفعل شيئاً بالموضوع، ولكن من باب المجاملة وينتهي المشوار على لا شيء، وهو يعلم سلفاً وقد يخبئ في نفسه وسائل أخرى للوصول إلى المقصود، لكن يقول: فلان هذا قد يكون واسطة خير، ولكن أنا أريد أن أبقيه لنفسي؛ يمكن أحتاج للشخص هذا في يوم من الأيام، فما أريد الآن أن أستعمل هذه الورقة وأحرقها من أجل فلان، فأنا أذهب وأتوسط بكلمتين ولا أشد عليه أو ألزم عليه، فيرفض، ولكن من باب رفع الحرج، هذا كل يوم على رأسي، ويعرف أن المشكلة لن تنتهي، فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((حتى يثبتها له) أو على الأقل يتفانى بجهده الكامل حتى لو لم تنتهِ المشكلة لكن بذل جميع ما في قدرته وجميع ما في وسعه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (اتقِ الله، ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) حديثٌ صحيح رواه ابن حبان عن جابر بن سليم الهجيمي رضي الله عنه ((وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط) الآن كثيرٌ من المسلمين يتلاقون فإذا إشارات العبوس، وجبين هذا مقطب، وهذا متجهم الوجه، هذه حال كثير من المقابلات، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (ابتسامتك في وجه أخيك المسلم صدقة) ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو هذه الابتسامة؛ لأن الابتسامة هذه تعبر عن أشياء كثيرة.(70/9)
التزاور حق من حقوق الأخوة
ومن حقوق المسلمين على المسلمين ومن حقوق الأخوة في الله: التزاور، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم () إن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى -تصور، أي: ذهب من قرية إلى قرية، ليس مثلنا الآن نتكاسل في الذهاب من بيت إلى بيت- فأرصد الله له على مدرجته ملكاً -في الطريق- فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ -يعني: هل أنت ذاهب إليه تريد منه شيئاً، أي: مصلحة معينة؟ - قال: لا.
غير أني أحببته في الله فقال الملك: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح () ألا أخبركم برجالكم من أهل الجنة؟ ثم ذكر عدة أصناف من الرجال- ثم قال: والرجل يزور أخاه في ناحية المصر -يعني: في ناحية البلد- في الله) ليس لأنه يحتاج منه شيئاً، لا.
في الله فقط، فهذا من أنواع الناس في الجنة.
- زيارة المريض: ومن الزيارات المؤكدة -أيها الإخوة- زيارة المريض (وإذا مرض فعده) الآن الواحد منا يمرض أخوه المسلم، ويجلس في المستشفى أياماً، ويشفى من المرض، ويخرج من المستشفى، وبعدها يسمع -كأنه خبر في نشرة أخبار- خبر أخيه هذا كأنه خبر عادي: صار كذا وكذا، وانتهت الحادثة بكذا وكذا، دخل فلان المستشفى فمكث فيها أربعة أيام وأجريت له عملية والآن هو في البيت يأخذ نقاهة مثل الأخبار التي نسمعها للمرضى، هذه حقيقة.
أشياء كثيرة تعود إلى التقصير، والزيارات الآن بين المسلمين ليست على المستوى المطلوب، فكثيرٌ من الناس يتعذرون بالأشغال، وغالب الأشغال دنيوية، وتجد الاثنين عندما يتقابلان يقول أحدهما للآخر: يا أخي! أنا أعرف أنك مشغول وأنا مشغول؛ لذلك ومن أجل هذا -أنت مشغول وأنا مشغول- لا داعي أني أشغلك زيادة ولا أنت تشغلني زيادة، فلذلك لا زيارات.
وهذا ليس صحيحاً، يعني: هل يوجد شخص مشغول أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان يذهب لزيارة أم أيمن، وهي امرأة كبيرة في السن من الأنصار كان يزورها، وأحدنا الآن قد لا يرجو من وراء هذه المرأة نصر الإسلام ولا الجهاد ولا كذا لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يوجد أحد مشغولاً أكثر منه كان يذهب ويزور أم أيمن ويزور غيرها من الصحابة، وكثير من الأحاديث الفعلية، تجد الراوي يقول: وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب ليزور فلاناً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم، فزيارات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة.
وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى إذا بلغه عن شخصٍ صلاحٌ أو زهدٌ أو قيامٌ بحقٍ أو اتباعٌ للأمر -للسنة- سأل عنه، وأحب أن تجري بينهما معرفة، وأحب أن يعرف أحواله، الإمام أحمد كان حريصاً على جمع أهل السنة وتوحيد جهودهم، وكان حريصاً على زيارتهم في الله، فكان إذا سمع عن رجل فيه خير وفيه اتباع للسنة، أحب أن يجري بينه وبين ذلك الرجل معرفة، ويزوره، ويلتقي به، ويتحدث إليه، ويتعرف على أخباره.(70/10)
نصيحة الأخ المسلم
وكذلك من الواجبات الأخوية: مسألة النصيحة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أفتى بغير علمٍ كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمرٍ يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) رواه أبو هريرة وهو حديث حسن.
شخص جاء -مثلاً- يستشيرني هل يتوظف في المكان الفلاني أو الفلاني؟ هل الزواج من بيت فلان أو بيت فلان؟ هل يقدم على الخطوة الفلانية أم لا؟ وأنا أشرت عليه بأمر غير الذي أعتقد أنا أنه الصحيح فقد خنته، والآن يحدث من بعض المسلمين حسد وكيد، يقول له: أذهب إلى الوظيفة الفلانية أم الفلانية؟ يقول: لا.
تلك أحسن، بينما الحقيقة غير هذا، لكن حسد، يقول: هذا في الغد يمشي في الوظيفة، ومعه شهادة، فيترقى ويصبح أعلى مني، لا.
دعني أدله خطأ، وأوجهه خطأ وشخص يقول للثاني: أريد أن أعمل مشروعاً تجارياً، ما رأيك أفعل كذا أو كذا؟ فيقول: لا.
هذا مشروع فاشل، عليك بالأمر الفلاني أحسن، لماذا؟ حسداً من عند نفسه؛ لأنه قد يصير أحسن وأكثر منه مالاً، وهكذا أحياناً: شخص يريد أن يعمل تجارة وأنت قد تفهم من الموضوع أن هذا المشروع طيب ومناسب ولكن تقول: انتبه هذه الأيام الدنيا لا تساعد، وقد تفشل، ويمكن كذا، أي: تثبيط، ليس لأن الأمر مثبط، لا.
بل حسداً من عند نفسك، تشير عليه في أمرٍ وأنت تعلم أن الرشد في غيره، فهذه خيانة وقطع للعلاقات الأخوية بسكين الخيانة.
والنصيحة -أيها الإخوة- ((إذا استنصحك فانصحه) قال العلماء: هذه واجبة، البدء بالسلام سنة، لكن إذا استنصحك -أي: طلب منك النصيحة- يجب عليك أن تنصحه، وإذا لم تنصحه تأثم.
والنصيحة تأخذ عدة أشكال وعدة جوانب: فمن النصائح مثلاً: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً أهمية النصيحة وهو حديثٌ من الأحاديث الصحيحة، وهو في السلسلة الصحيحة برقم [926] ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكف ضيعته، ويحوطه من ورائه) أنت الآن إذا نظرت إلى المرآة ماذا تشاهد؟! أي عيب فيك تشاهده في المرآة.
يقول المناوي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: فأنت مرآة لأخيك يبصر حاله فيك.
كأنه أنت المرآة، فهو يبصر حاله فيك، وهو مرآة لك تبصر حالك فيه.
يكف الضيعة، أي: يجمع عليه معيشته ويضمها إليه، فيلبي له احتياجاته في معيشته، إن كان عنده فضل يعود به عليه، ويحوطه من ورائه، يعني: يحفظه ويصونه ويذب عنه ويدفع عنه من يغتابه أو يلحق به ضرراً، ويعامله بالإحسان والشفقة والنصيحة، هذه من واجبات الأخوة.
مثلاً: كنت في مجلس وشخص تكلم على فلان، أقوم أنا وأثور وأتكلم وأرد عن هذا الغائب: (ويحوطه من ورائه) فإذا حدث كلام من ورائه تجد هذا الأخ يذب ويدافع.
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن للمؤمن بالمرآة، يقول الشارح: فكما يزيل عنك كل أذىً تكشفه لك المرآة فأزل عنه كل أذى فيه عن نفسه، مثلما أنك إذا نظرت إلى المرآة تزيل الأذى عن نفسك، كذلك هذا الأخ المسلم مثل المرآة، هو الذي يدلك على عيوب نفسك، فأنت ترى به عيوبك أنت، فتصلح عيوبك بواسطته هو، ولذلك -أيها الإخوة- الله عز وجل أمر بالتواصي فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] لا بد من التواصي أي: التناصح مثل: يا فلان! أوصيك بكذا، أي: أنصحك بكذا، لابد من مد جسور النصيحة بين المسلمين؛ لأنك قد لا ترى عيوبك بنفسك لكن الآخرين يرون عيوبك.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: [إلى من يشكو المسلم إذا لم يشكُ إلى أخيه المسلم؟ ومن الذي يُلزمه من أمره مثل الذي يلزمه؟ إن المسلم مرآة أخيه، فيه يبصر عيبه، ويغفر له ذنبه، قد كان من كان قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجل الرجل فيقول: يا أخي! ما كل ذنوبي أبصر -أنا لا أنظر كل ذنوبي- ولا كل عيوبي أعرف، فإذا رأيت خيراً فمرني به، وإذا رأيت شراً فانهني عنه].
والآن إذا جئنا على مستوى هؤلاء الإخوة في الله، قد لا تحدث النصيحة -أيها الإخوة- لأسباب، منها: قد يتهيب الأخ المسلم من نصح أخيه، قد يكون أكبر منه سناً فلا ينصحه، قد يكون أعلى منه قدراً في العلم أو الجاه فيتهيب من نصحه، فتجده يخاف أو يصير عنده نوع من الوجل، فلان أكبر مني كيف أقدم له نصيحة؟ فيسكت، أحياناً قد يمسك عن النصيحة لا يقول لأخيه ماذا يدور في نفسه، شخص -مثلاً- أسلوبه فظ ويعاملني بقسوة، من الخطأ في بعض النفسيات أن تكتم الأساليب الخاطئة التي تعامل بها، نفسية كتومة فتتراكم الأشياء فيها من معاملة خطأ كلمة خاطئة أسلوب عنيف شيء بعد شيء وقطرة بعد قطرة حتى يتدفق السيل الجرار الذي يقطع العلاقات ويهدم الجسور بين هذا الأخ وأخيه، بسبب ماذا؟ بسبب الكتمان، كتمان كتمان ثم يأتي الوقت الذي ينفجر فيه، فإذا انفجر معناه انتهت العملية.
فلذلك لا بد -أيها الإخوة- من المصارحة، لا بد أن نتصارح فيما بيننا، إذا وجدتُ خطأً وما استطعت أن أبتلعه تماماً وبقي في نفسي أثر، ليس صحيحاً أن أبقي هذا الأثر؛ حتى لا تتراكم الآثار وتنفجر القضية وتنقطع علاقتي بهذا الأخ، ولا أريد أن أقابله مرة أخرى، لا.
لابد أن نتدارك الأخطاء أولاً بأول، ونتصارح فيما بيننا، وإلا ما قمنا بواجب النصيحة والأخوة في الله.
ومن أسباب عدم حدوث النصيحة: اللامبالاة، وهي من العوامل المهمة التي تحجب النصيحة، مثلاً: إنسان ما يحس بأهمية النصيحة، ولا بقيمتها، فلا يبالي بإلقائها -النصيحة- فيكون سلبياً يقول: دع غيري ينصحه، لا داعي أن أكلف نفسي بالنصيحة، قد يكون هذا العيب ما رآه أحدٌ إلا أنت، لا بد أن تنصح، وقد يكون كلام واحد غير كافٍ، لكن عندما يجتمع الكلام من عدة مصادر يحدث التأثير، فلا تقل: أنا لا أريد أن أتكلم، لا.
انصح وتكلم، قد يكون كلامك في غاية الأهمية: (لا تحقرن من المعروف شيئاً).(70/11)
حفظ عرض الأخ المسلم
وكذلك -أيها الإخوة- حفظ عرض المسلم، والمحافظة على قيمته وصيانته، من الأمور التي تنتهك الآن غيبة ونميمة سب وشتم انتقاص أشياء كثيرة تقع بسبب عدم استشعار المسلم لحرمة أخيه المسلم، عدم الاستشعار بأن اللحوم مسمومة، قال تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ولذلك ترى في الوقت الذي نحتاج فيه إلى تطبيق قواعد الأخوة في الله، وصيانة إخواننا المسلمين نجد ألسنة الافتراء والكذب والبهتان تنطلق بلا حدود في تجريح الإخوة المسلمين، وبيان عيوبهم ومثالبهم.
إذا كان الكلام عن عيب الأخ في غيبته حرام، فكيف إذا كانت القضية غير موجودة في الأخ، وإنما هي افتراءٌ عليه وبهتانٌ له؟! كيف يكون هذا عند الله عز وجل؟ افتراءات تبرر بتبريرات عجيبة، والإسلام بريءٌ منها، بقصد يتوهم صاحبه أنه حسن، أو يتوهم أن هذه مصلحة، فيبدأ يجرح ويتكلم، ولكن المسألة عند الله عز وجل بخلاف ذلك، كلمة قد تهوي بالإنسان في النار سبعين خريفاً، كلمة واحدة فكيف بشخص منطلق بلا حساب، يكيل التهم والسباب والشتائم والتنقص من إخوانه المسلمين.
وبعض الناس من منظار التعصب -أحياناً- لا يعامل بمبادئ الأخوة في الله إلا من هو على شاكلته، وأما إذا اختلف مع شخصٍ آخر في رأيٍ من الآراء، أو منهجٍ من المناهج، أو طريقة من الطرق، فإنه يعامله بالفظاظة والغلظة والقسوة التي لا تليق بالمسلم أبداً.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال () المسلم أخو المسلم) ما دام أنه مسلم لابد أن تؤاخيه وهذه الحواجز التي توضع أحياناً بسبب الخلافات في الآراء يجب أن تزول وألا تكون مانعة من مد جسور الأخوة في الله عز وجل إلى جميع الأخوة المسلمين في جميع أقطار المعمورة فمتى وصلت إليه فهو أخوك المسلم، الأخ المسلم ليس من الجيران فقط، ولا من القرابة فقط، ولا من البلد فقط، ولا ممن هو على شاكلته، يبقى أخي المسلم هو أخي المسلم ما دام أنه من أهل السنة والجماعة، ما دام أنه على العقيدة الصحيحة، مادام أنه يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما دام أنه ليس مبتدعاً ولا ظالماً ولا فاسقاً فهو يبقى أخي في الله عز وجل، بل إنه حتى لو كان فاسقاً فإن ابن تيمية رحمه الله يبين فيقول: وقد يجتمع في المسلم إيمانٌ وفسوق؛ لأن الله عز وجل يقول في القرآن بإيضاح أنه قد يحصل في المؤمن إيمانٌ وشركٌ أصغر، أو إيمانٌ وفسق، لكن لا يجتمع الإيمان مع الشرك الأكبر ولا مع الكفر، فيقول ابن تيمية رحمه الله: وكل إنسانٍ نواليه بحسب ما معه من الإيمان، ونبغضه بحسب ما هو عليه من الفسق.
فنواليه ونعاديه في نفس الوقت، حتى لو كان فاسقاً فإن له حقاً من الموالاة، ولا بد من الموالاة في الله.
فنعود ونقول: إن قصر حقوق الأخوة في الله على طائفة من المسلمين دون الباقي لهو انحراف وقصور في فهم الأخوة التي أمر الله بها، وينبغي -أيها الإخوة- أن تكون هذه قضية واضحة، ينبغي أن تكون هذه المسألة مطبقة في واقعنا وإلا فنحن مقصرون.
فإذاً: أيها الإخوة! هذا الافتراء وهذا البهتان الذي ينطلق أحياناً من بعض ألسنة المسلمين ضد إخوانهم الآخرين، هو من الأشياء التي لا تُرضي الله عز وجل، وصار شعار بعض المسلمين بدلاً من: تعال بنا نؤمن ساعة، صار شعارهم: تعال بنا نغتب ساعة، فتجد المجالس كلها مؤسسة على الغيبة وعلى القدح والانتقاص.
فإذاً: أيها الإخوة! الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، كوني أختلف أنا وأنت في مسألة فقهية، كوني أختلف أنا وأنت في رأي في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -البشر من طبيعتهم الاختلاف- يحصل بيني وبينك اختلاف في الرأي، هذا لا يعني مطلقاً أن أعاديك وأبغضك، أبداً، فإن الصحابة كانت تقع بينهم خلافات.
علي بن أبي طالب وقع بينه وبين بعض الصحابة حروب باجتهادات، ماذا كان يقول علي رضي الله عنه عندما يشتم بعض الذين قاتلوه في المجلس؟ كان ينهى نهياً شديداً عن ذلك، وكان يقول عندما يطلب رأيه فيمن قاتله: [إخواننا بغوا علينا] هو بويع على أنه خليفة، فحصلت اجتهادات من بعض الناس الآخرين، منهم المأجور مرة ومنهم المأجور مرتين، منهم مجتهد مخطئ ومنهم مجتهد مصيب، رضي الله عنهم أجمعين، كان يقول: إخواننا بغوا علينا، ما أخرجهم عن كونهم إخوة أبداً، إخواننا لكن أخطئوا علينا -بغوا علينا- لكن لا زالوا إخواننا، والله عز وجل قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] كيف سماهم مؤمنين وهو يقول اقتتلوا؟ ما أخرجهم عن صفة الإيمان، فلذلك هذا الصنف من الناس الذي يشبهه بعض المفكرين المسلمين بالذبابة التي لا تقف إلا على الخبث، وتنقل هذا الخبث من مكان إلى آخر، هؤلاء الذبابيون - إن صحت تسميتهم بذلك- يقفون على الخبث ويتتبعون سقطات الناس وعيوبهم وأخطاءهم وعوراتهم، ثم يجلسون في المجالس ويعيدون ويكررون ما خرجوا به، هؤلاء الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الخبائث وينقل هذه الخبائث من مكان إلى آخر:
أنسى عداء المجرمين سياسة وأغيظ أهلي من بذيء سبابي
للظالمين تحيتي ومودتي ولأهل ديني طعنتي وحرابي
هذا جحيمٌ لا يطاق ومنطقٌ يأباه وحشٌ قابعٌ في الغاب
مهما كان أيها الإخوة، المسلمون في العالم إخوة لنا في الله ما داموا على طريقة أهل السنة، والإحساس بأحاسيس الإخوة والشعور بمشاعرهم عبادة عظيمة.
وذكر عن الشيخ محمد رضا رحمه الله تعالى؛ الداعية المعروف، أنه من فرط اهتمامه بأمور المسلمين ومشاكلهم يكون في حالة يذهل فيها عن نفسه، يعني: يسرح أحياناً وهو في هم عظيم، وهو يفكر في واقع المسلمين، وقد حصل له مرة أن أمه اقتحمت عليه خلوته وهو جالس يفكر في وضع المسلمين، فرأته واجباً فقالت له تمازحه باللهجة العامية، وهو في مصر: (هو في مسلم مات اليوم في الصين) أي: مادام أنك مهموم فأكيد اليوم مسلم مات في الصين.
فإذاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في هذا، كان يشارك المسلمين آلامهم وآمالهم، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، وكان يشاركهم.
أيها الإخوة: من المؤسف أن تجد أخاً وقع في مشكلة أو مصيبة وهو مغموم والآخر أمامه ينكت ويضحك، وهذا أمامه الآن مغموم وذاك لا يعطي له أي اعتبار ولا يشاركه في أي شعور من مشاعره، فهذا مما يفصم عرى الأخوة في الله.(70/12)
التماس الأعذار
وكذلك من واجبات الأخوة: أن تلتمس الأعذار لأخيك، والمؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب الزلات، ومن روائع كلام الشافعي رحمه الله تعالى أنه كان يقول: من صدق في أخوة أخيه قبل علله -كل واحد فيه عيوب وأخطاء، لا يوجد إنسان كامل- وسد خلله، وعفا عن زللِه.
هذا سيخطئ عليك ويزل عليك، فأنت ما هو موقفك؟ أن تعفو عن زلته.(70/13)
بعض سلبيات الاجتماعات والمجالس بين الأخوة
والآن -أيها الإخوة- سنتكلم عن بعض القضايا الواقعية التي تحدث في أوساط الإخوة في الله، وهذه الأشياء من المشاكل التي تواجهنا، ولا بد من إيجاد الحلول لها.(70/14)
الاجتماع والجلوس لغير فائدة
الآن نتيجة التقارب الذي يحدث بين المسلمين المتآخين في الله عز وجل، فإنهم يكثرون من الجلوس مع بعضهم، وتتعدد مجالسهم، ويجلسون مع بعضعهم كثيراً، وهذا طبيعي؛ لأن الخير لا بد أن ينجذب إليه الأخيار، فسيجلسون مع بعضهم، وهذا الجلوس ليس محموداً في بعض الحالات، بل إنه ينتج عنه مشاكل، ونحن الآن نريد أن نناقش بعض هذه المشاكل.
يقول ابن القيم رحمه الله: اجتماع الإخوان على قسمين: اجتماعٌ على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ وهذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت، والثاني: اجتماعٌ على التعاون على أسباب النجاة؛ وهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها.
والآن ليس كل الناس الطيبين إذا اجتمعوا مع بعضهم يخرجون بنتائج طيبة، لا.
أحياناً الناس يجتمعون مع بعضهم، لماذا يجتمعون مع بعضهم؟ أحياناً يكون الاجتماع بسبب أن فلاناً فيه توافق وتجانس بين شخصيتي وشخصيته، في مطابقة بين شخصيتي وشخصيته، تآلف هناك أي: أرتاح له ويرتاح لي، المسألة مسألة ارتياح، فنتيجة لذلك نجلس مع بعضنا كثيراً، هذا الجلوس إذا تعدى حداً معيناً فإنه يكون مذموماً، لماذا؟ لأن هذا الجلوس هو عبارة عن استئناس بالجالس، وتفكه ومفاكهة بالحديث معه، وإمضاء للوقت، وهذا الإنسان معاشرته طيبة وحديثه جميل، ونحن نتبادل مع بعض أحاسيس وأخبار، يعني: ارتياح، لا تتعدى المسألة الارتياح، لذلك تجد هذا المجلس ما فيه تواصٍ بالحق والصبر، وليس فيه علم شرعي يطرح، ولا مسائل مفيدة تناقش، وإنما تكون قضايا دنيوية أو أحاسيس وأشياء تقال في هذه المجالس لمجرد الارتياح فقط، هذه الأشياء يقول عنها ابن القيم رحمه الله: هذا أقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
أما النوع الثاني: فهو الاجتماع على التعاون وعلى أسباب النجاح، التعاون لطلب العلم، التعاون للمشاورة والمناقشة في أوضاع المسلمين، وماذا يصلح لهم، التعاون والجلوس لحل مشكلة معينة واقع فيها إنسان مسلم أو بعض المسلمين، مجالس الوعظ والتذكير وزيادة الإيمان، هذه المجالس التي تزيد الإنسان صلة بالرحمن.
أما إذا كان المجلس بسبب الارتياح لا بسبب الذكر ولا طلب العلم، بل لمجرد الارتياح والتوافق النفسي، فإن هذا المجلس سيكون فيه سلبيات، فمن هذه السلبيات بالإضافة إلى ضياع الوقت وفساد القلب تزين بعضهم لبعض.
فتجد الناس إذا جلسوا مع بعض كل واحد يداري عيوبه؛ وقد تصبح فيها مجاملات، وكل إنسان يريد أن يظهر أحسن ما عنده من الأخلاق، فلا يظهر لأخيه على حقيقته، فلذلك إذا غادر المجلس تغيرت طباعه، فيسبب تزين بعضهم لبعض، وهذه من آفات المجالس، أن الناس يتزينون لبعضهم، ولا يبدون أمام بعضهم البعض بكل صراحة ووضوح، وإنما يداري العيوب وتنكشف في أماكن أخرى، أحياناً: يجلس الإنسان مع أخيه -مثلاً- في مجلس فيظهر له في غاية البشاشة واللطف، وبغاية الحسن في الأسلوب والأدب، فإذا انقلب إلى بيته وجدت علاقته بزوجته علاقة سيئة جداً، لا فيها لطف، ولا حسن معاملة، ولا أدب، ولا شيء، لماذا؟ بسبب التزين الذي يحدث في المجالس، يتزين بعضهم لبعض.
هذه من المشاكل.
وتزداد الخلطة بهؤلاء الناس عن مقدارها الذي تحتاج إليه، فتتحول إلى شهوة تلهي عن المقصود، وتعطل الإنسان عن القيام بالواجبات، وهذه حاصلة، تجد بعض الناس يجتمعون مع بعض، ويجلسون مع بعض، وقد يكون فيهم خير وليسوا سيئين، ولا فيهم منكرات ولا فسوق؛ لكن تطول بهم مجالس الاستئناس والارتياح فتلهيهم عن طلب العلم، وعن صلاة النافلة، وعن قراءة القرآن، وعن محاسبة النفس، وتلهيهم عن الدعوة إلى الله.
أيها الإخوة: لا بد أن نفكر جدياً أن هناك من يحتاج إلى أوقاتنا من الضائعين من المسلمين الذين يحتاجوننا بشدة أكثر مما يحتاجه فلان وفلان، عندما نجلس مع بعض لمجرد الاستئناس والارتياح، هذه الاستئناسات والارتياحات تفوِّت عليك أشياء عظيمة جداً وواجبات كبيرة، بدل ما تجلس يا أخي تتكلم في كلام ما نقول كلام محرم بل كلام مباح، قم من هذا المجلس واذهب إلى فلان هذا الحائر الضائع، وانصحه وكلمه لعل الله أن يهديه على يديك، بدلاً من أن تجلس أنت وتضيع الوقت في الكلام مع هؤلاء الناس، وأحياناً لأن طابع المجلس طابع إسلامي، فإن هذا الشيء يُغبش على بعض الأنظار فلا ترى هذا الخطأ، فيقول في عين نفسه: أنا أجلس مع إخواني في الله، الحمد لله أنا جالس مع أناسٍ طيبين، ولذلك لا يفكر في تغيير واقعه، وقد يكون فيه خطأ كبير، أقل ما فيه اشتغال بالمفضول عن الفاضل، وهذا مدخل من مداخل الشيطان.
الانطلاق في المجتمع أفضل من أن تجلس جلسات الارتياح والمؤانسة، انطلق -يا أخي- فهناك في المجتمع منكرات كثيرة تحتاج إلى تغيير بشتى أنواع التغيير، هناك أناس يحتاجونك بشدة، هناك أقارب لك يعيشون وهم بحاجة إلى شخص ينصحهم، وأحياناً عندما تأتي وتكلم الناس تجد هناك إقبالاً وتعطشاً عند كثير من الناس، لكن هذه الاستئناسات تشغلك عن هذه القضية.
كان ابن الجوزي رحمه الله يحتال على زائريه، أناس يأتون لتضييع الأوقات، يقولون: هذا ابن الجوزي حسن الكلام والمفاكهة، فيأتونه ويزورونه، وابن الجوزي رحمه الله من الناس الذين عندهم عصامية في القراءة وطلب العلم، فإذا كل شخص جاء يريد أن يكلمه، وكل شخص يريد أن يزوره؛ فمتى يقرأ لنفسه؟ ومتى يبحث؟ ومتى يحاسب نفسه؟ ومتى يربي نفسه؟ ومتى يذكر الله؟ ومتى يصلي الصلوات النافلة؟ فكان ابن الجوزي رحمه الله يحتال لهؤلاء، فيقول: فكنت أترك لزيارتهم الأشغال التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير، يعني: كنت أترك الأشياء التي تحتاج إلى وقت ولا تحتاج إلى تفكير هذه أؤخرها إلى أن يجيئني شخص.
مثل ماذا؟ مثل بري الأقلام، وتقطيع الأوراق، فهذه كان يخليها عندما يأتي الناس، قال: لأني أقع في مشكلة إذا رددت الناس قالوا: لماذا هذا يردنا؟ هذا متكبر وهذا وهذا وإذا أدخلتهم وجلسوا ضاع الوقت وراحت القضية في كلام لا فائدة فيه، فصار يرجئ قضية بري الأقلام وتقطيع الأوراق إلى أن يأتي الناس، فإذا جاءوا جلس يقطع ويبري ويتكلم معهم حتى ينصرفوا، أي: لا بد من الحكمة في تصريف الأمور، وليس يأتي إنسان فتقول: اليوم لن أجلس معك؛ لأن هذه المجالس كلها كلام لا فائدة فيه.
فلا بد من الحكمة والتروي واتخاذ الأسلوب المناسب.(70/15)
كيفية التعامل مع الأخ المذنب
ومن القضايا كذلك التي تحدث في أوساط الإخوة: قد يستزل الشيطان مسلماً من المسلمين فيوقعه في فاحشة من الفواحش، أو في منكر من المنكرات، أو في خطأ شرعي، قد تضعف نفس هذا الأخ المسلم في وقتٍ من الأوقات فيقع في فاحشة أو منكر أو يرتكب معصية، فيكون وقع هذه المعصية على نفوس إخوانه كبيراً جداً، لأنه من المفترض أنه يبتعد عن هذه الأشياء، لكن الضعف البشري صفة ملازمة للبشر؛ لأن النقص في البشر وفي بني الإنسان مسألة موجودة، فإذا وقع شخص من إخوانك المسلمين في هذا الخطأ أو في هذه المعصية ماذا يحدث؟ في الحقيقة -أيها الإخوة- أن ردود الفعل تتفاوت، فمن ردود الفعل الخاطئة والخطيرة جداً -بل إن عواقبها وخيمة للغاية- أن هؤلاء الناس المحيطين بهذا الرجل إذا عرفوا أنه قد وقع بهذه الخطيئة، أو في هذه المعصية، يتبرءون منه حالاً، وينفضون عنه، لا يجالسونه، ولا يكلمونه ويقاطعونه، ولا يسلمون عليه، ولا يسألون عنه، لأنه في نظرهم قد صار فاسقاً، وهذا التصرف تصرف خطير جداً، بل إنه من أعز أمنيات الشيطان، وأعز أمنياته أن يتصرف المسلمون مع أخيهم المسلم الذي وقع في المعصية هذا التصرف، وود الشيطان أن يصل إلى هذه النتيجة، لماذا؟ لأن ذلك المسلم المخطئ الذي ارتكب هذا المنكر عندما يرى انفضاض إخوانه من حوله ماذا سيحدث؟ سيبتعد عنهم، ومن الذي يجتذبه؟ يجتذبه أعوان الشر وإخوان الشياطين، ويذهب إلى غير ما رجعة، بينما لو كانت الأمور عولجت بأسلوب آخر لكان قد تلافينا الوضع ورجعت المياه إلى مجاريها بغير هذه النتائج الخطيرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في قصة الصحابي الذي أخطأ وعصى الله وشرب الخمر، وقد أتي به ليجلد، فبينما هم يجلدونه أخذوا يسبونه: لعنة الله عليه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) من المستفيد؟ فأنت الآن عندما تشتمه علناً وتسبه وتلعنه ثم تقاطعه من المستفيد؟ الشيطان هو المستفيد وحزب الشيطان هم المستفيدون الوحيدون من هذه المعاملة، لذلك يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [إذا رأيتم أخاكم اقترف ذنباً فلا تكونوا أعواناً للشيطان عليه، كأن تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية] لأنك يمكن أن تقع بالخطأ الذي وقع فيه، وأنت لست معصوماً، وربما تزل قدمك في يوم من الأيام وتضعف نفسك لا سمح الله وترتكب هذا الخطأ الذي وقع هو فيه وللآن أنت جالس تنتقص منه وتخاصم وتعاديه وتقطع علاقاتك معه من أجل هذا الخطأ، أنت يبتليك الله بما وقع فيه في يوم من الأيام.
فإذاً في هذه الحالة ماذا يكون التصرف الصحيح؟ من قواعد الشريعة -أيها الإخوة- كما قال علماؤنا -وهذا كلام مهم جداً- أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل من غيره، ويعفى عنه مالا يعفى عن غيره -كلام ابن القيم رحمه الله كلام جميل- فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
انظر الاستدلال الجميل جداً، فالماء إذا بلغ قلتين ووقع فيه شيءٌ من النجاسة، هل تظهر فيه النجاسة؟ لا.
لأنه ماء كثير، وهذا رجل من إخوانك في الله له محاسن كثيرة، وله فضائل كثيرة، وله جهود مشكورة، فعندما يقع في خطأ، هذا الخطأ السيئ الذي وقع فيه بجانب الحسنات الكثيرة التي عنده: ماذا تكون؟ نقطة في شيءٍ كثير من الماء، فلذلك يقول ابن القيم رحمه الله: ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ((وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!) قالها في أي مناسبة؟ في قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ وحاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل جداً شهد معركة بدر، وقاتل مع المسلمين، وأهل بدر غفر لهم الله عز وجل، وحاطب بن أبي بلتعة فعل خطأً عظيماً، فلقد أرسل رسالة إلى كفار قريش يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عازمٌ على المسير إليهم في فتح مكة، أليس هذا الخطأ خيانة كبيرة للمسلمين؟ إرسال خبر إلى الكفار لكي يستعدوا ويتأهبوا وتضيع الفرصة على المسلمين خيانة عظيمة، وخطأ كبير جداً، لكن حاطب رضي الله عنه له حسنات هائلة، فهو صحابي جليل، وقد ناصر الرسول صلى الله عليه وسلم وناصر الإسلام، وخرج في معركة بدر وقاتل وفي غيرها من المعارك، ونصر الله ورسوله في مواقف كثيرة جداً، ويطلب العلم مع المسلمين ويدعو معهم إلى الله عز وجل، ومرة وقع في هذا الخطأ بسبب ضعفٍ نفسي، فكيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم الأمور؟ عمر رضي الله عنه كان غضوباً، قال: أقتل الرجل، فهذا قد نافق وهو جاسوس، أأضرب عنقه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر مهدئاً: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!) هذا الكلام لـ عمر.
أما ما قال لـ حاطب: فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى به بهدوء وقال له (ما حملك على هذا) أولاً: معرفة الأسباب، فهذا من أوائل الأمور، كيف نواجه الأمر؟ أولاً: إذا وقع شخص من إخواننا المسلمين في خطأ أو معصية -أيها الإخوة! هذا منهج مهم جداً نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لاتباعه- أولاً: لا نواجه هذا المخطئ أو هذا العاصي الذي وقع في المعصية بالسب والشتم واللعن ونصفه بالفسق والفجور، وثانياً: لا نغير علاقتنا معه ونقطعها، كما ذكرنا قبل قليل.
ثالثاً: لا بد أن نعرف عذره، وكيف وقع في هذا الخطأ، وكيف ارتكبه.
أحياناً قد يكون الرجل عنده عذر قوي، حاطب رضي الله عنه وأرضاه كان عنده بعض العذر والرسول صلى الله عليه وسلم استفهم من حاطب، أجلس حاطباً وقال (ما حملك على هذا) ما حملك على ما صنعت؟ لأنك أحياناً إذا تبين لك عذر الشخص يمكن أن يتلاشى كل ما في نفسك عليه، فقد تعذره في هذا الشيء الذي وقع فيه، فقد يكون وقع فيه بغير إرادته، وقد يكون الشيء الذي أنت تصورته عن وضعه غير صحيح.
فلا بد إذاً -أيها الإخوة- من معرفة العذر، ثم بعد ذلك تقدر الأمور وينظر إلى عذر هذا الرجل: ما هي قوته؟ هل يعاتب؟ هل يوبخ؟ والتوبيخ من وسائل التعزير، إذا كانت مقاطعته مفيدة -مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع كعب بن مالك - تُفعل.
فـ كعب بن مالك متى قاطعه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لما كان مجتمع المدينة كله مسلماً تقريباً، قاطع الرسول صلى الله عليه وسلم كعباً، وأفادت القطيعة، لكن إذا قاطعت الآن أحد المسلمين الذين يخطئون، ماذا تكون النتيجة؟ آلاف من أهل الشر ينتظرونه ليتلقفوه.
فإذاً مقاطعته في هذه الحالة تكون من عدم الحكمة، فلذلك لا بد من الإحسان إليه، ونعظه في الله موعظة، ونذكره بعقوبة هذا الجرم الذي وقع فيه عند الله، وإذا تاب واستغفر وحسنت حاله فقد يرجع التائب إلى درجة أعلى من الدرجة التي كان فيها قبل الذنب، كما ذكره ابن القيم رحمه الله، يقول: من التائبين من يعود إلى درجة أعلى مما كان عليه قبل أن يقع في الذنب، ومنهم إلى نفس الدرجة، ومنهم من يرجع إلى أقل منها، بحسب حاله وتوبته وإنابته.
لا بد من إحسان الظن بالإخوة، لا بد أن نحسن الظن بإخواننا ونلتمس العذر لهم، وأن نحمل الأمر على أحسن أوجهه، حتى نحصل على أفضل النتائج، ونسد أي ثغرة من الثغرات التي يفتحها الشيطان، يقول أحد السلف: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى.
وقال أحدهم لرجل من السلف وقد انقلب صاحبه عن الاستقامة -أي: رجل من السلف له صاحب، وهذا الصاحب انقلب عن الاستقامة، فقيل لهذا الرجل-: ألا تقطعه وتهجره؟ -يعني: هذا الرجل الآن أصبح عاصياً لماذا لا تقطعه وتهجره؟ -فقال: إنه الآن أحوج ما يكون إليَّ.
بمعنى: أنه عندما وقع في عثرته فأنا آخذ بيده، عندما يكون الشخص مستقيماً قد لا يحتاج لأحد، لكن عندما يقع في الخطيئة ويقع في المعصية تكون حاجته لإخوانه في الله أكثر من حاجته قبل المعصية بكثير.
إذاً لا بد من تقدير هذه النقطة، وإذا ما قدرت ضاع هذا المسكين، حاجة المخطئ لإخوانه بعد الخطيئة أعظم من حاجته إليهم قبل أن يخطئ، فإنه فعلاً يحتاج الآن إلى انتشال، ويحتاج إلى إصلاح، وتغيير حاله وإعادته مرة أخرى.
كذلك بعض الناس إذا كانت المناسبة -مثلاً- مناسبة لعب أو حفلة، فإنهم يحضرون كلهم في المجلس، أما إذا كانت مناسبة علم شرعي، فإنك ترى بعضهم يتخلفون، فهؤلاء ليسوا بإخوة في الله حقيقة، ولو كانوا كذلك لحرصوا على ما يرضي الله، ولاجتمعوا عليه وتفرقوا.(70/16)
سلبيات وأخطاء في عالم الأخوة في الله(70/17)
التعلق بين المتآخين
وقد تتحول -وهذه من الممارسات الخاطئة في قضية الأخوة- الأخوة في الله إلى شكلٍ آخر من الأشكال التي لا ترضي الله عز وجل، فقد يحصل الغلو في باب الأخوة لدرجة أنها تخرج عن مفهومها الإسلامي الصحيح، وتتحول من أخوةٍ في الله إلى لونٍ من ألوان التعلق القلبي بالمخلوقين وصورهم، فتجد بدلاً من العلاقة الأخوية القائمة على التناصح والاستفادة تنقلب هذه العلاقة إلى علاقة تعلق وتجاذب بين المتجالسين أو المتآخيين، تخرج بها عن حدها الشرعي وتوقع الإنسان في مهاوٍ كثيرة، فتفسد عليه قلبه، فأحياناً يتعلق شخصٍ بشخص آخر تعلقاً مذموماً، لدرجة أنه قد يفكر فيه في الصلاة، فهو في الصلاة لا يدري متى تنتهي الصلاة حتى يذهب يقابل هذا الرجل؛ لأنه تعلق به تعلقاً قلبياً، تعلق بشخصيته وما تعلق بعمله الصالح ولا بمنهجه وطريقته وعلمه، ولا تعلق به كقدوة، ولكن تعلق به كصورة وشكل، أو كظرافة وخفة دم مثلاً، فهنا تنقلب القضية من أخوة في الله إلى أشياء أخرى خطيرة، فتأخذ الأمور مجرىً آخر، ويصبح قلب الإنسان متعلقاً بشخصية هذا الرجل، فدائماً يطرأ على باله فيتذكره ويتعلق قلبه به، ويشتغل قلبه عن حب الله عز وجل بحب هذا الرجل محبة غير شرعية لا ترضي الله عز وجل، وينشغل قلبه عن الصلاة -مثلاً- وعن ذكر الله تعالى، ويكون همه هو الجلوس إلى هذا الرجل والاستئناس إليه، وقد يحدث هذا الأمر في نطاق النساء كثيراً؛ لأن النساء فيهم عاطفة بطبعهم، ولذلك تجد أشكالاً كثيرة من الانجذاب.
بعض الناس أحياناً يصل بهم الأمر لدرجة التعلق ولدرجة أنه لا يستطيع فراق الشخص الآخر مطلقاً، فإذا غاب لا يدري متى يرجع إليه، وإذا فقد صوته تجده أحياناً يتصل بالهاتف ليسمع صوته فقط ويكلمه أي كلام، ثم يقفل السماعة، وبعد قليل لأنه لا يقدر على مفارقة صوته يتصل مرة أخرى وما عنده كلام فيقفل التلفون، ثم مرة ثالثة وهكذا تأخذ القضية أشكالاً عجيبة وصوراً لا ترضي الله عز وجل.
فهذه القضايا من التعلق من أحسن من كتب في علاجها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فإن السؤال الموجه إليه في هذا الكتاب، هو قضية التعلق، فأجاب عنه رحمه الله إجابة شافية وافية، وذكر أشياء كثيرة في النصف الثاني من الكتاب، فليراجعها من شاء، المهم أن نفرق بين الأخوة وبين التعلقات الشخصية، وألا يلبس التعلق الشخصي لبوس الأخوة في الله، ولا يلبس على المسلمين هذا الأمر، فتخرج القضية عن حدودها الشرعية.(70/18)
التساهل في احتشام الأهل من الأخ في الله
كذلك -أيها الإخوة- من الأشياء الخاطئة التي في أوساط الأخوة في الله: التساهل في العلاقات بأهل الأخ في الدخول عليه وعلى بيته، فأحياناً الإنسان يدخل بيت أخيه وقد لا يكون الأخ موجوداً، قد يكون في البيت نساء ويتساهل الإنسان في الدخول، قد تظهر أمامه أشياء لا يجوز له أن يراها، قد يطلع على عورات لا يجوز له الاطلاع عليها، أحياناً من كثرة الدخول والخروج يكون هناك نوع من الألفة بين الرجل وبين النساء في بيت أخيه، وأحياناً قد يفتحون له الباب فيرى شكل المرأة أو منظرها مثلاً، وهذه قضية لا ترضي الله عز وجل، فلا بد من المحافظة على الحدود الشرعية، صحيح أن هذا بيت أخي ولي الحق أن أدخل فيه وأجلس وأستريح، ولكن هذا لا يعني أن أطلع على حرماته ويحصل هذا التساهل وهذه الألفة التي تؤدي إلى انكشاف العورات وأن أرى ما لا يرضي الله تعالى، وأحياناً تحدث قصص ومآسٍ تكون بدايتها هذه القضية.
كذلك يحصل التساهل أحياناً بين بعض الإخوة في القعود مع بعضهم ومع أهلهم، مثلاً أناس يذهبون في رحلة إلى البحر، وكل واحد منهم يأخذ زوجته معه، هؤلاء أناس نفكر أنهم إخوان في الله، فماذا يحصل في النهاية؟ اجتماعٌ عام، وتصير القضية خلطة، وتصير المسألة مجلس منكر من المنكرات، ويتداخل الرجال مع النساء، بفعل تطور الأمور، التي قد تكون بدايتها طيبة لكن تكون النهاية مأساوية، فيجب التزام حدود الشرع في فصل النساء عن الرجال فصلاً كاملاً، وعدم نظر الرجل إلى المرأة الأجنبية.
كذلك -أيها الإخوة- الأخوة في الله لا تعني عدم التزام الآداب الإسلامية مع الأخ المسلم، يعني: إهمال قضية السلام، أو إهمال قضية الاستئذان، فمن الآداب الإسلامية أنك تستأذن قبل أن تدخل، أحياناً يصبح الواحد معتاداً على أخيه المسلم فيدخل عليه من غير أن يستأذن، وقد يكون الأخ في حالة غير مستعد فيها لاستقبال الناس، وهذا داخل على غرفته أو داخل على بيته وخارج هذا ليس صحيحاً، نعم هو أخوك في الله وبينكما عشرة عمر، ولكن في نفس الوقت لا بد أن تحافظ على آداب الاستئذان، ولا بد أن تستأذن، ولا تدخل حتى يسمح لك بالدخول، وألا تؤدي العشرة وكثرة الخلطة إلى هذه القضية.(70/19)
التصرف بمال الأخ من دون إذنه
كذلك -مثلاً- التصرف في ممتلكات الأخ بغير إذنه أو استشارته، أحياناً شخص يقول: هذا أخي في الله، آخذ سيارته وهو لا يعلم، ويأتي هذا الأخ يحتاج السيارة في وقتٍ عصيب وضيق فلا يجد السيارة، من الذي أخذها؟ فلان من الناس، كيف؟ والله أنا وأنت مالي مالك، وسيارتك وسيارتي.
يا أخي! مهما كان لا بد أن تستأذن؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفسٍ منه) واحد يحتاج كتاباً دراسياً أو علمياً أو غيره، يأتي أخ له فيدخل على بيت هذا فيأخذ الكتاب من غير استئذان، وبعد ذلك يأتي هذا المسكين يبحث عن الكتاب فلا يجده، قد يكون عنده امتحان، قد يكون عنده واجب، قد يكون عند شيء، فلا يدري هذا الشيء، هذا غير صحيح، فالأخوة في الله لا تعني أن تأخذ ممتلكات هذا الشخص بغير إذنه.(70/20)
إسقاط الاحترام بين الإخوة
كذلك مناداته بأحب الأسماء إليه، فبعض الناس يعتاد على أخيه اعتياداً مذموماً، فيسقط الاحترام والهيبة، وهذه مسألة مهمة، أحياناً الناس الذين يعيشون في أجواء الأخوة تسقط فيما بينهم قضية احترام المسلم لأخيه المسلم، فيتعدى عليه بألفاظ، قد يناديه باسمٍ قبيح، قد يغلط عليه في الأسلوب، ثم يقول: لا مشكلة، يعني: أخوة، حسناً: الأخوة لا يعني أن تسقط هيبة أخيك المسلم من نفسك، بل لا بد أن يكون له احترام وتقدير، وأحياناً الشخص حتى أمام الناس -مثلاً- يتكلم مع أخيه المسلم بكلام غير لائق وبكلام غير مناسب، لماذا؟ لأنه أخذ عليه كثيراً، ما أصبح هناك احترام، وهذه من الأشياء الواقعة التي ينبغي الانتباه إليها.(70/21)
المزاح الثقيل والتساهل في المواعيد
كذلك -أيها الإخوة- المزاح الثقيل، واحد يمزح مع أخيه ويقول: هذا أخي في الله، ويمزح معه مزاحاً قد يؤلمه ويجرح شعوره، بينما لو ذهب ليمزح مع إنسان آخر ستجده لبقاً ويستخدم ألفاظاً مناسبة في مكانها، لكن إذا جلس مع أخيه المسلم الذي تعود عليه أخرج كلاماً غير مناسب.
كذلك من الأمور التي تحدث: التساهل في المواعيد، يقول: ما دام أن هذا أخي في الله فإنه مقدر لظروفي، إذاً دعني أتأخر ساعة أو نصف ساعة، ليس مهماً، فيتساهل الإنسان في مواعيده، ولكن إذا واعد رجلاً آخر ما بينه وبينه معرفة كبيرة تجده يأتي بالضبط والدقة والموعد، ويريد أن يعطي الشخص الآخر فكرة مهمة عن احترام المسلم للمواعيد، وأن من إذا وعد أخلف تعتبر فيه صفة من صفات المنافق، لكن إذا جاء مع أخيه يقول: لا يهم، هذا أخي في الله.
اتركنا نتأخر ما في مشكلة وهو سوف يسامحنا أصلاً.(70/22)
التساهل في تقديم الخدمات
كذلك من القضايا التي تحدث: التساهل في تقديم الخدمات لإخوانك المسلمين، بحجة أن هذا أخ مسلم ولا يحتاج أن أبذل معه جهداً وأقدم له، معونة قد أدعو واحداً إلى عشاء وأتكلف له لأنه غريبٌ عني، لكن أخي المسلم القريب مني من الممكن أطعمه أي شيء، أو أن لا أتكلف بأن أدعوه إلى الوليمة، يعني هذا قريب ويحتاج، الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا قال في الحديث (أو تطرد عنه جوعا) أوليس الأخ المسلم القريب منك والملتزم بالإسلام أكثر من واجبك أن تكرمه؟ ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)؟! ما معنى أن يأتي الغريب فتكرمه وتضيفه وعندما يأتي أخوك المسلم تقدم له أي شيء؟(70/23)
الحسد
كذلك -أيها الإخوة- من المشاكل التي تقع أحياناً بين الإخوة في الله: قضية الحسد، وتنتج هذه المسألة -وسبق أن تكلمنا فيها- نتيجة بروز موهبة عند هذا الأخ، مثلاً: في حسن صوته، أو جمال خطه، أو فصاحته، أو جودة أسلوبه، أو جاذبيته، أو نجاحه في الدعوة إلى الله عز وجل، هنا يأتي الشيطان فيثير هذه الأشياء، فيقول: لماذا فلان أحسن مني؟ ولماذا كذا فتنطلق الأحقاد ويحس المسلم بشعور الحسد نحو أخيه، وهذا خطأٌ عظيم! الحسد من الأمراض القاتلة التي تحرق الحسنات، والمفروض أن الإنسان يفرح إذا ظهرت موهبة من أخيه المسلم حتى يستفيد الإسلام منها، والمفروض أن تفرح بهذا الشيء، وأن تفرح لهذه الموهبة التي وهبها الله أخيك.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولاً وآخراً.(70/24)
أهل النار
قد انشغل الناس في هذا العصر بعمران الدنيا وخراب الآخرة، مما أدى إلى صدودهم عن سماع المواعظ، لذلك كان لزاماً على الدعاة تذكير الناس بحال أهل النار، وكان لزاماً على الناس أن يقفوا مع أنفسهم وقفة محاسبة ليجعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية.(71/1)
أسباب صدود الناس عن سماع المواعظ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة: هناك ظاهرةٌ منتشرةٌ بين الناس تحتاج إلى تفكير لمعرفة أسبابها وعلاجها، وهذه الظاهرة هي ظاهرة النفور من سماع مواعظ النار والموت، فإن الناس إذا جئت تخبرهم عن هذه الأمور، وجدتهم يصدون عنك صدوداً، ورأيتهم يحبون الكلام عن رحمة الله تعالى، ولا يحبون الكلام عن عذاب الله تعالى وجدتهم يحبون الكلام عن الجنة، ولكنهم لا يرغبون في الكلام -مطلقاً- عن النار وجدتهم يحبون الكلام عن ثواب الطاعات، ولكنهم لا يحبون الكلام مطلقاً عن عذاب القبر وأهواله، ولا شك بأن النصف الأول من هذه الظاهرة طيبٌ وحسنٌ، ولكن المشكلة في النصف الثاني من هذه القضية.
لماذا يصد الناس عن سماع المواعظ، وعن التذكرة بالخوف، وعذاب القبر، وعذاب جهنم، وأهوال المحشر والنشور؟ إنهم يصدون عن ذلك لأسباب منها:(71/2)
الكلام عن النار يؤلم النفس
أولاً: أن الكلام عن النار وعذاب القبر والسيئات ومآلها يسبب ألماً في النفس، والنفس تنفر من كل ما يؤلمها؛ ولذلك فإن الناس لا يحبون الكلام في هذه المواضيع.(71/3)
عمران الناس للدنيا وترك الآخرة
ثانياً: أن الناس قد عمروا دنياهم وخربوا آخرتهم، فإذا جئت تذكرهم بالموت، فإن هذا يعني الانتقال من العمار إلى الخراب، والانتقال من الدنيا وزينتها وزخِرفها إلى خراب الآخرة الذي لم يعدوا له العدة، ولم يحسبوا له الحساب؛ ولذلك- يا إخواني- كان الخوف من الله عز وجل من أجلَّ العبادات، وأقربها إلى المولى سبحانه وتعالى، فإن الخوف والرجاء خطان متقابلان من خطوط النفس البشرية، يركز القرآن والسنة عليهما تركيزاً شديداً؛ لأن الناس يتحمسون للعبادة والطاعة إذا اجتمع لهم رحمة الله وثوابه وحسناته وهذا هو الرجاء، واجتمع لهم الخوف من عذابه وجهنم، فإن هذا الخوف هو الذي يبعثهم على ترك المعاصي والازورار عنها، والاقتراب من طاعة الله عز وجل.(71/4)
التذكرة بعذاب الآخرة
أيها الإخوة: سبق أن تكلمنا عن جوانب من الرجاء، وتكلمنا عن الجنة، وما فيها من النعيم والحور العين في خطبٍ سابقةٍ، ولعل الوقت مناسبٌ أن نتكلم بعض الشيء عن جهنم، وما أعد الله فيها من العذاب، واعلموا بأن القصد من الحديث عن جهنم ليس هو الحكم على الحاضرين -جميعاً- بأنهم من أهل النار! كلا والله! ولا هو تنفير، أو تشديد كما يفعله بعض الجهلة، وإنما هو تذكيرٌ بعذاب الله عز وجل؛ نتذكر فيه -جميعاً- حتى تكون فيه العبرة والعظة، نحن نذكر جهنم في هذا المقام لا لنحكم على الحاضرين بأنهم من أهلها، ولكن لنبعد أنفسنا وأهلينا عن هذه النار، ولنأخذ بأسباب النجاة.(71/5)
صفة جهنم
إن جهنم عظيمة، لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فاضرب سبعين ألفاً في سبعين ألفٍ لتعرف كم عدد الملائكة العظام الذين يجرون جهنم، كما ورد في حديث الإمام مسلم: (أهلها عميٌ وبكمٌ وصمٌ)، قال عز وجل: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100].(71/6)
حال أهل النار
توضع في أعناقهم حبال النار كامرأة أبي لهب، ويجرون أمعاءهم فيها كـ عمرو بن عامر الخزاعي تسود وجوههم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:28] ((تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ)) [المؤمنون:104].
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54] {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] فراشهم من النار، ولحافهم من النار، ما طعامهم؟ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6 - 7] {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46] {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] فإذا غصوا بهذا الشوك والزقوم الذي أكلوه، ماذا يكون لهم من الشراب؟ هذا الزقوم- أيها الإخوة- الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في دار الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) فكيف بمن تكون طعامه؟ فكيف بمن يكون الزقوم طعامه دائماً وأبداً؟ فإذا غصوا بهذا الزقوم، فما شرابهم الذي يستعينون فيه على بلع اللقم؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] حميماً متناهياً في الحرارة: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] مهلاً كعكر الزيت المغلي، {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص:57] حميمٌ وغساقٌ وما سال من جلود أهل النار من قيحهم وصديدهم، وما يخرج من فروج الزناة والزواني من النتن: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:16 - 17] {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20].
فما لباسهم؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] قال إبراهيم التيمي رحمه الله: [سبحان الله الذي خلق من النار ثياباً قطعت لهم].
فما ظلهم الذي يستظلون به؟ {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] دخانٌ كثيفٌ جداً ينقسم من ضخامته إلى ثلاثة أقسام: {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:31] هل يظلهم؟ إنه لا يظلهم: {لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:31].
إنها جهنم: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] شررها فقط وليس لهيبها، شررها كالقصور والحصون الضخمة: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:33] أو كأنه إبل سود عظيمة.
فإذا تسلقوا جهنم ليخرجوا منها كيف يعادون فيها؟ {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] مطارق تضربهم بها الملائكة، فيعودون يقعون في جهنم.
كيف يسحبون فيها؟ {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان:4] {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
كيف صورهم؟ وما هي خلقتهم؟ إن الله يغير خلقة أهل النار بشكل يتناسب مع عذابهم، حتى يشتد ويعظم ويشمل البدن العظيم من بدن هذا العاصي، وهذا الكافر.
روى الإمام أحمد عن زيد بن أرقم مرفوعاً إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام- وهو حديث صحيح- (إن الرجل من أهل النار ليعظم للنار- يضخمه الله ويكبره- حتى يكون الضرس من أضراسه كـ أحد - مثل: جبل أحد) هذا ضرسٌ واحدٌ من أضراسه.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة بإسناد صحيح: (وإن مجلسه من جهنم ما بين مكة والمدينة) المكان الذي يشغله من جهنم ما بين مكة والمدينة.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه الإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة: (ضرسُ الكافر يوم القيامة مثل: أحد، وعرض جلده سبعون ذراعاً، وعضده مثل: البيضاء) وهو جبل من جبال العرب، عضد الرجل في النار مثل: جبل من جبال العرب يسمى البيضاء (وفخذه مثل: ورقان) وهو جبل أسود على يمين المار من المدينة إلى مكة، هذا حجم ضرسه وفخذه وعضده وسمك جلده.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه ابن ماجة بإسناد حسن واصفاً عليه الصلاة والسلام بكاء أهل النار، يقول: (يرسل البكاء على أهل النار فيبكون، حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم بدلاً من الدموع، حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود لو أرسلت فيها السفن لجرت) من عظم هذه الأخاديد المملوءة بالدم بعدما انقطعت الدموع.
هل يموتون؟ هل يستريحون من عذابهم {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] ليمتنا ربك فنستريح {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].(71/7)
عذاب الدنيا لا يقارن بعذاب الآخرة
أيها الإخوة: إذا قارنتم بأعظم عذاب في الدنيا مع عذاب الآخرة، هل يساوي بجنبه شيء؟ كلا والله! في الدنيا إذا اخترق جلد الإنسان، وفني جلده، ماذا يكون بعد ذلك؟ إنه الموت؛ إذ لا جلد بعد ذلك يتعذب به الإنسان، ولكن في جهنم: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] إنها {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] تنزع جلد الرأس، ليس العذاب عذاباً حسياً فقط؛ بل إنه عذابٌ معنويٌ كذلك: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] إنه الغم، لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويقول لهم مبكتاً: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]؛ بل إن الاستهزاء من نصيبهم في العذاب، فإن الله عز وجل يقول مستهزئاً بأهل النار عندما يذيقهم من عذابها: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49].
وفقنا الله وإياكم للعمل بطاعته والبعد عن معصيته، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.(71/8)
العبرة من ذكر جهنم
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو يسبح كل شيء بحمده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، دلنا على النجاة وطرقها، ودلنا للبعد عن المهالك وطرقها.
أيها الإخوة: هذه الطائفة اليسيرة من أنواع العذاب الواردة في القرآن والسنة لا بد أن تحدث في نفوسنا خوفاً من الله عز وجل يباعد عن معاصيه، وعن المهالك وسبل الشيطان، ولا بد أن تولد في أنفسنا حناناً واقتراباً من طاعة الله تعالى للفوز بالجانب الآخر من أنواع الجزاء وهو الجنة.(71/9)
وقفة محاسبة
أيها الإخوة: هذه أنواع العذاب في النار، من يصمد لها ومن يقوى عليها؟ أين الزناة والزواني؟ وأين أهل اللواط والفاحشة؟ أين الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟ أين أكلة الربا، وأكلة أموال الأيتام؟ أين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً؟ أين الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ويشرعون للبشر من عند أهوائهم وأنفسهم؟ أين الذين يعقون آباءهم وأمهاتهم؟ أين الذين اتخذوا سبيل الغي وتركوا سبيل الرشد؟ أين الذين يستهزئون بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين يتطاولون على عباد الله المؤمنين، فيصفونهم بالتشدد والرجعية؟ أين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم من الناس؟ أين الذين يزينون للناس سبل الباطل والشيطان؟ أين الذين اتخذوا الكذب والنفاق أخلاقاً، وانعدم من ضمائرهم أي خلق فاضل، وأي صدق، وأي أمانة؟ أين الذين يخونون الله بالليل والنهار؟ وأين الذين يختانون أنفسهم؟ أين الذين زينوا للناس كل وسائل اللهو والعبث التي تلهيهم عن ذكر الله، وعن الصلاة؟ أين الذين جانبوا كتاب الله وسنة نبيه، وغرقوا في أوحال المادة، وحياة الدنيا، يلهون ويلعبون غير مكترثين بما يكون لهم غداً عند الله من العذاب والنكال؟ أين الذين أعرضوا عن القرآن والسنة وأحكامهما؟ أين الذين إذا تليت عليهم آيات الله أغاروا عليها بسهام التأويل والتحريف وسهام الاستهزاء والتأويل بالباطل؛ حتى عادت آيات الله وأحاديث رسوله رسوماً وأطلالاً ليست لها في أنفسهم حرمةٌ، ولا عهد؟ أين الذين خانوا عهد الله؟ أين الذين انكبوا على وجوههم- وينكبون يوم القيامة في جهنم-؟
والنار مثوى لأهل الكفر كلهمُ طباقها سبعةٌ مسودةُ الحفرِ
فيها غلاظٌ شدادٌ من ملائكةٍ قلوبهم شدةً أقسى من الحجرِ
سوداء مظلمةٌ شعثاء موحشةٌ دهماء محرقةٌ لواحة البشرِ
فيها الجحيم مذيبٌ للوجوه مع الأمعاء من شدة الإحراقِ والشررِ
فيها السلاسل والأغلال تجمعهم مع الشياطين قسراً جمع منقهرِ
والجوع والعطش المضني لأنفسهم فيها ولا جلدٌ فيها لمصطبرِ
لها إذا ما غلت فورٌ يقلبهم ما بين مرتفعٍ فيها ومنحدرِ
جمع النواصي مع الأقدام سيرهم من القوس محميةً من شدة الوترِ
يا ويلهم تحرق النيران أعظمهم بالموت شهوتهم من شدة الضجرِ
ضجوا وصاحوا زماناً ليس ينفعهم دعاء داعٍ ولا تسليم مصطبرِ
وكل يومٍ لهم في طول مدتهم نزعٌ شديدٌ من التعذيب والسعرِ
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم يا من تقي من الشرور، قنا عذابك يوم تبعث عبادك.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، نجنا من عذاب النيران يا رب العالمين! {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66].
اللهم واجعلنا من الناجين على الصراط، ولا تخدشنا بكلاليب النيران يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نعوذ بك من جهنم من زقومها وغسلينها وحميمها ويحمومها.
اللهم أعتق رقابنا من النار، ولا تزل أقدامنا يوم تزل الأقدام، واكتب لنا الجنة برحمتك وعفوك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(71/10)
الحق والباطل
لقد ضرب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتفكرون ويعتبرون، وجعل من الأمثلة القرآنية مجالاً للتربية العالية لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم، ومن هذه الأمثلة مثالين في سورة الرعد، وقد تكلم الشيخ عن المثالين ومرادهما، ومجال التربية فيهما، وما يحمل كل مثل من العبر والعظات.(72/1)
الحكمة من ضرب الأمثال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني في الله: لقد ضرب الله عز وجل في القرآن الكريم الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ويتفكرون، ويعتبرون، وجعل في ضرب الأمثلة تربيةً قرانيةً عاليةً لكل إنسان يتقبل الهدى والعلم النافع.(72/2)
المثل المائي: إنزال الماء على الأرض
إن من هذه الأمثلة التي ضربها الله تعالى في محكم تنزيله، قوله عز وجل: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] فلما ضربها الله للتذكرة، وللاعتبار، وللتفكر، كان لزاماً على كل مسلم أن يتفكر ويعتبر بهذه الأمثال ويفهمها، ولذلك قال ابن القيم رحمه الله في تعليقه على هذا المثل القرآني، بعد أن بيَّن أن فيها مثلين مضروبين للحق والباطل، قال: "ومن لم يفقه هذين المثلين، ولم يتدبرهما، ويعرف ما يراد منهما، فليس من أهلهما".
وكما قال بعض السلف الحريصين على فهم القرآن أمثالاً وحكماً وأحكاماً، وتشريعات وتوحيداً وقصصاً، قال هذا الرجل: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن، فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] فأبكي، لأنني لست من العالمين الذين عرفوا هذه الأمثلة، وهذه الآية التي قرأناها نمرُّ بها كثيراً- أيها الإخوة- {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17].(72/3)
بيان وجه التشابه بين المطر والوحي في الإحياء
لما كانت الأرض الميتة لها ما يحييها من الماء النازل من السماء، فإن الله عز وجل قد أنزل على القلوب الميتة ما يحييها، ويجعلها روحاً، ويكون لها بمثابة الروح: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52] فالله تعالى يقرن بين إنزال الوحي وبين نزول المطر من السماء في آيات كثيرة؛ لعموم التشابه بينهما، ولذلك إذا تمعنت في سورة الحديد، وجدت الله يقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ماذا قال الله بعد هذه الآية مباشرةً؟ {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] جاء ذكر إنزال الغيث بعد ذكر إنزال الوحي مباشرةً؛ تنبيهاً على ما بينهما من أوجه التشابه في الإحياء وغيره، وكما قال الله عز وجل في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64]، ثم قال بعدها مباشرة: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65] فإنزال المطر مقترن بإنزال الوحي.(72/4)
فائدة التعبير بالأودية
أيها الإخوة! قال الله: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17] شبه القلوب بالأودية، لما نزل المطر من السماء؛ احتمل كل وادٍ من ماء المطر بحسب سعته وضيقه، فكذلك قلوب العباد عندما ينزل عليها الوحي من السماء، تأخذ منه وتتسع بحسب ضيقها وعظمها، فقلبٌ كبيرٌ يحتمل وحياً عظيماً كما يحتمل الوادي الكبير ماءً كثيراً، وقلبٌ صغيرٌ كوادٍ صغيرٍ احتمل من العلم شيئاً قليلاً كما احتمل من الماء ذاك الوادي الصغير، فاحتملت القلوب هذا العلم بقدرها كما سالت أودية بقدرها.(72/5)
آنية الله في الأرض هي القلوب
أيها الإخوة: يتفاوت الناس في استقرار العلم في صدورهم، وفي اتساع العلم، وفي اتساع القلوب لهذا العلم تفاوتاً يرتبط ارتباطاً مباشراً بالإيمان، واعلموا بأن الماء النازل من السماء لا يحتمله وادٍ واحد؛ لكثرته، وكذلك الوحي النازل من السماء لا يحتمله كله قلبٌ واحدٌ، وإنما تتفاوت القلوب، لا يحيطون بالله علماً، وهذا من أدلة عجز البشر، وعلى أنهم مهما وصلوا إليه من العلم في العلوم الشرعية، فإنهم لن يحيطوا بعلم الله أبداً، بل ولو حتى بما أنزله عليهم من القرآن، ولذلك لا بد أن نترفق في أخذ العلم، ولا بد أن نجاهد أنفسنا قليلاً قليلاً.
وأمر القلوب في اتساعها للوحي والإيمان أمرٌ عظيم جداً، هذا القلب الذي يصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كالمضغة في صغره، والمضغة هي: الشيء اليسير، يستطيع أن يحوي في جنباته إيماناً عظيماً كبيراً جداً، فإن في بعض قلوب العباد- أيها الإخوة- من العلم والإيمان ما لو نزل على جبل، لتركه قاعاً صفصفاً متصدعاً من هذا العلم والإيمان.
انظروا إلى عظمة الله في خلقه، خلق قلوب العباد صغيرة في الحجم الحسي، لكنها كبيرةٌ جداً في الحجم المعنوي، تسع علماً كثيراً، وإيماناً عظيماً، وتسع من المعرفة والعلم بالله أشياء كثيرة لمن كان له قلب صحيح أو ألقى السمع وهو شهيد.
وكذلك- أيها الإخوة- يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبر بأن لله آنيةً في الأرض، والآنية جمع الإناء، فالله تعالى له آنية في الأرض، ما هي هذه الآنية؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي عنبة رضي الله عنه وأرضاه: (إن لله تعالى آنيةً من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها) يملؤها الله نوراً وعلماً وإيماناً لمن كان له قلب (وأحبها إليه) أحب هذه الآنية، هذه القلوب (وأحبها إليه ألينها وأرقها) التي إذا سمعت آيات الله تتلى عليها، ترى جلود أصحابها تقشعر من خشية الله عز وجل، هذه الآنية التي يملؤها الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته ما يوصل إلى خشيته وعبادته.
المطر عندما ينزل من السماء، فيغسل الأرض، ويتجمع في هذا الوادي يحمل معه في هذا الوادي الزبد -الغثاء- الذي يطفو على سطح الماء ويتجمع في هذا الوادي عالياً على الماء.
هذا الزبد- أيها الإخوة- يكون رابياَ عالياً منتفخاً فوق الماء، ولما كانت الأودية ومجاري السيول فيها الغثاء ونحوه، كما يمر عليه السيل فيحتمله، فإن هذا الغثاء بعد فترة من الزمن يفرقه الوادي، ويقذفه إلى جنبيه، ويتعلق بالأشجار، وتتقاذفه الرياح، فتأخذه، ويظهر الماء في الوادي لمّاعاً صافياً يفيد الناس، فيستقون منه ويرعون، فكذلك العلم والإيمان إذا خالط القلوب، أثار ما فيها من الشهوات، عندما ينزل الماء على الأرض فيسيل، يجرف معه من هذه الأرض كل ما هب ودب من النافع وغير النافع حتى يصير زبداً عالياً فوق سطح الماء، هذا العلم عندما يدخل القلوب، وتخالط بشاشته، فإنه يثير ما في القلب من الشبهات والشهوات، يثيرها لا ليبقيها في القلب، وإنما يثيرها ينفض القلب نفضاً فيثير ما فيه من أمراض الشهوات والشبهات، يثيرها ليقلعها، ويذهب بها حتى يُنقي القلب من هذه الأدران والأخلاق الرديئة.
وإذا ذهبت الشهوات والشبهات، يبقى القلب صافياً من كل ما علق به وكدّره، ويبقى هذا القلب فيه العلم والإيمان يفيد الناس تعليماً، ويفيد النفس خشيةً وعملاً وعبادةً وتطبيقاً، كما يفيد الماء الذي بقي في الوادي، فإنه ينبت الأشجار على جنبتي الوادي، ويستقي منه الناس، ويشربون، ويسقون أنعامهم بإذن الله.
وكذلك هذا العلم إذا نزل في القلوب، ينبت الله به أشجار العبادة والخشية زهية قائمةً على أصولها في قلوب المؤمنين، وكذلك فإن هذا الماء يستقر في الوادي -عبَّر هنا بالوادي ولم يعبر بالنهر حتى يبين الاستقرار الحاصل للماء في هذا الوادي- كما يحصل به الاستقرار للعلم عندما ينزل في القلوب، فإنه يبقى فيها ثابتاً متكاثراً فيه البركة والنفع العظيم، واستقر العلم والإيمان في جذر القلوب، فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاءً ويزول شيئاً فشيئاً، ويبقى العلم والإيمان نافعاً، فكان عباد الله أعلاهم قدراً أكثرهم إحاطةً ووعياً بما أنزل الله تعالى.
كان الوادي قبل أن ينزل الماء عليه جافاً منتناً متسخاً، فيه من أكدار الطبائع ما يجعل فيه من الشوائب أشياء كثيرة، فلما نزل الماء، غسل الأودية، ونظفها، وأزال الخشونة والجفاوة التي فيها، فكذلك قلوبنا تكون فيها من مخالطة الحياة المادية قسوةٌ كبيرةٌ، وفيها جفاءٌ كبيرٌ، وجفافٌ عظيم، فعندما ينزل عليها الوحي من السماء يطريها، وينعمها، ويصلحها، وينظفها، يجب أن يفعل الوحي بقلوبنا كما يفعل الماء النازل من السماء بأودية الأرض وطرقاتها.(72/6)
الحكمة من تقديم ذكر الزبد على النفع
أيها الإخوة: هذا الزبد الذي يزول ويتفرق وتنسفه الرياح، تقدم ذكره في الآية على ذكر ما ينفع الناس، فإن الله قال: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} [الرعد:17]، ثم قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] فقدم ذكر الزبد على ذكر ما ينفع الناس.
من أسباب وحكم هذا التقديم: أن الزبد هو الذي يظهر للناس؛ فأنت إذا نظرت إلى الوادي الممتلئ بالماء، أول ما تنظر إليه عينك إلى الزبد، وقد تغفو العين ولا ترى الماء المتجمع في الوادي.
أيها الإخوة: إن الباطل إذا علا في يوم من الأيام، فإن الناس أول ما ينظرون ويرون هو هذا الباطل، وقد يغفلون عن كون الماء النقي الصافي موجود تحته، فلا يرونه، ولكنه موجود، وقد يظنون بأن الماء غير موجود، كذلك يظنون بأن الحق قد مات، أو غاب، أو أنه غير موجود، وأن الباطل هو الذي استقر وعلا، وبقي، ولكن الحقيقة بخلاف ذلك، فإن من تحت هذا الزبد حقاً يتأجج، ينتظر الفرصة المواتية لكي يستعلي، وينتظر الأسباب التي يهيئها الله عز وجل لانقشاع الزبد الباطل؛ لكي يظهر الحق لامعاً نظيفاً على صفائه ونقائه الذي أراده الله.
وفقنا الله وإياكم لأن نكون من أهل الحق، الصابرين عليه، وألا يجعلنا من المغترين بالباطل وانتفاشه، أسأل الله لي ولكم التوفيق والعلم النافع، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(72/7)
المثل الناري
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بلغ هذا الوحي للناس، وأقام الحجة عليهم، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(72/8)
بيان وجه الشبه بين المثل الناري والوحي
أيها الإخوة: لما ضرب الله المثل المائي في الجزء الأول من الآية، أعقبه بذكر المثل الناري، والمثل المائي كان في إنزال الماء على الأرض، والمثل الناري في قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} [الرعد: 17] الناس إذا أرادوا أن ينقوا المعادن التي يستخرجونها من الأرض من الشوائب؛ ليحصلوا على هذا الذهب الصافي، أو الفضة الصافية، أو النحاس والحديد الصافي، ماذا تراهم يفعلون؟ إنهم يأخذون هذا الخام من المعادن المختلطة، فيوقدون عليها النار إيقاداً شديداً، حتى تذهب الأخلاط، ويبقى المعدن النافع، فيجعلونه على كيفيات تناسبهم في حياتهم العامة.
هذا هو المثل الثاني عندما تخالط قلوب العباد المحن والفتن، ويكتوي المؤمن بنارها، فإنها تنقيه، وتهذبه من الشوائب، وتجعل معدنه أصيلاً صافياً.
إن في الابتلاءات والمحن والفتن نفعٌ عظيمٌ؛ لإخراج أخلاط الدعة والكسل والركون إلى الحياة الدنيا، والتراجع والجبن إخراج هذه الأخلاط من النفس يحتاج إلى صهرٍ بحرارةٍ عظيمةٍ من حرارات الفتن، والابتلاءات التي تمحص معادن الناس، والتي تزيل الأخلاق والطبائع الرديئة منهم، وتجعل الأخلاق الحسنة والطبائع الجيدة هي التي تبقى كما يبقى معدن الذهب الصافي بعد إيقاد النار تحت الأخلاط التي فيه.
يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} [الرعد:17] هذان المثلان: المثل المائي، والناري ضربا في القرآن للحق والباطل إذا اجتمعا، فإن الله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] يضربها للحق والباطل، يعني: أن الحق والباطل إذا اجتمعا، فإنه لا ثبات للباطل، ولا دوام له أبداً، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال -كما يقول القرطبي رحمه الله- فإنه يضمحل كاضمحلال الذهب والخبث يضمحل ولا يبقى مطلقاً، ولو ظن الناس بأنه طويل العمر والأمد، فإنه لا بد من ذهابه حتى يأذن الله ويشاء، ويخرج الحق عالياً مرفرفاً فوق الأرض، معلناً للناس بأن دين الله موجود، وبأن شرعته باقية، وبأن الطائفة المنصورة موجودة إلى قيام الساعة.(72/9)
بيان حكمة الله في مخاطبة الناس حسب أحوالهم
انظروا إلى حكمة القرآن في ضرب الأمثلة، فإنه ضرب مثلين.
أحدهما: يصلح لأهل البوادي وهو المطر والماء والوادي.
والمثل الثاني: يصلح للمتقدمين من أهل الصناعات، هذا القرآن يفهمه كل أحد، فيه من النور ما يكفي بياناً لكل أحد، في آياته نورٌ لكل من أراد الوصول إلى الحق، ولا بد للدعاة إلى الله عز وجل من اقتفاء أثر القرآن وطريقته ومنهجه في ضرب الأمثلة للناس.
ومن عموم الفوائد في هذه الآية- أيها الإخوة- قاعدة عظيمة: أن البقاء للأصلح، والأنفع، وأن البقاء للحق، فهذا الزبد لا ينفع شيئاً، ولكنه يذهب ويبقى الماء من تحته، وهذا الركام يذهب ويبقى الذهب خالصاً نقياً.
كذلك يوجد في العالم كثيرٌ من الأمور والطوائف والمذاهب التي ما أنزل الله بها من سلطان، لا تنفع الناس بل تضرهم، لكن ليعلم العالم كله بأن البقاء للأصلح البقاء لدين الله تعالى، مهما تعالت الجاهلية وانتفشت، فإن دين الله عامٌ منتصرٌ، وكثيرٌ من الناس لا يفقهون هذه القضايا، ويظنون الظنون السيئة بالله عز وجل، ويتساءلون: ترى متى ينقشع الظلام! ومتى يبزغ نور الفجر من جديد؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
فالأصلح لا بد له من البقاء والاستمرارية؛ لأن الله قد أذن بهذا وأمر بهذا أمراً كونياً قدرياً لا بد أن يحصل، وهو أمرٌ شرعي كذلك يحبه الله تعالى، يحب الله أن يبقى الإسلام، ويحب الله أن يبقى ما هو الأصلح للناس، لذلك كان لزاماً على كل مسلم موحد أن يفكر جدياً أن يلبس لبوس الإسلام النافع ظاهراً وباطناً؛ حتى ينفع الله به ويبقى وإن لم يبق الجسد، فإن المنهج باقٍ، والناس يتوالدون، والله يحمل في طيات أجيال بني البشر ما يجعل منهم في المستقبل رواداً للحق قاضين به مقيمين لشرعة الله عز وجل.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على دينك ووحيك وشرعتك.
اللهم واجعلنا من أهل الحق ورواده، ومن القائمين به شرعةً ومنهاجاً.
اللهم وأبعدنا عن الباطل وأهل السوء.
اللهم واكتب النصر للحق والسنة، اللهم وانصر أهل السنة على أهل البدعة، واجمع المسلمين على الحق وعقيدة التوحيد الصافية يا رب العالمين.
اللهم وثبت الأمن والاستقرار في ربوع بلدنا هذا، وبلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم من أراد دينك ووحيك وسنة نبيك، وبلاد المسلمين بسوء، فاردد كيده في نحره، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(72/10)
تحكيم الشرع
إقامة الحدود الشرعية أعظم دليل على تحكيم الشريعة، وإذا لم تتم الحدود خرب الدين، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحدود في حياته، وفي هذه المادة شرح حديث من البخاري فيه إقامة حد الزنا، كما تجد في شرحه فوائد عظيمة عن أسباب وحلول لمشاكل عصرية تؤدي إلى تلك الجريمة.(73/1)
حديث البخاري في حكم النبي بحد الزنا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني في الله: روى الإمام البخاري -رحمه الله- تعالى في صحيحه في باب الشروط التي لا تحل في الحدود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي الله عنهما- أنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر- وهو أفقه منه-: نعم.
فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل؟ قال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا، فزنا بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني مائة جلدة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله.
الوليدة والغنم ردٌ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمت).
هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه يخبرنا عن حادثة من الحوادث التي وقعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف حَكَمَ فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ هذان الرجلان جاءا من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما- يشتكي-: (يا رسول الله! أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله) يلح على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقضي له بكتاب الله، وهذا من قلة فقهه؛ إذ أن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله لا يحتاج إلى إلحاح ولا إلى زيادة في الطلب، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يقضي بغير كتاب الله مطلقاً.
قال الخصم الآخر- وكان أفقه منه-: (نعم.
فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي) كان مؤدباً في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: نعم أوافق خصمي على ما قال، اقض بيننا بكتاب الله، ولكن أرجو أن تسمح لي أن أتكلم وأفصل لك في الموضوع، و (حسن السؤال نصف العلم) فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الثاني: قل؟ قال: (إن ابني كان عسيفاً- يعني: أجيراً، أو خادماً- عند هذا الرجل- الخصم: ابني كان خادماً عند خصمي -فزنا بامرأته- ابني الشاب الأعزب زنا بامرأة هذا الرجل وهو خادم عنده -وإني أخبرت، وفي رواية أخرى: فسألت من لا يعلم- سألت أناساً جهالاً لا يعلمون بأحكام الدين -فقالوا: إن على ابني الرجم، فلما علمت هذا الحكم ذهبت إلى هذا الرجل زوج المرأة، فحاولت أن أرضيه بشيء من المال، فأرضيته، فاصطلحنا واتفقنا على أن أعطيه مقابل الزنا الذي حصل بامرأته، أعطيه مائة شاة ووليدة -أي: جارية- بعد ذلك سألت أهل العلم بكتاب الله فأخبروني أن ما على ابني هو مائة جلدة وتغريب عام) أن يذهب به بعيداً عن وطنه وبلدته لمدة عام زائداً الجلد مائة جلدة، وهذا هو حد الزاني غير المحصن الأعزب الذي لم يتزوج، وأن على امرأة هذا الرجل الآخر الرجم -لا بد أن ترجم لأنها محصنة ومتزوجة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله -يعني: بحكم الله تعالى سواءً في القرآن أو في السنة- الوليدة والغنم ردٌ عليك) يأيها الخصم! أرجع المائة شاة والجارية إلى الرجل فهذا شيء باطل، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد الصحابة الذين كانوا يوكلون بإقامة الحدود، وقال: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا الرجل -اذهب عليها وقررها- فإن اعترفت، فارجمها.
قال: فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجمت).(73/2)
فوائد من حديث حكم النبي صلى الله عليه وسلم في حد الزنا
هذا الحديث- أيها الإخوة- يشتمل على أصول عظيمة من أصول الإسلام، وعلى فوائد مهمة، وعلى تحذيرات ينبغي للمسلمين أن يتنبهوا إليها ويعوها ويعرفوها حق المعرفة، ويرعوها حق الرعاية.(73/3)
الانتباه لقضية الخدم ومن في البيت
أولاً: لقد كان ولد هذا الرجل خادماً عند رجلٍ آخر، فزنا بامرأته.
مشكلة الخدم- أيها الإخوة- مشكلة عويصة وكبيرة وخطيرة جداً، ومهدمةٌ لأخلاق البيوت، وقاضية على العفة والطهارة، إذا لم يلتزم فيها بآداب الدين وأحكامه، ومشكلة الخدم في عصرنا هذا أضحت من المشاكل العظيمة التي احتار فيها الناس، وبعضهم أودت بهم وببيوتهم إلى مهاوي من الرذيلة والفساد، وفتحت على المسلمين أبواباً من الشرور لا زالت تستفحل حتى الآن.
ترى الرجل عنده خادمة في البيت شابةٌ جميلةٌ، وعنده أولادٌ بالغون كبار عزاب يختلطون بهذه الخادمة، وتجد كذلك خادماً، أو سائقاً شاباً موجوداً في البيت بهي الطلعة مفتول العضلات، يخالط الفتيات من البنات في هذا البيت، ويخالط الزوجة في البيوت، هذه- أيها الإخوة- من الطامات والبلايا التي ابتلينا بها في هذا العصر، فنشأ عن هذا مشاكل كبيرة، وبلايا عظيمة، وانتهاك لحرمات الله، وجرائم أخلاقية تتنافى مع شرع الله لا أول لها ولا آخر، وأصبح أولاد الزنا مشكلة من المشاكل المتولدة عن قضية الخدم، ونحن في هذا المقام لن نناقش هذه القضية، لأن الوقت لا يسمح لها الآن، ولعل الفرصة تتاح لهذا في المستقبل.(73/4)
الاختلاط سبب الفتن
ما هو السبب في الفتنة؟ لماذا تحدث الطامة، وتحدث البلية من هؤلاء الخدم؟ أحد الأسباب لهذه الجرائم التي تحصل- ما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث فقال-: وإنما وقع له- يعني: للشاب- ذلك لطول الملازمة المقتضية لمزيد التأنيس والإدلال، فيستفاد منه: الحث على إبعاد الأجنبي عن الأجنبية مهما أمكن؛ لأن العشرة قد تفضي إلى الفساد، ويتوصل بها الشيطان إلى الإفساد، المرأة بطبيعة الحال إذا رأت رجلاً أجنبياً أمامها فجأة، فإنها تنفر منه وتهرب عنه، هذا لو كان في قلبها إيمان واعتراف بحدود الله ومحارمه، فإذاً: لماذا نجد الفاحشة -أحياناً- تقع بين هذا النوع من النساء والخدام والسائقين في البيوت؟ السبب- أيها الإخوة- طول الملازمة المقتضية لمزيد من التأنيس والإدلال العشرة والمعاشرة كثرة المخالطة والمعايشة مع هذا السائق، أو هذا الخادم هي التي تفضي إلى المحرم المقابلة الأولى قد لا توقع إلى محرم، وقد لا تفضي إلى شيء، ولكن زيادة الخلطة والمخالطة والمعاشرة تجعل الجو طبيعياً جداً، وتجعل وجود هذا الأجنبي في البيت بين النساء أمراً عادياً لا ينقد، هذا هو بداية الفساد، وهذا هو الجو المهيأ لوقوع الرذيلة والفاحشة.(73/5)
إيجاد الحلول لوجود الخدم والسائقين في البيوت
أيها الإخوة: إن وجود الخدم والسائقين داخل البيوت يعاشرون نساءنا ويتجولون بينهن من الخطورة بمكان؛ لأنه سيزيل حاجز الكلفة بين هذا السائق، أو هذا الخادم وهذه المرأة، سيصبح هذا الرجل كأنه من أهل البيت لا فرق بينه وبين الزوج أو الابن أو الأخ، يدخل متى شاء ويخرج متى شاء، يدخل والمرأة في حالة من التكشف كأنها أمام زوجها، وكأنه لا يوجد عندها رجل أجنبي، وهذه المخالطة وهذه الإزالة للحاجز هي التي توقع في الجريمة، وهي التي تهيئ أسباب الفساد، لذلك كان لا بد من إبعاد الأجنبي عن الأجنبية مهما أمكن؛ لأن العشرة هي التي تفضي إلى الفساد، مَن مِن الناس اليوم الذين يوجد عندهم خدم وسائقون يفصلون بين بيت الخدم وبيت النساء؟ مَن مِن اليوم يمنع السائق من الدخول إلى داخل البيت، ويبقي السائق في حجرة خارجية خارج سور البيت، أو له باب آخر مختلف عن باب البيت؟ من الذي يحرص على منع الاختلاط؟ إنهم قلة من الناس جداً، بل إن هذا الفصل غير واقعٍ تقريباً في أحوال البيوت اليوم، ولذلك- يا إخواني- نسمع بالمآسي، ونسمع بالطامات، ونسمع بمواليد يولدون لا يمتون بصلة إلى الأب، أو الزوج في البيت.
هذه مشاكل- أيها الإخوة- نشأت عن إهمال حدود الله تعالى، وعدم تعظيم حرمات الله.
فالحذر الحذر من هذه الفتنة العظيمة، والطامة الكبيرة، التي عمت ودخلت كل بيت، فأصبحت من الفتن.
الله الله في بيوتكم الله الله في نسائكم الله الله في محارم الله الغيرة الغيرة- أيها الإخوة- على حدود الله ومحارمه جنب أولادك ونفسك ونساء بيتك هذه المحرمات التي شاعت بسبب تعود الناس عليها وعدم إنكارها.(73/6)
وجوب التحاكم إلى شرع الله
هناك قضية أخرى من القضايا الأصولية العظيمة في هذا الحديث وهي: وجوب التحاكم إلى القرآن والسنة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً} [الزمر:23] وأوحى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام وحياً -قرآناً وسنةً- لا لتبقى على الرفوف معزولة عن واقع الناس وحياتهم، وإنما ليحكم بين الناس بما أنزل الله، ويحكم من بعده عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى.
يجب التحاكم إلى الكتاب والسنة، ونبذ أي مصدر آخر للتشريع غير القرآن والسنة، وأي مصدر من المصادر يُتحاكم إليه غير الكتاب والسنة فهو طاغوت من الطواغيت، ومحادة لله تعالى، وإشراكٌ به -عز وجل- شركاً أكبر يخرج عن الملة، وينقل من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر- والعياذ بالله- وكثيرٌ من الناس اليوم يتحاكمون إلى الهوى، أو إلى العادات والتقاليد، أو إلى شرائع شرعوها بينهم- ما أنزل الله بها من سلطان- فيقعون في الكفر- والعياذ بالله- وقد لا يعذرون بجهلهم، وهذا الرجل في هذا الحديث مثالٌ على الجاهل الذي ظن بأن هذا الحد الذي وقع فيه ابنه من الأشياء التي يمكن أن يصالح عليها بالمال فجاء إلى هذا الرجل، وقال له: ما يرضيك؟ كيف أرضيك؟ هذا ابني زنا بزوجتك.
ماذا يرضيك؟ فدفع له مائة شاة وجارية؛ لكي يرضا ذلك الرجل عن الزنا الذي حصل بزوجته- والعياذ بالله- هذا تحاكمٌ إلى عادات أو تقاليد أو أعراف أو أهواء موجودة في المجتمع، نسف صلى الله عليه وسلم هذا الحكم من أصوله واجتثه، وقال: (المائة شاة والوليدة ردٌ عليك) ارجع ما دفعت إليه هذا باطل لا يجوز.(73/7)
خطر التحاكم إلى غير شرع الله
كثيرٌ من الناس اليوم يجعلون القرآن والسنة في جانب، ويتحاكمون إلى العادات والتقاليد، أو الأشياء التي شرعت من دون الكتاب والسنة، أو الأهواء التي اتبعت {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60].
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45].
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] ثلاثة أوصاف في سورة المائدة بينت قضية الحكم، يجب أن يكون الحكم لله، لا تُحكِّم عادة، ولا تقليد، ولا عرف من الأعراف، ولا هوى من الأهواء، ولا أشياء شرعها البشر من عند أنفسهم، لا يجوز تحكيم إلا القرآن والسنة وإلا فلسنا بمسلمين.
ولذلك- أيها الإخوة- حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله من فوق سبع سماوات أن يجلد هذا الشاب مائة جلدة، وأن ترجم المرأة؛ لأنها زانية محصنة قد تزوجت، ثم زنت بعد إحصانها وزواجها، فوجب أن ترجم بالحجارة حتى تموت، وأقيم الحد عليها بعد اعترافها.(73/8)
حدود الله لا يساوم عليها ولا يتراضى فيها
لم يرض الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم الجاهلي الذي ابتدعه هذا الرجل، واتفق عليه هو وصاحبه، وكثير من الناس اليوم يتراضون فيما بينهم بأحكام لم ينزل الله بها من سلطان، ويعرضون عن القرآن والسنة، وينسون حق الله بالحدود.
رجل يزني بامرأة رجل آخر، ثم يقول له: ما الذي يرضيك حتى أدفعه لك؟! أين حكم الله؟ هل هذا هو حكم الله؟!! التعويضات المالية في عملية الزنا هي حكم الله؟! لا والله.
لذلك كان من محادة الله تعالى ومعاداته ما يقع في تشريعات كثيرٍ من البشر اليوم أنهم قالوا: لو أن رجلاً زنا بامرأة وهي راضية برضاها وهو راضٍ، فلا شيء عليهما، لماذا؟ قالوا: لأنهما رضيا كل منهما راضٍ بالزنا، فلا شيء عليهما، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
ويأتي رجلٌ آخر يقول: أنا أتفق مع البنك على الربا أنا راضٍ وهو راضٍ بالربا، كلنا راضين، لا أحد مكره على هذا، إذاً الربا حلال، لماذا؟ لأنني أنا راضٍ والطرف الآخر راضٍ أيضاً، هذا هو عين الكفر هذا هو عين الوقوع في محرمات الله تعالى، إذا كنت أنت راضٍ وهي راضية، فهل رضي الله عزَّ وجلَّ عن هذا الأمر الذي ستقدم عليه وتفعله؟ كثيرٌ من الناس يحتجون بمبدأ الرضا في العقود حتى ولو كانت مخالفة لشرع الله تعالى، وهذا- أيها الإخوة- خطرٌ عظيمٌ جسيمٌ يهدد الأمة ويسلخها سلخاً عن دين الله، ويبعدها إبعاداً كبيراً عن أحكام الله وشرائعه.
إذا كنت راضياً والطرف الآخر راضٍ، والله لم يرض عن هذا العمل، وقال الله في كتابه: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء:22] أو قال في كتابه أنه يحارب من يفعل هذا الفعل، ثم أنت تقول: أنا راضٍ والطرف الآخر راضٍ، فنحن نقدم على هذا الفعل، ما دام أنه لا أحد مكره، فإن الله لا بد أن يحاربك، ولا بد أن ينتقم منك، وقد ينتقم في الدنيا قبل الآخرة.
لا بد- أيها الإخوة- من الاحتكام إلى القرآن والسنة وتطبيق الحدود، وعدم المساومة عليها بالأموال، وعدم التراضي، إذا وصل الحد إلى القاضي أو الإمام، فلا يجوز التراجع عنه مطلقاً، لا بد من الاحتكام إلى كتاب الله تعالى.
أين حق الله الذي ضيع في كثيرٍ من الحدود التي يقع فيها الناس اليوم؟ الحدود والمحرمات التي يقترفونها يتحاكمون فيها إلى من؟ يجب العودة إلى الكتاب والسنة.
أيها الإخوة المسلمون! وفقني الله وإياكم لتحكيم شرع الله في أنفسنا، والعودة إلى القرآن والسنة، تطبيقهما في واقعنا، ونسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الإشراك به، أو تحكيم غير كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.(73/9)
الرجوع إلى أهل العلم في مسائل الشرع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
كان من الفوائد غير ما تقدم في هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى فائدة عظيمة جليلة، وهي: الرجوع إلى أهل العلم العالمين بالكتاب والسنة، فإن هذا الرجل سأل بادئ ذي بدء أناساً غير عالمين بكتاب الله، فقالوا له: إن على ابنك الرجم، وليس على الولد الرجم؛ لأنه أعزب غير متزوج وزنا، ففي هذه الحالة ليس عليه الرجم، فأخبروه بهذا الحكم المخالف لحكم الله تعالى مما جعله يفتدي ولده من هذا الرجل بتلك الأموال العظيمة التي دفعها إليه، فلما سأل أهل العلم أخبروه.
قال في الحديث: (ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم) ثم إني سألت أهل العلم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وهذه من المصائب التي وقع فيها الناس اليوم، فإذا أرادوا أن يسألوا عن حكم من الأحكام، فإنهم لا يسألون المحققين من العلماء، ولا يسألون من عرف بالعلم والتقوى من العلماء، وإنما تجد أحدهم يسأل جاهلاً مثله أو أقل منه، وتجد أحدهم يسأل كبيراً في بيته، أو في عشيرته، ثم يحتكم إلى قوله، وتجد أحدهم يسأل قاصاً من القصاصين، أو أديباً من الأدباء، أو مؤرخاً من المؤرخين ممن لا علاقة له بفقه الكتاب والسنة مطلقاً، فترى الناس لا يميزون اليوم بين أهل العلم وغيرهم، فيسألون من شاءوا ممن واجهوا وممن سمعوا عنهم وحتى ولو كانوا ليسوا من أهل العلم.
لابد أن نتحرى من هم العلماء الصالحون، ولابد من السؤال عنهم ثم سؤالهم، قال الله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] لابد من الرجوع إلى الخبراء بالكتاب والسنة.
الناس اليوم إذا مرضوا اختاروا أحسن الأطباء والمتخصصين في هذا المرض، فإذا وقعوا في مرض من الدين لم يرجعوا إلى المختص بهذا المرض، وإنما سألوا أي واحد من الناس.
أنتم ونحن مسئولون جميعاً عمن نسأل في ديننا، ستسأل أمام الله تعالى هذه المسألة التي وقعت لك من سألت فيها؟ لماذا سألت فلاناً من الناس فيها؟ ستسأل يوم القيامة لماذا انتخبت فلاناً من الناس وسألته؟ هل لأنك تعرف بأنه يصدر الفتاوى السهلة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ هل لأنه يقول ويحكم بالأسهل -بغض النظر عن كونه حقاً أو غير حق- فأنت تسأله لمجرد أنه يفتيك بالأسهل؟ أم لمجرد أنك توهمت أن عنده شيئاً وليس عنده شيء، أو لمجرد أنه قد نفخ نفسه أمام الناس بالعلم، وادعى به ثم أنت تسأله؟ لابد أن تتحرى -يا أخي المسلم- من تسأل، لا تسأل أي أحد، ارجع إلى العلماء الأجلاء، ونحن والحمد لله -أيها الإخوة- في مجتمعنا هذا يوجد عندنا علماء أجلاء من كبار العلماء في العالم، لكن للأسف معطلين لا يرجع إليهم الناس ولا يسألونهم ولا يتصلون عليهم هاتفياً أو يكاتبونهم أو يسافرون إليهم.
الواحد إذا أراد أن يستورد بضاعةً أو يجلب عاملاً أو سائقاً سافر من أجله آلاف الأميال، أما إذا وقع له شيء في الدين فإنه لا يكلف نفسه السفر ولو لبضع مئات من الأميال، مع أن هذا دين وليس تجارة ليس مالاً ليس عرضاً دنيوياً.
الناس يسافرون إلى أعراض دنيوية المسافات الشاسعة، ثم لا يكلف نفسه مطلقاً لا بالاتصال ولا بالكتابة ولا بالسفر إلى العلماء الأجلاء وهم موجودون في بلده ليسوا ببعيدين عنه، لا يكلف نفسه الاتصال بهم وسؤالهم، ويسأل أي واحد من الناس أو يحكم هواه هو، فيقول: لعل هذه المسألة ما فيها شيء، لعل هذه القضية حلال إن الله غفور رحيم هذه فاتت وماتت، وهي لم تمت بل هي مسطرة عند الله تعالى.
فلابد من الرجوع إلى العلماء لا أدعياء العلم ولا الجهلة، ولا تسأل قاصاً أو مؤرخاً أو أديباً عن مسألة شرعية تتعلق بالكتاب والسنة، أو تسأل واعظاً.
هناك فرق بين الواعظ والعالم الواعظ قد يذكرك بالله والجنة والنار، لكن قد لا يستطيع أن يحكم، أو يفتيك في مسألة تتعلق في الفقه أو تتعلق بالحلال أو الحرام، يجب أن تفرق بين الواعظ الذي يبكيك وتشعر بأن كلامه يطري القلب فقط، وبين العالم الذي تعلَّم العلم وأفنى فيه عمره وطبقه وخشع لله من أجل هذا العلم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] العلماء الحقيقيون هم الذين يخشون الله، لابد من الرجوع إليهم وسؤالهم، والتحري عنهم والتثبت، تسأل من؟ وما هو دليله على كلامه الذي يقوله لك؟ عند ذلك تكون على صراط مستقيم.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الفرد الصمد الديان، أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه.
اللهم إنا نسألك التحاكم إلى القرآن والسنة، اللهم وفقنا العودة للقرآن والسنة والتحاكم إليهما ونبذ الشرائع الضالة التي اخترعها البشر.
اللهم إنا نسألك أن تحمي بلدك هذا وبلاد المسلمين من شر كل ملحد وطاغوت.
اللهم من أراد ببلدنا هذا أو بلاد المسلمين سوءاً فاردد كيده في نحره، واجعله عبرةً لمن يعتبر.
اللهم من أراد دينك بسوءٍ فاقطع يده وشتت شمله، ودمره تدميراً، وانصر دينك وكتابك ورسولك على سائر الأديان والملل.
اللهم واجعل دينك عاماً منتصراً على سائر الأديان، واجعل عقيدة التوحيد مهيمنة على سائر العقائد والبدع.
اللهم واجعلنا من أهل السنة والجماعة الذين اتبعوا نبيك صلى الله عليه وسلم وما حرفوا دينك وما بدلوه تبديلاً.
اللهم واجعلنا من المتمسكين بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم العاضين عليها بالنواجذ، وجنبنا الإحداث والبدع.
اللهم واجعلنا من المتمسكين بشرعك الحافظين لحدودك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر اليهود والكفرة والملحدين وسائر أعداء الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا نوراً من الإيمان تقذفه في قلوبنا نرى به طريق الحق.
اللهم وارزقنا الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعذنا من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم وأظللنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك.
اللهم واجعلنا ممن سلمتهم على الصراط يوم الفزع الأكبر، اللهم سلمنا على الصراط، اللهم سلمنا على الصراط واجعلنا ممن يجوز عليه إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وصلوا على نبيكم الرحمة المهداة، سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(73/10)
الصبر على طاعة الله
الصبر من أعظم الأسباب التي أعانت الأنبياء عليهم السلام على نشر دعوتهم؛ لأنهم بصبرهم استطاعوا أن يتحملوا كل ما يواجهونه من قومهم من تكذيب لهم وسخرية منهم ومما يدعون إليه.
فالصبر يعين السالك إلى طريق الله عز وجل، فيصبر على طاعة الله وعلى ما يأمره الله عز وجل من الأوامر المختلفة التي يحتاج فيها إلى الصبر والتحمل.(74/1)
تعريف الصبر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد: أيها الإخوة! الموضوع الذي سنتحدث عنه موضوع مهم جداً، وإذا تأملت معي -يا أخي المسلم- أهمية هذا الموضوع في الحياة التي نحياها الآن، لوجدته أمراً ذا بال، وأمراً خطيراً جداً.
نحن الآن -أيها الإخوة- عندما نؤدي هذه الأركان وهذه العبادات لله عز وجل، يشعر الإنسان المسلم أحياناً بأنه متثاقل وهو يؤدي هذه العبادات يشعر بأن عليه مشقة كبيرة جداً لأداء صلاة الفجر أو أداء صلاة الجماعة في المسجد.
وعندما يخرج الصدقات والزكوات يحس بأنه يجاهد نفسه لكي يخرج هذه الأموال، فيشعر بمشقة.
وكذلك إذا دعا داعي الجهاد في سبيل الله وجدت الأمر صعباً.
وكذلك إذا جاء الإنسان المسلم الذي هداه الله عز وجل ليستقيم على شرع الله، ويلتزم بأحكام الله، وجد المجتمع يؤذيه من كل جانب، ووجد أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه يؤذونه ويثبطونه عن المضي في هذا الطريق.
وامرأة مسلمة هداها الله إلى الإسلام تريد أن تلتزم بالحجاب تحس بأن الالتزام بالحجاب صعب جداً.
وتاجر مسلم يريد أن يطهر أمواله من الربا، وينقيها من الحرام، يحس بأن هذا العمل شاق وصعب وشديد.
الإنسان مع إخوانه في الله وهو يعيش معهم قد ينزغ الشيطان بينه وبينهم في أشياء كثيرة، وتعاملات عديدة، فلا يعجبه تصرف من هذا، أو قولة من ذلك إلى آخر تلك الأمور التي تحدث، مما يجعل الإنسان -أحياناً- يفكر في أن يترك إخوانه في الله -مثلاً- فكونه يجلس معهم ويجاهد نفسه للبقاء معهم أمرٌ عسير وشاق؛ هذه الأمور وغيرها -أيها الإخوة- مزاولتها تحتاج إلى صبر شديد؛ هذا الصبر الذي سنتحدث عنه، هو الذي يسهل هذه الأمور ويذلل الصعاب أمام الإنسان المسلم وهو يسير في طريقه إلى الله تعالى.
فتعالوا بنا لنتعرف على هذه الكلمة العظيمة (كلمة الصبر) ونعرف معناها في اللغة والشرع؟ وكيف أتت في القرآن والسنة؟ وما هي أقسام الصبر؟ وما هي الأسباب الجالبة له؟ وما هي أنواعه من حيث تعلقه بأشياء كثيرة؟(74/2)
اشتقاقات كلمة الصبر في اللغة
اعلموا -رحمكم الله- أن أصل هذه الكلمة -كلمة الصبر- معناها في اللغة: المنع والحبس.
يقال: صبر يصبر صبراً، وصبر نفسه، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] معنى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:28] أي: احبس نفسك، وامنعها عن تركها هؤلاء، اصبر نفسك معهم واحبسها.
ويقال: "الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والقلب عن السخط".
وكلمة الصبر لها اشتقاقات كثيرة في اللغة تتعلق بما نحن بصدده، من بيان معنى الصبر، فمن اشتقاقاتها -مثلاً- صبر، وتصبر، واصطبر، وصابر، وغيرها من الاشتقاقات، وكثير من هذه الألفاظ وردت في القرآن الكريم، بحيث يحتاج المسلم أن يعرف ما هي الفروق بين هذه الألفاظ؟ يقال للإنسان: صبر إذا أتى بفعل الصبر، وإذا تصبر الإنسان المسلم يقال: تصبر إذا تكلف الصبر واستدعاه، تكلف إحضار الصبر إلى نفسه، واستدعى هذا الصبر، فيسمى عندئذٍ تصبر، أي: جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره، وهذه اللفظة كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى: هي المعنى الوارد في قول الله عز وجل: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177] فقال: البأساء: هو الفقر، والضراء: كل الأذى الذي يحدث في البدن، مثل: المرض وغيره فالصابرين في البأساء والضراء، أي: المتصبرين على البأساء والضراء.
الذي يصبر ويستدعي الصبر ويتكلف الصبر، وهو يعيش في جو البأساء ومرارة الحاجة، هذا يسمى متصبر؛ لأنه قد جلب الصبر واستدعاه وتكلف حضوره.
وكذلك يقال في اللغة: اصطبر، أي: تعلم الصبر واكتسبه، فالإنسان إذا كان يتعلم الصبر، ويحاول أن يكتسب الصبر، فإنه يسمى: مصطبراً.
وهذه اللفظة تقودنا إلى شيء مهم جداً: هل الصبر خلق يكتسب؟ أم هو خلق فطري يولد مع الإنسان ولا يمكن الزيادة فيه ولا النقصان منه؟ الصحيح في هذه المسألة: أن الصبر من الفطر التي يفطر الناس عليها، فترى بعض الناس من طبيعتهم أنهم يصبرون، وبعض الناس لا يصبرون، لكن الصبر بالإضافة إلى هذا الكلام يمكن تعلمه واكتسابه، بمعنى: يمكن أن يكون الإنسان غير صابر، فيتعود على أشياء معينة، ويتعلم أشياء معينة تصل به إلى اكتساب الصبر.
ما هو الدليل؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري: (ومن يتصبر يصبره الله).
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر بأن الإنسان يمكن أن يتصبر -يعلم نفسه الصبر- ويكافح حتى يصل إلى مرحلة يكتسب فيها هذه الخصلة وهي الصبر، فإن المزاولات -مزاولة الشيء- تعطي الملكات ومن زاول شيئاً واعتاده وتمرن عليه صار ملكاً له، وسجيةً، وطبيعة كما يقول ابن القيم رحمه الله.
وقد جعل الله في الإنسان قوة القبول والتعلم لهذه الطبائع- بالرغم من أنها طبائع إلا أنه من الممكن تعلم هذه الطبائع واكتسابها- غير أن العبد أحياناً إذا كان نزقاً لا يصبر، ثم حاول أن يكتسب الصبر ويتعود ويتطبع بالصبر، فقد يكون انتقاله هذا من عدم الصبر إلى الصبر ضعيفاً، فيعود العبد إلى طبعه الأصلي بأدنى فاعل؛ فأدنى وقعة تجعله يعود إلى عدم الصبر الذي كان سجيةً له.
أحياناً يكون التصبر فيه قوة، بحيث لا يعود إلى سجيته الأولى التي هي عدم الصبر والحدة إلا بباعث قوي، فقد يكون في موقف قوي بحيث يخرجه عن هذا التصبر إلى السجية الأولى التي كان عليها، وأحياناً يكون التعلم والاكتساب للصبر قوياً جداً، بحيث يملك على الإنسان نفسه، ولا يعيده إلى ما كان عليه في الماضي.
وإذا جئنا إلى اللفظة الأخرى من اشتقاقات الصبر وهي كلمة صابر؛ فإن لفظة صابر تفيد وقوف الإنسان مع خصمه في عملية الصبر، ولذلك فلفظة: صابر، على وزن فاعل؛ وهذه اللفظة تعني: أنه لا بد من وقوعها بين اثنين على الأقل، مثل: شاتم، هذا شتم فلاناً وفلان شتمه، كذلك صابر، أي: هذا صبر وهذا صبر، كل واحد يصبر من جهة، فأيهم الذي يكون صبره أكثر من صبر الآخر؟ عملية التسابق في الصبر تسمى مصابرة؛ والمصابرة أعلى مرتبة من الصبر، لأن الإنسان يمكن أن يصبر لكن لا يصابر، قد يصبر لفترة معينة لكن لا يصبر مع خصمه إلى النهاية، فيفقد الصبر في منتصف الطريق، فلا يقال: صابر، وإنما يقال: صبر.
الآن بعد أن عرفنا هذه الأشياء تأمل قول الله تعالى في آخر سورة آل عمران، تتضح لك معانٍ لم تكن متضحة من قبل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
قد يقول إنسان قبل أن يتعلم هذه الألفاظ: ما هو الفرق بين صبر وصابر؟ كيف يأمر الله الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] ما هو الفرق؟ فالآن المقام مقام كلام على المرابطة والجهاد، يأمر الله الناس أن يصبروا ويصابروا الأعداء؛ لأن الأعداء قد يصبرون، فالمؤمنون يجب أن يصابروا عدوهم، حتى يفوقوهم في الصبر والجلد في مجال المعركة {وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
فالمصابرة: هي حال الإنسان في الصبر مع خصمه، فإن العبد قد يصبر لكنه لا يصابر.(74/3)
تعريف الصبر شرعاً
أما تعريف الصبر من ناحية الشرع: فقد ذكر بعض العلماء: "أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به الإنسان الصابر من فعل ما لا يحسن ولا يجمل شرعاً".
هذا الخلق الذي يحمل النفس على الامتناع عن الأشياء التي لا تجمل ولا تحسن شرعاً، هذا هو الصبر.
وكذلك قال بعض السلف: "الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب".
والصبر والجزع ضدان، ولهذا يقابل أحدهما الآخر، ولذلك قال الله عن أهل النار: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] أهل النار يوم القيامة عندما يطبق عليهم العذاب من كل جانب، يقول بعضهم لبعض: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا} [إبراهيم:21] أي: فقدنا الصبر على هذا العذاب ((أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم:21] على هذا العذاب ليس هناك فائدة، كله واحد {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] أي: ليس هناك مهرب ولا مفر؛ لأنهم لو صبروا على العذاب أو جزعوا فإن النتيجة واحدة، وهي أن العذاب مستمر، فإن صبرهم لن يفيدهم شيئاً.
أيها الإخوة: الصبر إذا كان صبراً عن شهوة الفرج، فإنه يصبح عفة، تأمل في الصبر كيف أنه يداوي ويقلب الصفات الذميمة إلى صفات حسنة، فإذا كان صبراً على شهوة الفرج، فإنه يسمى عفة، وضدها الفجور والزنا.
وإن كان صبراً على شهوة البطن وعدم التسرع في الطعام، أو تناول ما لا يحسن الإنسان أن يتناوله، فإنه يسمى شرف نفس، وشبع نفس، ليس شبع بطن، وضده الشره والدناءة.
وإن كان صبراً على إظهار ما لا يحسن إظهاره من الكلام، فإنه يسمى: كتمان سر.
وعكسه إذاعة السر وإفشائه، أو اتهام الناس، أو فحشهم وسبهم، والكذب عليهم وقذفهم والافتراء عليهم، هذا كله ضد صبر النفس وصبر اللسان عن التكلم بما لا يحسن التكلم به شرعاً.
وإن كان صبراً على فضول الدنيا، فإنه يسمى: زهداً.
وإن كان صبراً على قدرٍ يكفي من الدنيا؛ فإنه يسمى: قناعة.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الغضب في النفس، فإنه يسمى: حلماً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي العجلة والتسرع، فإنه يسمى: وقاراً وثباتاً.
وإن كان صبراً عن إجابة داعي الفرار والهرب، فإنه يسمى: شجاعةً.
وإن كان صبراً عن داعي الانتقام، فإنه يسمى: عفواً وصفحاً.
فتأمل معي كيف أن هذا الصبر هو الذي يقلب الأخلاق السيئة في النفس إلى أخلاق حسنة، وهو الذي يداوي الأمراض النفسية ويجعلها تصل بالنفس إلى مراحل عليا.
وعرف بعض العلماء الصبر: "بأنه الثبات على أحكام الكتاب والسنة".
وقال بعضهم: هو الاستعانة بالله.(74/4)
أنواع الصبر
اعلموا -أيها الإخوة- أن الصبر ينقسم إلى نوعين: 1 - صبر بدني.
2 - صبر نفساني.
وكذلك فإنه ينقسم إلى نوعين آخرين من جهة أخرى: 1 - صبر اختياري.
2 - صبر اضطراري.
ولو جمعنا هذين النوعين إلى هذين النوعين لأصبح عندنا أربعة أنواع: الصبر البدني الاختياري: وهو صبر يتعلق بالبدن لكنه اختياري، يمكن أن يفعله الإنسان ويمكن ألا يفعله، مثل: الصبر على تعاطي الأعمال الشاقة، كالذي يصبر على حمل الأشياء الثقيلة؛ فهذا صبر بدني اختياري.
2 - الصبر البدني الاضطراري، كشخص أخذ وعذب وضرب، فهو الآن يضرب من قبل الذي يعذبه، فهذا صبر بدني اضطراري.
3 - الصبر النفساني الاختياري: كصبر الإنسان على حبس النفس عن الغضب.
4 - الصبر النفساني الاضطراري: كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه، مثلاً: شخص أراد أن يهاجر في سبيل الله، ولكنه حبس أن يهاجر إلى أقوام صالحين، أو حبس عن إتيان شيء من الأشياء المحمودة شرعاً.
فهذه الأنواع الأربعة بعضها يجتمع في الحيوان، وبعضها لا يكون إلا في الإنسان، هناك نوعان لا يكونان إلا في الحيوان، والنوعان وهما: البدني والاضطراري؛ وهذا من صبر الحيوان؛ لأن الحيوان ليس له اختيار.
إذاً: بعض الناس عندهم صبر بدني، كأن يكون جسمه قوي فيستحمل، وهذا النوع من الناس لا يكون محموداً دائماً، لأنك تجد بعض الكفرة أو بعض الناس الذين يجرون وراء الماديات، عنده استعداد أن يصبر في العمل والكد ويشتغل في اليوم اثنا عشر ساعة أو أربعة عشر ساعة، كسائق الشاحنة الذي يذهب ويرجع على الخطوط ويتنقل ويصبر على هذا التعب؛ فهذا الصبر ليس محموداً دائماً، هذا الصبر فيه من صبر الحيوانات، بل إن بعض الحيوانات تصبر في الصبر البدني أكثر من الإنسان.
وكذلك الصبر الاضطراري، فإن الحيوان يصبر على الآلام اضطراراً، فما هو يا ترى النوع الذي يفترق فيه الإنسان عن الحيوان؟ الصبر الذي يفترق فيه الإنسان عن الحيوان هو الصبر النفساني والصبر الاختياري؛ هذه الأشياء التي يفترق فيها الإنسان عن الحيوان.
ولذلك تجد بعض الناس يعمل بكد ويتعب نفسه ويصبر على هذا التعب البدني؛ لكي يحصل الأموال، فهذا مثل الحيوان ولا يوجد فرق بينهما، وإذا صار فيه مرض صابر غصباً عنه؛ لأنه لا يمكن أن يزيل المرض بالقوة، فيصبر على هذا المرض.
فهذه الأنواع من الصبر ليست هي الأنواع التي ترفع الإنسان إلى المكانة العليا إلا إذا قصد بها وجه الله.
الأشياء التي تحتاج إلى مصابرة فعلاً هي: المصابرة النفسية على أشياء النفس وهواها، وكذلك على الأشياء الاختيارية التي يمكن للإنسان أن يفعلها أو لا يفعلها، وهو مع ذلك يفعلها في الخير؛ هذه الأشياء التي تفرق بين الإنسان والحيوان؛ فالإنسان إذا صابر باعث الهوى ودفعه صار مثل الملائكة في هذا الجانب، وإذا غلبه باعث الهوى والشهوة فإنه يصبح مثل الشياطين، وإذا غلبه طبع الأكل والشرب والجماع فقط فإنه يصبح مثل البهائم.
الصبر ينقسم إلى ثلاثة أنواع: 1 - صبر على طاعة الله.
2 - صبر عن معصية الله -أي: يصبر عن المعصية فلا يرتكبها.
3 - صبر على أقدار الله.
وكلامنا سوف يتركز على النوعين الأوليين: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية.
هذه الثلاثة الأشياء اجتمعت في آية واحدة، وهي قول لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].
فإن في قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان:17] فعل الطاعة والصبر على الطاعة.
{وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ليس من المعقول أن ينهى عن المنكر وهو يفعل المنكر، فمعنى هذا: أن لقمان يوصي ابنه بالصبر عن المعصية.
{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] الصبر على أقدار الله التي تصيب الإنسان.
فهذه الأشياء: الصبر على الطاعات، والصبر عن المحرمات، والصبر على الأقدار.
هل هي واجبة، أو مستحبة، أو مكروهة، أو محرمة؟
الجواب
يجب على الإنسان أن يصبر على هذه الأشياء؛ يصبر على الطاعة يصبر على الصلاة، يصبر على الزكاة، وكذلك الصبر عن المحرمات، مثل: الصبر عن الشهوات، فلذلك يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى، في مسألة الاستمناء: من فعل الاستمناء تلذذاً، أو تذكراً، أو عادةً، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كان يجامعها، فهذا كله محرم، لا يقول به أحمد ولا غيره؛ لأن المشهور من مذهب الحنابلة: أن الاستمناء مباح، فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لا يقول به أحمد ولا غيره، والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.
والصبر عن المحرمات واجب وإن كانت النفس تشتهيه وتهواه، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] ما هو الاستعفاف؟ ترك المنهي عنه، وقد سبق أن ذكرنا الشيء الذي إذا صبرت عليه فإنك تصبح عفيفاً.(74/5)
التفاضل بين أنواع الصبر
إذاً: هذه الأشياء واجبة وليست مستحبة، أو مكروهة.
إن سألت: هل الصبر الاضطراري أفضل أم الصبر الاختياري؟ أي: هل الصبر على الفعل الذي يفعله الإنسان باختياره أفضل أم الصبر على الشيء الذي وقع بدون اختيار؟ هل الصبر على الطاعة التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها، أو الصبر عن المعصية التي يمكن أن تفعلها ويمكن ألا تفعلها أفضل؟ أم الصبر على مرض أصابك، أو على بلية حلت بك؟ وهذا كله واجب، فيجب أن تصبر في كل الحالات، لكن أيهما أفضل؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، ولهذا كان صبر يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم عن مطاوعة امرأة العزيز أكمل وأفضل من الصبر على ما ناله من الحبس، أو على ما ناله من إلقاء إخوته له في الجب؛ لأن الصبر فيهما صبر اضطراري، لا يمكن ليوسف أن يدفعه عن نفسه، لكن لما صمد أمام امرأة العزيز، وهذا صبر اختياري، لأنه كان يستطيع أن يقع في المحرم لكنه منع نفسه منها، فلهذا صار صبره من هذه الناحية أفضل، وهو وقع في الحالتين -يوسف عليه السلام- فإن صبره على امرأة العزيز صبر اختياري وإيثار ومحبة لله عز وجل.
وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما أمرهم الله من الأوامر وأعطاهم من الشريعة؛ صبرهم باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم لأقوامهم أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلاء، فكان صبر هؤلاء أكمل من صبر أيوب.
وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح، وصبر أبيه إبراهيم على تنفيذ أوامر الله عز وجل بالذبح، أكمل من صبر يعقوب على فقد ولده.
لماذا؟ لأن صبر إبراهيم وإسماعيل صبر اختياري، كان يمكن أن ينفذ الذبح ويمكن ألا ينفذ، ويمكن أن يعترض إسماعيل وممكن ألا يعترض، ولكنهما أسلما لله عز وجل وصبرا صبراً اختيارياً، صبر إيثار ومحبة لله عز وجل، بخلاف صبر يعقوب على فقد ابنه يوسف، فإنه صبر اضطراري؛ فقد ابنه فماذا بإمكانه أن يفعل؟ يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: وهكذا إذا أوذي المسلم على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، فإذا لم يفعل أوذي وعوقب فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه، أو الحبس والخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون؛ هذا كله من أنواع الصبر الاختياري العظيم الأجر، وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبراً اختيارياً، فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره، كان يمكنه أن يتوقف عن الدعوة إلى الله عز وجل، لكنه آثر واختار أن يسير في مشوار الدعوة اختياراً، صبر على هذا صبر اختيار، فكان هذا أعظم من الصبر الاضطراري.
وكذلك فقد حبس المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب أبي طالب، ولما مات أبو طالب اشتدوا عليه.
إذاً -أيها الإخوة- هذه الأنواع من الصبر أنواع عظيمة جداً؛ لأن أصحابها قد اختاروا الصبر في ذات الله عز وجل اختياراً من أنفسهم، وهذا هو الذي يحمل الإنسان على المجاهدة في سبيل الله عز وجل، ولذلك كان الأمر الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم موجه لنا أيضاً {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] ما قال: فاصبر كما صبر أيوب، إنما قال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] لأن صبرهم كان قمة صبر الاختيار، وهؤلاء أولو العزم هم الذين صار عليهم مدار الشفاعة يوم القيامة، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم وأصبرهم لحكم الله، وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى محمد صلى الله عليه وسلم.
إن قال إنسان: هل الصبر على فعل المأمور أفضل أم عن فعل المحظور؟ أي: الصبر على الطاعة أفضل أم الصبر عن المعصية؟ هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: بأن الصبر على فعل الطاعة أعلى من الصبر عن فعل المعصية؛ لأن الأصل المأمور، وما جاء النهي عن المحظور إلا تكملة وحفظاً للمأمور، صار الصبر على فعل المأمور أعلى.
ويقول ابن القيم رحمه الله: يكون الصبر في وقت المأمور وفي الوقت المحظور هو الأفضل، فإذا حضرك شيء محظور كان الصبر عنه هو الأفضل في ذلك الوقت، وإذا حضرك شيء مأمور به صار الصبر عليه هو الأفضل في وقته.(74/6)
أنواع الصبر عند ابن القيم
وقسم بعض العلماء كما يقول ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: الصبر إلى ثلاثة أنواع: 1 - صبر لله.
2 - صبر مع الله.
3 - صبر بالله.
- فأما الصبر الذي بالله: فإن الله إذا لم يصبرك لم تصبر، فلذلك يقول الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] لأن الله عز وجل إذا ما صبرك لا تصبر، لأن الصبر آتي من الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يرزقك الصبر.
وأما الصبر لله: فهو أن يكون لوجه الله، فإن بعض الناس قد يصبرون عن أشياء لكن ليس لوجه الله، -مثلاً- على فعل الصلاة رياء، فيجب أن يكون صبره لله، إنسان يصلي أمام الناس من أول الصلاة إلى آخر الصلاة وهو يصبر نفسه ويحبسها على أفعال الصلاة، ولكن ليس صبراً لله وإنما لمراءاة الناس، فهذا لا يكون صبراً لله.
- وأما الصبر مع الله: فبعض الصوفية يعرفونه بتعريفات منحرفة، ولكن يوجه ابن القيم رحمه الله هذه القضية، فيقول: الصبر مع الله، أي: مع أوامر الله بحيث يدور الإنسان المسلم معها حيث ما دارت، فأينما توجهت به الأوامر توجه معها، فهذا الإنسان يكون صبره دائماً مع الله عز وجل، حيث ما كانت مرضاة الله فهو يصبر.(74/7)
صبر النعمة
هناك أشياء في الصبر لا بد للإنسان المسلم منها، أحياناً يتصور الإنسان أن الصبر هو على قضية البلاء، لكن -أيضاً- لا بد أن يتصور الإنسان المسلم أن الصبر على النعماء لا يقل شدة عن الصبر على البلاء، ولذلك يقول بعض السلف: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر".
أحياناً الإنسان في مواجهة التحدي والمصاعب يصمد ويصبر، لكن إذا فتح عليه من زهرة الدنيا وزينتها لا يصبر.
ويقول بعض السلف أيضاً: "البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون".
فعلاً! قد تجد بعض الكفار يصبرون على البلاء، قد تجد كافراً لا يتسخط ولا يشتكي، لكن لا يصبر على العافية إلا المخلصون والصديقون، فإذا جاءتك نعمة من الله عز وجل فكيف يكون صبرك عليها؟ أولاً: ألا تركن إليها ولا تغتر بها؛ هذا من الصبر في حال النعمة.
ثانياً: ألا تنهمك في نيلها وتبالغ في استقصائها، كمن يبالغ في الأكل والشرب والجماع، حتى يؤدي ذلك إلى ضد ما يتمنى، فيؤدي به الإفراط في الأكل والشرب إلى التخمة، وإلى أن يضطر إلى أن يحمي نفسه عن الأكل والشرب، ويؤدي به الإفراط في الجماع إلى استنزاف قواه، وخور قواه العقلية أيضاً، ولذلك لا بد أن يحفظ الإنسان نفسه ولا يفرط في هذه الأشياء.
ثالثاً: الصبر على أداء حق الله في هذه النعم، حتى لا يضيع الإنسان هذه الأشياء فيسلبها الله منه.
رابعاً: أن يصبر عن صرف هذه الأشياء في الحرام؛ هذا كله من صبر النعمة.
وكان بعض الصالحين يحمل في جيبه رقعة يخرجها كل ساعة فيطالعها إذا غفل، وكان مكتوب فيها: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] فإن الإنسان قد يصبر في الضراء لكن لا يصبر في السراء، فيجب أن يكون الصبر مصاحباً له في جميع الأحوال.(74/8)
الصبر وقوة الإقدام والإحجام
والصبر -أيها الإخوة- من أشق الأشياء على النفوس، وهذه المسألة التي سنذكرها الآن مهمة جداً.
النفس فيها قوتان: 1 - قوة إقدام.
2 - قوة إحجام.
النفس فيها قوة تجعل الإنسان يقدم في مواطن، وكذلك فيها قوة تجعل الإنسان يحجم.
فيجب على الإنسان بعملية الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى الأشياء التي تنفعه، وقوة الإحجام يجعلها بالصبر إحجاماً عما يضره.
ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به أقوى من صبره على ما يضره، فلذلك تجد بعض الناس يصبرون على مشقة الطاعة ولكنهم لا يصبرون عن المعصية، فهو قد تحكم في قوة الإقدام ففعل الطاعة، لكنه ما تحكم بصبره في قوة الإحجام فيقع في المعصية، فيقول ابن القيم رحمه الله: "فكثير من الناس -وهذه حالة عجيبة موجودة عند بعض الناس فعلاً- يصبر على مكابدة قيام الليل - يقوم في الليل ويكابد ويصبر على الطاعة- في الحر والبرد، ويصبر على مشقة الصيام ويصوم ولكنه لا يصبر على نظرة محرمة".
فعلاً قد تجد بعض الناس يصلي الفجر في المسجد ويواظب على الصلاة ويصوم صيام النفل، لكنه إذا رأى امرأةً تعبر الطريق لم يتمالك نفسه عن النظر إليها.
وكثير من الناس له صبر عن المعاصي، لكن ليس له صبر على الطاعات، فقد تجد بعض الناس يصبر على الشهوات؛ ولا ينظر إلى المرأة الأجنبية، ولا يتلذذ بالمحرمات، لكنه لا يستطيع أن يصبر نفسه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين؛ وهذا أيضاً حاصل، ما هو السبب في حدوث هذه الصورة المتناقضة؟ السبب يرجع إلى أمرين: 1 - القوة التي تدعوك: الجاذبية التي تدعوك لعمل هذا العمل.
2 - سهولة عمل هذا الفعل بالنسبة للإنسان.
فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشق شيء على الصابر، فلو كانت قوة الداعي إلى فعل هذا الأمر قوية جداً، مثلاً: إنسان شهوته قوية جداً، وقضاؤها ميسر له، فعند ذلك يكون الصبر في هذا الموقف في أعلى الدرجات، وإن فقدا معاً إذا لم تكن هناك قوة تدفعك إلى فعل هذا الأمر المحرم، وأيضاً هذا الأمر صعب جداً لا يكاد يوجد -نادر- فيكون الصبر في هذه الحالة سهل؛ لأنه ليس هناك قوة تدفعك إلى هذا العمل، وفي نفس الوقت هذا العمل صعب جداً أن يتوفر، فلذلك يكون الصبر سهل جداً، وبحسب تفاوت العامل الأول والثاني يتفاوت الصبر.
وقد يوجد أحدهما ويفقد الآخر، فمثلاً: هناك أناس ليس عندهم دافع إلى القتل والسرقة، وفي نفس الوقت القتل والسرقة قد يكون صعب فعلهما، ففي هذه الحالة يكون صبره على القتل والسرقة سهلاً.
وقد يكون الداعي إلى هذا العمل أحياناً قوياً وسهلاً، فيكون الصبر عليه شديداً، ولذلك كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشاب عن الفاحشة، وصبر الغني عن اللذات والشهوات، صبره عند الله بمكان عظيم؛ لأن الإنسان عندما يكون في السلطة والمنصب يكون الداعي إلى ظلم الناس كبير الداعي لهم بفعل التسلط والتجبر والارتفاع عليهم، وكذلك العملية سهلة، فكونه يصبر نفسه ويكون إماماً عادلاً صار هذا الصبر عظيماً.
لذلك كان من السبعة الذين يظلهم الله، الشاب الذي يصبر على الفاحشة، داعي العمل، الرجل الذي (دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) هذا الرجل الشاب داعي الفاحشة في نفسه قوي؛ لأنه شاب.
والداعي الثاني: أن المرأة متيسرة، فلما صبر عن هذه القضية صار من السبعة الذين يظلهم الله، فصار صبرهم عند الله بمكان؛ لأن الداعي قوي، والفعل سهل ومتيسر، ومع ذلك صبروا.
وهاتان المسألتان -أيها الإخوة- مهمتان، لماذا؟ لأنهما تعللان لنا لماذا الناس -أحياناً- يصبرون على طاعات كثيرة، لكنهم لا يصبرون على آفات اللسان.
لماذا كان الصبر عن آفات اللسان شديداً؟ لأنه متيسر؛ حركة اللسان سهلة جداً، فلذلك أصبح الكلام في عيوب الناس من فاكهة الإنسان، فكثير من الناس يقعون في الغيبة، والنميمة، والكذب، والثناء على النفس، وتزكيتها، مع أنهم يصلون مع الناس في المساجد، ويؤدون الزكاة، ويصبرون في الصيام، ويفعلون أشياء كثيرة جداً، بل قد يدعون إلى الله، وقد يصبرون على المشاق، لكن آفات اللسان عندهم متفشية؛ لماذا؟ لأن قضية اللسان سهلة متيسرة؛ فلذلك يقع فيها الإنسان، فكان الصبر في هذه الحالة قوياً جداً.
فإذا اعتاد العبد على المعاصي اللسانية فإنه يعز عليه الصبر عنها؛ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: ولهذا تجد الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتورع عن استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة -أي: لو أعطيته وسادة حرير لا يمكن أن يستند عليها ولو لحظة واحدة- وكذلك يتورع عن الدقائق من الحرام، والقطرة من الخمر، ومثل رأس الإبرة من النجاسة؛ ولو أصابه قليل منها ذهب يغسل ويحتاط، لكنه إذا جاء إلى مسائل الغيبة والنميمة والتفكه في أعراض الخلق أطلق فيها لسانه؛ لسهولة العملية، بل وصل الأمر ببعضهم كما يقول ابن القيم رحمه الله إلى حالة عجيبة، فيقول: وكما يُحكى أن رجلاً خلا بامرأة أجنبية، فلما أراد مواقعتها قال: يا هذه! غطي وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام.
فالدافع للشهوة عنده قوي!! النظر إلى وجه الأجنبية حرام، ثم يقع عليها ويواقعها.
هذا كله من الورع الفاسد، وهذا الورع يشبه ورع ذلك الرجل الذي جاء في الحج إلى ابن عمر يسأله عن دم البعوض في الإحرام؟ فقال ابن عمر: من أين أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: (تسألني عن البعوض وقد قتلتم ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: هما ريحانتاي من الدنيا) السبب أن هناك أناساً عندهم هذا الانحراف فعلاً، وهذه الازدواجية العجيبة، وعندهم مثل هذا الورع الفاسد، ما هو السبب؟ السبب يعود إلى قوة الدافع، وسهولة حصول الأمر.(74/9)
أهمية الصبر
الصبر له أهمية عظيمة، فالذي يتدبر آيات الكتاب العزيز يجد جانباً كبيراً من هذه الأهمية، فتجد أن الله عز وجل، كما يقول الإمام أحمد رحمه الله: عظم أمر الصبر في القرآن جداً، فأمر به في قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] ونهى عن ضده، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139]، وقال: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] نهى عن ضد الصبر، وعلق الفلاح على الصبر، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] وأخبر عن مضاعفة الأجر للصابرين بأضعاف مضاعفة وبغير حساب، فقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] بل إنه يضاعف بغير حساب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
قال أحد السلف: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر؛ لأن الله قال: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولذلك كان أجر الصوم غير مقدر، كما يقول الله في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) لأن الصوم يتعلق أساساً بالصبر؛ وهو عبارة عن حبس النفس ومنعها عن الطعام والشراب والجماع والغيبة إلى آخره، بل إن الله علَّق الإمامة في الدين، على الصبر واليقين، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فإن الله عز وجل جعل طائفة من الناس أئمة؛ يأتم بهم الناس ويقتدون بهم {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فإذا أراد أحد منا أن يكون إماماً للناس يقتدى به، فعليه أن يأخذ بالصبر بالدرجة الأولى {وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] ولذلك كان من أقوال ابن تيمية رحمه الله: "بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين".
بل إن الله جعل للصابرين ظفراً ليس مثله ظفر، وهو: الظفر بمعيته عز وجل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
وجمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم، وهي: 1 - صلاة منه عليهم.
2 - رحمته لهم.
3 - هدايته إياهم.
ما هو الدليل؟ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فجمع لهم ثلاثة أشياء ما جمعها لأحد غيرهم: صلوات من ربهم، ورحمة، واهتداء.
وكذلك جعل الله الصبر عوناً لنا، فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] فجعله عوناً وزاداً وسلاحاً.
وعلق النصر على الصبر، فقال عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن النصر مع الصبر).
وأخبر سبحانه وتعالى أن الملائكة تسلم على المؤمنين في الجنة لصبرهم، فقال سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] صبرتم على ماذا؟ صبرتم على الطاعة، وعن المعصية، وعلى أقدار الله تعالى، وعلى المصائب.
وكذلك جعل الله أهل محبته هم أهل الصبر، فقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
وأخبر أن خصال الخير لا تجتمع ولا تعطى ولا تلقى إلا للصابرين، جاء في موضعين في القرآن، يقول الله عز وجل في قصة العلماء الذين كانوا من بني إسرائيل وكانوا صالحين وهم من قوم قارون: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80].
وكذلك قال عز وجل عمن صار بينه وبين أحدٍ عداوة فعامله بالحسنى، قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
إذاً: خصال الخير كلها تجتمع في الصابرين.
وأخبر عز وجل بأنه لا ينتفع بآياته إلا أهل الصبر، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5].
والله عز وجل قرن بين الصبر وبين أشياء عظيمة، عندما تجده مقترناً بشيء عظيم فإن هذا يدل على عظمته هو، فقرن الله الصبر بالتقوى، وقرن الصبر بالعمل الصالح، وقرن الصبر بالمرحمة، فمن اقتران الصبر بالتقوى قوله عز وجل: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90]، وكذلك قرن الله الصبر بالوحي، فقال: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس:109]، وقرن بين الرحمة والصبر فقال عز وجل: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].
وبالنسبة للصبر والرحمة فهذه الأشياء لو اجتمعت فيكون أنواع الناس في الصبر والرحمة أربعة أنواع: 1 - أن يصبر ولا يرحم.
2 - أن يرحم ولا يصبر.
3 - أن يصبر ويرحم.
4 - ألا يصبر ولا يرحم.
يقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى كلاماً جميلاً عن هذه الآية: إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والفساد، فهم يصبرون ويجالدون لكنهم لا يرحمون.
ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين، مثل كثير من النساء ومن يشبههن.
أي: أن من طبيعة النساء أنهن يرحمن ولكن لا يصبرن؛ فقد تجد المرأة فاسقة والعياذ بالله، لكن إذا رأت طفلاً يحتاج إلى إرضاع وجائع رحمته وأرضعته، وقد تكون ممن لا تصبر على الفواحش؛ وهذه خصلة في المرأة أكثر من الرجل ينبغي على المرأة الانتباه إليها أنها قد ترحم ولكن لا تصبر، فلا تعتبر نفسها إذا رحمت أنها بخير إذا كانت من غير أهل الصبر، يجب عليها أن تجمع إلى رحمتها الصبر.
ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع.
أناس عصاة يصبرون لأن عندهم جلد لكن عندهم هلع لا يصبرون أيضاً.
قال: والمحمود هو الذي يصبر ويرحم.
والصبر -أيها الإخوة- هو زادٌ في طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، كما قال صاحب الظلال رحمه الله.
الصبر على أشياء كثيرة، الصبر على شهوة النفس ورغباتها وأطماعها ومطامحها وضعفها ونقصها وعجلتها ومللها من القريب، أي: أن النفس تميل بسرعة.
الصبر يكون في مجالات كثيرة من أعظمها: الصبر عن شهوة النفس، وكذلك: الصبر عن شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طبعهم وأثرتهم وغرورهم والتوائهم واستعجالهم الثمار.
إذا كنت داعية تدعو إلى الله عز وجل لا بد أن تصبر على ما تواجهه من الناس؛ لأنك ستواجه أشياء كثيرة، منها: الشهوات: رجل عنده شهوة المال، فإذا دعوته لا يستجيب، وآخر عنده شهوة محرمة فلا يستجيب لك، ويصمم على النظر إلى المرأة الأجنبية والاستمتاع والتلذذ بالمحرمات، وإنسان عنده شهوة منصب لا يستجيب لك؛ وشهوة المنصب تحمله على الغرور، وعلى التعسف، وعلى رفض الحق الذي تدعو إليه، وهم عندهم جهل، تأتي تناقش بعضهم بأشياء فتجده في غاية الجهل، فتجد مِنْ نفسك أنه لا بد أن تقطع مشواراً طويلاً حتى توصل هؤلاء الناس إلى جانب من العلم لا بد لهم منه، فإذا ما صبرت على جهلهم وأحياناً يفعلون أشياء عجيبة جداً، فإذا ما صبرت نفسك على جهل هؤلاء، فإنك ستيئس من دعوة أولئك الناس.
وكذلك سوء تصورهم: الناس عندهم سوء في التصور؛ تصوراتهم في العقيدة تصوراتهم في القضاء والقدر تصوراتهم في مغفرة الله ورحمته تصورات سيئة في أشياء كثيرة جداً، فلا بد من الصبر على سوء تصور الناس، وبعضهم عندهم غرور، والتواءات نفسية، ومزالق، تأتي للواحد من اليمين يذهب في الشمال، تأتي من هنا فيذهب من هناك، يروغ منك كروغان الثعلب، لا بد من الصبر على التواءات الناس.
وكذلك الصبر على تنفش الباطل، ووقاحة الطغيان، وانتفاش الشر، وغلبة الهوى، وعلى تصعير الغرور والخيلاء، فإن الإنسان إذا رأى انتفاشة الباطل ولم يكن عنده صبر، فإن هذا الأمر سوف يُؤدي به إلى اليأس والقنوط، وفقد الأمل تماماً في الوصول بالأمة إلى المرتبة التي يريدها الله عز وجل.
والصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق، ووسواس الشيطان في ساعات القرب والضيق؛ وكل كلمة من هذه الكلمات تحتاج إلى دروس كاملة.
الصبر على قلة الناصر، هذه الأشياء التي يحس بها الدعاة إلى الله عز وجل وهم يدعون الناس؛ الناس كثرة في الشر، وهؤلاء الدعاة قلة من أهل الخير، فلا بد من الصبر على قلة الناصر، وضعف المعين، وطول الطريق؛ طريق الشر قصير وسهل، وطريق الخير طويل وشاق وصعب.
يعتريه وسواس الشيطان، شيء من النفس الأمارة بالسوء، وشيء من القرين ال(74/10)
أشياء مناقضة للصبر
من الأشياء المقابلة والمعاكسة للصبر: عملية الاستعجال: كثير من الناس وحتى الدعاة إلى الله يستعجلون الثمرة، يريدون من الناس أن يلتزموا بالإسلام بسرعة، ويريدون من الناس أن يتمسكوا بسرعة، ويريدون من الناس أن يتركوا المنكرات بسرعة وبدون صبر على هؤلاء الناس، وهذا لا يحصل، بل إنه حتى لو التزم هؤلاء الناس فإنهم يريدون منهم أن يترقوا في مدارج العلم ومدارج التربية بسرعة، يريد منه أن يصل في لحظة من مرحلة ترك المعصية، والبعد عن المنكرات إلى مرحلة العلم، وإلى مرحلة التصورات الصحيحة، وإلى مرحلة العمل للإسلام بسرعة كبيرة، يريد أن ينقله نقلة بعيدة في وقت قصير جداً؛ هذه العملية دون صبر لا تصلح، ولذلك ترى ثمرات هؤلاء العاملين الذين عدموا الصبر في هذه المواقف ثمراتٍ ناشفة غير ناضجة لماذا؟ لعملية الاستعجال المنافية للصبر.
أحياناً الإنسان يتسرع فيحكم على الناس بالخطأ، وأحياناً يتسرع فلا يعذرهم، ولو أنه صبر لكان خيراً له؛ حتى طالب العلم يحتاج إلى الصبر في أشياء كثيرة، أحياناً الإنسان يتسرع فيأخذ علماً من العلوم وهناك ما هو أهم منه، فلا بد أن يصبر ويتريث، وأحياناً يقرأ الإنسان ثم يزهق ويمل فلا بد أن يصابر نفسه.
كيف وصل العلماء الكبار إلى حالات عجيبة من الصبر على طلب العلم؟ كيف كان بعضهم له خمسة دروس في اليوم والليلة متواصلة غير وقت الطلب الخاص به الذي يبحث فيه بنفسه ويقرأ فيه، كما كان النووي رحمه الله، فقد كان معه عشرة دروس متواصلة، وكذلك الشنقيطي رحمه الله كان له أكثر من خمسة دروس متواصلة غير وقت الطلب الخاص به، وكيف صبر علماء الحديث، على طلب الحديث وقد كانوا يسافرون في طلب الحديث الواحد الشهور حتى يصلوا إلى مبتغاهم، وهذا الشيخ ناصر رحمه الله من علماء الحديث المعاصرين كان يجلس في المكتبة الظاهرية ليبحث عن حديث، فتراه ينتقل من رف إلى رف يجلس على السلم قرابة خمس ساعات متواصلة وهو يبحث في المجلدات، ويقرأ المخطوطات وهي بهذا الخط الدقيق الصعب القراءة وهو يبحث ليصل إلى نتيجة ما.
تخيل: يجلس على السلم خمس ساعات متواصلة وينظر في الرفوف، ويسحب كتاباً وينزل آخر، ويفتح المخطوطة ويدقق، ويقرأ قراءة تكاد العين تعمى منها فكيف وصل هؤلاء إلى هذه المرتبة؟ لم يصلوا إليها إلا بالصبر الصبر على طلب العلم ومجاهدة النفس.
اصبر على ما كرهت تحظ بما تهوى فما جازع بمعذور
إن اصطبار الجنين في ظلم الـ أحشاء أفضى به إلى النور
والمسلم الداعية الذي لا يعرف الصبر داعية فاشل لا يعلم سنن الله تعالى، فإذا استحكمت الأزمات، وتعقدت في حبالها، وترادفت الضوائق، وطال الليل، فالصبر على الهدى والحق هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط والهداية الواقية من القنوط.
وكذلك أيها الإخوة: عاش السلف -رحمهم الله- في أجواء التربية، يتنقلون من مرحلة إلى مرحلة، وكان رديفهم الصبر دائماً، ولذلك وصلوا إلى هذه المرحلة العالية، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [وجدنا خير عيشنا بالصبر] أحسن العيش أحسن أوقات الحياة التي عشناها كانت بالصبر؛ فلا بد من هذا الدواء الذي أوله مر، ولكن في النهاية يكون حسن الطعم جداً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم هذا الأمر العظيم من أمور الدين، وأن يجعلنا من الصابرين المصابرين المصطبرين في ذات الله تعالى، وأن يجعل صبرنا لله وبالله ومع الله.
هذا آخر ما تيسر ذكره من الكلام على مسألة الصبر، ومن شاء الزيادة فليرجع إلى كتاب: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، وكذلك تكلم ابن تيمية رحمه الله كلاماً جيداً على الصبر في المجلد العاشر من مجموع الفتاوى، وكذا تكلم ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين عن منزلة الصبر، وغيرهم من علماء السلف، فمن شاء الزيادة فليرجع إلى مثل هذه المراجع وغيرها، وأفضل ما يمكن للإنسان أن يعلم به حقيقة الصبر هو: المعايشة اليومية للمشاكل التي تواجهه مشاكل كثيرة جداً مشاكل اجتماعية مشاكل مع نفسه مع الشهوات مصارعات لهذه الشهوات، مع الناس، في الدعوة إلى الله، امرأة تصبر على الحجاب وزوجها يثنيها عنه، وامرأة تريد أن تطلب العلم وتريد أن تجعل من بيتها بيتاً مستقيماً وقد لا توفق بزوج صالح، فلا بد أن تصبر نفسها على هذا البلاء الذي حل بها، الإنسان الداعية في جميع مواقفه، والمجاهد الذي يجاهد في سبيل الله يحتاج إلى الصبر.
فأحسن قضية يمكن أن يتعلم الإنسان فيها الصبر قضية الممارسة والمعايشة اليومية لأحداث الحياة، ولا تكاد تتأمل حادثة من حوادث الحياة التي تمر بك إلا وتحس بأن الصبر هو المفتاح لما أغلق، وهو الدواء والحل لجميع المشاكل التي تواجهها.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله أولاً وآخراً.(74/11)
التعاون بين المسلمين
الإنسان محتاج إلى المعاونة في كافة أمور الحياة، والشرع قد أمر بالتعاون على البر ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان، وفي هذه المادة بيان للتعاون المشروع وغيره مقروناً بالأمثلة، وتوجيه للتعاون لكي يكون على الخير.(75/1)
التعاون على البر والتقوى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الاستعانة بالله عز وجل ركن التوحيد، كما قال الله تعالى وكما نقولها في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وكان عليه الصلاة والسلام يستعين بربه على قومه، فروى البخاري رحمه الله عن ابن مسعود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه، فقال: اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف، فأصابتهم سنَةٌ -أي: قحط- حصت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة).
وقال يعقوب -عليه السلام- لما ذكر له أولاده الكذب في فقد يوسف، ثم قالوا له ما حصل في فقد أخيه الأصغر، قال: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
وكذلك قالها عثمان رضي الله تعالى عنه عندما أخبره أبو موسى بكلام النبي صلى الله عليه وسلم: (افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه.
قال: فقمت ففتحت له وبشرته بالجنة، فأخبرته بالذي قال صلى الله عليه وسلم فقال عثمان: الله المستعان!) رواه البخاري.
وذكر لنا ربنا عز وجل في محكم تنزيله قاعدة عظيمة جداً تحوي أموراً لا يمكن حصرها، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] قال ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم، ففعل الخيرات هو البر نتعاون فيه، وترك المنكرات هو التقوى نتعاون عليه كذلك، ولا نتعاون على إثم كالباطل، ولا على محرم؛ لأن المعاون فيه شريك في الإثم.(75/2)
عمل النبي صلى الله عليه وسلم بمبدأ التعاون وحثه عليه
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد طبق في السيرة العملية هذا الأمر، فقام يعاون ويتعاون في بناء المسجد: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتعاون على بناء المسجد، كما قاموا بالتعاون على إقامة الجهاد وحفر الخندق؛ إنفاذاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاونة على المستوى الفردي، كما قام هو وأصحابه بالتعاون على المستوى الجماعي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (كل سُلامَى عليه صدقة، كل يوم يعين الرجل في دابته يحامله عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة) وقال البراء: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعٍ ومنها: وعون المظلوم) رواهما البخاري رحمه الله.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (على كل مسلمٍ صدقة، فقالوا: يا نبي الله! فمن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف) فهذه الإعانة صدقة عظيمة لمن لم يستطع أن يستقل بعملٍ بنفسه، فيعين غيره فيكون شريكاً في الأجر.
وأمرنا عليه الصلاة والسلام بإعانة العبيد فيما كلفناهم به، فقال: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) رواه البخاري.
والإعانة إذا كانت في أمرٍ نفيسٍ وشيءٍ عظيمٍ ذي مرتبةٍ في الدين، فإن المعاون فيها له أجر عظيم.
قال الإمام مسلم رحمه الله: باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوبٍ وغيره وخلافته في أهله بخير.
وقال البخاري رحمه الله: قال مجاهد: [قلت لـ ابن عمر: الغزو، قال: إني أحب أن أعينك بطائفة من مالي، قلت: أوسع الله علي، قال: إن غناك لك، وإني أحب أن يكون من مالي في هذا الوجه] أي: لا تحرمني من المعاونة والأجر.
وعلى المستوى الاجتماعي بين الرجل والمرأة كلٌ منهما يعين الآخر في البيت، قال البخاري في صحيحه: باب عون المرأة زوجها في ولده، وأخذ ذلك من حديث جابر رضي الله عنه أنه تزوج ثيباً لتعينه على القيام بأخواته، وهذا من شيمة المرأة الصالحة أنها تعين زوجها حتى فيما لا يجب عليها، كخدمة أهله وأخواته، هي مكلفةٌ ببيتها، ولكن إذا تعدت الإعانة إلى أهل زوجها وأخواته فإن ذلك من جميل العشرة، ولها فيه أجرٌ عظيم.
هذه نماذج من الإعانات على سائر المستويات، وهكذا يفهم قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].(75/3)
النهي عن التعاون على الإثم والعدوان
وأما التعاون على الإثم والعدوان فإنه حرام ولا يجوز وقد نهانا الله عنه، فلا نعين على محذور، وقد فهم الصحابة ذلك حتى في الأمور الدقيقة، فعن عبد الله بن أبي قتادة أن أباه حدثه، قال: (انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم أحرم، فأنبأنا بعدوٍ فتوجهنا نحوهم، فبصر أصحابي بحمار وحشٍ، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبته، فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني، فأكلنا منه، ثم لحقنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إن أصحابك أرسلوا يقرءون عليك السلام ورحمة الله وبركاته، وإنهم قد خشوا أن يقتطعهم العدو دونك فانظرهم ففعل، فقلت: يا رسول الله! إنا اصطدنا حمار وحشٍ، وإن عندنا فاضلةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وهم محرمون)، وفي رواية: (أن هذا الرجل استعان أصحابه، فقالوا: لا نعينك عليه بشيء، فإنَّا محرمون)، وفي رواية أيضاً عنه رضي الله تعالى عنه قال: (كنا في منزلٍ في طريق مكة، والقوم محرمون وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً وأنا مشغولٌ أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا في أنفسهم لو أني أبصرته، والتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيءٍ، وفي القصة أنه خبَّأ عضداً، ولما أدرك النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن الحكم؟ قال: معكم منه شيءٌ، فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها حتى نفذها وهو محرم) كل الروايات في صحيح الإمام البخاري رحمه الله.
فلم يعينوه على المحظور، وأما الأكل مما صاده الحلال غير المحرم فهو جائزٌ للمحرم.
وقال عليه الصلاة والسلام لمَّا أقيم حدٌ على إنسان مسلم وأقامه الصحابة قالوا: فمنَّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله -لهذا المحدود- فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، وفي رواية: (لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم) رواهما البخاري.
فإذا كان المحدود قد جُلِد والحد كفَّارة له؛ فلأي شيء يُدعى عليه، ولأي شيء يَشْعُر أنَّ إخوانه أعداؤه، فيكونون عوناً للشيطان عليه، بل الواجب تسهيل المشوار عليه بعد التوبة، واستقباله بعد تطهيره بالحد استقبالاً حسناً.
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبلَ بدر، فلما كان بـ حرة الوبرة -وهو مكان بعد المدينة - أدركه رجلٌ يذكر منه جرأة ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه -أي: رأوا هذا المشرك الشجاع المحارب جاء يلتحق بهم- فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم رجع فأدركه بالبيداء؛ فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق وادخل في الجيش نستعين بك الآن) الحديث في صحيح مسلم.
فإذاً قد يكون الحرام في الاستعانة في الشخص المستعان به، وقد يكون الحرام في موضوع الاستعانة؛ ولذلك لا بد أن يكون التعاون على البر والتقوى بالشروط الشرعية، وألا نتعاون على الإثم والعدوان.
وفقنا الله عز وجل لفعل الخيرات، وترك المنكرات، والتعاون على البر والتقوى، إنه سميعٌ مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(75/4)
نماذج من الاستعانة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن من الاستعانة والتعاون ما يكون واجباً، ومنه ما يكون مستحباً، ومنه ما يكون مباحاً، ومنه ما يكون مكروهاً، ومنه ما يكون محرماً.
فمثل الواجب: إعانة المضطر على الطعام والشراب بإعطائه ما يحفظ عليه حياته، وكذلك إنقاذ كل معصومٍ من غرقٍ أو حرقٍ أو نحو ذلك، فإذا كان الإنسان قادراً عليه وجبت الإعانة عليه وجوباً عينياً، وكذلك إعانة الصغير لإنقاذه من مهلكة واجبة، وتجب الإعانة لتخليص المال المحترم -أي: الذي له حرمة في الشريعة- قليلاً كان أم كثيراً، حتى أن الصلاة تقطع لأجل ذلك.
والإعانة في دفع الضرر العام عن المسلمين أو الخاص عن مسلم واجبةٌ أيضاً: (المسلم أخو المسلم)؛ بل إن إعانة البهائم واجبة إذا كانت عند الإنسان، ولذلك دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها ولم تطعمها، بينما دخل الجنة رجلٌ في كلبٍ أعانه على شربٍ في مهلكة وعطش، فسقاه فشكر الله له فغفر له، وقال عليه الصلاة والسلام: (في كل ذات كبدٍ رطبٍ أجر) فهذا إذا كان مستحباً فإن الإعانة مستحبة.
والمباحة تعامل الناس في التجارات وغيرها في الحلال.
والإعانة على المكروه مكروهة؛ كالإعانة على إسراف لا يصل إلى درجة التحريم.
وينبغي الانتباه لعدم الوقوع في الإعانة المحرمة وهي كثيرةٌ جداً في هذا الزمان، فإن عدداً من الناس يعينون على الحرام؛ كتوفير الخمور والإتيان بها، أو الإعانة على الزنا وتسهيل طريقه، أو الدلالة عليه، أو على مكانه، أو على البغي، وكذلك الإعانة على الخصومات المحرمة، وإعانة الظالم مصيبة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن الظلمة ذكر أن من صدَّقهم في كذبهم وأعانهم في ظلمهم فليس مني ولست منه.
وكذلك الإعانة على غير الحق أمر مذموم ومحرم؛ ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً كما جاء عند ابن حبان: (مثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثلٍ بعيرٍ تردى في بئرٍ فهو ينزع منها بذنبه) فكيف يخرج إذاً من هذه الورطة التي ورط نفسه فيها، بإعانته على الإثم والعدوان وعلى غير الحق، يعين قومه تعصباً لهم، وعدد من الناس يعينون في استيلاء من ليس له حقٌ على أرضٍ، ويعينون في شهادة زورٍ، ويعينون في اعتداء شخصٍ على وظيفة لا يستحقها، ويسهلون دفع الرشاوي، وكل ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، ويدلون على ذلك.
وصور التعاون على المحرم -مع الأسف- في هذا العصر قد كثرت، ولذلك كان لا بد من التنبه لهذه المصيبة العظيمة، حتى صار الناس يدل بعضهم بعضاً على الشر والعياذ بالله؛ في رؤية أماكن معينة، أو قنواتٍ معينة، أو الذهاب إلى أمكنةٍ معينة محرمة.
إنه حرام أن توصله بسيارتك إلى ذلك المكان، أو تدله على العنوان، أو غير ذلك من وسائل الإعانة.
إن المتبصر في الواقع -أيها الإخوة- ليرى أن عدداً من المسلمين قد ضربوا بقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] عرض الحائط! فلا يستجيبون إلى ذلك؛ فيشاركون في الإثم والعدوان يشاركون في الحرام والاعتداء، وبعضهم يقول: أنا لم أفعله ولم أرتكبه، نقول: ولكنك ساعدت غيرك عليه دللته عليه سهلت طريقه إليه، إذاً أنت شريك في الإثم، ولو أن إنساناً أمسك شخصاً لآخر كي يقتله اقتص منهما جميعاً، فإذاً المشارك في الإثم له نصيبٌ منه، وكل بحسبه والله لا يظلم أحداً.
اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا ممن يخافك ويتقيك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا ممن يتعاونون على البر والتقوى، ولا تجعلنا ممن يتعاونون على الإثم والعدوان.
اللهم اجعلنا دعاةً إلى سبيلك، مستمسكين بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: ما أعظم النعمة عندما يتعاون عباد الله تعالى على الدعوة إلى الله عندما يتعاونون على هداية شخص، فيكلِّمه هذا بأسلوب، ويأتيه هذا بأسلوبٍ آخر، ويزورانه جميعاً، أو يجعلون له بيئة خيرٍ تجذبه إلى الخير وأهله إنهم شركاء في الأجر العظيم، ما أعظم النعمة على قومٍ تعاونوا على طلب العلم! فهذا يوصل بسيارته، وهذا يدل على مكان الدرس وموعده، وهذا يعطي آخر ما فاته من الدرس إنه تعاونٌ على البر والتقوى، هذه أشكال المعاونة التي نريدها على صعيد التربية والدعوة وطلب العلم وفعل الخيرات عموماً.
إن التعاون بالشفاعة الحسنة -وليست الواسطة المحرمة- والتدخل الحميد؛ لإيصال حقٍ إلى صاحبه، أو إعانته على زواجٍ -مثلاً- يعفُّ به نفسه، فيدله على امرأة صاحبة دين أو بيت صلاحٍ يخطب منه، ويعين المسلمون أخاهم في تجميع المهر، أو يأتي الواحد بشاةٍ أو غيرها يعينونه على الوليمة؛ طوبى لهم وأجرٌ عظيم -إن شاء الله- بهذا التعاون المبارك، فلا بد من إحياء هذه الشعيرة التعاون على البر والتقوى فيما بيننا.
نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا، وأن يستر عيوبنا، ويقضي ديوننا، ويشفي مرضنا، ويرحم موتانا، والحمد لله رب العالمين.(75/5)
حفظ الدين
من أهم مقاصد الشريعة حفظ الدين، وهذا الدين لاشك أن له أعداءً كثيرين من داخله ومن خارجه.
ولقد تعهد الله بحفظه وبشر رسوله بانتشاره، فوضع سبحانه وسائل لحفظه: فالعمل به أولاً والجهاد لإقامته ثانياً، والدعوة إليه ثالثاً، والحكم به رابعاً، ورد كل ما يخالفه خامساً، من أهم وسائل حفظ الدين.(76/1)
حفظ الدين أول مقاصد الشريعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن المقصد الأول من مقاصد هذه الشريعة هو حفظ دين الله عز وجل حفظ الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى وجعله مهيمناً على سائر الأديان، ولم يرتضِ من عباده غيره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، ولذلك تكفل الله بحفظه، وأما بقية الأديان فلم يبقَ منها دينٌ إلا وهو محرفٌ، أو مشوَّهٌ، أو مختلطٌ بآراء البشر.
لقد جاءت هذه الشريعة -أيها الإخوة- بوسائل متعددة لحفظ الدين ينبغي أن نتمعن فيها، لأننا إذا عرفنا طريقة الشريعة لحفظ الدين التزمنا هذه الطريقة، وحرصنا عليها، ووجب علينا أن نسلك السبل التي جاءت بها الشريعة لحفظ الدين.
إن الناس بدون دين كوحوش في الغابة، قويهم يأكل ضعيفهم، وظالمهم مسيطرٌ على مظلوهم، والناس بدون دين أموات {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
الناس بدون دين بهائم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وطرق الشريعة لحفظ الدين: العمل به أولاً، والجهاد من أجل إقامته ثانياً، والدعوة إليه ثالثاً، والحكم به رابعاً، ورد كل ما يخالفه خامساً.(76/2)
حفظ الدين بالعمل به وإقامة أركانه
لقد حفظت الشريعة الدين، وجاءت بالوسائل الكفيلة لحفظه من جهتين أولهما: المحافظة على ما يقيم أركانه ويثبِّت قواعده.
ثانيهما: درء الفساد الواقع، أو المتوقع عليه، والمحافظة بدرء ما يحرفه أو يزيله.
فأما العمل بالدين -وهو الطريقة الأولى لحفظه وإقراره في الواقع- فإنه من المعلوم أن الله ما شرعه إلا ليُعمَل به، لا لتحفظ ألفاظه فحسب، ولا ليحفظ الكتاب رسماً فحسب، ولا لتحفظ السنة حروفاً وكلمات فحسب، وإنما شرع الله الدين لإقامته والعمل به، ولو حُفِظَت نصوصه وضيعت معانيها ولم يُلتزم بها؛ فلا نُعتَبر قد قمنا بشيء هو المطلوب منا، ولذلك كان حفظ الدين فرضاً علينا لا في نصوصه فقط، وإنما بالعمل به أيضاً، وبعض أعداء الدين يناسبهم أن يحفظ بعض الأطفال القرآن، ولذلك تراهم يتباهون به، لكن أن يُطَبَّق القرآن فهذا شيءٌ آخر.
والمسلم معنيٌّ بتطبيق الدين في واقع الحياة، ومن أقام الدين في نفسه فهو معين على إقامة الإسلام في الأرض، فإذا أقامه كل واحد قام الدين، والشريعة فيها واجبات عينية، وواجبات كفائية، فالواجبات العينية لا بد على كل إنسان أن يقيمها؛ كالصلاة مثلاً، والواجبات الكفائية لا بد أن تقوم بها الأمة بأجمعها، بحيث إذا أخلَّت به، أثم جميع أفرادها، فإذا كان الجهاد في الأصل فرض كفاية، فإذا حقق سلمت الأمة من الإثم، وإذا ضُيِّع أثم المسلمون جميعاً.
وحفظ الدين واجبٌ على كل إنسان مكلفٍ بإقامة أركانه وواجباته؛ كإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك من فرائض الإسلام العينية التي يجب أن يقام بها، ولأجل تكميل ذلك شرعت الشريعة المندوبات استحباباً للقيام بها، وترك المكروهات -أيضاً- من الدين للمحافظة على أصوله وخطوطه وقواعده.
ومن هنا ندرك -أيها الإخوة- الفرق بين المسلمين والإسلام، فأعمال المسلمين في ذاتها قد تكون صواباً، وقد تكون خطأً قد تكون حقاً، وقد تكون باطلاً، وأما الإسلام فلا يكون إلا حقاً غير محتملٍ للباطل، والعمل بالدين يؤثر في حياة الناس، وعندما يحصل الاختلال في التطبيق، والتغاير بين العمل والدين؛ فإن ذلك العامل بالخطأ لا يقال عنه: إنه عاملٌ بالدين، وكم شوهت هذه الأعمال من الدين، وكم منعت من الدخول فيه، وكل من يمارس عملاً خاطئاً متعمداً معلناً به فهو من الذين يصدون عن سبيل الله بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، حتى الذين يظلمون العمال الكفرة -مثلاً- فيظن هؤلاء الكفرة أن هذا هو الإسلام، فإن كل ظالمٍ لهم آثمٌ وصادٌ عن سبيل الله، وهكذا الذين يذهبون إلى بعض الأقطار من المسلمين يمارسون الفواحش، وبعضهم يمارسونها بين المسلمين، فهؤلاء الذين يعطون الصورة السيئة عن الإسلام بممارساتهم الخاطئة الآثمة هم من الذين يصدون عن سبيل الله هذا من جهة العمل به.
وأما الحكم به فهو ضرورة من ضرورات حفظه؛ لأنه لا يمكن أن يكون الدين محفوظاً إلا إذا صار هو الحاكم في الأرض، والله سبحانه وتعالى قد قيض العلماء ليبينوا للناس الإسلام، فيكون الدين محفوظاً من جهة بيانه ومعرفته، فإنه في كثير من الحالات لا يوجد دين عند بعض الناس، أو في بعض المجتمعات؛ لأنه لا يوجد علماء صدقٍ يُبينون الدين، ويُعلنون حلاله وحرامه، ويُظهرونَه، ويفتون في مسائله لماذا يضيع الدين عند بعض الناس؟ لأنه لا يوجد من أولي العلم من يقوم به ويبينه، ولذلك كان لا بد من الحكم بالدين، فالقاضي والعالم والمفتي الذي يحكم بالدين هو مقيم له في الأرض، ومبين له، ومعلنٌ به، والله تعالى يريد ذلك، وعندما يُحكَم بغير الإسلام فإن هذا إقصاءٌ للدين عن الحياة، وإحلالٌ للأهواء والآراء الشخصية محل دين الله، وأي تضييعٍ للدين أعظم من هذا؟! وأي جنايةٍ عليه أكبر من هذا؟! فعندما يحكم الإنسان بالإسلام ويحكم المسلمون به؛ فإنهم يكونون مطبقين وقائمين بالأمر، لأن الله قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]؛ ولأن الله قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فحفظ الدين في المجتمع بإظهار أحكام الإسلام وشعائره، وإقامه حدوده إقامة الحدود أمرٌ مهمٌ في بقاء الدين الحكم بالإسلام التراجع إلى المحاكم الشرعية إعادة القضايا إلى قضاة الشريعة، كل ذلك أمرٌ مهمٌ في إقامة الدين، والذين لا يعملون ذلك فهم مضيعون للدين، وإنما يخفى الدين بين الناس وبين العوام، لأن القضايا لا ترد إلى الشريعة.
والحكم بالدين وتطبيق أحكامه يسد الباب على أهل الكفر والضلال والانحراف عندما يحاولون نشر مذاهبهم؛ لأنهم لا يتمكنون من ذلك عند إقامة حد الردة في الأرض وفي المجتمع، لا يتمكنون من نشر كفرهم لا تحت ستار البحث العلمي، ولا تحت ستار الحرية الفكرية، وكثيرٌ من الكفر المعلن اليوم في الأرض يعلن تحت ستار البحث العلمي والرسائل الأكاديمية، أو تحت ستار الحرية الفكرية حرية اعتناق المذاهب والأديان والأفكار.(76/3)
حفظ الدين عن طريق الدعوة إليه
الوسيلة الثانية لحفظ الدين وهذا أمرٌ كلنا مأمورون به: أننا -جميعاً- معنيون بإقامة الدين أفراداً وجماعات عن طريق الدعوة إلى الله، فإن الدعوة إلى الله عز وجل وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن أجلها تحملوا المتاعب، وصبروا على الأذى، وقَاتَلوا وقُتِلوا في سبيل الله عز وجل، لا يمكن أن يتصور قيام دين وانتشاره بدون دعوة إليه، وبيانٍ لمحاسنه، وتوضيحٍ لأحكامه وآدابه، وكشف الشبهات عنه.
إن كل صاحب فكرة يريد نشرها يقوم بالدعوة إليها، ويفعله أعداء الإسلام كثيراً، ويضحي بعضهم ويتفانى لأجل ذلك، فيعلنه، وينشره، ويعتمد الأموال لأجل ذلك والأفراد، وتُستَغل سائر الوسائل لنشر الأفكار من القلم إلى الإنترنت وهكذا يقومون بنشر الأفكار، وهكذا تقام المعاهد، وتقام دورات الإقناع، وهذا الجهد النصراني مثالٌ واضحٌ على ذلك، فهم يدرسون مقررات (كيف تقنع مسلماً بـ النصرانية) ونادراً ما تسمع أن مسلماً درس مقرراً، أو تدرب على الدعوة إلى الله عز وجل بشكلٍ مخططٍ له يكافئ الواجب الملقى على عواتقنا في سبيل نشر الدين، بل كثيراً ما نجد المسلمين في غاية التراخي والإهمال والتفريط في واجب الدعوة، أفلا يكون أولى بدعاة الحق الذين يعلمون صدق ما يدعون إليه، وأنه هو الدين الوحيد الصحيح أن يقوموا بالدعوة إلى الله عز وجل، خصوصاً وهم يرون أن الكفار ينشرون الدعوات المغرضة عن الدين بكل وسيلة ممكنة، ويحاولون غرس المفاهيم التي تناقض مفاهيم الدين، ويشوهونه باستخدام الوسائل المختلفة المسموعة والمقروءة والمرئية كل ذلك تشويهاً للدين، ثم نحن نتقاعس عن الدعوة، والرد، وبيان حقيقة الدين! أليس هذا تفريطاً ما بعده تفريط؟! إن ترك الدعوة تهديدٌ واضحٌ لوجود الدين، وطمسٌ لمعالم الدين، وإن ترك الدعوة هو ترك المجال للكفر للظهور، وإفساح المجال للكفرة لتشويه الإسلام عند الآخرين، ويفعلونه في وسائل كثيرة يشوهون الدين وأهل الدين، ولذلك كانت الدعوة إلى الله من أعظم الوسائل وأنفعها لحفظ الدين، والله قد قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] فأول صفتهم أنهم يدعون إلى الخير {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] وهذه من الدعوة، وقال سبحانه وتعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87]، وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وقال صلى الله عليه وسلم: (بلَّغو عني ولو آية).
ماذا قام كل واحد منا بهذا الشأن؟ سؤالٌ يوجهه كل إنسان إلى نفسه: هل دعوت غيرك إلى الإسلام يوماً ما؟ إن كان كافراً دعوته إلى اعتناق الدين الجديد، وإن كان مسلماً مفرطاً دعوته للتوبة والعودة والتمسك بالدين الذي هو عليه، فالدعوة تشمل تعليم الدين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرد على المخالفين، وكشف الشبهات، وفضح المخططات، ليكون الدين واضحاً للناس، فهذا شيءٌ أساسيٌ أنزله الله تعالى في صميم هذا الدين.
إن هذا الدين يعلو ولا يعلى عليه، فكيف سيعلو ولا يعلى عليه إذا لم يقم أهله وأصحابه وأبناؤه بالدعوة إليه؟ الدعوة الدعوة يا عباد الله! فإن فيها تعليماً للجاهل، والذي لم يسمع بالدين من قبل، وكذلك فيها كشف للشبهات، وإظهارٌ للحقائق الواضحات، وتفويت للفرصة على أعداء الإسلام، وتحقيقٌ لشمول الدين وعمومه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28].(76/4)
حفظ الدين بالجهاد في سبيل الله
شرعت هذه الشريعة الجهاد في سبيل الله لحفظ الدين؛ لأنَّ الدعوة تقابل في كثير من الأحيان بالرفض والجحود والإنكار، فيقبلها من يقبلها، وتحصل المنفعة من الدعوة، فإذا رفضها من رفضها فما هو الحل إذاً؟ ما هو الحل في حجر العثرة في الحواجز القوية في السدود المنيعة التي توضع في سبيل انتشار الدين؟ لا حل لذلك إطلاقاً إلا بفل الحديد بالحديد، ومواجهة القوة بالقوة؛ إرغاماً لأنوف المعاندين، وكسراً للحواجز، وأن يخلَّى بين الناس وبين دين الله، وكذلك انقاذاً للمستضعفين من المؤمنين الذين سيذوبون بغير الجهاد، وقد تسلط عليهم الأعداء.
والجهاد لأمرين واضحين الأول: جهاد لنشر الدين، ولتحطيم كل الحواجز التي تعيق نشره بالقوة.
الثاني: جهاد للدفاع عن الدين، وعن المسلمين والمستضعفين، وعن بلاد المسلمين؛ حتى لا يتسلط عليها الكفار، والذين يقصرون الجهاد على الجهاد الدفاعي أغبياء وجهلة، فإن الله شرع لرسوله قتال الكفار، فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] فإذا قدر المسلمون فلا بد من جهاد الهجوم، وإذا لم يقدروا فالشكوى إلى الله ليقوموا بجهاد الدفع إذاً، وكثيراً ما لا يستطيعون في هذا الزمان لا جهاد الهجوم، ولا جهاد الدفاع، ولكن لا بد حينئذٍ من الاستعداد للجهاد، وإعداد النفس لذلك؛ بحملها على الدين، وتربيتها عليه؛ استعداداً للقيام بالواجب.
إن الجهاد ضروري لإنقاذ الأماكن التي يعبد الله فيها، قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] الدفع: دفعٌ بالقوة، قوة المجاهدين الذين يدفعون الأعداء، فيدفع الله بعض الناس الكفرة ببعض الناس المؤمنين: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] لولا ما شرعه الله لأنبيائه وللمؤمنين من قتال الأعداء؛ لاستولى أهل الشرك، وعطلوا ما بنى المؤمنون من بيوت الله في الأرض، ولذلك الكفرة إذا هاجموا بلاد المسلمين أول ما يتسلطون عليه المساجد، فيحولوها إلى حانات للخمور، أو صالات لعرض سينمائية، أو إسطبلات للخيول، أو كنائس للكفار، أو يهدموها ويحرقوها ويزيلوها من الوجود، فضاعت كثيرٌ من أوقاف المسلمين، وضاعت كثيرٌ من الأماكن التي يُعبد الله فيها في الأرض؛ بسبب التخاذل عن إقامة هذا الفرض العظيم.
ثم إن في الجهاد تمكيناً لإقامة الشعائر والحكم بما أنزل الله في الأرض، والمعركة بين أهل الإسلام وأهل الكفر قائمة إلى قيام الساعة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين يقاتلون من خالفهم) لم يترك أعداء الإسلام للمسلمين شأناً يقومون به في عبادة الله، فلا بدَّ أن يقاتلوهم، وهذه قضية أذن الله بها وشاءها وقضاها، وأخبرنا عنها، فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
ولم يترك الله -عز وجل- أهل الحق والإيمان عُزلاً، وإنما شرع لهم الأخذ بالأسباب الدينية الشرعية والمادية الإيمانية القلبية، والمادية التي يستطيعون بها إرغام أنوف العدو، وقد أمر الله تعالى بإعداد العدة، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] وهذا الإعداد يتضمن أموراً كثيرةً منها: إعداد النفس الذي يقصر فيه الكثير منّا، قال عليه الصلاة والسلام: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو) هذا هو الإعداد النفسي، فمن الذي حدث نفسه بالغزو؟ بل البعض يقول: أنا غير قادر على الغزو، وقد يكون محقاً حقيقة في ذلك، لكن هل حدث نفسه به؟ وهل انطوت نفسه على أنه متى ما قامت القوة والقدرة للمسلمين أنه سيجاهد في سبيل الله () ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق).
أيها الإخوة: لابد من إعداد النفس إعداداً إيمانياً وعلمياً، ولقد مكث المسلمون في مكة ثلاثة عشر عاماً لا تنقصهم جرأة، ولا شجاعة، ولكن لأن الله لم يأذن بالجهاد لأنه لم يأت وقته بعد، كانوا يعدون أنفسهم ليوم بدر وأحد والخندق والحديبية وحنين والفتح الأعظم، ولذلك جاءت النتائج باهرة؛ لما أخذوا بالقوة الكافية، واختاروا التوقيت السليم.
فالجهاد في سبيل الله يمنع من تسلط الكفار على المسلمين، ويحرر الأماكن لعبادة الله فيها، ويخرج الناس من عبادة الشيطان إلى عبادة الرحمن، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام يخرجهم حتى لا يكونوا عُبَّاداً للعباد، وإنما ليصبحوا عباداً لله تعالى.
هذا شيء مما جاءت به الشريعة لحفظ الدين ينبغي على المسلمين فهمه والعمل به.
اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا من القائمين بأمرك، الناصرين لدينك، المحافظين على حدودك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(76/5)
حفظ الدين بإقامة الحدود
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، والشفيع المشفَّع يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
يا عباد الله: لقد شرع الله من الحدود ما يكفل حفظ الدين، وهو حد الردة الذي يحفظ به جانب الإسلام من الهدم يُكَبتُ فيه الباطل والمتقولون بالباطل، والرافعون لرايات الكفر الذين يتفوهون به ويتشدقون، هكذا إذاً شُرِع حد الردة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) والمقصود بالدين -ولا شك- هو الإسلام، وإلا فمن بدل من النصرانية إلى الإسلام فلا يقتل، بل يصبح أخاً في الإسلام ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) جماعة المسلمين الذين هم على منهاج الصحابة، وعلى دين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلو لم يقتل المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه بكل سهولة، وهذا الحد العظيم الذي عطله أكثر المسلمين في هذا الزمان، بل لم يكد يعد يُسمع في الأرض مطلقاً، بأي سببٍ أيها الإخوة؟ مع كثرة المرتدين، وكثرة المتشدقين بالكفر، الذين لا يشهد على ردتهم واحدٌ أو اثنان، وإنما يشهد على ردتهم وعلى كفرهم وزندقتهم ألوف من المشاهدين، فيعرض الكفر والإلحاد -الآن- في قصة تطبع وتروج، أو فيلم ينشر في القاعات ليشاهده الناس، أو في مناظرة تلفزيونية بزعمهم، يسمح للمرتد بعرض دينه الكفري، وعقيدته الباطلة، وزندقته وانحلاله، وهجومه على شريعة الله ورسوله، وطعنه في هذا الإسلام، ويشهد على ردته عشرات الآلاف من الناس، أو أكثر!! إذاً: حد الردة بضرب عنق المرتد بالسيف هو أمرٌ شرعه الله لحفظ دينه ذهب أبو موسى الأشعري إلى اليمن، ثم اتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه، ألقى عليه وسادة، وقال: انزل.
وإذا برجلٌ عنده موثقٌ، قال معاذ: ما هذا؟ قال: كان يهودياً، فأسلم ثم تهود قال: - أبو موسى لـ معاذ - اجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قضاء الله ورسوله قضاء الله ورسوله.
فضربت عنقه.
رواه البخاري.
لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه، فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيّما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها) قال ابن حجر رحمه الله: سنده حسن.
هذا حكم الله ورسوله فيمن يرتد عن الدين، ويخرج منه {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].
كم واحد يسب الرب من المسلمين! وكم واحد يسب الرسول صلى الله عليه وسلم! وكم واحد يسب الدين! وكم واحد ينتقد القرآن! وكم واحد يعيب الحدود الشرعية! وكم واحد يحل ما حرم الله من الربا وغيره! وكم واحد يقوم بالسحر والشرك والاتصال بالشياطين والتكهن! كل هؤلاء ما هو حدهم؟ حدهم ضربة بالسيف تقطع رقبتهم، هذا إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم منذ أن ارتد المرتدون من العرب، فقام لهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه قومةً لله عز وجل، وجيَّش الجيوش لقتال المرتدين الذين خرجوا عن الدين، وهكذا فعلوا ببني حنيفة وبـ مسيلمة، وبغيره من الكفار، فقتلوا من قتلوا حتى رجع إلى الدين صاغراً من كان قد خرج عنه، وهكذا قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه فيمن اعتقدوا فيه الإلهية لما دخل الكوفة، فسجدوا له، فدعاهم إلى التوبة فأبوا، فخدَّ لهم الأخاديد، وملأها حطباً، وأضرم فيها النيران، وقذفهم فيها، وقال:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قمبرا
وهو مولى علي رضي الله عنه وأرضاه، ولم يعترض ابن عباس على هذا الحكم إطلاقاً، وإنما كان رأيه ألا يحرقوا وإنما يقتلوا قتلاً.
وهكذا حصل ما حصل في عهد من بعدهم من المسلمين، وفي عهد التابعين قام أميرهم على المنبر في يوم الأضحى خالد بن عبد الله القسري، وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر شَكَر الضحية كل صاحب سنة.
هكذا يرتدع كل من تسول له نفسه الخروج من الدين، أو التهجم على الدين، وما أكثرهم في هذا الزمن! هذه هي الوسائل التي جاءت بها الشريعة لحفظ الدين فما أحكمها! وما أعدلها! وما أقواها! وما أحزمها! وما أشدها على من بغى وطغى! نسأل الله تعالى أن يعاملنا بلطفه، وأن ينقلنا إلى رحمته، اللهم إنا نسألك أن تخرجنا من الظلمات إلى النور، اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، قائمين بشرعك يا رب العالمين.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد، اللهم إنَّا نسألك أن تحرر بلاد المسلمين من الكفرة المغتصبين، اللهم ادرأ عن إخواننا المسلمين كيد المعتدين، اللهم أنزل بأسك وسطوتك باليهود والنصارى والمرتدين يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(76/6)
رفع المعنويات
إذا تلفت المسلم حوله، ورأى ما حل بالأمة الإسلامية من ذل وهوان، وكيف صار تعامل الأعداء مع أمة الإسلام، وامتهانهم لها في تجبر واستكبار، فحينئذ يتسرب اليأس إلى قلبه، وهذا ليس هو المنهج الذي ينبغي للمسلم أن ينتهجه في حياته، بل الأجدر به أن يستعرض حياة أسلافه، مستنيراً خلال ذلك بالكتاب والسنة؛ حتى يستلهم من تلك السِّيّر ما يقوي عزيمته في مواجهة هذه التحديات.(77/1)
حال الأمة اليوم وواجب الدعاة في رفع المعنويات
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: غربتنا شديدة لا يعلمها إلا الله، يتلفت المسلم حوله فيرى كفراً مسيطراً، وشراً مستطيراً، وعدواً متجبراً.
الأعداء كثير، والتخطيط محكم، سلاحهم قوي، حاملات، وطائرات، وصواريخ، وقنابل، وأقمار ترقب، وعدو يترقب، حاملات يهودية وأخرى صليبية، أحاطوا بالأمة إحاطة السوار بالمعصم، ووضعوا حبال مكرهم وبطشهم حول رقبتها، وشدوا الحبل ليخنقوها، يتلفت المسلم فيرى حوله في بلاد المسلمين خراباً ودماراً، أيتاماً وأيامى، أرامل ومفجوعين، بيوت تهدم، وأعراض تنتهك، وحمىً يستباح، وثروات تنهب، وهيمنة وتسلط واستبداد، وظلم وتحكم القوي على الضعيف، والجبار على الأسير.
وهكذا يرى المسلم هذا الظلم المنتشر والأمة متخبطة متفرقة متناحرة، يرى قلة الناصر وضعف المعين فيقول: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] وأن الهلاك هو العقوبة.
وهذه الكلمات ليست للتخدير ولا لمحاولة نسيان الواقع المر، وإنما هي للنهوض بالنفوس لئلا تقع فريسة لليأس القاتل والقنوط المقعد عن العمل، بل لتنطلق بهذه المبشرات إلى الجد والاجتهاد، يحدوها حادي الرجاء في وعد الله القادم.
إن من واجب الدعاة إلى الله في ظل الظلمات الواقعة اليوم أن يشيعوا نور الأمل، ويخبروا الناس بحقيقة الفجر السَّاطع الذي لا يأتي إلا بعد شيوع ظلمة الليل.
إن هذه الكلمات انطلاقة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشِّروا ولا تنفروا) هكذا كان حال الرعيل الأول من المؤمنين لا تزيدهم الفتن والبلاء إلا ثباتاً وإيماناً: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] وذلك أنهم مهما وقع عليهم من البلاء والضيم فهم الأعلون كما قال الله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
المؤمن يعرف كيف يتصرف، كيف ينهض ويعمل؛ ليصل بالواقع المتدني إلى المستوى المطلوب، وليس من الصحيح أن يصدر الحكم على الأمة بالهزيمة، وأنها تنتظر رصاصة الرحمة، وأنها قاعدة بلا حولٍ ولا قوة، كلا.
إنه يترفع عن ذلك، ولا يطلق عليها وصف الهلاك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكُهم) (فهو أهلكَهم) رواه مسلم، هاتان الروايتان على الرفع: (أهلكُهم) معناها: أشدهم هلاكاً، وعلى النصب (أهلكَهم) فمعناها: هو جعلهم هالكين لا أنهم هلكوا في الحقيقة.
فأما ما في هذا الحديث فإن معناه: أن الرجل لا يزال يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول: فسدوا وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل فهو أهلكهم أي: أسوأ حالاً منهم؛ لما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم، فلا يدخل في هذا من قالها تحزناً لما يرى في نفسه وفي واقع الناس من نقص أمر الدين.(77/2)
صور من القرآن والسنة في رفع معنويات الأمة
أيها المسلمون! أيها الإخوة! إن المسلم عندما يرى هذا البلاء المسيطر فإنه بالرغم من ذلك ينظر إلى بصيص الأمل، ويعلم أن الأيام يداولها الله بين الناس، وأن الاستضعاف مرحلة لا بد أن تأتي بعدها القوة، فهو وإن نظر إلى انتشار الفواحش والمعاصي فلا يحكم على الناس جميعاً بالهلاك، ولا يقول: لا مخرج ولا فائدة، فإن هذا من سوء الظن بالله، وإحباطٍ لمعنوياتِ الأمة والدعاة والمصلحين.
إننا نحتاج في هذه الآونة إلى رفع المعنويات كثيراً في غمرة الظلم الذي ربما يزداد، والقتل الذي ربما يكثر، والتهجير والتشريد الذي ربما يحلُّ بالمسلمين في أماكن من الأرض ومنها فلسطين.
إن رفع المعنويات في هذا الزمان مهم جداً لنا للعمل، إنه المتنفس، لقد كان القرآن الكريم يرفع من معنويات المؤمنين بكلام الله الذي ينزل على نفوسهم برداً وسلاماً، حتى في لحظات البلاء والشدائد: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فعندما نعلم ما أصاب الذين سبقونا نوقن بأن الطريق واحد، وأنه مهما أصاب هذه الأمة فإنه لحكَمٍ يريدها الله سبحانه وتعالى.(77/3)
وتبشير القرآن بقرب النصر والفرج
من رفع المعنويات في القرآن: أنه كان يبشر بقرب النصر والفرج به إذا حصل، كان ذلك للمؤمنين المضطهدين في مكة تحت الحصار والجوع والقتل والتعذيب والتشويه الإعلامي؛ فكان يقال لهم: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:1 - 5].
لما أصيب المسلمون بالإحباط في غزوة أحد عندما قتل منهم سبعون! مآسٍ حصلت، الدواب تحمل بالجثث منطلقة إلى المدينة، هذه تخبر بأنها قد أصيبت بأبيها وأخيها وزوجها، وهذه بابنها، وتلك بخالها وعمها، أيتام وأرامل، ألمٌ نفسي، وهمٌ عظيم أصاب المسلمين في أحد، ماذا سيقول العرب الذين ينظرون؟ ماذا يجري بينهم وبين كفار قريش؟ وسيقول العرب: هؤلاء هزموا، ودينهم لم ينصرهم، فماذا سيكون من التولي إذن، والقوة للكفار؟ ومع ذلك تأتي الآيات ترفع المعنويات وتحيي الأمل في النفوس، يذكرهم أولاً: بأن نصراً قريباً قد حصل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] ويعدهم بنصرٍ ومدد فيقول: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران:124]، بل هناك زيادة: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125].
بعد الغزوة كان الصحابة يحتاجون أحوج ما كانوا إلى رفع المعنويات, بعد الذي لاقوه من الهزيمة والجراحات والقتل؛ فقال الله لهم مخففاً ومسلياً ورافعاً لنفوسهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] وإن هزمتم بالسلاح فأنتم الأعلون منهجاً وديناً أنتم الأعلون شرعةً وشريعةً أنتم الأعلون بما في نفوسكم من الإيمان بالله عز وجل الذي تضعون به جباهكم لرب العالمين ساجدين: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
ويذكرهم بما لحق الكفار من المصائب ويقول لهم: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] كما أصابكم ما أصابكم فقد أصاب الكفار أيضاً قتل وجراح، وهذه أشياء نشهدها حتى اليوم في حال المسلمين المستضعفين في فلسطين، بالرغم مما يصيبهم فإنه يصيب اليهود أيضاً قتل ودمار، يصيبهم أيضاً في اقتصادهم وأمنهم، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].(77/4)
تسلية الله لنبيه ورفع معنوياته بالقصص والإسراء والمعراج
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بما حصل عليه من الأذى يسليه ربه، ويخفف عنه، وينعش فؤاده وقلبه، فيخبره أن ما أصابك قد أصاب الرسل من قبلك، فلا تبتئس بما كانوا يعملون: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] يقول له: هذا يوسف انظر إليه! ماذا جرى عليه من حسد إخوته وكيدهم له، وإلقائه في الجب وبيعه واسترقاقه وسجنه وبعده عن أبيه وأخيه واتهامه وهو بريء، وفي نهاية الأمر يظهر الله براءته ويمكن له في الأرض, ويجمع له أهله, ويجمعه بأبويه وإخوانه! خذ قصة موسى يتلو عليه جبريل الآيات، انظر ماذا فيها من البلاء الذي حصل والفتنة، وما كان عليه الأمر من الشدة حتى في أوله، ويلقى في اليم وهو صغير، وينجو من القتل، ويفر من البلد بعد ذلك، ويعمل أجيراً في رعي الغنم، ثم يمكن الله له ويجعله في أمنٍ، وينصره على فرعون بعدما ذاق منه خوفاً وتهديداً وأذىً شديداً، وهكذا يصيبه من بني إسرائيل ما يصيبه بعدما عبروا البحر، ولكنه يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى.
وعندما يصاب النبي عليه الصلاة والسلام بأمرٍ شنيع من الأذى، تأتي حادثة الإسراء والمعراج لإنعاش النفوس ورفع المعنويات, وما حصل له عليه الصلاة والسلام من التسلية العظيمة بسببها، فمات عمه الذي كان ينصره، وماتت زوجته الوفية خديجة، وضيق عليه وحوصر وقتل من أصحابه من قتل، وأغارت قريش بالغارات الإعلامية عليه بأنه: ساحر، كذاب، مجنون، شاعر، به جنة، يريد مُلكاً، ويريد ويريد، ويقول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة لما سألته: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي, فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني) بعد هذا الهم والغم يرسل الله له أمراً لرفع المعنويات.
الملائكة تسأله: ماذا يريد؟ ماذا يأمر لينفذوا؟ بعث الله إليه ملك الجبال ليأمره بما شاء فيجيب وينفذ في كفار قريش.
وتكون رحلة المواساة العظيمة إلى السماوات العلى, بعدما صلى بالأنبياء في بيت المقدس ليرى سدرة المنتهى، والبيت المعمور، ويرى جبريل على صورته الحقيقية.(77/5)
التذكير بمصير الشهداء
كانت آيات الله تعالى بمصير المؤمنين الشهداء ترفع معنويات المجتمع الذي أصيب بهمّ في بئر معونة لما قتل سبعون من خيار المسلمين؛ يصومون النهار ويقومون الليل، من الحفاظ الزهَّاد العبَّاد، من أهل الصفة، من أهل المسجد، من أصحاب القناديل المعلقة فيه، ماذا أنزل الله؟ قرآناً كان يتلى حتى رفع ونسخ: (بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا رضي الله وأرضانا).
كانت البشائر من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة في الاضطهاد لرفع المعنويات، يأتي خباب مصاباً بإحباطٍ وبشدة يقول: (يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى ما نزل بنا؟! قال عليه الصلاة والسلام: كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه).
إذاً: هذا حصل لمن قبلكم، فخذوا العبرة، الطريق واحد، فيه أذى وخاصة في بدايته.
ثم يأتيه بالبشارة ويقول: (والله ليتمن هذا الأمر, حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
(قد كان من قبلكم): تسلية وإشارة إلى الصبر حتى تنقضي المدة المقدرة من الله عز وجل، والمسلمون تحت الشدة والحصار والبأس الشديد, لكنكم تستعجلون، ويبشرهم بأن الله معهم لرفع المعنويات.
أبو بكر الصديق في الغار كيف كان حاله؟ كيف كان وضعه النفسي؟ يصف التأزم الشديد الذي كان فيه ويقول: (يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما ظنك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري.
والنبي صلى الله عليه وسلم ينقل لأصحابه البشارة، ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً أمام نحوٍ من ألف من المشركين هم أكثر عدةً وعدداً منهم، يقول: (أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل على ثناياه النقع).
وبعد هزيمة أحد لماذا أصر النبي عليه الصلاة والسلام على الرجوع لتحدي قريش؟! رفعاً لمعنويات المسلمين.
ويذهب إلى حمراء الأسد بالمسلمين الذين فيهم جراحات، لماذا؟! إظهاراً لقوة المسلمين، وإلقاءً للرعب في صفوف الأعداء.
قال الطبري: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو، وليبلغهم أنه قد خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.(77/6)
مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حفر الخندق
كان من رفع المعنويات: مشاركة القائد للجنود، كان ينقل معهم التراب في الخندق ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
عمل ودعاء! كان هناك جهد وسؤال وطلب من الله عز وجل في بناء المسجد، ترتفع المعنويات بمشاركته عليه الصلاة والسلام لهم وهو يقول معهم:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة
حتى شعارات المسلمين في معاركهم كانت تنبئ عن معنويات مرتفعة، ولذلك ورد في سنن أبي داود في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه في معركة من المعارك قبل أن تحدث وهو يخشى عليهم من العدو: (إن بُيِّتُمْ -يعني: قصدوكم بالليل ليقتلوكم وليأخذوكم على حين غرَّة- بغتة -وحصل اختلاط- فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون؛ ليميز المسلم أخاه) هذه الكلمة التي تقال، ثم فيها الفأل أن الكفار لا ينصرون.(77/7)
عدم نشر الأخبار السيئة وإشاعتها
كانت المعنويات يحافظ عليها بعدم نشر الأخبار السيئة وإشاعتها في لحظات الشدة، ولذلك يقول ابن هشام في قصة غزوة الأحزاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث السعدين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، قال: (انطلقوا حتى تنظروا أحقٌ ما بلغنا عن هؤلاء القوم من نكث العهد -اليهود- فإن كان حقاً فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس).
وكان التفاؤل بتغيير الحال وتغيره، وأن الأمر لم يعد مثلما كان من قبل ليبث الأمل في النفوس، بعد غزوة الأحزاب ماذا قال عليه الصلاة والسلام: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم).
عندما يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هوازن قد جمعوا له في حنين، وخرجوا عن بكرة أبيهم بضعنهم ونعمهم وشائهم حتى الغنم والنساء والأولاد، ماذا يقول عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم؟ (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) صحيح أبي داود.(77/8)
ثناء الرسول على المحسنين من أصحابه
كان عليه الصلاة والسلام يثني على المحسنين من أصحابه، ويبث الأمل في نفوسهم ويرفع من معنوياتهم، ويقول لـ عمار وهو ينقل لبنتين لبنتين (يمسح عن رأسه، ويح عمار -كلمة ترحم لحاله- تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار) وهكذا كان يقول لـ علي رضي الله عنه عندما مسح عنه الوجع الذي كان في عينيه، ويقول كذلك للأنصار لما ذهب الناس بالشاء والبعير: (أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم -تذهبون به معكم-؟ قالوا: بلى.
قال: لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم).(77/9)
الإيمان بالقدر وتصبير الرسول لأصحابه
كان الإيمان بالقضاء والقدر مما يرفع المعنويات، حتى عند المصائب الشديدة، يقول الله للمؤمنين: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] وكانت عقيدة الثواب أن الله يثيب الطائعين ويعطيهم الأجر العظيم، هذا مما كان يدفع إلى العمل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
ما الذي كان يرفع معنويات آل ياسر، ياسر زوجته سمية أم عمار وهم يضطهدون على بطحاء مكة الحارة وعلى الحصى والرمل والصخر الحار؟ ماذا كان يثبتهم ويرفع معنوياتهم وهم في استضعاف تحت التعذيب؟! كلمات (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
إذاً: الوعد بالثواب من الله عز وجل هو الذي كان يصبرهم.
ما الذي كان يصبر المؤمنين على القتال في صفوف المعركة؟ أيها الإخوة! إن الشهداء كانوا يقتلون في سبيل الله، يضحي الإنسان بنفسه في المعارك تحت ظلال السيوف؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله, ثم أحيا ثم أقتل, ثم أحيا ثم أقتل) وهكذا عليه الصلاة والسلام يخبرهم عما ينال المجاهد من الأجر؛ ليصبروا عند اللقاء.
وهكذا كان يصبر المصابين في أبنائهم وأهاليهم وأصحابهم، هذا حارثة لما قتل يوم بدر بسهم طائش لا يدرى من رماه، ماذا جاءت أمه تقول؟ ماذا قالت أم الربيع بنت البراء وأم حارثة بن سراقة؟ تقول: (يا رسول الله! إن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء -فكانت الكلمات كافية في تثبيتها وإشاعة الأمل في نفسها- يا أم حارثة! إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى).(77/10)
قوة الله وضعف الكفار
إن قوة الله وضعف الكفار هو المبدأ الذي كان يرفع من معنويات المسلمين، ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} [النساء:84] {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160].
وهكذا كان ما أصاب المسلمين مع ما أصاب الكفار، وإن تماثل في الصورة لكن الفرق يرفع معنويات المسلمين, وقال لهم ربهم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] لكن ما هو الفرق؟ {وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] كانت قضية التثبيت في المعارك, ورفع المعنويات بالرغم من قلة عدد المؤمنين وكثرة عدد الكفار، عندما يقول المؤمنون للمرجفين المخذلين الذين يقولون: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249] ماذا قال لهم أولئك؟ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].(77/11)
مواقف الثابتين ترفع المعنويات
إن المواصلة وعدم القعود بالرغم من حجم المصيبة ترفع المعنويات، هذا المبدأ الذي مثله أنس بن النضر وهو يقول للمسلمين عندما أشيع قتل النبي عليه الصلاة والسلام، فقعد بعضهم محبطاً يائساً قال: [ما تنتظرون؟ قالوا: قُتل رسول الله، قال: فما تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه] فوجد الرجال الذين يَثبتون ويُثبتون.
لما فرَّ من فرَّ من المسلمين في حنين والنبي عليه الصلاة والسلام على بغلته البيضاء، وأبو سفيان آخذٌ بلجامها، والنبي عليه الصلاة والسلام يستصرخ العباس لكي يصرخ بالمسلمين ليرجعوا وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) وهكذا فإن مواقف الثابتين ترفع المعنويات.(77/12)
من ذاكرة التاريخ الإسلامي في رفع المعنويات(77/13)
الملك المظفر قطز مع التتار
إذا نظرنا في تاريخ المسلمين في أحوال الشدة التي كانت مسلَّطة عليهم من قبل التتر، الذين اجتاحوا العالم الإسلامي وقتلوا الملايين من المسلمين، ولما اجتمعت العساكر الإسلامية في الديار المصرية؛ ألقى الله تعالى في قلب الملك المظفر قطز الخروج لقتالهم بعد أن كانت القلوب قد أيست من الانتصار على التتار؛ لكثرة عددهم، واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، معظم بلاد المسلمين في فترة من الفترات كانت تحت حكم التتر الذين اجتاحوا أكثر العالم الإسلامي، وما قصدوا إقليماً إلا فتحوه، ولا عسكراً إلا هزموه، لم يبق خارجاً عن حكمهم في الجانب الشرقي من العالم الإسلامي إلا الديار المصرية والحجاز واليمن، وهربت جماعة من المغاربة الذين كانوا بـ مصر إلى المغرب وهرب جماعة من الناس إلى اليمن، والباقون في وجلٍ عظيم وخوفٍ شديد، يتوقعون دخول العدو وأخذ البلاد.
وصمم الملك المظفر رحمه الله على لقاء التتر، وخرج بالجحافل الشامية والمصرية وسافر إلى بلاد الشام للقائهم، ونزل بـ الغور بـ عين جالوت وفيه جموع التتر في يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان.
اصطف الفريقان، والتحم الجيشان، وتقاتلا قتالاً شديداً لم ير مثله، حتى قتل من الطائفتين جماعة كثيرة، وانكسرت ميسرة المسلمين كسرة شنيعة -كما يقول صاحب النجوم الزاهرة في وصف المعركة- فحمل الملك المظفر رحمه الله بنفسه في طائفة من عساكره، وأردف الميسرة حتى تحايوا ورجعوا، واقتحم المظفر القتال وباشره بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم بلاءً حسناً، وعظمت الحرب وثبت كلٌ من الفريقين مع كثرة التتر، والمظفر يشجع أصحابه، ويحسن إليهم الموت، ويكرُّ بهم كرة بعد كرة، حتى نصر الله الإسلام وأعزه، وانكسرت التتر، وولوا الأدبار على أقبح وجهٍ بعد أن قتل معظم أعيانهم، وأصيب قائدهم كتبغانيين فإنه لما عظم الخطب باشر القتال بنفسه فأخزاه الله، وقتل شر قتلة، وكان الذي حمل عليه وقتله الأمير جمال الدين آقوش الشمسي رحمه الله.
وولى التتار الأدبار لا يلوون على شيء، واعتصمت طائفة منهم في التلِّ المجاور لمكان الوقعة، فأحدقت بهم عساكر المسلمين، وصابروهم حتى أفنوهم قتلاً، ونجا من نجا، وتبعهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقاري في جماعة من الشجعان المسلمين إلى أطراف البلاد، واسترجعوا البلاد والضياع التي أخذها التتر، وقتل منهم مقتلة عظيمة جداً.
وهكذا كانت الحال عندما يثبت المسلمون أمام الكفار.
ومما لا شك فيه أنه لا يقدر على الجهاد كل الناس، فيبقى أناس من المعذورين أصحاب العاهات، وربما كان عندهم شيء من القنوط والهم والغم الذي ركبهم، وكانت الآية: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبل الله) فجاء ابن أم مكتوم يقول: [يا رسول الله! لو أستطيع الجهاد لجاهدت] وكان رجلاً أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] ثلاث كلمات من أجل أصحاب العاهات؛ حتى لا تكون معنوياتهم منخفضة، وإنما: (إن بـ المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم).(77/14)
ثبات الدعاة والعلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية
للعلماء للدعاة للخطباء للمربين دورٌ كبيرٌ في رفع المعنويات، لما قال بنو إسرائيل: {لَنْ نَدْخُلَهَا} [المائدة:24] {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ماذا قال الرجلان من أولئك: {مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] اقتحموا والله يأتي بالنتائج وبالنصر، افعلوا ما طلب منكم وما أمرتم به، قاتلوا واقتحموا: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
دورٌ عظيم يقوم به العلماء.
كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: أبو عمر البزار: كان من أشجع الناس وأقواهم قلباً.
يا إخوان! لا بد أن نأخذ العبرة من هذا، لا ندري متى تكون مواجهتنا مع العدو، فإذا واجهناهم فلا بد أن يكون هناك في المسلمين من يوقد الحمية في القلوب للقتال, ويكون عنصراً مثبتاً لهؤلاء في المواجهة.
كان أثبت الناس جأشاً، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبر غير واحد أن الشيخ رضي الله عنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعاً أو رقةً أو جبناً شجعه وثبته وبشره ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، كان إذا ركب الخيل يتحنك, ويجول في العدو كأعظم الشجعان, ويثبت ويقوم كأثبت الفرسان, ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثيرٍ من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.
وحدثوا أنهم رأوا منه في فتح عكة أموراً من الشجاعة يعجز الواصفون عن وصفها، ولقد كان السبب في تملك المسلمين عكة بفعله ومشورته وحسن نظره كما ذكر في الأعلام العلية وقال: ولما ظهر السلطان غازان على دمشق جاءه ملك الكرج وهو ملك كافر معه كفار يطلب من غازان أن يملكه من رقاب المسلمين ليفتك بهم، ووصل الخبر إلى الشيخ؛ فقام من فوره، وشجع المسلمين، ورغبهم في الشهادة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف، وانتدب منهم رجالاً من وجوههم وكبرائهم فخرجوا إلى غازان، فلما رآهم السلطان قال: من هؤلاء؟ قيل: إنهم رؤساء دمشق.
فأذن لهم، وحضروا بين يديه، ثم تقدم الشيخ أولاً، فلما أن رآه السلطان أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة، حتى أدناه من مجلسه، وأخذ الشيخ في الكلام أولاً في عكس رأيه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، يريد ألا يوافق على هذا، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكره ووعظه، فأجابه إلى ذلك طائعاً، وحقنت بسببه دماء المسلمين، وصين حريمهم.
وكان -رحمه الله- لما وقع الخوف في دمشق وقال الناس: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتر لكثرتهم، يعني: لو اجتمعت العساكر المصرية والشامية لن تقف أمام التتر، وأن عليهم الانسحاب، وتحدث الناس بالأراجيف، واجتمع الأمراء يوم الأحد بالميدان، وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد ألا يرحل أحد منه، فسكن الناس، وجلس القضاة بالجامع، وحلف جماعة من الفقهاء والعامة على القتال، وحلفوهم عليه، وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله عز وجل مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] وهكذا كان يدور على الجيش ويفتيهم، وكانت المعركة في رمضان فيفتي بالفطر مدة قتالهم، ويأكل هو بنفسه أمام الناس أشياء ويقول: أفطروا فالفطر أقوى لكم، ويستدل لهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما صارت سنة سبعمائة للهجرة، وحصلت الفتنة في دمشق وهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية، ووردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر أيضاً، انزعج الناس، وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرج والشوبك والحصون المنيعة، حتى بلغ ثمن الحمار الذي يوصل إلى مصر خمسمائة دينار، وبيع الجمل بألف دينار والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب بأرخص الأثمان، لأن الناس تبيع متاعها وتهرب من البلد.
أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فقد جلس بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتر حتماً، وتابع المجالس في ذلك، كما ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.
هذا دور العلماء، هذا دور طلبة العلم، إذا جد الجد وحصل الالتحام مهما كان الكفار أكثر عدداً وعدةً فعند ذلك لا بد من نفخ روح الحمية للقتال في الناس والصبر وعدم الهرب.(77/15)
أثر التوحيد على الثبات في زمن الفرقة
كانت قدرة المسلمين على التوحد بالرغم من الخلافات التي تكون بين بعضهم في عدد من المواقف هي الأمر الذي كان يرد الكفار.
يكتب معاوية إلى ملك الروم الذي أوشك على اقتحام بلاد المسلمين؛ انتهازاً للفرصة بالخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال له معاوية في رسالته: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين! لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت؛ فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
هكذا كان التوحد في زمن الفرقة عاملاً مهماً من عوامل الثبات، فـ المعتمد بن عباد يرسل إلى يوسف بن تاشفين: أيها السلطان! ناشدتك الله إن سقطت إشبيليا لم يبق للإسلام في تلك الجزيرة في الأندلس اسم ولا رسم؛ فالحق بنا وأنقذنا.
يقول له وزيره وهو يكتب الرسالة: أيها السلطان! كيف ترسل إلى يوسف بن تاشفين فغداً إذا جاء وانتصر وصار الملك، تصير أنت عنده أجيراً، أترضى بذلك وأنت السلطان؟! فنظر المعتمد بن عباد إليه وقال له: يا هذا! أنت وزيري تنصحني بما يملأني وزراً، والذي نفسي بيده لأن أكون راعياً للجمال عند مسلم اسمه يوسف بن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير للفونسو غداً.
وهكذا يكون التفاؤل أيضاً باعثاً على رفع المعنويات.(77/16)
حسن الظن بالله
{مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] الذي يقول: إن الله لا ينصر المسلمين؛ يأخذ حبلاً يعلقه في السقف -في سماء الغرفة- ويربطه حول عنقه ويشنق نفسه.
إذاً فالله ينصر المؤمنين، وقد توعد بنصرهم، وأخبر أن نصره قريب، وأن نصره ينزل عليهم، إذا رجعوا إليه سبحانه.
لماذا كان التفاؤل من السنة؟! لماذا كان عليه الصلاة والسلام يتفاءل بالاسم الحسن؟! إن التفاؤل يشحذ الهمم للعمل، ويغذي القلب بالطمأنينة والأمل، ولا شك أن هذا من أهم عوامل النجاح, لما يقبل الإنسان على القيام بعمل ما وهو متفائل، النتيجة تختلف تماماً عما إذا قام يعمل وهو متشائم.
ووسط هذا الظلام الدامس الذي يعيش فيه المسلمون اليوم يلتفتون يمنة ويسرة، وتثور في النفوس تساؤلات كثيرة: أما آن لهذا الليل أن ينجلي، ولهذه الغمامة أن تنقشع؟ متى يأتي نصر الله؟ {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وإذا تأملت ما يكون من أنواع النصر من الله لوجدت شيئاً عجيباً! فقد نصر رسله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فنصره الله، وهكذا انتقم من المكذبين ولو بعد حين.
الله عز وجل قد يمكن للكفار مدة من الزمن، لكن بعد ذلك لا بد أن ينكسروا.
والذين حاولوا قتل عيسى وصلبه انتقم الله منهم بتسليط الروم عليهم فساموهم أشد العذاب.
عندما ترى صور انتصار الموحدين انتصار المبدأ انتصار المنهج كما في قصة الغلام مع الملك في أصحاب الأخدود، كان ثبات المؤمنين إلى النهاية هو نصر بحد ذاته.
إبراهيم يقذف في النار وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
هذا قمة الانتصار.
بلال عندما كان تحت الصخرة يقول: [أحدٌ أحدْ] ولا يتراجع.
هذا انتصار.
آل ياسر عندما يصبرون على الرمضاء.
انتصار.
الإمام أحمد عندما يصبر على القول: بأن القرآن كلام الله.
ولا يجيب إلى القول بخلقه، مع كون الحديد في رجليه، والضرب الشديد الذي يقول فيه السلطان للجندي: اضرب، شدّ يدك قطع الله يدك.
ومع ذلك يصبر، هذا انتصار؛ لأن الحق عند الناس في المجتمع ظاهر لم ينهزم، لم يرضخ فلان، لم يسكت فلان، لم يتراجع فلان عن مبدئه، هذا انتصار، انتصار الحجة مهم جداً: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:83].
لما قال إبراهيم للنمرود: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] هذا انتصار، ولو كان النمرود عنده الجنود والسلاح والسلطان والهيلمان.
هذا انتصار.
لا بد أن نعرف معنى الانتصار الشرعي، وليس فقط أنه انتصار السلاح.(77/17)
مبشرات للأمة وأسباب هلاك الأعداء
هناك مبشرات كثيرة للأمة بأن الله لا يمكن أن يبقي الكفار في تمكين وإلا تفسد الأرض، لكن مداولة للأيام بين الناس.
وهكذا نقول اليوم لأنفسنا: متى تنكسر شوكة هؤلاء اليهود والصليبين؟!(77/18)
غطرسة الأمم الكافرة
إنهم ينفقون الأموال الطائلة والمخططات: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] هل الغلبة ستكون في الدنيا، أو في الآخرة فقط؟ {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:56] لقد استوفت الأمة الظالمة اليوم المستكبرة في الأرض أسباب الهلاك، لقد ادعوا دعاوى الألوهية، وتغطرسوا كثيراً، ومارسوا طريقة فرعون: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] ولكن ماذا كانت نتيجة فرعون؟ {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
تألوا على الله، وزعموا أنه أخرجهم لقيادة العالم، وكذبوا على الله، وزعموا أنه اختارهم ليخلصوا البشرية ويقودوها في مطلع القرن الحادي والعشرين، وقالوا: فليباركنا الرب.
وألف فوكوياما كتابه نهاية التاريخ مغروراً يعني: أن هذه الأمة عندهم (الكفرة) وصلت إلى القمة وليس هناك بعدها شيء.
هذه هي النهاية، والسيطرة، والتمكين، والغلبة لهم، (نهاية التاريخ) بكل غرور قالوها، فلذلك حققوا عدداً من أسباب الهلاك والله يقصم ظهور هؤلاء ولا بد.(77/19)
كثرة الذنوب والمعاصي عند الغرب الكافر
ومن أسباب ذلك: الذنوب والمعاصي.
لقد صاروا قادة العالم في الموبقات، والجنس والقذارة، وأنواع الفواحش، والآراء الضالة التي فرضوها، والسياسة والاقتصاد والثقافة، وعالم السينما والإعلان، وغير ذلك، والله عز وجل يأخذ المذنبين، ألم يقل: {فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:11]؟ هذه الأمة الغربية التي صالت وجالت في العالم, قال عز وجل عن قوم لوط: {وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] فهو يهلك الظلمة، كفروا النعمة، جحدوها، استعملوها في الطغيان، والله عز وجل قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58].
ألم يقعوا في الترف والإسراف في المآكل والمشارب والمساكن والمراكب والأثاث وصناعة الترفيه والسياحة والرياضة والأفلام؟! إن ذلك مؤذنٌ بتدمير دولتهم.
ألم يقل الله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]؟! ألم يغتروا بقوتهم ويقولوا كما قالت عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15]؟ ماذا فعل الله بعاد؟! {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:16].
هذه الأمة الغربية المجرمة اليوم بيت الجريمة في العالم فيها وتصدره لغيرها، أجرموا، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأبرياء، ودنسوا حرمات المساكين، وهؤلاء الأطفال الذين يموتون من جرَّاء جرائمهم، الله عز وجل وعد بأنه سيجزي القوم المجرمين وأنه سيهلكهم، وسنته ماضية: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] إن الله لا يصلح عمل هؤلاء؛ لأنهم مفسدون: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
أليسوا أصحاب مكر، وحيل، وخداع، وخطط، ودهاء، وأساليب، سيناريوهات وإخراجات لضرب أهل الإسلام؟! يتشدقون اليوم، ويتبجحون ويقولون: سنحتل وننصب منا رجلاً، هؤلاء لا شك أن مكرهم سيكون دماراً عليهم، والدليل قوله تعالى: {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ} [فاطر:43] ينتظرون {إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51] هؤلاء كل أسباب إهلاك القرى في القرآن اجتمعت في هذه الأمة الملعونة، فماذا ينتظرون إلا أن يأتي أجلهم: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].(77/20)
شهادة أعدائنا بتفوق هذا الدين
ولنعلم بأن مما يرفع نفوسنا، ويقوي هممنا، ويشحذ عزائمنا؛ أن هؤلاء الكفرة بأنفسهم قد شهدوا لنا بالتفوق، ولديننا بالعلو، يقول لورنس براون: إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي.
ويقول جلادستون: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين, فلن تستطيع أوروبا السيطرة على المشرق.
قال الشيوعيون وهم في سدة الحكم: من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً.
أشعايا بومن في مقالٍ نشره قال: لم يتفق قط أن شعباً مسيحياً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً.
بن جوريون اليهودي يقول: إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد.
ونحن نعرف أن محمداً عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء، لكنه يقصد قائداً جديداً.
وهكذا يقول إرل بورجر الكاتب الصهيوني: إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً, فيجب القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي وهي عناصر رجعية، تتمثل في رجال الدين والمشايخ.
وهكذا يقول إسحاق رابين: إن مشكلة الشعب اليهودي هي أن الدين الإسلامي ما زال في دور العدوان والتوسع، وليس مستعداً للمواجهة، وأن وقتاً طويلاً سيمضي قبل أن يترك الإسلام سيفه.
وقد مات وهلك والإسلام لن يترك سيفه.
يقول براون: كان قادتنا يخوفوننا بشعوبٍ مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف، خوفونا بـ اليابان الأصفر، والخطر البلشفي، وإلى آخره! وتبين لنا أن هؤلاء حلفاؤنا وهؤلاء أصدقاؤنا وهؤلاء! لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام, وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة! هانوتر الفرنسي يقول: لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه، فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر.
ألبرن شاذر يقول: من يدري ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إليها من السماء لغزو العالم مرة ثانية، وفي الوقت المناسب، يقول: لست متنبئاً لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة، ولن تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها، إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ: هأنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداةً تسيرها العواصم الكبرى.
ويقول أشعايا بومن أيضاً: إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام, لهذا الخوف أسباب: منها: أن الإسلام منذ ظهر بـ مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار.
من أسباب الخوف: أن هذا الدين من أركانه الجهاد.
هكذا قال في مقالة نشرها في مجلة العالم الإسلامي التبشير والاستعمار.
أنطوني ناتنج يقول في كتابه العرب: منذ أن جمع محمد -صلى الله عليه وسلم- أنصاره في مطلع القرن السابع الميلادي وبدأ أول خطوات الانتشار الإسلامي, فإن على الغرب أن يحسب حساب الإسلام كقوة دائمة صلبة تواجهنا عبر المتوسط.
يقول سالازار في مؤتمر صحفي: إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم.
ويقول آخر: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر وقلق وكاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.
وهكذا يقول مورو برجر: إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الأفريقية.
ويقول هانوتو: رغم انتصارنا على أمة الإسلام وقهرها, فإن الخطر لا يزال موجوداً في انتفاض المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم؛ لأن همتهم لم تخمد بعد.
ويقول: مرمديوك باكتل: إن المسلمين يمكن أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً بشرط: أن يعودوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول؛ لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم.
وهكذا يقولون: إنه إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر قوةً عظمى في العالم مرةً أخرى.
ويقول جب: إن الحركات الإسلامية تتطور عادةً بصورةٍ مذهلة تدعو إلى الدهشة! تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ليدعوهم إلى الاستراب في أمرها، فهذه لا ينقصها إلا ظهور صلاح الدين جديد.(77/21)
دراسات غربية تدل على قوة انتشار الإسلام والمسلمين
هناك أشياء كثيرة درسوها هم وتبينت لهم تدل على قوة المسلمين القادمة.
فمن الدراسات التي أعدت شارلز ويليم أنه في دراسته بعنوان الشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين لمعهد الشرق الأوسط بـ واشنطن، ويهيمن عليه اليهود ويؤثر في توجيه سياسات القوم هناك: كان المسلمون يشكلون في عام (1980م) حوالي (18%) من سكان العالم، وبحلول نهاية الربع الأول من القرن القادم من المتوقع أن يشكلوا أكثر من (30%) وفي الشرق الأوسط نفسه من المتوقع أن يستمر هذا المعدل السريع في النمو، وهكذا فإن مصر من المتوقع أن تصعد من مستوى سكان أقل من سبعين مليون نسمة اليوم إلى قرابة مائة وعشرين مليوناً بحلول منتصف القرن القادم، ومن المتوقع أن تزيد السعودية ثلاثة أضعاف في حجم السكان, فتزيد من واحد وعشرين مليوناً إلى واحد وستين مليون نسمة، وسوف تصبح سوريا قوة سكانية كبرى حيث سيصل سكانها إلى خمسين مليوناً تقريباً عام (2050م) إن هذه التحولات الديموجرافية السكانية المهمة ستبدل تاريخ المنطقة.
وفي كثير من تلك الدول هناك ملمح مميز للسكان وهو: تضخم أعداد الشباب الذين يشكلون بحماستهم ضغوطاً شديدة.
ويواصل كاتب الدراسة التركيز على زيادة شريحة الشباب في الدول الإسلامية التي تشكل مزيداً في قوة المسلمين المستقبلية.
وهذا صمويل هنتكتن الذي يقول في كتابه صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي: بأن الشباب في الثقافات الإسلامية يتسمون بعنف زائد في نوعه.
وهكذا فإنه من غير المطمئن ما سيجده هؤلاء من التضخم في عدد الشباب في العشرين سنة الأولى من القرن القادم.
وإذا أضفنا إلى ذلك انتشار الإسلام في بلادهم، وتمعنا ماذا سينتج عن ذلك؟ وماذا يمكن أن يكون الوضع في المستقبل؟ إنه أمر مخيف لهم أيضاً! فيقولون بأن الإحصائيات في عام (1970م) كان عدد المسلمين في أمريكا خمسمائة ألف, أي: نصف مليون فقط، الآن قرابة تسعة ملايين مسلم، بل إن عددهم يفوق عدد اليهود الأمريكيين وهم في زيادة.
ثم يرصدون أنه بعد (11 سبتمبر) تضاعف عدد الداخلين في الإسلام ثلاثة أضعاف من أهل البلاد الأصليين، وهذا يعني بأن الناس هناك يريدون التعرف على الإسلام والقراءة عنه، هناك دهشة لما يحصل في بوسطن كان يوجد فقط في عام (1982م) مسجد واحد فقط، يوجد الآن في بوسطن (30) جامعاً تصلى فيه صلاة الجمعة، ومصليات في مستشفيات هناك، وفي ثانويتين توجد مصليات، قضايا الحجاب ترفع بعضها فيكسبها أهلها المسلمون, وبعضها لا يكسبونها، لكنها تنبئ عن تحدٍ واستمرار على الدين وتمسك به.
يقول أحد خبرائهم: أحد إغراءات الإسلام أن أخلاقهم صارمة، الكثير من الناس الذين يعيشون حياة الفسق يريدون تغيير حياتهم, لكنهم يحتاجون للمساعدة، ثم يجدون المساعدة في دين الإسلام.
واضطرت هيلاري كلينتون إلى الاعتراف بأن الإسلام هو الأسرع انتشاراً في أمريكا، وبدأ المسلمون يتحركون بشكل إيجابي في بعض النواحي، ومما يؤكد على قضية الإغراء الخاص لهذا الدين بما ينتزعه من عدد من الناس من الطبقة الوسطى ويصهر الأعراق في بعضها، في المساجد أكثر من ثمانين ألفاً من المسلمين الأمريكيين هم من أصول أوروبية.(77/22)
انتشار الكتب الإسلامية ونُسخ ترجمة القرآن
وهكذا إذا وجدنا أيضاً من الأمور أنه قد حصل إقبال كبير بعد الأحداث الأخيرة على تفسير القرآن الكريم، ويقدر بعض الخبراء في أمريكا أن الذين يعتنقون الإسلام سنوياً فيها خمسة وعشرون ألف شخص، وأن معدلات اعتناق الإسلام تضاعفت أربع مرات بعد الأحداث الأخيرة؛ ويعود ذلك إلى سعة انتشار الكتب الإسلامية، ونسخ القرآن الكريم المترجمة (ترجمة المعاني) وتزايد الإقبال على شرائه في المكتبات، معارض كتب تنتهي فيها الكتب الإسلامية، تنتهي فيها ترجمات معاني القرآن العظيم، وصارت الكتب الإسلامية تحتل مكانة في قائمة الكتب العشرة الأكثر مبيعاً لدى شركة بيع الكتب عبر الإنترنت: amazon.
com ثم تجد بعد ذلك الإقبال على مواقع الإنترنت الإسلامية من قبل الكفار أنفسهم، والإقبال على المواقع الإسلامية بالملايين سنوياً.
وهكذا صار الإسلام هو الدين الأسرع نمواً لديهم، ونجد إقبالاً من الغربيين على القراءة في كتب الإسلام، والمكتبات أعلنت أنه نفدت عندها النسخ من بعض الكتب الإسلامية، وتقول مديرة إحدى المكتبات في فرنسا: إننا نشهد حالياً بروز جمهور فرنسي جديد تماماً علينا، يبدي اهتماماً خاصاً بشراء ترجمات القرآن الكريم باللغة الفرنسية، ويقبل بكثرة على الكتب المبسطة من نوع: اكتشف الإسلام، أو ما هو الإسلام؟ أو تاريخ الإسلام.
المواطنون الألمان في الجهة الأخرى فضلوا ألا يكونوا بدورهم أسرى لأجهزة الإعلام -بعضهم على الأقل- ونفدت في مكتبة بوفيث في بون الكتب الإسلامية عندما أقبل عليها الناس وانتشرت ثلاثة أضعاف عن الأيام العادية، وصار من الكتب المرغوبة جداً تفاسير القرآن الكريم باللغة الألمانية، وما يتعلق بالحياة اليومية للمسلم، وما يخص المرأة والعائلة والحياة في الإسلام.
وعشرات من المواطنين يتصلون يومياً بالمراكز الإسلامية ويطرحون أسئلة واستفسارات، ويتصلون على مواقع الإنترنت ليسألوا عن أشياء عن الإسلام.
مدارس ابتدائية ومتوسطة في بعض الولايات المتحدة تطلب من بعض الطلاب العرب الموجودين في الجامعات هناك أن يأتوا ويتكلموا ساعة عن الإسلام.
وهكذا اعترافات المحللين الغربيين، والمؤرخين المستشرقين، بأن المستقبل لهذا الدين، وأن طبيعته في الانتشار عجيبة.(77/23)
انتصار الإسلام في كافة المواجهات العقدية
ثم نلاحظ أيضاً انتصار الإسلام في كافة المواجهات العقدية كما حصل بين ديدات وسوقر على سبيل المثال، ليس هناك منازلة دخلها عالم مسلم، أو فقيه مسلم، أو طالب علم متمكن، أو داعية متمكن إلا هزم الذي أمامه، مهما كان من القوة والخبرة والسن والإمكانات والبلاغة إلى آخره، لا توجد معركة حجة وبيان دخلها مسلم متمكن إلا وانتصر فيها، فما معنى ذلك؟!! ثم إن هناك مطالبة بالزي الإسلامي، والذبح الحلال، وانتشار الحجاب، واسترجاع الهويات الإسلامية، حتى من أناس قد كانوا ضاعوا هناك، ترتفع شعبيات إذاعات القرآن الكريم، إقبال في مواسم الطاعة عجيب، امتلاء المساجد، الإسلام دين الفطرة، إنه لأمر غريب جداً أن تقبل أبعد النساء عن الدين إلى التوبة مثل الفنانات والممثلات! إنه شيء غريب فعلاً، هذا التحول الكبير! حتى صار يخشى على حلبات الفن ألا يوجد فيها أحد يمثل أو يغني، ولا بد من دفع أناس جدد كثيرين كما تقتضي الخطة العفنة لسد فراغ الفنانات التائبات والمغنيات.
وتناقش قضية حجاب المذيعات في القنوات، وتضطر القنوات الفضائية إلى استضافة مزيد من المشايخ، وفتح مزيد من البرامج عن الإسلام.(77/24)
اعتراف الأعداء بصحة الأحكام الإسلامية
نجد كذلك من الأشياء التي ترفع معنوياتنا وتعطينا الثقة أكثر: أنهم يعترفون من خلال أبحاثهم وكتاباتهم بصحة أحكام الشريعة الإسلامية، حتى إن جوستاف لوبون يقول: إن مبدأ تعدد الزوجات الشرقي نظام طيب يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم، ويزيد الأسر ارتباطاً، لا تعدم امرأة من الأمم التي تجيز تعدد الزوجات زوجاً يتكفل بشئونها، والمتزوجات عندنا -هو يقول- نفر قليل وغيرهن لا يحصين عدداً، تراهن بغير كفيل بين بكر من الطبقات العليا قد شاخت وهي هائمة متحسرة، ومخلوقات ضعيفة من الطبقات السفلى يتجشمن المشاق، ويتحملن مشاق الأعمال، وربما ابتذلن فيعشن تعيسات متلبسات بالخزي والعار، قد سفك دم شرفهن على مذبحة الزواج الذي لا يحصل.
اعترفوا حتى بالأشياء التي حرمت عندنا في شريعتنا ونسخت كل الشرائع: أن لحم الخنزير ضار؛ لاحتوائه على البوليك بشكل مكثف، وأنه عسير الهضم، وأن من كل مائة رطل من لحم الخنزير يوجد خمسون رطلاً من الدهن، بينما في الضأن (17%) وفي العجول (5%) وثبت بالتحليل احتوائه على نسب كبيرة من الأحماض الدهنية المعقدة، ومن الكليسترول الضار أيضاً.
اعترفوا بمنافع السواك، اعترفوا أن الوضوء والاستنشاق حلٌ لقضية التهاب الجيوب الأنفية، وأن الوضوء يقي من الأمراض الجلدية، وأن الصوم فيه صحة، وأن كثرة تعرض جسد المرأة للشمس وانكشافه للجو يزيد نسبة سرطان الجلد عندها، وهناك كتب عندهم: التداوي بالصيام لـ شلتن، الصوم الطبي النظام الغذائي الأمثل ألن كوت، هناك لوحة كبيرة في مستشفى ألماني مكتوب باللغة الألمانية: (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، فإن كان لا بد فاعلٌ فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنفسه) بعد قوله: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه).
وهكذا اكتشفوا بأن الاختلاط ضار، وأن منع الاختلاط هو الصحيح، وتبنى الرئيس الأمريكي قرار البروفيسور إميليو إفانيو رجل القانون المتخصص في النظام التربوي في أمريكا بالدراسات العديدة التي تؤكد أن الفصل بين الجنسين في المجال الدراسي يساعد على اجتياز الفتيات والفتيان بصورة أفضل، وأن الأولاد يفضلون الدراسة في الفصول غير المختلطة، وكذلك الفتيات يفضلن هذا الأمر؛ حتى لا يضطررن إلى التزين قبل الذهاب إلى المدرسة؛ لأنه يضيع وقتهن، ويعرقل تقدمهن الدراسي.
وهكذا قامت كليات ومدارس مدعومة من قبل الحكومة لديهم على أساس الفصل بين الجنسين؛ لأنه ثبت لديهم أنه يعطي نتائج أفضل في المستوى التعليمي للذكور والإناث.(77/25)
فزع الكفار ورعبهم من أبناء المسلمين
ثم ماذا نجد بعد ذلك من إقبال على الشريط الإسلامي، والكتاب الإسلامي، والمدارس الإسلامية.
إن هذه القضية أيها الإخوة توضح لدينا بجلاء بأن الإسلام قادم وقادم بقوة، وعندما نجد حتى حوادث لدى الضعفاء المساكين من المسلمين في فلسطين ضد اليهود تضحك جداً.
وعندما يقوم واحد من المسلمين بقتل عشرة من اليهود كل واحد برصاصة، ويجرح خمسة وهو واحد ببندقية قديمة، حتى قالوا: إنها فضيحة كبيرة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وأعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها ستعترف بمرض جندي إسرائيلي قال إنه أصيب صحياً خلال خدمته العسكرية, عندما تعرض لصدمة نفسية؛ بسبب حمار فلسطيني -طبعاً الحمير لها جنسيات- وكان الجندي قد تولى مهمة حراسة خلال نشاط الوحدة العسكرية التي يخدم فيها، وهي وحدة مختارة من شعبة الاستخبارات في أغسطس عام (1999م).
يقول الجندي اليهودي: في ساعة متأخرة من الليل أنه سمع صوتاً فاشتبه في الأمر واعتقد أن فدائيين فلسطينيين اكتشفوا وجوده فقال: انخفضت دقات قلبي، وشعرت أنني جمدت في مكاني دقائق طويلة، واتضح فيما بعد أن الصوت صادر عن حمار فار من الحظيرة التي أعدها له صاحبها الفلسطيني، ولكنه كان مخيفاً -كما يقول الجندي اليهودي، لا أدري كيف شكل هذا الحمار- ويضيف: ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بجفاف في لساني وفمي وبحاجة دائمة للشرب، فتوجهت إلى طبيب فقال: إنني مصاب بالسكري، وعند تسريحه من الجيش توجه الجندي إلى السلطات العسكرية طالباً الاعتراف به كمعوق أمني، لكن الوزارة رفضت ذلك وقالت: إنه لا علاقة له بمرض السكري، فاعترض وقدم إثباتات على أن السكري ينجم أيضاً عن حالات خوفٍ شديد أو غضب، وتوجه إلى المحكمة طالباً هذا الاعتراف وما ينجم عن ذلك من تعويضات مالية وحقوق أخرى، وعندما شعر ممثل النيابة العسكرية أن المحكمة تميل لقبول الدعوى, أعلن انسحابه وتعهد بالاعتراف بأن الجندي معوق أمنياً ودفع كامل حقوقه له.
والقصة نشرتها وكالات الأنباء أيضاً.
وقريباً قبل أيام نشر الخبر التالي: أثناء التوغل الإسرائيلي أمس في قطاع غزة، قفز الجنود الإسرائيليون فجأةً وأخذوا يترجلون من سياراتهم ويشهرون السلاح في وجوه المواطنين، ويجبرونهم على الرجوع إلى الخلف، فيما قام جنود آخرون بتمشيط المكان، والاستعانة بخبراء المتفجرات إثر سقوط بعض المواد من سيارة فلسطينية، وبعد قضاء عدة ساعات من عمليات التمشيط والتفتيش تبين أنها حزمة سبانخ وليست أية مواد متفجرة، وكان المزارع أبو فتحي من سكان خان يونس قد اعتاد في ساعات الصباح الأولى أن يحمل كمية كبيرة من السبانخ لبيعها في سوق دير البلح، ونظراً لصعوبة الطريق وكثرة الاهتزازات وقعت حزمة سبانخ على الأرض إثر ارتطام سيارته بأخرى على مدخل حاجز المطاحن، وتحديداً بجوار الجدار الإسمنتي الموجود في منتصف شارع صلاح الدين.
الجيش اليهودي يعيش حالة رعب وفزع كثيرة إثر عمليات المقاومة الفلسطينية.
إذاً: رعب أعدائنا منا رعب! الرعب هذا يعني: (نصرت بالرعب) وهو للأمة عموماً وليس خاصاً بزمن النبي عليه الصلاة والسلام فقط كما ذكر العلماء، إنهم يعيشون والله العظيم رعباً من المسلمين.
وإذا رأوا واحداً أراد أن يأخذ شنطته في الطائرة تقافزوا نحوه.
رعب كبير يعيشونه، فما معنى ذلك؟!!(77/26)
مصير الإسلام ليس مربوطاً برجال معينين
إن الإسلام كالشمس إن غربت في جهة طلعت من جهة أخرى، فلا تزال طالعة، وإن مات فرد من أفراده أقام الله من المسلمين من يجبر النقص ويسد الثغرة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
إن هذه الأمة قادرة بإذن الله على تعويض النقص الذي يطرأ عليها، ولقد تبدلت أحوال وبقيت هذه الأمة، لو أن أمةً أخرى شنت عليها الغارات التي شنت على هذه الأمة لاندثرت منذ زمن بعيد، ومع ذلك فإن مصير الإسلام غير مربوط برجال أو أفراد معينين، ولا جماعات معينة، إنه دين أنزله الله ليبقى لا ليندثر ولا لينمحي، وقد يموت شخص فتحيا أمة:
إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول
إن هذه الأمة معطاءة ولود, إذا سكت منها صوت خلفه أصوات، وإذا مات خطيب خلفه خطباء، وإذا استشهد مجاهدٌ خلفه من يحمل الراية ويهاجم الأعداء، وهذا وعد الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) حديث صحيح، يحيي ما اندرس من الدين ويعيده صافياً نقياً.
وقال عليه الصلاة مبيناً أن الله يجعل في الأجيال من يقوم بالدين: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته) رواه الإمام أحمد، وهو حديث صحيح.
(لا يزال) إذن هناك توالي في العملية، وهناك شباب قادمون وأجيال ستأتي، غرس يغرسه الله عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] الطائفة المنصورة منصورة باقية لا تهزم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) إنها أمة عجيبة مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره، كله نافع للزرع، المطر المتقدم والمطر المتأخر، نعم.
إن المتقدم كالصحابة والسلف أهمَّ، لكن المتأخر مفيد أيضاً، ومن المعلوم أن الله يعلم أيهما خير، ولكن في آخر الأمة هناك أناس يقاربون في الفضل وإن لم يصلوا إلى ذلك الفضل.
وإذا نظرنا في شواهد التاريخ، أتى الصليبيون بلاد المسلمين في القرن الخامس، احتلوا أكثر مدن الشام أكثر من مائتي عام، وسقطت القدس في أيديهم (92) سنة، وقتلوا فيها تسعين ألفاً من المسلمين، وشابت الولدان من أهوال جرائمهم، ولكن رجعت مرةً أخرى إلى المسلمين، وقام نور الدين محمود الملك العادل ليث الإسلام، وحامل رايتي العدل والجهاد، أظهر السنة وقمع أهل البدعة، شجاع وافر الهيبة، فقاد الجموع، انتزع من الكفار نيفاً وخمسين مدينةً وحصناً، قال: لما التقينا بالعدو خفت على الإسلام فانفردت ونزلت ومرغت وجهي على التراب وقلت: يا سيدي! -يخاطب الله عز وجل- من محمود؟! الدين دينك والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك، قال: فنصرنا الله عليهم.
قال الفقيه الشافعي النيسابوري يوماً: بالله لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين.
قال: اسكت يا قطب الدين! إن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟! من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟! ومن هو محمود؟! فبكى من كان حاضراً رحمه الله.
ثم مرت الأمة بشدة أعظم وأدهى وأمر، عندما اكتسحها في أوائل القرن السابع التتر وفعلوا ما لا يصفه قلم، ملايين القتلى، ومع ذلك كما تقدم انتصر المسلمون، ورجعت القوة لأهل الإسلام مرة أخرى، وعقر جواد قطز في المعركة وبقي ثابتاً راجلاً والقتال دائر، ولامه من معه: لم لا تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء قتلك هلك الإسلام.
قال: أما أنا فكنت أروح إلى الجنة إن شاء الله، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه ولن يضيع الإسلام.
وهكذا حمل الراية الظاهر بيبرس وغيره، وجاء الأشرف خليل ليقضي على آخر إمارة للصليبيين في عكا سنة (690) للهجرة ويخرجهم منها، صمد الإسلام أمام أعنف الضربات وأقساها وحشية، ولكن بعث الإسلام وطلائعه كانت تأتي حيناً بعد حين، ولا زال الله يقيض لهذه الأمة من يقوم بأمره سبحانه وتعالى.
هذه أمة عظيمة، أليست هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟! أليست هذه الأمة أمة مرحومة؟! أليست هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة؟! أليست هذه الأمة محفوظة بحفظ الله لا تهلك بغرقٍ عام، ولا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستأصلهم عن آخرهم؟! أليست هذه الأمة من أول الأمم دخولاً الجنة؟! ألسنا الآخرين السابقين يوم القيامة، الآخرون زماناً السابقون يوم القيامة؟! ألسنا فضلنا بيوم الجمعة، والتأمين خلف الإمام، والتحية بالسلام، وأن صفوفنا على صفوف الملائكة؟! ألسنا ثلثي أهل الجنة؟! أليس يبعث الله على كل رأس مائة سنة واحداً منا يجدد لنا الدين، أو جماعة يجددون الدين يعدهم بالنصر والتمكين؟! أليس الوعد من النبي عليه الصلاة والسلام حاصلاً: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين, بعز عزيزٍ أو بذل ذليلٍ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين والرفعة)؟! إذاً: لا يمكن أن تجتث ولا أن تهزم، ولو ضربوها بالقنابل الذرية والنووية، ولو مسحوا مدناً وأبادوا أهلها، ولو هجَّروا أهل فلسطين منها كما يريدون في مخططهم الجديد المزعوم.
فإن الله تعالى سيقيض من هذه الأمة من يهزمهم حتماً، ومن يموت على نية حسنة يموت شهيداً ويذهب إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، ومن يبقى وهو ملازم لأمر الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعيش كبيراً ويموت كبيراً لأجل عظم الغاية التي يعيش من أجلها.
أيها الإخوة! إن هذه الكلمات هي لرفع المعنويات والإثبات بالأدلة الشرعية، وبالواقع العملي أن الإسلام هو القوة القادمة، وأن النصر له لا شك ولا ريب.
وفي هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم في الظلمات والظلم, يصاب الكثيرون باليأس والإحباط فنقول لهم: كلا كلا.
لكن لا يجوز الاتكال على الشرف، ونقول: سننصر بدون سبب، فلا بد من العمل: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اعملوا: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
أيها الإخوة والأخوات! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يجعلنا من عباده المتقين الذين يقولون الحق وبه يعدلون، وأن يجعلنا ممن نصر بهم دينه، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(77/27)
إغلاق منافذ الشر
باب سد الذرائع له أهمية في الشريعة الإسلامية، والكتاب والسنة مليئان بالأدلة التي توضح أهمية هذا الباب، وقد ذكر الشيخ عدة أدلة من الكتاب والسنة على ذلك، كما تحدث عن كثير من القضايا في باب سد الذرائع، وأتى أيضاً بعدة فتاوى للعلماء المعاصرين تدخل تحت هذا الباب.(78/1)
مقدمة في باب سد الذرائع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى أن عدنا جميعاً إلى هذا المكان وإلى هذا الدرس، نسأل الله أن يجعله عوداً حميداً وقولاً سديداً، وأن يشملنا وإياكم برحمة منه ومغفرة، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً.
أيها الإخوة هذا الدرس -إن شاء الله- سيكون من الآن وحتى الحج أو إجازة الحج درس أسبوعي في كل يوم أربعاء لقلة الأسابيع المتبقية وما سيعقب الإجازة من توقف لظروف الامتحانات وغيرها.
وموضوعنا في هذه الليلة موضوع مهم، موضوع من مباني هذه الشريعة، ومما يدل على عظمتها وتماسكها، ومما يدل على إحكامها وإتقانها من لدن حكيم خبير سبحانه وتعالى، وهذا الموضوع الذي أشير إليه بعنوان "إغلاق منافذ الشر" هو في الحقيقة كلام عن باب سد الذرائع في الشريعة، وسد الذرائع من الأمور المهمة جداً، ولهذا المفهوم تطبيقات كثيرة في الواقع نحتاج إليها، نحتاج أن نستلهم من الشريعة طريقتها، نحتاج أن نستلهم من الشريعة طريقتها في معالجة الأمور وفي أحكامها؛ لأن الإنسان إذا اهتدى بهدي الشريعة في واقعه فإنه يصل إلى خير كثير بإذن الله.
أما الذرائع: فإنها المنافذ والسبل، وفي اللغة: الذريعة هي السبب الموصل إلى الشيء، والطريق المؤدي والباب والوسيلة، الوسيلة إلى شيء تسمى ذريعة، وهي تحمل معنى التحرك والانتقال من شيء إلى آخر، والذريعة في اللغة: كل ما يتخذ وسيلة إلى غيره.
وفي الشرع إن كان المقصود مصلحة فينبغي فتح الذرائع إليه، وإن كان محرماً ينبغي سد الذرائع، إذاً هناك في الشريعة فتح ذرائع وسد ذرائع، الشريعة جاءت لسد الذرائع وفتح الذرائع، سد الذرائع إلى المحرمات وفتح الذرائع إلى الخير والبر كما قال الناظم:
سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم
وهو الواجب حتم أيضا.
قال ابن القيم رحمه الله: إذا حرم الرب شيئاً وله طرق تفضي إليه وتؤدي إليه فإنه يحرم هذه الطرق والوسائل تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ومنعاً من الاقتراب من حماه.
وفي المقابل إذا أمر الله بشيء وأوجبه فإن الشريعة جاءت لفتح الطرق إليه، لفتح الذرائع إلى هذا الأمر وهذا الخير الذي أمر الله به، انظر مثلاً إلى النظر إلى المرأة الأجنبية، لما كان ذريعة إلى الزنا صار محرماً، والسعي إلى البيت الحرام لما كان ذريعة للحج وأداء الفرض صار مأموراً به يوصل إلى الحج المشروع، فالمنع من النظر إلى الأجنبية سد للذريعة، والسعي إلى البيت الحرام فتح للذريعة.
والأشياء التي جاءت الشريعة بتحريمها قد تكون حراماً لذاتها كالخمر، وقد يكون حراماً إذا أدى إلى حرام مثل بيع العنب لمن يعصره خمراً، وهناك أمور قد أجمع العلماء على عدم سدها، وأمور قد أجمع العلماء على سدها، وأمور قد حصل فيها الخلاف، فمن الأمور التي أجمع العلماء على عدم سدها مثل: منع زراعة العنب، لا يمنعون من زراعة العنب بحجة أنه يُتخذ منه الخمر؛ لأن العنب فيه فوائد كثيرة، فإنه يؤكل بالحلال ويؤخذ منه الزبيب وغير ذلك من الأشياء المباحة.
التجاور في البيوت والسكنى في العمائر قد يؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ودخول الجار على زوجة جاره بالحرام، لكن لم يمنع منه العلماء؛ لأن فيه فوائد عظيمة للناس، والناس يحتاجون للازدحام والسكن، يحتاجون إلى السكنى في العمائر والبيوت المتجاورة، فلم تحرم عند العلماء من أجل أنها تؤدي إلى مفاسد؛ لأن المصالح التي فيها أعظم لا تقارن بالمفاسد، وكذلك بيع السكاكين في الأحوال العادية ليس محرماً، السكين فيها منافع كثيرة، فبها تذكى بهيمة الأنعام، ويستخدمها الناس في أشياء متعددة، فهل يقال بمنع بيع السكاكين لأنه ربما يستخدمها بعض الناس في الإجرام؟
الجواب
لا.
لكن إذا صار وقت فتنة فلا يباع السلاح في وقت الفتنة.
هناك إذاً مفاسد مهدرة لا يلتفت إليها بجانب حاجة الناس والمصالح العظيمة، وهناك أمور أجمع العلماء على سدها مثل: سب الأصنام إذا كان يؤدي إلى أن يسب المشرك الله عز وجل، إذا سببت إلهه وصنمه سب الله، فلا يجوز لك أن تسب صنمه؛ لأنه يفضي إلى أمر أعظم.
وكذلك المنع من شهادة الخصم على خصمه لأنه يخشى الشهادة بالباطل، وهناك أشياء اختلفوا فيها كبيع الأجل.(78/2)
الأدلة على مفهوم سد الذرائع
إن قال إنسان: ما هي الأدلة على هذا المفهوم -يعني: سد الذرائع وإغلاق منافذ الشر-؟ ولعلنا سنركز على هذا الجانب وهو سد الذرائع، مع أن فتح الذرائع موضوع مهم جداً أيضاً لعلنا نذكر منه طرفاً.(78/3)
الأدلة من القرآن
أما الأدلة من القرآن على هذه القاعدة كثيرة، فمنها: قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فنهينا عن سب آلهة المشركين إذا كان سبها يؤدي إلى سب الله.
ومنع المسلمون من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة (راعنا) حتى لا يستعملها اليهود والمنافقون شتيمة للنبي عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا يقولون: يا محمد! راعناً -يعني: من الرعونة والطيش- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة:104] لأن كلمة "انظرنا" لا تحتمل معنى سيئاً بخلاف الكلمة الأولى: {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] ومنع الله آدم وحواء من الاقتراب من الشجرة.
أيها الإخوة! أرجو أن نتفطن لهذا المفهوم، هذا المفهوم دقيق ويحتاج إلى تفكير وتركيز، وفهمه يسهل فهم أشياء كثيرة جداً، ويسهل عليك اتخاذ إجراءات كثيرة في حياتك، ويسهل عليك معرفة أحكام شرعية كثيرة، ويسهل عليك فهم فتاوى العلماء في كثير من الأحيان.
مفهوم "سد الذرائع" هذا له ارتباطات اجتماعية ودعوية واقتصادية وغيرها كثير في الواقع، هذا المفهوم "سد الذريعة".
منع الله آدم وحواء من الاقتراب من الشجرة حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى الأكل منها، فقال الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] الأصل المنع من أكلها، لكن سداً لذريعة قد يتوصل بها إلى الأكل نهياً عن الاقتراب: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] وغير ذلك من الأمثلة الكثيرة في القرآن.(78/4)
أدلة من السنة على باب سد الذرائع
وأما في السنة فإن الأدلة قد جاءت أيضاً بمفهوم سد الذرائع التي توصل إلى المحرمات، وعلى رأسها الشرك، فمثلاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ما شاء الله وشاء محمد، للشخص حسماً لمادة الشرك وسداً لذريعة التشريك في المعنى، وقال لمن قال له: ما شاء الله وشئت قال: (أجعلتني لله نداً؟) ونهت الشريعة عن رفع القبور، أكثر من شبر، وتعليتها لا تجوز، ونهت عن تجصيصها وإنارتها والكتابة عليها حتى لا تكون ذريعة إلى عبادة الموتى وتعظيمهم وصرف أنواع من العبادة لهم كما حدث للكثيرين من المسلمين في هذا الزمان وغيره نتيجة بناء الأضرحة على القبور وتشييد المباني عليها وجعل الخدام والسدنة لها وهكذا.
نهت الشريعة عن تعليق التمائم حتى لا يكون ذريعة للشرك، يعتقد الناس أن النفع من التميمة، وأن التميمة تؤثر بذاتها، والأمثلة كثيرة في كتاب التوحيد للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنه عقد في كتابه هذا فصلاً خاصاً بعنوان "باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك" لاحظ وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، وساق فيه حديث (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ولا تجعلوا قبري عيداً) وفي الشرح لهذا الحديث ذكروا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) فمنعنا من شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، فلا يجوز شد الرحال لزيارة مسجد آخر غير هذه الثلاثة.
وكذلك أتى بالأبواب في كتابه العظيم مثل: لبس الحلقة والخيط والرقى والتمائم والذبح في مكان يذبح فيه لغير الله، والعبادة في القبور، نهينا عن الصلاة في المقبرة؛ لأنها ذريعة إلى عبادة الموتى، لا يجوز الذهاب إلى العرافين والكهان ولو كان الإنسان غير معتقد أنهم يعلمون الغيب، لا يجوز إلا إذا كان للإنكار عليهم أو لإفحامهم وإقامة الحجة، أو لأخذهم وإقامة التعزير ورفع أمرهم إلى القاضي ونحو ذلك.
لماذا نهينا عن سب الدهر؟ لأنه يؤدي إلى سب الله عز وجل الذي خلق الدهر، الدهر ليس له تصرف، لا يضر ولا ينفع، الله الذي خلقه، يقلب الأيام والليالي سبحانه وتعالى.
لماذا نهي السيد أن يقول: عبدي وأمتي، وإنما يقول: فتاي وفتاتي وغلامي؟ نهينا عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها حتى لا يكون ذريعة إلى مشاركة المشركين الذين يعبدون الشمس في ذلك الوقت، حتى في الأمور المتعلقة بالتطير وهذا له اتصال وثيق بالتوحيد، مثلاً: جاء النهي عن التسمي بأفلح ويسار ورباح ونجيح، لأنه ذريعة إلى التطير والتشاؤم الذي كان موجوداً عند كثير من العرب في ذلك الوقت، فإذا جاء وقال: بركة موجودة أو موجود؟ قالوا: ما في بركة.
تطير وتشاءم، ونحو ذلك من الأسماء، فإذا كان يخشى التطير والتشاؤم عند قوم فلا يجوز التسمي بها بينهم.
وكذلك جاءت الشريعة بسد الذرائع المؤدية إلى الوقوع في البدعة، ففكر معي الآن لماذا نهينا عن تقدم صيام رمضان بيوم أو يومين إلا إذا وافق صوم الإنسان؟ لماذا نهينا عن صيام يوم الشك وحرم علينا صيام يوم العيد، واستحب لنا تعجيل الفطر وتأخير السحور، والأكل قبل عيد الفطر؟ والمصلي إذا خرج من الفريضة لا يصلي وراءها مباشرة قد ورد النهي عن ذلك، يفصل بينها وبين النافلة إما بكلام أو قيام، تغيير المكان أو الخروج من المسجد ويصلي في بيته، لا يصل صلاة الجمعة بصلاة وراءها حتى يتكلم أو يخرج، نهينا عن الوصال في الصوم، نهينا عن الرهبانية والتبتل كل ذلك سداً لذريعة البدعة والزيادة في العبادة.
نهانا الشارع عن تصديق أهل الكتاب وتكذبيهم فيما لم يوافق شرعنا أو يخالفه، لأنه إذا وافق شرعنا صدقنا وإذا خالف شرعنا كذبنا، لكن إذا لم يخالف ولا وافق فلا نصدق ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه أو يكون باطلاً فنصدقه.(78/5)
سد ذريعة الفواحش
وتأمل طريقة الشارع الحكيم -طريقة الشريعة- في سد أبواب الفواحش فإن الشريعة لم تحرم الزنا مثلاً فقط وإنما حرمت كل طريق، وسدت كل منفذ يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، تأمل قول الله عز وجل مثلاً: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] قول الله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] النهي عن خروج المرأة متعطرة تمر على رجال فهي زانية، سفر المرأة وحدها بغير محرم فيطمع فيها الفسقة، النظر إلى العورات، النهي عن الجلوس في الطرقات خشية النظر إلى العورات، ولذلك أمر بغض البصر إذا كان لا بد من الجلوس؛ لأنه ليس له مجلس.
الخلوة بالأجنبية: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وصف المرأة المرأة لزوجها، وإفشاء أسرار العلاقة الزوجية، التفريق بين الأولاد في المضاجع.
إذاً الشريعة فيها حكمة من الحكيم الخبير، كل من منفذ يؤدي إلى الشر سدته، وهذا الكلام مهم جداً في هذه الأيام التي عمت فيها سبل الفاحشة من أفلام وتسهيل السفريات وغير ذلك من الأشياء، لو قلت: ما حكمها في الشريعة؟ نقول: انظر إلى ما تؤدي إليه.
قد تكون في الأصل مباحة كالسفر، لكن لما كان يؤدي إلى المحرمات صار حراماً؛ لأن الوسائل لها حكم المقاصد، إذا كان المقصد حراماً فالوسيلة حرام، إذا كان المقصد مكروهاً فالوسيلة مكروهة، إذا كان المقصود واجباً فالوسيلة واجبة، وذلك هو ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذا كان المقصد مستحباً فالوسيلة مستحبة، إذا كان المقصد مباحاً فالوسيلة مباحة.
وتأمل لماذا لا تؤذن المرأة بين الرجال، ولا تكون المرأة إمامة للرجال؟ صفوف النسوة خلف صفوف الرجال، لا يرفع النساء أبصارهن إلا بعد رفع الرجال، يعني: لا يرفعن من السجود إلا بعد رفع الرجال حتى لا تظهر العورات، لأن الرجال كانوا يلبسون الأزر.
وكذلك لو قالوا: ما حكم أن تدرس النساء عند رجل أحكام التجويد؟ قلنا: إذا كانت المرأة تُحسِّن صوتها وتزينه بحيث يؤدي إلى فتنة، فإن كان هناك من النسوة من يُعلم ولو كان هؤلاء النسوة لا يتقنها كل الإتقان، يعني: لا يأتين بالأشياء الدقيقة فنقول: يكفين في تعليم النساء.
وكذلك لو راجعنا ما جاء في الشريعة في مجال اجتناب مواطن التهم، ألا يكون الإنسان في موضع تهمة يُظن به ظن سوء، النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مع زوجته صفية ورآه رجلان من المسلمين يمشي معها أسرعا المشي، قال عليه الصلاة والسلام: (على رسلكما، إنها صفية) قالا: سبحان الله يا رسول الله! يعني: استعظما ذلك، فأخبرهم عليه الصلاة والسلام أن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم، فإذاً الإخبار أنها زوجته وأي واحدة من زوجاته؟ صفية، وحددها بالاسم سداً لذريعة إلقاء الشيطان الشبهة أو الشك في نفس هذين الرجلين.(78/6)
أبواب متفرقة في سد الذرائع
لماذا يُنهى عن الخروج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة؟ إذا أذن المؤذن لا تخرج من المسجد حتى تصلي إلا لحاجة أو ضرورة مثل أن يحتاج إلى الوضوء، أو صار له ظرف طارئ، لكن الأصل النهي ورد عن خروج الرجل من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة حتى لا يظن به ظن سوء.
وكذلك إذا جئت إلى مسجد وهم يصلون وأنت قد صليت هل تجلس وراء الصفوف تتفرج عليهم؟ لا.
كما ورد الأمر بذلك في الصلاة ولو صليت في رحلك وصليت في مسجد آخر ثم أتيت مسجد جماعة فوجدتهم يصلون فصل معهم؛ لأن جلوسك وحدك وراءهم يسبب الشك والشبهة والظن السيئ بك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام -الحديث في الصحيح- لرجل: (ألست من المسلمين؟) واحد أتى ما صلى معهم، أقيمت الصلاة قاموا يصلون وهو ما صلى معهم، قال: (ألست من المسلمين؟ قال: بلى يا رسول الله) لكن أنا صليت.
فأخبره عليه الصلاة والسلام أنه إذا جاء مسجد جماعة وهم يصلون فليصل معهم ولو كان صلى، تحسب له نافلة والأولى هي الفريضة.
وهذا الباب يحتاجه الناس الآن، الإنسان لا بد أن يجلي موقفه، يستفيد من طريقة الشريعة في توضيح الأمور سداً لطريق الشيطان من إلقاء الظنون السيئة في نفوس الآخرين، أولاً: يجتنب أن يكون في مواضع التهم، فلو أن واحداً قال: أكون واقفاً مع الفسقة في الشارع، أو في مكان معروف أنه يرتاده الفساق، نقول: إن جلوسك معهم ووقوفك معهم ذريعة للظن بك ظن السوء، فإذا لم يكن هناك مصلحة راجحة من وقوفك، أو أن تستطيع توضيح موقفك للآخرين فلا تقف هذه الوقفة، ولا تجلس هذه الجلسة، ولا تغش هذا المكان، وأماكن الشر التي يتردد عليها الفساق كثيرة، مثلاً: هل يليق بشاب مسلم يخاف الله أن يذهب إلى مقهى من المقاهي التي تكون فيها الشيشة، ولعب الورق، والطاولة وغير ذلك ويجلس فيها، يكون معهم؟ لا.
والشريعة كذلك تحرص على معالجة النفوس وسد كل طريق من طرق الشحناء والبغضاء، لماذا نهينا عن تخطي المسجد المجاور على فرض ثبوت حديث الذي فيه كلام للعلماء؟ لكن لو ثبت الحديث النهي عن تخطي المسجد المجاور والانتقال إلى المسجد الآخر.
فذلك حتى لا يكون في ذلك ذريعة لهجر المسجد، لأن الناس إذا تخطوا المسجد المجاور وذهبوا إلى مساجد أخرى هجروا مسجدهم، فبقي المسجد بلا رواد، وكذلك قد يكون فيه إيحاش للإمام يقول: هذا لماذا لا يصلي ورائي؟ هل يظن بي سوءاً في ديني، أو خللاً في عقيدتي؟ لماذا لا يصلي ورائي؟ وكذلك يكون فيها تهمة للشخص؛ لأنه من الحارة ومن الحي ومع ذلك لا يرى في المسجد، فأين هو؟ هل هو نائم في بيته؟ لماذا يتخلف عن الصلوات؟ فيظن به ظن سوء؛ ولذلك على الإنسان أن يصلي من الصلوات ما يكون به ساداً لذريعة ظن السوء به.
وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحديث بعد العشاء إلا في طاعة أو مجلس علم أو إكرام ضيف حتى لا يؤدي هذا السهر إلى تفويت قيام الليل أو إلى تفويت صلاة الفجر.
ثبت في الحديث النهي عن النوم قبل صلاة العشاء حتى لا يؤدي إلى ترك صلاة العشاء أو تفويت وقتها، ولذلك الآن أصحاب الأعمال والدوام والنوبات الذين يعملون في الشركات، كمجال الطيران وغيره، هؤلاء قد يداومون في الليل ويحتاجون إلى نوم في النهار، فينبغي عليهم الانتباه إلى ألا يؤدي نومهم إلى تضييع الصلاة.
وكذلك الطلاب في أوقات الامتحانات بعضهم يسهر في الليل للمذاكرة وينام في النهار مما يؤدي إلى تضييع صلاة الظهر والعصر أحياناً، وهذا حرام لا يجوز، فإذا كان العمل أو النوم مباحاً لكن إذا كان يؤدي إلى تضييع الصلاة لا يجوز أن ينام حتى يصلي، أو يتخذ من الإجراءات ما يوقظه للصلاة.
نهى الشارع أن يمدح الشخص أخاه المسلم في وجهه؛ لأنه يؤدي إلى فتنته وإدخال العجب والغرور في نفسه.
النهي عن الاحتباء في الجمعة حتى لا يؤدي إلى خروج الريح، أو انكشاف العورة، أو إلى النوم، أو هذه الجلسة تؤدي إلى جلب النعاس.
ومنعت المعتدة من وفاة زوجها من الزينة والطيب، ولا يجوز أن يصرح إنسان بخطبتها، لأن النكاح محرم في العدة، فنهيت عن كل ما كان ذريعة إليه من التطيب والتزين والتصريح بالخطبة.
هذه قاعدة أيضاً معناها موجود في كثير من الأدلة في العلاقة الزوجية مثل الحائض فإنه لا يأتيها إلا إذا ائتزرت بإزار، ويستمتع بها ما فوق السرة وما تحت الركبة، ولا تجوز المباشرة في الفرج مطلقاً لأنه يؤدي إلى الوقوع في الجماع في الحيض وهذا محرم.
فنقول: أحياناً يكون الشيء مباحاً، ولكن يؤدي إلى شيء مذموم، هب أن إنساناً قدم بلداً وهو ما زال مسافراً سيمكث فيها يوماً أو يومين في نهار رمضان، فإنه يجوز له الإفطار، لكن لا يجوز له أن يفطر أمام الناس لئلا يظنوا به ظن السوء، ما أدراهم أنه مسافر؟ سيجلب التهمة إلى نفسه.
وكذلك ما ذكره العلماء من عدم وضع السم في الطعام للفئران إذا كان في مكان تصل إليه يد الأطفال مثلاً، ونحو ذلك.(78/7)
سد ذريعة الفحشاء والبغضاء
أما في العلاقات الأخوية فإن سد الذرائع قاعدة موجودة واضحة في النصوص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه، إذا كان الواحد يساوم البائع فلا يجوز لإنسان أن يدخل بينه وبين البائع حتى تستقر الأمور على شيء، إما أن تصل إلى طريق مسدود أو يتفقا، لا يجوز إذاً أن تدخل في المساومة -طبعاً هذا غير بيع المزايدة، بيع الحراج هذا أمر آخر، هذا جائز في الشريعة- لكن شخص يتفاوض مع البائع في الدكان على سلعة لا يجوز لآخر أن يدخل بينه وبين البائع، إذا كان اتفق وإياه على السعر ولم يبق إلا العقد والاستلام والتسليم فلا يجوز أن يدخل بينه وبين البائع، إذا تم العقد وهما في خيار المجلس -يعني: في الدكان ما غادراه- يحق لكل منهما الرجوع ولا يجوز أن يأتي بائع آخر يقول من بعيد: تعال، أنا أعطيك بأقل، افسخ البيع وتعال.
أو إذا كانا في خيار الشرط، كأن يقول: أشتريتها منك فإن لم تناسبني أرجعتها إليك بعد يوم، فلا يجوز أن يأتي شخص آخر يقول: بكم اشتريتها؟ ردها إليه، وأنا أعطيك بأقل، كما أنه لا يجوز لمشتر آخر أن يأتي إلى البائع ويقول: افسخ البيع مع المشتري وأنا أشتريها منك بأكثر.
وإنما نهي المسلم عن البيع على بيع أخيه والسوم على سوم أخيه سداً لذريعة البغضاء والشحناء بين المسلمين.
لا يخطب على خطبة أخيه، لو علمت أن فلاناً من إخوانك المسلمين تقدم لخطبة فتاة، فلا يجوز لك أن تتقدم إليهم تخطب البنت وأنت تعلم أن فلاناً قد تقدم، حتى يردوه أو أنهم يصرفوه ولو بالسكوت بمعنى: أنهم لم يركنوا إليه، فإذا ركنوا إليه لا يجوز أن تدخل بينه وبينهم، إذا لم يركنوا إليه فهم مترددون أو ردوه ورفضوه فيجوز لك أن تتقدم أو استأذنت منه فهذا جائز، قلت: يا أخي! ائذن لي أن أخطب هذه، أنت ستجد غيرها، أنت إنسان معروف وأنا غير معروف وما عندي إلا هذه الفتاة التي أتوقع أن يوافقوا لي عليها، فهل تأذن لي أن أتقدم وأخطبها؟ فإن أذن جاز لك، وإن لم يأذن لا يجوز سداً لذريعة الشحناء والبغضاء.
النهي عن تناجي اثنين دون الثالث، لأن ذلك يحزنه، هذه فيها ذريعة إلى البغضاء بين المسلمين، النهي عن الجلوس بين اثنين إلا بإذنهما.
كل ذريعة تؤدي إلى قطع الرحم فهي حرام، وقد منعت الشريعة نكاح المرأة على عمتها والمرأة على خالتها؛ لأن ذلك يؤدي إلى قطع الرحم، لأن كلاً منهما ستغار من الأخرى، هذه عمتها وهذه خالتها وستغار منها، وستكون القطيعة، فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها.
أما في المعاملات والبيوع مثلاً، هذا ذكرنا طرفاً منه فيما يتعلق بآداب الأخوة، وأيضاً الشريعة تسد كل ذريعة إلى الربا، وكل طريق يوصل إليه، ولذلك لا يجوز بيع العينة: وهي أن تبيع سلعة إلى أجل -إلى سنة- بعشرة آلاف ثم تقول: تبعنيها نقداً بثمانية آلاف هذا حرام، لا يجوز لأنه ذريعة إلى الربا.
كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع، مع أن الشريعة تجيز السلف لوحده وتجيز البيع لوحده، لاحظ معي الشريعة تجيز السلف لوحده وتجيز البيع لوحده، لكن حرمت السلف والبيع في آن واحد، لأنه إذا اجتمع سلف وبيع كان ذلك طريقة إلى القرض الذي يجر نفعاً، فإذا قال: أقرضك عشرة آلاف على أن تبيعني ساعتك بكذا.
فلا يجوز، لكن القرض لوحده جائز والبيع لوحده جائز، هذا من الشواهد في السنة.(78/8)
عمل الصحابة في باب سد الذرائع
أما في عمل الصحابة رضوان الله عليهم فالشواهد كثيرة وكثيرة جداً، فمن ذلك أن الصحابة قتلوا الجماعة بالواحد، اجتمع جماعة على واحد فقتلوه، لئلا يكون ذريعة إلا ضياع دماء المسلمين، كلما أرادوا قتل واحد جاءت جماعة فقتلوه وضاع دمه، فالصحابة قضوا بقتل الجماعة بالواحد.
وكذلك نفى عمر من كان سبباً في فتنة النساء بجماله؛ سَمع عمر أن فلاناً يذكر على أنه أجمل أهل المدينة فقال: عليَّ به.
أتى به فحلق رأسه لعل الفتنة تزول، فازداد الرجل حسناً لما زال شعره وظهرت جبهته كاملة، فقيل إنه عممه بعمامة فلا زال جميلاً! فقرر عمر أن يبعده إلى بلدة أخرى حتى لا يكون سبباً لفتنة المسلمات في هذا البلد، وزوجه وأحسن إليه، لأنه رجل ليس بمذنب، فليس ذنبه أن يكون جميل الخلقة فإن الله قد كتب أن يكون جميلاً، لكن سداً لذريعة فتنة النساء مادام أن خبره واسمه وذكره منتشر بين النساء ومتداول أبعده عمر.
قطع عمر رضي الله عنه شجرة بيعة الرضوان التي تبايع الصحابة عندها في غزوة الحديبية لأجل ألا يكون اجتماع الناس عليها ذريعة إلى الشرك.
ولما وجد الصحابة قبر دانيال عليه السلام -هذا أحد الأنبياء- في الفتوحات، وجدوه عند قوم كان يستسقون به، يخرجون جسده وقت القحط، وأجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض، قالوا: مات منذ مئات السنين لكن ما تغير جسمه.
قالوا: فحفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفنوه في واحد منها وسووا القبور كلها لتعميته على الناس حتى لا ينبشوه، كل هذا من حرص الصحابة على سد ذرائع الشرك وتعظيم الموتى.
لماذا عزل عمر خالداً رضي الله عنهما؟ أخبر عمر أنه ما عزله عن سخط ولا عن كره ولا عن خيانة، لكن قال: ولكن الناس فُتنوا به فِخفت أن يوكلوا إليه -بدلاً أن يتوكلوا على الله يقولون: مادام أن الجيش فيه خالد فنحن منصورون- فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه ويبتلوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، هو الذي يصنع النصر وهو الذي يقدر النصر سبحانه وتعالى.
من يخبرني لماذا أمر عمر ببناء الكوفة والبصرة؟ خاف عمر على المسلمين إذا سكنوا في بلاد الفرس والروم أن يختلطوا ويتأثروا بعاداتهم وأخلاقهم، وقد يؤدي إلى الوقوع في شيء من المحرمات، أراد عمر أن يجعل بلداناً خاصة للمسلمين، يكون المسجد في الوسط وحوله المساكن، ويجعل له قاضياً وإماماً، فـ عمر خشي من اختلاط المسلمين إذا سكنوا في بلدان الكفرة أن يتفرق المسلمون فيها ويتأثرون بهم، فمصَّر للمسلمين أمصاراً خاصة.
هذه بعض من أفعال الصحابة في مسألة سد الذرائع، ولا زال العلماء يفتون بقاعدة سد الذرائع، وهذا مشهور في المذاهب ومن أعظمها مذهب الإمام مالك رحمه الله فإن المالكية يعتمدون كثيراً على هذا الباب، لكن ينبغي أن يعلم أنه لا بد أن تكون الذريعة واضحة للتحريم والمنع، لا متوهمة ولا قليلة.(78/9)
فتاوى عصرية في مسائل سد الذرائع
ولنضرب أمثلة من فتاوى العلماء المعاصرين في مسائل سد الذريعة:(78/10)
فتاوى في حكم الاعتناء بالآثار
قام واحد من الكتاب في إحدى الجرائد فذكر جواباً، وذكر فيه أن الدعوة إلى إعادة الآثار وصيانة هذه الآثار وتسهيل الطرق إليها وجعل المرشدين والمصاعد وغير ذلك فيه مشابهة للكفار في تعظيم آثار عظمائهم، وإنفاق الأموال في غير وجهها الشرعي، وغير ذلك، وذكر من ضمن الأسباب أنها من وسائل الشرك لأنها تؤدي إلى تعظيم الأماكن، ونقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلاماً في عدم مشروعية صعود جبل الرحمة ودخول القبة التي في أعلاه المسماة بقبة آدم، وعدم مشروعية إتيان المساجد التي عند الجمرات وزيارة المساجد غير المسجدين مثل المسجد الذي تحت الصفا سابقاً، وفي سفح جبل أبي قبيس، والمساجد السبعة في المدينة، بعض الناس يقول: نذهب لنرى الآثار، ونذهب لزيارة المساجد السبعة ونحو ذلك، ومعلوم ما نقل عن الصحابة في المنع من إتيان جبل الطور مع أن جبل الطور جبل عظيم كلم الله عليه موسى، لكن الصحابي نصح الآخر قال: لو علمت أنك ستذهب منعتك، وكذلك فعل عمر في قطع الشجرة التي في بيعة الرضوان، لو كان الاحتفاظ بهذه الآثار الإسلامية مشروعاً لاحتفظ بها الصحابة وسيجوها وسوروها وأصلحوا ما انهدم منها ونحو ذلك، فإذاً: هي من ذرائع الشرك والبدع والوسائل المفضية إليها.(78/11)
فتوى في عدم جواز إظهار النصراني لدينه في الجزيرة
وكذلك من فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ملخصات سريعة: عدم جواز تمكين الكافر من إلقاء محاضرات في المسائل الدينية في محافل المسلمين على مسمع من العامة.
لا يجوز أن يقام مهرجانات يحضر فيها عوام المسلمين أو مؤتمرات يحضر فيها عوام المسلمين يقوم فيها نصراني بالكلام عن صحة دين النصرانية، وأصل دين النصرانية، والدفاع عن دين النصرانية، لأنه قد يؤدي إلى تأثرهم.(78/12)
فتوى في عدم جواز التجنس بجنسية الدولة الكافرة
وكذلك المنع من التجنس بجنسية الدولة الكافرة في غير الضرورة، وأن هذا التجنس وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم فيه من الباطل والإقامة عندهم ونحو ذلك، قلنا: في غير الضرورة، المنع من التجنس بجنسية الدولة الكافرة.(78/13)
فتوى في تحريم تمثيل أدوار الصحابة في الأفلام وغيرها
وكذلك الفتوى التي جاءت في منع تمثل أدوار الصحابة في المسلسلات والأفلام أنه لا يجوز، هذه الفتوى من هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء أيضاً، لأنه يؤدي إلى امتهانهم والاستخفاف بهم والتعريض للنيل منهم، ولاحظ أن الذي يمثل دور الصحابي يكون قد دخل الاستديو الذي قبله ومثل في فلم حب وغرام، هو نفسه الممثل! يمثل دور صحابي وهو من أفسق وأفجر الناس، وتخرج امرأة تمثل دور سمية أو دور إحدى أمهات المؤمنين وهي من أفسق وأفجر الممثلات، فلا يجوز تمثيل أدوار الصحابة.(78/14)
فتوى في تحريم قيادة المرأة للسيارة في المدن
كذلك الفتوى التي صدرت بتحريم قيادة المرأة للسيارات في المدن.
ذكر الشيخ/ عبد العزيز في فتواه: معلوم أنها تؤدي إلى مفاسد وذكر منها: الخلوة والاختلاط والسفور والزينة، وكشف الوجه وترك البيوت، ونحو ذلك من الأسباب التي تؤدي إليها قيادة المرأة للسيارة، يعني: لو أنها قادت في بر بعيد وما حولها أحد لا تقل إنه حرام، القيادة بحد ذاتها ليست بحرام، إمساك المرأة للمقود وتبديل الناقلة في المحرك والدوس على دواسة البنزين والكابح ليس محرماً بحد ذاته، لكن لو أنه سمح به في المدينة فلا يجوز، النساء اليوم كثير منهن (مفلوتات) من غير قيادة فكيف لو قادت بنفسها وذهبت إلى من تشاء، وواعدت الشاب، لا يحتاج إلى أن يذهب هو إليها، هي تأتي إليه وهي تمشي، وإذا واحد أشار إليها وقفت، وإذا بنشر إطار نزلت وحسرت وغيرت وبدلت، وإذا خالفت المخالفات المرورية تقف ويحاسبها شرطي المرور! المهم تصير المسألة امتهاناً، وفيها مساعدة على انتشار الرذيلة والفساد والاختلاط المحرم.(78/15)
فتوى في تحريم دراسة المرأة لبعض التخصصات
وكذلك ما صدر من فتوى عن الشيخ بتحريم دراسة المرأة لبعض التخصصات التي يعلم أنها ستتوظف بعدها في مجال محرم، يعني مثلاً: ما حكم دراسة المرأة لتخصص في أعمال السكرتارية؟ الطباعة والمراسلات والمقابلات، واختزال الاجتماعات ونحو ذلك، دراسة المرأة لهذا الحقل ماذا يؤدي إليه؟ ليس حراماً أن تتمرن عليه وتفتحه وتدرس المقررات فيها، لكن فكروا يا جماعة، لأن أعداء الإسلام يخططون، وهذا الباب مهم جداً "سد الذرائع" في إفشال مخططاتهم، ووعي المسلم بعظمة دينه وشريعته، ومن مباني الشريعة سد الذرائع، وهو مهم في الرد عليهم وفي إفحام أهل الباطل، فدراسة المرأة لبعض التخصصات التي يُعلم أنها لو درستها بعد التخرج ستتوظف في الأماكن المحرمة لا يجوز دراسة التخصصات هذه أصلاً، وهناك تخصصات مباحة وجائزة مثل أن تتخصص في التدريس أو الخياطة ونحو ذلك، وهناك تخصصات يمكن أن تؤدي إلى محرمات، كأن تختلط وتكشف، وهذا حرام، وممكن أنها تكون في مستوصف نسائي مثلاً تداوي النساء، أو مستشفى نسائي، أو ما تختلط بالرجال ولا تكشف ولا تلمس رجلاً أجنبياً ونحو ذلك، فنقول: هذا مباح.
وهناك أعمال واضح جداً أنها بعد التخرج منها ستشتغل في الأعمال المحرمة، في تخصصات مثل تخصص السكرتارية مثلاً.(78/16)
فتوى بخصوص الزواج من الكتابيات
وكذلك ما صدر من الفتوى بالزواج بالأجنبيات -الكتابيات- هو مباح أم لا؟ الزواج بالكتابية ليس مباحاً على إطلاقه، وإنما المحصنات من أهل الكتاب، إذا كانت معروفة بالعفة، وأما إذا كان لها أصدقاء وتخرج وتذهب لتعاشر من شاءت فهذه لا يجوز الزواج منها، لكن افرض أنها محصنة في ألمانيا والقانون الألماني يعطي الحق للزوجة في الأولاد، لو اختلفت أنت وإياها، أنت المسلم وهي الكافرة لو اختلفت فلجأت للقانون يأخذون منك الأولاد بالقوة، وبسبب هذا تنصر كثير من أبناء المسلمين، عمدتهم في الكنيسة وذهبت وصاروا نصارى، كبروا هناك وصاروا نصارى، هذه حالات كثيرة، والذين درسوا في الخارج واشتغلوا في الخارج وأقاموا في الخارج يعلمون هذا جيداً.
فإذاً هل يقال: هيا تزوج من الكتابية وهو معلوم أنه سيتسبب في أن يلحق أولاده بـ النصرانية أو يكون عليه تسلط من الكفار؟ والآن في حياتنا الاجتماعية لو قلت لي: ما حكم نزول الأولاد إلى الشارع؟ ينزل الأولاد يلعبون في الشارع، ما حكم لعب الأولاد في الشوارع؟ في الأصل أنه مباح لكن إذا كنت أو علمت بالتجربة وبالعلم وبالخبر أن نزول الأولاد إلى الشارع يسبب تعلم أولادك التدخين والمخدرات والألفاظ البذيئة والفاحشة والوقوع في اللواط والخطف إلخ، وأنت تعلم هذا من الواقع ومن الشواهد، فهل تترك أولادك ينزلون إلى الشوارع ويقضون الساعات في الشوارع؟ هذا باب سد الذرائع باب مهم جداً.
وكذلك لو قلنا: ما حكم فتح وكالة سفريات؟ جاء واحد يسأل قال: أنا سأفتح وكالة سفريات، ما رأيكم؟ فتح وكالة سفريات إذا كان يؤدي إلى محرمات مثل المشاركة في نقل الناس إلى عواقب الفساد في الصيف إلى مانيلا وإلى بانكوك وغيرها، وإركابهم الطائرات في خطوط أجنبية تحمل الخمر والخنزير، وذهاب المسلمين إلى بلاد الكفار وغير ذلك، إذاً لا يجوز فتحها، صار هذا عملاً محرماً، أنت تساعد على الفساد.
وكذلك لو قلت: ما حكم فتح محلات الكوافيرات؟ ما حكم تزيين المرأة لشعر امرأة أخرى؟
الجواب
مباح جائز، إلا إذا حصل فيه محرم مثل النمص، والصبغ بالسواد إلخ، أو أنها تجعل شعرها على قصة قصيراً جداً مثل الرجل أو مثل الكافرات إلخ المحاولات الكثيرة الموجودة عند الكوافيرات.
إذا لاحظ الإنسان أن الكوافيرة ستفتح مرتع فساد، وأنه سيكون من عملها نزع شعر المرأة والكشف عن عورتها أو عن جزء أو شيء من العورة، وهذا معلوم، هذا ليس مبالغة، والذي يعرف أخبار الكوافيرات يعلم أكثر من هذا بكثير جداً، فإذا لاحظ أن هذا هو الذي سيحدث أو إذا فتح -مثلاً- معمل خياطة نسائي إذا كان يعلم أنه يؤدي إلى أن يكون مكان فساد فعدم فتحه من باب سد الذرائع.
اتخاذ محلات ألعاب مثلاً يضعون فيها ألعاباً ويأتي إليها هؤلاء الشباب الذين يرتادون محلات الألعاب العامة عادةً ماذا يكون حالهم؟ إذا لاحظ الإنسان أن المكان صار مكان فساد، وتواعد على مواعيد اللواط؟ وهذا صار شيئاً معروفاً فما حكم فتح المحل؟ وما حكم الاستمرار في المحل؟ هو يرى أمامه أن هذا هو الحاصل.
انظر هذا باب سد الذرائع والله باب عظيم جداً من أبواب الشريعة، ولو أن الناس فقهوا فيه والذين يعملون المشاريع وغير ذلك من الناس فهموه لكفينا شراً كثيراً جداً.
مدينة ملاهي، تعمل لك مدينة ملاهي، ثبت لك بالتجربة والواقع أن مدينة الملاهي يعني تبرج النساء والاختلاط ومواعدة الشباب للفتيات في هذه الأماكن مثلاً، نقول: إذا غلب على ظنك أن هذا هو الذي سيحدث فمنعهم لا شك فيه.(78/17)
سد الذرائع في الدعوة إلى الله وفي السياسة الشرعية
وفي مجال الدعوة إلى الله والسياسة الشرعية فسد الذرائع باب عظيم، فأنتم تعلمون حديث معاذ في حق العباد على الله عز وجل ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: (قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) أي: إذا بشرتهم كان ذلك ذريعة إلى اتكالهم، ولهذا قال علي رضي الله عنه: [حدثوا الناس بما يعقلون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟] في مجال الدعوة والتعليم، لا تعط الناس كلاماً فوق مستواهم وفوق عقولهم؛ لأنه يكون ذريعة إلى التفريط بأشياء من الدين أو النفور من الدين ونحو ذلك.
وكذلك هجر الكافر وهو من الشريعة، لكن إذا كان هجره يؤدي إلى زيادة في ابتعاده ومستغن عنك وعن أمثالك، ولو هجرته استراح منك ومن نصحك، وقال: الحمد لله أني افتككت منك، هجر العاصي إذا كان يسبب زيادة معصيته لا يؤجر؛ لأنه يؤدي إلى نفوره، لكن هجره إذا كان يؤدي إلى رجوعه إلى الحق وشعوره بالخطأ يؤجر.
كذلك المبتدع الأصل وجوب هجره والإغلاظ عليه، لكن إذا كان الإغلاظ عليه يؤدي إلى وقوع مقتلة، إراقة دماء فلا، فينبغي أن يُفهم هذا، وهو من باب السياسة الشرعية.
ومثل ذلك أيضاً ترك البناء على النوايا الخفية سداً لذريعة الفساد، مثل النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل المنافقين مع أنه قد ثبت لديه نفاق بعضهم، لكن لم يقم عليهم حد الردة؛ لأنه خشي أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه.(78/18)
التوسع في باب سد الذرائع
وفي نهاية المطاف في هذا الباب بقي عندنا نقطتان: النقطة الأولى: أن التوسع في باب سد الذرائع فيه محاذير لأنه قد يؤدي إلى تحريم أشياء لم تحرمها الشريعة، وكذلك لا بد من الانتباه إلى أن تكون المفسدة حقيقية وليست مفسدة متوهمة، هل نمنع زراعة العنب في أرجاء الأرض لأن بعض الناس سيتخذونه خمراً؟ لا.
لكن هل تبيع العنب على صاحب مصنع خمر؟ لا.
إذاً ما هو الفرق؟ منع زراعة العنب بالكلية، ومنع بيع العنب بالكلية، ومنع بيعه على من عنده مصنع خمر؟ لأن بيعه على صاحب مصنع خمر مفسدة واضحة، لأنه سيستخدمه في صنع الخمر، لكن ذاك ما فيه مفسدة واضحة، الناس يأخذونه ويشربون عصيره ويصنعون منه زبيباً، فالمفسدة منه ليست واضحة ومتأكدة.
نأخذ بعض المسائل والمفاسد المتوهمة التي يؤدي سدها إلى الوقوع في مفاسد أخرى أشد، لو قال: أخشى إن تزوجت أن أكون فقيراً أمد يدي إلى الناس، أخشى إن تزوجت أن أصبح فقيراً وعندي أولاد ما عندي راتب يكفيني ومصروفات، وأصبح فقيراً أمد يدي إلى الناس، وهو يعلم أنه لو ترك الزواج سيقع في المحرمات، فنقول: لا، لا تقل: أترك الزواج سداً لذريعة الفقر، وإنما افتح الذريعة وتزوج يغنيك الله من فضله، تزوج لتسد ذريعة الوقوع في الفاحشة.
كذلك مثلاً من أمثلة المفاسد المتوهمة العصرية، المفاسد الأقلية التي لا تراعى مثلاً: زراعة الجراثيم في معامل الأدوية والعقاقير لعمل الأمصال الواقية، قد يحصل منه مفسدة وانتشار أشياء، لكن هناك مصالح كثيرة في زراعة هذه الجراثيم وعمل الأمصال الواقية والمضادة لها.
فإذاً من الذي يقدر المسألة التي فيها مفسدة فنسد الباب ونمنع ويكون التحريم أو ما فيها مفسدة؟ لا بد أن يكون صاحب علم شرعي طبعه معتدل، وصاحب عقل لا يقع في وسوسه؛ لأن بعض الناس ممكن أن يوسوس في هذا الباب فيسد كل المنافذ؛ وبالتالي يعقد حياته وحياة من معه بحجة سد الذرائع، فمثلاً: يقول للمرأة: لا تخرجي من البيت نهائياً ولا إلى بيت أهلك أو إلى الجيران أو إلى المحل أبداً؛ لأنه يمكن أن تتعرضي للفساد.
فالقول بأنه لا تخرج المرأة نهائياً إلا إلى القبر ما هو صحيح، فمثل هذا الرجل عمل مفسدة، حيث توهم أن كل خروج فيه مفسدة، وهذا غير صحيح، المرأة إذا كانت معروفة عند زوجها بعفتها وصلاحها، فلماذا نمنعها من الخروج بالكلية؟ نعم.
لا نُكثر من خروجها؛ لأن الله قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] قاله لأتقى نساء الأرض لأمهات المؤمنين: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33].
فإذاً، إنسان لا يعرف أن يقدر المفسدة؛ يلجأ إلى صاحب علم وعقل يقدر له المفسدة.(78/19)
مسألة فتح الذرائع إلى الخير من الشريعة
ذكرنا أن سد الذرائع من الشريعة، وينبغي أن يعلم أن فتح الذرائع -أيضاً- إلى الخير من الشريعة، مثلاً: ففتح الذرائع إلى تعلم العلم مهم، السفر إلى العلماء، وحضور الدروس، تمكين الأولاد من حضور الدروس والمحاضرات.
يا أيها الأب: يجب أن تفتح الذريعة إلى الخير، انتشار المعروف خير لا بد من فتح الذرائع إليه، التوعية، استخدام الشريط والكتاب ونحو ذلك، الولد لا بد أن يصلح حاله، تفتح الذرائع إلى ذلك فتشجعه على الصلة بالشباب الطيبين وتسهل تعرفه عليهم وتعرفهم عليه والإتيان بهم.
فإذاً هذا الباب فتح الذرائع إلى الخير أيضاً باب عظيم وأصل مهم من الأصول الشرعية؛ كما أن سد الذرائع إلى المحرمات أصل عظيم وركن ركين من أركان هذه الشريعة.
وكان هذا نهاية المطاف في ما لدينا من النقاط في هذا الموضوع الذي هو في الحقيقة وفي نظري واجتهادي أنه موضوع مهم ينبغي علينا أن نتفقه فيه لأنه يوفر لنا كثيراً من الحصانات، ويرشدنا إلى كثير من أسباب الوقاية، وأيضاً يسهل لك الرد على المبطلين، يقول: الجهاز هذا جهاز كهربائي، شاشة وهذا ليس فيه شيء.
تقول: إنه ذريعة إلى الفساد والشر إذا كان يستخدم في الشر.
فنسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا.(78/20)
الأسئلة(78/21)
حكم المأموم الذي سبقه الإمام بركوع أو سجود دون علمه
السؤال
حدث ارتباك في الركعة الأخيرة ولا نعرف سبب ذلك، هل هو من مكبر الصوت؟
الجواب
لعل هذا السؤال من النساء، أما عند الرجال فما حدث شيء، فهذا يعني أن ذلك من مكبر الصوت عند النساء.
والمهم أنه إذا انقطع مكبر الصوت وفات على المصلي شيء من صلاته فإنه يأتي بما فاته إذا اكتشف صمته ويتابع الإمام، كشخص قائم في الصلاة على أن الإمام يقرأ الفاتحة في الركعة السرية، وفجأة سمع الإمام يقول: سمع الله لمن حمده؛ فماذا يفعل المأموم؟ يكبر فيركع ثم يرفع ويتابع الإمام.(78/22)
حكم تزين الشاب الوسيم
السؤال
هل يمكن أن يكون اللباس والتزين للشاب الوسيم وسيلة وذريعة إلى الفاحشة؟
الجواب
نعم.
فإذا كان جميلاً أو أمرد يخشى على نفسه فتنة فلا يتزين ويتعطر ويتطيب ويخرج بين الفسقة أو أهل الأهواء، أو مثلاً يحسر ثوبه عن ساقيه فقد يكون فيها فتنة أيضاً، وهذا لا يجوز، حرام، فإذاً الإنسان أدرى بنفسه ويعلم بالتجربة، هذه أشياء تعلم بالتجربة، ما فيها جواب واحد لجميع الناس.(78/23)
حكم الجلوس مع أناس لا تظهر عليهم التقوى
السؤال
الجلوس مع أناس يتعاطون الدخان أو أناس لا يتبين من مظاهرهم أنهم أهل التقوى؟
الجواب
إذا كان لنهيهم عن المنكر ينهاهم، وإذا ما انتهوا عن المنكر يتركهم، هذا ما يفعل.(78/24)
تحريم كل عمل يوصل إلى حرام
السؤال
الأمور التي ليست حراماً في أصلها لكن نهي عنها سداً للذريعة هل يجوز أن نعملها؟
الجواب
إذا كان يؤدي إلى الحرام فلا يجوز أن يعملها، أما إذا كان مقصود السائل شيئاً آخر فيأتي ويبين لأن كل الأمور إما أن تكون حراماً بذاتها أو حراماً لما تؤدي إليه.(78/25)
الخروج من المسجد بعد الأذان
السؤال
ما هو الحديث الذي ورد وفيه النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان؟
الجواب
الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان وقبل الصلاة فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) صلى الله عليه وسلم.(78/26)
امرأة تدعو رجلاً أجنبياً إلى الله
السؤال
شخص غير ملتزم لكنه مقبل على الخير، وكان مبتلىً بمعاكسة النساء ابتلاءً عظيماً، دُعي إلى الفاحشة أكثر من مرة ولكنه لم يفعل شيئاً والحمد لله، وقد أعجبت به إحدى الفتيات التي يظهر عليها أنها متحجبة أو يقول: يظهر عليها الحجاب، وأعطته هدية ورسائل فيها كلام طيب.
الجواب
انظر هذه ذريعة، فتاة أجنبية تعطي رجلاً أجنبياً أشرطة وكتباً، وتقول له: إذا صار عندك أي أسئلة اتصل علي، وأصحيك لصلاة الفجر -أنا والله لا أمزح، أنا أقول: والله من جد هذا قد يحصل- أصحيك لصلاة الفجر.
هذا ذريعة للشر، أي نعم، هذا ذريعة للشر والفساد وأعلم يقيناً حالات وقع فيها أناس في محرمات من هذه الطريقة، ما هذه طريقة نصح الرجال للنساء والنساء للرجال.(78/27)
حكم الدش
السؤال
ما حكم اقتناء الدش؟
الجواب
طبعاً هذا واضح، هذا فيه فتوى مثل الشيخ/ عبد العزيز والشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين وغيرهم في تحريمه؛ لأنه ينقل إلينا المحرمات والأفلام الإباحية الموجودة في المحطات الكثيرة العالمية.(78/28)
الضابط في تحريم الألعاب المسلية
السؤال
ما الضابط في تحريم الألعاب المسلية.
الجواب
نذكر بعض الضوابط، بعض الألعاب نص الشارع على تحريمها كالزهر -النرد- كل لعبة فيها نرد -النرد: المكعبات المعروفة- ورد النص بتحريمها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير أو دمه) فهذا واضح.
الألعاب التي فيها قمار حرام، ألعاب تلهي عن ذكر الله حرام، ألعاب فيها صليب حرام، ألعاب فيها تماثيل.
الألعاب التي تعتمد على التهديف، لنقل مثلاً: لعبة البولنج، اللعبة تعتمد على التهديف، تأخذ الكرة وترمي بها مجموعة من القوارير ما عملت فيها مقامرة ولا ألهتك عن الصلاة -مثلاً- أو التهديف بالسهام ونحو ذلك، إذا كان لا يرمي بها في طريق إنسان؛ لأن بعض هذه الألعاب قد تكون مؤذية من مجال أن فيها حداً يخرق ويجرح، فهذه إذا كانت مؤذية فلا يجوز إعطاؤها للأطفال أصلاً، يأثم الأب إذا أعطى لأولاده أشياء يجرحون بها أنفسهم.
الألعاب التي فيها تهديف، أو فيها جمع أشياء وتركيبها، هذه أشياء مفيدة للأطفال، أو عمل سيارات أو طائرات أو محركات، هذه الألعاب فنية وجيدة، الشاهد: أن هناك ألعاباً كثيرة مباحة وألعاباً أخرى محرمة ذكرنا بعضها.(78/29)
حكم إعفاء اللحية إذا ترتب عليها ضرر
السؤال
ما حكم إعفاء اللحية إذا كان يترتب عليها ضرر؟
الجواب
نقول: إذا كان يترتب عليه ضرر لا يتحمل كأن يسجن مدى الحياة أو سنوات طويلة، أو يضرب أو يجلد، أو يؤذى بأنواع من الإيذاء أو يقتل، ففي هذه الحالة يجوز له حلقها، وأما إن كانت المسألة مساءلة وأشياء من التحقيقات التي يتحملها الإنسان في العادة فهذا لا يجوز له أن يحلقها.(78/30)
مشكلة ضعف الالتزام
السؤال
نرى في السنوات الأخيرة كثرة إقبال الناس على الإسلام والتمسك به، لكن هناك نوع من الضعف والفتور في وسط كثير منا -الملتزمين- عموماً في نواحي المحافظة على الوقت والخلطة الزائدة، وفي الضعف في طلب العلم وتربية النفس وغير ذلك من النواحي؟
الجواب
هذا ذكرناه في محاضرات سابقة، مثلاً: ذكرناه في محاضرة منذ فترة ليست ببعيدة بعنوان "مظاهر نقص الاستقامة" فيمكن أن يرجع إليها أو "الجدية في التزام الإسلام" محاضرة -أيضاً- منذ فترة سابقة وقديمة.(78/31)
الطريقة المثلى لإنكار التبرج
السؤال
يوجد بعض المنكرات مثل: تبرج النساء المسلمات، فكيف ينكر الشاب على المرأة؟
الجواب
عليه أن يمشي فإذا رأى متبرجة يقول لها: اتقي الله وتحجبي فقط، ولا يقول: تعالي، أريد أن أكلمك كلمتين، وإنما يقول: اتقي الله يا بنت، أو يا فتاة، أو يا امرأة، وعليك أن تتحجبي وتتغطي.(78/32)
حكم تخطي المسجد المجاور إلى غيره بغرض طلب العلم
السؤال
هل يجوز لواحد أن يتخطى مسجداً لكي يذهب في حلقة علم؟
الجواب
نعم.
هو ما ذكرنا في مسألة المواظبة على ترك المسجد المجاور، دائماً يتركه، أما أنه أحياناً يذهب لحضور حلقة علم أو يستفيد فائدة أو يكون عنده موعد مع أحد الناس فهذا لا بأس به.(78/33)
صيام أربعة أيام من شوال
السؤال
إذا صام شخص أربعة أيام في شوال أو ثلاثة فهل يحصل جزء من أجر الصيام؟
الجواب
نعم.
لأن الحديث يقول: (الحسنة بعشر أمثالها) صيام ستة أيام في شوال بشهرين؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، ستة في عشرة بستين، فإذا صام أربعة يكون له صيام أربعين يوماً.(78/34)
تشريع سد الذرائع
السؤال
هل باب سد الذريعة تشريع حكمه كحكم القرآن والسنة؟
الجواب
لا.
ليس بتلك الدرجة، سد الذريعة أقل من القرآن والسنة والإجماع والقياس، بل هو من الأبواب التي حصل فيها خلاف، وحصل فيها إنكار من بعض أهل العلم، لكن الصحيح أنها من القواعد المعتمدة، وهي في درجة الاحتجاج، وليست مثل الكتاب والسنة والإجماع والقياس، هي أقل.(78/35)
نصيحة للنساء
السؤال
ما هي النصيحة التي توجهها للنساء في بيوتهن حيث يكثر الفراغ في هذه الأيام؟
الجواب
أنصح النساء بتقوى الله تعالى: (من صلت خمسها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت) طاعة الزوج بالمعروف، المحافظة على الصلوات، بعض النساء يضيعن الصلوات، ما تصلي إلا في آخر الوقت، أو تنشغل بالأولاد والبيت وتهمل الصلاة، أو تخرجها عن وقتها، أو تنام عنها، وكذلك الاستفادة من الوقت ربما تنشغل في المطبخ بأشياء فلتجعل لها شريطاً تستمع إليه في هذا الوقت.
وكذلك أن تخالط النساء الطيبات الفاضلات التي تتأثر بهن وتتعلم منهن أو يتعلمن منها، وكذلك فإن المرأة حارسة للقلعة فينبغي أن تصون البيت عن كل منكر ومحرم سواءً كان من لعب أطفال، أو من دخول أجانب أو أناس لا يرضاهم الزوج، أو لا يجيز الشرع دخول هذه الأشياء إلى بيتها، فهي حارسة.(78/36)
مسألة تقديم الدَّين على الحج أو العكس
السؤال
عليَّ دين وأريد أن أحج، فأيهما أقدم؟
الجواب
قدم سداد الدين على الحج.(78/37)
لا يجوز الاتصال بالمشعوذات والمشعوذين
السؤال
هناك امرأة تتصل بها وتخبرها ما بك، فتقول لك: اتصل بعد ساعة.
فتتصل بعد ساعة فتخبرك بمرضك؟
الجواب
واضح أن هذه من المشعوذات الدجالات اللاتي لا يجوز الاتصال بهن ولا الذهاب إليهن، ومن اتصل بها فعليه التوبة إلى الله والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وفعله حرام ويخشى على دينه وتوحيده.(78/38)
إثم من لم يحج وعنده استطاعة
السؤال
لم أحج وعندي قدرة، وعمري سبعة عشر عاماً، هل عليَّ إثم إذا لم أحج وعندي استطاعة؟
الجواب
يجب عليك أن تحج ولو خالفت أباك: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) تذهب ولو لم يرض.(78/39)
الصلاة في المقابر محرمة
السؤال
قلت: إن الصلاة على القبور محرمة، في بلادنا يصلون على الميت في المقبرة؟
الجواب
لا.
هذا استثناء، واحد ما صلى على الميت صلاة الجنازة يأتي عليه بعد ما يدفن ويصلي صلاة الجنازة فلا حرج إذا كان في حدود شهر كما ذكر بعض أهل العلم، إذا كان العهد قريباً فلا حرج في ذلك.
أما أن يصلي صلوات الفرض أو النفل ونحو ذلك فلا يجوز، وقد سبق أن جاء سؤال عن عمال في المقبرة لهم بيت يصلون فيه، فقال الشيخ/ عبد العزيز: لا.
لا يصلون، يخرجوا خارج المقبرة.(78/40)
الأشهر الحرم
السؤال
يقول: هل نحن في الأشهر الحرم؟
الجواب
لا.
الأشهر الحرم غير أشهر الحج، يجب التفريق، أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، أما أشهر الحرم فهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، هذه ثلاثة متوالية، ورجب من الأشهر الحرم.(78/41)
حكم سماع أشرطة أناشيد تثير الشهوة
السؤال
أستمع إلى بعض الأشرطة فتثور عندي الشهوة؟
الجواب
إذا وجد الإنسان أن الاستماع إلى بعض الأشرطة وقد تكون أحياناً ليست أشرطة غناء ولا موسيقى ولكنه يثيره فلا يجوز أن يستمع إليه، نفرض أنه -مثلاً- أحس بفتنة أو شيء من سماع شريط نشيد فلا يجوز له أن يستمع إليه؛ لأن الصوت قد يفتن، أو امرأة -فتاة- قد تصاب بعشق أو إعجاب أو شيء من هذا القبيل في سماع شريط من هذه الأشرطة مثل الأناشيد، فتعلم عند ذلك أنه لا يجوز لك سماعه.(78/42)
حكم مجالسة أهل البدع بقصد الدعوة
السؤال
مجالسة أهل البدع بقصد دعوتهم؟
الجواب
إذا كان جاداً في الدعوة وعنده علم فلا بأس بذلك.(78/43)
لا تخن من خانك
السؤال
أعمل في شركة، وحدث أن أصلحت جهازاً متعطلاً على حسابي، وعند إحضار فاتورة الإصلاح لم يتم صرف استحقاقي، وبعد فترة أخذت الجهازي معي إلى المنزل وعندي نية في عدم رده، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
لا.
رده، لا تخن من خانك كما صدرت بذلك الفتوى.(78/44)
حكم مخالطة أبناء الأقارب وفيهم بعض الفساد
السؤال
زيارة الأهل والأقارب تؤدي إلى رؤية الأطفال التلفاز، ومخالطة أبنائهم وكسب بعض الأشياء السيئة؟
الجواب
فإذاً تقصر الزيارة، وربما توضع في وقت لا يكون فيها أطفال قدر الإمكان، أو أن يشغل الأطفال في غرفة أخرى بألعاب ونحو ذلك، أو أن يأخذهم الأب وتزور الأم أقرباءها، وتأخذهم الأم فيزور الأب أقرباءه، المهم تحاشي هذا الأمر.(78/45)
حكم الجلوس في المقاهي
السؤال
كنت أسافر مع مجموعة من الركاب في سيارة أجرة، فتوقفوا عند أحد المقاهي في الطريق لشرب الشاي وقال السائق: لا يبق أحد في السيارة، فهل يجوز الجلوس في المقهى؟
الجواب
إذا كان المقهى في ذلك الوقت لا ترتكب فيه منكرات فلا بأس من الجلوس فيه، أو يجلس الإنسان في مكان آخر أو عند الباب أو على جانب الطريق، أو في مسجد محطة مثلاً إذا كان هناك مسجد، أو يفترش الأرض بجانب السيارة ويجعل بساطاً يجلس عليه.(78/46)
حكم لبس الذهب المحلق
السؤال
الذهب المحلق؟
الجواب
الصحيح من أقوال العلماء أن لبسه لا بأس به.(78/47)
حكم الصلاة السببية في وقت النهي
السؤال
هل يجوز صلاة ركعتي السبب وفي وقت النهي؟
الجواب
الصلاة لسبب جائزة، صلاة الأسباب جائزة.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(78/48)
رحل الثلاثة فأدركوا البقية
إن منزلة العلماء في الإسلام عظيمة، وما ذاك إلا لأثرهم العظيم على الناس، فكم من جاهل أرشدوه! وكم من تائه دلوه! وكم من مترد من أوحال الكفر انتشلوه! فهم جدار الحماية وصمام الأمان لهذه الأمة، وإنَّ فَقْدَ الواحد منهم ثلمة لا تجبر، ومن هؤلاء العلماء الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين، وفي هذا الدرس عرض لبعض المواقف من حياته وجنازته، ثم قصيدة رثاء لفقده، وتنبيه أهمية التأسي به والاستفادة من مؤلفاته وكتبه.(79/1)
شرف منزلة العلماء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله الموتى، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجهالة والردى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من ضال تائه قد هدوه! فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هؤلاء العلماء شهداء الله في أرضه، هؤلاء العلماء الذين رفعهم الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] العلماء فوق المؤمنين: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18] فبدأ سبحانه وتعالى بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأهل العلم، وكفاهم بذلك شرفاً وفضلاً وجلالة ونبلاً: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
ولذلك أحال الله الأمة إليهم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] وهذه آياته لا يعقلها إلا العالمون، وهذا كتابه مستودع في صدورهم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهم أهل الخشية حقاً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وهم خير البرية بعد الأنبياء: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] هم أهل الخشية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] هم الدين أراد الله بهم خيراً: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ورثوا أنبياءه (والعلماء ورثة الأنبياء) وهذه درجة المجد والفخر، وبهذه الرتبة نالوا الشرف والذكر، فلا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف وارث ميراث تلك النبوة، وفضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى واحد فينا.
هؤلاء العلماء يستغفر لهم من في السموات والأرض من مخلوقات الله عز وجل: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء لهم، وتضع أجنحتها من أجلهم، هؤلاء الذين ألهمت الحيوانات والدواب في قاع البحر، وداخل الجحر أن تستغفر لهم، وبلغ من فضلهم أن الله سخر دواب الأرض التي لا تعقل أن تستغفر لهم، هؤلاء الذين عبدوا الله بالعلم، وخافوه بالخشية والتقوى، وحملوا هذا الدين وبلغوه للناس، شرحوا للناس كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والذي يعظمهم، فإنه يعظم ربه؛ لأنه عظَّم الذين يشرحون رسالات الله سبحانه وتعالى إلى الخلق، هؤلاء أهل العز حقاً، وهؤلاء رؤساء العالم صدقاً، تعلموا العلم وطلبوه وتذاكروا به وبحثوا عنه وبذلوه وعلموه.
أرفع الناس عند الله منزلة، من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء، ومن أراد النظر إلى ميراث الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء، هنا تقسم تركة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وما عبد الله بمثل الفقه، قال الشافعي رحمه الله: "إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء لله، فليس لله ولي" هؤلاء الذين اشتغلوا بالعلم، لكي ينقذوا بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أهل الضلالة والجهالة، فكم من إنسان قد اهتدى من بعد ضلالة، وكم منهم قد تعلم من بعد جهالة!(79/2)
العلم قبل القول والعمل
عباد الله: إن العلم قبل القول والعمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] والوارث قائم مقام الموروث، فله حكمه فيما قام مقامه، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
فالعلماء أصحاب النصيب الوافر، وأصحاب الحظ العظيم الكامل، هؤلاء الذين سهل لهم طريقاً في الآخرة وطريقاً في الدنيا، بما وفقهم إليه من الأعمال الصالحة، وقد جاءت البشائر بفضلهم، وهم أهل الخشية، وليسوا أهل الترخيص والتسهيل، هم أهل الكتاب والسنة، وليسوا أهل التحجر والتعصب والتقليد الأعمى، هؤلاء هم أهل السنة، وليسوا بأهل البدعة، فيموت من أهل البدعة رأس ويموت من أهل السنة رأس، ويشاء الله ذلك، لكن ليعلم أهل الإخلاص والدين والسنة، من هم أهل العلم حقاً.
عباد الله: إنه قد يشتهر كثير من الناس لكن الذين يخشون الله، ويعلمون الناس الدين يختلفون عن حال أولئك الذين تفخمهم وتعظمهم تلك الوسائل.
أيها المسلمون: إن الذي يريد أن يعرف العالم حقاً، فلينظر إلى مكانة دينه وقوته في أمر الله، وإنكاره للمنكر، ولينظر إلى نصحه للمسلمين، وليس إلى التساهل والترخيص المقيت.(79/3)
حقوق العلماء على المسلمين
عباد الله: إن لهؤلاء علينا حقوقاً ولا شك؛ في أمور كثيرة:(79/4)
الطاعة لهم
إن طاعة العلماء عبادة، وقد ذكر أهل التفسير أن أهل العلم من أولي الأمر الواجب طاعتهم، وهم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، وهم الأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم ورثة الأنبياء، هم الذين أبانوا الحق للناس، وهم الذين صمدوا في الفتن، فلنذكر صبر الإمام أحمد رحمه الله تعالى وإبانته الحق للناس، وهكذا صمد ابن تيمية رحمه الله أمام التتر وقاد الأمة للجهاد، وهكذا جدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الدين يوم كانت الدنيا تمتلئ شركاً وقبوراً، وهكذا سار أهل العلم يجددون فقه الشافعي رحمه الله، وفقه عالم المدينة مالك، وهكذا من قبل ومن بعد علماء كثر.
إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة يردها الناس فيستقون منها، هؤلاء أهل العلم الصحيح من الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من البدع والترهات، ولا من الشرك والكفر، هؤلاء أهل الإخلاص في طلبه وتبليغه للناس، ليسوا بأهل دنيا، ولا جماعون للأموال، ولا مرتادون للفارهات، إنما هم أهل الزهد والخشية، الذين كانت سيرتهم في أنفسهم دليلاً على خشيتهم لربهم، هؤلاء الأعزة الذين علموا الناس دين الله، وكانوا كثيراً ما يستخفون من الناس، ولكن الله سبحانه وتعالى يظهر فضلهم ومواقفهم، هؤلاء أهل التواضع الذين لو كثر الناس من حولهم فلا يحملهم ذلك على الترفع والتكبر، هؤلاء أهل الحق الذين يجانبون الهوى، فلا تميل بهم الأهواء.
قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] هؤلاء الذين يتكلمون بالعلم لا بالظن، فإذا جاءوا إلى مسألة لا يعرفونها، قال الواحد منهم: لا أدري، وتوقف عن الفتيا، ومن هو في العلم؟ جبل عظيم.(79/5)
تحريهم والأخذ بفتواهم
أيها المسلمون: لذلك كان حقيقاً على كل واحد منا أن يتحراهم، ويتتبع أخبارهم، ويأخذ من عملهم، ويستفتيهم، ويلجأ إليهم في مسائله وفتاواه، هؤلاء الذين لا يخفون على أهل البصيرة، أما أهل الجهل والبسطاء، فيظنون كل من لبس لباساً معيناً عالماً، ويظنون أن كل من أظهر إظهاراً معيناً فقيهاً، ولذلك فإن المسألة بحق تحتاج والله إلى فقه وبصيرة حتى من قبل العامة، فيا من يلجئون إليه للاستفتاء والسؤال! هذا دين أمانة، ولذلك ينبغي على المسلمين أن ينقبوا تنقيباً عن أهل العلم، ولو سافروا إليهم، ولو وقفوا الساعات الطويلة على هواتفهم وأبوابهم، هؤلاء الذين يعتمد طلبة العلم عليهم.
من هو العالم الذي نسأله؟ من هو العالم الذين نستفتيه؟(79/6)
التأدب معهم في جميع المعاملات
العلماء الواجب نحوهم الأدب، ولذلك فإنه يتلطف في سؤالهم، ولا يضرب بأقوال بعضهم البعض، ولا يحمل الإنسان التعنت على مجادلتهم والمشقة عليهم، هؤلاء الذين ينبغي أن يتلطف معهم غاية التلطف عند توجيه الأسئلة، هؤلاء الذين ينبغي على الإنسان أن يعمل بفتواهم ويجانب الهوى، وليس أن يتتبع الرخص، ويسأل عن الأسهل.
هؤلاء -أيها الإخوة- ينبغي أن يكون لنا معهم موقف شرعي في عدم الغلو بهم، وعدم جفائهم وترك الأدب معهم، وإنما هو أدب معهم، وإنزال لهم منازلهم، حق العالم على الإنسان أعظم من حق الوالد.
من علم الناس كان خير أب ذاك أب الروح لا أب النطف(79/7)
ستر أخطائهم وعيوبهم
هؤلاء الذين ينبغي التأدب معهم حتى في طريقة إتيانهم، فلا تلح عليه إذا كسل ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تشر في وجهه بيدك، ولا تفش له سراً، ولا تمش أمامه، ولا تتبرم من طول صحبته، فإنما هو بمنزل النخلة، تنتظر ما يسقط عليك منها، القعدة بين أيديهم، كقعدة جبريل التي علمنا إياها.
هؤلاء الذين تستر أخطاؤهم وعيوبهم، ولا يشنع عليهم، وهؤلاء الذين يدعى لهم، وحتى عند الاستفتاء لا تقل: رحمك الله، ولا تقل: رضي الله عنك، ولا تقل: وفقك الله وسددك، ورحم والديك، يتقرب إلى الله بخدمتهم، والتواضع لهم، تعظم حرمتهم، وتستر زلاتهم، وتقضى حوائجهم، ويدخل السرور عليهم، بل ويتحف أولادهم.
هؤلاء الذين ينبغي أن يدعى لهم، كان بعض العلماء يدعو لمشايخه في كل ليلة، هؤلاء الذين لا يصح الإفتاء بحضرتهم، فكيف يتزبب ولم يتحصرم بعد، هؤلاء الذين يصبر على جفوتهم، وتبذل لهم الأعذار إذا أخطئوا ومن الذي لا يخطئ من البشر؟ لا تدخل مجالسهم إلا بالاستئذان، ولا يشق عليهم، ولا تطرق الأبواب عليهم في حين راحتهم.
كان ابن عباس رضي الله عنه يجلس في طلب العلم على باب زيد حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا.
وربما طال مقامه وقرعته الشمس.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: [ما دققت على محدث بابه قط، وكنت أصبر حتى يخرج إلي، وتأولت قول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [الحجرات:5]](79/8)
حفظ لحومهم
وكذلك تحرم غيبتهم جداً، ولحومهم مسمومة، وعادة الله في الانتقام من شانئيهم معلومة، وهكذا ينبغي علينا أن نسعى في نشر علمهم، وهذا هو المكسب يا عباد الله؛ العلم ونشره، فإن نشر العلم من الصدقات الجارية، ولو لم تكن صاحب علم، فإذا نشرت كتاباً أو وزعته أو صورت فتوى، ونحو ذلك من العلوم، كان لك من الأجر مثل أجر من انتفع بها، فاحرص يا عبد الله على نشر العلم، فإنها من الصدقات الجارية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الفقه في الدين، وأن يرزقنا اتباع طريق سيد المرسلين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم فقهنا في ديننا يا رب العالمين، واجعلنا من أهل الإخلاص لا من أهل الهوى، إنك سميع مجيب قريب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(79/9)
وفاة الشيخ ابن عثيمين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله العليم علام الغيوب، وأشهد أن محمداً رسول الله، علمنا فأحسن تعليمنا، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه أولي العلم والنهى، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن فقد العلماء مصيبة، وإن ذهابهم رزية، وإن موت العالم العظيم ثلمة في الإسلام، وإنها لمصيبة ينبغي أن تقدر حق قدرها، وينبغي أن نعلم ماذا خسرنا حقاً، لا لأجل أن ننوح ونصيح، ولكن لأجل أن نسعى في استدراك النقص، والوصول إلى الطرق التي تؤدي إلى التعويض.
يا عباد الله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: [موت علمائها وصلحائها]، وكثير من أهل التفسير ذهبوا إلى أنه نقصان بلاد الشرك بفتحها من قبل أهل التوحيد:
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شهم يموت بموته خلق كثير
فعندما يودع العالم قبراً، يتأسف على العلم، فيدفن في القبر علم كثير غزير، فمن بمثل اجتهاده وقدرته على النظر في الأمور.
الكتب كثيرة -يا عباد الله- لكن الفقه والقدرة على الاجتهاد والاستنباط من الذي يقوم بها؟ لا الآلات الحاسوبية ولا غيرها، إنما هي عقول العلماء، إنما هي تلك القلوب الحية التي يعقلون بها، وقد فجع المسلمون بوفاة شيخهم وعالمهم وصاحب الاجتهاد والفقه/ محمد بن الصالح العثيمين رحمه الله رحمة واسعة، الذي ذهب إلى ربه ورحل عن هذه الدنيا، وكان قد استمر حتى آخر عمره في التعليم ونفع الناس والحرص على ذلك، رحل بعد مرض نرجو أن يكون له شهادة عند ربه.
خلوت به قبل موته فقلت له مواسياً: يا شيخنا إن عشت؛ فهو خير ونفع عظيم لنا إن شاء الله، وإن رحلت فليس في هذه الدنيا كبير شيء يؤسف عليه، والحمد لله أنك تركت علماً كثيراً، فقال: أقول كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله فيما رواه البخاري عنه قال: [إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص].
رحل ولم يترك أرصدة في بنوك، ولا قصوراً فارهةً، ولكن ترك العلم بهذه المؤلفات والفتاوى، وهذا ميراث الأنبياء، لقد كانت الجنازة مشهودة، والقاعدة السلفية تقول: آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز.
وإن الناظر في العدد الكبير من الحضور، والكم الهائل من البشر الذين شهدوها، ليذكر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] وكذلك نذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لما قال أنس: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر رضي الله عنه: وما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) وفي رواية: (شهادة القوم المؤمنون، شهداء الله في الأرض) وهكذا استنبط شيخ الإسلام رحمه الله من هذا: أن من أثنى عليه المسلمون خيراً، واجتمعت كلمتهم على الثناء عليه أنه من أهل الجنة إن شاء الله، واجتماع العدد الهائل ومئات الألوف والمنظر الغريب لأهل مكة في اختراق شوارعهم، من أعداد الناس صغاراً وكباراً، شيباً وشباناً وكهولاً، حيث تعطلت الشوارع، وخرجت الجنازة بعد العصر مباشرة، فلم يفرغ إلا قبل المغرب بمدة يسيرة.
أيها المسلمون: هذا فيه درس عظيم لنا في حسن السيرة، إذا أحسنا سيرتنا، فإن الله يقيض من ألسنة المسلمين من يثني علينا خيراً، وبالتالي يكون حكم المسلمين عند الله ثابت: (أنتم شهداء الله في الأرض) فأين حسن السيرة، وحسن الطريقة والتزام الحق المبين؟ لا شك أن الفجيعة عظيمة، ولكن ليس لنا بد من الصبر، فماذا نفعل إلا الصبر، وهل عندنا غير الصبر؟ وهل يطيب العيش إلا به؟(79/10)
قصيدة رثاء
تباركت ربي حين تعطي وتمنع تباركت ربي حين تدني وترفع
تباركت ربي عزةً وجلالةً إليك إذا ما احلولك الخطب نفزع
لك الخلق تقضي حكمة وتلطفاً وكل إلى الله المهيمن يرجع
لك الحكم إن ضاقت علينا وإن بغت ففضلك يا منان أرضى وأوسع
لك الأمر إن لاحت خطوب جسيمة فحفظك يا رحمان أقوى وأنفع
تباركت ثبت مهجة قد تفطرت وقلباً على وقع الرزايا يفزع
أتاك لظى دمعي وهمي وغربتي وآهات روحي والفؤاد المفجع
أعالج جمراً في الحشا وصبابة وتصلى على نار المصيبة أضلع
وأبكي فأستعزي بذكر حبيبنا فأسلو وما يجديك أنك تجزع
لعمري وإن كانت حياة طويلة فكل له في صولة الدهر مصرع
غرورٌ وأحلامٌ وهمٌ وحسرةٌ وظلٌ تولى والجديد يرقع
أأبكيك شيخ الزهد والعلم والتقى وقد حق أن أبكي فؤاداً يصدع
وتسلمنا الدنيا لبلوى ومحنة وللشر أنياب بها السم يلمع
لئن غبت جثماناً فوالله لم تغب وذكرك يبن الناس أبقى وأرفع
تراثك موصولٌ وعلمك خالدٌ وخيرك للغادي مصيف ومربع
وما مات من زانت بساتين فكره وفتواه في العلياء كالشمس تسطع
وما مات من أسدى إلى الحق عمره وقلبك بالأخرى شغوفٌ مولع
يهل كأن القطر من حسن قوله فتثمر أغصانٌ ويزهر بلقع
ركبت مطايا العزم تقوى وهمة وأنت لفعل الخير أدنى وأسرع
وأسدلت ثوب الزهد ثوباً مسربلاًً وذلك ثوب ليس والله يخلع
ومن ذاق طعم الأنس بالله حقبةً فليس له في عيشة الزيف مطمع
وغيرك يستعلي عروشاً كسيحة وأنت على عرش القلوب تربع
تفكرت في دنياك والأمن سابغٌ لمن كان لله المهمين يخشع
صلاةٌ وقرآنٌ وذكرٌ ومسجدٌ وحولك أجيالٌ وعانٍ وموجع
فأنَّى لظلم النفس حظٌ وإنما شغلت بفعل الخير والدرب مهيع
وكم قمت في عين الملمات فانثنت وأنت لحصن الدين باب ممنع
وقفت بشهر الصوم طوداً على الضنا تبش فلا تشكو ولا تتوجع
بلاءٌ لو استعلى على رأس شاهقٍ لخر من البلوى طريحاً يصدع
بليت وفي البلوى طهورٌ ورفعةٌ وفي غمرة السكرات تفتي وتنفع
ومن حولك الأجيال من كل بقعةٍ وأرواحهم تشتاق والدهر يسمع
فأنساهم خوفاً عليك من الردى فوائد حبرٍ عن قريبٍ تشيع
تركتهم جمعاً أقاموا على الأسى أعيذهمُ بالله من أن يضيعوا
ستخلدي يا ذكرى العثيمين معلماً على هامة الأيام تاجٌ مرصع
فوالله لا تنفك تبكيك أمتي ويأسى على ذكراك قلب ومدمع
فتاواك أنوارٌ وصوتك رحمةٌ ونصحك مثل الغيث والشرح ممتع
ونعشك أجفاني وقبرك مهجتي وذكرك للصحب المحبين منبع
لئن أودعوك اليوم في طيب الثرى فقد علموا من في ثرى الطيب ودعوا
وجاورت قبر الباز حباً وصحبةً عسى أن يكن في جنة الخلد مجمع
تخلد أعمال الدعاة وتزدهي وفاءً إذا ما زال كسرى وتبع
عليك سلام الله ما هل هاطل وما هب نسمٌ وانحنى متضرع
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] قوموا فلنمت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك العبارات العظيمة، تلك الآية العظيمة والقاعدة الجليلة التي لأجلها وعليها استمر الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.(79/11)
الحث على الاستفادة من مؤلفات الشيخ ونشرها
أيها المسلمون: إن عزاءنا في فقده علمه الذي تركه، فهو الذي ينبغي الاستفادة منه، ونشره، مع نشر فتاوى أهل العلم، خصوصاً في هذه القضايا المعاصرة التي تكلموا فيها ولا توجد في كتب الفقه من قبل.
أيها المسلمون: إننا ولله الحمد نعتقد اعتقاداً جازماً بأن ما عند الله خيرٌ للأولياء المتقين مما في الدنيا، وهذا الذي يخفف المصاب، وإننا لنعتقد أن الله لا يضع دينه، وأن الله جاعلٌ في هذه الأمة خيراً، وأن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقيض لهذه الأمة من يرفع شأن الدين، ولا يزال في هذه الأمة طائفةٌ منصورة ظاهرة على الحق، لا يزال في هذه الأمة مجتهدٌ وقائمٌ لله بالحجة، وإنها لفرصة أن نذكر أعداء الدين من المنافقين أن عناية الله بالدين مستمرة، وأنهم لا يصح لهم أن يفرحوا، وإنما هو مسلسل مستمر، وأن السيد سيخلف السيد إن شاء الله، وأن الله سبحانه وتعالى ما أنزل دينه إلا ليستمر، وأنه لا يخلو الزمان من إمام قائم لله بالحجة، وإننا في الوقت الذي نقدر فيه خطورة الموقف بتوالي ذهاب العلماء، وخصوصاً الثلاثة الكبار الذين رحلوا عنا، عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحمد بن الصالح العثيمين، فإننا في الوقت نفسه نؤكد على أن العلم لا بد أن يستمر مشواره، وأنه لا بد أن تبذل الأوقات من أجله، وأنه لابد أن يحرص على طلبه.
أيها المسلمون: إننا نريد أن نوجه عواطفنا توجيهاً إيجابياً لأجل إنقاذ العلم واستمراره والحرص عليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العلم الحريصين عليه، وأن يجعلنا من المستفيدين من فتاوى أهله، وأن يجعلنا من الذين ينشرونه.
اللهم ارحم الشيخ محمداً، وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
اللهم انفع بعلمه وفقهه، واجزه به الجزاء الأوفى، اللهم اجعله مع الرفيق الأعلى، اللهم اجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم إنا نسألك أن تغيث هذه الأمة غوثاً عاجلاً يا رب العالمين! اللهم انصر أهل العلم والجهاد، واقمع أهل البدعة والفساد، اللهم من أراد إفساد ديننا، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(79/12)
(100) فائدة من العلامة الشيخ ابن عثيمين
لقد فجع المسلمون بوفاة أحد ورثة الأنبياء في هذا الزمان، وهو الشيخ الفقيه الزاهد محمد بن صالح بن عثيمين، إذ يحتل مكانة عظيمة في نفوس الأمة.
ولقد جاءت هذه المادة مبينة لجزء كبير من حياة هذا الشيخ الذي صبر متعلماً ومعلماً فنال شرف الإمامة في الدين، فقاد الأمة وبصرها بأمور دينها حتى آخر لحظة من حياته.(80/1)
قبسات من حياة الشيخ ابن عثيمين
الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ أئمة يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، وينهون عن الردى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى، ويدلونهم على التقى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم.
ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هم للناس كالنجوم في السماء، يُهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبهات، كما يهتدى بالنجوم في الظلمات الحالكات، والطرق المهلكات، ويحرسون الشريعة من سهام شياطين الإنس والجن، الملبسين والمفسدين، كما تحمي النجوم السماء من مسترقي السمع والمردة الشياطين، وهم فخر الشريعة وزينة الدين، كما كانت النجوم زينة للسماء وأنساً للمسافرين، فهم مصابيح الدجى، وأئمة الهدى، وحجة الله في أرضه، وورثة الأنبياء، والقائمون على وحيه، فهم غيظ الشيطان، وركيزة الإيمان، وقوام الأمة، وهم الساهرون على حراسة الحق الناشرون له، المعارضون للباطل المحاربون له، المتحملون في هذا السبيل كل أذىً ومشقة، يصلحون ما فسد، ويقومون ما اعوج، ويدعون إلى الطريق المستقيم؛ طريق النجاة والسلامة، غير هيابين ولا وجلين، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولذلك شرفهم الله بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، لا يسكتون عن حقٍ وجبت إذاعته، ولا يكتمون مما أنزل الله حكماً شرعياً؛ لأنهم آمنوا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]، رفع الله مكانتهم، وقرن شهادته بشهادتهم، فقال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وهم أهل الفضائل والمكاسب، الذين بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فضلهم بقوله: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب).
أيها الإخوة والأخوات: إن الحديث عن العلماء ليبعث الرهبة في النفس، لأننا نتحدث عن ورثة الأنبياء، وإذا مات العالم العظيم انثلم في الإسلام ثلمة حتى يخلف الله غيره، وقد فجعنا وفجع المسلمون بوفاة أحد ورثة الأنبياء في هذا الزمان ممن نحسبه، وهو الشيخ الفقيه الزاهد محمد بن صالح بن عثيمين رحمة الله عليه، ونحن نعلم أن الموت نهاية كل حي، ولذلك لا بد أن نعكف على علوم العلماء وأخبارهم، لأن المقصود ليس إثارة الأحزان، ولا تقليب المواجع والوجدان، ولكن الاقتداء بهم، والاستفادة منهم، والتعلم من علومهم، والتشبه بسيرتهم:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحُ(80/2)
مولد الشيخ ابن عثيمين وحرصه على العلم والعمل
ولد الشيخ رحمه الله في 27/رمضان من عام (1347هـ) وأنفق نحواً من خمسين سنة من حياته يعلم دين الله تعالى.
كان حريصاً على العلم منذ صغره، فقد نبغ وحصل المتوسطة والثانوية والجامعة في أقل من ست سنين، وزامل الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في الدراسة على يد الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فكانا يحفظان المتون معاً، ويسرد كل واحدٍ منهما على الآخر ما حفظه من المتون، وحدثني الشيخ عبد الله البسام أنه كان يراجع القرآن مع الشيخ ابن عثيمين، يبدأ الأول فيقرأ ثمناً، ثم يقرأ الآخر الثمن الذين يليه وهكذا، حتى إذا انتهت الختمة بدءا ختمة جديدة، لكن فمن بدأ أولاً يبدأ ثانياً وهكذا حتى يكون كلٌ منهما قد قرأ القرآن وراجعه كله.(80/3)
صبر الشيخ متعلماً
وقد صبر الشيخ رحمه الله متعلماً، وصبر معلماً.
فأما عن صبره معلماً فسيأتي، وأما صبره متعلماً فلا بد أنه قد صابر نفسه كثيراً حتى وصل إلى ما وصل إليه، ومن ذلك: أنه كان يلازم شيخه العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، فأخذ عنه الكثير؛ خلقاً وعلماً.
وقد حدثني أحد أولاد الشيخ السعدي: أن الشيخ محمداً كان يمشي مع شيخه عبد الرحمن حتى في طريقه إلى الدعوات التي يدعى إليها شيخه، يسأله في الطريق ويأخذ عنه، حتى يصل إلى باب بيت صاحب الدعوة، فيدخل الشيخ ابن سعدي ثم قد يرجع الشيخ محمد وقد يدخل.
وقد تأثر الشيخ محمد بشيخه عبد الرحمن جداً، وسمعت عن رؤيا له في شيخه، فسألته عنها في أحد مواسم الحج، فقلت: ذُكر أنكم رأيتم شيخكم عبد الرحمن السعدي في المنام، فسألته: ما أكثر ما نفعك عند الله بعد الموت؟ فقال: حسن الخلق، فهل هذه الرؤية صحيحة؟ فقال: نعم، غير أني لا أذكر الآن هل قال لي: تقوى الله، أو حسن الخلق، ولكن الرواية التي سمعتها جزماً من بعض طلاب الشيخ أنه قال له: إن أكثر ما نفعه عند الله حسن الخلق.
أيها الإخوة: عندما يتعلم الإنسان العلم والأدب يكون شيئاً آخر، ولابد من علم وأدب مجتمعين، وهكذا كان طلاب الإمام أحمد في درسه وحلقته يتعلمون العلم والأدب.
وقد اهتم الشيخ محمد رحمه الله بالحفظ جداً؛ وهذا الذي نفعه كثيراً، وكان يقول: قرأنا كثيراً فلم يبق معنا إلا ما حفظنا، وكان يوصي بحفظ المتون والقواعد في الفنون المختلفة، وفقه الشيخ الكتاب والسنة، ولم يكن متعصباً لمذهبٍ، ولا أسيراً لعباراتٍ معينة، والأمر كما بين شيخه عبد العزيز بن باز رحمه الله، بأنه ليس العالم الذي يحفظ مختصر خليل، ومتن الخرقي، ولكن العالم هو الفقيه بالكتاب والسنة.(80/4)
عبادة الشيخ
كان الشيخ محمد رحمه الله ذا عبادة؛ ينام مبكراً بعد العشاء، فإذا جاءت الساعة الثانية يستيقظ تلقائياً بغير منبه؛ ليقوم الليل ويعمل ما يعمل، وقال أحد من رافقه مرة في سفرٍ، وقد ذهب مع الشيخ في دعوة فرجعا متأخرين كالين متعبين إلى مسكنهما، فوضع كلٌ منهما رأسه الساعة الواحدة ليلاً، واضطجع الشيخ، قال المرافق: وأثناء النوم انتبهت قرابة الساعة الثالثة أو الثالثة والنصف، وكنا قد نمنا قرابة الواحدة والنصف، فحينما انتبهت انتبهت على صوت الشيخ وهو قائم يصلي، وفي هذا الوقت الذي كان هو في أمس الحاجة إلى النوم والراحة فيه، كان -رحمه الله- قائماً لله جل وعلا يصلي.(80/5)
مداومة الشيخ ابن عثيمين على العمل
كان الشيخ رحمه الله يداوم على العمل، فإذا عمل عملاً لا يتركه؛ امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه في المداومة على العمل: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) فكان لا يترك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولو سافر وانشغل قضاها بعد سفره، ولما اعتاد الذهاب إلى بيت الله الحرام ومكة للتدريس، استمر على هذه العادة، ولم ينقطع حتى في السنة التي مات فيها، وفي مرض الموت ذهب إلى هناك على عادته يعبد الله ويدرس دين الله، ولما رتب الدروس لطلاب العلم لم يكن ينقطع عن ذلك، ولم تتوقف الدروس إلا فيما ندر، وهذا مما رغب طلبة العلم فيه، فجاءوا إليه من أماكن بعيدة، بينما ترى أنت أحياناً اليوم عدداً ممن يفتح دروساً سرعان ما يغلقها، فلا يصبر الذي يُلقي ولا الذين معه، وسرعان ما ينفرط العقد، وقضية العلم -أيها الإخوة- لا بد فيها من صبرٍ ومصابرة.
وكان الشيخ -رحمه الله- يواظب على الصدقة صباح كل يوم جمعة، ولم يترك هذه المواظبة إلا لما تبين له أنه لم يثبت في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان -رحمه الله- مداوماً على قراءة ورده من القرآن، يقرأه وهو ماشٍ إلى الصلاة، كان لا يركب بل يمشي، ولا يقبل أن يقاطعه أحدٌ وهو ذاهبٌ إلى المسجد؛ لأن هذا وقت الورد -ورد القرآن- فإذا اضطر إلى كلامِ صاحبِ الضرورة وتأخر شيئاً ما في قراءة الورد ووصل إلى المسجد ولم يتم ورده وقف عند باب المسجد ولم يدخل إلى إقامة الصلاة حتى ينهي ورده، فيستغرب بعض الذين يرونه: الشيخ واقفاً وليس معه أحد، ماذا يفعل؟ وفي الحقيقة أنه يتم ورده.(80/6)
زهد الشيخ ابن عثيمين في الدنيا
وكان الشيخ زاهداً في الدنيا، ليس من أهل العقارات ولا الأموال، وكان ما يأتيه من الرواتب ينفقه على أهله، وقد أعطي سيارة جديدة فلم يستعملها، فلما علاها الغبار سحبت من أمام البيت، وأعطي بيتاً كبيراً فوهبه لطلبة العلم، وسيارته قديمة (مازدا من الثمانينات) ومن تأمل غترته وبشته ونعله عرف أنه رجلٌ زاهد غير متعلقٍ بالدنيا، ولا هو من أصحاب المظاهر.(80/7)
ورع الشيخ ابن عثيمين
كان الشيخ -رحمه الله- عالماً ورعاً فيما نحسب، وقد يفتي بجواز أشياء ويترجح لديه إباحتها ولكنه لا يستعملها ورعاً كالكحول، فأخبر أنه لا يضع الطيب الذي فيه كحول؛ ولكنه قال: ولكني قد أستعمله في تعقيم الجروح.
ومن قصص ورعه: أن الكلية قد كلفته مرة أن يضع منهجاً لأحد المراحل، وخففوا نصابه التدريسي لأجل ذلك، ليكون عنده شيءٌ من التفرغ لإتمام ذلك المنهج في الوقت المحدد، وبعد أن فرغ من إتمامه -رحمه الله- صرفت له الكلية مكافأة، وهي تصرف له ولغيره ممن يضع المناهج، ويكتب هذه المواد الدراسية، فاستغرب الشيخ من تسليمه هذه المكافأة، وأخذها إلى أحد مسئولي فرع الجامعة ليعيدها، فاعتذر بأدبٍ عن استرداد المبلغ؛ لأن الشيخ قبل بالتكليف، ولوائح الجامعة وأنظمتها تنص على صرف مثل هذه المكافأة، وإعادة المبلغ بعد صرفه فيه إرباك للإدارة المالية هي في غنى عنه لم يعجب الشيخ تصرف الكلية بعدم أخذ المال، وذهب إلى مدير الجامعة لإعادة المال الذي حاول بدوره إقناع الشيخ بأحقيته بهذه المكافأة، كما تنص عليه أنظمة الجامعة، فرد الشيخ -رحمه الله- بأن الكلية حينما كلفته بالتأليف خففت عنه نصاب التدريس وأنه استفاد من هذا التخفيف في التأليف وهذا مقابل هذا، فلماذا إذاً يعطى شيئاً إضافياً وهو لا يستحقه، فاقترح عليه مدير الجامعة أن يتصدق بالمبلغ، ولكن حتى هذا الاقتراح لم يقبله، وأصر على إرجاع المبلغ وبعد ذلك تتصرف به الجامعة.
حدثني ضابط مرور، قال: وهذه القصة حصلت معنا، وإذا أردت أن تذكرها فاذكرها، خرج الشيخ مرة مع شخصٍ بسيارته -بسيارة هذا الشخص- يقودها من عنيزة إلى بريدة في مهمة في مشروع خيري، فأسرع السائق المرافق للشيخ، وكان في الطريق نقطة تفتيش على السرعة الزائدة، فأوقفوا السيارة لإعطاء المخالفة، فنظر العسكري في السيارة فإذا فيها الشيخ محمد بن صالح العثيمين فاستحيا، وقال: تفضلوا امشوا، فمشت السيارة، وبعد برهة يسيرة قال الشيخ للذي معه: لماذا أوقفونا؟ قال: لأجل السرعة الزائدة، قال له: ارجع إلى هذه النقطة، فاستدار ورجع على أمر الشيخ، فلما وصل إلى المكان قال لهذا العسكري: لماذا أوقفتنا قبل قليل؟ قال: يا شيخ! كان في سرعة زائدة، قال: ولماذا تركتنا نمضي؟ قال: قلت لعلكم مستعجلون وعندكم مسألة مهمة، قال: لا.
كم هي مخالفة السرعة؟ قال: يا شيخ! لا داعي لذلك! قال: كم هي مخالفة السرعة؟ قال: ثلاثمائة ريال، قال الشيخ: هذه مائة وخمسون مني ومائة وخمسون تأخذها من هذا لأنه خالف، ولأني لم أنصحه، وأصر على دفع المبلغ.
ومن احتياطه لأموال المسلمين: أنه سلم مرة رئيس جمعية خيرية كيس تبرعات فيه مال وفير، فلما أخذه هذا وانطلق به إلى سيارته لحقه الشيخ إلى السيارة، وقال: انتبه! إن في الكيس نصف ريال، كأن الشيخ خشي أن ينسوه حين تفريغ الكيس؛ لأنه نصف ريال، وهذه صدقة مسلم قد تقع عند الله موقعاً عظيماً، وهي أمانة، وإذا وكلت ذكر الموكل.(80/8)
تواضع الشيخ ابن عثيمين
وكان رحمه الله متواضعاً لا يأنف أن يركب أي سيارة مهما كانت قديمة، بل ربما ركب بعض السيارات وتعطلت به، ونزل يدفع مع السائق، ويخشى أن تفوت الصلاة في المسجد، ودخل مرة البلد والمساجد مغلقة بعد ما رجع من سفر، فلف على المساجد حتى وجد مسجداً مفتوحاً فبدأ به بركعتين تطبيقاً للسنة.
وكان رحمه الله من تواضعه لا يرضى أن يقال له: العلامة، وإذا سجل أحد طلابه ذلك في الشريط، قال له: امسحه من الشريط، وقلت له مرة: يا شيخ! هذه المسائل التي سألتك إياها سنجمعها في كتاب ونسميه: مسائل العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين، قال: لا نريد العلامة ولا غيرها.
وفي أحد اللقاءات الشهرية قال له أحد الحاضرين: يا شيخ! إني قد اغتبتك فاجعلني في حل، فقال: من أنا حتى لا أُغتاب وأنت في حل.
وكان يقرب الفراشين الذين كانوا يخدمونه في المسجد، ويتحدث معهم.
واستأذن بعض الشباب بقراءة أبياتٍ من الشعر نظمها في مدح الشيخ رحمه الله، فكان الشيخ يقاطعه مراراً معترضاً على مدحه، وطلب تغيير تلك الكلمات، وكلما سمع مدحاً اعترض وقاطع وأوقف الطالب، حتى قال الطالب: لا يصلح هذا يا شيخ! إما أن أقرأ ما كتبت أو أتوقف، فقال الشيخ: توقفك أحب إليَّ، ولم يرضَ رحمه الله بهذا المديح، والقصة تسمعها في الشريط فتتأثر من هذا والقصة ملخصة على النحو التالي: قال الطالب بين يدي الشيخ: أما بعد: فضيلة الشيخ! أستأذنكم في هذه القصيدة:
يا أمتي إن هذا الليل يعقبه فجرٌ وأنواره في الأرض تنتشرُ
والخير مرتقبٌ والفتح منتظرُ والحق رغم جهود الشر منتصرُ
وبصحوة بارك الباري مسيرتها نقية ما بها شوبٌ ولا كدرُ
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا بمثله يرتجى التأييد والظفر
قال الشيخ: أنا لا أوافق على هذا البيت؛ لأني لا أريد أن يربط الحق بالأشخاص، كل شخص سيفنى، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص فمعناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من هذا، فأقول: إذا أمكنك الآن فبدل البيت: ما دام فينا كتاب الله وسنة رسوله فهذا طيب.
الطالب: مادام فينا كتاب الله وسنة رسوله ابن العثيمين الشيخ: لا هذه لا تأتي بها لا توقف الطالب: فقيهنا.
تداخل: دعه يواصل.
الشيخ: لا لا لا لا.
لا أرضى، ما عندك إلا هذا؟ الشيخ: أبداً وليس له داعٍ يا رجال! فقط أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألا تجعلوا الحق مربوطاً بالرجال، الرجال قد يضلون، حتى ابن مسعود يقول: [من كان مستناً فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة] الرجال إذا جعلتم الحق مربوطاً بهم، فالواحد منهم قد تقتلب نفسه -نعوذ بالله من ذلك- ويسلك طرقاً غير صحيحة، ولذلك أنا أنصحكم الآن ألا تجعلوا الحق مقيداً بالرجال لأمور: أولاً: لا يأمن الإنسان -نسأل الله أن يثبتنا وإياكم- الزلل والفتنة.
ثانياً: أنه لا أحد يبقى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
ثالثاً: أن بني آدم بشر، ربما يغتر إذا رأى الناس يبجلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، ويظن أنه معصوم، ويدعي لنفسه العصمة، وأن كل شيءٍ يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، فيحصل بذلك الهلاك، ولهذا امتدح رجلٌ رجلاً عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ويحك! قطعت عنق صاحبك، أو قال: ظهر صاحبك)، وأنا أشكر الأخ مقدماً وإن لم أسمع ما يقوله فيَّ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب أن أمدح.(80/9)
صبر الشيخ ابن عثيمين معلماً
وأما عن صبر الشيخ في التعليم: فقد صبر عالماً ومعلماً، واتجه الشيخ للتعليم من مرحلة مبكرة من عمره، فدرس قريباً من خمسين عاماً، نصف قرنٍ من الزمان أنفقها ذلك الشيخ -رحمه الله- في تدريس دين الله، وكان قبل أن يشتهر مواظباً على التدريس مهما كان عدد الحضور، حتى إنه كان لا يحضر عنده في بعض الأوقات إلا أربعة أشخاص، وأحياناً يغيب نصفهم، ومرة جاء الشيخ إلى مكان الدرس فلم يجد إلا كتاباً وضعه أحد الطلاب في مكان الحلقة وانصرف لشيءٍ، فلما رأى الشيخ ذلك، توجه إلى المحراب وأخذ مصحفاً وجلس يقرأ فيه، فجاء الطالب ووجد الشيخ يقرأ ولا يوجد إلا كتابه فاستحيا وأخذ الكراس وانصرف.
وظل الشيخ مصابراً حتى فتح الله عليه، فصار يجلس في حلقته نحو خمسمائة طالب، وفي درسه في الحرم ومحاضراته الخارجية أضعاف هؤلاء، وصبر على الإفتاء في شتى المجالات، ورتب الدروس والمحاضرات.
وكان له رعاية لطلابه، وكان يكلف بعضهم بمراجعة الأحاديث، أو تحرير بعض المسائل، وينظر في ذلك كله ويتابعه، بل كان يجعل بعضهم يدرس بعض المبتدئين.
وقد سعى الشيخ -رحمه الله- إلى توفير سكنٍ للطلاب المتزوجين وغير المتزوجين، وهيأ لهم داخل السكن مكتبة تضمنت سائر أنواع الفنون، وكان حريصاً على تمرين طلابه على إلقاء الكلمات، وذلك في كل ليلة جمعة بعد المغرب وقبل الدرس، وكان حريصاً على طلابه، فإذا مرض أحدهم وأدخل المستشفى زاره فيه إن استطاع، وإذا صار الطالب المريض في مسكنه زاره في غرفته في العمارة المخصصة إن كان من العزاب، وفي شقته في عمارة المتأهلين إذا كان متزوجاً.
وكان يتفقد طلابه ويعينهم وخصوصاً بالشفاعات، وكم دخل من طلابٍ الجامعة بسببه، وعولج أشخاص بسببه، وقضيت حاجات بتدخله وشفاعته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) رواه البخاري.
وفي فصل الشتاء كان يعطي طلاب السكن أوراقاً بمبالغ مالية محولة على محلاتٍ معينة ليشتروا بها ملابس شتوية لأنفسهم ولأولادهم، وكان يتابع تلامذته أثناء الدرس حتى لا يشرد ذهن أحدهم فتضيع عليه الفائدة، وذات مرة كان أحد تلامذته غير حاضر الذهن في الدرس، فأوقفه الشيخ وقال له: هل أنت فاهمٌ لما قلته؟ فقال الطالب: إن شاء الله، فقال الشيخ: هل على رأسك شماغ؟ فقال الطالب: نعم، فقال الشيخ: لِمَ لم تقل: إن شاء الله؟ لكنك عندما كنت غير فاهم للدرس قلت: إن شاء الله، والشماغ جزمت به! وكان له مع طلابه رحلة في كل ثلاثة أشهر يآنسهم فيها ويقيم مسابقات لهم بنفسه، ويخرج معهم إلى بعض المزارع المشتملة على أماكن للسباحة، وقد يلاطفهم فيأمرهم أن يغطسوا هذا، ويرموا هذا في الماء، وينتقي البدين، ولما أعرب أحدهم عن شكه في قدرة الشيخ على السباحة أثبت له ذلك عملياً، وسابق الشيخ بعض طلابه على الأقدام.
وكان رحمه الله عالماً مؤدباً، لا يأذن لمن رفع يده الشمال في الدرس أن يجيب، ويأمر من دخل المجلس أن يصافح الأكبر سناً ثم من عن يمنيه، ودخل المسجد رجلٌ ومعه ولده المميز والولد لابسٌ حذاءً في قدميه في المسجد، فأراد الولد أن يسلم على الشيخ، فرفض الشيخ حتى يخرج الولد فيخلع نعاله خارج المسجد ثم يأتي فيسلم إذا أراد، ففعل الولد وخرج وخلع نعاله، ثم جاء وسلم على الشيخ فرد عليه وهش له، فخاف الأب أن الولد قد نفر من المسجد أو من الشيخ، فراقبه قال: فصار ولدي بعدها لا يمكن أن يدخل المسجد بحذائه.
وربما يشتد الشيخ أحياناً على بعض السائلين تأديباً لهم لمخالفتهم للأدب معه، وما ترى من شدة في الشيخ أحياناً فلأنهم اجترئوا عليه، وربما لأجل هذا التأديب يشتد أحياناً.
وكان للشيخ -رحمه الله- أدوارٌ عالمية، تمثلت في عدة جوانب، ومنها: إلقاء الدروس الشهرية وغيرها عبر الهاتف لبعض المراكز الإسلامية في أقطار الأرض، واتصاله بالأوضاع المأساوية التي حدثت في بلاد المسلمين، وأرسل بعض طلابه للتدريس وللدعوة في الخارج، وشارك في إرسال الكتب والأشرطة، ومراسلة المستفتين من الخارج بكتابات مدونة بخط يده، وهكذا.(80/10)
الوفاء بالوعد عند الشيخ ابن عثيمين
ومن دقته وعدله رحمه الله، أنه كان صادق الوعد، محافظاً على وقته، وإذا قلت: إن الشيخ يمر الساعة الرابعة إلا خمس دقائق مثلاً بالمكان الفلاني وهو ذاهبٌ إلى المسجد، فإنك تجده يمر بذلك المكان في ذلك الوقت بالضبط، يمشي كالساعة، وإذا أعطى موعداً التزم به على كثرة مواعيده وأشغاله، وقد جربت ذلك معه في موعدين في الأسبوع على هاتفه الخاص خصصت للرد لأسئلة المستفتين عبر الإنترنت، فكان يلتزم بالإجابة ويخبر بالتأجيل إذا حصل له شيء كظرف سفرٍ ونحوه، وكان في طريقه من المسجد إلى البيت راجعاً إذا بدأ أول طالب في القراءة عليه تصبح له الأحقية في الوقت، فإذا تدخل سائلٌ بسؤال استأذن الشيخ من القارئ قائلاً: هل تأذن لي أن أجيبه؟ وكان متحرياً للدقة والعدل، ومن أمثلة ذلك: التصحيح وتقدير الدرجات في الاختبارات، حتى لربما أعطى طالباً درجة واحدة من خمس وأربعين درجة؛ بل وواحداً من ثمانين، فيراجع في ذلك، فيقول: لا أستطيع أن أزيده فأظلم غيره، ولا أنقصه فأظلمه.(80/11)
الشيخ ابن عثيمين وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
كان الشيخ رحمه الله قائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يستطيع، وإذا رأى أناساً لا يصلون في الطريق -يلعبون- أمرهم بالصلاة، وفي إحدى المرات كان الشيخ قد أدى العمرة مع جمع من تلامذته، وسكنوا جميعاً في مسكن واحد، وفي أثناء رجوعهم من المسجد الحرام إلى المسكن مر الشيخ -رحمه الله- على مجموعة من الشباب اللاهي يلعبون كرة القدم، فوقف الشيخ ينبههم وينصحهم للصلاة، فقابلوا الشيخ ببعض اللامبالاة والاستهزاء، فطلب ممن معه أن يذهبوا إلى المسكن، وبقي وحده مع أولئك الشباب، فلما رأى الشباب أن الشيخ مصر على البقاء ليذهبوا معه تلفظ أحد منهم لفظاً سيئاً في حق الشيخ، لعله قال حتى لا أجعل له مجالاً أن يبقى بيننا ويجعله ينصرف، فتبسم الشيخ وبقي جالساً مصراً على أن يقوموا للصلاة، وأن هذا الساب يذهب معه، وجلس وسطهم، فكأن الشباب استاءوا من مسبة صاحبهم لهذا الشيخ المسن، وقالوا له: اذهب مع الشيخ، كأنهم قالوا: خذه، فذهب هذا الشاب مع الشيخ فلما دخلوا المسكن استأذن الشيخ من الشاب قليلاً، فخاطب بعض طلاب الشيخ ذلك الشاب، وقالوا له: هل تعرف الشيخ ابن عثيمين من قديم؟ فكاد أن يغمى عليه من الصعقة، وقال: ماذا تقول؟ من هذا؟ قال: هذا الشيخ ابن عثيمين، ثم دخل الشيخ، فتأثر الشاب جداً وبكى وقبل رأس الشيخ، وطلب المسامحة، فما كان من الشيخ إلا أن سامحه، وهو الذي صبر عليه من قبل وهو يشتمه، ثم علمه الوضوء والصلاة، فتاب ذلك الشاب واستقام على يد الشيخ رحمه الله.(80/12)
اهتمام الشيخ ابن عثيمين بأمور الجهاد وقضايا الأمة
لقد اهتم الشيخ -رحمه الله- بأمور الجهاد، ومن ذلك: جهاد المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك، وكان قد خصص من وقته ساعة أو أكثر في كل أسبوع لأمور الجهاد في البوسنة يتصلون به فيفتيهم، وينظر حاجتهم، ويسمع أخبارهم ويستبشر بها وينشرها، واتصل به بعض المجاهدين مرة من البوسنة وسألوه عن حكم قتل الخطأ، وماذا يجب على القاتل؟ فبعد أن أجابهم الشيخ بما يجب من حق الله وحق أهل القتيل، قال: أما دية المقتول فعليَّ وسأرسلها لكم إن شاء الله.
وكذلك كان اهتمامه بالجهاد في الشيشان، حتى ذهب بعض طلابه إلى هناك يعلمون ويدرسون، ويشرفون على تطبيق الشريعة في بلاد الشيشان.
واهتمام الشيخ بقضايا الأمة، وقضية الاعتداء على حرماتها قديم، هذه خطبة خطبها الشيخ قبل اثنين وأربعين سنة وهي موجودة في كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع.
أما بعد: أيها الناس: فلقد مضى على احتلال اليهود للمسجد الأقصى أكثر من ثمان سنوات، وهم يعيثون به فساداً وبأهله عذاباً، وفي هذه الأيام أصدرت محكمة يهودية حكماً بجواز تعبد اليهود بنفس المسجد الأقصى، ومعنى هذا الحكم الطاغوتي إظهار شعائر الكفر في مسجد من أعظم المساجد الإسلامية حرمة، إنه المسجد الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ليعرج من هناك إلى السماوات العلا، إلى الله جل وتقدس وعلا، وإنه لثاني مسجد وضع في الأرض لعبادة الله وتوحيده، ففي الصحيحين عن أبي ذر وساق الحديث، ثم ذكر قصة طلب موسى من قومه دخول المسجد الأقصى -دخول تلك الأرض المقدسة- وماذا حصل لما تولوا، ثم قصة استيلاء الفرنجة والنصارى عليه، وقال بعد ذلك في شروط النصر: وأن الله ينصر من ينصره، وأن النصر لا يكون بالأقوال البراقة، والخطب الرنانة التي تحول القضية إلى قضية سياسية، وهزيمة مادية، ومشكلة إقليمية، وإنها والله لمشكلة دينية إسلامية للعالم الإسلامي كله.
إن نصر الله عز وجل لا يكون إلا في الإخلاص له، والتمسك بدينه ظاهراً وباطناً، والاستعانة به، وإعداد القوة المعنوية والحسية بكل ما نستطيع، ثم القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وتطهر بيوته من رجس أعدائه، أما أن نحاول طرد أعدائنا من بلادنا، ثم نسكنهم قلوبنا؛ بالميل إلى منحرف أفكارهم، والتلطخ بسافل أخلاقهم، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم يلاحقهم رجال مستقبل أمتنا يتجرعون أو يستمرئون صديد أفكارهم، ثم يرجعون يتقيأونه بيننا، أما أن نحاول طردهم من بلادنا ثم نستقبل ما يرد منهم من أفلامٍ فاتنةٍ وصحفٍ مضلة إلى آخر كلامه المؤثر -رحمه الله تعالى- في قضية المسجد الأقصى.(80/13)
نشاط الشيخ ابن عثيمين
لقد كان الشيخ -رحمه الله- نشيطاً، فكان يذهب إلى المسجد على قدميه، والمسافة تقريباً كيلو ذاهباً وكيلوا راجعاً، ومقدار الزمن ربع ساعة بالمشي تقريباً، وأحياناً يذهب حافياً بدون نعال، وقد ثبت في السنة الاحتفاء أحياناً، وإذا كان هناك مطر أخذ معه مظلة، وقال لي الشيخ عبد الله بن جبرين مرة: هذا الرجل يمشي عشرة كيلو مترات يومياً من بيته إلى المسجد ذاهباً وراجعاً، وكان ذلك بعد أن عاد أخاه في الله محمد بن عثيمين في القصيم.
وقد رأيت الشيخ محمداً مرة في المسعى، فمشيت معه أسأله وحوله بعض الشباب، فلما وصلنا (العلم الأخضر) جرى وجرينا فسبقنا كلنا، وكان الشيخ في السبعين تقريباً.(80/14)
كرم الشيخ ابن عثيمين
كان الشيخ مكرماً للضيف، ذات مرة أصر على أحد طلبة العلم أن يبيت عنده، فقال الطالب: يا شيخ! أنا مشغول وعندي ارتباطات، وحاول أن يعتذر، فشمر الشيخ ممازحاً، قال: يعني بالقوة تبيت عندي، فوافق، قال: لكن عندي يا شيخ موعد الليلة في بريدة وسأرجع متأخراً، قال: ولو، فرجع هذا الساعة الثانية عشرة ليلاً، قال: آتي بيت الشيخ محمد وأطرق عليه الباب طرقة واحدة لأنني وعدته، ولا بد أن آتيه على الموعد، فإن فتح وإلا انصرفت، قال: فذهبت ووصلت بيت الشيخ الساعة الثانية عشرة ليلاً، فطرقت طرقة واحدة فما كادت الطرقة تنتهي إلا والشيخ يفتح الباب، وأدخله، وقال: هذا الفراش والماء والساعة المنبه؛ عدة أصحاب الحديث في القرن العشرين؛ الفراش، والماء، والساعة المنبه.(80/15)
لطافة الشيخ ابن عثيمين وفكاهته
كان رحمه الله لطيفاً؛ يلاطف الصغار، وكان في طريقه بين البيت والمسجد مدرسة ابتدائية، فإذا مر بها وقت خروج الطلاب سلم عليهم ولاطفهم ومازحهم، فجاءه مرة طفلٌ يقول: يا شيخ! أجب لي على أسئلة هذه المسابقة، فقال: أجيب لكن إذا فزت فعليك أن تعطيني نصف الجائزة، وجاءه مرة طفل إلى حلقته في المسجد -سبحان الله! عندما يكون العلماء مأوى حتى الأطفال- وجعل يخترق الطلبة، ويتخطى الرقاب، والطلاب يستغربون من هذا الطفل الذي يتجه إلى الشيخ وقت الدرس الجاد، حتى وصل الطفل إلى الشيخ وقام على رأسه، قال له ببراءة الأطفال: أعطني ريالاً جديداً، فلم يتردد الشيخ لإعطائه ريالاً وبكل سرور، ولعلها كانت ملحة وترويحاً للطلاب.
كان الشيخ رحمه الله ذا فكاهة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ولا يكاد يخلو درسٌ من الدروس العامة للشيخ من مثل هذه المفاكهة والممازحة، فكان الشيخ يتكلم ذات مرة في درسٍ من دروس الفقه عن عيوب النساء في أبواب النكاح، فسأله سائل وقال: إذا تزوجت ثم وجدت زوجتي ليس لها أسنان فهل هذا عيب يبيح لي طلب الفسخ؟ فضحك الشيخ وقال: هذه امرأة جيدة حتى لا تعضك.
وسأله سائلٌ قال: شخصٌ كبيرٌ في السن ولا يستطيع الصوم، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، وفي يوم من أيام رمضان أراد أن يأتي أهله -العجوز هذا- فهل يجوز؟ فضحك الشيخ وقال: أولاً أخبرني: هل زوجته عجوزٌ مثله أم لا؟ وجاء مرة رجلٌ مسلمٌ أعجميٌ من أهل الباكستان يريد أن يسأل الشيخ، وكان يناديه: يا شيك! يا شيك! لأن الأعجمي لا يستطيع نطق الخاء، فقال السائل المسلم: يا شيك! يا شيك! فقال له الشيخ محمد: والله إني شيك بمائة وعشرين ألف ريال، وهي الدية.
وجاءه شخصٌ من العامة أثناء دروسه في الحرم، وهو جالس على كرسيه، فجاءه من الخلف، والشيخ يشرح، ويقول: عندي سؤال يا شيخ! فقال الشيخ: ما رأيك لو تسورت المحراب، فأصر العامي على السؤال ولم يعرف طبيعة الدرس والشيخ يمازحه ويلاطفه ولا يجيبه، فلما أصر هذا الرجل العامي توجه الشيخ للطلبة، وقال: هل تسمحون له بالسؤال، فكلهم أجاب: أن نعم، فأجابه ثم انصرف.(80/16)
حلم الشيخ ابن عثيمين
وأما عن حلمه: فإنِّ كل من يتصدر للعامة لا بد أن يناله من أذاهم، وكان الشيخ رحمه الله يصبر، كان يُقرأ عليه ذات مرة من كتاب في الطريق من المسجد إلى البيت وهو راجع، فجاء رجلٌ أعرابيٌ جلفٌ فدفع طالبين هذا لليمين وهذا للشمال، ودخل بينهما، وأمسك بكتف الشيخ من الخلف، وجبذه بقوة حتى استدار جسد الشيخ من قوة الجبذة، وأمسكه من كتفه، وقال: هذه حاجتي ومد إليه بورقة، قال: ما حاجتك؟ قال: اقرأ فهي مكتوبة في الورقة، أنت لا تتفرغ لي! قال الطلاب: الآن، الله يستر ماذا سيحدث؟ وماذا سينال هذا الرجل؟ قال: لكننا فوجئنا أن الشيخ هش له وبش وابتسم واعتذر عن قضاء الحاجة الآن، فأصر الرجل ولم يقبل اعتذار الشيخ، ولم يزل بالشيخ حتى قضى له حاجته.
وليس ذلك بغريبٍ على من يدرس طلابه صحيح البخاري وفيه عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضحك، ثم أمر له بعطا) رواه البخاري.(80/17)
حب الشيخ ابن عثيمين للشيخ ابن باز وحب الشيخ ابن باز له
كان الشيخ محمد رحمه الله يحب شيخه عبد العزيز بن باز جداً، وقد اتصلت به مرة في مرض الشيخ عبد العزيز وحادثته في هذا، فقال عبارة: لا أرانا الله يوم فقده، فتعجبت من هذه العبارة، ولما مات الشيخ عبد العزيز اتصلت صباح اليوم التالي بالشيخ محمد فقلت له: بلغك الخبر، فقال: نعم، نِعْمَ الرجل، فرأيتها تطبيقاً عملياً لحديث: الثناء على الميت إذا بلغه الخبر (ومن أثنيتم عليه خيراً وجبت).
ثم سألته عن السفر للصلاة على الشيخ عبد العزيز فلم ير في ذلك بأساً، وسألته عن إبلاغ إمام المسجد جماعته في الوفاة، فقال: لم يكن من هدي السلف الإخبار عن وفاة كل ميت من قبل الإمام إلا صاحب الشأن في الإسلام.
وكان يحب الشيخ عبد العزيز وكانت له مكانة في نفس الشيخ محمد نفسه، فقد خلوت بالشيخ محمد مرة بعد وفاة الشيخ عبد العزيز أحادثه في موضوع الفتوى بعد الشيخ ابن باز، حال الفتوى، وكيف واقعها، فقال لي بمرارة: بعد الشيخ ابن باز ما عاد لنا رأس، هذا كلام الشيخ محمد.
وكان الشيخ عبد العزيز بن باز كذلك يحب الشيخ محمداً ويقدره قدره، وكنت في مجلس الشيخ عبد العزيز في الطائف، فكان الناس يأتون ويسلمون على الشيخ عبد العزيز وهو جالسٌ على كرسيه، فلما أخبر بقدوم الشيخ محمد بن عثيمين قام إليه، ولم أره قام لأحدٍ غيره، فاعتنقه، ورأيت وجه الشيخ عبد العزيز يتهلل بالبشر والسرور للقاء الشيخ ابن عثيمين، قال الشيخ محمد للشيخ عبد العزيز: الناس يسألوننا المعتكفين أو المعتمرين لأجل إكمال الطواف عن حكم الخروج من الحرم للصعود على السلم الكهربائي إلى السطح، فنقول لهم: إنما خرجتم لتدخلوا- يعني أنه لا بأس بذلك؛ لأنك خرجت لتدخل ولم تخرج لتخرج- فكان الشيخ عبد العزيز يسمع، وأقره على ذلك.
واستمر الشيخ -رحمه الله- في هذا العطاء العظيم حتى حلَّ به المرض.(80/18)
قصة مرض الشيخ ابن عثيمين
أما قصة مرض الشيخ رحمه الله: فقد سمعت منه وخلوت به مرة بعد مرضه، فقال لي: لما أحسست بالألم ظننته باسوراً، وكنت قد عملت عملية بواسير في الماضي، فظننتها مثلها، فلما زاد الألم راجعت المستشفى، وكنت أريد أن أكشف على عيني أيضاً؛ لأنني اشتكيت منها، فأجروا لي التحاليل، وأخبروني أني مصاب بالسرطان، وكان الشيخ يسميه المرض الخطير، ويرفض أن يسميه المرض الخبيث، ويقول: ليس في أفعال الله خبيث، وقد سألته بعد فترة بالهاتف عن الألم؟ فقال: يأتي ويذهب إلا في موضع المرض الأصلي الذي انتشر منه فإنه مستمر، فتأمل الشيخ كيف جلس شهوراً طويلة وهو يعاني من ألم مستمر وألم إضافي يأتي ويذهب وهو يدرس ويفتي ويعبد الله ويمارس عمله رحمه الله تعالى.
ولعل البعض قد لاحظ أن الشيخ أثناء فترة المرض كان يرفع صوته، فكأنه يتجلد ويظهر للناس أنه بخير، ولما كان يُعطى المسكنات؛ لأن المرض لما عرف أنه انتشر ولم يعد ينفع معه علاج، وقد رفع الأطباء أيديهم، وكان ذهاب الشيخ للسفر للعلاج تأكيداً لتقرير الأطباء أن المرض انتشر ورجع، ومعروف أنه ليس هناك علاج ينفع في تقدير الأطباء، ولا يوجد إلا المسكنات، فكان الشيخ -رحمه الله- يكره المسكنات كما قال لي أحد الأطباء الذين يعالجونه؛ لأنها تنومه وتعيقه عن قيام الليل والتدريس.
وكان له أمنية حدث بها أحد المشايخ، فقال: أنا أريد أن أموت وأنا قريب من الكعبة أنشر العلم، وكان الشيخ يرى أن نشر العلم من أعظم القربات عند الله، ولهذا اشتغل به، ولعل هذا الكلام أخذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله عز وجل بعبد خيراً عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه) رواه الإمام أحمد، ولذلك لما حصل للشيخ تعب إضافي في صبيحة اليوم التاسع والعشرين من رمضان وهو بـ مكة في الصباح قرر الأطباء نقله من الحرم إلى مستشفى جدة، وبالفعل تم نقله إلى هناك وأدخل العناية المركزة، وجلس قرابة خمس ساعات، وعندما جاء العصر تحسنت حالته شيئاً ما، فأصر رحمه الله أن يرجع إلى مكة، رغم محاولة الأطباء نهيه عن ذلك، فقال: لا تحرمونا هذا الأجر فهذه آخر ليلة في رمضان، وبالفعل رجع الشيخ إلى مكة ومعه الأطباء المرافقين، وأجلس في غرفته داخل الحرم، وأول ما دخل الغرفة طلب أن يتوضأ، وصلى المغرب والعشاء، وبعدما انتهى من الصلاة طلب أن يعدل الدرس، ثم ألقى الدرس في آخر ليلة، وقال: بما أن هذه الليلة متممة للثلاثين من رمضان فهذا آخر درس لهذا العام، فكان آخر درسٍ له رحمه الله، وبعد الدرس هذا قال للأطباء: كيف تحرمونني من هذا الأجر العظيم؟ كنتم تريدون أن تبقوني في جدة؟ ولما جلست مع الشيخ رحمه الله في المرض قلت له مسلياً: يا شيخ محمد! إن عشت فهو إن شاء الله خيرٌ لنا بهذه الفتاوى والدروس وما تنفع به الأمة، وإن رحلت فنرجو إن شاء الله أنما عند الله خيرٌ لك مما عندنا، وليس في الدنيا كبيرُ شيءٍ يؤسف على فراقه، الشيخ زاهد في الدنيا، متعلق بماذا؟! يأسف على ماذا؟! على العمائر والقصور والأموال؟! فقال لي: أقول كما قال عمر بن عبد العزيز فيما رواه البخاري: [إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان] فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص، ثم أشاح بوجهه، وقال لي: هيه كلٌ يريد الحياة.
والشيخ رحمه الله كان قلقاً في موضوع الفتيا، وسألته لما خلوت به عن العلماء الذين يُسألون -احتياطاً للمستقبل- فقال: إن هناك ناساً عندهم معلومات، قال: لكن أين الفقيه؟ المشكلة أين الفقيه الذي يجتهد ويستنبط؟ ثم أثنى على مجموعة من أهل العلم، منهم: الشيخ صالح الفوزان، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك وغيرهما، وكان شديداً في قضية التساهل على الذين يتساهلون ويفتحون للناس أبواباً مما يخالف الدين، وكان متألماً لهذا، وأن بعض هؤلاء لا تبرأ الذمة باستفتائهم.(80/19)
اشتداد المرض على الشيخ ابن عثيمين ووفاته
وكذلك فإن الشيخ -رحمه الله- لما نقل من الحرم في آخر يوم بعد ما انتهى من الدرس من شدة الالتهاب الرئوي الذي أصابه إلى جدة في العيد، عولج من هذا الالتهاب الرئوي، فقال لي الطبيب المعالج: تحسنت حالة الشيخ، ففرحنا، ولكن ما زالت آثار السرطان باقية وشديدة، وكان طيلة الوقت، إذا أفاق يقرأ القرآن ويذكر الله، قال: وفي آخر ليلتين اشتد عليه المرض جداً، وسمعناه يقرأ أشياء من القرآن فاستمعنا وأنصتنا، فسمعناه يقرأ قول الله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11] قال: فأعجبنا ذلك، ثم في آخر يومين اشتد عليه المرض جداً، وفي يوم وفاته بعد الظهر الساعة الواحدة والنصف دخل في غيبوبة إلى الساعة السادسة إلا عشر دقائق، وتوقف القلب من النبض، وتوقف النفس، وأسلم الروح رحمه الله تعالى.
وقد ذكر المغسلون الذين قاموا بتغسيل الشيخ وتكفينه ما رأوه من حسن منظره، وسهولة تغسيله، ونظافة بدنه، حتى أنهم ظنوا أن الشيخ قد غسل قبل المجيء به، وبعد ذلك حصل ما علمتم ورأيتم من توافد هذه الجموع الكبيرة للصلاة عليه، وهبَّ هؤلاء الكثيرون لإمامهم، وأديت صلاة الجنازة في ذلك الزحام العظيم، ومشى الناس إلى المقبرة التي تبعد خمسة أو ستة كيلو مترات على الأقدام، وكان منظراً غريباً لأهل مكة أن يروا هذه الجموع تخترق الشوارع وتمشي؛ الكبير والصغير، والشيخ والشاب، ولم يفرغ من دفنه إلا في وقتٍ متأخر من شدة الزحام.
وكان الشيخ رحمه الله في حياته لا يرى الجلوس للعزاء، وكان ينفذ ما يراه صواباً، فلما مات أبوه ولما ماتت أمه لم يفتح بيته للعزاء، تلقى العزاء في المسجد والطريق، وهكذا فعل أولاده من بعده، رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
أساً بقلبٍ طليح الهم محزونِ يعتاده الكرب من حينٍ إلى حينِ
قد رق حتى غدا من فرط رقته يكاد يوقفه نبض الشرايينِ
وأسعفته دموعٌ سح ساجمها كأنه الغيث يهمي في البساتينِ
تقرحت مقلتي من حزنها أسفاً لفاجعٍ ظل بالدهياء يرميني
فأسكب الشعر دمعاً ساخناً ودماً لعله من أسىً مرٍ يسليني
أضحى بياني عرياً من فصاحته حتى غدا عاطلاً من وصف تبيينِ
غداة قيل طوت أيدي المنون لنا ثوب الحياة عن الشيخ العثيمين
تبكي القصيم وطلابٌ وجامعةٌ ومسجد في عنيزة جد محزونِ
تبكي المنابر والقاعات من حزنٍ وسوف تندبه شتى الميادينِ
وكتبه سوف تبقى الدهر شاهدة على براعته غر العناوينِ
قولٌ مفيدٌ على التوحيدِ قيده أو زاد مستقنعٍ في الفقه والدينِ
عقدٌ ثمينٌ يزين الجيد رونقه تلقفه أيادينا بتثمينِ
والله نسأله للشيخ مغفرة ورحمة يوم نشر الدواوينِ
هذه الأبيات لشاعرٍ مسلم كتبها من قطر.(80/20)
تركة الشيخ ابن عثيمين العلمية
لقد ترك الشيخ -رحمه الله- علماً واسعاً، وبلغت أشرطته في التسجيلات قرابة ثلاثة آلاف ومائة وثلاثة وثمانين شريطاً، وهناك فتاوى مكتوبة عند الناس، وأشرطة أخرى عند طلابه القدامى، وأشرطة مسجلة في قاعات وفصول الدراسة في الكلية، ومجلداتٍ كثيرة في الشروح، وسنأتي على ذكر شيء من منهجه وبعض فتاويه ومسائله.
لقد ذهب الشيخ -رحمه الله- إلى ربه، وبقيت هذه التركة العظيمة من العلوم التي خلفها، وكتب الله لفتاويه القبول، ولعلمه الانتشار، في مشارق الأرض ومغاربها، وإذا كان قد قيل سابقاً: عالم المدينة ملأ المدينة علماً، فإن عالم عنيزة في هذا الوقت مات وقد ملأ الدنيا علماً، وذهب بعض الدعاة وأهل العلم إلى الخارج في بلدان بعيدة، فشاهدوا عدداً من المسلمين يعكفون على كتبه ورسائله وفتاويه، وقد كتب بعض الأفاضل في منهج الشيخ رحمه الله، وهذه من القضايا المهمة.
لقد اعتنى الشيخ -رحمه الله- في البداية بشرح كتب المذهب الحنبلي؛ كـ زاد المستقنع، والكافي، وقواعد ابن رجب، وغير ذلك، وكان يوصي بـ زاد المستقنع، لكنه في الوقت نفسه يعظم الدليل، ويحرم متابعة المذهب فيما خالف الدليل، ويشدد كثيراً على وجوب اتباع الدليل، وهذه كتبه ومحاضراته ودروسه فتاويه مشحونة بتقرير ذلك، عندما يقول: العبادات لا تتم إلا بالإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، والمتابعة لا تتحقق إلا إذا كانت موافقة للشرع في ستة أمور: السبب، والجنس، والقدر، والكيفية، والزمان، والمكان، فلا تقبل العبادة إلا إذا كانت صفتها موافقة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم، ولهذا فقد خالف الشيخ المذهب في مئات المسائل التي يرى أن الدليل فيها بخلاف المذهب، كمسألة الطلاق بالثلاث، ومسألة مدة القصر في الصلاة في السفر، ومسألة نقض غسل الميت للوضوء، وغير ذلك.
وكذلك فقد عني بكتب الحديث؛ فشرح صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وكتب الأحكام المبنية على الأحاديث؛ كـ بلوغ المرام، وعمدة الأحكام.(80/21)
المؤثرات التي تأثر بها الشيخ ابن عثيمين
لقد تأثر الشيخ رحمه الله بمؤثراتٍ أربعة: أولاً: طلبه للعلم على العلامة الفقيه عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وهو من جهابذة الفقهاء الذي كانت له عناية خاصة بالتأصيل والتقعيد، فقد ألف في أصول الفقه، والقواعد الفقهية، وأصول التفسير، وجمع كتاباً حافلاً بالقواعد والضوابط والأصول من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم فيه نحو ألف وست عشرة قاعدة ضابطاً، وهو المسمى بـ طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول.
وكذلك يقول عن شيخه: إنني تأثرت به كثيراً في طريقة التدريس وعرض العلم وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني.
ثانياً: طلبه للعلم على الشيخ العلامة المحدث عبد العزيز بن باز رحمه الله، فقد استفاد منه العناية بالحديث، كما قال الشيخ محمد عن نفسه: تأثرت بالشيخ ابن باز من جهة العناية بالحديث.
ثالثاً: عنايته بكتب الإمامين: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله، فقد شرح للطلبة الحموية والتدمرية، والواسطية، والاقتضاء، والسياسة الشرعية، وشرح النونية لـ ابن القيم ومختارات من زاد المعاد، وأعلام الموقعين، وغير ذلك، وقد تأثر بهما تأثراً عظيماً رحمهما الله تعالى.
رابعاً: اهتم الشيخ بجانب أصول الفقه وتعمق فيه، وبالقواعد الفقهية، واشتغاله بـ نظم الورقات، والقواعد، والأصول، ومختصر التحرير، ومنظومة في القواعد الفقهية، وقواعد ابن رجب والعناية التامة بذلك، ثم باللغة العربية التي برع فيها وأعرب ألفية ابن مالك إعراباً سريعاً في جلسة واحدة، وله دروسٌ في اللغة العربية في شرح الآجرومية، وألفية ابن مالك، وكان إذا لحن القارئ طلب منه إعراب ما لحن فيه، واعتناؤه بأصول الفقه وبالنحو أفاده جداً في الفقه والتفسير، ولذلك فإن دروس التفسير لدى الشيخ مميزة جداً.(80/22)
مميزات الشيخ ابن عثيمين
لقد كان للشيخ رحمه الله مميزات منها: 1 - الشمولية العلمية في هذه الموسوعات التي تجدها له في شتى مجالات العلم الشرعي.
2 - أنه كان منضبطاً في إنتاجه العلمي، وكان يأخذ بالقواعد العامة؛ كاتباع الظاهر في الأحكام والعقائد، إلا ما دل الدليل على خلافه، لكن اتباع الظاهر في العقائد أوكد؛ لأنها أمور غيبية لا مجال للعقل فيها؛ بخلاف الأحكام فإن العقل يدخل فيها أحياناً، لكن الأصل أننا مكلفون بالظاهر.
3 - أنه كان لا يتردد في إعلان توقفه، وأن يقول: لا أدري في مسائل، وقد جربت ذلك في عددٍ من القضايا مع الشيخ رحمه الله.
4 - أنه كان يسير على طريقة السبر والتقسيم والتفصيل، وهذا يفيد الطلاب جداً، ويركز المعلومات في أذهانهم، فتجده مثلاً يقول في أحكام الشعر: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شعرٌ أمر الشارع بإزالته كشعر العانة والإبط والشارب، وشعر نهى الشارع عن إزالته كشعر اللحية، وشعرٌ سكت عنه مثل شعر اليدين والرجلين، ويقسم حركة الصلاة إلى خمسة أقسام، والنجاسة إلى ثلاثة أقسام وهكذا تجده كثير التقسيمات، بارعاً في طريقة السبر، وهذه توضح المسائل في أذهان الطلبة جداً.
وكان ذا تحديدٍ دقيقٍ للمصطلحات، كما يتبين من تعريفه في حد الحدث، وتعريف النجاسة، والاحتياط، والغرض، والإجزاء، ونحو ذلك، ويعتني بالفروق الفقهية، وهذه قضية تدل على الرسوخ في العلم، فيبين مثلاً: الفرق بين القضاء والأداء في الصلاة، والفرق بين فروض العين وفروض الكفاية، والفرق بين أركان الصلاة وشروط الصلاة، والفرق بين صفة الكمال وصفة الإجزاء في العبادة وهكذا، وكثيراً ما يستعمل القواعد الفقهية الكلية ويرد جزئيات المسائل إليها، وهذه من صفات أهل الاجتهاد، وكثيراً ما تسمعه يقول هذه القواعد في أثناء شرحه: (العبرة بالأمور بمعانيها لا بصورها) (البدل له حكم المبدل منه) (عدم السبب المعين لا يقتضي السبب المعين) (يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً) (المشقة تجلب التيسير) (الفرع أضعف من الأصل) (القضاء يحكي الأداء) (كل ما وجب في العبادة فإن فواته مبطلٌ لها) (اليقين لا يزول بالشك) (الشيء في معدنه لا حكم له): مثاله: البول والغائط نجسٌ أم لا؟ أيجوز لأحد أن يصلي ومعه بول وغائط؟ كيف وفي بطن كل واحد منه، فليس له حكم إلا إذا خرج، أما إذا كان في الداخل فليس له حكم، فإذا خرج صار له الحكم (ما شك في وجوده فالأصل عدمه) وهكذا يورد القواعد الأصولية، وينبه عليها، وهذا ولا شك من حسن تدريسه، ومما تميزت به علومه رحمه الله.(80/23)
مسائل متفرقة أجاب عنها الشيخ ابن عثيمين
كنت قد سألت الشيخ ابن عثيمين عن مسائل ثم كتبتها، وعرضتها عليه مرة أخرى قراءة، ومن باب الفائدة اخترت بعضها في هذا الدرس.
1/ سألته رحمه الله: عن التبول في البانيو أثناء الاستحمام، هل يدخل في حديث النهي عن البول في المستحم، أم لأن مجرى الماء مفتوح فلا يدخل؟ فقال رحمه الله: لا يدخل؛ لأنه إذا بال فسوف يريق عليه الماء ثم يزول البول، لكن لا يستحم حتى يزيل البول بإراقة الماء عليه.
2/ وسألته: هل من السنة حلق شعر الأنثيين والدبر؟ فقال: ليس من سنن الفطرة، لكنه إذا كان الشعر كثيراً فإنه لا بد من إزالته حتى لا يتلوث بالخارج.
3/ وسألته: هل الصدف أو القواقع البحرية تعتبر من العظم الذي لا يجوز الاستجمار به؟ فقال: لا.
بل يجوز الاستجمار بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد الجن: (لكم كل عظمٍ ذكر اسم الله عليه)، وهذه -أي: الصدف والقواقع البحرية- لا تدخل في الحديث.
4/ وسألته رحمه الله: عن النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان، هل يشمل المرأة إذا كانت تحضر درساً أو محاضرة؟ فقال: لا يشملها؛ لأن المرأة لا تجب عليها الجماعة أصلاً.
5/ وسألته: عن الذي يصلي على الكرسي في المسجد، هل يجعل أرجل الكرسي الخلفية بمحاذاة أرجل المصلين في الصف؟ أم يجعل أرجل الكرسي الأمامية بمحاذاة أرجل المصلين؟ فقال: يجعل أرجل الكرسي الخلفية بمحاذاة أرجل المصلين، والعبرة به حال قعوده الآن وليس لو قام أين سيكون.
6/ وسألته رحمه الله: عن إمام مسجد انتقل أهل مسجده عنه ولا يصلي معه إلا شخصٌ أو يصلي وحده، فهل يستمر بالصلاة في المسجد وحده؟ أم ينتقل إلى جماعة مسجدٍ آخر؟ وما مدى استحقاقه للراتب؟ فقال: أرى أن يبقى إذا كان معه مأمومٌ ولو واحداً، فإذا لم يكن معه أحد ذهب إلى مسجدٍ آخر يصلي فيه مع الجماعة، أما بالنسبة للراتب فلا بد أن يبلغ المسئولين بذلك.
7/ وسألته رحمه الله: عن وجود بعض الملحقات خارج المسجد كخيمة يجعل فيها النساء مع الصبيان حتى لا يشوشوا، ويمد إليها الصوت بالسلك، وبين الخيمة والمسجد ممر أو درج، وهذه الخيمة في مواقف سيارات المسجد، هل يصح الاقتداء؟ فقال رحمه الله: لا تجوز الصلاة خارج المسجد إلا للضرورة، وهذه ليست بضرورة؛ لأن المرأة لا يجب عليها حضور الجماعة، فليست في ضرورة إلى ذلك، وصلاتها في بيتها أفضل لها من صلاتها في المسجد.
متى يصح الاقتداء؟ إذا كان الواحد داخل المسجد يسمع تكبيرات الإمام ليقتدي، وإذا امتدت الصفوف إلى الخارج صح الاقتداء أيضاً، لكن إذا كان بينه وبين المسجد ممر وليس هناك ضرورة فعند ذلك لا يقتدي بالإمام.
8/ وكذلك سألته: عن مأمومٍ حضره البول أو الريح بشدة وهو في التشهد الأخير، هل تصح صلاته إذا سلم قبل الإمام بعد التحيات والصلاة الإبراهيمية والركن والواجب؟ فقال: نعم تصح لأنه معذور.
9/ وسألته: عن إمام قرأ باللغة الإنجليزية الفاتحة -أي: معانيها- فهل صلاة من وراءه باطلة؟ فقال: تكون صلاتهم باطلة، لكن إذا دخلوا معه قبل أن يعلموا أنه يقرأها باللغة الإنجليزية نووا الانفراد عنه وأكملوا صلاتهم على ما سبق، أما بالنسبة للإمام فيلزمه أن يتعلم الفاتحة باللغة العربية، فإن لم يمكنه سقط عنه وجوبها إلى بدلها من الأذكار المعروفة عند أهل العلم، مثل: سبحان الله، والحمد لله.
10/ وسألته: يوجد في أمريكا بنوك اسمها بنوك الحليب، يشترون الحليب من الأمهات الحوامل ثم يبيعونه على النساء اللواتي يحتجن إلى إرضاع الأولاد من صاحبات العمل، أو من بها مرض وحليبها ناقص، فما حكم شراء الحليب من تلك البنوك؟ فقال: حرام، ولا يجوز أن يوضع بنك على هذا الوجه ما دام أنه حليب آدميات، لأن الأمهات ستختلط ولا يدري من أمه بالرضاعة، والشريعة الإسلامية يحرم فيها بالرضاعة ما يحرم من النسب، أما إذا كان اللبن من غير الآدميات فلا بأس، أو كان من نساء معيناتٍ يمكن الإحاطة بهن، كأن يكون هذا لبن فلانة، وهذا لبن فلانة، وهذا لبن فلانة، لأنه في هذه الحال ستعرف أمهاتهم من الرضاعة.
11/ وسألته: عن بعض الحالات المرضية وخصوصاً النادرة التي يريد بعض الأطباء تصوير المريض أو جزءٍ من جسده، كالصدر والظهر والرجلين لينفع هذا في تدريس المادة لطلاب الطب، أو تعرض في بعض المؤتمرات الطبية للفائدة؟ فقال: إذا كان بعلم المريض وفيها مصلحة للجمهور فلا بأس بذلك، أما إذا كان بغير إذنه فلا يجوز.
12/ وسألته رحمه الله: عن حكم إزالة حب الخال في الوجه وحوله الشعر وهو يشوه المنظر؟ فقال: لا بأس بإزالته؛ لأن ذلك إزالة عين، وليس لزيادة التجميل.
13/ وسألته: عن حكم إجراء الأبحاث عن الحيوانات لتطوير الأدوية؟ فقال: لا أرى في هذا بأساً؛ لعموم قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] ولكن يجب أن تُسلك أسهل الطرق في التجارب، وأبعدها عن تعذيب الحيوانات.
14/ وسألته رحمه الله: عن حكم استعمال الأجهزة الطبية، أو الأشعة فوق الصوتية لمعرفة جنس الطفل وهو في رحم أمه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فقال: لا بأس بهذا، إلا إذا كان فيه نفقاتٍ باهظة، فقد يقال: أنه من إضاعة المال، حيث أنه لا يترتب على معرفة جنس الجنين إلا مجرد الفرحة بمعرفة جنسه، وبين قوسين "والخيبة عند من يكرهون البنات إذا كانت بنتاً" فإذا كانت المعرفة لا تحصل إلا بنفقات باهظة فهو من إضاعة المال، فإنه لا يجوز عندئذٍ.
15/ وسألته: ما حكم إخبار إمام المسجد كلما توفي شخص في الحي بعد الصلاة أن فلاناً مات، والصلاة عليه في مكان كذا؟ فقال: لا أرى هذا؛ لأنه لم يكن من عادة السلف الصالح الإعلان عن موت كل ميت مسلم، اللهم إلا أن يكون الميت ذا قيمة كعالمٍ وغنيٍ ينفع الناس؛ لأن الناس يتشوفون إلى تشييع جنازته.
16/ وسألته رحمه الله: هل يتحمل الأب مصاريف سفر أولاده لرؤية أمهم المطلقة إذا طلبت الأم ذلك؟ فقال: إذا كان الزوج قد أغناه الله والزوجة حالها متوسطة أو دونها، فإن من المروءة أن يتحمل النفقة، ولكنه ليس بواجبٍ عليه أصلاً.
17/ وسألته: هل يجوز أن يؤخر أحدهم الإنجاب ويجعله كل خمس سنين، لأنه يرى فساد المجتمع، ويدعي أنه لا قدرة له على التربية في هذا الوقت؟ فقال: أما ما دامت هذه هي النية فإنه لا يجوز؛ لأنه إساء الظن بالله عز وجل فيما يرغبه النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (تزوجوا الودود الولود) أما إذا كان تنظيم النسل من أجل حال المرأة من أنها لا تتحمل؛ فهذا قد نقول بجوازه، وإن كان الأولى تركه، وقوله: إن أولاده سوف يفسدون، فهذا غير مسلم به، فقد يكونون صالحين ينفعون المجتمع.
18/ وسألته رحمه الله: عن امرأة سيذهب زوجها إلى بلاد الكفار لأمرٍ دنيوي، فطلب منها أن تسافر معه، فهل تسافر معه أم لا؟ فقال: أرى أن تذهب معه؛ لأن ذلك أقرب لسلامته من الفتن، وهي لا ضرر عليها ما دامت تقوم بالواجب من التستر والحشمة، وأما ذهابه وحده فيخشى عليه، وهي أيضاً إذا بقيت ليس عندها زوج ستكون في تعاسة، وقد يخشى عليها من الفتنة.
19/ وسألته رحمه الله: عن تفتيش الزوج محفظة الزوجة والعكس؟ فقال: هل يرضى أحد الزوجين بذلك؟ إذا كان برضا صاحبه فلا بأس، أما إذا كان بغير رضاً فلا يجوز.
20/ وسألته: عن حكم ذهاب الزوج إلى أولاد زوجته الثانية في يوم الزوجة الأولى لتدريسهم في أيام الامتحانات؟ فقال: هذا حرامٌ إلا برضا الزوجة الأخرى، وإذا أراد أن يدرسهم فليأتِ بهم إلى الزوجة صاحبة البيت الذي هو فيه الآن والتي عليها الدور، ثم يردهم إلى أمهم.
21/ وسألته: عن رجلٍ مات فولدت امرأته بعد موته بساعات، هل يجوز أن تغسله؟
الجواب
قال الشيخ رحمه الله: لا.
إذا ولدت انقطعت العلاقة بينها وبين زوجها، فلا يجوز أن تغسله؛ لأنها صارت الآن غير زوجة له، ولهذا لو عقد عليها عاقد في هذه الساعة صار العقد صحيحاً؛ لأن عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً وضع الحمل.
22/ وسألته رحمه الله: إذا حلف على شخص ألا يفعل ففعل، فهل يجب على هذا الشخص الثاني أن يخبر الحالف ليكفر؟ فقال: نعم يلزمه ذلك، ولكن الأفضل للمؤمن أن يبر بقسم أخيه.
23/ وسألته رحمه الله: عن رجلٍ وضع مبالغ بأسماء أولاده في حسابات في شركات استثمارية، فهل الزكاة على كل حساب بمفرده؟ أو يجمع الجميع إذا كان مبلغ كل واحد لا يبلغ نصاباً؟ فقال: كل إنسان له ماله الخاص، فإذا بلغ نصاباً زكَّاه وإلا فلا، ولا يضم بعضها لبعض لتكميل النصاب.
24/ وسألته رحمه الله: عن بيع بعض المحلات للهاتف الجوال، ويسددون ثمن الشريحة لشركة الاتصالات، ثم يقسطون كل المبلغ على المشتري، ويكون بالزيادة؟ فقال: الظاهر أن هذا لا يجوز؛ لأن المشتري يقول للبائع: أقرضني ثمن الشريحة، أي: سدد عني لشركة الاتصالات ثم أسدد لك بزيادة، وهذه الزيادة رباً، لكن يجوز أن يبيعه الهاتف فقط بالأقساط لأنه يملكه، أما أن يقول: سدد عني الشريحة وأعطيك بزيادة، فهذا قرضٌ بزيادة وهو رباً.
25/ وسألته: عن بضع محلات غسيل الملابس التي تبيع بطاقات بسبعين ريالاً ويغسلون بمائة ريال، تدفع مقدماً سبعين ريالاً ويغسلون لك بمائة ريال؟ الجواب: نعم يجوز.
26/ وسألته رحمه الله: عن صاحب مستشفى، وهذا يمكن أن ينفع ويكون بديلاً في قضية التأمين، يقول للزبائن أو للشركات: ادفعوا خمسمائة ريال مقابل عشرين كشفاً طبياً عن الشخص من موظفيكم، سواء كان لمرض يصيبه، أو فحص عام يجريه على مدار السنة، بحيث إذا استنفذ العدد كان ذلك مقابل المبلغ، وإن لم يستنفذ العدد فإنهم لا يسترجعون النقود؟ فقال: لا بأس بهذه المعاملة إذا كان العدد معلوماً.
27/ وسألته رحمه الله: عن شركة لها أموال في البنك، ووافق البنك أن يقرض موظفي الشركة بغير زيادة؟ فقال: لا مانع من اقتراض الموظف من هذا البنك ما دام القرض بدون رباً، واشتراط تحويل الراتب إلى البنك، المقصود به في هذه الحالة أن يتوثق البنك من حقه.
28/ وسألته رحمه الله: عن صاحب محل تجاري في بلاد الغرب يدخل(80/24)
فوائد مختصرة من كتب الشيخ ابن عثيمين
وأخيراً فقد تم اختيار بعض فتاوى الشيخ بالاختصار من أكثر من عشر مجلدات من فتاويه، وسوف أسردها عليكم للفائدة، وسأذكر مختصر الفتوى فقط، حتى يكون أيضاً المجلس ليس فقط مسألة عواطف، ولكن نستفيد من علم الشيخ في نقاط سريعة: 1/ الصحيح أن تعليق التمائم ولو من القرآن أو الأحاديث النبوية محرم.
2/ التسمية إذا كان الإنسان في الحمام تكون بقلبه ولا ينطق بها بلسانه.
3/ النساء إن أقمن الصلاة فلا بأس.
4/ يجوز للمرأة الحائض أن تجلس في المسعى.
5/ لا يجوز التعامل بالشيكات في بيع الذهب والفضة.
6/ يجوز دخول الحمام بأوراق فيها اسم الله ما دامت في الجيب وليست ظاهرة.
7/ جواز البول قائماً، بشرط: أن يأمن التلويث، وعدم انكشاف العورة.
8/ جواز صحة الصلاة ولو كان الحمام أمام القبلة، إلا إذا كانت هناك رائحة كريهة فيجتنبه.
9/ لا بأس بالذهاب إلى مسجد آخر غير المجاور لحضور خطبة الجمعة إذا كان لمصلحة دينية.
10/ الصف بين السواري والأعمدة إذا كان هناك زحام فلا بأس.
11/ لا بأس بإظهار أعمال التطوع في البيت لأجل أن يُقتدى به.
12/ الأفضل أن يدعو لوالديه ولا يجعل لهما عملاً صالحاً كالحج والعمرة، بل الحج والعمرة يجعلهما لنفسه ويجعل الدعاء لوالديه هذا في النافلة، أما إذا كان أبوه وأمه لم يحجا الفريضة وقد حج الفريضة فيحج ويعتمر عنهما.
13/ ليس على المرأة إثمٌ إذا ماتت ولم تحج بسبب عدم وجود المحرم.
14/ جواز إمامة الذي يتعتع ما دام يقيم الحروف والكلمات والحركات.
15/ تحريم استخدام الأجهزة لغير مصلحة الدوائر الحكومية الموجودة فيها، فلا يجوز استخدامها في الأشياء الخاصة، وهناك فتوى أخرى قال الشيخ: الشيء الذي لا يتأثر ولا ينقص إذا استخدم كالمسطرة يجوز استعماله في شيء شخصي، والذي ينقص لا يجوز استعماله في شيء شخصي.
16/ إذا أزيلت النجاسة بأي شيء سواء كان ماءً أو بنزيناً أو مزيلاً فإنه يكون مطهراً.
17/ جواز المسح على كل ما لبس على القدم، وهو القول الصحيح.
18/ القول الراجح أنه يجوز المسح على الجورب المخرق والخفيف.
19/ لا يجوز إحضار الأولاد إلى المسجد إذا كانوا يشوشون على المصلين.
20/ السنة أن يسبح باليد اليمنى.
21/ لا بأس باتخاذ النعل سترة، إلا إذا كان فيها شيء ظاهر من النجاسة.
22/ التأمين التجاري الذي يكون الغرض منه المرابحة مَيسرٌ محرم.
23/ من زوج أولاده الكبار فلا يجوز له أن يوصي لأولاده الصغار بمثلما زوج به الكبار، فإذا زوج أولاده الكبار وكبر الصغار زوجهم مثل الأولين إذا استطاع، وإذا مات قبل أن يكبروا فليس عليه شيء، ولا يوصي لهم بشيء.
24/ استقدام الخادمة بدون محرم معصية.
25/ لا يجوز للإنسان أن يشاهد صور النساء الأجنبيات في المجلات أو الدش أو غير ذلك.
26/ لا يجوز الاختلاط بين الرجال والنساء في عمل حكومي، أو في قطاع خاص، أو مدارس حكومية أو أهلية.
27/ إذا جاءتك امرأتك بولدٍ يكون شبهه موجباً للشبهة فلا تلتفت إلى ذلك، ولا يجوز أن تقول: هذا لا يشبهني، وهذا لا أدري من أين جاءت به، ولذلك بعض أهل البادية عندهم شيءٌ فظيع، يقول أحدهم: هذا ولدي إن صدقت أمه، ما هذا الشرط الفظيع؟ سوء الظن حرام، ولعله نزعه عن إقناع.
28/ المقدم بالقبول ما ارتضته الفتاة من الخطاب، فإذا اختارت من ليس كفئاً فلا يؤخذ برأيها.
29/ يجوز للإنسان أن يتزوج بامرأة أخذ لها من دمه، أي: أن التبرع بالدم لامرأة لا يحرمه.
30/ المراد بقوله: (والقواعد): العجائز الكبيرات، وليس المراد: القاعدة عن العمل، والبعض الآن يفهم من قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور:60] أن تكشف هذه المتقاعدة عن العمل.
31/ الأفضل ألا يشترط على الزوج إكمال دراسة الزوجة، وهذا يكون تقييد له، وقد تكون المصلحة أنها لا تكمل الدراسة.
32/ عدم تصريح الخاطب بما كان خفياً من المرض غش، وعلى من فعل ذلك طلب السماح من الزوجة.
33/ المغالاة في المهور مخالفة للشرع، وشهر العسل أخبث وأبغض.
34/ الرقص من النساء قبيح لا نفتي بجوازه، ومن الرجال أقبح.
35/ العزل أثناء الجماع بدون سبب لا بأس به، لكن لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها.
36/ للرجل أن يهجر امرأته في الكلام في حدود ثلاثة أيام، أما في المضجع فيهجرها حتى تتوب.
37/ لا يجوز للرجل الغياب عن زوجته أكثر من نصف سنة إلا لعذر، أو إذا سمحت بذلك.
38/ المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه ولو تلفظ به.
39/ الحلف على المصحف صيغة لا أعلم لها أصلاً من السنة، فليست بمشروعة.
40 - (طهور إن شاء الله) يظهر أنه ليس من باب الدعاء، بل من باب الخبر والرجاء والتفاؤل لهذا المريض.
41/ المرتد إذا كان مؤذياً للمسلمين يدعى عليه، وإذا لم يكن كذلك فالأحسن أن يدعى له بالهداية.
42/ قسوة الولد على أبيه لأجل تخليص أمه من ضرب أبيه لا بأس به.
43/ لا يجوز قول: (المرحوم) للميت بقصد الخبر، أما بقصد الدعاء فلا بأس.
44/ من أنكر كفر اليهود والنصارى أو شك في كفرهم فقد كذَّب الله، وتكذيب الله كفر، ومن زعم أن في الأرض ديناً يقبله الله سوى دين الإسلام فإنه كافر.
45/ الإنسان مأجور على قراءة القرآن، سواء فهم معناه أم لم يفهم، ولكن ينبغي الحرص على فهم معناه.
46/ ترجمة ألفاظ القرآن لا تمكن، وإنما تجوز ترجمة معانيه للحاجة.
47/ الأشرطة التي تتضمن شيئاً من الأحاديث أو الآيات إذا رماها الإنسان، أو دخل بها مكان قضاء الحاجة بشرط ألا يقصد إهانتها فإنه ليس في ذلك بأس، فإذاً: شريط القرآن الكريم ليس له حكم المصحف.
48/ يجب على الشباب ستر أفخاذهم، ولا يجوز مشاهدة اللاعبين الكاشفين أفخاذهم.
49/ لا حرج من قطع الغريزة الجنسية عند القطط إذا كانت كثيرة ومؤذية.
50/ لا أرى مانعاً أن يقول الإنسان: مبروك.
51/ وضع لفظ الجلالة وبجانبه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز.
52/ تعليق لوحة عليها اسم النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً غير جائز.
53/ تأجير المحلات لمن يستعملها في الحرام حرام.
54/ إذا دخل الإنسان المسجد والمؤذن لا يزال يؤذن فالأفضل أن يجيب المؤذن، ثم يدعو بعد ذلك بما ورد، ثم يصلي تحية المسجد.
55/ إذا قرأ المأموم آية فيها سجدة فلا يسجد؛ لأن متابعة الإمام واجبة، وسجود التلاوة سنة.
56/ أسباب توقف العالم عن الفتوى يكون لتعارض الأدلة عنده، وقد يكون لظنه أن هذا المستفتي متلاعب.
السؤال
هل صام الشيخ رحمه الله رمضان الماضي؟ الشيخ رحمه الله لم يتمكن من صيام رمضان الماضي لمرضه، وقد عذره الله سبحانه وتعالى عذر المريض، ونسأله عز وجل أن يرفع درجته، ويعظم أجره.(80/25)
أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [1]
ادعاء علم الغيب من الأمور المناقضة للإيمان والهادمة لأركان التوحيد، ومن هذا الادعاء كتابة الأبراج في المجلات والجرائد التي عم بها البلاء وطم.
وقد تكلم الشيخ عنها فبين طرق كتابتها المختلفة والوسائل الخبيثة المستخدمة للتأثير على الناس، مع ذكر أهداف كتابة الأبراج، وفي الأخير بيّن حكم الكاهن والعراف، وحكم الذي يقرأ هذه الأبراج، إما باعتقاد أنها حق أو بقصد التسلية في قراءتها.(81/1)
لا يعلم الغيب إلا الله
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: إن للتوحيد مكانة عظيمة في نفوس المسلمين، أو هكذا ينبغي أن يكون الحال، ولذلك جاء في القرآن والسنة من النصوص التي تحمي جناب التوحيد، وتسد الذرائع المؤدية إلى الشرك أشياءٌ كثيرة ينبغي أن تنهض بهمة الإنسان المسلم حتى يتعلم توحيد الله عز وجل، ويحذر من الوقوع في الشرك وأنواعه.
وكان من جملة ما أصاب المسلمين في دينهم -ونسأل الله عز وجل ألا يجعل مصيبتنا في ديننا-: أن وقع فيهم البلاء والشر المستطير في قضايا تنافي التوحيد، وهي من الشرك الخالص، بل إنها كفرٌ أكبر تنقل الإنسان عن الملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أشياءٌ عظيمةٌ أيها الإخوة تنافي التوحيد وتضاده، تقع على مسامع كثيرٌ من المسلمين وأبصارهم صباحاً ومساءً، بل قد صارت مثل التسالي التي يُتَسَلى بها، أمورٌ تناقض آيات عظيمة من صفات الله عز وجل.
ربنا جل وعلا يقول عن نفسه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر:38].
{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} [الرعد:42].
{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65].
الآيات تنص نصاً واضحاً قطعياً على تفرد الله عز وجل بعلم الغيب، وأنه لا يوجد في السماوات والأرض من يعلم الغيب إلا الله، لا يوجد من يعلم ماذا سيحصل بعد دقيقةٍ، أو بعد ساعةٍ، أو بعد شهرٍ، أو سنةٍ، أو سنين، لا يوجد من يعلم ماذا سيحصل فيها إلا الله عز وجل.
كل الأمور الغيبية والحوادث التي ستحدث يتفرد الله عز وجل بعلمها.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]: متى تقوم القيامة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34].
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28].
يتوقع الفلكيون نزول الغيث، ويقولون: الفرصة مهيأة لنزول الأمطار، وتتجمع الغيوم في السماء، وتنذر الحالة بأن المطر سينزل، ولكن في اللحظات الأخيرة يصرِّف الله الرياح كيف يشاء، فتذهب بهذه الغيوم القاتمة دون أن تنزل من السماء قطرة واحدة.
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34].
ويعلم ما تزيد الأرحام وما تنقص: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
فإن قالوا: لقد عرفنا هل في بطن الأم ذكراً أو أنثى، فنقول لهم: متى علمتم بهذا؟! هل علمتم به في الأيام الأولى للحمل، وكانت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة؟! هل علمتم بذلك قبل أن يدخل الرجل بزوجته: ماذا سيولد له؟! لو علمتم نوع الجنس ذكراً أو أنثى، فهل علمتم ماذا سيكسب من الأرزاق؟! هل علمتم هل هو شقيٌ أم سعيد؟! هل علمتم كم عمره، وماذا يكون أجله؟! يرسل الله الملَك الموكَّل بهذه النطفة فيكتب: أذكرٌ أم أنثى! أشقيٌ أو سعيد! ما هو رزقه! ما هو أجله! وما هو عمله! هل يدري عن هذه الأشياء مجتمعة أحدٌ غير الله عز وجل؟! {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].(81/2)
التنجيم ومطالعة الأبراج يهدم التوحيد
إن النصوص السابقة أيها الإخوة تتعرض اليوم لمصادماتٍ صريحة في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، تهدم عقائد المسلمين، وتزلزل أركان التوحيد في نفوسهم بجميع أنواع الشرك والكفر بالله عز وجل.
ومنها أيها الإخوة ما سنتكلم عنه، وأرجو ألا تستغربوا من هذا الموضوع الذي انتقيته لأتكلم عنه الآن، فإني قد سمعت كثيراً وبلغتني أشياء عظيمة من تصديق الناس بهذه الأشياء، هذه الأمور التي تسللت إلى حياتنا ونفوسنا حتى صدَّق بها كبار القوم وصغارهم، أغنياؤهم وفقراؤهم، إنها مسألة التنجيم، ومعرفة ومطالعة الأبراج التي تخصَّص لها الزوايا والصفحات في الجرائد والمجلات.
الأبراج أيها الإخوة، التي يدعي من كتبها علم الغيب، ويصدق من يقرأها، ماذا سيحصل؟! ما كتب الكاهن والعراف في تلك الزوايا المتكاثرة يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنةً بعد سنة، تغزو عقولنا وأنفسنا وقلوبنا بعد أن غزت جرائدنا ومجلاتنا.
عن معاوية بن الحكم قال: قلت: يا رسول الله، أمورٌ كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكُهَّان -نأتي الكاهن ونسأل- قال: (فلا تأتوا الكُهَّان، قال: قلت: كنا نتطير، قال: ذلك شيءٌ يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدكم) الحديث رواه الإمام مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -موضحاً خطورة إتيان الكاهن أو العراف وسؤاله- يقول: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) والذي أنزل على محمد هو القرآن والسنة، والذي يصدق بهذه التنجيمات والتخرصات، وهذه الأشياء التي تُكتب في الصحف والمجلات، في الأبراج فقد كفر بما أنزل على محمد.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الآخَر مبيناً الخطورة الزائدة: في صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي: حفصة كما قال أصحاب طرق الحديث أنه قال: (مَن أتى عرافاً، فسأله عن شيءٍ، فصدقه بما يقول، لم تُقْبَل له صلاة أربعين يوماً) لا تُقبل له صلاة.
إذاً: أيها الإخوة! يكفر بما أنزل على محمد، ولا تُقْبَل له صلاةٌ أربعين يوماً وليلة، وهذا لا يعني أنه يترك الصلاة، بل إنه يصلي ومع ذلك لا يأخذ حسنة واحدة على صلاته، وإذا كانت هذه هي حال السائل الذي يسأل الكاهن والعراف! فما حال المسئول: الكاهن والعراف نفسه؟! كيف يكون حاله؟! والعراف أيها الإخوة كما قال علماؤنا: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدماتٍ يستدل بها.
وقال شيخ الإسلام: إن العراف اسمٌ للكاهن، والمنجم، والرمال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو الكشف، قال: والمنجم يدخل في اسم العراف.
والمنجم يدخل في اسم الكاهن أيضاً عند الخطابي وغيره من العلماء.
وقال أبو السعادات رحمه الله: العراف والمنجم والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله به، قال: في الدين الخالص.
والمقصود من هذا كله: مَن يدعي معرفة شيءٍ من المغيَّبات فهو: إما داخلٌ في اسم الكاهن، أو مشاركٌ له في المعنى، فيُلحق به.(81/3)
طرق معرفة الغيب عند المنجمين والعرافين
ومعرفة الغيب أيها الإخوة تكون بأمور، منها: - استخدام الشياطين.
- والزجر.
- والطِّيَرة.
- والضرب في الأرض.
- والضرب بالحصى.
- والخط في الأرض.
- والتنجيم.
- والكهانة.
- والسحر.
- وقراءة الكف.
- والاستقسام بالأزلام.
- والذي يقرأ (أباجاد) (أبجد هوز) للاستدلال بها على الغيب.
- وغير ذلك، مثل: قراءة الفنجان.
وقاتل الله مَن وَضَعَ كلمات قصيدة قارئ الفنجان، ومَن لَحَّنَها، ومَن غَنَّاها، جازاهم الله بشر ما يستحقون على تخريبهم عقائد الأمة.
أيها الإخوة: لا تحسبوا أن كلمات الأغاني هي مجرد كلمات عاطفية، كلا إن في بعضها كلماتٌ مناقضة لأصل العقيدة، وأصل التوحيد، ادعاء أن قارئة الفنجان تعلم الغيب، وتخبر هذا السائل ماذا سيحصل له.(81/4)
حكم اعتقاد تأثير الأبراج والكواكب والنجوم
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يعتقد أن الكواكب لها تأثيرٌ في الوجود، أو يقول: إن له نجماً في السماء يسعَد بسعادته، ويشقَى بعكسه، ويقول: إنها صَنْعَة إدريس عليه السلام -التنجيم- ويقول هذا المفتري الكاذب: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نجمه العقرب أو المريخ، هل هذا من دين الإسلام؟ وماذا يجب على قائله؟ فأجاب رحمه الله إجابة طويلة، منها نقتطف قولَه: الحمد لله.
النجوم من آيات الله الدالة عليه، المسبحة له، الساجدة له: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]-النجوم مسخرة بأمر الله جعل الله لها وظائف: هداية المسافر في البر والبحر، رجوماً للشياطين، تسبح الله، وتسجد- ثم قال: وهكذا المنجمون في ادعائهم الغيب والخرافات والأكاذيب حتى إني خاطبتهم بـ دمشق -لأنه كان يعيش فيها شيخ الإسلام - وحظر عندي رؤساؤهم، وبينت فساد صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون هم بصحتها، قال رئيسٌ منهم: والله إنا لنكذب مائة كذبة حتى نصدُق في كلمة واحدة.
واعتقاد المعتقد أن نجماً من النجوم السبعة هو المتولي لسعده ونحسه اعتقاده فاسد، وإن اعتقد هذا المعتقد أن هذا النجم هو الذي يدبر له -يعني: أموره- فهو كافر، أي: كافر بالله.
ثم إن الأوائل من هؤلاء المنجمين المشركين الصابئين - الصابئة: كلمة يطلقها بعض العلماء على عُبَّاد النجوم، ولا زال هناك إلى الآن من يعبد النجوم، ومنهم أقوامٌ يسكنون بأرض العراق حتى هذه الساعة- وأتباعهم قد قيل: إنهم كانوا إذا وُلِد لهم المولود أخذوا طالع المولود وسَمَّوا المولود باسمٍ يدل على ذلك -يعني: ذلك الطالع- وهكذا جاء مَن بعدَهم -يسأل الرجل عن اسمه واسم أبيه واسم أمه ليعرف طالعه ويعرف سعده من نحسه وحظه في الدنيا ورزقه وهكذا- وأما اختياراتهم -يقول شيخ الإسلام - وهو أنهم يأخذون الطالع لما يفعلونه من الأفعال، مثل اختياراتهم للسفر أن يكون إذا كان القمر في شرفه وهو السرطان -هذا اعتقاد المنجمين- إذا كان السفر في برج السرطان فهو سفرٌ طيب، وألا يكون في هبوط القمر وهو برج العقرب، فهذا إذا اعتقد هذا فهو من الباب المذموم.
ولما أراد علي بن أبي طالب أن يسافر لقتال الخوارج عرض له منجمٌ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسافر! فإن القمر في العقرب -في برج العقرب، لا تسافر- فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هُزِم أصحابُك -أو كما قال- فقال له علي: بل أسافر -بل أسافر في هذا الوقت- ثقة بالله، وتوكلاً على الله، وتكذيباً لك، وإرغاماً لأنفك، فسافر علي رضي الله عنه بجيشه، فبورِك له في ذلك السفر، حتى قَتَل عامَّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به.
ثم أجاب شيخ الإسلام عمَّن ادعى أن صنعة التنجيم لإدريس عليه السلام، وأنه برج الرسول صلى الله عليه وسلم في العقرب والمريخ، فقال: هذا كلامٌ لا دليل عليه، ولا علم لقائله به، بل إنه من التُّرَّهات.
وكانت إجابةً طويلة مسجلة.
رحمه الله تعالى.(81/5)
طريقة كتابة الأبراج في المجلات والجرائد
الأبراج الآن أيها الإخوة التي تُكتب في المجلات والجرائد تُكتب بعدة طرق:- فمنها: ما يُكتب بطريقة الأبراج: برج الحمل، برج الثور، برج الجوزاء، برج السرطان، وهكذا.
ومنها: ما يُكتب بطريقة السنوات: إذا كنت من مواليد السنة الفلانية؛ فسنتك الجديدة سنة كذا وكذا وكذا، أو فالحذر مطلوب، أو فالحظ حليفك.
ومن السخافات ما قرأته في بعض هذه الأشياء أن المنجم يقول: إذا كنتَ مولوداً في سنة (1910م) فليس هناك ما يميز سنتك الجديدة سلبياً، إلا بعض المشاكل الصحية، وخصوصاً فيما يتعلق بالعضلات.
طبعاً ماذا نتوقع في شخص مولود في عام (1910م)؟! وقد تُكتب بطريقة الأشهر: فتجد الجداول: شهر كانون الثاني، ماذا يوجد فيه من السعد والنحس! شهر شباط، شهر آذار، شهر نيسان، وهكذا، وتُستخدم لها عناوين جذابة: أنت والنجوم، أُورِسْكُوب، ألوان الحظ، ماذا تخبئ سنة (1987م) أو (1988م)، الفلك بين يديك، حظك هذا الأسبوع، حديث الأبراج، أبراج القراء، وهكذا، حتى إنهم اخترعوا طريقة للذي لا يعرف ميلاده ولا تاريخ ولادته، فقال قائلهم: إذا كنت ساقط القيد، ولم تعرف تاريخ يوم ميلادك، فبرجك تعرفه من اسمك، وجعلوا للأحرف موازين وأعداداً استنبطوا منها الأبراج، ثم قالوا له: ارجع إلى الجدول المرفق في الأبراج لكي تعرف ماذا ينتظرك.(81/6)
الوسائل الخبيثة لكتّاب الأبراج
هؤلاء الدجالون أيها الإخوة يأتون في كلامهم بأشياء تقع دائماً، وليست غريبة، مثل قولهم: باب الصعوبات تعترض سبيله: وهل يوجد إنسان لا يعترضه بعض الصعوبات؟! خبرٌ سارٌ يصلك من إنسانٌ تحبه: وهل رأيتم إنساناً ما وصله إليه في حياته خبرٌ سار من شخصٌ يحبه؟! بعض المشاكل المادية: هل يوجد إنسان ما واجه مشاكل مادية؟! علاقتك ببعض الأشخاص تزداد مكانة: أمر طبيعي! تنتظر جواباً من شخص قد يصلك الرد في هذا الأسبوع: طبعاً قد يصلك في هذا الأسبوع، وقد لا يصلك هذا الأسبوع.
ماذا يريدون وراء هذه الكلمات؟! يا أيها المسلمون انتبهوا من رقدتكم! يريدون إيهام العوام والجهال أنه قد تحقق كلامهم، ويرى الشخص فعلاً بأن الرسالة قد وصلت في هذا الأسبوع، فيقول: نعم، إنهم يعرفون، يرى أنه قد وقع بعد قليل في مشاكل مادية، يقول: نعم، لقد صدقوا، هذا من وسائل الإيهام، والدجل، والتخريف، وخداع الناس.
وكذلك من وسائلهم الخبيثة في كتابتهم في تلك الأبراج: يتقربون إلى الشخص القارئ بأسلوب الناصح الأمين، ثم يدسون له الأشياء الأخرى، فيقولون له مثلاً -بأسلوب الناصح الأمين-: لا تبالغ في إرهاق نفسك.
حافظ على حكمتك.
كن طويل النَّفَس.
انتبه لصحتك.
برج الجوزاء: تجنب المشاحنات.
وهكذا، حتى يشعر القارئ بأنهم ينصحونه ويقدمون له الكلمات المعسولة التي تفيده، وهذه أشياء لا علاقة لها بالتنجيم مطلقاً، نصائح طيبة في الظاهر يُراد منها الوصول إلى الأشياء الخطيرة المنافية للعقيدة، ويضللون الناس بتسمية من يكتب هذه الأبراج، يعدها اليوم الفلكي الدكتور فلان، يكتبها الفلكي فلان، ما معنى كلمة الفلكي؟ إنها تتضمن حقاً وباطلاً، فتخدر الناس هذه الإبرة الكلامية (الفلكي فلان) يعني: ليس يعدها المشعوذ فلان، ولا الدجال فلان، ولا المخرف فلان، ولا الكاهن فلان، أو الساحر فلان، وإنما يعدها الفلكي فلان، يكتبها لك اليوم: فلان الفلاني.
وفي هذا إضفاء صفة الشرعية على هذه الأشياء المناقضة للعقيدة والتوحيد، إنها الدجل والكذب والإفك والعرافة بعينها.
ويسرق بعضُهم من بعض، ما تجده مكتوباً في صحيفة تجده بعد فترة مكتوباً بالنص في صحيفة أخرى، أو في مجلة أخرى، يسرق بعضُهم من بعض، هم يكذبون وجهالنا يصدقون، هم يكفرون بالرحمن، ومغفلونا يصدقون بكفرهم، ويؤمنون به.(81/7)
أهداف كتابة الأبراج
إذا تأملتَ في الكلام المكتوب في تلك الأبراج يا أخي المسلم تجد أنه السم الزعاف المؤدي إلى تحطيم أخلاق المسلمين، هذا غرضٌ من الأغراض وأقرأ عليكم بعض الأمثلة الواقعية المكتوبة فعلاً: - برج الحمل: إذا كان وضعك العاطفي لا يرضيك، فالوقت مناسب لإجراء التغييرات المطلوبة.
يعني: إنشاء علاقات حب وغرام جديدة حرمها الله عز وجل.
- برج الثور: استمري في تتبع خطوات شقيقتك فيما يتعلق بموضوع المهنة.
إذاً: إخراج النساء من البيوت، وزَجِّهِن في أماكن العمل، يخالطن الرجال.
اقتدي بشقيقتك في المهنة.
- برج الجوزاء: قد تلامين من قبل أسرتك على غيابك المتكرر؛ لكن قد تجدين العزاء في العمل.
أيها الإخوة فكروا معي بعقلية المسلم الذي يغار على إسلامه وعلى مجتمعه وعلى فتيان هذا المجتمع وفتياته، ماذا تعني هذه العبارة: قد تلامين من قبل أسرتك على غيابك المتكرر؟! ماذا تعني؟! لكن قد أنتم تعرفون ماذا تعني؟! تجدين العزاء في العمل، يعني: إذا سألوك فتحججي بأي شيء.
- برج العقرب: انتظاركِ للحبيب لن يطول، فالأسبوع هذا يتيح لكِ فرصة اللقاء به.
سمٌ زعاف، تحطيم لأخلاق الأمة وأخلاق البنات والبنين، أليس أولئك البنات اللاتي يقرأن هذا الكلام ضُرِبَت عليهن الذلة والمسكنة، مسكينات! ماذا يقرأن؟! - برج الدلو: تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة.
فكر في الجملة: تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة، نحن المسلمون لو وقع الواحد في معصية، يشعر بالذنب، هذا الشعور بالذنب يدفعه إلى التوبة.
مهم أنَّ هذا الذنب يكون مثل الجبل الذي تخاف أن يقع عليك، فتستغفر أكثر وتتوب أكثر وتظل متذكراً لتلك الذنوب، لكن يقول هذا الرجل: برج الدلو: تتخلص من الشعور بالذنب الذي لازمك في مرحلة سابقة، قطع الطريق على الناس بالتوبة إفقادهم الشعور بالذنب غمسهم في أوحال المعاصي، زيادة بزيادة.
- برج كذا: تتعرف على صديقة حب.
- برج الجوزاء: كوكب الزهرة يزيد من رهافة إحساسك تجاه الحب.
- برج العذراء: حاول أن تأخذ فترة تأمل مع شريكة حياتك أو مَن تحب.
مزج الحلال بالحرام، إذا ما كان لك شريكة حياة تتأمل معها فقف وقفة مع من تحب تتأمل.
التغرير بالأحداث من وسائلهم، وجعلهم يتيهون في الآمال الكاذبة والسراب، فتجد: - برج كذا: مكالمة هاتفية تجلب لك مستقبلاً باهراً، اتصال هاتفي هام يجعلك تحلم بمستقبل باهر.
ويجلس هذا الشاب المسكين البطال وهو ينتظر تلك المكالمة التي تجلب له المستقبل الباهر، أن يُجْعَل الناس يجرُون وراء الأوهام ووراء السراب، ويقعدون عن العمل، ينتظرون المكالمة والرسالة المهمة التي ستجلب له الحظ السعيد وتفتح لهم المستقبل.
ومن غرائب ما قرأتُ وأنا أحضِّر هذه الخطبة، وقد جَمَّعت مصادر لقراءتها، لا حباً ولا تسلياً بها، وإنما من أجل أن أعرض عليكم يا إخواني ماذا يُكْتَب: إذا كنتَ من مواليد (1953م) أو (1957م) فأنت محظوظ في سنة (1987م).
ما علاقة عام (1953م) و (1957م) بعام (1987م)؟! يجلس هذا العراف على كرسيه ويخترع الأرقام ويؤلف، ومجانينُنا يصدِّقون! هذا ما يحصل أيها الإخوة، ضد العقيدة والتوحيد، ضد أعز ما يملك الإنسان المسلم.
وفقنا الله وإياكم أن نعي هذه الشرور، وأن نقاومها، وأن نتمسك بحبل الله المتين، والعقيدة الصحيحة.
وصلى الله على نبينا محمد.(81/8)
علاقة الأبراج بالتوحيد
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:8 - 9].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي علمنا التوحيد، وعلمنا أن الكهانة والسحر والتنجيم والعرافة والتطيُّر من الكفر والشرك، وما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه.
يظن بعض الْمُغفلين أن هذه الأشياء تسليةً لا علاقة لها بالعقيدة، ولا تَمَس العقيدة، ويقولون: إن هذه بعيدة عن التنجيم كل البعد.
ولكن أيها الإخوة، الذي يقرأ ما كتبوا وسطروا فيها يجد المخالَفة الصريحة للعقيدة، وارتباط هذا العمل بالتنجيم المحرم.
فمثلاً: يقول قائلهم: - برج العقرب: وجود أورانوس في برجك الشمسي يجعلك عصبياً ومتهوراً.
إذاً كاتب هذا يعتقد بأن هذا الكوكب له تأثير على أخلاق الناس وطبائعهم.
- بروج الأسبوع: كوكب زحل يمنحك النجاح والظهور، في الوقت الذي زيد فيك متاعبك ومشاكلك، ويجعلك زحلٌ حكيماً فيلسوفاً ذكياً مثابراً.
سبحان الله! كوكب خلقه الله هو الذي يجعلك حكيماً مثابراً فيلسوفاً ذكياً؟! ويدخل في هذه الأبراج: التشاؤم والتفاؤل بالأرقام، وهو من الطِّيَرة المحرمة، فيقول: - برج الحمل: رقم الحظ: [4]، يوم السعد: الإثنين.
- برج الحوت: رقم الحظ: [7]، يوم السعد: الثلاثاء.
وهكذا.
- هذا الشهر: الأرقام الأكثر حظاً يوم: [7] و [9] و [11] و [25]، الأيام الأقل حظاً: يوم: [3] و [13] و [19] وهكذا.
هذه القضية أيها الإخوة فيها خطورة كبيرة على الناس.
كثيرٌ من الناس يتخذون قراراتٍ هامة في قضايا الزواج، أو الانفصال والطلاق، أو السفر، أو التجارة، أو الصداقة، وغيرها، بناءً على ما كتبه ذلك المنجم في تلك الأبراج.
وترى من يتقدم للزواج، تسأله الخطيبة: ما هو برجك؟ فإذا كان العراف قد كتب في ذلك البرج أن هذا لا يلتقي مع ذلك البرج التي فيه الفتاة، ترفض الفتاة الشاب؛ لأن برجه لا يتوافق مع برجها.
وقد حدثت حادثة طريفة: أن خطيبة فَسَخَت الخِطبة لخطيبها؛ لما اكتشفت أن برجه لا يوافق برجها، فاضطر ذلك الرجل أن يذهب إلى محرر صفحة الأبراج ليقنعه ويدفع له أن يكتب له في العدد التالي أن البرج هذا يوافق البرج ذاك؛ لكي تقرأه تلك المرأة، وتصدق مرة أخرى بأن هذا الرجل مناسبٌ لها.
تحديد مواعيد الزواج باليوم والشهر والسنة من الأمور التي يُلجأ فيها إلى العرافين، وتُكتب في المجلات: الممثلة الفلانية، قال لها عرافها فلان الفلاني: إن اليوم المناسب للزواج الذي يجلب السعد هو اليوم الفلاني في الشهر الفلاني في السنة الفلانية.
ويتعلق القراء بهذه الترهات والأباطيل، ويراسلون، ويراسلن محرري صفحات الأبراج في الصحف والمجلات.
فتسأل إحداهن وتقول -هذا كلام مكتوب-: برج الأسد: هل يمكنني معرفة حسنات وسيئات هذا البرج؟! ومع أي الأبراج يتفق؟! ويجيبها ذلك الدجال بما عنده ويسطر تلك الترهات والأباطيل.(81/9)
من فوائد دراسة التوحيد
مع ذكر ما سبق يظل الناس يقولون: ما فائدة دراسة التوحيد؟! لماذا ندرس في المراحل الابتدائية توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات؟! هذه قضايا فطرية، هذه قضايا معروفة، هذه قضايا يفهمها كل جاهل، ما هي قيمة كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب؟! ولماذا أُلّف الكتاب؟! الناس في غِنَىً عنه، ألفه -يا أيها الإخوة- من أجل مثل هذه الأمور، اقرءوا كتاب التوحيد وادرسوه، فأبوابه متينة، تعالج قضايا خطيرة وأساسية، تتجنب بواسطة الفقه في الدين في هذه الأبواب كثيراً من الشرور، فتجد في كتاب التوحيد: باب ما جاء في السحر، باب ما جاء في التَطَيُّر، باب ما جاء في التنجيم.
وهكذا.
يَجِب أن تحرصوا أيها الإخوة على تنمية جوانب العقيدة، ودراسة كتب التوحيد؛ لتعرف كيف توحد الله، وكيف تتجنب الشرك.
هذه الأشياء الخطيرة تنقض الإيمان بالله عز وجل، تنقض الإيمان بركنٍ أساسي من أركان التوحيد، بحقيقة أساسية تكسرها كسراً، تحطمها تحطيماً، قضية تفرد الله عز وجل بعلم الغيب: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] هذه الأشياء المكتوبة في الأبراج تحطم هذه القضية الأساسية تحطيماً، وتشوه عقيدة القضاء والقدر في نفوس القراء، مخالفة صريحة وواضحة لآيات الله عز وجل، وأحاديث رسوله.(81/10)
حكم الشريعة في الكاهن والعراف والمصدق لهما
ما هو حكم هؤلاء في الشريعة يا ترى؟! قال ابن قدامة رحمه الله: نُقِل عن الإمام أحمد عن الكاهن والعراف أن حكمهما القتل أو الحبس حتى يموتا.
ومن اعتقد من القراء الذين يقرءون هذه الأبراج -من اعتقد منهم اعتقاداً جازماً- أن كلام هذا العراف الفلكي حقٌ ويرسم حياته بناءً على ما كُتِب وفقاً لأقوال الكاهن والعراف؛ فلا شك أنه يكفر كفراً مخرجاً من ملة الإسلام، لا ينفعه صلاةٌ ولا صيامٌ ولا زكاةٌ ولا حجٌ، وهو مناقضٌ لشهادة التوحيد التي يلفظ بها في الصلاة.
والذي يأخذ قول الكاهن عن تجربة، يقول: أجرِّب، قد يكون صحيحاً وقد لا يكون، هذا قد وقع في الشرك العملي الشرك الأصغر.
الجاهل يُعَلَّم، والذي عنده شبهة يناقَش لتُزال الشبهة.
يعني: أقول: إن من المحاذير: إطلاق الكفر على الناس الجَهَلَة بالسهولة، لا.
إذا رأيت منهم من يصدق بهذا اجلس معه، ناقشه، وبيِّن له بالأدلة من القرآن والسنة هذا الكفر وهذا الشرك، وبعد ذلك إن أصر على كفره فهو كافرٌ ولا شك.
وقد سألنا بعض علمائنا عن حكم قراءة هذه الأشياء على سبيل التسلية؛ لأن بعض الناس يقولون: أنا أُمَضِّي الوقت، وأقرأ صفحة الاستراحة التي تحوي هذه الأشياء، ما حكم قراءتها للتسلية؟ قال علماؤنا: قراءتها للتسلية حرام لا تجوز، وهي ذريعة للشرك، وقد يصدق هذا القارئ للتسلية يصدق بعض ما جاء في هذه الأشياء، وتُقرأ هذه القضايا على صغارنا، يتربون عليها، تقرؤها عليهم أمهم أو أبوهم أو أخوهم أو خالهم، تُقرأ في البيوت بصوتٍ مرتفعٍ أحياناً، فتترسخ هذه الشركيات في عقول أطفالنا.
لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عن النظر في صحائف التوراة المحرفة؟ لماذا غضب الرسول غضباً شديداً وهو يرى عمراً ينظر في صحائف التوراة؟ لا يجوز النظر أصلاً فيما كُتب من الشرك والكفر إلا لمن أراد أن يحذر الناس وينبههم بهذا الشر المستطير، عند ذلك يكون من باب الدعوة إلى الله، أو من يريد أن يرد عليهم، فيكون من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً أيها الإخوة: يجب أن ننتبه لهذه الشرور والآفات، وأن نحصن أنفسنا ومجتمعاتنا وأولادنا من هذه الأشياء، نعلمهم التوحيد، فالقضية مرتبطة بالواقع، ليست خيالات أو آثار من القرون البائدة، إنها أشياء نسمعها اليوم ونقرأها.
وفقنا الله وإياكم للاعتقاد بالعقيدة الصحيحة، وأن نسير عليها، وأن نتمسك بتوحيد الله، وأن يوفقنا وإياكم لتجنب الشرك والكفر كبيره وصغيره، جليله وحقيره، وأن يجعلنا وإياكم على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
اللهم طهِّر قلوبنا من الشرك والنفاق والرياء.
اللهم وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم قلوبنا، ووفقنا لما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك، واجعلنا ممن فقهته في الدين.
وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، فإن من صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً.(81/11)
أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [2]
العقيدة أعز ما يملك الإنسان المسلم، فإذا طعن فيها فقد سلب منه أعظم ما يملك.
ولطالما حاربها الكفار والمنافقون في القديم والحديث، وشنوا عليها غارات التجهيل والشعوذة والدجل، والطرق الشيطانية المستوحاة من شياطين الإنس والجن؛ ليصدوا عن العقيدة الصحيحة والتوحيد.
وفي هذه المادة عرض لمجمل الطرق التي يستخدمها الكهان والدجالون في السحر والشعوذة، وذكر بعض الأمور المنتشرة في المجتمع من الشركيات والأباطيل المخالفة بل المناقضة للتوحيد.(82/1)
الدفاع عن عقيدة الإسلام
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
تكلمنا في الخطبة الماضية يا إخواني عن موضوعٍ يمس العقيدة مساساً خطيراً، وهو موضوع: التنجيم وأبراج الحظ المنتشرة في المجلات والجرائد والتي يقرؤها أبناؤنا وبناتنا في الليل والنهار.
والعقيدة أعز ما يملك الإنسان المسلم، فإذا طعن فيها فقد سُلِب منه أعظم ما يملك.
ولذلك وجب علينا الدفاع عن عقيدة الإسلام، وعن دين التوحيد الذي بعث الله به الأنبياء وختمهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه العقيدة -أيها الإخوة- التي طالما حاربها الكفار والمنافقون في القديم والحديث، وشنُّوا عليها غارات التجهيل والشعوذة والدجل، والطرق الشيطانية المستوحاة من شياطين الإنس والجن، ليصدوا الناس عن العقيدة الصحيحة والتوحيد.
يجب أن يكون موقفنا حاسماً تجاه هذه الأمور، التي تكاد تعصف برأس المال للرجل المسلم.
وفي هذا العصر مع أنه يسمى عصر الحضارة والتقدم العلمي والحضاري والتقني والمكتشَفات والمخترَعات، بالرغم من ذلك فإن الناس قد تفشت فيهم هذه الأوبئة المنافية للعقيدة.
وهذا يدل -أيها الإخوة- على أن الشعوذة والدجل والكهانة لا تحارَب بالحضارة والتقدم العلمي التقني أو التكنولوجي -كما يسمونه- بل إنها تحارَب بالعقيدة، تحارَب بالقرآن والسنة؛ سلاح المسلم الوحيد الفعَّال الذي يجابه به الشرور والآثام والإفساد في الأرض.
ولذلك ترى في المجتمعات الكافرة بالرغم مما وصلوا إليه من التقدم والحضارة، ترى الشعوذة والدجل والتنجيم والعرافة والكهانة متفشية بينهم، بل إنك ترى دكتوراً في جامعة من الجامعات المحترمة -على حد زعمهم- يتردد إلى عرافة أو دجال من الدجاجلة.
إذاً فالمصدر الوحيد الذي نستطيع من خلاله أن نقاوم ونصد هذه الهجمات الشرسة على دين الإسلام هو القرآن والسنة، والنور الذي أنزله الله من السماء، لكي يتبين به المسلم طريقه في دياجير الظلمة والشرك.
واعلموا -يا إخواني- أن الناس يستبسطون ويتساهلون في الإقدام وإتيان العرافين والكهنة، حتى إنه قل ما يخلو بيتٌ من البيوت في هذا العصر إلا وتجد فيه مصدِّقاً بدجالٍ أو مشعوذ، يأتونهم بالليل والنهار، بل إنهم يسافرون إليهم، فتجد إنساناً أصيب بسحرٍ مثلاً، يسافر إلى الهند أو بعض البلدان المجاورة؛ ليذهب إلى ساحرٍ كافرٍ لكي يفك له السحر، أو يريد أن يعرف مستقبله المالي، فيذهب إلى عراف أو عرافة، فتقرأ له الكف أو الفنجان أو الوَدَع حتى تطمئنه على مستقبله المالي؛ لأن الثقة بالله قد فُقِدَت؛ ولأن العقيدة قد دُمِّرت في نفوس أولئك الناس.
وذكرنا في الدرس الماضي شيئاً عن مسألة التنجيم والأبراج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (مَن اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
هذه المسألة: مسألة التنجيم التي عرَّفها علماؤنا بأنها: مسألة الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، هي من الأمور الشائعة اليوم.(82/2)
الطرق التي يستخدمها الكهان في الكهانة
ونذكر أيضاً -أيها الإخوة- في هذه الخطبة بعض الطرق الأخرى التي يستخدمها أولئك الكهان، فمن الطرق مثلاً:(82/3)
كتابة الرُّقى والعزائم
الرقى الشركية التي تحوي استغاثة بالجن أو بالموتى، وتحوي كذلك طلاسم من الرسومات المجهولة، أو الأرقام الغريبة، أو الأحرف التي لا تدل على معنى واضح، وقد تكون مكتوبة بلغة أجنبية، لا يستطيع الإنسان أن يقرأها، وقد تكون مكتوبة بلغة عربية واضحة، وأنا أعرض لكم مثالاً من الأمثلة، التي وُجِّهت لعلمائنا الأجلاء، فأجابوا عنها الإجابات الشافية الواضحة: يقول أحدهم متوجهاً ب
السؤال
إن عندنا في بلادنا رُقْيَة منتشرة تسمى: بـ (رُقْيَة العقرب) ونص هذه الرُّقْيَة يقول: باسم الله، يا قراءة الله، بالسبع السماوات، وبالآيات المرسلات، التي تَحْكُم ولا يُحْكَم عليها، يا سليمان الرفاعي، ويا كاظم سُم الأفاعي: نادي الأفاعي باسم الرفاعي، أنثاها وذكراها، طويلها وأبترها، إلى آخر الرُّقْيَة المزعومة.
وقد أجاب علماؤنا عن هذه الأسئلة الموجهة من بعض الحريصين الذين وقع عندهم استغراب لما يقرءون، ولما اطلعوا عليه، فأجابوا بأن مثل هذه الرُّقْيَة رُقْيَة شركية؛ تنافي التوحيد، وتضاد العقيدة، مثل قوله في هذه الرُّقْيَة: بالسبع السماوات؛ يستغيث بالسبع السماوات، والسبع السماوات مخلوقة من مخلوقات الله عز وجل، أو يقول منادياً ذلك الولي بزعمهم: يا سليمان الرفاعي، يا كاظم سم الأفاعي: نادي الأفاعي باسم الرفاعي، والاستغاثة بالأموات لا تجوز مطلقاً.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله) انظر كيف استبدلوا الأدعية الصحيحة التي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأشياء الشركية.
ماذا علَّمنا عليه الصلاة والسلام؟ ألم يقل لنا في أذكار الصباح والمساء أن نقول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)؟! نستغيث بالله عز وجل، نطلب العون باسم الله عز وجل فقط، لا باسم غيره، ولا بأي مخلوقٍ من المخلوقات مهما كان عظيماً، باسم الله -فقط- الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، الذي يقولها في الصباح والمساء لا تصيبه آفة ولا يضره شرٌ بإذن الله عز وجل.
ألم يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)؟! أليس عندنا من الرصيد في القرآن وصحيح السنة ما يغني عن هذه الأشياء المحرمة، بل إن فيه أجراً بالإضافة إلى الحفظ الذي يحفظ الله به قارئ هذه الأشياء وتاليها؟! القارئ والتالي يحفظه الله، ويكسب الأجر أيضاً، أما تلك الأشياء المحرمة فإنها توقع في الشرك، ويَكْسَب بها الإثم، ولا تحميه من شيء، وإن حصل شيءٌ فهو بإذن الله عز وجل، وليس بسبب هذه الشركيات والشعوذات.
ووجه سؤالٌ أيضاً لعلمائنا يقول السائل: هناك فئة من الناس يعالجون بالطب الشعبي على حسب كلامهم، وحينما أتيت أحدَهم قال لي: اكتب اسمك، واسم والدتك، ثم راجعنا غداً، وحينما يراجعهم الشخص يقولون له: أنت مصابٌ بكذا، وعلاجك كذا، فما حكم إتيانهم وسؤالهم؟! فكان الجواب الموفق على هذا السؤال: مَن كان يعمل هذا الأمر في علاجه فهو دليلٌ على أنه يستخدم الجن، ويدَّعي علم المغيبات، فلا يجوز العلاج عنده، كما لا يجوز المجيء إليه، ولا سؤاله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجنس من الناس: (مَن أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ لم تُقْبَل له صلاةٌ أربعين ليلة) رواه مسلم.
وكل من يدعي علم الغيب باستعمال ضرب الحصى، أو الوَدَع، أو التخطيط في الأرض، أو سؤال المريض عن اسمه أو اسم أمه أو اسم أقاربه، فكل ذلك دليل على أنه من العرافين أو الكهان الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤالهم وتصديقهم، وكذلك الذين يكتبون هذه الأحجبة والتمائم والعزائم الشركية لا يجوز إتيانهم، ولا أخذ هذه الأحجبة والتمائم منهم، ولا استعمالها ولا دفع قرشٍ واحدٍ من أجلها.
الآن الناس إذا أصاب أحدهم سحرٌ، أو مرض، أو مكروه، أو شيء غريب، أو امرأة أسقطت، أو مرض ولدها، أو أصابتها عينٌ، أو أصاب إنساناً حسدٌ مثلاً، يفزعون إلى من؟! قال الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] من الذي يجيب المضطر إذا دعاه؟! ومن الذي يكشف السوء؟! إنه الله عز وجل، هو الذي يكشف الضر وينزل رحمته على عباده بعد أن قنطوا، ويئسوا، بدلاً من أن يلتجئ هؤلاء الذين يتسمون بأسماء المسلمين إلى الله عز وجل ليكشف لهم هذا الذي نزل بهم؛ فإنهم يسافرون ويذهبون وينقبون ويسألون، وتجد الواحد يهمس في أذن الآخر: هناك عراف في البلد الفلاني اذهب إليه، في الشارع الفلاني توجد امرأة تفك هذه الأشياء اذهب إليها، سافر إلى بلد كذا وأنا أعطيك عنواناً اذهب إليه، لقد جربتُه فنفع أكثر من مرة، ضحك الشيطان عليهم، استحوذ عليهم الشيطان، فأنساهم ذكر الله، أنساهم مَن الذي يكشف الضر: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:80 - 82].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعوذات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] (ما تعوذ متعوذ بمثلهن) هذه السور التي يجب أن نتعوذ بها، أن نقرأ بها على أنفسنا، أن ننفث في أكفنا بعد أن نجمعها، ونقرأ هذه السور قبل النوم، ونمسح بها أجسادنا.
هذا هو العلاج الشرعي لهذه الأشياء.
الناس اليوم ماذا يفعلون؟! إلى من يلجأون؟! ماذا يقرءون؟! وماذا يستعملون؟! إنها دياجير الشرك والظلمة التي خيمت على عقول وقلوب أولئك النفر الذين جهلوا التوحيد، وما يضاد التوحيد، لا يكفي أن نتعلم التوحيد فقط، لكن يجب أن نتعلم ما يضاد التوحيد؟ ما الذي ينافي التوحيد؟ ما هو الشرك؟ ما هي أنواع الشرك؟ تعلُّم التوحيد -أيها الإخوة- مهم؛ لكن تعلم الشرك أيضاً مهم؛ ولذلك بين لنا القرآن وبينت لنا السنة أنواعاً من الشرك؛ لكي يحذرها الإنسان.
لا يكفي أن تتعلم الخير فقط، بل يجب أن تتعلم ما يحذرك من الشر! ما هي طرق الشر! ما هي أساليب الدجالين والمشعوذين! حتى تحذر منهم.
كذلك انظر إلى تلك الأوراق! ماذا يُكْتَب فيها! لقد فتحنا بعضَها أيها الإخوة، فإذا الرائحة العفنة تنطلق منها، أوراق بالية كُتِبَت بحبرٍ قديم، يعلوها التراب، جلد معفِّن يضعونه على أعناقهم، أوراق يضعونها بين أجسادهم وثيابهم، يزعمون أنها تنفع وتدفع، يعلقون الخيوط والتمائم والأحراز، ثم يقول أحدهم في أحد الرُّقَع التي أعطاها أو العزائم التي أعطاها لبعض الناس كَتَب فيها: يُنْقَش في خاتم من ذهب، ويُبَخَّر بعودٍ وعنبر، ويُلْبَس على طهارة تامة، ويُديم ذكر اسم الله تعالى: عليٌ عظيم، في دبر كل صلاة [1130] مرة لمدة أسبوع، من بعد صلاة الصبح يوم الجمعة، تنتهي يوم الخميس بعد صلاة العشاء.
إلى آخر الدجل والشعوذة.
هات دليلاً على قراءة هذَين الاسمَين [1130] مرة بعد كل صلاة لمدة أسبوع! يعطونها للجهلة على أنها وصفات مثل الوصفات الطبية، لها مقادير معينة، مرات معينة تستخدَم، مدة العلاج كذا وكذا.
حتى متى يظل أغبياؤنا وجُهَّالنا يصدِّقون بمثل هذه الأمور؟! وبعد ذلك يقول ذلك المجرم: يُنْقَش في خاتم من ذهب.
وهل يجوز للرجل أن يلبس خاتماً من ذهب؟!(82/4)
قراءة الكف
من الطرق كذلك المستخدمة عند هؤلاء الدجالين والمشعوذين: قراءة الكف: ويقولون: إن خطوط الكف هذه مرتبطة بالفلك، وأن الأصابع والنتوءات الصغيرة الموجودة على راحة اليد لَها علاقة بالكواكب.
ويقولون: في الكف أربعة خطوط: الخط العمودي الأول: يدل على الحالة الصحية.
والخط الثاني: خط القلب.
والخط الثالث: هكذا.
والخط الرابع: خط القدر.
ثم يأتي هذا العراف أو العرافة تقول: افتح كفك، وتقرأ لك مستقبلك.
وعندهم قواعد قعَّدوها لهذا الفن بزعمهم، فن قراءة الكف، يقولون مثلاً: الدوائر ترمز إلى الفشل.
والنقط نذير مشاكل صغيرة.
ومع مرور السنين تتغير هذه الخطوط والدوائر في الكف، فتتغير الأحداث، ويقولون لك عن الأحداث الجديدة التي ستحدث.
ولذلك ينبغي عليك أن تذهب سنوياً لقراءة الكف على الأقل هذا عندهم في حد زعمهم.
هذا هو الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ فصدقه؛ لم تُقْبَل له صلاة أربعين يوماً).(82/5)
قراءة الفنجان
ولها قواعد عندهم، يقولون مثلاً: البن يكون مطحوناً وناعماً، والقهوة على الطريقة التركية، ويُصَب (التفل) في فنجان، مع كمية قليلة من البن، ويُدار ثلاث مرات باتجاه عقارب الساعة، ويُقْلَب فجأة، ثم تقرأ.
ويقولون أيضاً: فإذا رأيت في الفنجان هذا تمساحاً: فهو يدل على حادث السيارة أو وسيلة نقل.
وإذا رأيت عنكبوتاً: فإنه يدل على مدخولٍ مادي.
وإذا رأيت مظلَّة: فإنها تدل على حب جديد.
وإذا رأيت جبلاً: فإنه يدل على مشروعٍ كبيرٍ جداً.
والكلب: صديق.
والحصان: نصر.
إلى آخر الدجل والشعوذة.
هؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).(82/6)
بقع الحبر
تأخذ هذا الحبر من القلم فتنفضه ثلاث عشر مرة على صفيحة من الورق، ثم يبدأ ذلك الدجال يقرأ لك: عنقود العنب: يدل على دعوة غداءٍ أو عشاء.
والبيضة: ترمز إلى حبٍ خفي.
والبيت: يدل على الأمان.
والطبل: يدل على الأقوال المتناقضة.
وهم طبولٌ جوفاء أقوالهم متناقضة.(82/7)
كرة الكريستال
ثم ظهرت طرقٌ أخرى، مثل: طريقة كرة الكريستال التي تتموج بالألوان:- فيأخذون من هذه الألوان الحوادث التي تقع لك في المستقبل، فيقول: إذا كانت الألوان حارة: فهذا دليلٌ على خطر.
وإذا كانت الألوان مريحة: فهذا دليلٌ على خير.
وإذا تحركت الصور إلى الأعلى: هذا دليل على نجاح المشاريع.
إذا تحركت إلى الأسفل: فإنها تدل على فشل المشاريع.
وإذا رأيت صورة رأس في كرة الكرستال: فهذا يدل على موتٍ سيحدث.
وهكذا.
هؤلاء الذي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فقال لـ معاوية بن الحكم السلمي لما قال له: قلت: (يا رسول الله! إنَّ مِنَّا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم) لا يجوز أن تأتيهم.
رواه الإمام مسلم.(82/8)
رَمْي الوَدَع
هذه الأشياء ليست أشياء بائدة أو منقرضة قد اختفت تماماً، لا، هذه أشياء موجودة الآن في مجتمعنا الذي نعيش فيه، في داخل بيوتنا، وحوارينا، وشوارعنا، ومجتمعاتنا، يوجد أناس يصدقون بهذه الأشياء ويذهبون إليها، وأنتم تسمعون ربما أكثر مما سمعتُ عما يحدث من الأشياء المناقضة لدين الله وللتوحيد وللعقيدة التي تؤدي إلى الوقوع في الشرك والكفر.
يذهب أو تذهب إلى العرافة أو العراف أو الدجال، فتأتي له بكومة من الحصى والوَدَع والمفاتيح والحدائد، فترميها بينك وبينه، ثم تبدأ تقرأ له من واقع الأشياء المرمية على الأرض ما هي الحوادث التي ستستقبله في زمانه القادم، هؤلاء الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصفهم أنهم يكذبون قال: (فيكذبون) كذب.
إذاً أيها الإخوة: هذا الدجل وهذه الشعوذة المنافية للعقل الصحيح، لو كان عقل أولئك صحيحاً لما قبلوه، وانتبه -يا أخي- فقد تجد مثلاً أن أماً من الأمهات، أو أختاً من الأخوات، أو كبيرة في السن، أو رجلاً عجوزاً، وربما شاباً جامعياً مثقفاً يستخدم هذه الأشياء، تأمل فيها لتعرف ما مدى الدجل الموجود، العين تعالج بخرزات، وبعضهم يسخن روث الحمار لكي يعالج به العين، وبعضهم يستعمل في العلاج دم الحائض، ويكتحل به، ويأمره الكاهن والدجال أن يكتحل بدم الحائض المخلوط بالمني.
أيها الإخوة أشياء مقرفة، تتقزز النفس عند سماعها.(82/9)
كتابة الأرقام
وهناك كتب لهذه الأمور، منها: كتاب الرحمة في الطب والحكمة الذي يستحق أن يسمى: اللعنة في الطب والحكمة، كله علاج مرض كذا، علاج مرض كذا، علاج كذا، بهذه الأشياء المقرفة، التي تتقزز منها الأنفس، وتصطك لها الأسماع عند سماعها.(82/10)
كتابة بعض الوصايا المكذوبة
ثم إن الدجل والشعوذة لم ينتهِ عند حدٍ معين، فقد طلع علينا أولئك بأشياء كثيرة، منها: تلك الوصايا المكذوبة التي عمدوا إلى نشرها بين الناس، منها مثلاً: وصية خادم الحرم النبوي الشيخ أحمد -كما يزعمون- هذه الوصية التي فيها أنه: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الأوراق التي وُزِّعت -وقد حذرت منها الجهات الرسمية من نشرها وتداولها، ويجب على كل من رآها أن يمزقها بدلاً من أن ينشرها- يقول: أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وفي بعض الأوراق: أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقةً قبل أن ينام رآه بعينه، رأى جسمه حقيقة، ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يُرى بعد موته حقيقة، وإنما يمكن للمؤمنين أن يروه في المنام بصفاته الموجودة في السنة، وقال له أشياء كثيرة، وهذه الوصية مكذوبة عليه، بل إن بعض أقارب الشيخ أحمد هذا حدثوا بأنه قد مات من حوالي (200) سنة وأنه لم ترد عنه وصية مطلقاً فيما تركه من إرثه، ولكن الدجاجلة يكتبون ويؤلفون، والجهال والمجانين يصدقون وينشرون.
وفيها قضايا من علم الغيب لا يمكن أن يطلع عليها إلا الله عز وجل، أنه مات في يوم كذا في الجمعة الفلانية مائة وستون ألفاً على الكفر، ومَن الذي يعرف أنه مات مائة وستون ألفاً على الشرك أو الكفر إلا الله عز وجل؟! ثم يقول: من كتب هذه الورقة أو وزعها أو نقلها من بلد إلى بلد بنى الله له قصراً في الجنة، ما رأينا في القرآن ولا في السنة أن من كتب القرآن العظيم -كتبه بيده من أوله إلى آخره- يُبنى له قصر في الجنة، فهل كتابة هذه الوصية أغلى عند الله من كتابة القرآن الكريم؟! وكذلك هذه الرؤيا المنسوبة إلى زينب عليها السلام، والتي فيها أنه ينبغي أن توزع ثلاث عشرة مرة، أناس في المكاتب، وفي العمل، وفي المدارس يوزعونها، ويقشعر أحدهم خوفاً وهو يقرؤها أنه إن لم تصور ولم توزع ستنزل بك المصيبة الفلانية.
وهذا نتج من أي شيء يا إخواني؟! ما نتج إلا من الجهل المستقر في أنفس هؤلاء, ما نتج إلا من الشرك الذي قد انطلى عليهم.
والأمور كثيرة، ونسأل الله السلامة.
وصلى الله على نبينا محمد.(82/11)
بعض الأمور الشركية المنتشرة في المجتمع
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، أشهد أنه رب الأولين والآخرين، سبحانه وتعالى، عالم الغيب والشهادة، لا يطلع على غيبه أحداً: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصحنا، وحذرنا، ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، ولا شراً إلا وحذرنا منه.
أيها الإخوة: هذه الأشياء التي نسمعها اليوم كثيرة جداً.
وقد حدثني بعض الإخوة عن أمورٍ منتشرة في المجتمع، قد لا يعرفها كثيرٌ من الناس، وقد لا يعرف كثيرٌ من الناس أنها أمور من الشرك، وأنها محرمة.(82/12)
حرق البخور لطرد الجن
بعضهم يُحْرِق البخور أو الشَّبَّة لطرد الجن من الغرفة، أو يُحْرِق الحبة السوداء! وكذلك يذهب أحدهم بامرأته إلى بعض الدجالين والمشعوذين ليعالجها، ويطلب هذا المشعوذ من الزوج أن يبقى في الخارج، ثم هو بعد ذلك يمارس الفاحشة مع امرأته! أي دينٍ هذا؟! وأي عقيدة فاسدة هذه؟! وأي فقدانٍ للغيرة قد انطوت عليها أنفس هؤلاء؟!(82/13)
الخرزات الزرقاء
الأطفال عندما يولَدون من ضمن الهدايا التي تأتي إليهم من الأقارب: الخَرَزات الزرقاء: مصحف ذهب مكتوب فيه (آية الكرسي)، وكلمة (الله)، ومعها أيضاً خَرَزات زرقاء، هذا ما يُهدى اليوم عند ولادة الأطفال، يزعمون أن هذه الخَرَزات الزرقاء تقي هذا الولد العين.(82/14)
الطبوب
كذلك أيها الإخوة ما يسميه البعض بـ (الطبوب): وهو لا شك أنه من السحر، يذهبون إلى بعض السحرة ليفك السحر الذي حدث له، ففرق بينه وبين زوجته، ويقول له المشعوذ: افعل كذا، اقرأ سورة يس مائة مرة، صلِّ ثمانين ركعة، وبعد ذلك لا يحدث شيء.
يصبُّ الماء على المسافر، ويوضع القرآن فيمر تحته بزعمهم حتى يسلَم في سفره:- ويكتبون في جدران البيوت: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] يزعمون أن هذه الآية ترد المسافر إلى بيته سليماً! حوادث فظيعة نسمعها بسبب التصديق بهؤلاء المشعوذين! امرأة تسقط أولاداً، كلما جاء جنين أسقطته، فتذهب إلى مشعوذ من المشعوذين فيقول لها: عندك بنتٌ في البيت، بنتك هذه نذيرة شؤم ونحس على البيت!! ما هو الحل يا أيها الكاهن والعراف؟! الحل أن تكويها بمسمارٍ مسخنٍ من الحديد ثلاث مراتٍ في ظهرها، وتذهب هذه الأم الجاهلة فتكوي تلك النبت الصغيرة وهي تئن وتصرخ من الألم، وتلك الأم الجاهلة تحرق ابنتها بذلك المسمار المحمَّى بالنار.
وما هي قيمة الوصفة؟ خمسمائة ريال! تحرق البنت ثلاث مرات بمسمار من نار، وقيمة الوصفة: خمسمائة ريال.
سلسلة توضع على البطن مقفولة بقفل: يزعمون أن وضع السلسلة عليها القفل ينفع المرأة إذا أسقطت عدة مرات، يعني: قفلنا فلن يسقط الجنين مرة أخرى!(82/15)
تعليق الملح
ويعلقون الملح في السيارات! ويزعمون بأن السباحة في الماء المالح أو السفر في البحر يدفع العين ويزيل الحسد والشر!(82/16)
الذبح لغير الله
يذبحون الخروف على باب البيت، ويلطخون عتبة البيت وباب البيت بدم الذبيحة! وبعضهم يخوضون في الدم بأقدامهم! أو يذبح دجاجة على السيارة لكي لا يصيب السيارة مكروه! وهكذا.
يا أخي لو كان في ثوبك بقعٌ من الزيت هل تغسله بالقطران؟! ذلك ما يفعله الذين يذهبون إلى المشعوذين.
كذلك يذهب إلى الكاهن فيقول له الكاهن: لكي تشفى يجب عليك أن تذبح ذبيحة للجني الفلاني باسم الجني الفلاني! فيذهب صاحبنا يفعل هذا، ويقع في عين الشرك، يقول الله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] انحر لله عز وجل، وهذا ينحر باسم الجني الذي أعطاه إياه الكاهن، فيقع في الشرك الأكبر وهو الذبح لغير الله.
أجزاء من حيوان توضع في علبة تعلق في الصدر! حذوة حصان تعلق على الباب! تحضير الأرواح! وغير ذلك كثيرٌ، كثير جداً من الشعوذات، ويضحكون بها على أولئك المغفلين.
جاء أحد الناس وعليه ديونٌ كثيرة، قالوا له: اذهب إلى ذلك العراف لعله يساعدك في قضاء الديون! فقال له العراف: هات مائة وستين ألف ريال، وأنا أجعلها لك مليون وستمائة ألف ريال، يزيدون أصفاراً! فذهب بها إليه، فعملوا له بخوراً، وشعوذات كثيرة، ثم سلبوا منه المال وهربوا، وبقي هو وقد ازداد الدين الذي عليه! وهكذا يفعل هؤلاء المحتالون.(82/17)
التشاؤم
وكذلك أيها الإخوة من القضايا المنتشرة: مسألة التشاؤم:- التشاؤم بصوت البوم أو الغراب مثلاً، أو أنهم يجعلون للأيام مهمات معينة فيقولون: - يوم السبت: يوم مكيدة أو صيد.
- ويوم الأحد: يوم بناءٍ وغرس.
- ويوم الإثنين: يوم سفرٍ وتجارة.
- ويوم الثلاثاء: يوم دم.
- ويوم الأربعاء: يوم نحس.
- ويوم الخميس: لقضاء الحوائج.
- والجمعة للنكاح والأعراس.
وهكذا.
يعتقدون عقائد في هذه الأيام.
ويتشاءمون بالأرقام -كما ذكرنا لكم سابقاً- يوم السعد كذا، ويوم النحس كذا.
ويتشاءمون بالأرقام، فيقولون: رقم (13) هو الرقم المشئوم.
وقد فعلت بعض شركات الطيران العالمية مصدِّقة بهذا، فلا يوجد في مقاعد الطائرة مقعد رقم (13)! إلى هذه الدرجة أولئك المساكين! ونحن الذين شرفنا الله بهذا الدين الذي ينافي الخرافة والدجل نصدِّق أولئك الكفرة! في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مِنَّا أناسٌ يتطيرون قال: (ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدكم) لو أنك تشاءمت بأي صوت، أو منظر، فردَّك عن سفرك فقد وقعت في الشرك، فإذا تشاءمت وشعرت بحرج، فعليك أن تمضي ولا تعتمد على ما جال في نفسك، ولا ما حاك فيها.
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ليس منا من تَطَيَّر أو تُطِيِّر له، ومن تكَهَّن أو تُكُهِّن له) رواه البزار بإسناد جيد.
وعن ابن مسعود مرفوعاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الطِّيَرة شرك، وما منا إلا؛ ولكن الله يذهبه بالتوكل) يعني: ما من أحد إلا وقد يقع في نفسه شيء من التشاؤم والتَّطَيُّر؛ ولكن كيف يذهب؟ بالتوكل على الله.
وعن ابن عمر مرفوعاً: (مَن ردَّته الطِّيَرَة عن حاجته فقد أشرك.
قالوا: فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طَيْر إلا طَيْرك، ولا إله غيرك) هذه هي كفارة التشاؤم أو التَّطَيُّر إذا وقعت فيه، أن تقول: (اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طَيْر إلا طَيْرك، ولا إله غيرك) حديث صحيح.
يجب أن تعلم يا أخي أن الله يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.
اللهم واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم باعد بيننا وبين أهل الشعوذة والدجل والسحر، واجعلنا من أهل التوحيد، وصحح عقائدنا، وتوفنا على الملة المحمدية، واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
اللهم وفقنا لما يرضيك، وباعد بيننا وبين ما لا يرضيك، واكشف لنا سبل المجرمين.
اللهم واجعلنا هداة مهتدين، دعاة إلى سبيلك، نحذِّر الناس من الشر ومن الوقوع فيه.
اللهم وفق أبناءنا في امتحاناتهم.
اللهم واجعل عملهم في رضاك.
اللهم وباعد بينهم وبين الغش والخديعة، وأكل مال الحرام بالشهادات المزورة.
اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك.
وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ صلاة كاملة تامة كما تحب وترضى.
وصلى الله على نبينا محمد.(82/18)
أبراج الحظ تدمر أسوار الإسلام [3]
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بشتى الطرق والوسائل للقضاء على الأمراض والأوبئة التي تفشت بين أبناء المجتمع المسلم؛ كالشعوذة والسحر والكهانة ونحوها من الأمراض التي تفتك بعقيدة العبد، ومن تلك الوسائل التي جاءت بها الشريعة: إشاعة التوحيد وتدريسه بين أبناء المجتمع وتحذيرهم من جميع أنواع البدع والشرك والخرافات، وأيضاً تنبيه من أصيب بمثل هذه الأمراض لاستخدام العلاج النافع لهم، وكذا التشهير بالمشعوذين بين الناس ومناقشتهم ومناظرتهم وتبيين زيفهم وخداعهم للناس.(83/1)
طريقة الشريعة الإسلامية في محاربة الأمراض والأوبئة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني: تكلمنا في الخطبتين الماضيتين عن أمورٍ تتعلق بالتنجيم مثل أبراج الحظ المنتشرة في المجلات والجرائد.
وتكلمنا عن بعض الأمور المتعلقة بالكهانة والسحر والدجل الذي يفعله كثيرٌ من الجهلة وأعوان الشياطين، وحكم الذين يذهبون إليهم من المسلمين، وبينا صوراً كثيرة للبدع المنتشرة في هذا المجال.
ونريد أن نختم الكلام عن هذا الموضوع في هذه الخطبة بتبيان الواجبات على المسلم: - ما هو دوره في إنكار هذا المنكر الذي قد استشرى وانتشر كالهشيم في مجتمعات المسلمين؟! - ما هي الوسائل التي يجب اتخاذها؛ لكي نحارب هذه الأمور المنافية للعقيدة والمخالفة لها من جميع الوجوه؟! ونحن نجمل بعض النقاط التي تتعلق بهذا الواجب حتى تتكون لدى المسلم فكرة واضحة عن الأمور التي تساعده في محاربة هذه الأشياء.
واعلموا -بادئ ذي بدء يا إخواني- أن طريقة الشريعة في محاربة الأوبئة والأمراض تتلخص في قضيتين أساسيتين: الأولى: تحقيق الشروط.
والثانية: انتفاء الموانع.
أما الأول: طريقة الشريعة في محاربة إتيان الكهان، أو البدع المتعلقة بالسحر والدجل والشعوذة، إذا تأملت فيها فإنك تجد الإسلام قد جاء بنصوص فيها تحقيق شروط التوحيد، التي تؤدي إلى هدم قواعد السحر والكفر والكهانة والتنجيم وغيرها.
هذا من باب تحقيق الشروط.
وأما الثاني: فإنك تجد الشريعة قد جاءت بنصوصٍ تحرم إتيان الكهان والسحرة، بل إن فيها ألفاظاً شديدة من جهة الخروج عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم والكفر بما أنزل عليه، وهذا من باب تحقيق انتفاء الموانع.
ولذلك كان لا بد للمسلم عندما يحاول أن يحارب هذه الأشياء أن يبحث عن سبب المشكلة أولاً، فقد تجد أن السبب عند من يأتي المنجمين، أو قراء الكف أو من يفتحوا أبراج الحظ في الجرائد والمجلات قد تجد السبب في هذا أنه لا يؤمن بقول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، ولم يستقر في قلبه وعقله مطلقاً أن الله عز وجل هو المتفرد بعلم الغيب، وأنه لا يمكن لأي أحدٍ آخر أن يعلم الغيب إلا الله عز وجل.
عدم الإيمان بتفرُّدُ اللهِ بعلم الغيب، هذه المسألة هي سبب البلاء والمشكلة، ولُب الموضوع، فإذا أردت أن تواجه هؤلاء الناس فإن عليك أن تقر في أذهانهم هذه المسألة، وتأتي بالنصوص من القرآن، والسنة، وأقوال علماء السلف، أن الله هو وحده الذي يعلم الغيب، وأن من ذهب إلى أناسٍ يعتقد أنهم يعلمون ما يحدث في المستقبل فإنه قد نازع الله تعالى في حقٍ عظيمٍ من حقوق الربوبية، وهو: علم الغيب، وهذا كفرٌ شنيع، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا تأملت -مثلاً- وأردت أن تعالج أحوال الناس الذين يُعلقون التمائم الشركية، والأحجبة التي يسمونها بـ (العزائم)، فإنك ستجد أن هؤلاء الناس يعانون من نقصٍ خطير في فهم قول الله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] والإيمان بهذا النص وما شابهه.
فإذاً: لو كانوا يؤمنون بأنه إذا مَس الإنسانَ ضرٌ فإنه لا يكشفه إلا الله عز وجل، فلماذا يذهبون إلى أولئك الكهان والعرافين، يطلبون منهم أن يكشفوا هذا الضر الذي نزل بهم؟! وبالجملة؛ فإن تعليم الناس أسماء الله وصفاته من الأمور التي تحارب الشرك والدجل من أساسهما.
وإذا انتقلت معي إلى الشطر الآخر، وهو انتفاء الموانع، فإننا يجب أن نُعلِّم الناس ما هو حكم إتيان الكهان؟ وماذا يكون حكم من صدقهم؟ ونأتي لهم بالآيات والنصوص الدالة على ذلك.(83/2)
إقامة الحلقات العلمية لتدريس التوحيد والتحذير من الشرك
من الوسائل التي تخدم الغرضين السابقين: إقامة الحلقات العلمية في المساجد والبيوت وغيرها من مجالس الناس، وأماكن اجتماعهم، التي تُنْتَقَى فيها المراجع الجيدة من كتب التوحيد التي ألَّفها علماؤنا الأجلاء.
ويُدَرَّس دروسٌ خاصة في هذا الجانب يُجمع لها الناس، وخصوصاً النساء في البيوت اللواتي طالما صدَّقن بهذه الدجل والشعوذة، نتيجة قلة العقل والدين الذي طُبعت عليه المرأة.
فلو وجدنا -مثلاً- أن في مجتمعنا مسألة تعليق التمائم والعزائم منتشرة، وتعليق الأوتار والخيوط، فنأخذ مثلاً: كتاب التوحيد لمجدد الدعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وشرحه فتح المجيد، فنستخرج لهم من هذا الكتاب الأبواب المناسبة لمحاربة هذه الأدواء التي انتشرت فيما بينهم، ونقرأ عليهم: (باب: مِن الشرك لُبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه) والأبواب التي تتكلم عن العزائم والتمائم وحكم تعليقها، والتصديق بما فيها.
وإذا رأينا أن السحر هو المنتشر فننتقي لهم -كذلك- الأبواب التي تتكلم عن السحر والنشرة: وهي إزالة السحر وحله عن المسحور، وما حكم إتيان الكهان لرفع السحر أو إزالته؟ وهكذا تعليم الناس وتوعيتهم بهذه الأمور، وتوزيع الكتيبات والأشرطة المتضمنة للشروح الجيدة لأبواب التوحيد، وكذلك الأبواب التي تبين أنواع الشرك حتى يحذرها الناس.(83/3)
الشريط الإسلامي وأهميته للمريض وغيره
أيضاً إعطاء البديل الإسلامي المشروع في علاج كثيرٍ من الأمراض والنوازل والأدواء، التي بسببها يقع الناس في الشرك، ويحاولون حلها وإزالتها بالذهاب إلى الكهان والسحرة؛ فيقعون في الكفر والعياذ بالله.
فنقول لهم مثلاً: إن في القرآن الكريم آية يقول الله فيها: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].
إذاً: في القرآن شفاءٌ من الأمراض البدنية والقلبية، وهذا السحر أو العين مرضٌ من الأمراض التي تصيب البدن بأشياء خفية، علاجها في القرآن الكريم.
ومن أمثلة ذلك: - المعوذات القواقل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
- وسورة الفاتحة.
- وآية الكرسي.
- وتُقرأ الآيات التي فيها مثل قول الله عز وجل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، على مَن أصيب بالسحر، فتنفعه بإذن الله.
وتُقرأ الآيات التي فيها الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد.
- {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]، فتنفع من أصيب بالعين بإذن الله.(83/4)
طرق علاج المرضى والمصابين بأمراض السحر والشعوذة ونحوها
ويعلمهم كذلك: أن لكلٍّ من هذه الأمراض طرقٌ للعلاج بيَّنها العلماء، فمن علاج السحر -مثلاً- استخراج السحر والبحث عنه، وإتلافه بالحرق ونحوه؛ حتى يزول أثره عن المسحور، وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سحره اليهودي الساحر لبيد؛ فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد طلب السحر الذي سُحِر به، حتى استخرجه علي رضي الله عنه، فأتلفه، فزال أثر السحر عنه عليه الصلاة والسلام.
وهذا يقع كثيراً في بيت الإنسان المسحور أو متاعه الشخصي، فينقِّب عنه، فإذا وجده أتلفه، فيكون هذا من أسباب زوال هذا السحر والضرر عن المسحور.
وقد تنفع الحجامة كما بيَّن ذلك ابن القيم رحمه الله في الزاد.
ونبين للناس -أيضاً- أن هناك آياتٍ وأذكاراً ودعواتٍ جاء بها الإسلام؛ كنحو ما قدمنا قبل قليل من الآيات، ونحو قول رسول الله عليه الصلاة والسلام -فيما علمنا- الاستعاذات: - (أعوذ بكلمات الله التآمات من شر ما خلق).
- (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة).
- (أعوذ بكلمات الله التآمات التي لا يجاوزهن برٌ ولا فاجرٌ، مِن شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل؛ إلا طارقاً يطرق بخيرٍ يا رحمان).
- وغيرها كثير من الأذكار الواردة في علاج هذه الأمور.
وكذلك علاج العين في صب غُسالة العائن على المعين، بأن يؤمر فيتوضأ ويَغسل داخل إزاره وأطرافه، ثم يُؤتي بهذه الغسالة فتصب على المعين من خلفه، فيزول أثر العين بإذن الله، كذا روى أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صح في ذلك.
ويُقرأ على الذي أصابته العين: (باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، ومن شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ، الله يشفيك، باسم الله أرقيك) رواه مسلم.
فإذاً: أيها الإخوة! نربط هؤلاء الذين قد وقع فيهم هذا المصاب بالله عز وجل: - قرآن؛ كلام الله.
- أذكار؛ يُذكر الله فقط.
- تعاويذ؛ عَلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نتعوذ؟ وبِمَ نتعوذ؟ ومن أي شيءٍ نتعوذ؟ فالقضية هي ربط هذا المريض بالله فقط.
وهكذا ينفع العلاج إذا تم التوكل على الله.
ويأتي بعض الناس يقولون: قرأنا فلم ننتفع، وجرَّبنا فلم نبرأ؟! فنقول: إن البلاء في نفوسكم أنتم، ليس في الآيات، والأذكار، والتعويذات النبوية، فلو صح التوكل في قلوبكم على الله لَبَرِئتم؛ ولكن لما أقبلتم على هذه الأشياء بنفس المجرب الذي يشك؛ هل تنفع أو لا تنفع؟! هل تؤثر هذه الآيات أو لا تؤثر؟! وتأخذونها مأخذ المجرب الذي يشك في الأمور؛ فلذلك لم تنفع، فالبلاء في نفوسكم أنتم لا في هذه الآيات والأحاديث صححوا التوكل والإيمان في قلوبكم، فإنكم سوف تبرءون باستخدامها بإذن الله.
إذا استطاع الإنسان أن يصل إلى أحدٍ من الدجالين أو المشعوذين أو قابَلَه، أو مر على مجلسٍ من مجالسه فعليه أن يبين لهذا الكاهن أو الساحر أو الدجال أن فعله هذا شرك، ويقيم عليه الحجة.(83/5)
مناقشة الرسول عليه الصلاة والسلام لابن صياد
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه تقصَّد أن يذهب إلى ابن صياد الدجال، واختبأ له لكي يصل إليه، فلم يشعر به ابن صياد، حتى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره من الخلف، ثم قال له عليه الصلاة والسلام -وأصل القصة في الصحيحين، وهذه الرواية في صحيح مسلم - قال: (أتشهد أني رسول الله؟ قال ابن صياد: أشهد أنك رسول الأميين، ثم قال ابن صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟! فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: آمنت بالله ورسله، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: ما يأتيك؟ فقال: يأتيني صادقٌ وكاذب، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال عليه الصلاة والسلام: فإني قد خَبَّأت لك خَبِيْئاً! قال ابن صياد: الدُّخُّ الدُّخُّ! قال عليه الصلاة والسلام: اخسأ! فلن تعدوَ قدرك؛ فإنما أنت من إخوان الكهان).
فناقشه عليه الصلاة والسلام، وأفحمه، وأخبره أنه قد خبأ له آية من الآيات، وهي شرطٌ من أشراط الساعة، وهي: الدُّخَان الذي يخرج، ولم يخبره عليه الصلاة والسلام ما هو الشيء الذي خبأه له؛ ولكن - ابن صياد - كانت الشياطين تنزل عليه، فتخبره بالخبر النازل من السماء استرقوا السمع، لكنهم لم يسترقوا منه إلا نصف الكلمة، لم تسمع الشياطين إلا (الدُّخُّ الدُّخُّ)، لم تسمع الكلمة كاملة؛ (الدُّخَان الدُّخَان)، فنزلوا على ابن صياد، فأخبروه، فقال: الدُّخُّ الدُّخُّ! فقال عليه الصلاة والسلام: (اخسأ! فلن تعدوَ قدرك؛ فإنما أنت من إخوان الكهان) فأقام عليه الحجة، وألزمه بالحق، وكشف باطله، وبيَّن أنه من إخوان الكهان.(83/6)
مناقشة ابن تيمية للبطائحية والرفاعية
وكذلك كان يفعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مناقشته ومناظرته للبطائحية، والرفاعية وغيرهم، وقال لهم لما دخلوا في النار وزعموا أن أجسادهم لا تحترق: اغسلوها حتى يزول هذا الدهن والنارَنْج وغيره من الأشياء التي طلَوا بها أجسادهم، فلا تؤثر فيها النار، قال: اغسلوها ثم ادخلوا النار لو كنتم صادقين، فبيَّن عُوارَهم، وكشف دجلهم وباطلهم أمام الناس أجمعين.
وسبق أن ذكرنا في مرة ماضية مناقشته رحمه الله تعالى لبعض المنجمين.(83/7)
إتلاف الأشياء التي فيها سحر وتمزيقها
ومن الوسائل: إتلاف وتمزيق هذه الأشياء التي فيها السحر، وكذا التمائم المربوطة التي تعلق، وهذه الوصايا المكذوبة التي سبق أن بيناها؛ كوصية خادم الحرم الشيخ أحمد فيما كُذب ونُسب إليه، كما بين ذلك أقرباؤه وغيرها من الوصايا التي تنتشر بين الناس؛ مَن لم يكتبها يحصل فيه من المصائب كذا وكذا، ولا تزال -أيها الإخوة- حتى هذه الساعة توزع في بعض المساجد هنا، حيث يقوم بعض الجهلة بتوزيعها، والجهلة الآخرون بأخذها وتصويرها ونشرها.
هذه التمائم والعزائم والأوراق المنتشرة يجب أن نمزقها ونحرقها أمام الناس؛ لنبين لهم أنه ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في السماء إلا بإذن الله، وأن من يمزق هذه ويحرقها لا يصيبه شيءٌ إلا بإذن الله، وأنني قد مزقت هذه الورقة أمامكم -أيها الناس مثلاً- فما أصابني شيء وهذا كذب، وحتى لو أصابني فإني أعتقد بأن ما أصابني ليس بسبب تمزيق هذه الأوراق، وإنما لأن الله قدَّر عليَّ هذا {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50] فالقضاء والقدر من الله تعالى، فنمزق ونحرق هذه الأشياء ونقول للناس: انظروا! ماذا تغني عنكم؟! وماذا حصل لنا لما أحرقناها ومزقناها؟! فنبين للناس عملياً دجل وكذب ما هو مكتوب فيها.(83/8)
كشف حقيقة المشعوذين أمام الناس
أيضاً كشف حقيقة الكهان والمشعوذين والعرافين والسحرة للناس، وأنهم يتعاملون مع شياطين الجن، وأنهم يقعون في الكفر، ونقول للناس: إن الذين يأتون هؤلاء الكهان الذين يتصلون بشياطين الجن لا يرضَون منهم إلا أن يقعوا في الشرك، حتى يقع هذا المريض المسكين الجاهل في الشرك، فيقول الكاهن للمريض: إن الجني الفلاني يطلب منك لكي يعالجك أن تذبح له ذبيحة، فيذبح هذا المسكين للشيطان، فيكون قد وقع في الشرك وهو الذبح لغير الله.
أو يقول: أريد مالاً، أو أريد شيئاً أو غيرها من الأشياء.
أو يقول: إن الجني يطلب منك أن تدعوه، وتقول: يا فلان! اشفني أو عافني أو أزل كربتي، فيقع في الشرك، وهو دعاء غير الله.
فنكشف للناس فنقول: انظروا ماذا يطلبون لكي يزيلوا الضر -بزعمهم- الذي نزل بكم، يطلبون منكم أن تقعوا في عين الشرك.
ولذلك إذا وجدت -يا أخي- بعض الآيات في الأحجبة التي يكتبها هؤلاء المشعوذون فلا تظن بذلك خيراً، ومثل هذا لا يُفْرَح به أبداً، فإنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، فإنهم يكتبون كلام الله بالنجاسة، بأن يأخذ من النجاسة شيئاً ويقطُر قلمُه بها، فيكتب بها الآيات بعدما يلوثها بحبرٍ ونحوه، أو يكتب كلام الله بالدم النجس وغيره، وقد يقلبون الحروف، ويكتبون الآيات بالمعكوس لكي يضلوا الناس، ويهينوا كلام الله عز وجل.(83/9)
رواية قصص كذب الدجالين والمشعوذين بين الناس للتحذير منهم
أيضاً نشر قصص الدجالين والمشعوذين ومن انخدع بهم بين الناس في المجالس حتى يحذروا منهم، فيقال للناس مثلاً: هذا المسكين الذي كان عنده دين قال له بعض المشعوذين: هات مائة وستين ألفاً، ونحن نجعلها لك مليوناً وستمائة ألفاً، ثم خدعوه، وأخذوا المال، وهربوا.
وتلك المرأة التي سمعت كلام الكاهن المشعوذ، فكَوَت ابنتها بثلاث كوياتٍ بمسمارٍ محمى، فصارت تلك العلامات في ظهر البنت حتى الآن، هذه البنت التي تشكو إلى الله صنيع أمها الجاهلة، وتقف تلك الكويات والتشويهات التي في ظهرها عقبة أمام كل خاطبٍ ومريدٍ للزواج.
فإذاً: تبيين هذه الأشياء وعرضها للناس يزيل الغشاوة عن أعينهم.(83/10)
تحذير الناس من الوسائل التي يستخدمها الدجالون
بعض الناس يأتي ويقول: يا أخي! إن الكاهن أو الرجل الفلاني لَمَّا ذهبتُ إليه قال: سيحدث لك غداً كذا، أو بعد أسبوع كذا، أو بعد شهرٍ كذا، وقد حدث لي فعلاً بالتفاصيل التي ذكرها! فكيف تقول: إنه دجال ومشعوذ؟! لقد رأيتُ بعينِي ما أخبرني به! فماذا نقول للناس عند ذلك، وهذه الحكاية منتشرة بين الناس:- نقول: إن الكلام الذي أخبروا به إما أن يكون خبراً عاماً من الممكن أن يحصل جداً لأي إنسان، كما سبق أن بينا ذلك في موضوع التنجيم وأبراج الحظ، فتراهم يكتبون: - مكافأة مالية ستصلك، وكل الناس ممكن أن تصله مكافئات مالية، فإذا حدثت قال: صدق الكاهن، وأي صدقٍ في ذلك؟! - ترى غائباً قادماً من سفرٍ بعيد -من الممكن جداً أن ترى غائباً قادماً من سفرٍ بعيد- فنبين لهم هذه الخديعة، وإن كانوا قد أَخبروا بأشياء لا تحدث في العادة، فقال لك مثلاً: إنك ستذهب إلى الصين، وتقابل كذا وكذا، وحدث لك أن ذهبت فعلاً، فنقول للناس عند ذلك: الأحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشياطين يركب بعضهم فوق بعض إلى السماء، فيسمع الخبر الذي تتناقله الملائكة -يوحي الله عز وجل للملائكة افعلوا كذا، ولفلان كذا وأنزلوا كذا- فيسمع بعض الشياطين الخبر فينقلونه إلى شياطين الإنس، فيكذبون معه تسعة وتسعين كذبة، ثم يخبرون الناس) والمشكلة عند الناس أنهم لا يتذكرون من كلام الكاهن إلا التي صدق فيها، يكون الكاهن قد أخبر مائة خبر، صدق مرة وكذب تسعاً وتسعين كذبة فالناس لا يتذكرون ولا يعْلَق في أذهانهم إلا الخبر الصادق، فيقولون: فلان صدق! عجباً! لقد أخبر بما تحقق فعلاً! إذاً: هو يعلم ما في الغيب، وينسون تلك الكذبات.
فنقول لهم: هذا بسبب استراق السمع من الشياطين الذين يخبرون أولياءهم من شياطين الإنس، فيخبرونكم أنتم به فتضلون.
كذلك أيها الإخوة: يأتي بعضهم فيقول: لقد ذهبنا إلى الكاهن أو العراف الفلاني، وقبل أن نسأله عن أي شيء إذا به بمجرد ما أخبرناه عن اسم الآتي إذا به يخبرنا عن اسم أبي وأمي، وأسماء أخوالي وأعمامي، وأين كانوا يعملون، وكيف انتقل أحدهم من بلدٍ إلى آخر؟ وماذا جاء لفلان من الأولاد؟ فكيف عرف الكاهن هذا؟! وهذا الكاهن من بلد بعيد ذهبت إليه؟! فنقول له: يا أخي! اعلم أن الجن قال الله عنهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] هم يروننا من حيث لا نراهم، ويرون أحوالنا، ويسمعوا كلامنا، فينقله هذا الشيطان إلى ذلك الكاهن الذي تأتيه، يقول له: إن فلاناً له من الأخوال والأعمام كذا، وأبوه كان لونه كذا، وعمله كذا، وتوفي في اليوم الفلاني بالمرض الفلاني يخبرك الكاهن فتصدقه.
ولو أنك علمت أن الله يقول: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] وعلمت بأن مع كل إنسانٍ شيطان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن مسعود: (ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) فكل واحد منا -الآن- معه قرينٌ من الجن وقرينٌ من الملائكة، فهذا الملك يحثه على عمل الخير، وذاك الشيطان يحثه على عمل الشر فهذا الشيطان الملازم للإنسان يعرف أحوال الإنسان ويراها، ولذلك شرعت لنا التسمية وقراءة المعوذات لنستعيذ من شره.
فهذا القرين الملازم لك يعرف أحوالك، فيخبر الكاهن الذي ذهبت إليه بأحوالك الشخصية حتى لو أغلقت الغرفة على نفسك وفعلت أشياء، فيقول لك الكاهن: لقد أغلقت عليك الغرفة في اليوم الفلاني، وفعلت كذا.
من الذي أخبر الكاهن؟! إنه الشيطان الملازم لك، فقد وصل الخبر إلى الكاهن عن طريقه.
ونحن لو عرفنا هذه الأحاديث لم نستغرب مطلقاً من تلك الأخبار والتفصيلات الدقيقة التي يخبر بها بعض المشعوذين.
وكذلك تلك القصة التي حدثت مع بعض الصالحين، لما دخل على بعض الأمراء وعنده عراف يقول للناس: خذوا ما شئتم من الحصى في أيديكم فإني أعرف كم عددها! فيأخذ الناس الحصى ويخبئونها عن ذلك الرجل فيعُدُّونها، ثم يقول ذلك العراف: في يدك كذا من الحصى ويكون كلامه صحيحاً، فلما جاء ذلك الرجل الصالح قال: أتحداه أن يعرف ما في يدي، فأخذ قبضة من الحصى، فلم يعدها وقال: للعراف: كم في يدي من الحصى؟ قال: كذا، فعَدَّها، فاذا هي بخلاف ما قال العراف، فقالوا له: كيف فعلت؟! قال: أنتم عددتم الحصى لَمَّا قبضتموها، فعدَّ معكم القرين، فأخبر العراف، وأنا لم أعدها، فلم يعد معي القرين، فلم يستطع أن يعرف.
إذاً: أيها الإخوة! لا ننخدع بهذه الألاعيب والأشياء التي نسمعها.
وفقنا الله وإياكم لأن نعيش ونحيا على التوحيد، وأن نموت على التوحيد، وأن يكون آخر كلامنا من الدنيا شهادة التوحيد، وصلى الله على نبينا محمد، وأستغفر الله لي ولكم.(83/11)
الرد على شبهة أن الكاهن قد يصدق أحياناً
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد ولد آدم.
ومما ينبغي عمله -يا إخواني- كذلك مع هؤلاء الناس الذين يصدقون بهذه الترهات: أن نزيل استغراباتهم من بعض الحوادث الحقيقية التي تقع، ونبين لهم ما هو سبب وقوعها؛ حتى نسد عليهم الطريق أمام الذهاب إلى العرافين والكهان.
فبعض الناس سمعتهم يشكون ويقولون: تختفي علينا الأموال من بيوتنا بطريقة عجيبة! نغلِق عليها، ونضعها في أماكن لا يعرفها أحد، ولا يدخل الغرفة أحد لا خادم ولا خادمة ولا إنسان، ولا يمكن أن يصل إلى ذلك المكان أحد، أو جميع مَن في البيت موثوقٌ فيهم، ومع ذلك اختفت الأموال، فقد يأتي هؤلاء الشيطانُ فيقول لهم: اذهبوا إلى الساحر أو الكاهن الفلاني حتى يعلمكم من الذي أخذها؟ وأين توجد؟ فيقعون في شيءٍ من الشرك.
ولكن إذا راجعنا نصوص أئمة الإسلام لوجدنا الجواب واضحاً: قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى عن بعض الأشياء التي يقوم بها بعض شياطين الجن، يقول: "وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه، وتأتي به".
فإذاً: هؤلاء الشياطين الذين ينفذون من الجدران، ويدخلون البيوت التي لم يقل صاحبُها عندما أقفل بابها: باسم الله، ولم يقل صاحب المال لما أودعه في مكانه: باسم الله، يستطيعون أن يذهبوا إلى المال فيخرجوه ويسرقوه من جوف البيت، ولم يرهم أحد، فيمكن أن يفعلوا هذا، ويأتون به إلى الكاهن، ويُنصح أولئك المساكين أن يأتوا الكاهن، فيذهبون للكاهن، فيقولون: لقد سُرِقْنا، أين المال؟ ابحث لنا عنه؟ فيقول: أنا آتيكم به، ثم يغيب ويخرج المال، وهو عين المال والمجوهرات والمصوغات التي سرقت، فيتعلق الناس بهذا الكاهن.
ومن الذي جلبها إليه؟! إنه الشيطان الذي سرقها من داخل البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله.
ويقول شيخ الإسلام: "وأعرف في كل نوعٍ من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومَن وقعت له مما أعرفه ما يطول حكايته، فإنه كثيرٌ جداً".
كان شيخ الإسلام رحمه الله مركز معلومات، يأتيه الناس القاصي منهم والداني يشكون إليه، وهو يعلمهم التوحيد، ويكشف لهم الخداع والألاعيب.
هكذا يجب أن يكون موقفنا مع الناس.
فنقول له: قبل أن تضع نقودك سَمِّ الله، واحرص على أن تكون أموالك حلالاً، فلا تصل إليها الشياطين بإذن الله، هذا بعد أن يكون قد تأكد أنه لا أحد من أهل البيت قد سرقها؛ لأنها قد تكون حادثة سرقة عادية جداً.
كذلك من كشف ألاعيب هؤلاء وحِيَلهم: أن الشياطين تستطيع أن تتشكل، وتقلِّد أصوات بني آدم بدقة، فيقوم بعض جهلة العُبَّاد ينادون أولياء الله الميتين أو الأحياء يقول: يا سيدي فلان! اشفِ مريضي، فيقلد الشيطان صوت ذلك الميت؛ لأنه كان قد ضبطه، أو الحي البعيد، فيقول: نعم، قد أجبتك، فيظن هذا المسكين أنه قد دعا ذلك السيد أو الولي فأجابه، وهذا أيضاً من الأشياء التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله.
وقد يخبرك يوماً من الدهر إنسانٌ أنها قد حدثت له، أو قال لك: أسمع أصواتاً لا أدري من أين مصدرها أسمع شخصاً يناديني باسمي وألتفت فلا أرى أحداً.
ولقد حدثت قصص واقعية للسلف بسبب إيذاء الشياطين الذين يريدون أن يخيفوا بني آدم فينادونهم في الليل بأصواتهم وأسمائهم.
كذلك أيها الإخوة: يجب علينا أن نبين للناس ما حكم الأموال التي تُدفع إلى هؤلاء الكهان والمشعوذين؟ ونقول لهم: إن الأجرة التي تدفع لهؤلاء الناس حرام، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام: (نهى عن حلوان الكاهن، ومهر البغي).
حلوان الكاهن: هو الْحَلاوة الْمَالية النقدية الأجرة التي تدفع للكاهن من أجل قيامه بالعمل من كشف الغيب، وإزالة الضرر ونَحوِه.
وفي الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (حلوان الكاهن خبيث).
فإذاً: هذه الأجرة لا يجوز دفعها ألبتة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الأجرة المأخوذة على ذلك، والهبة، والكرامة التي تُعطى للساحر والمشعوذ والكاهن، حرامٌ على الدافع والآخذ".
وهناك مسألة وهي:- لو قال إنسان: أنا عندي عقارات وقد اكتشفت أن إحدى الشقق المؤجرة يسكن فيها أحد الكهان، وأن الناس يأتونه ليَقرأ لهم الغيب والمطالع والفأل، ويعالج أمراضهم بالشعوذة، ماذا أفعل؟ أقول لك: اسمع هذه الفتوى من شيخ الإسلام: "يحرم على الملاك -ملاك العقارات- والوكلاء -كأصحاب المكاتب العقارية مثلاً- إكراء الحوانيت أو غيرها من هؤلاء الكفار والفساق، إذا غلب على ظنهم أنهم يفعلون فيها هذا الجبت الملعون".
قال شيخ الإسلام: "ويجب على ولي الأمر وكل قادرٍ السعي في إزالة ذلك، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو الدخول على الناس في منازلهم لذلك، وإن لم يفعل ذلك -أي: يغير المنكر- فيكفيك قول الله عز وجل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79]، وقوله سبحانه وتعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة:63] ".
يجب أن نتناهى عن المنكر، وأن نبين للناس هذا الدجل.
ثم قال شيخ الإسلام: "والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله".
وختاماً أيها الإخوة: أُذكِّر كل مسافرٍ إلى أي بلدٍ من بلاد المسلمين، أو حتى بلاد الكفار في الإجازة القادمة؛ لأن كثيراً من إخواننا المقيمين في هذه البلاد يذهبون إلى بلادهم في الإجازة، أو من يذهبون إلى الخارج للعلاج وما شابه ذلك.
أذكرهم بأن عليهم واجباً أساسياً من الواجبات وهو: الدعوة إلى الله، ونشر التوحيد، ومحاربة الشعوذة بين أقربائهم ومعارفهم وأصدقائهم، في بلدانهم التي يذهبون إليها، ويتزودون لذلك بكتب التوحيد النافعة، وينشرونها بين الناس ويبينونها لهم.
وحتى -أيها الإخوة-: في بلاد الكفار -مع الأسف- لما نام أهل السنة في سباتٍ عميق، ماذا حصل؟! انتشرت بين الكفار الدعوات الصوفية والشعوذات باسم الإسلام.
ترى رجلاً أمريكياً دخل في الإسلام، فعندما تُدَقِّق في أحواله تجد أنه على دين الصوفية المخرفين، سواء ارتفع كفرهم أو نزلت بدعتهم.
فإن كان يؤمن بوحدة الوجود وهو: أن كل ما ترى بعينك فهو الله، فيكون قد انتقل من النصرانية إلى الردة والإلحاد.
وإن كان على بدعة مثل: حِلَق الذكر المبتدعة بالطبول، وهذا موجود في أمريكا وغيرها.
من الناس يزعمون أنهم دخلوا في الإسلام، ما وجدوا أمامهم إلا أولئك المنحرفين، ليعرضوا عليهم الصورة المحرفة المشوهة للإسلام من تلك الطرق المبتدعة، فيكون أحسن أحوالهم أنهم انتقلوا من دين النصرانية إلى البدع.
فنحن قد نقابل هؤلاء في سفرنا -مثلاً- الذي ينبغي أن يكون سفر طاعة أولاً وآخراً، فنبين لهم، وندعوهم إلى الله، ونبين لهم التوحيد، ونتلو عليهم النصوص من القرآن والسنة، ونحارب تلك الشعوذات في البلاد التي نذهب إليها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم بين لنا دينك وفقهنا فيه.
اللهم واجعلنا على ملة التوحيد، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء الله.
اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأصلح لنا بيوتنا وذرياتنا ونساءنا وأزواجنا.
اللهم واجعلنا من التائبين لك، الأوابين إليك، المنيبين إليك، واجعل لنا بلاغاً إلى خير.
اللهم وفقنا لما يرضيك، وكن معنا يا رب العالمين.
اللهم وفق أبناءنا في اختباراتهم، وكن معهم، واجعل عملهم في رضاك.
اللهم واجعل خروجنا من الدنيا على شهادة التوحيد.
وصلّ يا رب وسلِّم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: صلوا عليه في هذا اليوم العظيم، الذي تضاعف فيه أجر الصلاة على رسولكم عليه الصلاة والسلام.(83/12)
إجابات على تساؤلات
هذا الدرس عبارة عن إجابة عن كثير من التساؤلات التي ترد على كثير من الناس، ففيه أسئلة في الأحكام الفقهية، وبعضها في الأمور الاجتماعية والحياة الزوجية(84/1)
الرد على من قال: لا إنكار في مسائل الخلاف
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً على طاعة الله، وأن يعقبه مغفرة من الله، وأن تنزل علينا فيه ملائكة الله، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المقبولين عنده، ومن الذين رفع درجتهم وغفر ذنوبهم، وأبدل سيئاتهم حسنات.
إخواني: إن الله عز وجل خلق عقل الإنسان، ومن حكمته سبحانه وتعالى أن جعل هذا الإنسان يفكر، وأن ترد على ذهنه الأسئلة التي تثير عنده حب المعرفة والتعلم، ولولا استثارة الذهن لفقد الإنسان جزءاً كبيراً من علمه؛ لأن الإنسان يتعلم بالتلقي والتلقين، ولكنه أيضاً يتعلم بطريقة السؤال، ولذلك يقول أحد السلف رحمه الله: العلوم خزائن والسؤالات مفاتيحها، والعقل المتوقد هو الذي لا تمر به الأمور هكذا، ويتلقى أي شيء يسمعه أو يقال له من دون قناعة ولا دليل ولا تساؤل، والإنسان البليد هو الذي يقبل كل شيء بغير تروٍ وبغير تساؤل ودليل، وبغير محاولة للتفهم والاقتناع بما يسمع وبما يقال له أو بما يقرأ.
ونحن قد خصصنا هذا الدرس للإجابة على تساؤلات دارت في أذهان البعض، وأسئلة متراكمة كثيرة من المرات السابقة، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الفائدة لنا جميعاً، وبعض هذه الأسئلة أسئلة تصورية، وبعضها فقهية عن الأحكام الشرعية، وأيضاً هناك أسئلة تتعلق بمشكلات اجتماعية موجودة في الواقع الذي نحيا فيه.
السؤال
يقول: هل القاعدة التي تقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، هل هي قاعدة صحيحة أم لا؟
الجواب
هذه المقولة تتردد على ألسنة الكثيرين، فإذا حصل خلاف في مسألة يقوم واحد ويقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، ودع الناس كل واحد يأخذ بالقول الذي يرتاح إليه ويعجبه، ولا تنكر على أحد، وكل واحد معذور في فناعاته التي وصل إليها.
ونقول أيها الإخوة: إن فهم هؤلاء الناس الذين يقولون بهذا فيه خطأ كبير، فإن القاعدة الصحيحة أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف ممن ليس لهم تحقيق في العلم، والصواب ما عليه الأئمة؛ أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها.
والمعنى: أن بعض الناس يقول: أي مسألة حصل فيها خلاف فلا مشكلة، فإذا حصل خلاف مثلاً في مسألة الوضوء من لحم الإبل فلا إشكال، فالذي يرى أن الوضوء من لحم الإبل يجب وجب عليه أن يتوضأ، والذي لا يرى الوضوء من لحم الإبل فلا يجب عليه أن يتوضأ، والذي يرى أن الزكاة في حلي الذهب واجبة عليه زكاه، والذي لا يرى أنها واجبة فليس عليه ذلك، وهكذا.
ونقول: ليس هذا صحيحاً على إطلاقه؛ لأن بعض المسائل فيها خلاف، وقلما تجد مسألة ليس فيها خلاف، صحيح أن هناك طائفة كبيرة من المسائل ليس فيها خلاف، لكن الناس الذين يتبعون الرخص يبحثون عن أسهل قولٍ في المسألة، فيقال له: القول الفلاني، فيقول: إذاً أتبعه، ومن ثم إذا جئت تنكر عليه، يقول: لا يا أخي، هذه مسألة اختلف فيها العلماء، وأنا حر، أخذت بالقول الذي أريده، والقول الذي أرتاح له فلا تنكر عليّ.
ونقول: ليست القاعدة الصحيحة أنه لا إنكار في مسائل الخلاف، وإنما القاعدة الصحيحة لا إنكار في مسائل الاجتهاد، والفرق أن المسائل التي فيها دليل قطعي فحتى لو حصل فيها خلاف فالخلاف هنا غير معتبر، أما إذا حصل خلاف في مسألة اجتهادية ليس فيها دليل قطعي، ولا سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من العلماء، وهي في مجال الاجتهاد فنقول هنا: نتباحث ونتناقش لكن لا ينكر أحد على أحد.
قد يقول إنسان: هل هناك مسائل حدث فيها خلاف بين أهل العلم وفيها دليل واضح؟ نقول: نعم.
هناك مسائل كثيرة ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، قال: والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين في كثير، مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل.
قبل أيام جاء سؤال: امرأة حامل مات زوجها في الصباح وولدت في الليل، كم عدتها؟ والجواب: بمجرد وضع الحمل تنتهي العدة، قال تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4].
ومثل: إن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول فيمن طلق زوجته طلقة ثالثة بائنة وتزوجها رجل آخر، فلا تحل للأول حتى يصيبها الزوج الثاني، وعدم إصابة الزوج الثاني وتطليقها ليتزوجها الأول وهو المعروف بالتيس المستعار (لعن الله المحلل والمحلل له).
ومثل: أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل.
وقد حصل فيها خلاف، ولكن الدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن جهدها فقد وجب عليه الغسل أنزل أو لم ينزل).
وإن المتعة حرام، فزواج المتعة حصل فيه خلاف، لكن الأدلة واضحة على أن زواج المتعة حرام، فلا يأتي واحد يقول: أنا حر والمسألة فيها خلاف، ويأخذ بجواز نكاح المتعة، نقول له: خطأ ولا يجوز، والخلاف فيها غير معتبر، والدليل فيها واضح.
وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون تطبيق اليدين ووضعهما بين الفخذين كما ورد ذلك وقد نسخ، وأن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه سنة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رئي وبيص الطيب في مفرق رأسه وهو محرم؛ لأنه كان قد وضعه قبل الإحرام، فإذا أحرم وعليه الطيب فلا يلزمه غسله، لكن لا يجوز أن يضع طيباً جديداً بعد الإحرام.
وأضعاف أضعاف ذلك من المسائل.
ولا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها، لا عذر له عند الله إذا نبذه وراءه ظهريا، وقلد من نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وهذه مشكلة متعصبة المذاهب، يقيمون على أقوال في مذاهبهم مخالفة للدليل، ويقول لك: قال إمامي، نقول: إمامك يقول: إذا رأيت الدليل يخالف قولي فاضرب بقولي عرض الحائط وخذ بالدليل.
وهذه أيضاً مشكلة بعض الإسلاميين الذين يعتقدون أن المجال واسع في الاختلاف، وأن هناك مجالس لوحدة المسلمين، أو لوحدة المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة وغيرهم؛ فيقال: نتفق على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وهذه القاعدة كما ذكر الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله ليست من قواعد أهل السنة والجماعة، ولا تعرف أنها من قواعد أهل السنة والجماعة، وإنما نتفق على الأصول الصحيحة من الكتاب والسنة في أبواب العقيدة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وغيرها من الأشياء، ولا نقول: هذا مبتدع وأنا من أهل السنة، ونحن نؤمن بوجود الله، إذاً نجتمع على وجود الله، ولا يمكن أن ينصر الله خليطاً فيهم هذه الأجناس وهذه التفكيرات العجيبة والقناعات اللاشرعية.(84/2)
علاقة الثواب بالمشقة
السؤال
هل صحيح أن الثواب على قدر المشقة أم لا؟
الجواب
هذه قناعة عند بعض الناس، يقول: أن الثواب على قدر المشقة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا.
ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع وأتبع كان أفضل من العمل الآخر، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة، وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل، ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية منعها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأخيها: (إن الله لغني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب).
وكذلك حديث جويرية وقد دخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ضحى، ثم دخل عليها عشية، -أي: عند الظهر- فوجدها على تلك الحال، قال لها: أما زلت على تلك الحال التي فارقتك عليها؟ فقالت: نعم.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لرجحت، سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته) فهذه أربع كلمات قالها ثلاث مرات، كانت أرجح من تسبيح جويرية من الضحى إلى العشي.
فإذاً ليس الثواب على قدر المشقة دائماً، وإنما تتفاوت الأجور بتفاوت قرب العمل من الله ورسوله، والإخلاص فيه، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وكلما كان العمل أخلص، ومتابعة صاحبه أكثر كلما كان أفضل، وليست المسألة بالمشقة دائماً، صحيح أن الذي يكثر من صيام النفل -وفيه مشقة- أفضل من الذي لا يصوم النفل، لكن هذه ليست قاعدة مضطردة.
صحيح أن الذي يقوم الليل أطول، يكون أفضل من الذي لا يقوم نهائياً أو يقوم خمس دقائق، لكن ليس هذه قاعدة على إطلاقها كما ذكرنا.
مثال آخر: لو صلى إنسان في ليلة ألف ركعة، وصلَّى آخر إحدى عشرة ركعة متأنياً متمهلاً، فمن هو الأفضل؟ الذي صلّى إحدى عشرة ركعة، نقول: الرسول صلى الله عليه وسلم صلى إحدى عشرة فقط أو ثلاث عشرة ولم يصلِّ ألفاً، فليست المسألة مسألة زيادة فقط، وإنما مسألة إخلاص ومتابعة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأصل ذلك أن يعلم أن الله لم يأمرنا إلا بما فيه صلاحنا، ولم ينهنا إلا عما فيه فسادنا، ولهذا يثني الله على العمل الصالح، ويأمر بالصلاح والإصلاح وينهى عن الفساد.
فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث؛ لما فيها من المضرة والفساد، وأمرنا بالأعمال الصالحة؛ لما فيها من المنفعة والصلاح لنا، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بالمشقة.
أي: حتى لا يأتي من يقول: إذاً ليس هناك داعي لأن نشق على أنفسنا، بل علينا أن نريحها، وعليه فلا داعي لأن نجاهد أو نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولا أ، نسهر لطلب العلم؛ لأنه مشقة، فنقول: لا.
هناك أعمال فرضها الله لا تنال إلا بالمشقة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة كالجهاد، والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم، فيحتمل تلك المشقة، ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة لما اعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع: (أجرك على قدر نصبك) النصب: التعب، وأما إذا كانت فائدة العمل لا تقاوم مشقته، أي: أن فائدة العمل والمنفعة أقل من المشقة التي فيه، فهذا فساد والله لا يحب الفساد.
والأمر المشروع المسنون مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور، مثل الفردوس، وسط الجنة وأعلى الجنة، فإذاً الأعلى والأفضل والأكمل هو أواسط الأمور، لا إفراط ولا تفريط.(84/3)
سبب الوحشة بين الإخوان في الله
السؤال
ما سبب الوحشة التي تحدث بين الإخوان في الله؟
الجواب
هذا السؤال -أيها الإخوة- له نصيب كبير من الواقع، ولابد أن يتساءل الإنسان الذي يحدث بينه وبين بعض إخوانه نفور، لماذا يحدث هذا النفور؟ وما هي الأسباب؟ فنقول: إن من الأسباب التي تُوجِد النفرة بين قلوب الإخوة متعددة فمنها: أولاً: المعاصي، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما تواد اثنان في الله فيفَرَّق بينهما إلا بذنب أحدثه أحدهما أو كلاهما) فالمعاصي سبب للتفريق بين الإخوان، وسبب لتفرق الكلمة وضعف الصف، لذلك كان يحرص قادة الجيوش الإسلامية أن يبعدوا الجنود عن المعاصي؛ لأنه سهل على الأعداء اختراق الصف الذي تملأه المعصية، ولذلك ورد عن بعضهم أنه قال: لأنا أخوف على الجنود من المعاصي أكثر من الأعداء.
والصف الإسلامي في حالة مقاومة ومجابهة للباطل، ولذلك فهو يحتاج إلى وحدة واعتصام بالكتاب والسنة، حتى لا يحصل التفرق والتنابذ والتفسخ بين أفراد الصف الإسلامي.
ثانياً: ومن أسباب النفور بين الإخوة كذلك: عدم القيام بحقوقهم: فحقوق الإخوة كثيرة، وإذا قصر بعضهم في حقوق إخوانهم الآخرين حصلت بسبب ذلك الفرقة، فمن ذلك مثلاً تقصير بعضهم في السؤال عن أحوال البعض الآخر، وفي تفقد شئون البعض الآخر، ومساندة ودعم بعضهم الآخر في حال الضائقة والملمات، فعندما ينظر الواحد ويرى أن أخاه قد أعرض عنه ولم يسأل عن حاله، وأنه وقع في ضائقة ولم يجد من ينقذه؛ فإن هذا يسبب نفرة بلا شك.
ثالثاً: كذلك من الأسباب التي يحصل بسببها الشقاق بين الإخوة: إساءة الإخوة الأدب مع بغضهم، فمثلاً: يكثر بعضهم من مقاطعة البعض الآخر في الكلام، أو قد يأتي في وصفه له بكلمات غير مناسبة وغير صحيحة، وليست من أدب الإسلام، فيحصل بذلك فرقة وشقاق، وقد يكون تدخل بعضهم في شئون الآخر تدخلاً مذموماً، مما يحصل بسببه شقاق وفرقة وخلاف.
ويسأل بعض الإخوان سؤالاً فيقول: كيف نعرف التدخل الصحيح من التدخل غير الصحيح؟ فأقول لك يا أخي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قعد لنا قاعدة مهمة في هذا، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فمثلاً: قد يتدخل إنسان في خصوصيات إنسان آخر، وليس عند الإنسان الآخر منكر يوجب التدخل، ففي هذه الحالة يكون هذا التدخل غير صحيح، وكذلك الإلحاح عليه في الأسئلة المزعجة والمتكررة، للحصول على معلومات ليس من ورائها طائل، ولا مصلحة شرعية بقدر ما تسبب له من الإيذاء والإحساس بالحرج وأنت تلح عليه في السؤال.
ومن ذلك مثلاً التجسس، وهو تدخل في أمور الآخرين، وهو محرم ولاشك.
ومن التدخل ما يكون صحيحاً، مثل أن يكون التدخل لتغيير منكر، أو دعوة إلى الله، أو لتعديل وضعه بحيث يصبح أفضل أو أحسن، لو أنك رأيت عيباً في طريقة إلقائه فأرشدته بإرشادات تجعل طريقة إلقائه أفضل وأحسن، فهذا التدخل طيب لكن المهم هو الأسلوب في التدخل.
والتدخل يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص؛ مثال الاختلاف بالأشخاص مثلاً: الأب يحق له التدخل في أمور ابنه ما لا يحق لواحد غريب، المدرس يحق له التدخل في شئون تلميذه في الفصل ما لا يحق لواحد خارج الفصل، فيختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
وأحياناً يختلف بحسب درجة الاستفصال في السؤال، فلو أنك مثلاً لقيت إنساناً فقلت له: هل تزوجت؟ قال: نعم.
قلت: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير، فهذا شيء طيب، لكن ولو أنك زدت فقلت له: وهل دخلت بأهلك أم لا؟ ومتى كان ذلك؟ هنا يكون التدخل أمراً مشيناً ومعيباً، ولا يحق لك أن تفعل مثل هذا الأمر.
بعض الناس أحياناً يدسون أنوفهم ويتدخلون في أشياء لا تخصهم، مثلاً: لماذا أثاث البيت لونه أخضر؟ أنا لا يعجبني، لابد أن تجعل لونه أزرق؛ لأنه يعجبني اللون الأزرق، نقول: يا أخي! ليس لك حق أن تتدخل بهذه الطريقة، وهنا تعتبر إنساناً قد وضع الأمر في غير محله.
فإذاً قد يكون التدخل محرماً مثل: التجسس، وقد يكون واجباً مثل التدخل لتغيير منكر عند أخيك أو في بيتك، وقد يكون مستحباً مثل تحسين وضع أخيك -كما ذكرنا- وقد يكون مكروهاً مثل الإلحاح على شخص في أمر تحرج من ذكره، وقد يكون مباحاً مثل أن تسأل الإنسان مثلاً: هل سافرت أم لا؟ هذا ملخص عن قضية التدخل، بعد أن تكلمنا عن بعض الأسباب التي توجب تفرق الإخوان عن بعضهم.(84/4)
العلاقة الزوجية في حياة الداعية إلى الله
السؤال
بالنسبة لعلاقة المرأة مع الرجل، وبالذات زوجة طالب العلم والداعية إلى الله، فقد تطالبه بأشياء أكثر من حقها المشروع مما يضيع عليه الوقت، فهل من نصيحة؟
الجواب
نقول أيها الإخوة: الحقوق الزوجية أمر من صلب الإسلام، ومع الأسف الشديد أننا لا زلنا نسمع عن قصص عجيبة في العلاقات الزوجية السيئة؛ تحدث أحياناً بين بعض الناس الذين ظاهرهم التمسك بالدين، وهذه مسألة خطيرة جداً.
واحد من الناس أول ما تزوج ضرب زوجته في ليلة العرس، وواحد آخر كان يدس لزوجته الحبوب المخدرة، على أنها أقراص مهدئة أو مسكنة للصداع.
وواحد يكتف زوجته بالحبل ويطأها في دبرها رغماً عنها، وهو معروف أنه حرام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من أتى امرأة في دبرها.
وإنسان يطرد زوجته من البيت، وقد يرميها بأقرب إناء في يده.
في المقابل زوجات تثور على زوجها لأتفه الأسباب، وتقول له: اغسل ثيابك بنفسك، وقد تقول له أيضاً: إذا لم يعجبك الأكل فاذهب إلى المطعم، وقد تتمرد عليه في الفراش ولا تجيبه، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من فعلت ذلك تلعنها الملائكة حتى تأتي، وأن من دعاها زوجها إليها وجب أن تأتيه ولو كانت على التنور؛ لأنه قد يقوم في نفس الزوج في بعض الحالات من الحاجة إلى زوجته شيئاً كبيراً طارئاً لابد أن يلبى في آنه.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من رأى امرأة في الطريق فأُعجب بها، فمن تمام كفارة ذلك وعلاج هذا الأمر أن يأتي أهله، فقد يحصل ذلك فيدخل البيت فيجدها تطبخ فيطلبها، فيجب عليها أن تلبيه فوراً؛ لأنه قد تحصل مفاسد من الامتناع عن ذلك.
وهذه مسألة الكلام فيها طويل، ولعل الله عزَّ وجلَّ ييسر لنا فرصة لنتكلم عنها بتفاصيل أكثر، وتبيان ما ورد في الشرع من آداب العشرة الزوجية، وحق الرجل على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، ولكن نصيحة أقدمها بشأن هذا السؤال؛ زوجة الداعية إلى الله أو طالب العلم، لابد أن تراعي حال زوجها في أمور كثيرة، فمثلاً قد يكون الزوج ينفق قسطاً لا بأس به من مرتبه أو دخله في أشياء من الطاعات، كصدقات، أو شراء كتب علمية، أو إنفاقها على إخوانه في الله، وقد يكون الإنفاق مع مطالبته لها بأمور مثل الولائم وما شابه ذلك.
فالمرأة المسلمة الصادقة لابد أن تراعي حال زوجها، فالداعي إلى الله وطالب العلم عليه من المسئوليات التي تستتبع متطلبات مادية غير الشخص العادي، ولذلك لابد أن تراعي زوجته هذا الجانب؛ لأنه قد يكون عنده احتياجات ومتطلبات يحتاج إليها في خلال دعوته إلى الله وطلبه للعلم، فمثلاً: لا تكلفه بأن يشتري لها الثياب الغالية، أو أن يستأجر لها شقة مترفة أو مزينة ووثيرة الأثاث، فإنه لا يستطيع أن يتحمل الجمع بين الأعباء المالية التي تكلفه بها الزوجة، ومع المتطلبات المالية التي يحتاج إليها في خلال دعوته إلى الله وطلب العلم الشرعي، هذا من جهة.
من جهة أخرى: فإن الداعية إلى الله في عصرنا سيستغل جزء كبير من وقته في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، وطلب العلم وتعليمه للناس، والزوجة تريد من زوجها أن يجلس معها في البيت كثيراً، وأن يخلو بها كثيراً، وأن يخرج بها للفسحة كثيراً، تحب هذا منه، ووقته مزدحم بأعباء وأشغال، والتأخر الحاصل في حال المسلمين يتطلب من الإنسان المسلم عملاً دائباً وجهداً كبيراً، وهذا العمل والجهد يزاحم قضية الانفراد بالزوجة والخروج بها للفسحة وغيره، فلابد أن تراعي هذا الأمر، وألا تطلب منه كثيراً أن يأتي ويجلس معها دائماً، أو يخرج بها يفسحها ويزورها إلى آخره، أقول: لا تطلب منه كثيراً، لا ألا تطلب منه نهائياً.
كذلك قد يرهقها بأعمال، فهو يحب إكرام الناس، وقد يستغل الولائم في الدعوة إلى الله، والدخول إلى قلوب الخلق، وهذا سيرتب عليها مسئولية أن تطبخ، وقد تكثر هذه الأشياء بين فترات قريبة، فيحصل منها بعض التضايق في هذا الجانب، وقد يفاجئها بوليمة من غير خبر مسبق، إما أن يطرق الباب ويقول: حهزي فقد جاء معي خمسة؛ فاصنعي عشاء بسرعة، أو بالهاتف يقول: بعد نصف ساعة أنا سآتي ومعي سبعة أشخاص، نحن لا نقول: فعل الزوج هذا صحيح تماماً، لكن نقول من جهة الزوجة: أنه لابد أن تراعي هذا الشيء، ومن ثم قد تطبخ وتتعب وتنفخ وهكذا، ثم يأتي يلاحقها: أما أنجزتي، أسرعي في التجهيز إلخ.
الغريب أحياناً أن هذا قد يقع، يدخل الواحد على زوجته معبساً مقطباً، فيأخذ الطبق ويدخل على إخوانه في المجلس مبتسماً منشرح الصدر، وهذا شيء غير صحيح، لكن الظروف قد تدفع الإنسان لهذا، فعليه أن يجاهد نفسه في هذا الأمر، وكما أنه يأخذ الأطباق مثلاً مستعجلاً عابساً، ينسى كلمة الشكر للزوجة، فإنه إذا ردها إليها بعد الأكل، أين الشاي؟ أين القهوة؟ تأخذ الأطباق، وينسى أن يقول لها كلمة ملاطفة، أو كلمة شكر واحدة.
إزاء هذه الأشياء التي تحدث؛ فلابد أن تكون الزوجة -زوجة طالب العلم والداعية إلى الله- واسعة الصدر، لا تغصب، ولا تشمئز، صحيح أن هذا الأمر قد يثير في نفسيتها أشياء، وقد يجرح كبرياءها وشعورها، ولكن التي تفهم الأمر كما ينبغي، وتعي الواقع جيداً، فإنها ولاشك ستحتسب هذا عند الله، وكما أن زوجها يقوم بالدعوة إلى الله وطلب العلم وتعليم الناس، فهي تقوم بدور لا يقل عنه أهمية في دعمه، وحمل المشاق عنه، وتوفير الجو الهادئ له.
قد يكون هذا الشخص منشغلاً بالقراءة وطلب العلم، يدخل ويقفل على نفسه ويترك المرأة مع الأولاد، وقد تقول له: علمني مما علمك الله، فيقصر في حقها، تقول له: أنت تذهب تعلم الناس وتطلب العلم، وأنا ليس لي شيء، وهو مقصر في حقها، لكن المراعاة من المرأة مهم، فنحن نتكلم من جانب الزوجة.
وإذا دخل البيت متعباً والأولاد يصرخون، فقد يقول: خذي الأولاد واذهبي غرفة ثانية بسرعة؛ أنا أريد أن أنام، أم هي فكأنها لا تريد أن تنام بزعمه، فقد تحزن أيضاً، فنقول: إن الحياة الزوجية ينبغي أن تكون قائمة على المودة، و (سددوا وقاربوا) فكما ننصح المرأة بهذا الكلام، نقول للزوج أيضاً: وأنت كذلك أيها الأخ المسلم، عليك بمراعاة زوجتك، وستخطئ عليها في كثير من الأحيان ولاشك، فعليك بتدارك ما فات، وإصلاح ما ينبغي أن يصلح، وألا تترك الأخطاء تتراكم منك على زوجتك.(84/5)
تذكر مشاهد محرمة قبل الزواج والأثر السيئ لذلك
السؤال
هذه مسألة متعلقة بالزواج، واحد يتكلم عن ضرر المشاهد المحرمة التي شاهدها قبل أن يلتزم بدين الله ويستقيم على شرع الله.
الجواب
بين يدي نقطتين الآن أذكرهما في هذا الجانب: المعاصي -أيها الإخوة- لها آثار سيئة، وأحياناً قد يكون الأثر السيئ ممتداً إلى سنوات طويلة، وهذا مثاله: فهذا شخص يقول: أنه تاب إلى الله واستقام على شرع الله، وترك الأشياء المحرمة، والنظر إلى النساء الأجنبيات، ومشاهدة المسلسلات المشتملة على النساء، والمجلات وغيرها، ترك هذا كله، لكنه يقول: إنه إذا خلى بنفسه، فإنه لا يزال يتذكر من هذا الرصيد الضخم الذي كان قد شاهده في حياته الجاهلية؛ من صور النساء وغيرها من الأشياء المثيرة ما يقوده للوقوع في المحرم مثل: الاستمناء وغيره، لا حول ولا قوة إلا بالله! لكن هذا حاصل.
أقول: انظر إلى الأثر السيئ، والحياة السيئة التي كان يعيشها الإنسان، فلها آثار جانبية ممتدة، وليست المسألة تنتهي بنهاية المعاصي، اللهم إلا من جاهد نفسه وعصمه الله، فنسي تماماً أو جاهد نفسه في أول فكرة وخاطرة خطرت له فانتهى الأمر من ذهنه بالكلية، والنفس إلم تشغلها بطاعة الله شغلتك بالمعصية؛ حتى بتذكر الأِشياء، هذه سلبية من سلبيات مشاهدة المناظر، فإن بعض الناس يستعيدونها في مخيلتهم، بحيث أنها تقودهم إلى ارتكاب بعض المعاصي.
وضرر آخر من هذه الأشياء متعلق بالزواج: المشاهد المحرمة التي شاهدها الإنسان في السابق، فإن بعض الشباب عندما يتزوج ويدخل بزوجته؛ فإنه إما في مقتبل الأمر أو بعد فترة، لا يشاهدها بمستوى الجمال الذي كان يتخيله عند الزواج، أو وهو يبحث عن الزوجة.
لماذا لما يشاهدها بنفس المستوى من الجمال الذي كان يتخيله قبل الزواج؟ ولماذا لا يقنع كثير من الشباب بزوجاتهم بعد الزواج؟ مما يدفعهم إلى مسائل كبيرة مثل الطلاق، أو إلى إساءة معاملتها، وفي شيء لا ذنب لها فيه، هذا يحصل أحياناً.
أحياناً الشخص يتبرم وينفر، وفي النهاية لا تجد سبباً معقولاً أو معيناً، كأن تكون الزوجة قد قصرت في حقه، وإنما يقول: ليست هذه هي المرأة التي كنت أتخيلها قبل الزواج، لأن كلاً منهم كان يظن في حال الخطبة أو البحث؛ أنه سيتزوج ملكة من ملكات الجمال، وملكات الجمال هذه بدعة شهوانية كفرية وردت إلينا من الكفار.
فأحد الأسباب غير قضية الرضا والقناعة بما قسمه الله له، أن هذا الشاب كان قد شاهد من قبل في أثناء حياته الأولى السيئة مناظر كثيرة على صفحات المجلات، وفي المسلسلات والأفلام وغيرها، مما جعل يتصور مستوى جمال معين، ويقول: أنا أريد أن أعف نفسي، فأنا أريد زوجة أجمل من كل التي رأيتهن في المسلسلات والأفلام والمجلات، فبعضهم عندهم هذه النفسية، فلما يرى المجتمع ليس فيه ذلك، فمن أين نأتي بجميلات؟ والله عز وجل خلق النساء متفاوتات في الجمال، فإذا أنت بحثت وبحثت فلم تجد إلا هذا الشيء، فأنت الذي فتحت على نفسك الباب، ولابد أن تواجه نفسك وتذكرها أنها السبب.
في الماضي كان الرجل قد لا يرى زوجته في الخطبة، لكن يدخل عليها ويرضى بها وتسير الحياة بطريقة عادية، مع أن المرأة قد تكون دميمة؛ لأنه لم يكن يوجد انتشار لهذه الصور والأشياء التي تجعل الواحد يضع في ذهنه ومخيلته مستوى معيناً من مستويات الجمال، فتحصل بعض المشاكل في الحياة الزوجية من هذا الباب.
فانظر -يا أخي- إلى الأثر السيئ للمعاصي التي تحدث سابقاً كيف تمتد حتى تدخل في أشياء كثيرة حتى بعدما يهتدي الإنسان، وهذا مما يؤكد أهمية استئناف الحياة الإسلامية الصحيحة، التي في ظلها تتربى الأجيال المسلمة التي تكون بمنأى وبمبعد عن هذه التأثيرات الشهوانية، والمناظر المحرمة التي تسبب له المشاكل في المستقبل.(84/6)
الرد على من يحتج بحديث (المؤمن يزني) في جواز الزنا
السؤال
هذا والله سؤال عجيب، يقول: واحد يريد أن يزني بامرأة أو يفعل الفاحشة بشخص، فاستدل لإقناع الطرف الآخر بحديث (المؤمن يزني؟ قال: نعم).
الجواب
هناك حديث مشهور أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: (المؤمن يزني؟ قال: نعم.
المؤمن يسرق؟ قال: نعم.
المؤمن يكذب؟ قال: لا) هذا الحديث فيه ضعف، وإنما الذي صح في هذا الباب أحاديث منها: الحديث الصحيح الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (يطبع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب) ولنفترض أن الحديث صحيح، وربما يكون هذا المعنى صحيح فأن المؤمن إذا زنى لا يخرج عن الإسلام، ولا ينتفي عنه الإيمان كله، ولكن ينقص من إيمانه بقدر المعصية التي فعلها.
ولكن هل هذا مبرر لمن يزني؟ كون الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بالكلية إذا زنى، وأنه يبقى داخل دائرة الإسلام، ويكون مسلماً عاصياً فاسقاً ومرتكب كبيرة، لا دليل فيه على إباحة الزنا، وقضية الاستدلال الخاطئ بالقرآن والسنة هو منهج أهل البدعة ولاشك.
ولذلك كان من منهج أهل السنة والجماعة صحة الاستدلال، ليس الأمر أن تأتي بآية أو حديث، لكن المهم أن تأتي لي بهما في المكان المناسب، وإلا فإن كثيراً من أهل البدع استدلوا لصحة مذاهبهم بأدلة من القرآن والسنة الصحيحة، لكن الموضع الذي استشهدوا به خطأ، ومن ضمنهم الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه، استدلوا بأشياء من القرآن.
بعض الفتيات تضع قصة خطبة خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحادثة الرسول صلى الله عليه وسلم مع خديجة، حجة في جواز محادثة الفتيان والمعاكسات في الهاتف، وانظر كيف الاستدلال! والله لو أن الشيطان يريد أن يفكر فيها يمكن ألا يتوصل إليها.
ومن هذا الباب استدل أحد الناس النشالين بقوله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح:7] قال: فانصب، أي: انصب واسرق، فإذا فرغت أي: إذا فرغت جيوبك من الفلوس فانصب على العالم.
ومن هذا الباب ترجم أحد المستشرقين الفرنسيين القرآن إلى اللغة الفرنسية، فلما جاء في قوله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43]، والمعنى: إذا جامعت زوجتك أو ما ملكت يمينك ولم تجد ماء وأنت تريد الصلاة فتيمم، فلما جاء يترجم (أو لامستم النساء) قال: وهذا دليل على إباحة الإسلام للزنا؛ لأنه قال: لامستم النساء، وهي عامة، إذاً فالإسلام يبيح الزنا، انظر إلى خبث المستشرقين.
وكما قاس مصطفى محمود على قول الله عز وجل: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] قال: أفلا ينظرون إلى المرأة كيف خلقت، فهذا دليل قياس على القرآن.
فإذاً أيها الإخوة: قضية الاستدلال خطيرة جداً، ولابد فيها من العلم، وليس الأمر أن تحفظ من القرآن والسنة فحسب، بل الأهم أن يصح استدلالك بهما، ولذلك عقد العلماء فصولاً وكتباً خاصة في هذا الموضوع، ومما أحيلك عليه: الباب الرابع في كتاب الاعتصام للشاطبي رحمه الله الذي خصصه فقط لقضية الاستدلال، وصحة الاستدلال، ومواجهة أهل البدع في استدلالاتهم الخاطئة من القرآن والسنة.
تعقيباً على هذا الذي يقول: المؤمن يزني؟ فيقول: يجوز هذا، فنقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان، فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه).(84/7)
حكم قول المرأة للرجل والعكس: إني أحبك في الله
السؤال
ما حكم قول المرأة للرجل والعكس إني أحبك في الله؟
الجواب
وهذا السؤال صارت دارت مناقشات ومباحثات أسفرت عنا استفهامات وإشكالات نوضحها إن شاء الله، وكنت قد سمعت بأن الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين قد سئل عن هذا السؤال، فأخبر أنه يجوز، فسألته بنفسي حتى أعرف ماذا قال بالتفصيل.
ونقول أيها الإخوة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن الإنسان المسلم إذا أحب أخاه فليعلمه، وقال أيضاً عليه السلام: (إذا أحب أحدكم أخاه فليبين له، فإنه أدوم في الألفة وأبقى في المودة) أو كما قال، والحديث في السلسلة الصحيحة رقم ثلاثة، ونعلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تشمل الرجال والنساء، وأنه لا نفرق إلا فيما دل الدليل على التفريق فيه، ولكن عندما يكون هناك مجال ومدخل للفتنة في أمر جائز في الشريعة، ولكن يؤدي إلى حرام، فإنه يصبح حراماً ولاشك.
ولذلك يقول الشيخ ابن عثيمين: قلنا لمن سأل هذا السؤال: إنه يجوز بشرط الأمن من الفتنة، بحيث يعرف أن الرجل الذي إذا قالت له المرأة هذا الكلام لا يكون فيه قابلية للفتنة، وضرب لي مثالاً، فقال: افرض أن امرأة كلمت الشيخ ابن باز، فقالت له: إني أحبك في الله، فلا شيء في ذلك؛ لأن ذلك الرجل في مقام لا يتصور منه حصول هذا الأمر، ولكن أن يكون شاباً، وكان يذكر بالخير، ثم تتصل عليه وتقول: إنني أحبك في الله، فهذا لا يجوز.
قال: ونحن نتحذر من هذا كثيراً؛ لأن المحبة في الله قد تؤدي إذا أسيء استخدامها، أو أسيء تطبيقها إلى محبة لغير الله، وقد تؤدي إلى محبة مع الله وهذا شرك، فلابد أن تؤمن الفتنة أمناً كاملاً.
هذا هو الجواب على هذا الاستشكال، فإذاً لا يصلح لامرأة أن تتصل على شاب مهما بلغ من العمل والتقى -مادام أنه عرضة لأن يقع في الحرام- وتقول: إني أحبك في الله، ولا يصلح هو أن يتصل على شابة أو امرأة أجنبية ويقول: إني أحبكِ في الله.
وإني أعرف قصصاً من هذا القبيل كانت هذه الكلمة سبباً لحصول مقابلة محرمة، فإذاً -أيها الإخوة- لابد من الحذر من هذه الأشياء تماماً.(84/8)
حكم إعطاء الهدية للمخطوبة
السؤال
هل يجوز للخطيب أن يهدي خطيبته قبل أن يعقد عليها هدية؟
الجواب
قال الشيخ ابن باز: نعم يجوز.
أن يرسل لها هدية لكي يرغبها وأهلها فيه، ولكن من غير خلوة أو مقابلة خبيثة.(84/9)
حكم التسمية بـ: (وداعة الله، نور الله، جار الله)
السؤال
ما حكم التسمية بالأسماء التالية: وداعة الله، غلام الله، جار الله، نور الله؟
الجواب
يقول الشيخ ابن باز: يجوز التسمية بوداعة الله وجار الله، والأحسن تغيير اسم غلام الله، وينبغي تغيير اسم نور الله، أما غلام الرسول أو عبد النبي، وغيره من المعبدة لغير الله فلا تجوز، وأما التسمية ببشير ونذير، فإنها تصح ولا بأس بهذه التسمية.(84/10)
حكم إطلاق كلمة (صديق) على الكافر
السؤال
هل يجوز إطلاق كلمة الأخ أو الصديق على اليهودي أو النصراني؟
الجواب
جواب الشيخ ابن باز: لا يجوز؛ لأنه نوع من المودة.(84/11)
حكم خروج الزوج مع زوجته إلى بيت مستقل
السؤال
هل يحق لي الخروج من بيت والدي مع زوجتي، وذلك للحذر من التلفاز والخلوة، حيث أن أخي يسكن معنا حتى لو مانع أبي؟
الجواب
جواب الشيخ ابن باز: لا حرج عليك، ولو لم يرض والداك بذلك.(84/12)
حكم حلق الشعر الذي أسفل الشفة
السؤال
ما حكم حلق الشعر الذي أسفل الشفة بالقرب من الفم؟
الجواب
جواب الشيخ: لا يتعرض لها، فهي تبع للحية.(84/13)
حكم قول الإمام لوالده المؤذن: أقم
السؤال
هل للإمام الشاب أن يقول لوالده المؤذن: أقم؟
الجواب
يقول الشيخ: لا بأس بذلك.(84/14)
حكم التهنئة بالمعانقة في العيد والمصافحة
السؤال
هل التهنئة بالمعانقة أو المصافحة في العيد لها أصل؟
الجواب
المعانقة في العيد ليس لها أصل، وتركها أولى.(84/15)
حكم طمس اسم الله حتى لا يهان
السؤال
هل يجوز طمس اسم الله حتى لا يهان على الأوراق مثلاً؟
الجواب
جواب الشيخ ابن باز: إذا خشي أن يهان أو يداس فلا بأس بطمسه.(84/16)
حكم كتابة اسم الله على الملابس
السؤال
ما حكم كتابة اسم الله على الفنيلة؟
الجواب
قال الشيخ: لا يجوز.
لأنه إذا اتسخ رميته؟ في الغسالة وأحياناً يكون فيها نجاسات، وقد تعرق عليه، فلا يصح كما قال الشيخ.(84/17)
حكم الصور على المعلبات
السؤال
ما حكم الصور التي على المعلبات التي تشترى من الأسواق؟
الجواب
نحن نعلم أن الصور التي عليها أرواح محرمة، سواءً كانت مجسمة أو غير مجسمة؛ لأن الحديث عام.
(لعن الله المصورين) وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة).
فيقول الشيخ ابن باز: جائز لأنها مهانة.
لأن المعلبات هذه مهانة تستعمل وترمى.
وبالإضافة إلى ذلك فقد عمت بها البلوى، فلو تريد أن تشتري منتجات ليس عليها صور يمكن ألا تجد، فقد عمت بها البلوى، والمشقة تجلب التيسير، والشريعة ما بنيت على التعسير، لكن إذا اشتريت شيئاً واستطعت أن تلغي الصورة قبل استخدامه وإدخاله البيت؛ فهذا حسن، وإذا ما استطعت، فلا جرج فإنها ستلقى وتهان.(84/18)
مسألة شراء الذهب بالذهب مع دفع الفارق
السؤال يقول: ما حكم مبادلة ذهب قديم (مستعمل) بذهب جديد (غير مستعمل) عند صائغ مع دفع فارق الثمن والوزن واحد؟
الجواب
فيقول الشيخ عبد العزيز: لا يجوز هذا، ومن كانت من النساء عندها ذهب قديم وتريد أن تأخذ ذهباً جديداً، فلا يجوز المبادلة ولو مع دفع الفرق، وإنما تبيع الذهب القديم أولاً وتقبض ثمنه، ثم تشتري بالثمن أقل أو أكثر أو تزيد عليه أو تنقص منه ذهباً جديداً، إنما لا يجوز تعطيه القديم وتأخذ الجديد مع دفع الفرق، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب يداً بيد الحديث).(84/19)
حكم ذكر شخص لغيره بالسوء دون وجود أحد
السؤال
إذا ذكر غيره بسوء وهو لوحده، فهل هذا من الغيبة؟
الجواب
فيقول الشيخ عبد العزيز بن باز حول دخول هذا في الغيبة، يقول: نعم يدخل هذا في الغيبة لعموم الحديث، أنه ذكرك أخاك بما يكره، وأنت قد ذكرته بما يكره.(84/20)
حكم تغيير اسم الكافر إذا أسلم
السؤال
يقول السؤال: إذا أسلم الكافر فهل عليه تغيير اسمه، وهل يجب عليه الختان؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: إذا كان اسمه معبداً لغير الله حتى ولو بغلة أجنبية فيجب تغييره، وإن كان من أسماء الكفار المختصة بهم فيحسن تغييره.
قد يكون نصرانياً واسمه جميل ثم يدخل في الإسلام، فلا يغير؛ لأنه ليس مختصاً بالكفار، وأما إن كان مختصاً بالكفار فيحسن تغييره.
ويختتن إذا لم يترتب عليه خطر؛ لأنه قد يكون الختان خطراً على حياته، قد يسبب له نزيفاً كما يحدث.
وبعض الناس لا يحسنون الدعوة إلى الله، فأول ما يمسك واحداً وقد قرب من الإسلام، يقول له: يجب عليك الختان، وهو عملية جراحية، وذاك رجل مسكين، قد يتراجع عن الإسلام من أجل هذا الشرط.(84/21)
حكم اطلاق كلمة (سير) للمدرس الأجنبي
السؤال
ما حكم إطلاق (سير) بمعنى سيد على المدرس الأجنبي؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: ينبغي تركها؛ لأن فيها تكريماً للكفار ولا يجوز تكريم الكافر.(84/22)
حكم إرضاع النصرانية للمسلم
السؤال
هل تقع رضاعة النصرانية للمسلم؟ بعض الناس عنده خادمات في البيوت، وهذه الخادمة هذه نصرانية أو بوذية، وقد تأخذ الولد وترضعه، فهل تقع الرضاعة؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: نعم تقع.
ولذلك ينبغي أن ينتقي الإنسان.
وكانت العرب تنتقي للولد المرضعة من أوساط الناس ومن أجوادهم؛ لأن لبن المرأة المرضعة يؤثر في الولد.(84/23)
مسألة في الرضاعة
دعوني أسألكم سؤالاً بمناسبة الرضاعة: اذكروا لي حالة يكون فيها لشخص أب من الرضاعة ولكن ليس له أم من الرضاع؟
الجواب
شخص له زوجتان، أتي بولد فأرضعته الزوجة الأولى ثلاث رضعات، وأرضعته الزوجة الثانية رضعتين، فالخمس رضعات يقع بها الرضاع، فصار الزوج أباً من الرضاع، وهل كل واحدة من اللتين أرضعتا صارت أماً له؟ لا؛ لأن كل واحدة منهما أرضعته أقل من خمس رضعات معلومات.(84/24)
حكم تخيل ليلة الزواج قبل الزواج
السؤال
بعض الشباب يتصور ليلة زواجه قبل أن يتزوج، فما الحكم؟
الجواب
يقول الشيخ ابن باز: إذا كان مجرد تصور فلا بأس، أما إذا كان هذا الأمر يؤدي إلى محرم مثل الاستمناء وغيره فلا يجوز؛ لأنه وسيلة إلى المحرم.(84/25)
حكم قراءة القرآن للجنب بعد الوضوء
السؤال
قول بعضهم إن وضوء الجنب قبل أن ينام يخفف الجنابة، بحيث يقرأ أذكار النوم المشتملة على آيات القرآن، هل هذا صحيح أم لا؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: ما أعلم لهذا أصلاً، وبعض الناس يظن هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يحبسه شيء عن القرآن إلا الجنابة، ولما قرأ بعض الآيات قال: هذا لمن لم يكن جنباً، أما الجنب فلا ولا آية، كما روى أحمد في المسند بإسناد جيد.
فإذاً: هو يخفف ولاشك، لكنه لا يبيح قراءة القرآن حتى يغتسل الشخص.(84/26)
رجل اشترى أرضاً فوجد فيها كنزاً
السؤال
أعطى رجل آخر مالاً، فحلف ألا يأخذه، وحلف الآخر ألا يرجع إليه؟
الجواب
هناك قصة في حديث صحيح: أن رجلاً باع أرضاً لرجل آخر، فالشخص المشتري وجد في الأرض جرة من ذهب، فرجع إلى الشخص الذي باع، وقال له: هذه الجرة لك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم اشتر الجرة، وقال الآخر من أمانته، قال: لا.
أنا بعتك الأرض وما فيها، فاحتكما إلى رجل، فقال لأحدهما: هل لك ولد؟ قال: نعم عندي ابن ذكر، وقال للآخر: هل لك ولد؟ قال: نعم.
عندي بنت فقال: زوج هذه من هذا واجعل المهر من هذا الذهب، وهذا من أعدل الأحكام وأجودها.
فهنا كان الأمر سهلاً لو أنهم أعطوه لفقير، لكن المشكلة أن هذا الشخص الآخذ أخذ المال، وأودعه في حساب الشخص الآخر في المصرف، ثم جاء الآن يسأل عن الحكم.
فيقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: إذا أخذه الآخذ بنية إرجاعه لا بنية أخذه، فإنه لا يحنث، والآخر عليه الكفارة إذا علم بها -ولابد أن يعلم لأنه سيأتيه كشف الحساب ويعلم- وهل يجب على الشخص الذي وضعها في الحساب أن يخبر الآخر أنه قد وضعها في حسابه أم لا؟ فقال: الأقرب أنه يجب عليه، لأنه قد ألزمه بالكفارة وحنثه، فيجب عليه إخباره بما فعل.(84/27)
حكم تغطية الآنية في الليل
السؤال
حديث (غطوا الإناء وأوكوا السقاء، فإن في ليلة داء ينزل فيها فيدخل في الآنية المفتوحة) يقول السائل: لو أني نسيت إناء فيه ماء مفتوحاً في الليل، فهل يشرع لي أن أسكبه أم لا؟
الجواب
يقول الشيخ: من باب الاحتياط لو تركه للوضوء، أو لغسل الأواني، أو أراقه فلا حرج.(84/28)
حكم وضع اليدين عند القيام من الركوع على الصدر
السؤال
هل يضع المريض أو المصلي نفلاً يديه عند القيام بعد الرفع من الركوع وهو جالس؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: يضعها على صدره مثل الصحيح.(84/29)
حكم غسل الجمعة للمرأة
السؤال
غسل الجمعة هل هو مشروع للمرأة؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز: هو لمن أتى الجمعة؛ لأن الحديث يبين أن مشروعية غسل الجمعة لمن أتى الجمعة، وأما من كان مريضاً في بيته أو كانت امرأة، فإنه لا يشرع له هذا الغسل ولا يجب عليه، لأنه ليس ممن يأتون الجمعة.(84/30)
المرأة تصلي الفجر وتذكر الله إلى طلوع الشمس
السؤال
امرأة تسأل تقول: الذي يجلس يذكر الله في المسجد من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، ثم يصلي ركعتين بعد ارتفاع الشمس له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، فهل المرأة إذا صلت في بيتها، وجلست تذكر الله إلى طلوع الشمس في مصلاها، ثم صلت ركعتين، هل يحصل لها نفس الأجر؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: يرجى لها ذلك، وأما لفظ جماعة في الحديث: (من صلى الفجر في جماعة الحديث) فهي معذورة؛ لأنها ليست من أهل الجماعة.(84/31)
حكم صلاة الجماعة للمرأة
السؤال
هل يفضل للمرأة أن تصلي جماعة؟
الجواب
يقول الشيخ: ليس هناك دليل في الموضوع، وقصارى الأمر الجواز، أي: أنه لا يمكن أن يكون مستحباً أو واجباً؛ لأنهن لسن من أهل الجماعة، فالأفضل أن تصلي منفردة، ولكن يقول الشيخ: لو صلت جماعة فلا بأس، فقد يستفيد المصليات من إمامتهن أي: من المرأة التي تؤم إذا كان عندها علم.
أو قد يتعلمن كيفية الصلاة، والأمر واسع في هذا والحمد لله.(84/32)
حكم من يصلي في رمضان أو الجمعة فقط
يقول
السؤال
هل الذي لا يصلي إلا في رمضان فقط أو الجمعة فقط، هل هو مرتد؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: ليس هناك شك؛ لأنه ضيع الصلاة وتركها، ولا يخفى الحديث (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وإذا كان لا يصلي إلا الجمعة أو رمضان فقط، فهذا لا يصلي ولا يعتبر مصلياً.(84/33)
المدخن الملتحي أولى من الحليق غير المدخن بالإمامة
السؤال
اجتمع ملتحٍ مدخن وحليق لا يدخن، فمن أولى بالإمامة؟
الجواب
يقول الشيخ ابن باز: الأظهر أن الملتحي الذي يدخن أولى من الحليق الذي لا يدخن، لماذا؟ يقول: لأن الحليق معصيته ظاهرة، والمدخن معصيته خفية، وليس كل الناس يدرون عنه -المدخن- وقد يكون لها آثار تبيين -التدخين- وقد لا يكون لها آثار؛ بخلاف المجاهر و (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).
ومرة قلت هذه الفتوى في المسجد، فقال واحد من المصلين: -وهناك أناس عندهم حساسية عجيبة من هذه الأشياء، مع أننا إنما نريد أن ننصح ونبين- فواحد كان يحلق لحيته، فقال: انظر ذلك الإمام الذي قال الفتوى، كأنه يقول لي: أنت أنت الذي هناك لا تصل معنا، مع أن المسجد فيه كثير من غير الملتحين، ولكن هكذا يفهم الناس الأمور.
وهذا ليس صحيحاً فكلنا مقصرون، وبعض الناس مقصر أكثر من بعض، وبعض الناس مقصرون في جوانب، والبعض في جوانب أخرى، ويجب على الجميع استكمال التقصير، فالذي أخلاقه سيئة لابد أن يحسن أخلاقه، والذي ليس ملتحياً لابد أن يلتحي، والمسبل لابد أن يترك الإسبال، والكذاب لابد أن يترك الكذب، وهكذا لابد أن ننصح في الدين.(84/34)
حكم الزكاة في مؤخر الصداق
السؤال
هل تجب الزكاة في مؤخر الصداق غير المدفوع أم لا؟ بعض الناس يتزوج ويجعل المهر معجلاً ومؤخراً، يدفع المعجل ويبقى المؤخر، فهل تجب الزكاة في المؤخر؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: الظاهر أنه تجب فيه الزكاة إذا كان على مليء، أي: إذا كان الزوج غنياً، بحيث لو طلبته الآن لأعطاها إياه، أما إذا لم يكن لاحتاج أن يوفر من مرتبه في شهور حتى يجمعه لها؛ فليس عليها زكاة، والزكاة على الزوجة؛ لأنها هي صاحبة المال، فهنا لا تجب الزكاة إذا كان سيوفر لها من راتبه، حتى لو كانت حالته مستورة.
أما إذا كان معسراً أو مماطلاً، لو قالت له: أعطني وهو يوزعها على ستين طريق ولا يعطيها، فلا يجب عليها الزكاة في المهر حتى تقبضه.(84/35)
قصة عمر بن الخطاب ومنكر ونكير غير صحيحة
السؤال
ما صحة القصة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغ من شدته أنه لما مات بدلاً من أن يسأله منكر ونكير كان هو الذي سأل منكراً ونكيراً؟
الجواب
القصة واضحة البطلان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن من سؤال الملكين عمر ولا غيره، وأيضاً هذه قضية غيبية، فكيف تصلنا وخصوصاً أنه مات بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا مثال على المبالغات التي تكون عند بعض الناس، فبعض الناس من شدة إعجابهم بشخصية معينة، أو من حبهم لها يؤلفون عليها القصص، ويكذبون ويروجون هذه الإشاعات، صحيح أن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء، وأفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد أبي بكر رضي الله عنه، لكن ليس إلى هذه الدرجة، وهذه مشكلة الناس، فليس لديهم الميزان الصحيح في الكلام على الرجال، فتجد أن الكثير بين إفراط وتفريط، بين أن يرى فلاناً من الناس وينسى له كل جميل وكل فعل حسن، ولا يذكر إلا معايبه، فيكون مثل الذباب الذي لا يقع إلا على القاذورات، فلا يذكر إلا العيوب، وبعض الناس لا يذكر إلا الحسنات، وإذا جئت تبين خطأً في فلان أو في منهج فلان، قال: لا أقبل ولا أرضى، وهذا فوق مستوى الكلام، من هو يا أخي؟ أهو النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهذا ليس صحيحاً، فأنت لا تحتقر الناس وتنتقص قدرهم، وبنفس الوقت لا تقدسهم، فتجعلهم أعلى من مرتبة الكلام.(84/36)
أشياء لا تعد من العدل بين الزوجتين
السؤال
رجل عنده زوجتان إحداهما صغيرة السن والثانية كبيرة السن، والزوج يتعرض مع الزوجة الصغيرة للعب والمزاح بالحركات، بحيث لا يستطيع أن يعمل نفس الشيء مع الزوجة الكبيرة؛ لأن الكبيرة إذا مزح معها بنفس الحركات فإنها تعتبر حركات مخجلة ولا تستحسنها.
الجواب
جزى الله هذا السائل خيراً على أنه يحب العدل، لكن ليس من العدل الواجب الوصول إلى هذا المستوى، لأن إحداهما قد تكون جارية صغيرة في السن، فيمكن أن يمزح معها مزحات لو مزحها مع كبيرة في السن لاستهجنته، فليس المقصود بالعدل أن يكون مثلاً بمثل في كل شيء، والعدل هو أن تعطي لهذه نصيبها في حسن المعاشرة، وتلك نصيبها في حسن المعاشرة، فقد يكون نصيب إحداهما في حسن المعاشرة نوعاً من المزاح أو الحركات أو اللهو، وتلك نصيبها من المعاشرة التوقير والاحترام والتبجيل، فأعط كل واحدة ما يليق لها من حسن المعاشرة، وما يسعدها، وبهذا يتحقق العدل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن فقهوا في دين الله، وممن تعلموا شرع الله، ونسأل الله أن يغفر لنا ولكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(84/37)
أحكام المسابقات وأضواء على عاشوراء
أصل المسابقات مشروع في الإسلام، ولكن بشروط وأركان، وقد جدَّ اليوم ما جد من الحوادث، وتوسع الناس في المسابقات حتى دخلت في أمور هي محل نظر عند أهل العلم، وفي هذا الدرس تجد نبذة عن هذا الموضوع وما يحل منه وما يحرم ثم تجد حديثاً لطيفاً عن يوم عاشوراء وحكم صومه، وما أحدث فيه أهل البدع(85/1)
أقوال أهل العلم في السباق وبعض أحكامه
إن الحمد لله؛ نستعين به ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لما كثرت المسابقات وجوائزها، وانتشرت بين الناس؛ رأيت أن أنقل لكم طرفاً من أقوال أهل العلم في مسألة السباق وبعض أحكامه، والمسابقة وما جاء عنهم فيها من أحكام.(85/2)
حكم السباق والمسابقة
فأما السباق -أيها المسلمون- فإن الأصل فيه الجواز بالسنة والإجماع، أما السنة فروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (سابق بين الخيل المضمرة من الحيفاء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق) وهذه مسافة معلومة سابق فيها النبي صلى الله عليه وسلم -أي: أذن بالسباق فيها- والمسابقة سنة إذا كانت بقصد التأهب للقتال بإجماع العلماء ولقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وفسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي، وقد روى البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على قومٍ من أسلم ينتضلون فقال: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) ولخبر أنس رضي الله عنه وأرضاه: (كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء لا تسبق، فجاء أعرابيٌ على قعودٍ له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: سبقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) قال الزركشي رحمه الله: وينبغي أن تكون المسابقة والمناضلة فرض كفاية؛ لأنهما من وسائل الجهاد، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، والمسابقة في السهام آكد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا) وقال الترمذي -رحمه الله- حسنٌ صحيح، ومعناه أن السهام تنفع في السعة الضيق، بخلاف الفرس فإنه لا ينفع في مواضع الضيق؛ بل قد يضر، ولذلك يكره لمن تعلم الرمي أن يتركه كراهة شديدة، بل قد يكون حراماً لظاهر الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما إذا قُصدِتْ المسابقة لغير الجهاد، فالمسابقة حينئذ مباحة بالشروط الشرعية.
واعلموا رحمكم الله أن المسابقة تكون على جوائز وتكون على غيرها.(85/3)
من أحكام المسابقة
فأما المسابقة بغير جوائز كالمسابقة على الأقدام، وبالسفن والبغال والحمير، والمصارعة، ورفع الحجر ليعرف الأشد، والمسابقة على الأقدام قد وردت بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة؛ فمثل هذه المسابقات جائزة إذا كانت بغير جوائز، وبغير عوض كما ذكر ذلك الفقهاء رحمهم الله تعالى، أما المسابقات التي فيها إيذاءٌ للنفس، أو التي فيها فعل محرمات أو التي فيها لبس قصيرٍ وإظهار عورة، ودق طبولٍ ومزامير، وإضاعة للصلوات، فلا شك أنها حرام، سواء كانت بعوضٍ أو بغير عوض.
أما النوع الثاني من المسابقات: وهو المسابقة بعوضٍ وجوائز كغالب المسابقات اليوم؛ فلا شك أن جمهور الفقهاء ذهبوا إلى أنه لا يجوز السباق بعوض إلا في النصل والخف والحافر؛ لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر) أي: لا جائزة تجعل للسباق ولا عوض إلا في هذه الأشياء الثلاثة.
قال ابن قدامة -رحمه الله-: المراد بالنصل هنا السهم، وبالحافر الفرس، وبالخف البعير، فهذا المقصود به المسابقة بجوائز وعوض في كل ما يعين على الجهاد، وذهب بعض الفقهاء رحمهم الله، إلى إلحاق الرماح، والرمي بالأحجار بمقلاعٍ، والرمي بالمنجنيق ونحوه، والتردد بالسيوف والرماح، أن ذلك داخلٌ فيما يجوز بعوض؛ لأنه يعين في الجهاد.
وكذلك المسابقة في الرمي بالآلات الحديثة، جائزة بعوض قياساً على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الفقهاء رحمهم الله: ولا تصح المسابقة بعوضٍ على كرة الصولجان، وكان عندهم لعبة يركب فيها بعض الناس دوابَّ، ويقذفون بالكرة بعضهم إلى بعض، قال العلماء: لا تصح المسابقة بعوض -بجوائز- على كرة الصولجان، ولا على الشطرنج، ولا على الوقوف على رجلٍ واحدة ليُنظَر من الذي يصمد أكثر، ولا على معرفة ما في يده شفع أو وتر فإن قال: اعلم ما في يدي إذا كان خمساً أو ستاً أو سبعاً أو شفعاً أو وتراً ولك كذا فهذا لا يجوز، وكذلك سائر أنواع اللعب كالمسابقة على الأقدام؛ لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب؛ كاللعب بكرة الصولجان والشطرنج فإنه لا يجوز جعل الجوائز فيها؛ فضلاً عن كون بعضها محرماً عند كثيرٍ من أهل العلم.
ولا تصح المسابقة بعوضٍ على الكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش بلا خلافٍ بين أهل العلم، وذهب بعضهم إلى جواز جعل الجوائز على مسابقات الغطس لأنه يستعان به في الحرب.
فأنت ترى -رحمك الله تعالى- أنهم إنما أباحوا الجوائز على المسابقات التي فيها تدربٌ على الجهاد وإعدادٌ للعدة فيه؛ لأن هذه الأمة أمة جهاد، ولا يجوز لها ترك الجهاد، ولو تركت الجهاد ذلت؛ ولذلك حثت الشريعة على كل ما يعين على الجهاد، وأباحت الجوائز بالمسابقات على كل ما يعين على الجهاد، وأما غير ذلك فلا يجوز جعل الجوائز فيه على قول جمهور العلماء، وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم رحمه الله جعل الجوائز على مسابقات حزب القرآن الكريم والحديث، ونشر العلم والسنة، والدين والشريعة الإسلامية قياساً على إباحة الجوائز في مسابقات الجهاد؛ لأن ذلك مما يرفع شأن الدين ويقويه، أما جعل الجوائز على مسابقاتٍ لا علاقة لها بالعلوم الشرعية، ولا علاقة لها بالجهاد؛ فإن جمهور العلماء أخبروا على تحريم ذلك، وأن المال الذي يؤخذ منه حرامٌ لا يجوز.(85/4)
توسع الناس في العصر الحاضر في المسابقات التجارية
أيها المسلمون انظروا -رحمكم الله- فيما توسع فيه الناس اليوم في جعل الجوائز على المسابقات، وما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر) فهذا واضحٌ في جعل الجوائز لمسابقات الجهاد، أما غيرها مما لا يعين على الدين، فلا يجوز جعل الجوائز في المسابقة عليه، وحتى المسابقات التي فيها جوائز إنما تشرع وتجوز بشروطٍ ذكرها الفقهاء؛ منها تحديد المسافة، وتعيين أول المسافة، وتعيين الفرسين أو البعيرين، وكذلك أن يكون هناك من يعيّن بدايته ونهايته، وأن يكون فيها محللٌ لا يدفع من الجائزة شيئاً عند الجمهور.
وكذلك فإن لهم شروطاً في السباق في السهام؛ كأن يستوي عدد الرشق، وصفة الإصابة، ومعرفة قدر الغرض وهو الهدف الذي يرمى، ونحو ذلك من الأمور.
وكذلك فإن هذه المسابقات التي توسع فيها الناس اليوم في كثيرٍ من الأمور التي لا تخدم الجهاد، ولا تعين على نشر الدين؛ فإن كانت بغير عوض، وكانت المسابقة مباحة كالسباق على الأقدام وغيره فلا بأس به، أو من يرفع حجراً فلا بأس به إذا كان بغير جائزة، أما إذا كان في أمرٍ محرم كنطاح الكباش ومهارشة الديكة ونحو ذلك؛ فإنه حرام لا يجوز بعوضٍ ولا بغير عوض، فتأمل الآن حال هذه المسابقات التجارية التي يكتبون فيها عن اسم المنتج وصفته ولونه، والذي يحلها له جائزة، وعند جمهور أهل العلم أخذ الجوائز على هذه المسابقات لا يجوز لأنه مخالفٌ لحديث: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٍ أو حافر).
قارن الآن بين الحديث وكلام أهل العلم وبين التوسع الذي يحصل لتعلم -رحمك الله- أن القضية الآن لا تدور على الشريعة في كثيرٍ من الأمور، وإنما هي داخلة في تغريرٍ أو خداعٍ، أو دعاية رخيصة، أو إضاعة لأوقات الناس، أو إكساد لسلع التجار الآخرين ومنافسة غير شريفة ونحو ذلك.
وقد كثر الحرام في الأموال ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله عز وجل أن يحعلنا من الذين يدورون على الشريعة، وأن يجعلنا من المتمسكين بها الحريصين عليها, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.(85/5)
حكم صيام يوم عاشوراء
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين ورب الآخرين، أشهد أنه الحي القيوم، لا يموت والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: مناسبة عاشوراء في الأمة الإسلامية مناسبة عظيمة وشرعية، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس قال: (قدم رسول صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم) نحن أمة التوحيد وموسى من الموحدين، ونحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه؛ انتزع الفضيلة فلم يبقِ لهم فضيلة، وإظهاراً للمخالفة فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يومٍ قبله وقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وصار المستحب صيام تاسوعاء وعاشوراء.(85/6)
وجوب صيام عاشوراء قبل فرض رمضان
كان عاشوراء صياماً واجباً، فلما فرض رمضان قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عاشوراء يومٌ من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) لأنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فكان صياماً واجباً فرضاً، فلما فرض رمضان صار صيام عاشوراء مستحباً ونسخت فرضيته، وقال: (فمن شاء صامه ومن شاء تركه) رواه مسلم، ولما قال عليه الصلاة والسلام: (عاشوراء يومٌ من أيام الله) علمنا أنه شرفٌ عظيمٌ لهذا اليوم؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تدل على عظمة هذا الشيء، فلما قال: (يومٌ من أيام الله) دل ذلك على شرف هذا اليوم وعظمته، وفي الصحيحين عن الربيع بنت معوذ تروي لنا قصة جميلة، وتعرض لنا لوحة فذة مما كان عليه المجتمع الأول، حيث كانت العبادة في المجتمع الأول من الرأس إلى القاعدة، وكانت العبادة على جميع المستويات قالت: (فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم، ونذهب من المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن -الصوف- فإذا بكى أحدهم على الطعام -أي: بسبب الجوع- أعطيناه إياها حتى يكون عند الإفطار) يلهون الأولاد تصبراً لهم على الصيام، وفي رواية: (فإذا سألونا الصيام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم) رواه مسلم رحمه الله.
هذا اليوم العظيم الذي احتسب النبي صلى الله عليه وسلم على الله أن يكفر بصيامه السنة التي قبله، ولا يحتسب عليه الصلاة والسلام إلا على حق ووعدٍ أكيدٍ من الله عز وجل.(85/7)
استحباب صيام التاسع والعاشر من محرم
أيها المسلمون! صار الأفضل صيام تاسوعاء وعاشوراء، وإن صام عاشوراء ويوماً بعده صح أيضاً، وإن صام عاشوراء وحده جاز أيضاً.
وأما الذين صاموا الأربعاء والخميس فلا حرج عليهم في ذلك أبداً، ولو اكتشفوا أن عاشوراء الجمعة فإن صيامهم الأربعاء لا حرج عليهم فيه، كيف وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في صيامِ محرم، وأن أفضل شهرٍ يصام بعد رمضان محرم، فأي صيامٍ فيه شرعيٌ موافقٌ للشريعة، فهو مستحبٌ لأنه من محرم، فلا حرج عليك -أيها المسلم- إذا صمت الأربعاء، والخميس، وإن أضفت إليه الجمعة احتياطاً فهو أحسن وأحوط لإصابة عاشوراء، فإن من صام الخميس والجمعة أصاب عاشوراء قطعاً في هذه السنة، ولو صام الأربعاء لا حرج عليه ولو صارت ثلاثة أيام، وفي رواية الميموني عن الإمام أحمد قال: نصومهما -أي التاسع والعاشر- فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيامٍ احتياطاً، وابن سيرين يقول ذلك، وممن قال بصيامهما الشافعي وأحمد وإسحاق، وإذا جاءك حكم منهم فحسبك به!(85/8)
مسائل متفرقة في عاشوراء(85/9)
وجه مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود في يوم عاشوراء
لقد ظهر في هذا اليوم مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب؛ حيث كانت اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخذونه عيداً، وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك، وكانوا يكسون فيه الكعبة، وقد ورد شرعنا بخلاف ذلك، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: (كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموه أنتم)، وفي رواية لـ مسلم: (كان أهل خيبر يصومون عاشوراء ويتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم -والشارة: هي اللباس الحسن الجميل، والمظهر الحسن- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فصوموه أنتم) وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيداً، وعلى استحباب صيام أيام أعياد المشركين؛ لأن الصيام ينافي معنى العيد؛ لأن العيد فيه توسعٌ ومآكلٌ، والصيام فيه امتناعٌ عن الأكل والشرب؛ لذلك لا يجوز صيام عيد الفطر ولا الأضحى، ولا صيام الجمعة فقد ورد النهي عنه لأنه عيد المسلمين في الأسبوع.
لما كان اليهود يظهرون الفرحة فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه، وإن كانوا صاموه فقد خالفهم بصيام يومٍ قبله، فلا يبقى في الشريعة موافقة لأهل الكتاب بالكلية.(85/10)
حكم تخصيص عاشوراء بالتوسعة على العيال أو اتخاذه مأتماً
أما مسألة التوسعة على العيال فقد ورد فيه حديثٌ حكم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بالوضع وما أبعد، وقد سئل عن الحديث الإمام أحمد فقال: لا أراه شيئاً، فلا تقوم به حجة، وسع على عيالك سائر السنة ولا تخص عاشوراء بعيدياتٍ ولا بتوسعة.
قال ابن رجب رحمه الله في كتابه لطائف المعارف: وأما اتخاذه مأتماً -أي اتخاذ عاشوراء مأتماً- كما تفعل الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} [الكهف:103 - 106].
قال ابن رجب رحمه الله: ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم، كـ الحسين وغيره، لم يؤمر باتخاذ يوم أحد مأتماً وقد قتل فيه سبعون من المسلمين الأخيار الأبرار، ولا يوم بئر معونة الذي قتل فيه سبعون من القراء من حفظة كتاب الله من الصحابة، ولا في يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أهل الشرك فهم يفعلون المآتم، والله يريد أن يعذبهم في الدنيا بأيديهم قبل الآخرة، يعذبون أنفسهم بأيديهم ويصدون الناس عن دين الإسلام، ليأخذ الناس الفكرة السيئة عن دينهم وأصحابه وأهله، والكفرة مهرة في اقتناص مثل هذه الفرصة إعلامياً.(85/11)
دروس وعبر من يوم عاشوراء
أيها المسلمون! يوم عاشوراء يذكرنا بالتوبة إلى الله عز وجل، هذا يومٌ من أيام الله نجى الله فيه موسى وصامه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو موسم عبادة، قال بعض السلف: آدم أخرج من الجنة بذنبٍ واحد وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابدِ
ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
العجب ممن عرف ربه ثم عصاه، وعرف الشيطان ثم أطاعه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] نريد أن يكون هذا اليوم موسم انطلاقة في العبادة والطاعة والتوبة والاعتراف بالذنب؛ ربنا إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا وارحمنا، نريد أن يكون هذا اليوم تجديداً للعهد مع الله تعالى، وتجديد عقد التوبة مع الله -عز وجل- أيها المسلمون، لا نريد أن يكون منعطفاً أو انتكاسات.
تقول إحدى النساء: تزوجته وهو ملتزمٌ بالدين، في أول سنة صار يدخن، وفي السنة الثانية عكف على أهل السوء والفسق، وفي السنة الثالثة صار يشرب الخمر، وبعد ذلك ترك الصلاة بالكلية، إذا سافر لأهله أو جاءه ضيف قام يصلي مجاملة، فإذا ذهبوا ترك الصلاة.
وتقول الأم المسكينة: صبرت عليه وتعبت عليه، وعالجته وأدخلته المستشفى من المخدرات، ثم يخرج فيرجع إلى رفقاء السوء، ويقول: تبت وتبت وأقلعت كيف أصدقه؟! كيف يتوب وأنا أرى بين أغراضه إبر المخدرات وعليها أثر الدم، نريد أن يكون هذا اليوم توبة إلى الله، نريد أن نجعل هذا اليوم عودة إلى الله، نريد أن نجعله ذكراً لله تعالى.
وصلت إليكم معشر الأمة رسالة من أبيكم إبراهيم بعد وفاته، مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت يوم أسري بي إبراهيم فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة عذبة الماء، طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال الحسن رحمه الله: [الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان، يغرسون ويجنون، من قال سبحان الله غرسوا له نخلة، ومن بنى بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة، وربما أمسكوا وتوقفوا عن الغرس والبناء فيقال: لهم ما لكم توقفتم؟ فيقولون: حتى تأتينا النفقة، فهل نبني بغير نفقة ونغرس بغير نفقة، قال: فابعثوهم بأبي أنتم وأمي على العملبذكر الله تعالى، أرض الجنة اليوم قيعان والأعمال الصالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان].
رأى بعض الصالحين في منامه قائلاً يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك، واسمها دار السرور فأبشر، وقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها والفراغ منها إلى سبعة أيام، فلما كان بعد سبعة أيامٍ مات، فرئي في المنام فقال: أدخلت دار السرور وأنا في سرور، فلا تسأل عما فيها لم ير مثل الكريم إذا حل به المطيع.
ورأى بعضهم كأنه أدخل الجنة، وعرض عليه منازله وأجواده، فلما أراد أن يخرج تعلق به أزواجه، وقالوا له: بالله حسن عملك، فكلما حسنت عملك ازددنا نحن حسنا.
العاملون اليوم يسلفون رءوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، إلى أجل يومٍ مزيد في سوق الجنة، فعجلوا رحمكم الله بالأعمال، وقدموها أمامكم، وانتقلوا بخير ما بحضرتكم.
اللهم تب علينا، واغفر ذنبنا، واقضِ ديننا، واشفِ مريضنا، وارحم ميتنا، واهد ضالنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا، واجعلنا في بلدنا هذا آمنين مطمئنين، من أرادنا بسوءٍ فاكشف زيفه، واجعل شأنه في تباب وأمره إلى خراب، يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، انصر إخواننا الذين يقاتلون لإعلاء كلمتك يا رب العالمين.
وهاهم وقد اجتمع عليهم من الغرب والشرق، ولا ناصر إلا الله، ولا معين إلا هو سبحانه، وأنتم ترونهم في بلاد البوسنة وكشمير والشيشان لا منقذ لهم إلا الله، اللهم إنا نسألك أن تنصرهم على عدوهم، وأن تسدد رميتهم، وأن تجمع كلمتهم على التوحيد يا رب العالمين.
وهاهم قد اقتحموا المنطقة التي وقف عندها العسكريون النازيون الألمان في الحرب العالمية، وسموها بوابة موسكو قد اقتحمها المجاهدون المسلمون في بلاد البوسنة، وانتزعوها من أيدي الصرب، وقتل الله منهم أكثر من مائة، واختار الله الشهداء، نسأل الله أن يجعلهم كذلك، وأن يغفر لهم وأن يرفع درجتهم في عليين.
ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم الشهادة، وأن يجعلنا يوم الدين من الفائزين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(85/12)
أخبار عيسى في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم
إن الله ناصر دينه لا محالة، وقد هيأ الله لكل مجال رجاله وأهله، ومن ذلك النصر ما سيجعله الله على يد المهدي وعيسى بن مريم عليهما السلام.
وقد استعرض الشيخ في محاضرته شيئاً من مباركة الله على نبيه عيسى وأمه عليهما السلام، وعقيدة أهل السنة فيه، وكيف كان حرصه على تبليغ دعوة الله للعالمين، ثم ذكر النصر الذي سيجعله الله على يده من قتل المسيح الدجال وقيادة الأمة أمام خطر يأجوج ومأجوج إلى غير ذلك من الكرامات.(86/1)
ميلاد العبد الرسول ابن مريم البتول
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: لقد كان في القرآن الكريم ذكرٌ كثيرٌ لهذا النبي في عددٍ من السور، وفي عددٍ من المناسبات، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض -إن شاء الله- في هذه الليلة لطائفة من أخبار هذا النبي الكريم عيسى في أحاديث محمد عليهما الصلاة والسلام.(86/2)
دعوة جدة عيسى له ولأمه
لقد كانت بداية عيسى عليه السلام قديمة لما كانت جدته -أم مريم امرأة عمران - تدعو الله سبحانه وتعالى لمن في بطنها ولذريته أن يقيهم الله عز وجل من الشيطان الرجيم، فلما حملت امرأة عمران توجهت إلى الله سحبانه وتعالى بالدعاء قائلة: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:35 - 36].
فكانت دعوة الجدة لحفيدها ساريةً من ذلك الجيل إلى الجيل الذي بعده، وظهرت آثارها في مريم وفي ولدها عيسى، وصلاح الأجداد له علاقة بالأولاد كما قال الله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فلصلاح الأب حفظ الله مال ذريته، وكذلك بصلاح امرأة عمران حفظ الله بنتها وابن بنتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة: [واقرءوا إن شئتم ((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ))] لقد كانت تلك الدعوة الصالحة التي وقعت من تلك المرأة الكريمة فأثرت تأثيراً بالغاً، فما من بني آدم مولودٌ إلا يمسه الشيطان حين يولد غير مريم وابنها لم يستطع الشيطان أن يمسهما.(86/3)
فضل مريم بنت عمران
خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خطوط وكان أحد الخطوط يشير إلى مريم بنت عمران عليها رضوان الله، ثم قال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون) هذه الأم الطيبة، وتلك الجدة الطيبة جدة عيسى عليه السلام، ولم تكن أخت هارون -أي: شقيقة- أخو موسى، وقد حصل عند بعض الصحابة شيءٌ حول هذا فأزال النبي صلى الله عليه وسلم عنهم اللبس، فجاء حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران) والحديث في صحيح مسلم وكانوا نصارى والمغيرة ذهب ينقل إليهم رسالة من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نزلت فيهم آيات طويلة من سورة آل عمران فيها محاجة ومناقشة أهل الكتاب، فقال نصارى نجران مستشكلين للمغيرة: (أرأيت ما تقرءون: (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا) قال النصارى في نجران للمغيرة بن شعبة: أنتم تقرءون في كتابكم: (يا أخت هارون) وهي مريم عليها السلام، كيف تقولون: عن مريم أخت هارون وبين مريم وموسى وهارون كذا وكذا من آلاف السنين؟ قال: (فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم).
يعني: هذا كما يقول العامة عندنا " اسم على اسم" وكانت بنو إسرائيل يتسمون بأسماء الأنبياء تيمناً بالأنبياء، فيتسمون موسى وهارون كثيراً، ومريم أخوها هارون ليس هو هارون أخو موسى وإنما هارون آخر اسمه على اسم هارون النبي تيمناً به، فهذا هو زوال الإشكال، فمريم لما جاءت لقومها تحمل عيسى قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28].
أمها امرأة صالحة وهي زوجة عمران، فلما وضعت مريم ودعت لها أنجبت بعد ذلك عيسى عليه السلام، وكانت مريم بنت عمران امرأة كاملة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) رواه البخاري.(86/4)
حقيقة كون عيسى كلمة الله وروح الله
من مريم خرج عيسى عليه السلام بدون أب، أم صالحة وجدة صالحة: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} ولأن عيسى مخلوق بكلمة الله: (كن) سمي بـ (كلمة الله) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) رواه البخاري.
فإذاً: عيسى خلق بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك يسمى عيسى بـ (كلمة الله).
ولماذا يسمى روح الله؟ سمي بذلك من باب إضافة التشريف وإضافة المخلوق إلى الخالق، كما نقول: (ناقة الله، بيت الله) ولأن عيسى نفس منفوسة خلقها الله عز وجل بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك عيسى كلمة الله وروح الله.
وقد جاء في الحديث روح الله، فما معنى: وروحٌ منه؟ معناه: أن عيسى روحٌ من الله.
ومن هنا: من أين أتى عيسى؟ خلقه الله، فإذاً لما خلق الله لنا السماوات والأرض منه فهذا يعني أنها منه لا من غيره، وأنه هو الموجد، وكذلك عيسى روحٌ منه، يعني: أن الله عز وجل هو مصدر الإيجاد.
عيسى من أين خلق؟ خلقه الله عز وجل، فلذلك يسمى عيسى كلمة الله، وروح الله، وروحٌ من الله، وليست: (من) هنا للتبعيض، أي: أن عيسى جزء من الله تعالى الله عن ذلك.
والنصارى قد يدخلون هذه الشبهة ويحاجون بها، كما حصل في مجلس بعض الخلفاء: أن أحد النصارى قال له الخليفة: لماذا لا تسلم؟ قال: أنا مقتنع بالإسلام والقرآن، ولكن هناك آية التبست عليَّ، وأنا أرى أن فيها تأييداً لنا ولعقيدتنا نحن النصارى.
قالوا: ما هي؟ قال: إن عيسى عندكم في القرآن مكتوب عنه: " وروحٌ منه" فهو جزء من الله وهذا ما نحن نقوله: (ابن الله).
فالتفت الخليفة إلى من عنده من العلماء، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! إن الله يعلم أن هذا الرجل سيستشهد بهذه الآية، وسيأتي بهذه الآية ليستشكل، والأمر كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] فهل الأرض جزء من الله؟! و (منه) هي سؤال عن مصدر خلقها وإيجادها، وكذلك عيسى مصدر خلقه هو الله عز وجل، وكلمته لأنه مخلوق بكلمة (كن)؛ ولأنه حجة الله على عباده، وآية من آيات الله.(86/5)
كيفية حمل مريم بعيسى عليهما السلام
خلق الله بني آدم على أربعة أنواع: فمنهم من خلقه من أبٍ وأم كسائر البشر، ومنهم من خلقه بلا أبٍ ولا أم: وهو آدم، ومنهم من خلقه من أمٍ بدون أب: وهو عيسى، ومنهم من خلقهم من ذكرٍ بلا أنثى: وهي حواء.
فإذاً: كان عيسى نموذجاً فريداً في البشرية أن يخلق بغير أب، وليس المقصود بغير أب يعني بغير زوج أو بغير زواج شرعي أو لا يعرف من أبوه، لا.
فلا يوجد هناك ذَكر في الموضوع أصلاً؛ لذا قالت مريم: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:47] لا بالحلال ولا بالحرام، فجاء جبريل فتمثل لها في هيئة البشر، وكانت قد انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، قيل: أصابها الحيض فخرجت عن المسجد، حتى لا تقذر المسجد، والحائض لا تقرب المسجد، فانتبذت مريم مكاناً في شرقي المسجد، فأتاها جبريل على هيئة بشر، وكانت امرأة عفيفة فلما رأت أمامها رجلاً فزعت واستعاذت بالله منه: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] إن كنت تخاف الله ابتعد عني: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:19 - 20] لست بغياً ولا بذات زوج، فمن أين يأتي الولد؟! {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم:9] فماذا فعل جبريل؟ {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91] فالنفخة خرجت من جبريل، وأين نفخ؟ في جيب درعها -فتحة الفستان أو القميص عند الرقبة- فولجت النفخة إلى الرحم بقدرة الله فحملت، وهذا على الله يسير، فالذي خلق كل هذا الكون لا يعجزه أن يخلق إنساناً بغير أب، وهكذا خلقه من أنثى بغير ذكر، فهذا هو عيسى عليه السلام.
ولما استدعى النجاشي المسلمين الذين جاءوا إليه وسألهم ماذا تقولون في عيسى؟ قال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا؛ هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض -أي: أخذ منها عوداً- ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود.
وهذا من إيمان النجاشي، قال: ما وصفتم به عيسى هو الحق، وما تعديتم الحق، فتناخرت بطارقته حوله حينما قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، هذا النجاشي رحمه الله.(86/6)
حماية الله لعيسى من الشيطان بدعوة جدته
لقد ولد عيسى مبرأ بعيداً عن مس الشيطان، ولم يستطع أن يصل إليه بسوء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها عيسى عليهما السلام) وفي رواية: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة: [واقرءوا إن شئتم: ((وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) [آل عمران:36]].
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب) ما معنى هذا الحديث؟ الشيطان له أصبع كما هو ثابت في الحديث، كما أن له قرنان، والشمس تطلع بين قرني شيطان، وله لسان، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام خنقه في الصلاة حتى وجد برد لسانه على يده، وكل مولود يولد يتعرض له إبليس بالأذى، نكاية في بني آدم، فماذا يفعل الشيطان؟ يطعن في خاصرة كل مولود بأصبعه، فيصرخ الولد، لماذا؟ يقول الأطباء لا يوجد سبب للصراخ، لكن عندنا جواب في السنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا ويمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً) فإذا انطعن بأصبع إبليس يصرخ المولود من مس الشيطان، والاستثناء حصل على مريم وولدها لأن الأم الصالحة قالت في الدعاء: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] فأعاذ الله مريم وولدها من الشيطان الرجيم، وما طعن مريم ولا ولدها، وإنما ذهب يطعن فطعن في الحجاب، قال ابن حجر في فتح الباري: أي في المشيمة التي ولد فيها الولد، قال القرطبي رحمه الله: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط فحفظ الله مريم وابنها ببركة دعوة أمها حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى.
فإذاً: استهلال الولد صارخاً هو من نخسة الشيطان، فسبب صراخ الصبي أول ما يولد هو ما يجده من الألم من مس الشيطان إياه، والاستهلال هو: الصياح، وجعل الله تعالى دون الطعنة حجاباً فأصاب إبليس الحجاب ولم يصبهما، هذه البداية.
ولد عيسى عليه السلام مبرأ محفوظاً من الشيطان، ولم يستطع أن يتسلط عليه كما يتسلط على أطفال بني آدم، وحدثت المعجزة في ولادته من غير أب، ثم حدثت المعجزة التالية عندما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، وكان رضيعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر منهم: عيسى بن مريم) فجاءت به تحمله، واستنكر قومها عليها ذلك، من أين جاءت بولدٍ وليست بذات زوج وأسرتها أسرة طيبة كيف خرجت هذه المرأة هكذا؟!! فأشارت إليه فاستغربوا، فتكلم عيسى وقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:30 - 31].(86/7)
صفة عيسى وشمائله وفضائله
ما هي صفة عيسى عليه السلام؟(86/8)
صفة عيسى الجسدية
لقد جاء وصف عيسى عليه السلام في الأحاديث الصحيحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت ليلة أسري بي عيسى -فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال:- ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس).
وكذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعدٌ عريض الصدر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجلٌ آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رَجِلُ الشعر، يقطر رأسه ماءً، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح بن مريم).
وفي رواية: (بينما أنا أطوف في الكعبة فإذا رجلٍ آدم سبط الشعر، يهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء، أو يهراق رأسه ماء، فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم) هذا وصف عيسى عليه السلام، فما معنى هذه الأوصاف؟ أما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام عن عيسى: (إنه رجلٌ آدم) فإن المعنى أنه أبيض مشرب بحمرة.
وكذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (ربعة) يعني: مربوع؛ ليس بطويلٍ جداً ولا بقصير جداً.
وقوله: (كأنه خرج ديماس) الديماس يعني: الحمام الذي يغتسل فيه، والمراد بذلك وصف عيسى بصفاء اللون، فهو كمن يخرج من الحمام صافياً نقياً نظيفاً، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بنقاء اللون، ونضارة الجسم، وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في حمام فخرج منه ينطف رأسه ماء، وهذا يزيد في نضارة الوجه.
وكذلك فإن قوله عليه الصلاة والسلام في وصف عيسى: (إنه رجلٌ سبط) نعتٌ لشعر رأسه يعني: ليس بجعد الشعر، والرواية الأخرى فيها أن عيسى جعد، والجعود عكس السبوطة، فكيف يكون الجمع؟ قالوا: هذه الجعودة في الجسم وليست في الشعر، الشعر سبط ولكن الجعودة في جسمه، يعني: جسمه مجتمع مكتنز.
ومعنى: (لمته بين منكبيه) اللمة شعر الرأس، وقد جاوزت المنكبين وألمت به.
(رجل الشعر) قد سرحه ودهنه، وله (لمة تقطر ماءً) هذه صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام يطوف بالكعبة.(86/9)
نزول الإنجيل وحرص عيسى على التبليغ
متى أنزل الإنجيل على عيسى؟ قال عليه الصلاة والسلام: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة على موسى في ست خلون من رمضان، وأنزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل على عيسى في ثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان).
وكان عيسى عليه السلام حريصاً على تبليغ الدعوة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأن عيسى ابن مريم قال له: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، قال: إنك إن تسبقني بهن خشيت أعذب أو يخسف بي).
فإذاً عيسى كان حريصاً على التبليغ، ومعنى ذلك أنه معاصر ليحيى بن زكريا، قال ليحيى إذا كنت لا تريد أن تبلغ، فأنا سأبلغ، إما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فيحيى بن زكريا قال: أخشى أن أعذب، فجمع بني إسرائيل ووعظهم حتى امتلأ المسجد والشرفات إلى آخر القصة وهي قصة صحيحة.(86/10)
ذكر شيء من شمائل عيسى وفضائله
كان عيسى عليه السلام معظماً لله عز وجل، شديد الإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام: (رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق، فقال: له أسرقت؟ قال: كلا والذي لا إله إلا هو! فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني) أي: رضيت بالذي حلفت به وكذبت عيني.
عيسى عليه السلام رفع إلى السماء، ما مات ولم تقبض روحه بعد، رفع بجسده وروحه من الأرض إلى السماء، أين مكانه؟ قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج: (فأتينا السماء الثانية، فقيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا: مرحباً بك من أخٍ ونبي) فإذاً عيسى في السماء الثانية.
وأما فضل عيسى عليه السلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الحسن والحسين سيدا شباب الجنة إلا ابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا).
أما موقف عيسى عليه السلام من قومه يوم القيامة، فإنه سيتبرأ من المشركين والكفار، ويقول: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة:117].
وأما بالنسبة لعلم عيسى بأمر الساعة فإنه لا يعلم عن قيام الساعة، لأن علم الساعة من الغيب الذي اختص الله به، ولكن عيسى عليه السلام سيكون في آخر الساعة وشرطاً من أشراطها، وإنه لعَلَمٌ للساعة، وفي القراءة المعروفة: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] عيسى عليه السلام عِلْمٌ أو عَلَمٌ للساعة، فلذلك كان نزول عيسى ابن مريم شرطاً من أشراط الساعة الكبرى.
عيسى عليه السلام بشر بنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وقال عليه الصلاة والسلام: (وسأنبئكم بأول ذلك؛ دعوة إبراهيم وبشارة عيسى بي).
ونزول عيسى بن مريم سيكون في آخر الزمان، ونحن في آخر الزمان، والعهد قريب بيننا وبين عيسى، ولم يبق شيءٌ كثير.(86/11)
أحوال الناس قبل ومع نزول عيسى
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها، قال: (لا تقوم الساعة حتى يخرج كذابون ثلاثون آخرهم الأعور الدجال، ممسوح العين اليسرى، وإنه سيظهر على الأرض كلها غير الحرم وبيت المقدس، وإنه يسوق الناس إلى بيت المقدس فيحصرون حصراً شديداً.
إلى أن قال: فيصبح فيهم عيسى ابن مريم فيقتله وجنوده حتى إن الحجر أو جذم الحائط- أصل الحائط- لينادي: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي مستتر بي فتعال فاقتله) فإذاً عيسى عليه السلام نزوله من أشراط الساعة الكبرى.(86/12)
معركة مرج دابق
وعيسى عليه السلام سيكون نزوله موافقاً لخروج المهدي الذي يبعثه الله، وسيكون نزول عيسى بعد قتال المسلمين للنصارى، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق).
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان: الأعماق المراد به العمق، وهي ناحية كورة قرب دابق بين حلب وأنطاكية، أنطاكية في تركيا وحلب في سوريا ودابق: مكان معروف الآن، وهي قرية قرب حلب من أعمال عزاز بينها وبين حلب أربعة فراسخ.
الروم سينزلون في ذلك المكان قرب مدينة حلب في سوريا الآن، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، ناس كانوا مع الروم فالتحقوا بالمسلمين، أو أخذوا من الروم وأسلموا عند المسلمين، فالروم يقولون للمسلمين: أعطونا الذين أخذوا منا نقاتلهم نصفي بني جلدتنا أولاً، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا.
نعم هؤلاء أصلهم من الروم، لكن أسلموا وصاروا إخواننا، كيف نتركهم إليكم ونسلمهم إليكم؟ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه) لا يتخلى عنه ويتركه للأعداء.
قال: فيقول المسلمون: لا والله ما نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم- يعني من المسلمين- ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثٌ هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً.
ثلث جيش المسلمين الباقي لا يفتنون أبداً إذا صارت الموقعة عند مرج دابق بين حلب وأنطاكية، وسيتوجه المسلمون بعد كسر جيش النصارى إلى القسطنطينية فيفتحونها.
فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون -معنى ذلك أنه سيكون القتال بالسيوف- إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، والمسيح المقصود به هنا المسيح الدجال، فيخرجون، وذلك باطل فإنه لم يخرج الدجال بعد، ولكن الشيطان لا يريد أن يدع المسلمين يفرحون بالنصر، يريد أن ينغص عليهم، فيقوم المسلمون ويأخذون السلاح ويستنفرون بسرعة للقاء الدجال وحربه.
قال: فإذا جاءوا الشام يخرج الدجال حقيقةً وصدقاً، فبينما هم يعدون للقتال ويسوون الصفوف استعداداً للمعركة الفاصلة مع الدجال -لأنه قد تم القضاء على النصارى عسكرياً، وبقي الآن القضاء على اليهود وقائدهم الدجال- فينزل عيسى ابن مريم فإذا رآه عدو الله هرب، فإذا أدركه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله بيده، فيريهم دمه في حربته، فيكون إذاً قتل المسيح الدجال على يد المسيح ابن مريم، وينهي مسيح الهداية مسيح الضلالة ويقضي عليه.(86/13)
قتال عيسى للمسيح الدجال
وجاء تفصيلٌ أيضاً في حديثٍ آخر، قال صلى الله عليه وسلم في القتال الشديد الذي سيكون في آخر الزمان بين المسلمين والروم: (ومعهم فوارس، وإني لأعلم أسماءهم وألوان خيولهم) معهم خيول ومعهم سيوف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً) وهذا المهدي سيكون رفيق المسيح ابن مريم.
فالدجال يعلم بأن عيسى سينزل، ولذلك لما تقابل مع تميم الداري في الجزيرة التي في البحر، أخبرهم عن أشياء يعلمها وكيف سيخرج في الأرض.
فإذا خرج الدجال ومعه الفتن، انبعث له عيسى ابن مريم والمؤمنون، وهذا الانبعاث قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر خروج الدجال، قالت أم شريك يا رسول: فأين العرب يومئذٍ؟ قال: (العرب يومئذٍ قليل).
فإذاً: العرب سيقلون في آخر الزمان (ولا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس) والعرب قليل إمامهم رجلٌ صالح وهو المهدي عليه السلام من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح) هذه الصلاة المفسرة لما أجمل، فالمسلمون في حالة استنفار وتجميع وتسوية صفوف مع المهدي، وهو أمير الجيش وقائده، يستعدون لقتال الدجال، وحين يجتمعون لصلاة الصبح ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى حين يرى نزول عيسى، لكي يكون عيسى هو الإمام (فيضع عيسى عليه السلام يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقَدِّم فصلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم) وهذا كرامة من الله لهذه الأمة، أن واحداً من نسل النبي عليه الصلاة والسلام يصلي إماماً وعيسى وراءه، وعيسى نبي وهذا ليس بنبي، إكراماً من الله لهذه الأمة، قال: (فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب) فيفتحون على البلد الذي فيه الدجال واليهود معه: (فيفتح ووراءه الدجال ومعه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال، ذاب كما يذوب الملح في الماء) هذا الدجال الذي معه جنة ونار وبستان، ونهر خبز، ونهر لحم، وأنه يبعث في الأرض الحياة، ويأمر السماء تمطر فتمطر، ويأمر كنوز الأرض أن تتبعه فتتبعه، هذا هيّن على الله، ولذلك أول ما يرى عيسى يذوب، كل هذا الكلام يذهب وينطلق هارباً، فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله، فمكان قتل الدجال معين عند الباب الشرقي لمدينة اللد في أرض فلسطين المعروفة الآن، فيهزم الله اليهود ولا يبقى شيءٌ مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء.(86/14)
شكل الحياة بعد قتل المسيح الدجال
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً في عيسى ابن مريم بعد هذا: (فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير) لا توجد زكاة، وعيسى لا يرسل أحداً يجبي الزكاة، بل يترك الصدقة، والمتصدق الذي يجمع الزكاة لا يسعى على شاة ولا على بعير ولا على شيء، وترفع الشحناء والتباغض (وتنزع حمة كل ذات حمة) يعني: كل ذات سم ينزع سمها حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتكون الأرض كثاثور الفضة تنبت نباتها بعهد الله، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال وتكون الفرس بدريهمات.
هذه هي نهاية الدجال، وهذا هو عيسى عليه السلام وهو يقتل الدجال.
نزوله علمٌ للساعة قبل يوم القيامة عند المنارة البيضاء في دمشق، قال عليه الصلاة والسلام مشتاقاً للقيا عيسى وموصياً أمته من بعده ونحن منهم: (إني لأرجو إن طال عمرٌ أن ألقى عيسى ابن مريم، فإن عجل بي موتٌ فمن لقيه منكم، فليقرئه مني السلام) أي: من منا يدرك زمن عيسى فليبلغ عيسى السلام من النبي عليه الصلاة والسلام.
رواه الإمام أحمد.
هذا عيسى ابن مريم ينزل ويعيش في الأرض بعد قتل الدجال.(86/15)
أعمال عيسى في الأرض
قال: (ليهبطن عيسى ابن مريم حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً) الإنجازات التي تتحقق بنزول عيسى عديدة مجملة فيما يلي: أولاً: كسر الصليب، واستئصال عبادة النصرانية، والقضاء على دين النصارى قضاءً مبرماً، وليس فقط هزيمة عسكرية، بل حتى الدين نفسه يزول.
ثانياً: يقتل الخنزير، فيستأصل الخنازير.
ثالثاً: يقاتل الدجال وأعوانه من اليهود.
رابعاً: يقتل من بقي من اليهود حتى لا يجد أحدٌ منهم ملاذاً يتجه إليه، فيتم القضاء على اليهود.
خامساً: لا يقبل إلا دين الإسلام، وتكون الكلمة واحدة، ولا يعبد إلا الله وما يبقى دين كافر في الأرض إطلاقاً، فقط الإسلام هو الذي يبقى.
سادساً: مواجهة يأجوج ومأجوج بعد ذلك، وانتهاء حكم الجهاد في عصره، لأنه لا يوجد كفر ولا كفار في عصر عيسى، وبعد أن تنتهي العمليات الجهادية وتضع الحرب أوزارها والإسلام في الأرض لا يوجد جهاد.
سابعا: يؤم المسلمين بعد أن يصلي وراء إمام المسلمين، ويحج من فج الروحاء متجهاً إلى مكة، وسيدعو إلى القرآن والسنة، فينتهي الحقد في عهده، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد.
وتكون البركة في الثمار، وتزول العداوة حتى بين الإنسان والحيوان، وينتشر السلم في الأرض، فالسلام الذين يسمونه السلام العالمي لن يحقق إلا في عهد عيسى عليه السلام.
ولن يوجد فقيرٌ واحد، وستترك الزكاة، لأنه لا يوجد أحد يأخذ الزكاة أصلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى حكماً مقسطاً وإماماً عدلاً) وقال: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم من فج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما) فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليهلن) يعني: ليرفعن صوته بالتلبية قائلاً: لبيك اللهم لبيك محرماً بحجٍ أو عمرة (أو ليجمعن بين الحج والعمرة معاً) وفج الروحاء مكان في الطريق بين المدينة إلى بدر على بعد ستة أميال منها، وكذلك يصبح هو إمام الصلاة مع قيامه بأعباء الإمامة العظمى للمسلمين، ويموت المهدي عليه السلام بعد أن يمكث سبع سنوات، ويصلي عليه عيسى والمسلمون، ثم يكون عيسى في هذه الأمة هو الإمام، وهو الذي يقودها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب) وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مربوع إلى الحمرة والبياض، سبطٌ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين).
فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ويعم الأمان الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعاً، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً، فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
فإذاً ستكون النهاية بوفاة عيسى عليه السلام ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، كم سنة يمكث؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون).(86/16)
قيادة عيسى للمسلمين ضد يأجوج ومأجوج
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سيكون له إنجاز آخر في قيادة المسلمين ضد يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث النواس بن سمعان في حديث الدجال الطويل: (فبينما هم كذلك -يعني المسلمين- إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدَّر منه جمانٌ كاللؤلؤ، فلا يحل لكافرٍ يجد نَفَسَه إلا مات، ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه).
وحين ينزل عيسى فإن أي كافر على مرمى بصر عيسى يستنشق نفسه ويموت في مكانه، قال: (فلا يحل لكافرٍ يجد نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، ثم يأتي عيسى قوماً قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح من وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة) وهذا من علم الغيب، والله يوحي لعيسى بخبر فلان وفلان وفلان من المسلمين الذين هربوا من فتنة الدجال، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة.
انتهت قضية الدجال، ثم قال: (فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم) لا قدرة ولا استطاعة ولا قوة لأحد من البشر بقتال هؤلاء، وهم يأجوج ومأجوج، ما هي الأوامر الإلهية لعيسى؟ الاتجاه إلى أين؟ قال: (فاحرز عبادي إلى الطور) خذ المسلمين إلى جبل الطور وتحصنوا هناك.
(ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية، فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماءٌ، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه) لأنه من كثرة يأجوج ومأجوج ولا قدرة على قتالهم سيبقى عيسى مع المسلمين محاصرين في جبل الطور (حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليوم -ويصبح في شدة وجوع- فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله عليهم- يعني: على يأجوج ومأجوج- النغف- مثل الدود التي تكون في أنوف الغنم- في رقابهم فيصبحون فرسى (هلكى) كموت نفسٍ واحدة) موت شامل جماعي في وقت واحد كموت نفس واحدة.
(ثم إن المسلمين يقولون: من يعرف لنا الخبر؟) لأنهم محاصرون في الطور لا يعرفون ما الخبر، فيوطن أحد من المسلمين نفسه على أنه ميت، فيقول المسلمون: ألا رجلٌ يشري لنا نفسه، فينظر لنا ما فعل العدو، يعني: يضحي بنفسه: (فيتجرد رجلٌ منهم لذلك محتسباً لنفسه على أنه مقتول، فيخرج ليتحرى الخبر فيجدهم موتى- بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم، فيخرجون عن مدائنهم وحصونهم).
فيكون هناك حصون أو مستعمرات أو مدائن فيها المسلمون مع عيسى متحصنين في جبل الطور، فيخرجون عن مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبرٍ إلا ملأه زهمهم ونتنهم -من رائحة يأجوج ومأجوج وجثثهم المتعفنة- فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام إلى الله بالدعاء لتخليصهم من الكرب الموجود- فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتأخذهم فتطرحهم حيث شاء الله) طيور عظيمة يرسلها الله فتأخذ جثث يأجوج ومأجوج وترميها في البحر.
ثم يبقى في الأرض أوساخ، قال: (ثم يرسل الله مطراً لا يُكِنُّ منه بيت مدر ولا وبر) مطر يخترق جميع السقوف، لا توجد عوازل مائية تصمد أمامه (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة- مثل: المرآة- ثم يقال للأرض أنبتي ثمرك وردي بركتك).(86/17)
انتشار الخير مدة حكم عيسى عليه السلام
ينتهي النصارى واليهود والكفار ويأجوج ومأجوج ولا يبقى كافر على الأرض، إذاً الأرض لماذا تمنع البركة؟ (فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها) فالرمانة الواحدة يأكلها جماعة من الناس من كبرها، فالبركة التي في التوحيد تجعل في الأرض الثمار؛ فتكون عظيمة وكبيرة جداً جداً.
وعندما يكون عيسى في الأرض أربعين سنة عند ذلك لا يعبد إلا الله، والعصابة التي تكون معه من المسلمين يحرزها الله من النار، أي: يحرمون على النار، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله تعالى من النار، عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليه السلام) أخرجه النسائي والحديث إسناده صحيح، ويكون العيش في غاية الطيب، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعيشٍ بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت) لو رميت الحب على الصخور الصماء أنبتت (وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح، ولا تحاسد، ولا تباغض).
هذه ستكون النهاية بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام، ثم يموت حقيقة ويصلي عليه المسلمون، وبعد ذلك يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، وتخرج أجيال بعد ذلك لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، ويعم الكفر الأرض، وتقوم الساعة على شرار الناس.
وقد يرد هذا
السؤال
قال الله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] فكيف يقال: إنه لم يمت؟ للإجابة على هذا عدة مسالك منها: المسلك الأول: أن في الكلام تقديمٌ وتأخير والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك، ثم تنزل، ثم إني متوفيك.
المسلك الثاني: وهو قويٌ: أن (متوفيك) معناها قابضك وحائزك، فإن العرب تقول: توفيت ديني من فلان، يعني: قبضته وأخذته، فمتوفيك ليس معناها: أنزع روحك من جسدك، وإنما متوفيك أي: حائزك إليّ ورافعك وقابضك، وسآخذك إليَّ بروحك وجسدك، لأن توفى معناها أخذ، واستوفى الدين يعني: أخذ الدين.(86/18)
أربعون نصيحة لإصلاح البيوت
الأسرة هي وحدة بناء المجتمع، وإصلاحها هو المقصود الأول في هذه المحاضرة.
وقد مهّد الشيخ لنصائحه النفسية بكلام عن نعمة البيت والسكن، وواجب المرء تجاهها.
ثم بدأ بذكر نصائحه معلقاً عليها، وهي تتمحور حول المواضيع التالية: الطاعات داخل البيوت، والعلاقات والأخلاقيات وفيها، وكيفية إزالة المنكرات، وتربية الأطفال، ونصائح وأحكام أخرى(87/1)
نعمة البيوت وأهمية القيام بإصلاحها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة! موضوعنا في هذه الليلة "أربعون نصيحة لإصلاح البيوت" وهي وإن كانت ليست بالعدد، بل ربما تزيد على هذا قليلاً، ولكن المهم -أيها الإخوة- من وراء طرح هذا الموضوع هو الالتفاف ولفت الأنظار من قبل إخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات إلى بيوتهم وبيوتهن، ولعلكم تدركون معي جميعاً أهمية طرق هذا الموضوع ولا أدل على ذلك من حضوركم في هذه الليلة بهذا العدد لسماع هذا الموضوع.(87/2)
محاور الكلام في هذا الموضوع
وسنتحدث إن شاء الله في هذا الموضوع عن مقدمة في نعمة البيت، ثم نصائح في الطاعات في البيوت، ونصائح في العلاقات في البيت، ونصائح في أخلاقيات البيت، ونصائح عن الأطفال في البيت، ونصائح عن المنكرات في البيت، ونصائح تتعلق بأحكام البيوت، وأخرى تتعلق بسنن البيوت، ونختم بخاتمة عن اختيار البيت المناسب.
والكلام عن هذا الموضوع في شقين:- الشق الأول: جلب المصالح، والشق الثاني: درء المفاسد، وأنتم تعلمون أن طريقة الشريعة في علاج أي موضوع تكون بذكر أمرين: جلب المصالح ودرء المفاسد، ونستطيع أن نعبر بعبارة أخرى أن الكلام عن هذا الموضوع سيكون في الأمر بالمعروف وهو جلب للمصالح، والنهي عن المنكر وهو درء للمفاسد.(87/3)
كيفية إدراك هذه النعمة العظيمة
أما البيوت فإنها نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] قال ابن كثير رحمه الله: يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها، ويستقرون بها، وينتفعون بها من سائر وجوه الانتفاع.
وأنت تعلم أيها الأخ المسلم مدى نعمة الله عليك في البيت عندما تتذكر أكلك أين يكون، وراحتك أين تكون، ونكاحك لأهلك أين يكون، وخلوتك أين تكون، واجتماعك بأهلك وأولادك أين يكون.
وتأمل في أحوال الناس الذين لا بيوت لهم ممن يعيشون في الخيام، أو يفترشون أرصفة الطرقات كيف يكون وضعهم، وعندما تسمع وتتذكر من قصص الناس الذي لا بيوت لهم كما يقول أحدهم: إن ثيابي في سيارتي ولا مكان ثابت لي، فأنا أنتقل من بيت فلان، إلى حجرة فلان، إلى الفندق الفلاني لأنام فيه، وأحياناً أنام على رصيف الشارع عندما تتذكر هذه المسألة تعلم فعلاً بأن البيت نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل.
البيت مكان لستر المرأة، ولصيانتها، النساء بدون بيوت كيف تكون أوضاعهن؟ ولذلك قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولما انتقم الله من يهود بني النضير الذين كانوا بقرب المدينة قال الله عنهم: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] ثم قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] فالبيت أيها الإخوة مكانٌ يقضي فيه الناس كثيراً من أوقاتهم، خصوصاً في الحر الشديد، والبرد الشديد، والأمطار، وفي أول النهار وآخره، وأوقات الإجازة.(87/4)
علاقة صلاح البيت بصلاح المجتمع
الشاهد: أن إصلاح البيت مهم جداً؛ لأنه مأوى وملجأ ومكان استقرار يعيش فيه الإنسان جزءاً كبيراً من حياته، لذلك إذا صلح البيت وأهله، صلحت عيشة المسلم وحياته؛ لذلك لابد من التركيز على إصلاح البيوت.
مجتمعات المسلمين تتكون من عوائل يعيشون في بيوت، والبيوت تكون أحياء، والأحياء تكون مدناً، والمدن هي مجتمعات المسلمين، فإذا صلحت هذا اللبنة من اللبنات وصلحت اللبنات الأخرى صار المجتمع صالحاً.
يقول عليه الصلاة والسلام موصياً المسلم عند الفتنة وعندما يحدث منه شر أن يلجأ إلى بيته: (طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته) حديث حسن وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس من فعل واحدة منهن كان ضامناً على الله: من عاد مريضاً، أو خرج غازياً، أو دخل على إمامه يريد تعزيره -يعني: نصرته- وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس) أحياناً إذا خرج الشخص من البيت أساء، فإذا قعد في البيت ستر نفسه وكف شره عن الناس، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته).
والبيت مسئولية عظيمة يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؛ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) حديث حسن.
وهذه هي المسئولية التي لو استشعرناها جميعاً لاتجهنا فعلاً إلى إصلاح البيوت، ولتوجهت همتنا حقيقة إلى بعث الروح الإسلامية في بيوتنا.
بيوتنا أيها الإخوة تحوي منكرات كثيرة، وفيها تقصير كثير، وإهمال وتفريط، لذلك ينبغي أن تتجه الهمم خصوصاً في هذا الزمان لإعادة رسالة البيت المسلم إلى ما كانت عليه، لجعل هذا البيت عشاً يلجأ إليه المسلم، وكنفاً يطمئن في جنباته، يغلق بابه عليه فيعرف كيف يربي نفسه وأهله وأولاده.(87/5)
نصائح لتكوين البيت المسلم
ومن النصائح التي نبدأ بها: نصيحة لمن يريد أن يكوِّن البيت المسلم:-(87/6)
حسن اختيار الزوجة
أولاً: أن يحسن اختيار زوجته؛ فإن البيت يقوم على الزوج والزوجة، ومنهما ينبثق الأولاد، فإذا كان الزوج صالحاً وكانت الزوجة صالحة صار البيت صالحاً، ومظنة لخروج الأولاد الصالحين، وكثير من البيوت التي يكون فيها الزوج سيئاً أو الزوجة سيئة يكون البيت سيئاً؛ نكداً خبيثاً يخرج نباته خبيثاً كما أن مكوناته خبيثة.(87/7)
على الزوج أن يكون قدوة في الدين
نصيحة: ولابد أن يكون رب المنزل قدوة في الخير يتعلم منه أهل المنزل طاعة الله عز وجل، لابد أن يكون هذا الرجل صمام أمن في بيته، يدرأ عنه المفاسد، ويجلب إليه المصالح، قال الله عز وجل: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله).
نصيحة: لابد أن يحمل كل رجل مسلم زوجته على الالتزام بهذا الدين، لابد أن يجعلها تعيش حياة إسلامية، ويكون ذلك بأمور كثيرة ووسائل متعددة: من تعليمها وتربيتها ووعظها، وأن يجعلها تزار من أخوات صالحات، وتزور أخوات صالحات، ويهدي إليها الكتب النافعة، والأشرطة الجيدة، وأن يدرأ عنها المفاسد، ويراقب تصرفاتها، فإذا أوشكت أن تقع في حرام وعظها وجنبها إياه، وقد تكلمنا عن هذه المسألة في محاضرة بعنوان "قوا أنفسكم وأهليكم ناراً".(87/8)
أهمية جعل البيت مكان عبادة وذكر
نصيحة: اجعل البيت مكان عبادة، قال الله عز وجل عن موسى وبني إسرائيل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:87] قال ابن كثير رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إن العلماء ذكروا في تفسير قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] معنيين:- الأول عن ابن عباس: أمروا أن يتخذوا مساجد، أي يسجدون فيها، أي يصلون فيها، أي يعبدون الله فيها.
وعن إبراهيم معنى آخر قال: كانوا خائفين من فرعون، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم، لا يستطيعون أن يتجمعوا في المساجد مثلاً فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
قال ابن كثير: وكان هذا -والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] أمروا أن يجعلوا بيوتهم قبلة.
فجعلوا البيت مكاناً يصلى فيه، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي: لا تجعلوها خالية من العبادة كالمقبرة، والمقبرة لا يجوز الصلاة فيها إلا صلاة الجنازة على الميت بعد دفنه في القبر، وإلا فلا مصلى، ولا يصلى في المقابر البتة (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) أي: صلوا فيها.
نصيحة: لابد أن يجعل البيت بيتاً يذكر الله فيه بأنواع الذكر، سواءً كان ذكر القلب أو ذكر اللسان أو الصلوات أو قراءة القرآن في البيت، أو قراءة كتب العلم، ومدارسة أنواع العلم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) وكثير من بيوت المسلمين اليوم -حقيقةً- ميتة بمعنى الكلمة؛ لأنها مليئة بالمنكرات والمعاصي، والألحان، والكذب، والغيبة، والنميمة، والاختلاط، والتبرج بين الأقارب من غير المحارم، أو الجيران الذين يدخلون في البيوت، كثير من البيوت مليئة بالمنكرات على جدرانها، وفي أرصفها، وفي خزاناتها، وفي أنواع اللهو المعمول فيها، هذه البيوت كيف تدخلها الملائكة! البيت الذي يعج بالشياطين كيف تدخله الملائكة، البيت من هذا النوع كيف يمكن أن يكون مصدراً للإصلاح؟! إذاً النصيحة: (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) فأحيوا بيوتكم -رحمكم الله- بأنواع الذكر وأصنافه.(87/9)
احترام أوقات الصلوات
نصيحة: وينبغي أن يتعلم أهل البيت احترام أوقات الصلوات، احترام الأذان إذا أذن للصلاة كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه كان يكون في مهنة أهله فإذا أذن المؤذن خرج للصلاة) استعد للصلاة وخرج للصلاة، توقفت الأعمال كلها في البيت استعداداً لهذا الحدث العظيم والخطب الجسيم وهو الصلاة، هذه الصلوات الخمس ينبغي أن يكون لها وزن، ولآذانها وقع في بيوتنا نحن، ينبغي أن نتوقف عن الأعمال فعلاً لأداء الصلاة توقفاً حقيقياً يرضي الله عز وجل.
نصيحة: وأمر أهل البيت بالصلاة من شعائر هذا الدين، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] ومدح الله نبياً من أنبيائه فقال: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم:55] وقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) فأثبت أمر الأولاد غير البالغين بالصلاة، فما بالك بأمر البالغين وأمر الكبار بالصلاة، من النساء والأولاد الشباب في البيوت، وحتى أمر الولد أباه بالصلاة برفق وإحسان يدخل في هذا ولا شك.
وكثير من المسلمين اليوم ضيعوا ذرياتهم وأولادهم فلا يأمرون بصلاة، وربما يكون الأب صالحاً لكن صلاحه في نفسه، فيخرج هو للصلاة فقط ويذر أولاده نائمين أو لاهين، وزوجته في البيت تعمل لا يسألها مطلقاً ولا يذكرها هل صلت أم لا! أين هو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن الرجل سيوقف بين يدي الله سبحانه فيسأله عن أهل بيته، وعن مسئوليته فيهم؛ أحفظ ذلك أم ضيعه.(87/10)
أهمية الجماعة وأداء النوافل
نصيحة: واحرص على إقامة صلاة الجماعة في المسجد إن أمكن ذلك، فإن فاتتك الصلاة في المسجد لعذر؛ فاجمع أهلك في البيت وصل بهم، إن عدت من المسجد فأحببت أن تتنفل بهم فصل بهم مرة أخرى، واجمعهم أحياناً حتى تقام هذه الشريعة، ويتعلم هؤلاء منك كيفية الصلاة، يتعلمون الاطمئنان في الصلاة منك وأنت تصلي بهم، ويتعلمون قراءة القرآن في الصلاة منك وأنت تقرأ بهم، وتصحح كثيراً من الأخطاء في الصلاة إذا أنت أممتهم فصليت بهم، كما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى ببعض المسلمين في بيوتهم رجالاً ونساءً وأطفالاً، وعلمهم كيفية الصلاة.
نصيحة: اجعل النوافل من الصلوات في بيتك تنفيذاً لأمره عليه الصلاة والسلام: (إذا حضر أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً) أي أن هذه الصلاة هي سبب خير للبيت عموماً، لكن ما هي الصلوات التي تجعل في البيت؟ هي ما سوى الفرائض، لأن الفرائض للرجال مكانها في المسجد، قال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويقتدي أهل البيت عملياً بالرجل وهو يصلي في بيته.
نصيحة: وتجعل المرأة صلاتها كلها في بيتها، وكلما كانت داخل البيت كلما كان أفضل، قال صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في حجرتها) ولذلك كلما كانت أعمق في البيت وكانت أستر كانت صلاتها أفضل.(87/11)
كيفية التربية الإيمانية
ولابد -أيها الإخوة- أن نتكلم عن التربية الإيمانية لأهل البيت لأننا مسئولون عنهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] كيف تكون التربية الإيمانية؟ إليكم هذا المثال:(87/12)
حث الأهل على الصلاة في الليل بالتي هي أحسن
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: (قومي فأوتري يا عائشة) رواه مسلم في صحيحه فكان يصلي في الليل ويوقظ عائشة يقول: (قومي فأوتري) فلابد أن تتربى الزوجة كما يتربى الزوج على هذه النواحي، وقال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل، فصلى فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل، فصلت فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) فلابد من الاعتناء بالصلاة، والمحافظة على الوقت والكيفية والخشوع.
وكذلك فإن بعض الزوجات إذا رأت زوجها نائماً بعد رجوعه من العمل وحان وقت صلاة العصر، تقول في نفسها مما يوحي إليها الشيطان: اتركيه لينام ويرتاح، فإنه عائد الآن من العمل وهو متعب؛ فتتركه فتضيع عليه صلاة الجماعة في المسجد، وهذا لا يجوز، فلابد لها من إيقاظه؛ لأنه أمر بالمعروف، وهذا المعروف واجب وهو الصلاة في المسجد للرجل.
وكذلك فإن بعض الرجال قد يذهب لصلاة الفجر في المسجد، فيترك زوجته نائمة، ويجلس في المسجد فلا يعود لإيقاظها، لا هو يوقظها قبل أن يذهب ولا بعد أن يعود قبل خروج الوقت، فيرجع إلى البيت وتكون زوجته نائمة والشمس قد أشرقت.
وبعض الناس أيضاً مستعد أن يوقظ ولده مبكراً في موسم الامتحانات، يعتني بإيقاظه للمدرسة ولا يعتني بإيقاظه للصلاة ويقول: مسكين! دعه ينام، وتقول الأم: هذا ولدي أرحمه فأتركه، ويضيع الصلوات.
أي رحمة هذه؟ الرحمة الحقيقية أن يؤمروا جميعاً بالصلاة، ومن التربية الإيمانية لأهل البيت الصيام والتواصي به.
نصيحة: أن يهتم الرجل بزوجته في العبادات، فمثلاً: يأمرها بالصلاة لأوقاتها، يعلمها كيفية الصلاة، ويتواصى معها في الصيام، ويوصيها بسرعة القضاء، ويتابعها في ذلك؛ فإن كثيراً من الزوجات يدركهن رمضان الجديد وعليهن أيام من رمضان الماضي، مع أنه لا يجوز تأخير قضاء رمضان الماضي حتى يدخل رمضان الجديد دون عذر، وهذه مسئولية مشتركة مع الزوج؛ لابد أن يذكر زوجته بالقضاء.
وفي شهر رمضان لا يجعل البيت مطبخاً لجميع أنواع الأكل والشراب، لابد من الاقتصاد في الطعام وعدم التبذير، الطبخ الجيد نعمة، لكن لا تبذير ولا إسراف، ونحن قادمون على شهر نسأل الله أن يبلغناه جميعاً، فلنتواصى بهذه المسألة ألا يكون بيتنا في رمضان معرضاً للمطعومات والمشروبات، وإنما يكون خلية ذكر، ومكان عبادة يتجلى فيه أثر هذا الصيام.(87/13)
حث أهل البيت على الزكاة والصدقات
ويتابع أهله بالزكاة من مالها وحليها ويحثها على الصدقة، ويقول لها: (يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) هذا حديثه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن لها مال فيعطيها من ماله الخاص مصروفاً لها لتتمكن من الصدقة إذا حثها على الصدقة، ولك الأجر أنت أيضاً إذا أعطيتها هذا المال، وهي مأجورة أيضاً؛ لأنها تملك المال بالهبة وهي تتصدق منه.
والعناية بالأذكار وحفظها، والعناية بمواسم العبادات كالعشر الأواخر والحج والعمرة، وأن تحثها على جلسات الخير مع صويحباتها.
نصيحة: ومن إصلاح البيت حث أهله جميعاً؛ كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً على الصدقة، وقد اقترح بعض الأخيار أن يوضع صندوق لجمع الصدقات في البيت خصوصاً إذا كان أهل البيت كثيراً عددهم، ثم يتولى واحد إيصال هذه التبرعات لأهلها، وإيصال هذه الصدقات لمستحقيها.(87/14)
نشر العلم الشرعي في البيت بطرق مختلفة
نصيحة: ولابد من تعليم العلم الشرعي لأهل البيت، والحرص على ذلك ما أمكن، ولذلك قال المفسرون في قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] قالوا: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه.
وقال علي: علموهم وأدبوهم.
وقال الكيا الهراسي الطبري رحمه الله: فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب.
ولأجل ذلك لابد من سلوك الوسائل لهذا التعليم، قال البخاري رحمه الله: باب تعليم الرجل أمته وأهله، ثم أتى بحديثه عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لهم أجران: فذكر منهم: ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر في شرح الحديث: مطابقة الحديث للترجمة للأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، وإذا كان تعليم الأمة حث عليه الشرع وهي أمة فما بالك بالحرة من أهل بيتك، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في التعليم من فضائل الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء، ومن هذا تخصيص يوم لتعليم أهل البيت.
نصيحة: قال البخاري رحمه الله: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة؟ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك.
فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن -طبعاً وهن متحجبات أو من وراء حجاب-) وفي رواية لـ سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة (فقال صلى الله عليه وسلم: موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن).
فإذاً -أيها الإخوة- لنجعل لأهلينا مواعيد معينة نعلمهن فيها آيات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنا أوصيكم بأن تجعلوا في هذه الحلق تفسيراً وحديثاً وفقهاً، وأقترح عليكم ثلاثة كتب تجعلوها مناهجاً لتدريس النساء والأهل في البيت: فأولها: تفسير مبسط سهل، ميسر وشامل، وهو تفسير الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمة الله عليه تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.
وثانياً: كتاب رياض الصالحين لما يشتمل عليه من الأحكام والآداب وأبواب أعمال القلوب المختلفة.
وثالثاً: كتاب عظيم صنفه العلامة صديق حسن خان رحمة الله عليه من علماء البلاد الهندية هذا الكتاب اسمه حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة كتاب عظيم جامع، تنتقي منه أبواباً تقرأ منه على أهل بيتك، أوصيكم بهذا الكتاب فإنه كتاب عظيم في شأن وأمر النسوة.
ولابد أن تعلم النساء في البيوت أحكام الطهارة والدماء والصلاة وأحكام الأطعمة والأشربة، سنن الفطرة، من هم المحارم، من الذين تكشف أمامهم، ومن الذين لا تكشف عليهم، وأحكام اللباس والزينة؛ لأنها تتعرض كثيراً لأحكام الأطعمة والأشربة واللباس والزينة.
وكذلك تعلم الأحكام في كثير من المنكرات: حكم الغناء حكم التصاوير وهكذا.
نصيحة: ومن هذه السبل: تذكير الأهل بالدروس والمحاضرات العامة، ومعارض الكتب التي تخصص فيها أيام للنساء.
نصيحة: ومن السبل لتعليم أهل البيت لإصلاح الأوضاع في البيت: جعل مكتبة إسلامية في البيت، وهذه قضية مهمة، ومسألة عظيمة، تخصيص ركن في البيت، في مجلس عام منه، مثل المجلس الذي يجتمع فيه أهل الدار، توضع فيه مكتبة بمظهر جذاب وأنيق، توضع فيها الكتب المناسبة والملائمة لمختلف المستويات، كتب تصلح للكبار، وكتيبات للصغار، وكتب للرجال وأخرى للنساء، وكتب للإهداء، حتى لو زارك ضيف تهديه بعضاً من هذه الكتب، وتفيد الأولاد في المدارس، وفي قراءتهم الخاصة، وتستغل معارض الكتب لإنشاء هذه المكتبات البيتية، أو توضع غرفة قراءة في البيت إن أمكن، وتوضع بعض الكتب في غرفة النوم؛ لأن بعض الناس قد يستغلون أوقاتهم قبل النوم في قراءة بعض الكتب، وكثير من العقلاء ينهي كتباً بأكملها من جراء ما يقرأ يومياً قبل أن ينام ولو ربع ساعة، فيتجمع عنده علم طيب من وراء استغلال الأوقات.
ويدرب أولادنا على ترتيب هذه المكتبة وعدم رمي الكتب وإلقائها، والحرص عليها، وتكون هذه الكتب جذابة في طباعة نظيفة حتى تكون النفس مقبلة على قراءتها هذه الكتب سبق أن ذكرنا بعضاً مما ينبغي أن يكون موجوداً في مكتبة البيت المسلم، في محاضرة بعنوان "شكاوي وحلول".
نصيحة: إدخال الأشرطة الإسلامية للبيوت -في كل بيت مسجل ولا شك- وبعض المسجلات بأنواع رهيبة من سعتها وقوة مكبراتها، فبما أنه يوجد في البيت مسجلات فلابد أن يوجد في البيت أشرطة إسلامية، وهذا الفراغ في المسجل إذا ما ملأته بشريط نافع سيملأ من ورائك بشريط خبيث، وهذه الأغاني التي تلعلع في بيوتنا وأصوات الشيطان وألحانه من وسائل إفساد البيوت لابد من إيجاد البدائل الإسلامية لهذه الأشياء، أشرطة القرآن المسجلة بأصوات خاشعة مثل ما يقرأ في صلاة التراويح من أصوات بعض الأئمة، فإن صوت القارئ في الصلاة بالقرآن أخشع من قراءته خارج الصلاة.
وأشرطة فتاوى العلماء أيضاً لابد أن يحرص على إيجادها في البيت، مثل فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وفتاوى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، وفتاوى الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين وغيرهم من العلماء، وبدلاً من أن تدار إبرة الراديو -المذياع- على الإذاعات السيئة التي تلقي إلى أسماع أولادنا وأهلينا بالسموم، فإن المقترح أن تجعل إبرة المذياع مثبتة على إذاعة القرآن الكريم مثلاً حتى يستمع أهل البيت للأشياء النافعة.
الحرص على الأشرطة الموثقة التي يهتم المحاضر فيها بتوضيح العقيدة السليمة، وصحة الأحاديث، وعرض المنهج الصحيح والوعظ السليم بالطريقة السليمة، وتبيين الأحكام، والأشرطة التي تعالج الموضوعات الاجتماعية، وقد كثرت والحمد لله، ولكن عليكم بالانتقاء فإنها الآن قد كثرت، وليست كلها تصلح للاستماع أو قل: إن سماع بعضها اشتغال بالمفضول عن الفاضل؛ ولذلك فاجعل هذه الأشرطة مثار انتباه لأولادك، والأولاد يقبلون على السماع ولا شك، ويحفظون من الأشرطة أشياء عجيبة، طفلك ذاكرته خالية يحفظ أشياء عجيبة، فاحفظ هذه الأشرطة لهم، واجعلها مصونة لا تكسر وتصبح ملعباً للأولاد.
وتوضع لربات البيوت في المطبخ -مثلاً- مسجل وأشرطة تستمع لها، أو عند النوم كما يحلو لبعضهم أن يفعل.(87/15)
دعوة الصالحين من الدعاة والعلماء إلى البيت
نصيحة: احرص على دعوة الصالحين للبيت؛ من طلبة العلم والأخيار والدعاة إلى الله عز وجل الذين تعمر بهم المجالس، وتثار بحضرتهم النقاشات المفيدة والنافعة، إذ أن بحضورهم يجلس الأولاد والكبار، بل إن بعض الآباء إذا دعا ولده شيخاً أو طالب علم أو خيراً من الأخيار أو داعية جلس الأب، وصارت فرصة للأب أن يجلس مع هذا الرجل، ويأخذ عنه أموراً كان غافلاً عنها أو جاهلاً بها، ويستمع النساء من وراء الحجاب لما يقوله هذا الشخص في المجلس، وإن لم يمكن فإن على هذا المسئول عن البيت أن يلخص لأهله ما قاله هذا الرجل الخير في مجلسهم بعد ذهابه، ويقول لهم: إن فلاناً عندنا فهل لديكم أسئلة تريدون معرفة إجابتها؟ إن دعوة الأخيار إلى البيوت زيادة على ما فيها من الفائدة؛ فإن فيها إشغالاً للمجالس عن أهل السوء، قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].(87/16)
تجنيب البيت دخول أهل السوء
نصيحة: إياك وإدخال أهل السوء إلى البيت، لا يجوز إدخال الفسقة الفجرة الذين ينقلون السموم سواءً كانوا رجالاً أو نساءً إلى البيت، ولا يجوز للمرأة أن تدخل إلى بيت زوجها من لا يرضى زوجها أن يدخل.
كثير من البيوت تحطمت بسبب دخول عناصر مفسدة إلى البيت، كثير من العلاقات الزوجية شابتها ظلمات من النكد والمشكلات بسبب دخول بعض الجارات من صاحبات النميمة والغيبة إلى البيوت، وكثير من الرجال أهملوا بيوتهم، وفسقوا وعصوا ربهم، وضيعت عوائل بسبب جلساء السوء الذين يدخلون إلى المجلس وتشرب فيه المنكرات، ويلعب فيه باللعب المحرمة التي أقل ما يقال فيها أنها تضيع الأوقات.
وبعض البيوت حصلت فيها سرقات، وبعضها حصل فيها وضع للسحر الذي يفرق به بين المرء وزوجه، من دخول هذه العناصر المشبوهة إلى البيت، ولو كان أقرب قريب، إياكَ وصديق السوء، إياكِ وجارة السوء.
بعض الناس يسكتون تحت الإحراج فيسمحون لمن هب ودب بالدخول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر النساء يوم خطبة عرفة: (يا أيها الناس أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ أي يوم أحرم؟ قالوا: يوم الحج الأكبر.
قال -من خطبته فيهم-: فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن).
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبخاري: (أخرجوا المخنثين من بيوتكم) وهذا المخنث الذي ليس برجل ولا امرأة يحدث فيه تساهل من الدخول على النساء، ويصف النساء اللاتي في البيوت للرجال الأجانب، ولذلك هين المخنث الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فتح الله عليك الطائف فإن عليك بابنة فلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان -يعني عكن البطن- هذا بعده مباشرة عليه الصلاة والسلام أخرجه من بيته، ومنعه من دخول بيته، لأن معنى ذلك: أنه كما وصف بنات الناس سيصف نساءه يوماً من الأيام؛ فلذلك لا يدخل هؤلاء في البيوت.(87/17)
نصائح في العلاقات الاجتماعية
وأما بالنسبة للعلاقات الاجتماعية نصيحة: أيها الولي في البيت، أيها القائم بأمر البيت عليك بدقة الملاحظة لأحوال أهل بيتك، عليك بملاحظة من يتصل بأولادك، من يعاشر نساءك، التعرف على أصدقاء الأولاد، ماذا يجلب للأولاد معهم من خارج البيت، ماذا يوجد في أدراجهم وتحت وساداتهم وتحت فرشهم وأسرتهم؟ إلى أين تذهب ابنتك ومن تزور؟ أليس يحدث أنها تزور أحياناً بعض الفاسقات يعلمنها من المحرمات شيئاً عظيماً؟ وبعض الأولاد يحضرون إلى البيوت الصور والأفلام الخليعة والدخان، وبعضهم يدخل الحبوب والمخدرات إلى بيته والعياذ بالله، والأب نائم يغط في غفلة عظيمة، أتينا من وراء عدم الانتباه إلى ما يدخل البيوت؛ مجلات مفسدة وأفلام تدخل البيوت من غير رقابة من ولي الأمر في البيت، إذا كان أبوك مهملاً أنت أيها الولد الصالح كن رقيباً على البيت.(87/18)
فن مراقبة الأبناء وجلسات المصارحة
ولكن ننبه أيها الإخوة إلى قضية تربوية وهي أن المراقبة يجب ألا تكون بطريقة إرهابية كما يفعل البعض، بل إن المراقبة الناجحة هي التي تتم دون شعور الأولاد، هم يشعرون أنك حازم، أنك تتابع الأمور، لكن لا تجعل الجو في البيت إرهابياً، فتقوم بتفتيش مفاجئ وهم في البيت، وتعمل أشياء تشبه ما يحدث في الأفلام البوليسية، ولكن عليك بأن تنصح، أو تعاقب إذا لزم الأمر، وتعظ بدون أن يكون هناك سلبيات في هذه المراقبة والملاحظة.
وأذكر لكم قصة رجل كان عنده شيء زائد من هذا التدقيق فأدى إلى كرهٍ له من قبل أولاده، كان لديه في البيت كمبيوتر، ووصل به الأمر إلى أنه يخزن في هذا الكمبيوتر أخطاء أولاده، وإذا حصل شيء من أحد أبنائه: استدعاه بمذكرة، وفتح الجهاز وفتح الصفحة والخانة قال: أنت عملت كذا وكذا وأنت عملت كذا وكذا، وسجل هذه الجديدة مثل هذه الطرق التي لا تحدث في كبريات الشركات، ينبغي ألا تكون أيضاً من السلبيات التي تحدث في مراقبة بعض الآباء والأولياء لتصرفات أبنائهم، بل تكون مراقبة عن بعد، وإذا حدث شيء أو شعرت بشيء يمكن أن تبحث خفية، ثم تعظ وتنصح وتوجه، وتعاقب إذا لزم الأمر ذلك.
نصيحة: عليك بالاهتمام بالجلسات الفردية، جلسات المصارحة بينك وبين أولادك أو زوجتك، أو بين الأم وبناتها وأولادها، جلسات المصارحة التي تقول فيها للولد أشياء كثيرة، جلسات المصارحة التي يحس الولد من خلالها أنك تحبه، أنك تحرص على مصلحته، أنك تريد الخير له، وتكون بمعزل عن بقية الناس، لا يكون فيها تشهير، ولا تحطيم لمعنوياته وشخصيته.(87/19)
أهمية تنظيم شئون البيت
نصيحة: الحزم في تنظيم أوقات أهل البيت، وبعض الناس بيوتهم مثل المطاعم والفنادق؛ متى ما جاء فلان أكل، ومتى ما شاء فلان دخل، ومتى ما شاء فلان نام، ومتى ما شاء فلان استيقظ، وترى الأولاد يضيعون أوقاتهم في السهر، وفي أشياء ضارة من إدخال الطعام على الطعام؛ ولذلك لابد من الحزم في تنظيم الأوقات لأهل البيت، وليس هناك شيء اسمه التأخر عن البيت في غير طاعة الله عز وجل.
نصيحة: احرص على جعل أوقات تناقش فيها الأمور والمشكلات العائلية، وليس المقصود عمل اجتماعات عمل كما يقع في بعض الشركات، وإنما المقصود اختيار الوقت المناسب عند اجتماع الأهل والأولاد في البيت مثلاً فتناقش فيها مثلاً قضية عمرة رمضان، أو قضية الحج، أو سفر الإجازة، أو زيارة أقرباء لكم، أو زيارتكم لهم، أو تنظيم عرس، أو وليمة، أو عقيقة، أو مساعدة الجيران أو الفقراء في الحي؛ مشاريع خيرية، إرسال الطعام، مناقشة أوضاع العائلة وتطويرها، والإسهامات في حل مشكلاتها، إذا كانوا لا يرون بعضهم كثيراً، لابد أن تناقش المشكلة لننظر كيف يرون بعضهم.
أيها الإخوة بعض البيوت فعلاً مثل الفنادق، كل واحد له غرفة بمفتاح وانتهت القضية، لا يرون بعضهم ولا يجتمعون مع بعضهم، تقطعت بهم الأسباب، ولابد أن يحاول ولي الأمر في بيته استشارة وأخذ رأي أهل البيت، خصوصاً في الأمور المهمة كنقل البيت مثلاً، فلا يفاجئون بقرار مفاجئ بنقل البيت دون أن تؤخذ آراؤهم في مثل هذه القضايا.
ولا بد أن تكون روح الجماعية مسيطرة على البيت، لا روح الاستبداد والأحكام التعسفية.(87/20)
عدم إظهار الخلافات مع الزوجة أمام الأبناء
نصيحة: إذا حصل بينك وبين زوجتك خلافات فاحرص على ألا تظهر أمام الأولاد، وكثير من العقد النفسية تنشأ في أنفس الأطفال من كثرة ما يشاهدون من الخصومات بين آبائهم وأمهاتهم.
لو أردت أن تثور فتجنبه أمام ولدك، طبعاً قد يكون مثالياً لكن لابد أن نحرص عليه، والجميع عرضة للخطأ، لكن لا بد أن نتواصى فيما بيننا على تلافي هذه القضية، ولابد من الحرص على تماسك البيت وسلامة البناء الداخلي، وما أعظم الجريمة التي تحدث أحياناً أن يقول الوالد لابنه: لا تكلم أمك! وتقول الأم لابنها: لا تكلم أباك!(87/21)
ضوابط عمل المرأة خارج البيت
نصيحة: لابد من دراسة وضع عمل المرأة خارج البيت، وتأثير عمل المرأة على البيت، ويتنازع الناس في هذه المسألة عادة أمران سلبياته وإيجابياته.
تجد الواحد بين سلبيات عمل المرأة خارج البيت وإيجابيات عمل المرأة خارج البيت، فمثلاً بعضهم يقول: عمل زوجتي خارج البيت مهم؛ لأنها تعبت على الشهادة ودرست، وخسارة أنها ترمي هذه الشهادة وتضيعها، وبعضهم يقول: تساعدني في البيت، قد يكون الزوج قليل ذات اليد، قد يكون هذا سبباً وجيهاً فعلاً لعمل المرأة، أو أن تساعد أهلها إن كانوا ضعفاء، أو أن تسلي على نفسها إن كانت غير ذات ولد، أو يكون لديها هدف كالدعوة إلى الله مثلما يقع من بعض المدرسات الفاضلات.
ولهذه المسألة أيضاً جوانب سلبية: كعدم إعطاء الزوج حقه، وإهمال البيت، والتقصير في حق الأولاد، بالإضافة إلى الإرهاق الذي لا يناسب طبيعة المرأة وفطرتها.
فماذا يفعل الإنسان حيال هذا الأمر؟ نقول: لابد أن يوازن بين المصالح والمفاسد، فإذا رأى أن المفاسد أكبر، وأن الأمور تسير من سيء إلى أسوأ، فلا داعي لأن تعمل المرأة، ونفضل السعادة على المال، وإن كانت السلبيات محتملة والإيجابيات كبيرة يمكن أن تعمل بالشروط الشرعية، وقد يكون الأفضل أن تعمل فترة من الزمن تساعد زوجها في بناء بيت مثلاً، ثم بعد ذلك تتوقف؛ لأنه يصير عندها من الأولاد ما يمنعها من إكمال العمل.(87/22)
نصائح في أخلاقيات البيوت
أخلاقيات البيوت:- (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق) حديثان صحيحان.
البيت الذي فيه عنف وشدة؛ يكون بيت نكد وتعاسة وشقاء.
البيت الذي يكون فيه رفق وسهولة في التعامل ويسر؛ يكون بيت سعادة، بيتاً يود الإنسان ألا يخرج منه، ويتمنى ويرقب متى يرجع إليه، ولذلك لابد من الحرص على الأخلاقيات في البيوت.(87/23)
التواضع والرفق بأهل البيت
نصيحة: تواضع الرجل في بيته، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم) فما كان صلى الله عليه وسلم متكبراً، ولا كان يقول: هذا ليس لي شأن به، هذا من عمل المرأة، بل إنه كان يكون في مهنة أهله كما ورد في الحديث الصحيح، يساعدهم في العجن وفي الخبز، بعض الآباء يترفعون عن مساعدة زوجاتهم في البيوت، الأكل على النار والولد يصرخ ليرضع، فلا هو يريد أن ينتبه لهذا ولا هو يستطيع -طبعاً- أن يرضع الولد، فإذاً لابد أن يقوم الرجل بشيء من مساعدة أهله.
نصيحة: عليك بملاطفة أهلك وممازحتهم مزاحاً حقاً، ومعاشرتهم بالمعروف، حتى لا يصبح في البيت تعاملات رسمية مثل الشركة، فإن البيت يختلف، بعض الآباء يدخلون بوجه كالح عبوس مقطب إلى البيت، إذا دخل سكت المتكلم، واستيقظ النائم، وخاف الآمن وهذا بيت لا يمكن أن يكون بيتاً سعيداً أبداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يداعب زوجاته ويلاعبهن، وكان يلاطفهن بالكلام، وكان يقول لـ عائشة كلاماً كثيراً، لعله يكون بسط هذا الكلام في موضوع "العشرة الزوجية" الذي سنتكلم عنه بعد رمضان إن شاء الله من خلال ما نناقش من مشكلات الحياة العائلية والزوجية بالذات.
بعض البيوت -أيها الإخوة- كئيبة؛ لأن الآباء لا يلاطفون أولادهم، لا يعرف الطفل حنان الأب، ولا يعرف ملاعبة الأب، (كان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وهو حديث صحيح يدل على حب الصبيان واشتياقهم له، فإنهم ما إن يسمعوا بمقدمه حتى يخرجوا لملاقاته صلى الله عليه وسلم.(87/24)
أهمية مقاومة الأخلاق الرديئة
نصيحة: لا بد من مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت، والقضاء على الكلمات والألفاظ البذيئة التي تدور كثيراً داخل بعض البيوت، انظر إلى العملية التربوية روى الإمام أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة) حديث صحيح.
ومن الأمور المعينة على الأدب؛ ما أرشد إليه عليه الصلاة والسلام في الحديث عن الحسن (علق السوط حيث يراه أهل البيت فإنه أدب لهم) لأن الأعوج عندما يرى وسيلة العقاب يخاف، فبعض الناس الذين لا يصلحهم الوعظ، ولا تصلحهم النصيحة اللفظية والكلامية قد تصلحهم العقوبة، ودعوا عنكم نظريات الغرب الزائفة الذين يقولون: إن الضرب ليس وسيلة تربوية فيمنعونه بإطلاق، فإنه هراء، والدليل على نسف هذه النظرية قوله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها لعشر) طبعاً نحن لا نقول: إن أول علاج يعمل في مواجهة السلبيات هو الضرب كلا.
يعمد أحدكم إلى أهله يجلدهم جلد العبد ثم لعله يضاجعها بعد ذلك! لا يجوز، آخر شيء هو الضرب والعقوبة، لكن لابد من وضع شيء يشير إلى أن هناك احتمال استخدام العقوبة في وقت من الأوقات.(87/25)
نصائح عن الأطفال في البيوت
الأطفال في البيوت:- ملاعبة الصبيان كما سبق وأن ذكرنا قبل قليل من سنته وهديه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وتأملوا في شخصية نبينا صلى الله عليه وسلم، تأملوا في شمائله وأخلاقه، تأملوا في هديه وسنته، تأملوا في سيرته وطريقته: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه للحسن بن علي -أي يخرج لسانه للحسن بن علي - فيرى الصبي حمرة لسانه فيبهش إليه) في السلسلة الصحيحة رقم سبعين، ومعنى يبهش: أي يسرع، يقال: إذا نظر إلى الشيء فأعجبه واشتهاه فأسرع إليه يقال: قد بهش إليه.(87/26)
تعليم الأبناء وتأديبهم واختيار القصص النافعة لهم
نصيحة: تعليم الأولاد وتأديبهم وإلقاء القصص عليهم قبل النوم وغيره.
القصص أيها الإخوة لها وقع خاص جداً في نفوس الأطفال، وكثير من الآباء والأمهات لا يدركون هذه القضية، فيتركون أولادهم نهباً للقصص الغير مفيدة مثل قصص "ميكي ماوس" و"سوبر مان" وأحياناً بعض القصص غير الحسنة في مجلة ماجد وغيرها، يتركون أولادهم نهباً لهذه الأشياء، مع أن لدينا ثروة عظيمة جداً من القصص التي تزخر بها مصنفات المسلمين.
ولا أجمل من أن يجمع الأب أولاده ليقص عليهم قصة، ولقد جربت بنفسي أن أقص مرة قصته صلى الله عليه وسلم مع الرجل والجمل الذي أرهقه صاحبه إرهاقاً شديداً، وقصة إبراهيم في تحطيم الأصنام وكيف أنقذه الله، وقصة موسى عليه السلام وكيف كان يتهادى ذلك الصبي على ماء النهر حتى وصل إلى بيت فرعون، وقصة عمر بن الخطاب مع المرأة وأولادها، لما كان عمر يعس في الليل مع صاحب له، فوجد خيمة بعيدة فيها امرأة عجوز وأولاد يبكون من الجوع فذهب وسألهم، ثم أتى وأدخل إليهم المئونة وطبخ لهم وأكلوا، ثم ذهب يتفرج عليهم من بعيد وهم يقفزون ويلعبون حتى ناموا، وقصة أصحاب الجنة في سور "ن" وقصة يونس عليه السلام في بطن الحوت هذه قد يكون لها انشداد كبير من الطفل، وأثر عظيم في نفسه.
وتجنبوا القصص الخرافية، والقصص المخيفة التي ترعب الأولاد، وتجعلهم يستيقظون من الليل يصيحون، وتفسد واقعيتهم كما يحدث في كثير من أفلام الرسوم المتحركة.(87/27)
ضوابط في ألعاب الأبناء
نصيحة: إياك وأن يخرج أولادك إلى الشارع للعب، اجعل لهم في البيت أمكنة يلعبون فيها، وإن كان ولابد يلعب مع أحد خارج البيت فاجعل هذا الولد يدخل إلى بيتك، أو يدخل ولدك إلى بيت الجيران إذا كان مناسباً وواسعاً، وهم أناس مستقيمون، فلابد من إيجاد الحياة الاجتماعية التي تناسب الطفل، أما أن يذهب إلى الشارع ويتعلم من أخلاق الشارع كما يحدث في كثير من أولادنا فهذه من المصائب العظيمة.
إياك والمنكرات المتعلقة بالأطفال، شيء اسمه حفلة عيد الميلاد لابد أن يلغى نهائياً؛ لأنه تشبه بالكفار و (من تشبه بقوم فهو منهم).
نصيحة: اهتم بألعاب أولادك، اهتم بأن تجعل لهم أشياء مشروعة يلعبون بها، تجنب الأدوات والألعاب الموسيقية، الألعاب التي فيها أرواح متقنة الصنع، وأما عرائس البنات المحشوة بالقطن والتي لها هيكل عام ويدين ورجلين ودائرة في الرأس هذا لا بأس بها، أما الأشياء المتقنة الصنع فتجنبها، وإذا رأيت على لعبة ولدك صليباً فاجعله هو يغيره بنفسه؛ ليتعلم الولد أن هذا أمر قبيح، واجعل له لعباً مسلية وهادفة، وتجنب ألعاب العنف التي تنشئ الأولاد على العنف، اجعل لهم غرفة يمارسون فيها هوايتهم، أو زاوية من البيت مثلاً، بعض الأولاد الذين يكبرون في السن نوعاً ما قد يحبون الأشياء الميكانيكية، قد يحبون الأشياء الإلكترونية، قد يحبون أن يشتغلوا في نجارة شيء ما، أو إصلاح أشياء معينة، لا بأس أن يجعل لهم هذه الأشياء، وتجعل لهم خزائن يضعون فيها ألعابهم وأدراج يرتبونها فيها لأن هذه في الحقيقة تدرأ عن أولادنا مصائب كثيرة جداً، من الأفلام والأشياء التي تغزو بيوتنا من وسائل الشر والفساد.(87/28)
التفريق بين الأبناء في المضاجع
نصيحة: (وفرقوا بينهم في المضاجع) هذا شيء من صميم البيت وذلك بين الأولاد والبنات، وحتى بين الأولاد أنفسهم والبنات أنفسهن، وإلا فإن هناك كثيراً من الظواهر السيئة تحدث في البيوت نتيجة عدم التفريق، وهذه من الأشياء التي تميز بيوت المسلمين عن بيوت الكفار.(87/29)
نصائح في المنكرات داخل البيوت
نصيحة: الاهتمام بملابس المرأة في البيت أمام محارمها، فبعض الناس يطلقون لنسائهم في البيت العنان، تلبس ما فوق الركبة، وما يظهر وسط الظهر، وما هو ضيق يجسد العورة مثلاً وهذا حرام لا يجوز حتى أمام أبيها وأمام أخيها؛ حتى أمام أمها، لا يجوز أن تكشف عورتها، ولذلك تستر البنت نفسها أمام إخوانها، فمثلاً تظهر شعرها، وجهها، عنقها، أعالي الصدر، أعالي موضع القلادة الذراعين، القدمين نعم لا بأس، لكن لبس القصير جداً في البيوت من المنكرات.(87/30)
حكم دخول الأقارب من غير المحارم
نصيحة: لا بد من مراعاة أحوال الأقارب من غير المحارم الذين يعيشون في البيت، فبعض الناس قد يسكن هو وأخوه في بيت واحد، بعض الناس يسكن مع عمه أو مع خاله في بيت واحد، أخو الزوج ليس محرماً، خال الزوج ليس محرماً للزوجة، عم الزوج ليس محرماً للزوجة، فلا يجوز لهؤلاء أن يختلوا بالنساء في البيوت، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء.
قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو) الحمو قريب الزوج، إذا كان الزوج غير موجود هل ينتظر على الباب؟ قال: (الحمو الموت) مبيناً خطورة هذه القضية.
وكثير من المصائب حدثت فعلاً؛ عندما لم يهتم أرباب البيوت بالذين يدخلون في بيوتهم من الأقرباء من غير المحارم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبيتن رجل عند امرأة في البيت إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم) كخالها، عمها، جدها، ذي محرم.(87/31)
نصيحة عن سكن السائقين والخدم مع أهل البيت
نصيحة: السائق وما أدراك ما السائق؟ الأصل أيها الإخوة ألا يكون هناك أجانب في البيت، الأصل ألا نأتي بسائقين ولا نأتي بخدم فيبقى البيت خالياً من اللوثات، ولكن افرض أنك اضطررت وأصبحت تحت الأمر الواقع، فعلى الأقل لابد أن يكون السائق مسلماً أميناً، لا يؤتى به إلا عند الضرورة، لا يترتب على وجوده في البيت فتنة، أن يكون مسكنه ليس داخل البيت مع الناس الذين في البيت، أن يؤتى بزوجته معه.
وكذلك الخدم في البيوت، فهم من المصائب التي ابتليت بها بيوت المسلمين، الآن يوجد خدم يترتب على وجودهم في البيوت من المعاصي التي لا يعلم بها إلا الله، فساد وخراب لا يعلم به إلا الله، ولنا في التاريخ عظة: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] بعض الناس يظن الشر من الخادم والسائق، بعض الأحيان يكون السائق مسكيناً والخادم مسكيناً، ويكون الشر من أين؟ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] كان الزوج غائباً في العمل، وفي صحيح البخاري: (إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنى بامرأته) حدثت شكوى عند الرسول صلى الله عليه وسلم يقول هذا: كان ولدي خادماً عند هذا فزنى بامرأته، فأخبرنا ما هو الحكم يا رسول الله؟ هذا لأن هناك تساهل فيدخل الخادم البيت وهذه شبهة.
وكذلك الخادمة، خراب بيوت، أولاد زنا، فساد العلاقات الزوجية، لو حدث أن أصبحت عندك خادمة -واحرص على ألا يحدث- فعلى الأقل تكون مسلمة، فإن لم تسلم فرحلها فوراً (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) فما بالكم بغير اليهود والنصارى من الوثنيين وعباد الأوثان، وعباد الكواكب وعباد البقر؟ وأن تكون متحجبة لا تبدي مفاتنها للشباب في البيت، لا يكون هناك خلوة، ولا يكون هناك أثر سيء على الأولاد.
أيها الإخوة إنني أرى أنه لا يصلح أن نسوق إليكم القصص التي فيها المفاسد التي حدثت في البيوت من وراء الخدم؛ لأنني لو رويت لك الآن قصصاً عن مفاسد البيوت من الخدم والخادمات فماذا زدتك أنا؟ أزيدك قصة وأنت تعرف قصصاً، ليست القضية الآن سرد قصص عن المنكرات من وراء وجود الخدم، ولكن المهم الآن علاج الموقف، المهم الآن استدراك الخطر، المهم أن نعرف كيف نفعل، ليس أن تسفر الخادمة بعد فوات الأوان {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] تأتي بأسباب الفتنة وتضعها في البيت! لو اضطررت يا أخي كأن تكون الزوجة حاملاً عندها أربعة أولاد، فهي بذلك لا تستطيع أن تعمل، فيمكن أن يكون هناك رجل تكون أنت في البيت وهو ينظف البيت، ويمكن أن توجد خادمة تدور على مجموعة من البيوت ولا تكون مستقرة في البيت، تستأجر لساعات تفعل الغرض وتمشي، نستخدم المغاسل السريعة، نستخدم أطباق الورق، لابد أن نحل المشكلة.
تقول أسماء امرأة الزبير؟ [كنت لا أحسن العجن، فكن نسوة من الأنصار يعجن لي].(87/32)
خطر الهاتف وأهمية مراقبته
نصيحة: مراقبة الهاتف في البيوت.
كم جر الهاتف على بيوت من مصائب! وكم كان الهاتف سبباً في تدمير بيوت بأسرها! وكم كان سبباً في إدخال الشقاء والتعاسة إلى أفراد وبيوت المسلمين! أو جر بعض الأفراد وجرهن إلى مهاوي الرذيلة والفساد، وأقل ما فيه من بعض المفسدات أنه مضيعة للوقت في بعض الأحيان.
ما هي خطورة الهاتف؟ أنه منفذ مباشر من خارج البيت والأسوار والجدران إلى داخل البيت هذه خطورة الهاتف.
ولذلك فهو آلة ذو حدين، إذا لم يحسن استخدامها عمت المعاصي وانتشرت المنكرات، ولا داعي أن أسرد عليكم كثيراً من القصص التي كان فيها عدم الرقابة عليه من جهة أولياء الأمور في البيوت سبباً في مصائب عظيمة لا يعلمها إلا الله، لا بد أن يكون هناك وعي ورقابة.
يا أخي عندما تسمع أصواتاً في الليل من الهاتف؛ البنت تتكلم الساعة الثانية عشرة في الليل فاعلم أن هذا شيء غير طبيعي! أين الغيرة على النساء؟! وكذلك عندما يمسك الهاتف ساعات طويلة جداً.
والشريعة الإسلامية كفيلة بجعل استخدام هذا الجهاز صحيحاً حتى لو غاب رب الأسرة، وآخر الدواء الكي، لو لم يكن إلا فصل حرارة الهاتف فصلناه.
واحرصوا على عدم تخون أهليكم، بعض الناس يقول: مع من كنت تتكلمين؟! اليوم أنا اتصلت من العمل ثلاث مرات وكان التلفون مشغولاً في أوقات مختلفة فاعترفي! وهذا أسلوب التخوين أسلوب سيء جداً يهدم العلاقات.(87/33)
إزالة المنكرات أو الإتيان بالبديل
نصيحة: واحذروا الاختلاط في البيوت عند زيارات الأصدقاء والزيارات العائلية، جلوس غير المحارم مع نسائكم في البيوت، هذه المصائب والله، وهذا حرام لا يجوز، وقد قدمنا من الأدلة ما يشير إليه.
إزالة المنكرات من البيوت؛ التلفزيون، الفيديو الذي يعرض الأفلام السيئة، لو لم تتمكن من إزالة هذه المنكرات؛ فعليك أن تأتي بالبدائل.
متى لا يمكنك الإزالة؟ بعض الناس يلعب عليهم الشيطان يقول: لا أستطيع أن أزيله، ونقول: بل تستطيع أن تزيله، لكن أحياناً ييقول الشخص: أنا لست صاحب سلطة في البيت هنا فعلاً قد تعجز عن إزالة منكر، لو كسرته أتوا بأحسن منه، لو أخرجته أتوا بآخر أو أخرجوك أنت، وعند ذلك لابد من الحرص على إيجاد البدائل، أعط إخوانك الصغار بدل ما هم يتفرجون على هذه الأفلام أشرطة ألعاب في الكمبيوتر، بعض الألعاب قد تجدها سيئة، وبعضها ليس فيها شيء ولا حرج فيها، هات أفلام فيديو فيها محاضرات إسلامية تشغلهم عن الأشياء الأخرى السيئة هذا لو ما استطعت أن تخرجه أصلاً.
والحذر من وسوسة الشيطان، فإن بعضهم يحتج بأجهزة الكمبيوتر يقول: أرى فيها الطنطاوي أو الشعراوي حسناً.(87/34)
إخراج التماثيل والصور ذوات الأرواح
نصيحة أخرى: من إزالة المنكرات إخراج الأصنام والتماثيل وصور ذوات الأرواح، قال صلى الله عليه وسلم: (إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة، أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني من أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على البيت تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل فمر برأس التمثال الذي في البيت فيقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل وسادتين منبوذتين توطآن) حديث صحيح، معناه: إخراج هذه الأشياء من البيوت، إخراج ذوات الأرواح، التماثيل، الصور المعلقة على الجدران، إذا كان ولا بد فأعطهم بدائل؛ صور مناظر طبيعية، أشجار، أنهار، صورة المسجد الأقصى، من الصور التي لا محذور شرعي فيها، إذا كان ولابد عندهم من وضعها على الحيطان.
وإخراج الكلب من البيت، وبعضهم يستهين بوضع الكلاب في البيت، وفي حديث صحيح: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود دهيم، وما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط؛ إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم) كلب الحراسة لا بأس به للضرورة، أما تقليد الكفار بوضع الكلاب في البيوت (فمن اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض؛ فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم) رواه مسلم.
من إزالة المنكرات في البيوت: منع استخدام الأشياء المحرمة كالتدخين والشيشة وغيرها ابتداءً وانتهاءً، بعض الناس يتساهلون مع الضيوف، يا أخي ضع ملصقات وصرح، إذا جاء يدخن قل: لا مجال للتدخين عندي في البيت، لا أسمح لك، ليس هناك في البيت الإسلامي طفايات ولا ولاعات ولا منافذ سجائر.(87/35)
في أحكام البيوت
نذكر الآن طائفة من أحكام البيوت: ومن أحكام البيوت: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
حكم آخر: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61] {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] ولما تحرج بعض الصحابة من الأكل في بيوت أقربائهم إذا لم يكن القريب في البيت أنزل الله عز وجل في رفع الحرج: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61] لو كان غير موجود وأنت تعلم أنه راض أن تأكل في بيته -طبعاً بدون ما يكون في وجودك حرام مثل الخلوة- فلا بأس أن تأكل من ذلك البيت كما هو نص الآية.(87/36)
استئذان الأطفال والخدم قبل الدخول
من أحكام البيوت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] أولادك الصغار والخدم لا يدخلون عليك في مضجعك في غرفة النوم إلا بعد استئذانك؛ حتى لا يكون الرجل أو الزوج والزوجة في وضع لا يصلح أن يراه الأطفال، فما هي هذه العورات الثلاث؟ {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] لأن الواحد إذا نام قد يكون متكشفاً {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:58] لأنه وقت قيلولة أيضاً {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] لأنه وقت النوم، فلا يدخلوا حتى يستأنوا، ولا يهجموا على المخدع وعلى البيت هجوماً على غرفة نوم الرجل مثلاً.
{وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] أي: من الأطفال الذين من قبلهم الأجانب فيصبح الأولاد إذا بلغوا لا يدخل على أبيه وأمه حتى لو في غير هذه الأوقات الثلاث، وبعض الناس يتساهلون فتحدث تصرفات شاذة من الأطفال في البيوت، وأظنكم تعلمون وتفهمون ما أقصد.(87/37)
بعض حقوق المرأة على زوجها
من الأحكام: حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا كسا، ولا يهجر إلا في البيت، فلا يهجرها خارج البيت، فيتركها في البيت لوحدها، وعندما تهجر تهجر في الفراش.
ثانياً: لا يجوز إخراج المطلقة الرجعية من البيت، لابد أن تجلس معك، لا تذهب بها عند أهلها إذا طلقتها، العدة في المرأة المطلقة الرجعية في البيت حتى يتمكن الزوج من المراجعة {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1].(87/38)
فوائد وأحكام أخرى في البيت
حكم آخر: لا يُؤم الرجل في سلطانه، ولا يُجلس في بيته إلا بإذنه، فلا تؤم صاحب البيت في بيته، ولا تجلس في البيت حتى تستأذنه، ولا تقم من البيت حتى تستأذنه.
إذا مات الميت في البيت فالملائكة كما في الحديث: (فإن الملائكة تؤمن على ما يقول أهل الميت).
القط في البيت إذا ولغ في الآنية قال صلى الله عليه وسلم: (السنور من أهل البيت، وإنه من الطوافين عليكم والطوافات) ولذلك لو شرب من إناء فالماء يبقى طاهراً وليس بنجس هذه خصوصية للقط.
بالنسبة للأضاحي: على كل أهل بيت أن يذبحوا شاة في كل رجب -كما ثبت في الصحيح- واستحباباً، وفي كل أضحى شاة، وأهل البيت هم من يعيشون في بيت واحد.
من الأحكام: من بات على ظهر بيت ليس عليه حجاب فقد برئت منه الذمة؛ لأنه قد يسقط ولا يوجد حاجز، قد يتدحرج أثناء النوم ويسقط.
والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل لوحده، فعليه أن يحرص أن يكون معه أحد آخر قدر الإمكان.
كذلك: لا يجوز النظر من خلال أبواب البيوت، وإذا فقئت عين إنسان ينظر فليس لها دية.(87/39)
نصائح متعلقة بسنن البيوت
ومن السنن في البيوت: اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه بسورة البقرة، قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) (إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام وهو عند العرش، وإنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال إلا لا يقربها الشيطان) كل يوم تقرأ هاتين الآيتين من سورة البقرة فلا يقربك الشيطان.
وأما قراءة سورة البقرة فإنه لا حد لها محدود كما أفادني به الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وقال: كل ما استطاع أن يقرا سورة البقرة في البيت يقرأها حتى لا يدخلها الشيطان.
أذكار دخول البيت: باسم الله، والخروج من البيت: باسم الله أيضاً، وعند الأكل: باسم الله؛ وهي تحرم الشيطان من المبيت والأكل في البيت.
باسم الله توكلت على الله الحديث المعروف عند الخروج، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته بدأ بالسواك.(87/40)
نصائح في اختيار البيت المناسب وكيفية الإنفاق
وأما بالنسبة لاختيار البيت فلا بد أن يكون في بيتك مميزات: أن يكون بجانب مسجد، وهذا شيء ضروري، ولا يكون في عمارة فيها فساق أو مجمعات سكنية لشركات فيها كفار، لا يكون فيه كشف، ولو حصل فلا بد من ستر الجدران، وتعلية السور، وستر النوافذ.
تصميم البيت من الداخل بحيث يكون هناك مدخل للرجال ومدخل للنساء، ويكون مهيئاً لعدم الاختلاط، صالات البيوت منفصلة، فلا يمر بعضهم على بعض، تكون الحمامات -المراحيض وبيت الخلاء- في وضع غير مستقبل القبلة.
كذلك إذا استطعت أن تهيئ مسكناً واسعاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من السعادة وذكر منها: المسكن الواسع) وقال: (أربع من الشقاء وذكر منها المسكن الضيق)، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
اختيار الجيران مهم، والجار قبل الدار، قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار الباب يتحول) لو ذهبت إلى مكان ما ووضعت خيمة، وكان بجانبك ناس أهل طبل ومزمار سيغادرون بعد يوم أو يومين، أو ستغادر أو تنتقل أنت فذلك يهون، لكن المصيبة لو أن سكنك بجوار فساق فماذا يحولهم؟ وهذا ما جعل بعض المخلصين يفكرون جدياً في السكن في عمارات يستأجرها هو ومجموعة من الطيبين حتى يحفظ بعضهم بعضاً.
الاهتمام بالإنفاق على البيت في الأشياء الضرورية، توفير وسائل الراحة في البيت، بعضهم يهمل بيته ترتع فيه الحشرات، وتسير فيه البلاعات، ويمتلئ البيت بالأثاث المحطم والفاسد، والقمامة تفوح رائحتها، فلابد من الاعتناء بالبيت وجعله مكاناً للراحة، ولابد من التفريق بين الأشياء الحاجية والأشياء التبذيرية، هناك حاجات مثل المواد العازلة للحرارة؛ هذه حاجية حتى لو أنفقت فيها، لكن تزويق البيوت من الأشياء المنهي عنها، نهي أن يدخل البيت المزوق، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن والطين) (ونهى صلى الله عليه وسلم أن تستر الجدر) حديث حسن مرسل، وهذا من عمل الكفار قالوا: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33 - 35] (ستفتح عليكم الدنيا حتى تنجدوا بيوتكم كما تنجد الكعبة، فأنتم اليوم خير من يومئذ) حديث صحيح، وفي صحيح البخاري أن أبا أيوب دعاه ابن عمر على وليمة عرس، فرأى في البيت ستراً على الجدران -كما هو الآن في بعض البيوت من سجاجيد على الجدران- فعاتب أبو أيوب ابن عمر، فقال ابن عمر: غلبنا عليه النساء؛ يعتذر إليه أن هذا من عمل النساء، فقال أبو أيوب: [من كنت أخشى عليه فلم أكن أخشى عليك] إذا خشيت على أحد من النساء لكن أنت ما أخشى عليك، فكيف تقول هذا الكلام؟ وأخرج أحمد في كتاب الزهد أن ابن عمر أتى رجلاً في بيته وقد ستر بالكرور -هذه الأغطية والسجاجيد والأشياء على الحيطان- فقال ابن عمر: يا فلان متى تحولت الكعبة إلى بيتك؟ ثم قال لنفر معهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ليهتك كل رجل ما يليه.
ستر الجدران قال عنه بعض العلماء: حرام، وقال بعضهم: مكروه؛ لماذا؟ لأنه من التبذير، وهذه الأشياء والتحف المملوءة بها البيوت.
وختاماً: فإن العناية بأحوال البيت مهمة، كان صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه المعوذات، وكان يأمر للمريض بالحساء والتلبينة، ويهتم بصحة الأولاد، والاهتمام بالتغذية في البيت، (بيت لا تمر فيه جياع أهله)، الحرص على الأشياء الصحية: (خمروا الآنية، أوكئوا الأسقية، أجيفوا الأبواب، وأطفئوا المصابيح) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) هذه أيضاً من الاهتمام بالأشياء التي في البيت، كل ما فيه ضرر وأذى لابد من إزالته قبل النوم.
هذه جوانب ولمحات -أيها الإخوة- من الوسائل والنصائح التي نعالج بها بيوتنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن صلحت بيوتهم وذراريهم ونساؤهم وأهلوهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(87/41)
أسئلة وأجوبة متراكمة
في هذه المادة أجاب الشيخ عن كثير من الأسئلة المتعلقة بمواضيع كثيرة، منها أسئلة عن: مصاحبة الصالحين كيف تسأل أهل العلم؟ سيادة الشريعة، وأسئلة أخرى متفرقة في أبواب مختلفة.(88/1)
حال من سكن مع شباب منحرفين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ثم أما بعد: فهذه أيها الإخوة! حلقة خاصة للإجابة عن الأسئلة التي وردت في خلال المحاضرات الماضية وهي أسئلة كثيرة.
ونبدأ الآن بأسئلة محاضرة "مصاحبة الصالحين" وبعدها أسئلة "كيف تسأل أهل العلم" وبعدها أسئلة محاضرة "سيادة الشريعة" وسيتخلل ذلك إن شاء الله أسئلة أيضاً وردت من بعض الإخوان واستفتاءات أتينا لهم بالإجابات عنها.
السؤال
أريد أن ألتزم ولكني أسكن أعزباً مع شباب منحرفين، وللأسف أهلي في مدينة أخرى وأنا جئت هنا لأبحث عن عمل؛ فلا مناص من مجالستهم ولو إلى حين؟
الجواب
هذه المشكلة من المشكلات التي يعاني منها كثير من الناس الذين يسكنون أو يقيمون في بيئات ليس فيها أناس ملتزمون بالدين، والبيئات تختلف، فمن البيئات ما يكثر فيها أهل الدين أو الشباب الطيبون، مثل الجامعات مثلاً، ومن البيئات ما يكون وجود الشباب الطيبين فيها شيئاً نادراً، فيحس الإنسان ولا شك بغربة نتيجة توحُّده بين هؤلاء الناس.
ولذلك نقول لهذا الأخ: إن عليك أن تكون بين هؤلاء الأقوام حاضراً غائباً، حاضراً بجسدك غائباً عنهم بمشاعرك، وتنمية مفهوم العزلة الشعورية لدى المسلم في هذه الحالة شيء مهم، وقد كتب عنه عدد من العلماء مثل ابن القيم رحمه الله، وعدد من المعاصرين مثل سيد قطب رحمه الله، مفهوم العزلة الشعورية من المفهومات المهمة، كيف تعيش بين الناس ولا تشاركهم في المنكرات والمحرمات التي يقترفونها.
ثم إن على هذا الأخ أن يبحث عن إخوة طيبين من خارج هذا الوسط الذي هو فيه، فلو كان يعيش مثلاً في سكن شركة، وهذا السكن ليس فيه أناس طيبون مطلقاً أو ملتزمون بالدين، فإنه لن يعدم أناساً ملتزمين بالدين في أماكن أخرى قريبة يصل إليهم، ويعقد معهم أواصر الأخوة، فلا يجوز أن يبقى لوحده؛ لأنه سيضعف.(88/2)
أصحابي في المدرسة أشرار
السؤال
إذا كان أصحابي في المدرسة أشرار، فماذا أفعل؟
الجواب
نقول: نعم، إن هذا النوع من الجوار في الفصول الدراسية شيء واقع، وهو أن يجاور الإنسان عن يمينه وشماله في الفصل الدراسي أناساً من الفسقة، أو من الطلاب اللاهين اللاعبين، ففي هذه الحالة ينبغي عليه أن يحذر هذا الجوار، ولذلك فإن تنسيق المواقف قبل تعيين الأماكن في الفصول من القضايا المهمة التي ينبغي أن يحرص عليها أهل الخير، فإن مجاورة الطيب للطيب تعينه كثيراً، ومجاورة الطيب للسيئ من الأمور التي كثيراً ما تأتي بنتائج هدامة، وكثير من الشباب الذين ضلوا وانحرفوا؛ بسبب مجاورتهم في الفصل الدراسي لأناس من التائهين الذين يجلبون معهم إلى الفصل أموراً من المحرمات.
ولذلك فإنني أعيد وأؤكد على قضية تنسيق الجوار في الفصل الدراسي قبل بداية العام الدراسي، أو قبل أن يأخذ الطلاب أماكنهم.(88/3)
حكم الجلوس مع العصاة من غير ضرورة شرعية
السؤال
إذا اضطر شخص للجلوس مع عصاة وإن لم يكن لضرورة شرعية، مثل أن يكونوا أقارب في وليمة أو غير ذلك، هل يعتبر من الازدواجية المذمومة؟
الجواب
هناك حالات كثيرة يكون فيها مخالطة أهل الشر أمراً متعيناً مثل قضية الولائم، فإنه يحضر فيها من الأقارب مثلاً من ليس بملتزم بالدين، أو من هو بعيد عن الشريعة، وفي هذه الحالة فإن على الإنسان أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، وإذا حصل شيء من الاستهزاء بالدين فلابد أن يقوم بواجب الإنكار.
وكذلك يحاول أن يشغل هذا المجلس بشيء من الكلام الطيب؛ لأن هذه المساحة إذا احتلت بشيء من الخير؛ فإن إشغالها بشيء من الشر سيكون عسيراً، وليحذر الإنسان من الدخول في الأمور التي تقلب المجلس إلى مجلس سوء، فمثلاً بعض الناس يفتح المجال لطرفة؛ فإذا بهؤلاء الناس الذين عندهم قابلية لعمل بعض النكات التي تصادم الدين يدخلون من هذا المدخل، بسبب عدم الجدية في الطرح، ولا نقصد أن يأتي بمواعظ تبكي، أو أنه يقول: لابد أن آتيهم بكلام علمي عميق، بل إن مثل هؤلاء الناس تعجبهم القصص الهادفة، وهي كثيرة.
ولذلك لا بد أن يكون لدى الشخص ذخيرة من القصص الهادفة، حتى إذا جلس في هذه المجالس استطاع أن يأتيهم بهذه القصص، وهذه القصص لا يُشترط أن تكون من قصص الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين، وإنما قد تكون قصصاً مؤثرة حصلت في الواقع؛ إما أن تكون مكتوبة أو سمعها سماعاً، فعند ذلك إذا طرحها تلتفت إليه الأذهان أو الأسماع وتنشغل الأذهان بهذه القضية، ولا نعتبر هذا الشخص يعيش ازدواجية مذمومة في هذه الحالة.(88/4)
الشعور بالنقص أمام الشباب الملتزمين
السؤال
أشعر أنني لا أصلح للبقاء مع الشباب لأنني لست مثلهم في أخلاقهم؟
الجواب
كثير من الشباب يتهمون أنفسهم بهذا الاتهام، ويقولون: إننا لسنا على مستوى كثير من الشباب الذين نخالطهم، فهناك من عنده علم، وهناك من هو صاحب عبادة، وهناك من هو من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهذا الشخص قد يكون حديث التدين وليس عنده مثل ما عند أولئك من الخبرة أو العلم أو الجرأة، وقد يكون عنده بقايا معاصٍ، وهذه المعاصي الباقية تسبب لديه نوعاً من الشعور بالنفاق، أو أنه قد يكون سبباً في فشلهم.
وفي هذه الحالة نقول: أنت مأمور شرعاً بأن تكون مع الجماعة والرفقة الطيبة، وتركك لهم معصية لله عز وجل، وابتعادك عنهم اقتراب من الشيطان، مهما كان عندك من المعاصي والفسوق؛ فإن هذا لا يمنع أن تجالسهم وتخالطهم، ثم الإنسان كيف يتعلم إذا لم يخالط هؤلاء؟ وبعد سنوات ستصبح رمزاً فيهم وشخصاً يشار له بالبنان، وسيأتي أناس آخرون من القادمين الجدد الذين يحتاجون إلى الاختلاط بك أنت، فأنت هيئ نفسك من الآن لتبوء مركز القدوة في المستقبل.(88/5)
حكم تعلم العلوم غير الشرعية
السؤال
هل تعلم العلوم غير الشرعية وغير المفيدة في الحياة مثل علوم الهندسة هو الذي استعاذ منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من العلم غير النافع؟
الجواب
إن النبي عليه الصلاة والسلام قد استعاذ من أربعة أشياء فقال: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يرفع أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فنقول: إن العلم غير النافع قد يكون علماً ضاراً أو يكون علماً فيه ضياع وقت، مثلما يحدث مثلاً في علوم بعض الأشياء الرياضية أقصد البدنية النظرية، أو بعض التخصصات الأدبية التي فيها دراسة لتاريخ أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر وغير ذلك من الأشياء التي لا يحتاج المسلمون إليها إلا لمن كان متخصصاً في هذا الجانب.
فنقول: إن دراسة هذا الشخص في قسم الأدب أو التاريخ بهذا الشكل هو من الانشغال بالأمور التي سيضيع وقته فيها، وربما يسأل عنها أمام الله عز وجل.
أما أن يدرس في علوم الطب أو الهندسة ونحو ذلك من علوم الجيولوجيا، أو العلوم التي تساعد في المخترعات ونحوها، وتساعد في أمور الحياة فليس ذلك من العلم غير النافع، بل إنه من العلم النافع، صحيح أنه في المنزلة أدنى من العلم الشرعي، لكنه ليس علماً ضاراً بحيث أن الإنسان يخرج منه.(88/6)
تأثر الطلاب بزملائهم الأجانب والمبتدعة في الكليات غير الشرعية
السؤال
بالإضافة إلى أن أكثر الدارسين معنا من الأجانب والمبتدعة، لهم تأثير مهما تجنبناهم؟
الجواب
هذا الشيء يحس به كثيراً الذين يدرسون في الخارج، قد يدرس في فصل عنده مجموعة كبيرة من غير المسلمين، فربما كان لوحده أو معه مسلم آخر؛ لكن قد يكون مسلماً منحرفاً، نحن الآن لا نحس بما يعانيه بعض المسلمين الذين يدرسون في الخارج، يدرس في الخارج فتدرسه امرأة، ومعهم بنات في الفصل، وأغلبهم كفار، قد يوجد منهم يهود وليس نصارى فقط أو لا دينيين، أو حتى شيوعيين من أصحاب المذاهب المنحرفة، ثم إن الفصل الدراسي هذا يحدث فيه نقاشات ضد الإسلام وأشياء تطرح ضد الدين، ولذلك الإسلام لا يحث المسلم أن يرمي نفسه في مجاهل الكفر، وإنما يقول له: ارجع إلى بلاد الإسلام وإلى المجتمعات الإسلامية، فلا يصلح للمسلم أن يُلقي بنفسه في تلك الأماكن إلا إذا دعت الضرورة الشرعية لذلك، وكان عنده علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات.
أعطيكم مثالاً قد حدث: جاء سؤال قال: شخص كافر طرح على آخر مسلم قال: أنتم لماذا في دينكم يوجد الختان؟ إذا كان الإنسان يولد كاملاً فلماذا يُختن؟ هذه خلقة رب العالمين، فكونكم تختنونه وتقطعون منه شيئاً فأنتم تغيرون خلق الله؟! أقول: هذه الأشياء قد تروج، وبعض المسلمين لا يعرف كيف يجيب عنها، فمثل هذا يقال له مباشرة: أولاً: استنباطك للشيء هذا استنباط عقلي، والنص الذي عندنا في الشريعة نص شرعي من الوحي، فلا يمكن أن نقدم الشيء العقلي على الشيء الشرعي.
ثانياً: إن الذي حرم تغيير الخلق وهو الله عز وجل هو الذي أمر بهذا الأمر، فإذاً لا تعارض فلابد من طاعته.
ثالثاً: إن الإنسان تطول أظفاره أو يطول شعره فهل يبقي شعره إلى منتصف الظهر وأظفاره متراً أو مترين أو أنه يقصها؟ وهذه الأظافر من جسده فإذاً كون الشريعة أمرت بقصها فمثل ذلك أمرت بقطع تلك القلفة أو قطعة اللحم التي تكون في ذكر الإنسان.
رابعاً: إن أطباءكم يا معشر الكفار قد أثبتوا أن هذه القطعة الزائدة فيها ضرر، يجتمع فيها أوساخ وميكروبات، وتعيق حتى إتيان الرجل أهله بالطريقة المريحة، ولذلك فنقول: طبكم والعقول الصحيحة بعد شرعنا تثبت ذلك.
على أية حال نقول: إن الذين يدرسون في الخارج يتعرضون لهجمات شرسة واستهزاءات من الناس الذين يجلسون معهم في الفصول الدراسية، ولذلك لا يمكن أن ننصح شاباً أن يذهب إلى الخارج إلا إذا كان في ذهابه مصلحة شرعية واضحة وكان شخصاً محصناً.
بعض الناس يقولون: فلان ذهب إلى الخارج والتزم بالدين، ما كان هنا متديناً وذهب إلى هناك فتدين نقول: هؤلاء كم يمثلون من المبتعثين؟ افرض أن المبتعثين مثلاً خمسين ألفاً كم منهم الذي كان فاسقاً ثم رجع دَيَناً؟ وكم منهم الذي كان فيه خير ودين فرجع منكوساً؟ فلا تحتج عليَّ بالقلة أو بالندرة وانظر إلى العموم، ثم إن هناك نصوصاً شرعية حرمت الإقامة بين أظهر المشركين فكيف ننتهك هذه النصوص الشرعية بغير ضرورة شرعية.(88/7)
حكمة النهي عن السهر بعد العشاء
السؤال
قد جاء في الحديث النهي عن السهر بعد العشاء، فما هي الحكمة من ذلك؟
الجواب
نعم.
قد ثبت النهي عن الحديث بعد العشاء، كما هو في صحيح البخاري وغيره: (نهى صلى الله عليه وسلم عن النوم قبل صلاة العشاء وعن الحديث بعدها) هذا له أسباب، منها: -أن تضيع صلاة الفجر، وقد رُخص للمسافر ولطالب العلم الذي يجلس لطلب العلم في سمر أو علم ونحوه، أو مسامرة أو مؤانسة ضيف أن يسهر، وأما الجلوس بعد العشاء لغير حاجة فإنه أمر مذموم، صحيح أن الناس الآن قد تغير نمط الحياة، وهذه الكهرباء قد أدت إلى جر الناس إلى السهر، لكن ينبغي الحرص قدر الإمكان على عدمه.(88/8)
حكم الجلوس بين أناس يأتون بمنكر
السؤال
أنت تتكلم عن الصالحين فإنني محتار بين أمرين: إن الشباب الذين من جماعتي بعضهم يشربون الدخان وبعضهم لا يشربون، فماذا أفعل؛ هل أجلس معهم أم لا؟
الجواب
لا يجوز أن يقارب الإنسان أناساً يرتكبون منكراً حال جلوسه معهم، فإذا كانوا الآن يشربون الخمر فلا يجوز أن تجلس معهم، الآن يشربون الدخان لا يجوز أن تجلس معهم، لكن لو أنهم كانوا أصحاب منكرات خارج المجلس وهم جالسون معك لا يقترفون المنكر؛ فلا بأس أن تجلس معهم عندما يكون هناك أمر شرعي أو اجتماعي مثل صلة الرحم -مثلاً- أو الدعوة إلى الله.(88/9)
أب يمنع ابنه من حضور حلقة القرآن
السؤال
هناك حلقة قرآن بعد صلاة العصر، ونشاط بعد المغرب، أريد أن أذهب إلى الحلقة وبعدها إلى المكتبة، لكن أبي يقول لي: لا تذهب وراجع دروسك، ويرفض الذهاب إلى الحلقة؟
الجواب
كثير من الآباء ينقصهم الوعي بأنشطة الدعاة إلى الله عز وجل، فهم لا يفهمون ما هي المكتبة، وما هي نشاطات المكتبة، وماذا يحدث في حلق تحفيظ القرآن ونحو ذلك؛ ولذا ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بمجهود لتوعية الآباء بالأنشطة الإسلامية، فمن ذلك مثلاً: إرسال النشرات التي تتحدث عن النشاط.
ثانياً: دعوة الآباء إلى هذه الأماكن والمحلات.
فإذا كان هناك مثلاً تخريج لبعض الحفاظ أو عدد من الذين حفظوا أجزاء من القرآن مثلاً، أو نشاط في المكتبة مثل درس أو محاضرة، أو تعرف على أولياء الأمور، ينبغي أن تكون هذه القنوات موجودة بين الدعاة إلى الله ومراكز النشاط الإسلامي وبين أولياء الأمور؛ لأن الناس أعداء ما جهلوا، وإذا لم يتعرف أولياء الأمور على ما يدور في هذه الحلق من الأنشطة الإسلامية الطيبة؛ فإنهم لن يقيموا لها وزناً؛ وبالتالي فإن منعه من الذهاب أمر وارد عند الجاهل به.
ثم إن على هذا الشاب أن يأتي بتقارير دراسية جيدة لأبيه، فإن التقارير السيئة الشهرية التي تأتي الأب فعلاً؛ هي التي تجعل الأب لا يكون حريصاً على حضور ولده، هذا إذا لم يمنعه.
أما إذا كانت التقارير الدراسية جيدة وكان الولد مهتماً بدروسه؛ فلن يكون هناك منفذ للأب لمنعه؛ ولذلك في كثير من الحالات يكون تحسين الموقف الدراسي سبباً مباشراً في إقناع الأب بالسماح لولده بغشيان هذه المناسبات أو الأماكن الطيبة.(88/10)
توفير الصحبة الصالحة للمرأة
السؤال
كيف تبحث المرأة عن الصحبة الصالحة؟ وأين تجدها؟ وزوجي يريدني أن أذهب معه عند أناس وأنا أعرف أن عندهم منكرات؟
الجواب
لا شك أن الصعوبة في بحث المرأة عن الصاحبات الطيبات أكبر من الصعوبة عند الرجل؛ لأن الرجل سهل التنقل سهل التعارف، أما المرأة فمكانها محدود ونشاطها محدود، ومجالات التعرف عندها محدودة، ولذلك إذا لم تجد المرأة جارة طيبة أو صاحبة صالحة؛ فإن بيتها خير لها في هذه الحالة، وليست مطالبة أن تذهب إلى مختلف الأماكن لتبحث عن نساء طيبات، لكن عندما يكثر الخير في المجتمع لن تعدم أن تجد ممن حواليها من النساء اللاتي التزمن بهذا الدين وأقبلن على هذه الشريعة.
وينبغي عليها أن تحذر أصنافاً من النساء:- المرأة النمامة.
المرأة التي تنشغل بالغيبة.
المرأة الكذابة.
المرأة المضيعة لحقوق الزوج.
المرأة التي تنشر أسرار الاستمتاع الزوجي في المجالس.
المرأة التي تتعامل مع الكهنة والسحرة، أو تذهب إليهم وتدعو للذهاب إليهم.
المرأة التي تدعو إلى حضور الأعراس أو الحفلات التي تشتمل على منكرات وهذه الطبقة والنوعية من النساء موجودة في المجتمع، فإذا لم تجد فليسعها بيتها، وعلى زوجها مسئولية أن يأتي إليها من أهله أو من زوجات أصدقائه الصالحات بمن تزورها في بيتها.(88/11)
قيام الشباب الصالحين بإفادة الناس
السؤال
هل من كلمة للشباب الصالحين الذين لا يتواجدون إلا ساعة في الأسبوع والشباب يحتاجونهم لمخالطتهم، فكيف العمل؟
الجواب
إن الشخص الذي هو أهل للقدوة والذي فيه صلاح وخير، لا بد أن يمكن الناس من الاستفادة منه، وأن يغشى مجالسهم، وأن يُعطيهم من وقته، وفي الحقيقة أن بعض الطيبين لا يشعرون بالحاجة إلى نشر خيرهم للناس، مع أنه قد يكون عنده من العلم أو من الفقه أو من الأدب ما ينقله إلى غيره، لكن مع الأسف تجده -مثلاً- انطوائياً منعزلاً، أو تجده أيضاً قابعاً على عدد معين من الأشخاص لا يتعداهم إلى غيرهم.
فنقول: إن هؤلاء عليهم إعطاء شيء من وقتهم لأجل تمكين هؤلاء الشباب المبتدئين من مصاحبتهم، وهذا لا يعني أن يوزع الشخص وقته بحيث يضيع، ولكن يُعطي الشيء الذي يستطيعه للناس.(88/12)
لدي صديق ولكن فيه عيبان
السؤال
لدي صديق أتعاون معه في أمور الدعوة ولكن هناك عيبان هجرته من أجلهما:- أولاً: قلما نجتمع ولا نغتاب.
والثاني: أننا نطيل الجلوس حتى أننا نفرط في حقوق أهلينا وطلب العلم.
فبماذا تنصحني؟ هل أستمر في هجره أم لا؟
الجواب
هناك شيء يمكن التحكم فيه، وشيء لا يمكن التحكم فيه، الشيء الذي يمكن التحكم فيه الإطالة، فأنت ممكن أن تجلس -مثلاً- مدة معينة؛ نصف ساعة أو ساعة حسب المتيسر ثم تقوم، لكن الغيبة إذا لم يتركها فلا بد أن تنصحه ثم تقوم من المجلس.(88/13)
حكم شراء سيارة بالتقسيط ثم بيعها نقداً
السؤال
هل يجوز شراء سيارة بأقساط قيمتها خمسين ألف ريال وبيعها بقيمة أربعين ألف ريال نقداً؟
الجواب
هذه مسألة التورق، والظاهر أنها تجوز خصوصاً إذا كان هناك حاجة، فإذا حصلت حاجة ولم يجد من يقرضه ولا عنده مال فاشترى سيارة بالتقسيط وباعها نقداً لأجل السيولة؛ فإن ذلك لا بأس به إن شاء الله تعالى.(88/14)
حكم تدريس مادة فيها أمور محرمة
السؤال
مدرس في جامعة يدرس مادة فيها أمور محرمة مثل الربا ونحوه، فهل يجوز له هذا التدريس أم لا؟
الجواب
لا يجوز له أن يدرس الأفكار التي تخالف الشريعة، وهذه موجودة بعض الأحيان في الكليات النظرية مثل الأدبية والتاريخية ونحوها، وكذلك في الكليات الاقتصادية والإدارية كثيراً ما توجد أشياء مخالفة للشريعة، فيجب على المدرس المسلم إذا درس هذا أن يبين حكمه وأنه حرام، ثم يتجنب اختبار الطلبة فيه؛ لئلا يكون مؤكداً لهم على هذا الأمر وهو أمر غير شرعي، وإنما يأتي بأسئلة معاكسة لما هو موجود من الأمور غير الشرعية والتي قام بشرحها بنفسه.(88/15)
حكم شراء الذهب بالتقسيط
السؤال
هل يجوز شراء الذهب بالأقساط؟
الجواب
لا يجوز شراء الذهب بالأقساط قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء) فلا بد أن يكون التقابض في مجلس العقد، يُعطي النقود ويأخذ الذهب، ولا يجوز له أن يؤجل الدفع ولا جزءاً من الثمن، فإذا لم يجد عنده قيمة كاملة؛ ترك الذهب في الدكان حتى يكمل القيمة ويأتي لدفعها، وشراء الذهب بالأقساط لا يجوز.(88/16)
حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة
السؤال
ما حكم تحنيط الحيوانات لأجل الدراسة مثل الحمام مثلاً؟
الجواب
الشيخ عبد العزيز يقول: إذا ذبحوها ذبحاً شرعياً -ذكوها- فلا بأس بذلك، إذا كان هناك حاجة فعلاً مثل علم التشريح.(88/17)
حكم إعطاء الراتب بالشهر الميلادي
السؤال
رجل يُعطي عماله الراتب بالشهر الميلادي فهل يأثم؟
الجواب
الشيخ/ عبد العزيز: يكره له هذا لما فيه من التشبه بالكفار.(88/18)
حكم الاستمناء من غير إنزال مع الصوم
السؤال
رجل شرع في الاستمناء وهو صائم لكنه لم ينزل، فهل يُفطر؟
الجواب
الظاهر أنه لا يفطر، لأن الإنزال لم يحصل، وإفساد الصوم متعلق بالإنزال وخروج الماء عمداً.(88/19)
علامات الأخوة في الله
السؤال
كيف أعرف أن علاقتي مع فلان هي أخوة في الله؟
الجواب
تعرف ذلك بأمور:- أولاً: إذا ناقشت نفسك في سبب إقامة العلاقة معه، هل هي لأنه إنسان تقي عنده علم وعنده خلق، أو أنك صادقته وعقدت معه أواصر العلاقة من أجل أمر دنيوي.
ثانياً: هل أنت عاكف عليه لا تتعدى العلاقة إلى غيره من الناس الطيبين الذين ربما تستفيد منهم أكثر منه؟ وهل هي مقصورة أم متعدية إلى غيره؟ فإذا كانت مقصورة فاتهم نفسك.
ثالثاً: هل علاقتك معه تزيدك إيماناً، أو أنها تسبب في ضياع الوقت ومرض القلب، والوصول إلى مهاوي التعلق بغير الله سبحانه وتعالى؟ فهذه علامات تستطيع أن تعرف بها هل علاقتك أخوة في الله أم لا.(88/20)
كيفية تكوين علاقة أخوة في الله
السؤال
كيف أكون علاقة أخوة في الله؟
الجواب
أولاً: انتقاء الشخص.
ثانياً: حُسن التعرف عليه.
ثالثاً: زيارته.
رابعاً: الاشتراك معه في أنشطة إسلامية وشرعية مثل: حضور الدروس والحلق العلمية، وحفظ القرآن الثنائي ونحو ذلك.(88/21)
الرد على من قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان
السؤال
بعض الناس إذا قلت له: تبرع للأفغان قال: ادفع لفقراء بلادك ثم تبرع للأفغان؟
الجواب
إن فقراء المسلمين لهم حقوق علينا جميعاً، ونحن نُعطي من يكون أحوج ولا ننسى فقراء البلد، لكن لا ننسى أيضاً فقراء العالم الإسلامي، فإذاً كونه يقول: أولاً أعطي فقراء بلدك ثم أعطهم، وقد أفتى أهل العلم بإعطائهم، فمعنى ذلك أن الرجل هذا عنده قصور في النظر، أو أنه من أعداء الجهاد.(88/22)
حكم التقليل من كتب السلف والاعتكاف على الكتب الفكرية
السؤال
ما حكم من يقلل من أهمية الدروس العلمية والمحاضرات، وحفظ القرآن في الحلقات، وحفظ المتون، ويعكف على الكتب الفكرية وترك كتب السلف؟
الجواب
أولاً: هذا السؤال يحتاج إلى تمعن: هل هو اتهام لشخص بريء أم هو فعلاً قضية واقعة؟ فإذا كانت قضية واقعة فإن الإعراض عن دروس العلم، والمحاضرات الشرعية، وحفظ القرآن، وحفظ المتون لا شك أنه ضلال، والعكوف على الكتب الفكرية لا يكوّن عقل الإنسان المسلم، عقل الإنسان المسلم يتكون من أشياء، الكتب الفكرية مهمة والأمور الشرعية أهم، فلابد من الحرص على هذه النواحي جميعاً وعدم العكوف على ما كتبه المفكرون وترك ما كتبه علماء الشريعة، بل كتب علماء الشريعة أولى وأحرى.(88/23)
أريد الزواج ولكن لا أستطيع
السؤال
أنا شاب صالح ولكنني في سن المراهقة ولا أستطيع الزواج، ولا أستطيع الصيام، وعندي شهوة قوية، فماذا أفعل؟
الجواب
ذكرنا في كتاب " العادة السيئة " أشياء من الأمور التي يمكن أن تقوم بها لحماية نفسك، وكثير من الشباب يريدون حلاً سهلاً ولا يريدون أن يجاهدوا أنفسهم، وهذا مكمن الخطورة، فالصيام يحتاج إلى مجاهدة، فالشاب كأنه يريد حبوباً يبلعها ويصبح عفيفاً، العفة لا تأتي إلا بالمجاهدة، العفة لا تأتي بحلول سحرية أو حبوب معينة لتُبتلع.(88/24)
كيفية المحافظة على الصحبة
السؤال
عندي صحبة صالحة، وإني أحبهم كثيراً لكني لا أداوم معهم، فكيف لي بالدوام؟
الجواب
إذا كانوا هم يمرون عليك لأخذك فهذا يجعلك تنضبط معهم، أما إذا قلت لهم: اذهبوا أنتم وأنا آتيكم فهذا مدعاة لك للتفلت.
ثانياً: ينبغي تفريغ النفس عند المواعيد الدورية مثل الدروس والحلق العلمية، فالإنسان المسلم إذا عرف -مثلاً- أنه في هذا الوقت من كل أسبوع يحضر حلقة أو درساً، فينبغي له أن يفرغ نفسه من الشواغل في هذا الوقت، وأن يقطع عن نفسه كل ما يمكن أن يدخل عليه إشغاله في هذا الوقت، والناس ينتجون هذا الإنتاج بالتفرغ، إذا فرغ نفسه لشيء أنتج، أما إذا ترك نفسه نهباً للصوارف لا يمكن أن ينتج ولا في مجال من المجالات.
افرض أنك تريد أن تبحث عن قضية من القضايا، أو تقرأ في كتاب لابد أن تقرأه، لو كنت تقرأ على التساهل، ففتحت الكتاب فجاءت مكالمة وجاءك شخص، ثم جاء آخر وذهب الوقت، لكن لو أنك ذهبت إلى مكان فيه خلوة لا يوجد فيه أحد يطرق عليك ولا يتكلم معك، اعتكفت على الكتاب ساعة أو ساعتين أو ثلاث حسب طول الكتاب فسوف تنهيه ولا بد، وبالتجربة أقول لكم: إن الإنتاج وليد التفريغ للقضية المعينة التي تريد أن تنجزها.(88/25)
رجل تمنعه زوجته من إخراج التلفزيون
السؤال
نحن مجموعة شباب متزوجون جميعاً، تدور بنا دروس منتظمة ونصائح لبعضنا البعض، لكن يوجد شخصان عندهما جهاز تلفزيون ويعتذران عن إخراجه من المنزل مع ما فيه من الفساد، ونصحتهما كثيراً لكن لم يخرجاه بسبب زوجتيهما؟
الجواب
حسناً تعس عبد الزوجة، الذي لا يُزيل المنكر من أجل زوجته، فهو إذاً من الذين صاروا تحت عبوديات زوجاتهم، وقد ذمهم صلى الله عليه وسلم، ولذلك فليست إرادة هؤلاء الأشخاص قوية، أين القوامة التي جعلها الله للرجل على المرأة! كيف يرضى الرجل بالمنكر في بيته ويقول: المرأة أزعجتني، المرأة أقلقت راحتي، المرأة نغصت عيشتي أين شخصيتك أنت؟ أين مواقفك الصلبة؟ أين الحزم؟ أين الهجر إذا ما استجابت لك؟ بل أين تغيير المرأة إذا كانت سيئة الخلق والدين في نهاية المطاف؟!(88/26)
النصيحة لمن يدعو المقصرين
السؤال
ما هي النصيحة التي توجهها لمن يقوم بالدعوة وهو يدخل على بعض المقصرين؟
الجواب
أولاً: يا أخي أنصحك ألا تغشاهم وهم يفعلون منكراً، إذا لم يتركوه وأنت داخل عليهم.
ثانياً: لا أرى أن تطيل معهم، وإنما تعطيهم ما تريد إعطاءهم من الأشياء في مدة قصيرة بأسلوب جذاب ثم تمشي.
ثالثاً: اصطحب معك مساعداً ومعيناً، فإن بعض الدعاة إلى الله عز وجل، أو بعض الناس قد يدخل في شباب لدعوتهم فإذا به يتأثر بهم وينخرط معهم، وقد يشاركهم في منكرات، لكن لو كان معه معين أو آخر يسانده على الأقل إذا ما استجابوا انسحب هو وصاحبه.(88/27)
مجاهدة الشيطان
السؤال
كنت أستعمل المخدرات والدخان، والحمد لله الذي أبعدني عنها، وكنت أمشي مع أهل السوء والآن أمشي مع أهل الخير، والشيطان يحاول إبعادي عنهم، وأنا أصر وأجبر نفسي عليهم؟
الجواب
حسناً هذا ما يجب عليك، يجب عليك أن تجبر نفسك كما قال الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28] فما معنى "اصبر نفسك"؟ احبس نفسك معهم، المسألة تحتاج إلى مجاهدة، والمسألة تحتاج إلى مواظبة، والمسألة تحتاج إلى تمعن في الأجر الذي يكون للمرء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).(88/28)
أهم التحقيقات لكتاب التوحيد
السؤال
وجدت كتاباً أو كتيباً عنوانه " ضعيف كتاب التوحيد " ذكر عدداً من الأحاديث والآثار الضعيفة الواهية في الكتاب، وحيث أني مدرس للكتاب أرجو التوجيه لأهم التحقيقات لـ كتاب التوحيد؟
الجواب
كتاب النهج السديد في تخريج أحاديث وآثار تيسير العزيز الحميد للشيخ/ جاسم بن فهيد الدوسري من الكتب التي خرجت أحاديث هذا الكتاب فعليك به.(88/29)
علاقة الدخان بالوضوء
السؤال
هل الدخان ينقض الوضوء؟
الجواب
الدخان لا ينقض الوضوء، لكن كيف تقف بين يدي رب العالمين وأنت متلوث بهذا المنكر وتؤذي الملائكة والرائحة المنكرة تنبعث من فيك؟! فنقول: يجب عليه أن يتوب إلى الله وأن يقلع، وإذا أراد أن يصلي لابد أن يستاك، ويطهر فاه قبل أن يقف بين يدي الله والملائكة حاضرة.(88/30)
حكم إهداء الكفن
السؤال
إهداء الكفن هل هو من البدع؟
الجواب
قال الشيخ عبد العزيز: لا أعلم فيه شيئاً، والأصل الإباحة.(88/31)
تأثير العين على الجمادات
السؤال
سيارة أصيبت بالعين وأتي بوضوء من عانها، فهل يصب على مقدمتها؟ وكذلك الساعة مثلاً، هل الجمادات محل تأثر بماء العائن؟
الجواب
قال الشيخ: عبد العزيز النصوص الشرعية على العموم كما ورد في كلمة "شيئاً" وقد جُرب فأفاد، إذاً الأشياء الجامدة هي محل للتأثر بماء العائن.(88/32)
حكم من صلى الفجر والسنة ركعتين ركعتين من غير تحديد نية
السؤال
رجل لا يدري سنة الفجر قبل الفرض أم بعده؟ فصلى ركعتين ثم ركعتين بنية إن إحداهما فرض والأخرى سنة من غير تحديد؟
الجواب
قال الشيخ: يظهر لي أنه لا يجزي ولابد أن يعيد نية الفرض.(88/33)
حكم عمل مجسمات للحج وشعائره
السؤال
روضة أطفال يريدون عمل مجسمات للحج والكعبة، والجمار، والصفا والمروة، ويلبس الأولاد ملابس الإحرام ويجعلونهم يطوفون حول هذا المجسم، ويرمون الجمار بالحجر لتعلم كيفية الحج؟
الجواب
الشيخ: الطواف حولها لا يجوز، وإنما يعلمونهم بالوصف والكلام، وأما النماذج دون الطواف حولها فإذا كانت مؤقتة تزال بعد ذلك فلا بأس.(88/34)
حكم مجاوزة الميقات بدون إحرام مع نية العودة
السؤال
شخص جاوز الميقات بغير إحرام على أن يعود إلى الميقات، هل يجوز له ذلك؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك إذا كان يذهب فيقضي حاجته ثم يرجع فيحرم من الميقات، وهو لما جاوز الميقات لم يجاوزه للحج والعمرة، وإنما جاوزه لقضاء الحاجة، وفي نيته أنه سيعود إليه.(88/35)
حكم الصلاة في مكان اكتشف فيما بعد أنه مقبرة
السؤال
ذهبوا إلى البر وجلسوا أياماً وصلوا، ثم اكتشفوا قبل رحيلهم أنهم كانوا جالسين في مقبرة، فماذا عن الصلاة؟
الجواب
الشيخ: الصلاة صحيحة لكونهم لم يتعمدوا الصلاة في المقبرة.
لأنهم حين صلوا لم يكونوا يعلموا أنها مقبرة.(88/36)
حكم ذهاب المصاحف إلى فلسطين
السؤال
أهل فلسطين يحتاجون مصاحف، هل يجوز لمسلم أن يذهب بمصاحف إليهم علماً أن اليهود سيفتشونها ويقلبون صفحاتها؟
الجواب
يقول الشيخ عبد العزيز: لا بأس إن شاء الله لحاجة المسلمين إذا كان الأغلب السلامة، فما دام أنهم سيفتشونها ويرجعونها، وصحيح أن مس اليهود للقرآن حرام، لكن ما دام هناك مصلحة لأناس يحتاجون المصاحف؛ فلا بأس أن يأخذوها إلى الداخل.(88/37)
براءة الذمة بإرجاع اللقطة إلى مكانها
السؤال
هذا شخص التقط لقطة فشق عليه تعريفها، فهل تبرأ ذمته إذا أرجعها إلى نفس الموضع الذي وجدها فيه؟
الجواب
كلا لا تبرأ ذمته، ويجب عليه تعريفها ولو استأجر شخصاً من أجل هذا التعريف.(88/38)
حكم صوم ست من شوال دون موافقة الزوج
السؤال يقول: هل تصوم المرأة ستة أيام من شوال إذا لم يوافق زوجها؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تصوم صيام النفل إلا بإذن زوجها، فإذا لم يأذن فلا تصوم، إلا إذا كان مسافراً؛ فإنها تصوم الست وغيرها ما دام أنه مسافر، أما إذا كان حاضراً فلا تصوم إلا بإذن زوجها للحديث الوارد في ذلك.(88/39)
صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد
السؤال
لي صديق لا يصلي إلا وقت الشدائد، أو وقت ما نشد عليه فإنه يصلي، وإذا ذهبنا نسي كل شيء، ونأمره بالصلاة أحياناً فلا يجيب، هل نستمر معه بنفس الصداقة؟
الجواب
إذا كنتم تأمرونه فيستجيب فالحمد لله، إما إذا لم يستجب وجلستم معه فترة فاتركوه إلى غيره ممن يستجيب؛ لأن وقت الإنسان المسلم ثمين؛ فلماذا يعكف على شخص استجابته ضعيفة، وهناك من عباد الله من هو خير وأحسن في الاستقبال والتأثر من هذا الرجل، وهذا لا يُقطع بل يمر عليه بين فترة طويلة وأخرى حسب الفراغ.(88/40)
حكم الشعور بعدم الراحة لبعض الإخوة
السؤال
هل الإنسان يحاسب إذا شعر بأنه لا يرتاح لبعض الإخوة الملتزمين؛ علماً بأنه لا يعمل أي شيء من الضرر بهم؟
الجواب
من رحمة الله أنه لا يؤاخذنا على ما حدثنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، فإذا جاء في نفسك شعور بشيء من النفور نحو شخص متدين، فالذي عليك أن تفعله مجاهدة نفسك في الارتياح، أو إزالة الضغائن، أو أي نوع من الأحقاد بينك وبينه، وتهادوا تحابوا، والمصارحة في كثير من الأحيان تكون حلاً للمشكلات، لكن هناك أناس لا يجرءون على المصارحة مع أن المصارحة مهمة جداً، وما دام أن الأمر لم يصل إلى شيء من الفعل أو القول؛ فإنك لا تأثم إن شاء الله تعالى ما دام البغض شخصي وليس بغضاً للدين، لكن لو كان بغضاً للدين فهذا خطير للغاية.(88/41)
حكم مشاركة بعض الشباب في لعب البلوت
السؤال
أنا شاب يحسبني الناس ملتزماً والله بصير بالعباد، أجلس أحياناً على الأرصفة مع مجموعة من الشباب الذين يلعبون البلوت على الأرصفة وأنا معهم، وقد ألعب معهم أحياناً بحجة أنه إذا حان وقت الصلاة يقومون احتراماً لي فقط وليس خوفاً من الله، فإذا لم أكن معهم واصلوا لعب البلوت إلى ما بعد الصلاة والصلاتين أحياناً، فهل تصرفي هذا تصرف صحيح؛ علماً بأنهم لا يصلون إلا إذا أمرتهم؟
الجواب
أرى أنك تمر عليهم في وقت الصلاة وتأمرهم بالصلاة، فإذا كانوا يحترمونك فلا بأس أن يصلوا في البداية من أجل احترامك، ولكن لا تجلس معهم فتشاركهم في المنكر، وإنما إذا كانت لك منزلة عندهم فمر عليهم في وقت الصلاة، أما أن تجلس معهم تلعب أحياناً فكيف يحدث هذا، وكيف ترضى لنفسك المشاركة في المنكر؟!(88/42)
الموقف ممن يستهزئ بالمذاهب الأربعة
السؤال
أنا موظف، وأحياناً يأتيني بعض الموظفين من المبتدعة يقومون بالاستهزاء من المذاهب الأربعة وشتم الصحابة، ماذا عليّ؟
الجواب
يجب عليك أن تذب عن أعراض الصحابة وأن تقول لهم: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) حديث صحيح وتقول له: إن الله قال في كتابه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119] فإذا رضي الله عنهم ورضوا عنه وأنت لا ترضى عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الكافرين.(88/43)
حكم مقولة: إن الله معنا في كل مكان
السؤال
ما صحة هذه المقولة "إن الله معنا في كل مكان" في البيت والسيارة وأمامك وخلفك وفي كل مكان؟
الجواب
هذا فيه تفصيل، فيسأل المتكلم عن قصده، فإن قال: قصدي أن الله معنا بعلمه فنقول: نعم، إن الله معنا بعلمه في كل مكان؛ إذا كنت في البيت أو في السيارة أو في المسجد أو في أي مكان فالله معك بعلمه.
أما إذا قال: إن الله معنا بذاته نقول: هذا قول أصحاب وحدة الوجود الذين يقولون: إن كل ما تراه بعينك فهو الله، هؤلاء في الحقيقة صوفية باطنية، لأن الصوفية مذاهب وفرق.
من الصوفية من تقتصر بدعته على أذكار وأوراد بدعية، ومسابح أبو ألف وأبو خمسمائة وأبو مائة وهكذا هؤلاء متصوفة بدعتهم مقتصرة على الأذكار المبتدعة، أو على طريقة مبتدعة في التسبيح.
هناك متصوفة بدعتهم أكبر من ذلك، إذا دخلت في قضايا الاعتقاد مثل الغلو في الصالحين اعتقادهم أنهم ينفعون يقولون لك: هذا قبر أبو العباس المرسي هذا الترياق المجرب، ما تذهب إليه امرأة لا تحمل إلا حملت، هذه شجرة إذا تمسحت بها العقيم حملت ونحو ذلك فهذه اعتقادات شركية.
وبعضهم يعظمون رؤساء الطريقة فإذا كان -مثلاً- نقشبندياً أو رفاعياً أو شاذلياً أو بدوياً فإنه يشجع -ما هو بدوي من سكان الصحراء- وإنما من أتباع أحمد البدوي هذا الذين يقولون له الآن: قبر يزوره مئات الآلاف، بل إذا أحصيتهم في السنة يعدون بالملايين، وله باب يدخل منه الناس وباب يخرجون ويطوفون حول قبره، ويرشدك القائم على القبر بالاتجاه الذي تدخل منه وتطوف، وللقبور سدنة ويأخذون أموالاً يجبونها من الناس، ويُذبح عندها القرابين، ويحلق عندها الشعر، ويطاف حولها مثل الحج، حج رسمي: طواف وحلق شعر وذبح رسمي عند قبور هؤلاء.
هذا من الشرك الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيقع في هذه الأمة، مع أن بعض هؤلاء الأولياء -كما يقولون ويزعمون- قد يكون صالحاً مثل الجيلاني رحمه الله فهو رجل صالح من أهل السنة لكن غلا فيه أناس بعده فصاروا من أصحاب الطريقة الجيلانية.
وبعضهم قد يكون شخصاً مشركاً مثل الرفاعي مثلاً، أحمد الرفاعي الذي يقول: إنه كان يقف فيسيح قال: فرأيته ذاب حتى صار مثل الماء، ثم رجع مرة أخرى.
أو مثل البدوي الذي كان يعتقد بسقوط التكاليف وأنه ليس عليه صلاة ولا عليه شيء، بل إنه ربما وقف على جدار فبال على الناس وقال: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر وأنا الناس يغتابوني ويأكلون لحمي، فما عليكم أنا بولي طاهر فمثل هؤلاء الأشخاص الذين لهم هذه التخريفات وأتباعهم الذين يوافقونهم على بدعهم وشركهم لا شك أنهم مشركون مثلهم.
وأصحاب وحدة الوجود أو أهل الاتحاد والحلول يقولون: إن الله حل في خلقه، أو إن ما تراه بعينك فهو الله هؤلاء الذين يقولون: كل ما تراه بعينك فهو الله، هؤلاء أفراخ جهم، الذي قال لما سألوه عن الله أين الله؟ جلس أربعين يوماً يفكر، ثم خرج عليهم فقال: هذا الهواء هو الله.
فهؤلاء الذين يقولون: أن كل شيء وكل جزء من الكون فهو من الله؛ فإن الله هو الكون فنحن إذاً من الله وهكذا، ولذلك يقولون: فرعون كان مصيباً لما قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
لكن موسى خفيت عليه.
فرعون محق فهو قال: أنا ربكم الأعلى، صحيح، لأنه هو من الله، ويقولون: موسى غابت عنه، فلم يفهم قصد فرعون، فأنكر عليه ولا ينبغي الإنكار على فرعون.
وهم الذين يقولون:
ما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته
ويقولون أشياء تعالى الله عن ذكرها.
وهؤلاء أصحاب الفرق الباطنية متعددون وكُثر، فمنهم الباطنية الذين يعتقدون بأن الله عز وجل -والعياذ بالله- يحل في أحد خلقه تأنيساً للخلق وتعريفاً به، فيقولون: الله حل في علي بن أبي طالب، فـ علي بن أبي طالب هو الله، وعلي بن أبي طالب خلق محمداً صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم خلق سلمان الفارسي، وسلمان الفارسي خلق الأيتام الخمسة: أبا ذر وقنبر بن كادان الخ، وأوكل إليهم إدارة شئون الكون.
وعندهم أن الله يتمثل بصورة نبي تأنيساً للخلق، انظر ولاحظ يقولون: تأنيساً للخلق وتعريفاً به، وأنه له صورة وله معنى، فـ علي بن أبي طالب هو المعنى أي: أنه هو الحقيقة وهو الله، ومحمد هو الصورة الذي عن طريقه يُوصل إلى المعنى، ويقولون: يوسف هو المعنى وهو الحقيقة ويعقوب هو الصورة، أي أن الله عبر الأجيال البشرية يتمثل في صور بعض الأشخاص وله صورة وله معنى، فالمعنى هو الحقيقة، والصورة هي باب يدخل إليه.
ولذلك انظر إلى الباطل كيف يبلغ بأهله قالوا: ولذلك لما جاء إخوة يوسف إلى يعقوب قالوا: استغفر لنا قال: سوف أستغفر لكم ربي.
أي: أرجع إليه بالاستغفار، ولما جاءوا إلى يوسف قال: لا تثريب عليكم، فلما رجعوا إلى الإله أعطاهم لكن لما جاءوا إلى الباب قال: لا بد أن أرجع.
وهكذا يؤولون آيات وأحاديث وأشياء عجيبة جداً ويقولون: شيث هو المعنى وآدم هو الصورة، وهارون هو المعنى وموسى هو الصورة، وسليمان هو المعنى وداود هو الصورة وغير ذلك من الأشياء العجيبة التي هي هراء، وهؤلاء بعضهم كانوا حشاشين فعلاً، لما اخترعوا العقائد كانوا تحت تأثير المخدرات والحشيش، بل إن الجذبات التي تنقل عن الصوفية هي في الأصل ومردودها في الحقيقة أنهم يتعاطون الحشيش.
ولذلك هناك في كتاب " طبقات الأولياء " للشعراني يقول: مثلاً الولي الفلاني رأى نفسه كذا ورأى لنفسه كذا وقال لا أرى إذا كذا وأرى نفسي أنا الله، هو في الأصل حشاش يتعاطى المخدر أو الحشيش هذا؛ لأن هذه الحشيش لها تأثير على حواس الإنسان، فقد يجعل الإنسان يسمع الألوان ويرى الأصوات.
الحشاش والذي يتعاطى المخدرات يسمع الألوان يقول: أنا أسمع اللون الأحمر واللون الأصفر، وأسمعه جيداً! وأيضاً يرى الأصوات: أرى صوتك وأنت تتكلم فهذا يحدث؛ لأن المخدر يسبب اختلاط وتداخل الحواس فيشم العقيدة ويسمع اللون وهكذا.(88/44)