رجوع الإنسان إلى نفسه واكتشافه الخطأ
كذلك في الحديث: رجوع الإنسان إلى نفسه واكتشاف أن هذا من الشيطان أم لا، وأبو بكر الصديق لم يأنف أن يقول: إن هذا أوقعني فيه الشيطان، وأن الشيطان استدرجني في هذه، وأنني تابعت الشيطان في هذه، قال: إنما كان الشيطان، وأقر واعترف أنها من الشيطان.(27/15)
مدد الله لأوليائه
وكذلك في هذا الحديث: أن الله سبحانه وتعالى يجعل لأوليائه المدد من الأجر، فهذا أبو بكر الصديق كسب أجر من أتى بهم، ثم الذين جاءوا بعد ذلك وأكلوا، فالأجر والخير يتوالى على الصديق رضي الله تعالى عنه؛ لعلو منزلته عند الله تعالى.(27/16)
أهمية إكرام الضيف
وفي الحديث أيضا: إكرام الضيوف وأهمية إكرام الضيوف، وأن الإنسان لا يؤخر العشاء، ومن إكرام الضيوف: عدم تأخير الطعام عليهم، وبعض الناس قد لا يحسب جيداً فيؤخر الطعام عن الضيوف، فيأتيه الضيف بعد الظهر يأتي له بالطعام على أذان العصر.
فلذلك كان من إكرام الضيف: تعجيل الطعام، والدليل على ذلك أن الله قال عن إبراهيم: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] أي: الضيوف جاءوا، وهو بحركة خفية انصرف إلى أهله بخفية، حتى لا يقال تعال، وإلى أين تذهب، وحلفنا عليك لا تأتي بشيء، فراغ إلى أهله، ما قال ثم جاء، قال: فجاء، أي: أن عنده تدابير جاهزة للإطعام والطبخ والإنضاج، فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم، إذاً من إكرام الضيف تعجيل الطعام وعدم تأخيره.
هذا بعض ما ورد في هذه القصة من فوائد، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عن الصديق، وأن يعلي درجته وأن يجزيه الجزاء الأوفى.(27/17)
الأسئلة(27/18)
حكم أخذ العمولة دون علم صاحب الشركة
السؤال
بالنسبة للمناقصات التي ترسو على شركة لتنفيذها، تقوم هذه الشركة بتقسيمها إلى عدة أجزاء، ثم تعطيها مؤسسات بالباطن ومن الباطن، ويقوم مهندس الشركة بهذا العمل دون علم صاحب الشركة وأحياناً بعلمه، ويأخذ خمسة في المائة عمولة؟
الجواب
الموظف في الشركة مادام أنه يأخذ أجرة من الشركة، فلا يجوز له أن يأخذ من الناس أشياء، وأخذه من الناس هذه الأشياء مع وجود راتب له في عمله؛ لأن هذا عمله يقوم به ويأخذ مقابله راتبه المعلوم، فكونه يأخذ من الناس أشياء فهذا لا يحل له، خصوصاً وهو يقول في السؤال هنا: وأن بعض هذه الأشياء تتم بعدم علم صاحب الشركة، فالآن هذا موكل على المال، يأتي ويعطي لأناس ثم يأخذ منهم أموالاً دون علم صاحب العمل وصاحب الحلال والمال، فلاشك أن هذا اعتداء على صاحب الحق.
أما لو قال: أنا أريد أن أعطي هذه المؤسسات العقود الفلانية والفلانية والفلانية فاجعل لي نصيباً، واجعل لي نسبة، واجعل لي أجراً زائداً وإضافياً جزاء قيامي بهذا، فوافق صاحب العمل، لأن كل الأرباح حق لصاحب العمل، فإذا قال الموظف هذا لصاحب العمل: هذه الأشياء أوزعها على الناس وعلى شركات في الباطن، فاجعل لي نصيباً من الأرباح، اجعل لي مبلغاً معيناً أو نسبة من الأرباح، فوافق صاحب المال، فيأخذه وإلا فلا.(27/19)
حكم لبس الخواتم للرجال
السؤال
ما حكم لبس الخواتم للرجال؟
الجواب
بالنسبة للخواتم للرجال، فإن الذي جاء في السنة هو لبس خواتم الفضة، وجاء النهي عن لبس خاتم الحديد في حديث قد جاء كلام في صحته، ولكن الاقتصار على خاتم الفضة هو الذي ينبغي لأنه هو الذي ورد في السنة.(27/20)
(معنى كلمة: (غنثر
السؤال
ما معنى كلمة (غنثر)؟
الجواب
يا غنثر! كلمة تقال عند التوبيخ أو التعنيف أو التقريع.(27/21)
حكم أخذ ما بين الحاجبين من الشعر
السؤال
ما حكم أخذ ما بين الحاجبين من الشعر؟
الجواب
نتف ما بين الحاجبين للمرأة، قال بعض العلماء: أنه لا بأس به، وقال بعضهم: هذا تبع شعر الوجه لا ينتف، فلو لم تأخذ منه أحسن، وإن أخذت، فهناك من العلماء من يقول بجواز الأخذ.(27/22)
النيابة في إخراج الزكاة
السؤال
هل يجوز أن أخرج عن أهلي في مصر زكاة الفطر نيابة عني والعكس؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك.(27/23)
بم يدعى الناس في الآخرة؟
السؤال
ما الحكمة أن الناس في الدنيا يدعون لآبائهم، وفي الآخرة يدعون لأمهاتهم؟
الجواب
ما هو الدليل على أنهم في الآخرة يدعون لأمهاتهم؟ أين الدليل الصحيح على هذا؟ هذا اشتهر بين الناس، لكن حتى في الآخرة بل من الموت، عندما يعرجون به إلى السماء ويستفتحون له، فيقول أهل السماء: من؟ فيقول: فلان بن فلان بأحب أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، فالنسبة إلى الأب في الدنيا وفي الآخرة، ومن قال: إنه ينسب لأمه في الآخرة فعليه بالدليل، والنسبة الشرعية للأب، قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] النسبة للأب: (من انتسب إلى غير أبيه، فعليه لعنة الله) كما لعن النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه، من الذي ينسب إلى أمه؟ ولد الزنا هو الذي ينسب إلى أمه، لكن الابن الشرعي ينسب لأبيه.(27/24)
استجابة دعاء الطفل
السؤال
هل دعاء الطفل مستجاب؟
الجواب
نعم، دعاء الطفل المدرك المميز يستجاب، ولِمَ لا؟! وقد تقع أحياناً من الخوارق التي يجريها الله عز وجل، مثل الطفل الذي كان يرضع من ثدي أمه، فمر رجل ذو شارة حسنة على فرس، عليه هيئة حسنة ووجيه، فقالت الأم: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الطفل ثديها، فأقبل عليه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، لأنه كان جباراً من الجبابرة.
وبينما امرأة كانت ترضع رضيعاً لها، إذ رأت جارية تجر وتسحب، ويقال: سرقتي زنيتي، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثله، فترك الثدي، فقال: اللهم اجعلني مثلها، أي: في أجر المظلوم؛ لأنها مظلومة افتروا عليها وما زنت ولا سرقت، وتمنى أجر ما لهذه المظلومة.
والغلام في قصة أصحاب الأخدود إن لم يكن بالغاً، فإنه قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، واستجاب الله دعاء الغلام، وانقلب بهم الجبل، وانقلب بهم القارب، فاستجاب الله دعاءه، وقال: اللهم إن كنت تعلم أن أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها.(27/25)
حكم صلاة الجماعة للمتزوج في أول أيام زواجه
السؤال
هل صحيح أن المرأة البكر على زوجها أن يمكث معها أسبوعاً لا يخرج لصلاة الجماعة في المسجد، والمرأة الثيب أن يجلس معها ثلاثة أيام؟
الجواب
هذا من الافتراءات العامة على الشريعة، ولا يوجد مثل هذا أبداً، لو تزوج الليلة هذه فصلاة الفجر غداً في الجماعة واجبة عليه، ولا يجوز له أن يترك حق الله لأجل المرأة.
فالرجل إذا تزوج امرأة بكراً وعنده زوجات، فإنه يمكث عندها سبعاً ثم يقسم، وإذا كان عنده زوجات وتزوج ثيباً، يمكث عندها ثلاثة أيام ثم يقسم بين نسائه، فلعل هذا اشتبه عليه الأمر، وإلا فليس من الصحيح مطلقاً أن يترك صلاة الجماعة ولا يجوز له أن يترك فرضاً واحداً.(27/26)
استحقاق الزكاة
السؤال
شخص يستلم ثلاثة آلاف، وعليه قسط سيارة وإيجار منزل، ولا يصف له بعد هذا إلا ما يقارب ألف ريال؟
الجواب
إذا كان ما يصف له يكفيه، فلا يستحق الزكاة، أما إذا كان لا يكفيه فيستحق الزكاة.(27/27)
إعطاء الزكاة للأقارب
السؤال
هل يجوز أن أعطي كل زكاة الأموال إلى أختي دائماً؟
الجواب
إذا كانت فقيرة، فلا يجوز أن يحابى الأقرباء بالزكاة، وتجد بعض الناس يحابون أقرباءهم بالزكاة، يعني: يكون وضع القريب هذا وسطاً، وعنده ما يكفيه، وعنده سكن ولبس وأكل، وليس عليه ديون مطالب بها، فيقول: أعطيه زكاتي، لماذا؟ يقول: حالته ميسورة، إذاً: أنت باعترافك تقول: أنها ميسورة، فكيف يستحق الزكاة؟ وإذا قال: حالته ضعيفة، نقول: صف لي حالته الضعيفة هذه؟ عنده سكن؟ نعم، عنده طعام ولباس وحاجته؟ وعنده الأشياء الضرورية في البيت كالمكيف والثلاجة في البلاد الحارة؟ نعم، نعم، نعم، إذاً بأي حق يأخذ؟ فلا يجوز أن يحابى بالزكاة قريب، وتعطى للفقير الحقيقي، وإذا كان القريب فقيراً؛ يكون فيها أجران.(27/28)
من رأى هلال رمضان وحده
السؤال
من رأى هلال رمضان وحده، هل يجب عليه الصيام؟
الجواب
نعم، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].(27/29)
نذر الطاعة
السؤال
نذرت أن أقوم الليل؟
الجواب
هذا من نذر الطاعة، فيجب عليه أن يفي به، فإن عجز عنه قضاه، وإن لم يقض فعليه كفارة يمين.
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(27/30)
طالب العلم والمنهج
العلم الشرعي يدل على الله سبحانه وتعالى، ويقود إلى معرفته وخشيته والعلم بشريعته، ولأجل هذا كان الحث على طلب العلم، وفي هذا الدرس بيان للقواعد التي تيسر لطالب العلم الطلب، وتهديه إلى الطريقة الصحيحة والمنهج السوي.(28/1)
فضل العلم وأهله
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأحمد الله الذي لا إله إلا هو، أحمد الله الذي برأ الخليقة، وأشهد أهل العلم على خير حقيقة، فقال سبحانه وتعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين القائل: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو صاحب السنة الذي قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
وبعد: أيها الإخوة! فإن أشرف ما صرفت فيه الأوقات طلب العلم، ذلك أن العلم الشرعي يدل على الله سبحانه وتعالى، ويقود إلى معرفته وخشيته، والعلم بشريعته، ولأجل ذلك كان أفضل الناس بعد الأنبياء هم العلماء، وهم ورثة الأنبياء، والعلم مراتب، وطلاب العلم لهم من هذا الشرف نصيب ولا شك، ولأجل هذا فإن الحث على طلب العلم أمر مهم، وهذا العلم بحر غزير، ومن أجل ذلك كان لابد من معرفة القواعد التي تيسر لطالب العلم الطلب، وتهديه إلى الطريقة الصحيحة والمنهج السوي، إذا إن الكثيرين يتحمسون لطلب العلم، ولكنهم قد لا يعرفون المنهج الصحيح في طلبه.
وقد سبق أن تكلمنا في محاضرة بعنوان: (كيف نتحمس لطلب العلم؟) عن مسألة الدوافع والحماس والحوافز، ووعدنا بأن نتكلم في محاضرة أخرى عن المنهجية في طلب العلم، وهاهي ذي هذه المحاضرة بعنوان: (طالب العلم والمنهج) أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا وإياكم على السنة هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
ليس كل مريد للحق يصيبه، فكم من أناس أرادوا الحق فلم يصيبوه، والكلام في مسألة المنهجية لا تصلح لمثلي؛ لأن الذي يريد أن يتكلم في المنهج لابد أن يكون من أهل العلم الراسخين فيه، ولكني استعنت بالله سبحانه وتعالى، ولجأت إلى كتب أهل العلم لأنقل منها كثيراً من القواعد التي تحدد المنهج في الطلب، فرجعت في هذه المحاضرة إلى كلام العلماء المتقدمين، مثل كلام الإمام أحمد رحمه الله وابن رجب والذهبي وابن مفلح وابن القيم وابن الجوزي وغيرهم من أصحاب الكتب المصنفة في هذا الموضوع، مثل الخطيب البغدادي رحمه الله.
ولجأت إلى بعض أهل العلم الموجودين الآن كالشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من العلماء وطلاب العلم الكبار؛ لأجل استخراج الضوابط والقواعد في هذا المنهج، فما أصبت فمن الله، وما أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل العروة الوثقى المتمسكين بالسنة والحريصين على طلب العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].(28/2)
ضوابط ومعالم في طلب العلم
أما المنهج في طلب العلم فإن له شُعب كثيرة، وقواعد متعددة، فمن هذه الأمور:(28/3)
معرفة المنهج الذي ينبغي طلبه
أولاً: معرفة ما هو العلم الذي ينبغي طلبه؟ قال ابن رجب رحمه الله في تعريف العلم الذي يطلب، في شرح حديث: (إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) قال: فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق لذلك؛ إن كان من الأمور العلمية -لأن كثيراً من الأحاديث تضمنت أموراً علمية اعتقادية، وليست أعمال جوارح- وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيع من الأوامر، واجتناب ما يُنهى عنه، وتكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك.
ثم قال رحمه الله تعالى: أما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله عز وجل، وما يفسره من السنة الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها، وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك.
وهذا هو طريق الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شُغل شاغل عن التشاغل بما أُحدث من الرأي مما لا ينتفع به:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خُلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه
كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التأويل والتشبيه
واعلموا -رحمكم الله- أن من العلم ما يكون من صلب العلم، ومنه ما يكون من ملح العلم وأطرافه، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، فالذي شرحناه قبل قليل هو من كلام ابن رجب رحمه الله هو طلب العلم، وأما ملح العلم فسيأتي أشياء منه، ولكن في العموم ليس هو من الأشياء الأساسية، وإنما أطراف وفوائد ونكت، فهذا يكون في الدرجة الثانية، ومنه ما ليس بعلم أصلاً، كالسعي لمعرفة أحكام العبادات التي لم يخبر الشرع عن الحكمة فيها، مثل أن يقول الإنسان: أريد أن أبحث لماذا عدد ركعات صلاة الظهر أربع ركعات؟! وعدد ركعات صلاة المغرب ثلاث ركعات؟! وعدد ركعات صلاة الفجر ركعتين؟! ما هي الحكمة؟! أو لماذا اختص الصيام بالنهار دون الليل؟! لماذا اختص الحج بالرمي والوقوف بـ عرفة ومزدلفة؟! وقد يزعم بعض الناس حكماً لا تكون من مقاصد الشارع أصلاً.
قال الشاطبي رحمه الله مضيفاً -أيضاً- في هذا التقسيم في الأشياء التي ليست من العلم، أو أن الإنشغال ببعض الملح يصيرها أشياء غير نافعة، فتفوت على الإنسان خيراً كثيراً، وأشياء من الأساسيات، فمما ضربه رحمه الله تعالى من الأمثلة جمع طرق للحديث التي لا داعي لها.
فحديث متواتر يأتي فيجمع طرقه لأي شيء وقد بين العلماء أنه متواتر وذكروا طرقه، كما قال حمزة الكناني: خرَّجتُ حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو مائتي طريق، فداخلني في ذلك الفرح، فنمت فرأيت في النوم يحيى بن معين، فسألته عن هذا؟ ففكر ساعة ثم أجابني، وقال: أظن أنه يدخل تحت قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
نحن لا نعتمد على الرؤى في العلم فهي ليست علماً، ولا يجوز الحكم على الأشياء من خلال الرؤى والمنامات، لكن الرؤى إذا وافقت الكتاب والسنة فيستأنس بها، فمن الأشياء التي ليست بعلم أصلاً، ما يراه الإنسان في الرؤى والمنامات، ولذلك الصوفية من ضلالهم أنهم يعتمدون على الرؤى والمنامات في إثبات العلم، يقولون: هذا علم أصيل، رأيت في المنام حدثني قلبي عن ربي، وهكذا.(28/4)
من التكلف الخوض في مسائل لا ينبني عليها عمل
ومن المنهج في طلب العلم، أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه، فالعلم منه ما هو ضروري، ومنه ما هو حاجي، ومنه ما هو تحسيني، ومنه ما ليس بعلم أصلاً كما ذكرنا.
ولذلك لما سألوا: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] ما هو سؤالهم؟ قالوا: لماذا يكون الهلال في أول الشهر خيطاً رفيعاً، ثم يمتلأ فيصير بدراً في منتصف الشهر، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ فصرفهم الله عز وجل عن هذا الشيء الذي لا ينبني عليه عمل إلى الشيء الذي ينبني عليه عمل، فقال لهم: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فأعرض عما لا يفيد عملاً للمكلف إلى شيء يفيد عملاً، فقال: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
ولما سأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟ هذا لا يفيد، والله عز وجل اختص بمعرفته، فبماذا أجاب عليه الصلاة والسلام؟ (ما أعددت لها؟).
ولما جاء صبيغ بن عسل يشوش ويسأل في مجالس العامة: ما هي المرسلات؟ ما هي السابحات؟ فأمسك به عمر فضربه حتى أدماه، ثم نفاه حتى تاب.
فكل مسألة لا ينبني عليها عمل ولا عقيدة، فتركها واجب: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) مثل الاشتغال بمعرفة الحروف المقطعة، ولذلك قال الشاطبي رحمه الله: كل علم لا يفيد عملاً -سواء كان عمل قلب أو عمل جوارح- فليس في الشرع ما يدل على استحسانه.(28/5)
ترك الغرائب والشواذ
ومن القواعد في المنهج أيضاً، ترك الغرائب والشواذ، قال الأكرم: سأل رجل أبا عبد الله -الإمام أحمد - عن حديث؟ فقال أبو عبد الله: الله المستعان! تركوا العلم وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم! وقال الحسن بن محمد: سمعت أحمد بن حنبل سُئل عن أحاديث غرائب؟ فقال: شيء غريب! أي شيء يرجى به؟! يطلب الرجل ما يزيد في أمر دينه، وقال: شر الحديث الغرائب التي لا يُعمل بها ولا يُعتمد عليها.
وقال النخعي: "كانوا يكرهون غريب الحديث".
وقال علي بن الحسين: "العلم ما تواطأت عليه الألسن".
ما اشتهر بين العلماء، هذا هو العلم، أما أن تأتي بالغرائب والشواذ؛ فهذا خطأ في منهج طلب العلم.
ولذلك فإن بعض الشباب إذا أقبلوا على القراءة أحياناً، فقرءوا -مثلاً- في كتاب صحيح الجامع، يجعلون قراءتهم فيه، ويقولون: نطلب العلم، فقد يمر بحديث منسوخ، أو حديث في متنه نظر، أو حديث خالف قواعد وأصول أخرى، فيعتمدونه، ولذلك يحصل عندهم من الأخطاء شيء كثير، ثم يجادلون به أهل العلم، فيضيعون الأوقات من أعمارهم وأعمار غيرهم.(28/6)
حقيقة طالب العلم
قبل أن نكمل مسألة الضوابط ومعالم المنهج، لابد أن نعرج على مسألة؛ لأن سياق الحديث قد يتغير عند بحث هذه المسألة، وهذه القضية هي: عندما نقول: طالب العلم والمنهج، فمن هو طالب العلم الذي نقصده؟ وهل كل الناس يصلحون أن يكونوا طلبة علم؟ والحال التي نعيش فيها نحن اليوم، وتركيبة المجتمع، وهذه الوظائف الموجودة وغير ذلك، هل هي تمكن الناس فعلاً أن يكونوا طلبة علم؟(28/7)
هل كل الناس يصلحون لطلب العلم
أيها الإخوة! إن الناظر في الواقع لابد أن يعرف ويخرج بنتيجة واضحة وهي: أن الناس جلهم لا يمكن أن يكونوا طلبة علم.
فهناك اختلافات في السنة والوظيفة والدراسة منهم من يدرس الطب والهندسة، ومنهم من يدرس الشريعة، وحتى في الذكاء والفطنة والرغبة والميول يتفاوتون، وفي التفرغ منهم من يكون عزباً دوامه قصير، أو جدوله قليل، ومنهم من يكون صاحب أسرة وأولاد وعمله طويل، وقد يعمل عملاً إضافياً، وقد يعمل بالليل والنهار، وهذه القيود من التفرغ والتخصص والميول والتفاوت في القدرات العقلية، لابد أن تلجئنا إلى شيء مهم جداً لابد أن نعترف به عند الخوض في هذه القضية، من الناس من هو عامل، ومنهم من هو مهندس، ومنهم من يشتغل بالدعوة إلى الله، ومنهم من هو منشغل بأمر نفسه.
وحتى البلاد تختلف، فمن البلاد من يكون فيها علماء، ومن البلاد ما لا يكون فيها علماء، ومن البلاد من فيها عالم في فن واحد، ومنها ما فيها عالم في عدة فنون، ومن البلاد ما يكون فيها جامعات شرعية إسلامية، ومن البلدان والقرى ما لا يكون فيها جامعات شرعية، ومن البلاد ما يكون فيها دروس في المساجد، ومن البلاد ما ليس فيها دروس في المساجد.
ولذلك لابد أن نقرر -وهذا الكلام مهم جداً- أن هناك فرقاً عظيماً بين المتفرغ لطلب العلم وغير المتفرغ، المتفرغ لطلب العلم الذي دراسته شرعية، وعنده أهلية واستعدادات، وبين الإنسان المنشغل الذي يدرس قضية أخرى، قد يدرس في الهندسة أو الطب، أو يدرس في علوم خارجة عن الشريعة متنوعة، لاشك أن هذا الرجل المنشغل بأشياء أخرى يصعب عليه أن يكون طالب علم.
نحن لا ننفي ولا نقول: لا يمكن للطبيب وللمهندس أن يكون طالب علم! لا، وهذا خطأ، والذين يقولون: أي طبيب أو مهندس يدخل في نقاشات علمية هذا متطفل، هؤلاء أناس مخطئون عندهم غلو في القضية.
نعم.
إن غالب المهندسين والأطباء ليسوا طلبة علم، ولا يصلحون أن يكونوا طلبة علم بوضعهم الحالي، فطلب العلم يحتاج إلى جهد كبير، ووقت عظيم، ولا يمكن لإنسان يداوم من الساعة السابعة صباحاً إلى الرابعة عصراً أن ينجح في طلب العلم، ويكون طالب علم قوي، إلا ندرة من الناس عندهم استعدادات غير طبيعية، وهؤلاء الأشخاص ليسوا موضع البحث الآن.
لكن الذي نريد أن نقوله: إن الذي يظن أن هؤلاء العمال والأطباء والمهندسين يمكن أن يكونوا طلبة علم جيدين إنسان مخطئ، ومتفائل تفاؤلاً خاطئاً، والذي يظن أن الأطباء والمهندسين لا يمكن أن يخرج منهم طلبة علم جيدين، فهو مخطئ أيضاً لأن الناس طاقات.
ثم يجب أن نقرر أن الاتجاه ليكون الإٍنسان عالماً، هذا يكون لندرة من الناس الذين يكونون علماء من الذي تتوفر عنده الهمة والداعي والحافز والحفظ والتقوى والفطنة والذكاء وسعة البال، لكي يحفظ ويُقبل ويُفكر ويستنبط ويرجح، وفي النهاية الذي يستطيع أن يصل إلى هذه المرتبة؟ هم قلة من الناس، لكن هذا لا يمنع من المحاولة لمن وجد في نفسه الأهلية للطلب الجيد.(28/8)
حاجة المسلمين إلى تخصصات كثيرة
لابد أن نقول: إننا لا نريد من جميع المسلمين أن يكونوا طلبة علم أقوياء أو يكونوا علماء، لأننا نحتاج إلى أطباء ومهندسين وعمال وصناع، ونحتاج إلى خبراء في الجهاد والسلاح، فالمسلمون يحتاجون إلى تخصصات كثيرة، فليس المقصود الآن هو دفع المسلمين كلهم لأن يكونوا طلبة علم أو علماء.
وإنما لابد أن نركز على قضية، وهي: أن فئات المسلمين مهما اختلفت، وأفراد المسلمين مهما اختلفوا، فلابد أن يكون عندهم حد أدنى، ولابد أن يعرفوا أشياء أساسية عن الإسلام، هذا دينهم الذي يدينون الله به، وهذه عباداتهم التي يعبدون الله بها، فلابد أن يكون عندهم علم عن الأساسيات.
وهذا الكلام مهم لبعض الناس الذين يشتتون أنفسهم في التخصصات الشرعية وغير الشرعية، فلا يحسنون في هذا ولا في هذا، لأن التخصص غير الشرعي يحتاج إلى متابعة، وتنمية مهارات، واطلاع، ويحتاج إلى معرفة ما جد فيه من قراءة الدوريات والأبحاث الجديدة، مثل أدوية جديدة، وطرق جديدة في الصناعة، فهل يستطيع أن يجمع بين هذه الأشياء وما استجد فيها، وبين العلوم الشرعية التي هي بحر زخار؟ لاشك أنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا ندرة من الناس، وهذه قضية واقعية، وهذا الواقع يفرض نفسه، ويجب ألا يغيب عن بالنا.(28/9)
التفريق بين المتخصص وغير المتخصص في طلب العلم
هناك نقطة أخرى ألا وهي: التفريق بين المتخصص وغير المتخصص، هناك أناس اتجهوا للعلم منذ نعومة أظفارهم، ودرسوا في المعاهد العلمية ثم الكليات الشرعية مثلاً، هؤلاء أناس أهليتهم لطلب العلم وتمكنهم أكثر من أناس درسوا في الثانويات العلمية تخصص علمي، ودخلوا جامعة علمية في علمٍ من العلوم الدنيوية، هؤلاء لاشك أنهم سيكونون أقل استطاعة وأقل قدرة على أن يكونوا طلبة علم أقوياء، ليس في ذلك شك ولا جدال وهذه قضية مفروغ منها، لكن لا يمنع ذلك أن يجتهد الجميع في تحصيل ما يمكنهم من العلم.
إنما الفرق الذي سيظهر في الجدول في المنهج الذي سيسلكه المتفرغ وغير المتفرغ، المتخصص في التخصصات الشرعية الحريص، وبين غير المتخصص الذي لا يمكنه، الفرق سيكون في الاتجاه في درجة الطلب والآلات المستخدمة، وهنا سيكون هناك فرق كبير في هذا.
ولذلك نضيف أيضاً فنقول: أن طلب العلم ليس حكراً على أصحاب التخصصات الشرعية، فليس طلب العلم حكراً على أصحاب كليات الشريعة أو أصول الدين ونحو ذلك، وإنما هو مفتوح لكل من كان عنده أهلية طلب العلم بطريقه الصحيح ومنهجه السوي.
ونريد من وراء هذا الكلام أن نصل إلى أن العلم الشرعي ليس فوضى يتطفل عليه من شاء، فيأتي فلكي ويدخل في العلم الشرعي، ويرجح بين أقوال المفسرين، وهذا ما وجدناه عند كثيرٍ ممن اشتغلوا بقضية الإعجاز العلمي اشتغالاً فارغاً منحرفاً، وهم ما عندهم علم بلغة العرب، ولا بأساليب العرب، ولا بقواعد التفسير، ولا بكلام العلماء، ثم يدخلون في الآيات ويقولون: الراجح فيها كذا، هذا كشف العلم عنه الآن، فيا ويلهم! مما يريدون أن يوقعوا فيه الأمة، ويقعوا هم على رءوسهم.
فمجال العلم الشرعي مجال ضخم عميق، هذا دين من عند رب العالمين، لا هو فيزياء ولا كيمياء ولا طب ولا تجارب بشرية، هذا دين، والذي يريد أن يدخل في هذا الدين لابد أن يكون أهلاً للدخول.
ولذلك فإن العلم الشرعي ليس فوضى يدخل فيه كل من هب ودب، ويرجح بين الأقوال كل من هب ودب، ويستنبط من النصوص كل من هب ودب، هذه قضية ينبغي أن يؤكد عليها وأن تعرف، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.(28/10)
طلب العلم مع العمل في مهنة
وطلب العلم لا يمنع أن يكون الإنسان عنده مهنة، فقد وجدنا من العلماء من كان بزازاً يبيع أقمشة، أو بائع خضار وبقول، أو يصلح الساعات، مادام وجد الاستعداد والأهلية والمنهج الصحيح، لا يمنع أن يكون بائع خضار ويطلب العلم.
والذي لا يستطيع أن يكون طالب علم تجيد طبيعة عمله أو منطقته، أو قدراته وحفظه وفهمه، فهذا الإنسان نقول له: لا يمكن أن تترك الدين وتترك الطلب، لكن طلباً يناسب حالك، فمثلاً: يحضر المحاضرات العامة الإسلامية، والدروس التي تناسب مستواه إن وجدت، يقرأ في كتب الثقافة الإسلامية العامة، ويسأل أهل العلم ويحاول معرفة الدليل لكي يعبد الله على بصيرة، ويقلد العالم إذا كان عامياً، مذهب العالم مذهب مفتيه، ثم إن هذا الشخص لن يشتغل بعلوم الآلة لن يدرس المصطلح، ولا أصول الفقه، ولا اللغة، ولا قواعد التفسير، ولا علم البيان والبديع والبلاغة دراسة قوية، هذا غير المتخصص الذي لا يكون طالب علم على المنهج، هذا الشخص له وضع خاص ينبغي أن يعرف شأنه وحاله.
فهذا -مثلاً- إذا أراد أن يدرس الفقه لا مانع أن يدرس الفقه، ويقرأ في الفقه، لكن كيف يفعل؟ إنه مثلاً يتعلم العبادات؛ لأنه يحتاج إليها، لكنه لا يقرأ في أبواب القضاء والبينات، ومسائل الطلاق الفرعية، والمسائل والقواعد الفقهية، والدعاوى والإقرار والشهادة، هذه أبواب ليست له، هذه الأبواب لطلبة العلم المتخصصين والعلماء.
ولذلك فإن كثيراً من الذين لا يدركون حالهم ويعرفون قدرهم، يريدون ركوب السلم بالمقلوب، أو يريدون تحصيل الأشياء الكبيرة، وليس عندهم قدرة، فيتردون على رءوسهم، هذا الشخص يعرف أشياء عن العبادات من أجل أن يعبد الله، يعرف أشياء عن فقه الصلاة والزكاة والصيام والحج، لا مانع أن يتعلم من النحو شيئاً يقوم به لسانه، يدفع الجهل عن نفسه، يتعلم من دين الله ما يستطيع، لكن هذا الشخص لا يخطط له أن ينقل العلم إلى غيره، بمعنى أن يصبح معلم علم شرعي، يمكن أن ينقل فتوى لآخر، يقول: أنا سألت فلاناً من المشايخ، وقال لي كذا، وأنا أنقل الفتوى إليك.
لكن يتبوأ حلقة علمية يوماً من الأيام في مسجد من المساجد فهذا لا يُتوقع له ذلك، وكما قلنا: هذا لا يشتغل بعلم الآلة بالمصطلح والأصول والنحو ونحو ذلك.
وكما قلنا: نحن لا نطالب الجميع بأن يكونوا طلبة علم حقيقيين؛ لأن الأمة تحتاج إلى طاقات أخرى كثيرة، وطلب العلم الحقيقي لا يحصل إلا للشخص المتفرغ المجد، لا يحصل للذين يعطون للعلم فضول الأوقات، ليس الأطباء والمهندسون والموظفون في مجملهم يمكن أن يسلكوا طريق العلم القوي، ونحن لا نريد أن نخدع هؤلاء، ونقول لهم: بإمكانكم أن تكونوا علماء ابدءوا، لا فهذا من عدم النصيحة.
وإنما نقول له: يا أخي! هذا وضعك وظرفك، وهذه طاقاتك وقدراتك، ينبغي أن تسلك سبيلاً للتعرف فيه على دين الله، وتعرف أكبر ما يمكنك أن تعرفه، تعرف الأشياء التي لابد أن تعرفها من أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والصيام والحج إذا أردت أن تحج، والنكاح إذا أردت أن تنكح، والبيع إذا أردت أن تبيع.
والناس في نقص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن تتناقص البركة في كل شيء، ويتناقص الحفظ، ويتناقص العمق في الفهم، وتتناقص أشياء كثيرة: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) الآن الذين يريدون أن يكونوا علماء أقوياء هم قلة وندرة من البشر.
وهذا العلم يقبض، ولابد أن نسعى في نشره وتحصيله، ونحن نعرف حقيقة أنفسنا وقدراتنا الذاتية، نحن نبين لهذا غير المتفرغ، نقول: أنت على خير إن شاء الله، وتمسك بالدين وربي نفسك عليه وأهلك وأولادك، وادعُ إلى الله على بصيرة، واطلب من العلم ما تستطيع طلبه، واسأل أهل العلم، وقلد العالم واستفته، واسمع الأشرطة، واقرأ بعض الكتب المبسطة، ولا بأس أن تقرأ بعض المتون البسيطة، لكن لا نكلفك بحفظ المتون، اقرأ متوناً بسيطة مع شروحاتها مثلاً، واقرأ بعض كتب التفسير، هذا شيء مطلوب منك، وبعض شروحات العقيدة المبسطة، وبعض كتب الحديث، واطلع على رياض الصالحين مثلاً، واقرأ في كتب الفتاوى للعلماء، وافهم فتاوى العلماء، وخذ رسائل وأبحاث صغيرة في مسائل متفرقة، في صفة الصلاة وكيفية الأضحية، أو بحثاً في صلاة الاستخارة وخذ حاشية لـ كتاب التوحيد مبسطة، مثل حاشية الشيخ ابن القاسم مثلاً، اقرأ في الكتب المبسطة لا مانع، والأشياء التي تشكل عليك اسأل عنها.
والشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، لما رأى تدني مستوى العلم عند الناس؛ لجأ إلى تبسيط كثير من العلوم، ووضع كتباً جيدة تصلح أن يقرأها العامة.
ونقول لهذا الشخص الطبيب أو المهندس غير المتفرغ لطلب العلم: اقرأ أبحاثاً في العقيدة، مثلاً سلسلة الشيخ عمر الأشقر، بعضها يصلح لأن يقرأ فيها، وخذ أشياء تتعلق بفقه الدعوة، ولابد أن تقرأ في السيرة والأخلاق لكي تتكامل الشخصية، وإذا وجدت دروساً احرص على حضورها، لكن لو كان هناك درس في أصول الفقه لا يصلح أن تحضره، إذا لم يكن عندك استعداد أو أهلية، يحضر درس في التفسير أو في السيرة أو في الفقه يحتاج إليه، نعم.
ونقول له: أنت إذا درست الفقه مثلاً، لا تحتاج أن تواصل بعد العبادات في المعاملات، وتذهب في الجنايات والشهادات، وأحكام العتق والمدبر ونحو ذلك من الأمور، التي لا تحتاج إليها أصلاً.
غير المتفرغ -كما قلنا- لن يتخصص في علوم الآلة في المصطلح والنحو والأصول وقواعد التفسير، لكن يحتاج أن يعرف اصطلاحات العلماء، ما هو الواجب والمكروه والمباح والمستحب والمحرم؟ ولا يشترط له أن يسير في الفقه على ترتيب منهجي يلتزم به بالضرورة، ولكن إذا احتاج أن ينكح سأل وقرأ في أحكام النكاح، وإذا احتاج أن يبيع سأل وقرأ في أحكام البيوع وهكذا، ينتهز الإجازات ويأخذ حضه من العزلة، توفر له الوقت يعكف على سماع أو قراءة؛ لأنه ليس طالب علم متفرغ، لابد أن نقدر المسألة حق قدرها.
موظف عنده ثمان ساعات عمل، وعمله لا علاقة له بالأمور الشرعية، كله لغة إنجليزية، أو أشياء تقنية، وتكنولوجيات، وأدوية، وغالب وجوده يمكن أن يكون مع أناس غير مسلمين، وتخصصه غير شرعي لا يمت للشريعة بصلة، وهو كذلك يقضي أنفس أوقات اليوم من الساعة السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً في هذا العمل في أعمال كهربائية، وأعمال هندسية، وأعمال طبية، وعقله وجسده يستنفذ في هذه الأشياء، والعلم ضخم يحتاج إلى تفرغ يحتاج إلى طاقات رهيبة ولذلك يصعب ولا يمكن.
وليس من الواقع أن نقول: نريد منك أن تكون طالب علم قوي، لكن الذي يريد أن يعد نفسه من البداية لأن يكون طالب علم في المستقبل، هب أنه تعذر عليك أن تكون طالب علم قوي، لكن تريد ذلك من ولدك، إذاً لابد من قواعد المنهج في طلب العلم أن تحسن البداية، وحسن البداية يقود إلى حسن النهاية.(28/11)
القواعد المنهجية في طلب العلم
والبداية في منهج طلب العلم، قال الإمام أحمد رحمه الله: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل المسلم من تعلم القرآن فاتحة الكتاب، وحفظ القرآن مستحب، وضبط جميع القرآن واجب على الكفاية؛ لأن الأمة لابد أن يوجد فيها أناس يُعلِّمون الأجيال القرآن قراءة صحيحة.
فإذاً لو كان عندك ولد صغير ترجو أن يكون له شأن في المستقبل، فلابد أن تشرع في تحفيظه القرآن، قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه -نعم تعلم القرآن كله لولدك، لكن إذا عسر على الولد علمه منه، ابدأ بالأجزاء الصغيرة واليسيرة- ثم قال لي: إذا قرأ أولاًً تعود القراءة ثم لزمها، واستمرت معه قراءة القرآن فلا تغيب عنه، وطالب العلم أول ما يشتغل لاشك بحفظ كتاب الله، والذي يبدأ غير هذه البداية؛ فإنه منكوس.
أما ما ورد عن ابن المبارك رحمه الله، أنه قال: إن العلم يقدم على نفل القرآن.
فمقصوده أن العلم الذي يتعين على صاحبه أن يعمله، يقدم على حفظ أجزاء من القرآن، فلو أن واحداً ليس بحافظ للقرآن، لكنه لا يعرف ما هي واجبات الصلاة، ولا أركان الصلاة، وجاءنا قال: أنا حفظت مثلاً جزء عم، هل أشرع في جزء تبارك أو أدرس أحكام الصلاة؟ نقول: ادرس أحكام الصلاة هذا علم يتعين عليك معرفته، يقدم على نفل القرآن، لكن إذا جئت من الأصل ومن الصغر فعليك البدء بحفظ القرآن، وهذا هو فعل العلماء، ما تقرأ في سيرة عالم من المشاهير إلا تجد في ترجمته: قرأ القرآن، وحفظه وهو ابن ثمان سنين أو عشر سنين أو اثنتي عشر سنة، قرأه على فلان، بدأ بما يشبه المدرسة، حلقة شيخ وأول شيء يحفظه القرآن، ويقرئه القرآن قراءة سليمة.
هناك فرق بين القراءة السليمة وبين الحفظ، هو يحفظ لكن مع الحفظ الإنسان لا يستطيع أن يحفظ القرآن كله بسرعة، فهو يحفظ ويقرأ قراءة سليمة، فلابد أن طالب العلم أو الولد في صغره يدرس في القرآن أمرين مهمين جداً: أولاً: يبدأ بحفظ القرآن.
ثانياً: يقرأ القرآن قراءة سليمة، كلمات مضبوطة ضبطاً صحيحاً، لابد من هذين الأمرين: الشروع في حفظ القرآن، وقراءة القرآن كله على شيخ قراءة سليمة.
وأما الذين يكسرون ويخبطون في القرآن، وينطقون بالآيات على غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى، فلاشك أن هؤلاء جهلوا جهلاً عظيماً، ثم يريدون بعد ذلك أن ينتقلوا بعد ذلك إلى التصحيح والتضعيف في الأحاديث هذا هراء.
أما بالنسبة لغير المتفرغ في هذه المسألة، فإن الأمر كما نقلنا عن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل هل طلب العلم فريضة؟ قال: نعم، لأمر دينك وما تحتاج إليه من أن ينبغي أن تعلمه، وقال: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، ولا يفرط في ذلك، وقال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لابد له من طلبه، قلت: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك.
وقال في طلب العلم الواجب: ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام، فقال: ينبغي أن يتعلم ذلك.(28/12)
تعلم القرآن وحفظه أولاً
قال الإمام أحمد رحمه الله: والذي يجب على الإنسان من تعليم القرآن والعلم ما لابد له منه في صلاته وإقامة عينه، وأقل ما يجب على الرجل المسلم من تعلم القرآن فاتحة الكتاب، وحفظ القرآن مستحب، وضبط جميع القرآن واجب على الكفاية؛ لأن الأمة لابد أن يوجد فيها أناس يُعلِّمون الأجيال القرآن تعليماً صحيحاً.
إذاً: لو كان عندك ولد صغير ترجو أن يكون له شأن في المستقبل، فلابد أن تشرع في تحفيظه القرآن، قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك: أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث؟ قال: لا، بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ قال: نعم.
إلا أن يعسر فتعلمه منه.
ثم قال لي: إذا قرأ أولاًً تعود القراءة ثم لزمها، واستمرت معه قراءة القرآن فلا تغيب عنه.
وطالب العلم أول ما يشتغل -لاشك- بحفظ كتاب الله، والذي يبدأ غير هذه البداية؛ فإنه منكوس.
أما ما ورد عن ابن المبارك رحمه الله، أنه قال: إن العلم يقدم على نفل القرآن.
فمقصوده: أن العلم الذي يتعين على صاحبه أن يعمله، يقدم على حفظ أجزاء من القرآن، فلو أن إنساناً غير حافظ للقرآن، لكنه لا يعرف ما هي واجبات الصلاة، ولا أركان الصلاة، وجاءنا قال: أنا حفظت -مثلاً- جزء عم، هل أشرع في جزء تبارك أو أدرس أحكام الصلاة؟ نقول: ادرس أحكام الصلاة هذا علم يتعين عليك معرفته، يقدم على نفل القرآن، لكن إذا جئت من الأصل ومن الصغر فعليك البدء بحفظ القرآن، وهذا هو فعل العلماء، لا تقرأ في سيرة عالم من المشاهير إلا وتجد في ترجمته: قرأ القرآن وحفظه وهو ابن ثمان سنين أو عشر سنين أو اثنتي عشر سنة، قرأه على فلان هناك فرق بين القراءة السليمة وبين الحفظ يحفظ لكنه مع الحفظ لا يستطيع أن يحفظ القرآن كله بسرعة، فهو يحفظ ويقرأ قراءة سليمة، فلابد أن طالب العلم أو الولد في صغره يدرس في القرآن أمرين مهمين جداً: أولاً: يبدأ بحفظ القرآن.
ثانياً: يقرأ القرآن قراءة سليمة، وينطق الكلمات والحروف منطقاً صحيحاً.
وأما الذين يُكسِّرون ويخبطون في القرآن، وينطقون الآيات على غير ما أنزلها الله سبحانه وتعالى، فلاشك أن هؤلاء جهلوا جهلاً عظيماً، ثم يريدون بعد ذلك أن ينتقلوا بعد ذلك إلى التصحيح والتضعيف في الأحاديث، وهذا هراء.
أما بالنسبة لغير المتفرغ في هذه المسألة، فإن الأمر -كما نقلنا- عن الإمام أحمد رحمه الله عندما سئل: هل طلب العلم فريضة؟ قال: نعم، لأمر دينك وما تحتاج إليه مما ينبغي أن تعلمه.
وقال: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، ولا يفرط في ذلك.
وقال: الفرض الذي يجب عليه في نفسه لابد له من طلبه، قلت: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك.
وقال في طلب العلم الواجب: ما يقيم به دينه من الصلاة والزكاة وذكر شرائع الإسلام، فقال: ينبغي أن يتعلم ذلك.(28/13)
التزام الآداب في حلقة العلم
أما بالنسبة لطالب العلم، فإن من قواعد المنهج التي يسير عليها طالب العلم ما ذكره الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب الفقيه والمتفقه -كتاب عظيم- قال: باب في ترتيب أحوال المبتدئ بالتفقه، وذكر آداباً وأشياء، منها ما قد يكون أدباً لكن يدخل في المنهج، عن الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أول العلم: الصمت.
والثاني: حسن السؤال.
والثالث: حسن الاستماع.
والرابع: حسن الحفظ.
والخامس: نشره عند أهله.
وقال الأصمعي: قال الخليل: حين أردت النحو أتيت الحلقة -حلقة العلم- فجلست سنة لا أتكلم، إنما أسمع، فلما كانت السنة الثانية نظرت، فلما كانت السنة الثالثة تدبرت، فلما كانت السنة الرابعة سألت وتكلمت.
هذه المنهجية المفقودة عند كثير من الشباب اليوم.(28/14)
التدرج في طلب العلم
ثم قال الخطيب رحمه الله: ويلازم حضور المجلس، واستماع الدرس، وإذا مضى له برهة في الحضور وأنس بما سمع، سأل الفقيه أن يملي عليه من أول الكتاب شيئاً، ويكتبُ ما يملي، ثم يعتزل وينظر فيه -يذهب إلى زاوية المسجد إلى البيت ينظر فيما كتب- فإذا فهمه انصرف وطالعه وكرر مطالعته حتى يعلق يذهبه، فإذا حضر المجلس؛ سأل الفقيه أن يستمع منه -يقول: سمع لي- ويذكر له من حفظه، ثم يسأل الفقيه إملاء ما بعده -يقول: هات شيئاً جديداً أنا أحسنت وأتقنت الأول، هات دفعة جديدة- ويصنع فيه كصنيعه فيما تقدم.
قال: ولا ينبغي أن يستفهم من الفقيه -أي: الشيخ العالم- حكم الفصل الذي يذكره له قبل أن يتم الفقيه ذكره، فربما وقع له النسيان عند انتهاء الكلام، قال الله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114] انتظر يا محمد! صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم جبريل انصت يا محمد! صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي جبريل مما عنده، فإن انتهى كلام الفقيه، ولم يبن له الحكم، سأله عنه حينئذٍ، (فإنما شفاء العي السؤال) ويستعرض جميعه كلما مضت له مدة -أي: المراجعة- ولا يغفل ذلك، فقد كان بعض العلماء إذا علم إنساناً مسألة من العلم سأله عنها بعد مدة، فإن وجده قد حفظها علم أنه محب للعلم، فأقبل عليه وزاده، وإن لم يره حفظها، وقال المتعلم: كنت قد حفظتها ونسيتها، أو قال: كتبتها فأضعتها إذا كان هذا الذي وجه به أعرض عنه ولم يعلمه قال: أنت لم تضبط الأولى فكيف تضبط الثانية، اذهب واضبط الأولى أولاً.
والسبب في التدرج وأهمية التدرج أن هذا العلم صعب، وهذا الدين متين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق) فلابد في المنهجية في طلب العلم من التدرج، أما أن يهجم الإنسان على العلم هجوماً، يريد أخذه بجميع أطرافه فلا يمكن، وسيسقط ويفشل، والدليل: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق).
ولذلك فإن من القواعد: الأخذ قليلاً قليلاً، وهذه وصية من عالم لمتفقه، قال له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل، ولا تزد عليها شيئاً حتى يتفق لك شيء من العلم، فتعلم.
هذا الرجل تعلم على هذه الطريقة ثلاثة مسائل في اليوم، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع.
وينبغي للمتفقه أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلاً قليلاً، حسب ما يحتمل حفظه، والناس يختلفون في الحفظ والاستيعاب يأخذ قليلاً قليلاً، فإن الله تعالى قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32].
إذاً لابد من التدرج، والأخذ قليلاً قليلاً.
والذين يتركون التدرج في طلب العلم هناك أسباب من أجلها يتركون التدرج، فمن ذلك: 1 - محبة الاشتهار والأخذ هذا أخذ كثير هذا يجلس في ثلاث حلق، ويدرس عند أربعة مشايخ وهكذا.
2 - الاشتغال بطلب العلم عند الكبر، مثلاً: رجل يطلب العلم وعمره متقدم، فتقول له: تعال نعلمك بدائيات العلم، ونبدأ معك من البداية بالعلم الشرعي، تراه يأنف ويقول: أنا أجلس مع الصغار والأطفال، تريد أن تعلمني مثلما يتعلم الأطفال! لا.
أعطني من الذي فوق، لماذا تبدأ من الأسفل؟ فهذا يستنكف، فهذا من أسباب ترك التدرج، أنه لا يبدأ بالاهتمام بالعلم الشرعي إلا في سنٍ متأخرة.
3 - الطوارق المزعجة، والهموم المشغلة، وتقسم الأفكار، فهذا مستعجل يريد أن ينتهي من الكتاب، يقول: خلص هذا الكتاب يا شيخ! نحن الآن لنا سنوات في هذا الكتاب، وأنت لم تنتقل من الأبواب الأولى فهذه آفات الاستعجال تمنع التدرج في طلب العلم.(28/15)
مراعاة الأولويات في طلب العلم
وكذلك من أسس منهج طلب العلم: مراعاة الأولويات، قال ابن الجوزي رحمه الله: على طالب العلم أن ينظر فيما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير، وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن، ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلة تابع.
وقال عن الأولويات أمام قصر العمر وكثرة العلم: فيبتدأ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظراً متوسطاً -لاحظ ما يقول: أريد أن أجمع تفسير الآيات من ابن كثير والبغوي والقرطبي وزاد المسير وتفسير المحيط وكتاب الشوكاني فتح القدير وأضواء البيان، لا إنما يبدأ الإنسان عندما يبدأ في التفسير بتفسير مبسط، يأخذ على سبيل المثال تفسير السعدي، وينهي تفسيراً متوسطاً كـ تفسير ابن كثير.
قال: "لا يخفى عليه بذلك منه شيء".
يعرف معاني كلام الله، يأتي على القرآن في تفسيرٍ متوسط لا يجمع الأقوال، فليست الآن قضية جمع أقوال، واشتغال بدقائق الأشياء التي في الآية، خذ لك تفسيراً متوسطاً على قراءة تضبطها، وأشياء من النحو وكتب السنة، ابتداءً بأصول الحديث، من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث بعد ذلك هذا، كمعرفة الضعفاء، والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتب العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب، ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه، كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه وزوجاته وما جرى له، ويأخذ فكرة عن السيرة، ثم يقبل على الفقه، فينظر في المذاهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مضانه، كتفسير آية وحديث ومعنى كلمة، ويتشاغل بأصول الفقه والفرائض، هذا المنهج في الجملة، لكن الأولويات في التفصيل تختلف وقال رحمه الله: ورأينا في هذا الزمان من اشتغل بالحديث جمعاً وتصحيحاً وغريباً وطرقاً، ولكنه مقصر في حفظ القرآن الكريم، وهذه الآفة انتشرت بين كثير ممن يريدون طلب العلم في هذا الزمان، فتراهم يتجهون على الحديث مباشرة، هات المصطلح تقريب التهذيب رجال الإسناد ابحث في تاريخ الوفيات، من تلاميذه ومن شيوخه؟! إذاً متصل، صحح وضعف وحقق ونشر كتباً، وهذا من أكبر الأخطاء، ولو سألته عن جزء عم، لا يجيده؛ لأن السبب هو إهمال حفظ كتاب الله.
قال أبو زرعة: كتب إلي أبو ثور، فقال: فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية وتسعون رجلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صح منه طرق يسيرة، فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم، ولو اتسع العمر كان استيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية الجودة، لكن العمر قصير.(28/16)
تلقي العلم عن المشايخ
ومن الأشياء المهمة في المنهج: أن يُتلقى العلم عن شيخ ما أمكن ذلك ولابد؛ لأن هذه هي طريقة سلف الأمة وعلمائها، والشيخ الذي تتلقى عنه العلم لابد أن يكون قد تلقاه عن علماء، لهم سند موصول، ويكون حسن العقيدة، يعمل بما يعلم، ويتأسى بالسنة، هذا من ناحية منهج الشيخ.
وأما الاعتماد على الكتب، والذي يظن أنه سيكون طالب علم نجيب من الكتب، فهو مخطئ، صحيح أنه قد يحصل على علم، لكن لا يكون طالب علم بالمعنى الحقيقي على الكتب، وهذه قضية اضطرارية، ربما وجد في بلد لا يوجد فيها علماء ولا مشايخ، ماذا يفعل؟ هل يقول: مادام لا يوجد علماء لا أطلب علم؟ لا، اقرأ في الكتب الميسرة، أنت في أمريكا اتصل على عالم، قل له: يا شيخ! أنا أعيش في جزيرة كلها كفرة، ماذا أفعل في طلب العلم؟ وماذا تنصحني أن اقرأ؟ يعطيك بعض الكتب اقرأ فيها، يشكل عليك شيء تتصل وتسأل، هذا المتيسر بالنسبة لك، أما من يظن أنه سيكون طالب علم حقيقي بناءً على الكتب، فهذا بالتأكيد مخطئ، وهذا شيء قد بينه أهل العلم، فقال قائلهم:
يظن الغمر أن الكتب تهدي أخا فهمٍ لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها غوامض حيَّرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس العلوم عليك حتى تصير أضل من تُومَ الحكيم
والعلماء كانوا يوصون بالأخذ عن أهل السنة، وترك أهل الرفض وأهل الاعتزال، وأهل الكلام والمتفلسفين، أو أخذ العلم عن الصحف، خذ العلم عن عالم تلقاه عن مشايخ ثني الركب تأدب بالأدب، لكن كما قلنا ونعيد: هذا الآن مع فشو الجهل في العالم الإسلامي فضلاً عن غيره، قد لا يتيسر وجود علماء، قد نسافر نعم، لكن كثيراً من الشباب لا يستطيعون السفر بسبب ارتباطهم بدراسة أو بوظيفة، إذاً: يستغل الإجازات قد يأتي العالم إلى المنطقة فيلقي دروساً، قد يكون هناك طالب علم، الأمثل فالأمثل، طويلب علم، أقران تدرس معهم وتقرأ قراءة جماعية، أما أن تعتزل وتغلق على نفسك لوحدك، فهذا يؤدي إلى أخطار في الفهم.
أيها الإخوة! نحن نعيش في حالة فوضى في كل شيء، فمن ضمن التأخر والتقهقر الذي ابتلينا به: التقهقر والتأخر في العلم، منذ زمن كانت البلد مثلاً فيها حلق علم، هذه حلق للمبتدئين، وهذه حلق للمتوسطين، وهذه حلق للمتقدمين، وهذا الشيخ متخصص في المبتدئين يعلمهم الأشياء البدائية، ينتقلون إلى شيخ آخر -مثلاً- إذا صاروا في مرحلة التوسط، ثم إلى شيخ آخر في المرحلة المتقدمة، أو نفس الشيخ والعالم يكون عنده حلقة للمبتدئين، وحلقة للمتوسطين، وحلقة للمتقدمين، كان هناك تكامل في البلد نفسها، الآن على أحسن الأحوال قد يوجد في بعض البلدان أو الأماكن والمدن حلق منتشرة كثيرة، لكن ليس هناك حلق متخصصة تخرج مبتدئين إلى حلقة بعدها للمتوسطين إلى حلقة بعدها للمتقدمين مع الأسف! فلابد أن يسعى إلى إيجاد هذا، وهذا من مسئوليات أهل الاختصاص من القائمين على أمور الدعوة والعلم، والجهات المسئولة عن نشر العلم، لابد أن توجد حلق للمبتدئين، وحلق للمتوسطين، وحلق للمتقدمين.
أما أن الشباب يظهرون هكذا، يأخذون قائمة حلقة المشايخ، أين نذهب اليوم؟ شرح صحيح البخاري، أين نذهب اليوم؟ تفسير.
أين نذهب اليوم؟ نحو فرائض! من أولها هكذا يشتغلون، وهذا يدمر عليهم أشياء كثيرة، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله كان له حلق للمبتدئين والمتقدمين، كان إذا رأى طالباً جاء من حلقة المبتدئين وحضر في موعد حلقة المتقدمين، فأول ما يراه يطرده، لأن وجوده هنا يضره، وذلك: أولاً: أنه لا يستطيع أن يفهم.
ثانياً: قد يتباهى، ويقول: أنا حضرت مع المستوى الممتاز، وهذا يضر إخلاصه وقلبه، فلذلك يجب القضاء على الفوضويات وترتيب الدروس بناءً على المستويات، لابد أن تكون هناك منهجية في الطلب، وإحياء سنة المتقدمين.(28/17)
تحذيرات منهجية عند الأخذ عن المشايخ
وبالنسبة للأخذ عن المشايخ، هناك أشياء منهجية في الأخذ عن المشايخ والتحذيرات، فمن تلك التحذيرات: أن بعض المبتدئين يريد من الشيخ أن يذكر له كل شيء من زبد وفروع ودقائق المسألة الواحدة، أول ما يقرأ يقول: أعطني كل شيء، جميع أوجه الخلاف، هات لي كل النكت والفوائد التي فيها، فهو يريد أن يكون مبتدئاً ومنتهياً في الوقت نفسه، وهذا مستحيل ومحال، وقد يطلب من الشيخ تدريس كتاب معين ليس في مستواه، يأتي مجموعة إلى الشيخ يقولون: يا شيخ! درسنا كتاباً، إما التدمرية في العقيدة، وهو ما درس الواسطية ولا الحموية، فكيف يدرس التدمرية.
فبعض الناس يريدون أن يُسيروا المشايخ ويفرضوا شيئاً معيناً، ولذلك على الشيخ ألا يرضخ لهم، وأن يمتحنهم ويسألهم ويعرف مستواهم، ثم يقرر عليهم كتاباً مناسباً لهم، ولا يسير على هوى الطلاب، وإذا جاء في الفقه للمبتدئين يدرسهم مذهب واحد مع دليله، يمكن أن يذكر قول آخر إذا كان هناك قولان قويان -مثلاً- لا يستطيع الترجيح بينهما، أما أن يعطي الطلاب على هواهم، يقولون: هات لنا الأقوال، فيعطيهم الأقوال، فهذا ليس بصحيح.
ومن الموضات المنتشرة الآن، وهذا قد يكون مدرك في أماكن غير أماكن في أماكن فيها كليات شرعية، وفي أماكن ليس فيها كليات شرعية، بعض الناس لا يحسوا بها لكنها موجودة، من الموضات الآن البحث عن الغرائب، ويقولون: العالم النحرير هو الذي يأتينا بشيء جديد.
ولذلك بعض الشيوخ أو بعض المدرسين الدكاترة في الكليات الشرعية، يضطرون للبحث عن الغرائب حتى يجاروا هذا التوجه، وهذا خطأ، ويقولون: نحن لا نريد أن نسقط من أعين الطلاب، ولا يتركونا الطلاب، ويقول: أنا أعرف يقيناً أنهم لا يفهمون ما أقول لهم.
وبعض الطلاب يجد غرائب فيذكرها لزملائه، ويذهب يجادل بها الشيوخ، هذا الأشياء الغريبة ديدن عند بعض الناس، لذته وأمنيته أن يعثر على شيء غريب، ثم يأتي ينشره بين أقرانه، يقول: قرأت كذا، وسمعت كذا، أو أنه يجادل به العلماء، ونحن نذكر تحذيره عليه الصلاة والسلام الذي حذَّر فيه من الذي يتعلم العلم ليجاري به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، هذا يكبه الله على وجه في النار.
وكذلك من التنبيهات: أن بعضهم قد ينصرف عن الشيخ لبطأه وتركيزه، ويقول: ذهبنا إلى المنطقة الفلانية جلسنا عند الشيخ.
يا أخي! الشيخ بطيء، فتركنا الشيخ، نأخذ أشرطة الشيخ ونسمعها كلها في ليالٍ وننهي المنهج، لابد من ثني الركب عند المشايخ، ولزوم حلق العلماء؛ لأن فيها أدب ومعرفة، وكما قلنا سابقاً: كان هناك آلاف يجلسون عند الإمام أحمد، قليل منهم يتعلمون العلم، والبقية يتعلمون الأدب، الجلسة مع الشيخ وفي حلقة العالم فيها تعليم أدب، ومع الأسف! نحن نعاني من ندرة العلماء، في منطقة ما فيها عالم واحد مع الأسف، ومع ذلك نحن نستعين بالله، والأمثل فالأمثل، وما لا يدرك كله لا يترك جله.(28/18)
طالب العلم وتتبع المشاهير من المشايخ فقط
ومن الأخطاء أيضاً في قضية المنهج في الدراسة عن المشايخ: تتبع المشاهير من المشايخ والانصراف إليهم للأخذ عنهم، مع وجود بعض المغمورين الذين قد يكونون أنفع وأسهل وأقرب وأقل زحاماً وأكثر فائدة، ولكن يترك هذا؛ لأنه مغمور مع أنه يفي بالغرض، يعلمك هذا المتن من الفرائض، هذا فلان يكفي له، لا، لابد أن أذهب إلى هذا الشيخ المشهور.
أنت قد تترك المغمور وهو أسهل وأقرب، وقد يكون أكثر فائدة لك لأنه أفرغ، تستطيع أن تأخذ راحتك معه في النقاش، وتذهب إلى حلقة فلان فقط لأجل أن يقال: أنا من تلاميذ فلان، أنا درست على فلان، ولذلك تجد هؤلاء أصحاب الهوى لا يتركون فرصة صغيرة بمناسبة أو بغير مناسبة، بل يقحمون القضية إقحاماً في أي نقاش من النقاشات، يصل إلى فرصة يقول: حدثني شيخي فلان، قال شيخي فلان، درست عند شيخي فلان، مع أن ما فيها مناسبة، ولا فيها ارتباط في النقاش والحديث، لكن يقحمها إقحاماًَ، ليقول: جلست عند فلان، وبعض هؤلاء أصحاب هوى والعياذ بالله، يجلسون عند الشيخ أسبوعاً أو عشرة أيام، ثم يرحلون في الأمصار، ويقول: درست عند الشيخ فلان وفلان وفلان، وهو جلس عند هذا أسبوعاً، وهذا في الصيف جلس عنده عشرة أيام، وهذا أخذ عنه سطرين أو صفحة في كتاب، وقال: شيوخي، إليك مسرد شيوخي مرتبة على الأحرف الهجائية.(28/19)
منهج دراسة الفنون المختلفة لطالب العلم
وإذا جئنا إلى قضية دراسة الفنون المختلفة لطالب العلم، فقد ذكروا أن المغاربة لهم منهج، فإنهم ينهون العلوم فناً فناً، أول شيء يحفظ القرآن، وإذا انتهى منه حفظ كذا، ثم ينتقل وهكذا، ثم المتون المختلفة، فينهي متن في اللغة، ثم متن في الأصول، ومتن في المصطلح، ومتن في الفرائض، وهذه المتون يعتنون بها ويحفظونها حفظاً شديداً، ومن أشهرهم الشناقطة، وهذه طريقة أهل المغرب، يقولون: نُنهي الفنون فناً فناً، ويقولون: الذي يجمع بين علمين كالتوأم، يريد أن يخرجا معاً ولا يمكن، لابد أن يخرج أحدهما قبل الآخر، وربما لا يزيدون على بيت واحد في اليوم، هذه طريقتهم، ولو زاد ربما ضربه المعلم.
أما المشارقة فإنهم يجمعون بين أكثر من علم في الوقت نفسه، مثلما حدّثوا عن النووي أنه كان يقرأ تسعة علوم في وقت واحد، أو اثنا عشر درساً في اليوم، في التفسير، والمصطلح، والأصول، والحديث، واللغة، والفرائض أنواع مختلفة من العلوم، فيكون الدرس الواحد فيه عدة علوم، هذه الطريقة قد تكون أشمل، لكن الطريقة الأولى أثبت على المدى البعيد.
وعموماً فإن المسألة تختلف باختلاف الهمم والطاقات والمواهب والأحوال والبلدان وطريقة الشيخ، فإن بعض النفوس تمل، لا يمكن أن تقول: اجلس سنتين إلى أن تنهي مثلاً متن في اللغة، أو متن في الأصول، أنا أجلس سنتين في الأصول، دائماً أصول يصاب بالملل، فالطريقة تعتمد على الأحوال، وتختلف باختلاف الأحوال، الناس فيهم الملول وفيهم الصبور، وهذا بالنسبة لقضية تنوع الفنون في الطلب في وقت واحد، ولكن هناك أولويات.(28/20)
الاعتناء بعلوم الآلة
ومن الأمور المهمة في الأولويات: الاعتناء بعلوم الآلة، وهي العلوم التي يتوصل بها إلى فهم الشريعة، وسائل وأدوات ليست غاية في نفسها، لكنها وسيلة لفهم القرآن والسنة، مثل: اللغة العربية، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه، وقواعد التفسير، وعلوم البلاغة والمعاني والبيان، هذه علوم الآلة.
وعلوم الآلة لها مختصرات ومتون جمعها العلماء، فمثلاً: لو أخذت في اللغة العربية، ستجد مثلاً ملحة الإعراب، أو الآجرومية هذه من أشهر الأشياء التي يبدأ بها في اللغة.
وإذا جئت إلى الحديث ستجد مثلاً نخبة الفكر أو البيقونية، لو جئت إلى الأصول ستجد مثلاً متن الورقات وهناك بعض الكتب جمعت هذه المتون، وطبع بعضها حديثاً، وقد جمع السيوطي رحمه الله متوناً كثيرة في كتاب النُقاية، وشرحه في كتاب الوقاية لقراء النُقاية، لكن هذا مطبوع على هامش كتاب مفتاح العلوم للسكاكي، والعقيدة فيها أيضاً أشياء في البداية.
في بعض البلدان مثل اليمن متونهم في الآلة تختلف عن الجزيرة والمغرب، فإذا أخذت حلقة من حلق العلم الموجودة عند العلماء في هذه الجزيرة مثلاً، لوجدت أنهم يهتمون في البداية بمختصر آداب المشي إلى الصلاة في الفقه، والأربعين النووية في الحديث، والأصول الثلاثة في العقيدة، ثم كتاب التوحيد، وأيضاً في الفقه يبدءون بـ عمدة الفقه لـ ابن قدامة، وفي أحاديث الأحكام يبدءون بـ عمدة الأحكام لـ عبد الغني المقدسي، وفي الفرائض يبدءون بـ الرحبية، وفي اللغة العربية يبدءون بـ الآجرومية وهكذا، فهذا ملخص جدول لحلقة من حلق طلاب العلم المتخصصين في العلم في الجزيرة.
وإذا أتقن طالب العلم في البداية هذه الأشياء الأصول الثلاثة، والأربعين النووية حفظاً وشرحاً، وكتاب التوحيد، وعمدة الأحكام في أحاديث الأحكام، وعمدة الفقه في الفقه، والآجرومية في اللغة، والرحبية، والورقات في أصول الفقه، فهذا قد أسس نفسه واستعد للانطلاقة الكبرى، هذا فعلاً طالب علم في بداية طريقه التي يشقها بثبات، ويسير فيها بقوة.(28/21)
الأخذ من كل علم بنصيب
ومن الأشياء المهمة أيضاً في المنهج: الأخذ من كل علم بنصيب دون نسيان العلوم الأخرى، كما تقول الحكمة: خذ من كل شيءٍ شيئاً، وخذ كل شيء عن شيء، ومعناها: حاول أن تأخذ معلومات في كل فن من الفنون، ثم الفن الذي تجد فيه رغبة وانشراح صدر، وهواية وقدرة.
خذ من كل شيء شيئاً: أساسيات كل علم وفن، أي: إذا وجدت نفسك فيه متمكناً، أو عندك فيه رغبة، ومن شيء كل شيء ثم تخصص، وهذه من أعظم القواعد في المنهج، تأخذ أساسيات كل فن، ثم الفن الذي تجد نفسك فيه قادراً تبحر فيه.
بعض الناس يتخصصون في فن وينسون كل شيء، مثلاً: الآن بعض الناس يقول لك: والله أنا لا أفهم إلا في هذا الشيء، لا تسألني عن شيء آخر، وهذا موجود، وبعضهم إذا تعلم شيئاً وتخصص في العلوم الدنيوية ينسى الأشياء الأولى، لا يفهم الآن إلا في الشيء الذي تخصص فيه، وهذا خطأ، ولم تكن هذه طريقة علمائنا أنهم يتخصصون في شيء معين، أو ليس عنده فيه أساسيات في غيره، أو أنه يتخصص في شيء وينسى الأساسيات، هذه من القضايا التي طرأت الآن على طريقة التعليم، وهذه طريقة خاطئة موجودة الآن حتى في التخصصات الدنيوية، فلو أن شخصاً متبحراً في جزئية معينة، ولا يفهم أي شيء من الأشياء الأخرى أبداً، يكون أضل من بعيره فيها.
وقال ابن الجوزي معبراً عن حال هؤلاء الأشخاص الذين يتخصصون في فروعٍ معينة، وينسون الأشياء ولا يأخذون بالبدائيات والأساسيات في العلوم الأخرى، قال: ولقد أدركنا في زماننا من قرأ من اللغة أحمالاً -اللغة العربية ما شاء الله- فحضر بعض المتفقهة -حضر عنده طالب علم صغير- فسأله عن الحديث المعروف (لو طعنت في فخذها أجزأك) فقال اللغوي: هذا محمول على المبالغة، فقال له الصبي: أليس هذا في ذكاة غير المقدور عليه؟ ففكر الشيخ ساعة، ثم قال: صدقت.
أي: لو تردت شاة في بئر وما ماتت، وأنت لا تستطيع أن تذبحها فماذا تفعل؟ (لو طعنت في فخذها أجزأك) الآن نحن لا نبحث المسألة الفقهية والحكم والأشياء الراجحة الآن، لكن نتكلم عن القصة: (لو طعنت في فخذها أجزأك) أي: في تذكية الشيء الذي لا يُقدر على تذكيته، ذكاة غير المقدور عليه، لا يمكن أن تمسكه لتذبحه، شرد منك، فأنت تصيبه وترميه، (لو طعنت في فخذها أجزأك).
فعلم الصبي ما لم يعلمه الشيخ، فالشيخ لا يفهم إلا في اللغة.
وأدركنا من قرأ الحديث ستين سنة -تخصص فقط في الحديث- فدخل عليه رجل فسأله عن مسألة في الصلاة؟ فلم يدرِ ما يقول، وأدركنا من برع في علم التفسير، فقال له رجل يوماً: إني أدركت ركعة من صلاة الجمعة فأضفت إليها أخرى فماذا تقول؟ فسبه ولامه على تخلفه ولم يدر ما الجواب.
وأدركنا من برع في علوم القراءات، فكان إذا سئل عن مسألة يقول: عليك بفلان، اسأل الشيخ فلان قالوا: هذه كلها محن قبيحة، فلما رأيت في الصبا -يقول ابن الجوزي - أن كل من برع من أولئك في فن ما استقصاه، وإنما عوقته فضوله -أي: إذا برع رجل في فن، ذهب يأخذ الفضول والأطراف ويترك الأشياء الأخرى، أي: انشغل عن المهم وما بلغ الغاية- رأيت أن آخذ المهم من كل علم هو المهم.
هذه عبارة جامعة.
فإن من أقبح الأشياء أن يطلب المحدث علو الإسناد، وحسن التصانيف، فيقرأ المصنفات الكبار، ويطلب الأسانيد العوالي، ويكتب فيذهب العُمر ويرجع كما كان ليس عنده إلا أجزاء مصححة لا يعلم ما فيها، وقد سهر وتعب.
وإذا سألته عن علمه؟ قال متندراً بحال هؤلاء:
علمي يا خليلي في سفط في كراريس جياد أحكمت
وبخط أي خط أي خط
وإذا سألته عن مشكلٍ حك لحييه جميعاً وامتخط(28/22)
عدم الجمع بين كتابين في فن واحد في وقت واحد
ومن الإرشادات أيضاً لطالب العلم في قضية الفنون، ألا يجمع بين كتابين في فن واحد في وقت واحد، مثلاً: لو أنك تدرس الفقه لا تدرس منار السبيل وزاد المستقنع في نفس الوقت مثلاً، لأنه يسبب التداخل في المعلومات، وصعوبة الحفظ، وصعوبة العزو في المستقبل.
وقد حدثني بعض طلاب العلم الكبار الذين تناقشت معهم في قضايا هذا البحث، قال: أنا الآن جاء عليّ فترة كنت أحفظ البيقونية ونظم النخبة -نظم نخبة الفكر للصنعاني - والألفية -هذه كلها موضوعة في المصطلح- في وقت واحد، يقول: وأنا الآن إذا جاءتني مسألة في المصطلح، وأريد أن آتي بالشاهد، لا أدري أذهب إلى هذا أو إلى هذا، ثم إني إذا أتيت بشيء قد أحتار في أي مكان هذا؟ أهو في هذه المنظومة، أو في هذه أو في هذه.
فإذاً: ينبغي ألاّ يقرأ أكثر من كتاب في فن واحد وفي وقت واحد.(28/23)
عدم التحضير من عدة كتب لكتاب واحد يدرسه
وكذلك من الإرشادات على الطالب إذا بدأ يدرس كتاباً ألا يحضر من عدة كتب، المبتدئ إذا أراد أن يدرس كتاباً في فن، لا يحضر من عدة كتب، حتى لا يُضيع نفسه، بل يحفظ المتن، وشرح الشيخ الذي يدرس عليه المتن إن كان الشيخ متقناً، وإذا ما وجدت شيخاً متقناً، تأخذ شرحاً للمختصر تضبط المتن والشرح، وتحصل على خير عظيم، وإذا أشكل عليك إشكال؛ فارجع إلى المطولات لتجد الأشياء المشكلة فقط، ولا يكون ديدناً لك.
وعدم التوسع في البداية يساعد على ضبط المعلومات، وكثيراً من الطلاب إذا جاءوا يحضرون موضوعاً حضره من عدة كتب، فيحدث له تشتت.
والضياع والتشتت في أنواع العلوم مما يحذر منه أيضاً، قال أبو حيان النحوي المشهور: أما صاحب تناتيف، وينظر في علوم كثيرة، فهذا لا يمكن أن يبلغ الإمامة في شيء منها، وقد قال العقلاء: ازدحام العلوم مضلة للفهوم.
ولذلك تجد من بلغ الإمامة من المتقدمين في علمٍ من العلوم لا يكاد ينسب إلى غيره، فيقال: فلان النحوي، عنده أساسيات في غيره، لكن برع في هذا، فلان المحدث، فلان الفقيه، لو تسأل مثلاً: في أي شيء برع ابن قدامة؟ مثلاً: في الفقه، وغيره برع في الحديث وهكذا.
فبعض الذين يريدون أن يهجموا على الفنون دفعة واحدة وهو لا يتقن أساسيات كل فن، وإنما يهجم عليها دفعة واحدة ويقول: أحضر التفسير من خمسة مراجع، وأحضر الفقه من سبعة مراجع، هذا إنسان مسكين؛ لأن الأمور ستضطرب عنده، وتختلط عليه.
وإرشاد آخر أيضاً: يستحسن أن يكون هناك مرجع معين في الموضوع المعين عندك محتفظ به دائماً تعلق عليه وتزيد عليه، فمثلاً: لو قلت في الفقه: أختار منار السبيل وشرحه على عالم، وإذا ما وجدت مثلاً فهناك أشرطة للعلماء في شرحه، مثل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله له شرح في منار السبيل وخذ مثلاً: زاد المستقنع، مع شرحه الشيخ ابن عثيمين، وغيره له شروحات كثيرة ولكن من باب التمثيل، فتأخذ كتاباً معيناً، وتأخذ عليه شرحاً، وفي المستقبل إذا حصلت إضافات، فإنك تضيفها على نفس الكتاب، تأخذ كتاباً معيناً في اللغة تكون الإضافات على هذه النسخة التي عندك، ولا تبعها بمئات الألوف، فتكون هذه عندك مرجعاً، مثلاً: كل مسألة في البيوع تفتح الكتاب تجد المتن والشرح وشرح الشيخ، وأشياء أنت قيدتها على مر الزمن.(28/24)
الجمع بين الأشياء الأساسية
قضية أخرى في المنهج: لابد من الجمع بين الأشياء الأساسية، سُئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن رجل حفظ القرآن وهو يكتب الحديث، يختلف إلى مسجد يقرأ ويقرئ، عنده شُغل في حلقة حديث يكتب الحديث، وعنده شُغل آخر في مسجد يقرأ القرآن ويقرئ الطلاب، إذا ذهب إلى المسجد ليقرأ ويقرئ؛ فاته الحديث، فإذا طلب الحديث؛ فاته المسجد والإقراء، فماذا تأمره؟ قال: بذا وبذا، فأعدت عليه السؤال مراراً، كل ذلك يجيبني جواباً واحداً: بذا وبذا، فلابد من الجمع بين الأشياء الأساسية.(28/25)
إعادة العلم وحفظه
وكذلك من الأمور المهمة: إعادة العلم وحفظه، وهذا على حسب طاقات الأشخاص، ولا ينهمك الإنسان انهماكاً شديداً، لكن لابد أن يعيد ويحفظ، فمن الناس من يحمل رطلاً، ومنهم من يحمل مائة، ومنهم من يحمل عشرين، وكذلك القلوب، منهم من هو مستعد أن يحفظ صفحة بسرعة، ومنهم من يحفظ سطرين، ومنهم من يحفظ سطر، ومنهم من يحتاج إلى ثلاثة أيام ليحفظ سطراً وهكذا.
هذا نصف الموضوع، ولا نستطيع الزيادة لأن الوقت قد ضاق، ولابد لنا من درس آخر لإكمال هذا، فلعله يكون هناك درس آخر إن شاء الله بعنوان: (المنهجية في طلب العلم) نكمل فيها الكلام عن قضية المنهج في طلب العلم.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسداد في القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد.(28/26)
أثر الأخلاق في نجاح الداعية
جاءت هذه المادة موضحة لجملة من الأخلاق التي يجب أن يكون الداعية على علم وإحاطة بها: الصبر الصدق الرحمة والشفقة التواضع الحلم اللين والرفق الكرم التعفف والزهد العفو عند المقدرة تقدير الآخرين واحترامهم الستر العطف.
وقبل هذا بيِّن الشيخ ارتباط الدعوة بالأخلاق سواء كانت الدعوة خيرة أو شريرة، ثم أتبعها بذكر ثلاثة أخلاق مهمة يحتاج إليها الداعية: العلم قبل الدعوة، والرفق معها، والصبر بعدها.(29/1)
ارتباط الدعوة بالأخلاق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين، هو الذي دعا إلى الله سبحانه وتعالى على هدىً وصراط مستقيم، وهو الذي قال الله له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] وهو الذي أمره ربه فقال له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وهو الذي بلغ رسالة ربه بأمانة وإخلاص، ولم يخش إلا الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: إن وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل من أشرف الوظائف وأعلاها، وقد تكلمنا سابقاً في عِظَمِ هذه المسئولية، وأننا سنسأل عنها يوم القيامة، سنسأل عن تبليغ هذا الدين، إذا كان الإسلام شرفاً للمسلم فإن هذا الشرف سيسأل عنه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
ونشهد اليوم من بعض مظاهر الفتور شيئاً من التكاسل في الدعوة إلى الله تعالى، هذا لا يصح أن يكون بحال، فكيف يقعد المسلم الذي يعلم أنه على الحق، وأنه يدين بدين الحق عن الدعوة إلى الله عز وجل؟! وكيف يترك أقرباءه وجيرانه وأصدقاءه وأهل حيه، بل وأهل بلده دون دعوة؟ بل كيف يترك الكفار الذين يستطيع الوصول إليهم، وهم منتشرون بين المسلمين بغير دعوة إلى الله عز وجل؟ حقاً إن بعض الأشياء التي تؤجج في النفس الدعوة إلى الله قد خبا نورها في نفوس الكثيرين، ولذلك نرى اليوم في ضمن ما نرى من علامات عدم الجدية في أخذ هذا الدين، والبرود الذي اعترى كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل: التكاسل عن الدعوة.
وكذلك في بعض أوساط طلبة العلم الذين لا يبلغون ما تعلموا، مع أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد على التبيين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] كيف يتكاسل المسلم عن تبليغ الدعوة والنبي عليه الصلاة والسلام قال آمراً: (بلغوا عني ولو آية)؟ ولعل هذا الفتور الذي نعيشه له أسبابٌ، منها: الانشغال بالحياة الدنيا وزينتها، وهو الذي ألهى كثيراً من الشباب الذين عملوا في الوظائف والتجارة وغيرها عن الدعوة إلى الله عز وجل وقد كان بعضهم يوماً من الدهر شعلة نشاط يتحرك بحرقة من أجل تبليغ هذا الدين، لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال إلا بالاتصال بالناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، فينبغي أن تتحرر نفوسنا من الكسل، وأن نخرج من هذه القوقعة التي حشرنا أنفسنا فيها، وأن نقوم بالدعوة إلى الله وتبليغ هذا الدين، فهذا واجب، ونأثم لو تخلفنا عن القيام به.
وهذه الدعوة وظيفة الأنبياء، وهي شرفٌ ولا شك، وينبغي إعداد العدة لها، والعمل من أجل إنجاحها.
والدعوة لها أساليب ووسائل ومنهج، فهي مهمة كبيرة، ونحن -أيها الإخوة! - في عصر الإقناع وتسويق الفكرة، وتسويق الفكرة أعظم من تسويق السلعة حتى عند أعداء الله، الذين يبذلون كل ما يستطيعون من أجل تسويق الأفكار، وأنت ترى جهودهم في نشر الدين النصراني أو الأفكار المنحرفة، سواء ما تقوم به الكنيسة بجميع فروعها، أو الأحزاب الضالة التي تقوم بالتخطيط والعمل الدءوب من أجل نشر تلك الأفكار والعقائد المنحرفة.
وهم أسخياء كرماء، يبذلون ويضحون، ويسافرون عن أوطانهم ويتغربون من أجل نشر عقيدتهم الضالة، ويزخرفون القول، ويعلِّبون الأفكار بهذه الإطارات وهذه الزخارف التي تنطلي على كثيرٍ من ضعفاء العقيدة والعلم، ولذلك تنتشر أفكارهم بين الناس، ولا شك أن المسلم الذي رزقه الله سبحانه وتعالى فهماً في دينه، وحباً لعقيدته، سيسارع بلا شك إلى نشر هذا الدين بالدعوة إلى الله عز وجل.
ولا شك -أيها الإخوة! - أن من أهم عوامل نجاح الدعية إلى الله سبحانه: الخلق الحسن، والله سبحانه قد خص آياتٍ في كتابه بحمل أخلاق عظيمة، ذكرها سبحانه في محكم تنزيله لتدل على عظمة الخُلُق.
نحن نتكلم الآن في هذه الليلة عن الدعوة وعن الأخلاق، الارتباط بين الدعوة والأخلاق، كيف تنجح الدعوة بالأخلاق، ونحن نعرف أن بعض المنحرفين نشروا انحرافاتهم -كما قلنا- بحسن الخلق، لأن حسن الخلق شيءٌ يمكن أن يكون عليه حتى الكافر، ولا يمكن أن ينفك الدين عن الخلق، بل إن الخلق من صميم الدين، والله عز وجل قال في محكم تنزيله في بعض الآيات: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19] وقال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29] وقال: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] وقال الله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وقال عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وقال: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلا مَنْ ظُلِم} [النساء:148] وأمر بقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] إلى غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها الخلق الحسن، بل ذكرت مفردات هذا الخلق في عدد من آيات الكتاب العزيز.(29/2)
أخلاق مهمة يحتاج إليها الداعية
ولا شك أن الداعية إلى الله يحتاج إلى كم من الأخلاق في سبيل إنجاح مهمته، فإنه يحتاج إلى الحلم والرفق، واللين والصبر، والرحمة والعفو، والتواضع والإيثار، والشجاعة والأمانة، والحياء والتفاؤل، والكرم والزهد، والقصد والاعتدال وغير ذلك، ولن نستطيع أن نلم بهذه الأشياء وبأكثر منها في هذا المقام، فنأخذ بعض الأخلاق التي تعين الداعية على النجاح في دعوته.
ولنعلم بادئ ذي بدء -أيها الأخوة! - أن من أهم الأشياء في الدعوة أمورٌ ثلاثة: العلم قبلها.
والرفق معها.
والصبر بعدها.
(العلم والرفق والصبر) هذه من أهم المهمات في عالم الدعوة إلى الله، صاحب الأخلاق الحسنة قدوة بذاته، أخلاقه تدعو الناس إلى الانجذاب نحوه، إن سَمته ليجذب من حوله فيأتون إليه، وهناك تكون الفرصة للتأثير أكثر مما لو ذهب إليهم، مع أنه ينبغي أن يأتيهم، فهذا الخلق هو الذي يجذب الناس كما تجذب الأزهار النحلة، وإذا أتي الداعية فإن المهمة تسهل عليه، تأمل في قصة يوسف عليه السلام: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فإذاً اُشتهر وعُلم عندهما أن يوسف عليه السلام من المحسنين، فكيف حصل هذا التصور والانطباع عندهما بأن يوسف من المحسنين؟ يوسف عليه السلام دخل السجن متهماً بجناية شنيعة، ومن شأن البريء الذي سُجن متهماً بجناية شنيعة أن يتحطم نفسياً، لكن هذا النبي الكريم لا يمكن أن يحدث له ذلك، فإنه عبد الله تعالى في السجن وظهرت عليه سيما الصالحين، وذلك نتيجة عبادته ولا شك.
دخل وعليه سيما الصالحين، وهو يعبد ربه في السجن، ولذلك قالا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] أي: إن حالتك التي رأيناها تدل على أنك من أهل الإحسان، هذا ظنهما به.
ويدل على ذلك أيضاً: أن أحد الرجلين الذي خرج من السجن ورجع بعد ذلك يستفتي يوسف، قال له: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:46] فإنه وصف يوسف بالصدِّيق، فلما انجذب المدعو إلى الداعية من غير أن يقول له الداعية تعال، ولكن انجذب إليه نتيجة حسن الخلق، ونتيجة التعامل الحسن، نتيجة سيما الصلاح، ونتيجة العبادة، انتهز الفرصة ليذكرهما بالتوحيد أولاً، وأن الحكم لله، وأن الشرك حرام، قبل أن يجيب مطلبهما، ويبين في كلامه أن الظلم الحادث مرده إلى الشرك بالله، لا يصلح للداعية أن يتكلم عن جزئية والأصل منخرمٌ مهدوم، لكنه مع ذلك طمأنهما بأن العلاج موجود عنده: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] إنه إشاعة الثقة في نفس المدعو.
ثم انتقل انتقالاً لطيفاً، الله سبحانه وتعالى أعطاه على ما قال بعض أهل التفسير العلم بما سيأكلان: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] هذه معجزة أعطاها الله عز وجل ليوسف: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] انتقل انتقالاً لطيفاً ليعلمهم التوحيد: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [يوسف:37] إلى آخر الآيات.(29/3)
من أخلاق الداعية
ولنعرج الآن على ذكر بعض الأخلاق التي يحتاج إليها الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، فمن الأخلاق العظيمة التي يحتاج إليها الداعية:(29/4)
الصبر
(الصبر): هو الخلق الذي يحتاجه الداعية حتى تنفتح له مغاليق القلوب؛ الصبر على التبليغ، والصبر على الجدال الذي سيواجهه، والرفض والعناد، الصبر على الأذى الذي قد يلحق به.
النبي صلى الله عليه وسلم صبر على الخنق، خنقوه بثوب، وصبر على إلقاء سلى الجزور فوق ظهره وهو ساجدٌ عند الكعبة، وعلى وضع الشوك في طريقه، وضرب قدميه بالحجر، وعلى الاتهامات الباطلة التي اتهموه بها، وقالوا عنه: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وبه جِنَّة -مسه الجن- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
قال بعض الشراح: إنه يعني نفسه صلى الله عليه وسلم، هو الذي ضربه قومه فأدموه.
فإذاً الداعية لا ينجح إلا بالصبر، إنه سيواجه جحوداً وإعراضاً؛ هذا لا يفتح له الباب، وهذا لا يجيب بالهاتف، وهذا يغير الموضوع إذا أراد أن يعظه، وهذا يتهرب، والمدعو شخصٌ غير ملتزمٍ بالدين في الغالب، فلذلك هو يكذب ويخلف المواعيد، والداعية ينتظر حتى يضجر ولم يأت صاحبه بعد، ويعاود المجيء بدون فائدة، وقد يجد ألفاظاً غير مقبولة.
الداعية سيواجه من المدعو بطئاً في الاستجابة، وجدلاً عظيماً، والله يقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10].
ولا شك أن التحلي بالصبر في هذه المواقف من أعظم الأشياء التي تسبب النجاح للداعية، أما الذي يجرب الدعوة فيكلم شخصاً فمن أول ما يجابهه بكلمة أذى يترك، هذا لا يكون له النجاح، النجاح لا يكون إلا بعد المواظبة، والمصابرة على هذه النفوس الملتوية.(29/5)
الصدق
ومن الأخلاق العظيمة التي تكون سبباً مباشراً في نجاح الداعية إلى الله عز وجل: (الصدق).
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} [الإسراء:80].
فالداعية الصادق مع الله، الصادق مع الناس، الذي عهد عنه صدق الحديث، يرى أثر صدقه في وجهه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان بعض الناس يسمع كلامه وهو يدعوهم وهم لم يروه قبل ذلك، وإنما أتوا مكة فرأوه لأول مرة، كانوا يشهدون أن وجهه ليس بوجه كذاب، ذلك لظهور أثر الصدق على وجهه صلى الله عليه وسلم وفي كلامه، فكلام الإنسان الصادق يؤثر أثراً بالغاً، ولذلك فلا بد من الحذر الشديد من الوقوع في الكذب، فإن الكذب من الأشياء التي تفقد المدعو الثقة في الداعية.
وكذلك: الحذر من استخدام التورية، فإن الداعية قد يفهم التورية، أما المدعو فلا يفهمها إلا على أنها كذب، ولو أن الداعية كذب مرة واحدة فقط مع أحد المدعوين فسيكون ذلك سبباً كافياً في انفضاض هذا المدعو عنه، أذكر قصة عبَّر فيها أحد هؤلاء المدعوين عن ألمه مما حصل من شخصٍ تأثر به والتزم بسببه، فصار يتصل به من وقتٍ لآخر، فاتصل به ذات يوم بالهاتف، فكانت زوجته التي ردت، فقال: فلانٌ موجود؟ فقالت: من يريده؟ قال: قولي له فلان، فقالت: لحظة، ونسيت أن تضغط على الزر الذي يغلق الصوت، ونادت زوجها تقول: فلان يريدك، فقال لها: قولي له: نائم، فارتجت الدنيا في وجه هذا الشخص.
عندما يضع الإنسان ثقته في داعية ثم يفاجأ بتصرف من مثل هذه التصرفات فلا شك من اهتزاز كل القيم التي تلقاها منه، ليس فقط موضوع الصدق، بل كل المفهومات والتصورات التي أخذها عنه سوف تهتز في نظره، وإذا لم يكن لهذا المدعو عصمة ورحمة من الله فقد ينتكس.
ولذلك نحن عندما نتكلم الآن عن بعض الأخطاء من قبل بعض الدعاة فإننا نقول للمدعوين أيضاً: إن أخطاء الدعاة إلى الله عز وجل معكم ليست عذراً لكم مطلقاً في ترك اتباع الحق، إذا أخطأ داعية عليك، أو جهل أو أساء خلقه معك، فإنك لست معذوراً أبداً في تركك للحق واتباعك للطريق السوي، ولذلك فإن بعض الحوادث التي تحصل عن ترك بعض الأشخاص للالتزام بالدين نتيجة تصرف خاطئ من داعية، تنبئ أول ما تنبئ عن انحراف في عقلية المدعو؛ لأنه يربط الدين بالشخص، فإذا استقام له الشخص استقام هو على الدين، وإذا رأى شيئاً من التغير أو سوءاً في المعاملة؛ ترك الالتزام بالدين، هذه قلة عقل!! هذا إنسان ضعيف الشخصية، ضحل التفكير، لا يفرق بين الأشخاص وبين المنهج، لو كان إنساناً عاقلاً لقال: لي صوابه وأترك خطأه، آخذ مما قاله لي بشكل صحيح وأترك ما أخطأ فيه، لكن كثيراً من الناس لا يعملون بذلك، فيقول بعضهم: أنا ما علي من عقيدة فلان، وصلاة فلان هذه له، أنا علي من تعامله (الدين المعاملة).
ولذلك من اضطراب الموازين عندهم: أنهم يعطون الأولوية ليس لعقيدة الشخص ولا لدينه، وإنما يعطون الأولوية لأخلاقه وتعامله، فإذا صارت أخلاق فلان من الناس عندهم عالية، وتعامله رفيعاً أحبوه، وأقبلوا عليه، ولو كان فاجراً فاسقاً كافراً مشركاً، لأن التعامل عندهم هو أهم شيء، يقولون: ما لنا ولصلاته! ما لنا ولدينه! ما لنا ولعبادته! ما لنا ولعلمه! هذه له، نحن لنا تعامله وأخلاقه، هذه التي نحن نستفيد منها.
فالناس مع الأسف -أيها الإخوة! - وهذه نقطة في غاية الأهمية- الناس لا يهتمون بأخذ العلم والدين والأحكام الشرعية، مثلما يهتمون بقضية التعامل والأخلاق، ولذلك يحبون بعض الكفار أكثر من بعض المسلمين، يقولون: هذا الكافر رأينا منه صدق الوعد والحديث، والكرم، لا يؤذينا، ولا يأكل حقنا، ويعطينا الراتب كاملاً، والمستحقات المالية، فهذا أحب إلينا من المسلم الذي يغلظ علينا بالقول، وربما ظلمنا، ويخلف المواعيد معنا.
لو كانت المقارنة فقط في الأخلاق، فقالوا: خلق هذا أحسن من خلق هذا لكان فيه شيء من الصواب، لكنهم يقولون: فلان أحسن من فلان، مع أن هذا مشرك وهذا مسلم، هذا كافر وهذا موحد، لكن عندهم أن التعامل هو الأساس وهو كل شيء.
فلا بد من تصحيح هذا المفهوم الخطير والخاطئ والآثم، الموجود في النفوس، ولا يحملنك -يا أخي! - غلظة داعية، أو شدته في القول، أو سوء أسلوبه أن ترفض الحق الذي يقدمه لك؛ لأننا نهتم بالمضمون أكثر من الأسلوب، هذا ما ينبغي أن نكون عليه نحن، أن نهتم بالمضمون أكثر من الأسلوب، وإلا فلنتبع دين النصارى لأن بعض المبشرين كرماء، يعطون الدواء مجاناً، ورعاية الحامل مجاناً، والتطبيب مجاناً، والغذاء المتكامل مجاناً، والإسعافات الأولية مجاناً، ويبنون لنا مساكن مجاناً في بعض البلدان، إذا كانت المسألة مسألة تعامل فلنتبع إذاً الضال والمشرك والمنحرف لأن تعامله راقٍ، وأخلاقه حسنة، وهذا الكلام قلَّ من يفهمه في هذا الزمان بسبب أن الناس يهتمون بالشكليات أكثر من المضمون.
ونحن لا نسقط الشكليات من الاعتبار، ولا نقول إن التعامل والأخلاق ليست مهمة، بل إن كل الموضوع الذي نطرحه في هذه الليلة هو تأكيد على قضية الأخلاق وأهميتها في نجاح الداعية، لكن الكلام الآن موجه إلى المدعو، فنقول له: لو أن فلاناً أخطأ معك في الأسلوب أو التعامل فلا يدفعك ذلك إلى كرهه وبغضه، وإلقاء كل ما يقول لك من العلم خلف ظهرك لأنه أساء إليك بكلمة، أو أخلف معك موعداً، أو ظلمك في حقٍ لم يعطه لك، بل لا بد أن نتحمل الأذية في سبيل أن نأخذ العلم والدين.
وقلَّ من نجد من الناس الكمَّل، فالكمَّل قليلون جداً، لا بد لكل شخص أن تجد عليه مآخذ، فإذا كنا سنترك ما عند فلان من الخير، وما عند فلان من العلم، وما عند فلان من النصيحة من أجل شيءٍ من الغلظة، أو شيءٍ من الجفاء، أو شيءٍ من الشدة في الأسلوب، فإننا في هذه الحالة سنخسر كثيراً جداً.
ونقول أيها الإخوة: إن صدق الداعية مع الله قبل أن يكون مع المدعو من أهم عوامل النجاح، لا يكفي أن تكون صادقاً في حديثك معه، وأن تكون منضبطاً في المواعيد، وإذا وعدته بشيء لم تخلف وعدك، وأديت ما وعدته به إليه، نقول: إن هذا ليس بكافٍ، فإن الصدق مع الله هو الأساس؛ لأن بعض التصنعات لا تنطلي على بعض الناس، فيرضون الشخص وإن كان في الظاهر ذا تعاملٍ مستقيم، بسبب أن النفس لا ترتاح وتثق بمن علاقته بالله مهزوزة.(29/6)
الرحمة والشفقة
وننتقل إلى الخلق الثالث من الأخلاق المهمة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل: وهو خلق (الرحمة والشفقة) قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فانظروا رحمكم الله إلى هذا الخلق، خلق الرحمة في نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] كم مرة صعد إلى ربه؟ ينزل ويصعد إلى الله، من أجل أن يطلب التخفيف عن الأمة في عدد الصلوات، حتى صارت خمساً بدلاً من خمسين.
أقرأه جبريل القرآن بحرف، فاستزاده عليه الصلاة والسلام إلى أن صارت سبعة أحرف، من أجل ألا تشق القراءة على الأمة.
وكم مرة يدعو الله عز وجل لأمته، وقد اختبأ دعوة لأجل أمته إلى يوم القيامة، عندما يكون الناس بأشد الحاجة، حاجتهم ماسة، يتمنون أن ينفكوا من أرض المحشر، يتمنون أن ينفكوا من هذا الموقف العصيب ولو إلى النار، فتدركهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم التي يأذن له بها ربه فيبدأ الحساب.
هذا النبي الكريم، كل شيءٍ يشق علينا فهو شاقٌ عليه، ولذلك جاءت شريعته بالرحمة والتخفيف في عدد من الأشياء؛ التيمم، الذي لم يكن معروفاً في الأمم السابقة، وهو موجودٌ في شرعنا؛ أدركتنا رحمة الله في تقسيم الغنائم فصارت حلالاً لنا: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] وكانت محرمة على من قبلنا، تنزل نار من السماء لتأكلها؛ والمسح على الخفين؛ أي مكان أدركتك الصلاة فيه فصل: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وهذا من خصائص هذه الأمة إلى آخر الرخص التي جاءت في هذه الشريعة.
الرحمة من أخلاق الداعية المهمة، كانت مع كل نبي؛ لأن كل نبي كان داعية في قومه، كان الأنبياء يقول الواحد منهم لقومه: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف:21] يخاف عليهم العذاب العظيم، وخوفه عليهم نتيجة رحمته بهم، نتيجة الرحمة الموجودة في نفس النبي، والشفقة الموجودة في نفس الرسول، هي التي تجعله يخشى على قومه عذاب يومٍ عظيم فينطلق في دعوته، ولو ضربوه ولو أدموه لكنه مستمرٌ في الدعوة، إنها الرحمة التي كانت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه إلى الله لما طردوه، آذوه فلم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب: (انطلقت مهموماً على وجهي) النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يدري أين يتوجه، انطلق مهموماً على وجهه من شدة ما لقي من الأذى، لم يستفق ويرجع إلى نفسه، ولم يعرف أين هو إلا وقد صار في قرن الثعالب، وهو موضع بعيد، وأرسل الله إليه ملك الجبال يأتمر بأمره صلى الله عليه وسلم ماذا يريد، لو أراد أن يطبق على أهل مكة الجبلين لأطبقهما وارتاح النبي عليه الصلاة والسلام من هذه العصبة الكافرة الفاجرة المعاندة التي تعذبه وتسومه وأصحابه أشد العذاب، لكن هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يرتاح فقط؟ لا.
كان يريد الخير لهؤلاء المشركين والرحمة: (إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) كان يمكن أن يكتفي بمن معه من هؤلاء القلة المؤمنة الذين استجابوا ويأمر ملك الجبال بإطباق الجبلين على أهل مكة، لكن رحمته بقومه أبت ذلك، وشفقته عليهم رفضت هذا العرض الذي عرضه عليه ملك الجبال، إن الرحمة في قلب الداعية تدفعه للحرص على المدعو ألا يبقى ضالاً، أو يموت على الفجور أو المعصية، أو يترك على بدعة، أو يهلك على الكفر: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:44 - 45] شفقة من الداعية إبراهيم على أبيه المدعو.
الداعية يحب للآخرين ما يحب لنفسه، فهو إذا كان على هدى، وإذا كان على عبادة فهو يريد من المجتمع ومن الناس الآخرين أن يكونوا على هذه العبادة، بل وعلى أحسن منها، فالرحمة تهون على الداعي ما يصيبه من أذى الناس.
أيضاً: فإنه إذا أصيب بالأذى ربما يترك الدعوة، لكن هو الراحم بالعباد وبالخلق الذين يدعوهم إلى الله، يتحمل أذاهم ولسان حاله يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وكذلك الرحمة في قلب الداعية تمنعه من احتقار العصاة، فيبادلونه الاحتقار، أو يرفضون كلامه، فهو يكلمهم بلسان الرحيم بهم المشفق عليهم، وهذا من أسباب الاستجابة.(29/7)
التواضع
وكذلك فإن من الأخلاق العظيمة التي يحتاج إليها الداعية: (التواضع) فهو من أسباب النجاح في الدعوة، التواضع لله أولاً قبل أن يكون للخلق، التواضع لله سبحانه وتعالى والذل له عز وجل، إنه معنىً رفيع من معاني العبودية، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام المتواضعين، حج على رحل رثٍ وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وكان يقول في حجته: (اللهم اجعله حجاً لا رياء فيه ولا سمعة) وكان أصحابه لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أهدي إلي كراعٌ لقبلت، ولو دعيت عليه لأجبت) هذا العظم الذي ليس عليه إلا قليلٌ من اللحم يجيب الدعوة إليه، وكان عليه الصلاة والسلام يخيط ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه، وكان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، ويأكل بأصابعه: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد).
وكان يبدأ بالسلام، ويعود المريض، وكانت الأمة تأخذ به صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيثما شاءت، وهكذا كان أصحابه الدعاة إلى الله عز وجل، قال عروة: [رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء]، وولي أبو هريرة إمارة فكان يحمل حزمة من الحطب على ظهره ويقول [طرقوا للأمير] ومر الحسن على صبيانٍ معهم كسر خبزٍ فاستضافوه فنزل فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: " اليد لهم " يعني: هم أصحاب الفضل، هم بدءوا، إنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعموني ونحن نجد أكثر منه، وقال رجاء بن حيوة: قيمة ثياب ابن عبد العزيز رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر باثني عشر درهماً، فالتواضع الذي يلمسه المدعو من الداعية يُكسبه حباً له، وقبولاً لكلامه.
وهذا التواضع ضروري لأن من طبيعة الناس أنهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم، ويحتقرهم، ويستصغرهم، ويتكبر عليهم، ولو كان ما يقوله حقاً وصدقاً، فهم يغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده.
ومن طبائع الناس أنهم لا يحبون من يكثر الحديث عن نفسه، والثناء عليها، ويكثر من قولة (أنا)، فعلى الداعية أن يحذر من هذا أشد الحذر.
وكذلك فإن من طبع الناس النفور من كل من يتقعر في كلامه، ويتفاصح، ويتكلف، ويتنطع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هلك المتنطعون) وقال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة) كيف أن البقرة تخرج لسانها، وتلويه وتخفيه، وتظهره وتعيده وتبديه، هكذا يفعل بعض الناس.
مما يكون عيباً كبيراً أن يوجد هذا عند داعية، ويكون سداً منيعاً يحول دون تأثر المدعوين به: (إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون) الفكرة سهلة العرض مقبولة في عقول المدعوين، وكثيرٌ من الناس يكون عندهم بلاغة وأسلوب، لكن لا يتأثر بهم القوم، وبعض الناس ضعفاء ويتكلمون باللهجة العامية مع الأشخاص، يستجيب لهم الناس بسرعة، هذا يتكلف وهذا لا يتكلف، وليست المسألة دعوة للعامية وإلى ترك الفصحى، لا.
القضية: ترك التكلف والاصطناع، وأن يكون الداعية متواضعاً حتى في أسلوبه الذي يدعو به.
لماذا يكون بعض الدعاة من حملة الشهادات العليا خطباء مفوهون ولكن الناس من حولهم منفضون، وآخرون ليس عندهم شهادات، ولا عندهم تلك الفصاحة التي عند أولئك، وهم مع ذلك مقبولون محبوبون بين الناس، المسألة مسألة تواضع.(29/8)
الحلم
ومن الأخلاق المهمة أيضاً التي يحتاج إليها الداعية: (الحلم): قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] هذه طريقة علمنا الله إياها للتخلص من العداوات، أي واحد بينك وبينه عداوة وجفاء، افعل معه ما قال الله تزل منك العداوة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] أي: قابل إساءته بالإحسان، إذا ترك السلام فسلِّم عليه، ضيَّق عليك في المجلس وسِّع له إذا جاء، منعك حقك أعطه حقه، أغلظ لك في الكلام ألن له الكلام، سبَّك أثن عليه.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ادفع السيئة بالحسنة، فإذا فعلت ذلك صار هذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم أي: أخلص الناس لك، وأقرب الناس إليك، يحبك أكثر من الآخرين.
وليٌ حميم: يناصرك ويعضدك، ويقوم معك في الشدائد، ولي: صار ولياً لك، حميم: قرابة شديدة بينك وبينه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأسر بحلمه القلوب، ويرغم أنوف أناسٍ تعمدوا الإغلاظ له حتى يصيروا طوع أمره ينزلون عند دعوته، وقد حفلت السيرة النبوية بأمثلة كثيرة، فمن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردٌ نجرانيٌ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك -لا يوجد: يا رسول الله! أو يا نبي الله! هكذا يا محمد! فقط- فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) أعطاه الضحك وأعطاه المال، وأظهر له رضاه عنه بضحكه، وأنه ما أخذ في نفسه ولا وجد في نفسه عليه، حتى العبوس مع أنه أقل ما يفعله بعضنا في هذه الحالة، بل إنه على العكس من ذلك ابتسم له، بل ضحك في وجهه، ثم أمر له بعطاء صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جاءه زيد بن سعنة -وكان يهودياً- جاء إليه صلى الله عليه وسلم يطلبه ديناً له عليه فأخذ بمجامع قميصه، يهودي جاء إلى مجلس النبي عليه الصلاة والسلام فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ له القول ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه غليظ، وقال: يا محمد! ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب! قومٌ مطلٌ وشدد له في القول، فنظر إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعيناه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، عمر يرى هذا المنظر، قال: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: (أنا وهو يا عمر! كنا أحوج إلى غير هذا منك: أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر! فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من تمرٍ) فكان هذا الموقف سبباً في إسلام هذا الرجل.
ساق ابن حجر رحمه الله القصة في الإصابة وقال عن الإسناد: رجال موثقون، والوليد قد صرح بالتحديث، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
النبي صلى الله عليه وسلم كان من علاماته أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، والداعية معرض للأذى من المدعو لا شك في ذلك، فإذا كان حليماً فبادل المدعو بغلظته حلماً عليه، كان ذلك سبباً في أسر قلب المدعو ودخول الدعوة، وإيتاء الدعوة ثمارها مع هذا الرجل.
خرج زين العابدين بن علي بن الحسين رضي الله عنهم إلى المسجد، فسبه رجلٌ في الطريق، فقصده غلمان زين العابدين ليضربوه ويؤدبوه فنهاهم، وقال لهم: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل، وقال: يا هذا! أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عني أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره -يعني ذكر معايبي- ذكرته لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع زين العابدين قميصه له، وأمر له بألف درهم، فانصرف الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(29/9)
اللين والرفق
ومما يتبع هذا الخلق خلقٌ آخر وهو: (اللين والرفق): قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فاللين في التعليم مُجْدٍ جداً، وفي الإنكار مفيدٌ للغاية، ويؤتي ثماره وأُكله، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، فإنه كان معه في غاية اللين والرفق، وهكذا فعل مع الصحابي الآخر الذي تكلم في الصلاة وشمَّت العاطس.
فاللين والرفق من خلقه عليه الصلاة والسلام، وهو من الأخلاق العالية التي تُنجح الداعية في مسعاه، وهذا مثال في الدعوة: مر رجلٌ على صلة بن أشيم وقد أسبل إزاره، فَهَمَّ أصحاب صلة أن يأخذوه بشدة، فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال صلة بن أشيم للرجل: يا بن أخي! إن لي إليك حاجة! قال: وما حاجتك يا عمي؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك، فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره، فقال صلة لأصحابه: لو قرعتموه لقال: لا ولا كرامة ولشتمكم.
فالنفوس مجبولة على محبة من يرفق بها ويحسن إليها.
ومن العلماء المعاصرين الذين اشتهروا باللين والرفق وحسن الخلق علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى وجعل الجنة مأواه ومثواه، ونفعنا بعلومه، هذا الرجل كان من خلقه شيء عجيب، يعرفه من عاصره وعايشه، وكان من رفقه أنه يتحاشى وضع العاصي في الموقف المحرج.
كان له شخص بينه وبينه معرفة، وهذا الإنسان كان مدخناً، لكنه لا يدخن بحضرة الشيخ، بل إنه يتحاشى جداً أن يطلع الشيخ منه على مثل هذا الأمر، وكان هناك طريقٌ ضيق -سكة ضيقة- دخل الشيخ مرة فيها يمر عابراً، وهذا الآخر قد أتى من الناحية الأخرى، وكلٌ منهما لا يدري أن الآخر قد سلك في هذه السكة الضيقة التي لا مجال فيها للف ولا الدوران، وكان هذا الرجل يدخن والدخان في يده، ويقترب كل واحدٍ منهما من الآخر حتى ما صار بينهما إلا متر، ففوجئ الرجل بالشيخ، وفوجئ الشيخ بالرجل والدخان في فيه، يقول: إنني ألقيت السلام وأغلقت فمي والدخان يخرج من أنفي، وأنا في غاية الدهشة والاضطراب من الشيخ، فماذا فعل؟ يقول: ما نظر إلي أبداً، رد السلام ومشى ولا كأنه يعرفني، وبعد ذلك تكلم الشيخ في مناسبة أخرى.
الداعية لا يترك المنكر لكن إذا استطاع أن يوصل النصيحة إلى المدعو بدون إحراجه فهذا أمرٌ مطلوب، واشتكي إلى الشيخ عن رجلٍ يتعدى على النساء في الليل ويقول بعض الألفاظ المشينة، وهو لا يظهر في الصلاة إلا قليلاً، فلقيه الشيخ مرة في الطريق، فقال له الشيخ: العزومة إما عندي أو عندك، إما آتيك أو تأتيني، فقال الآخر: عندي، فقال الشيخ: نحتكم أو يكون بيننا الحكم أن الأقرب بيته هو الذي تكون فيه الدعوة، فحسبوها فوجدوا بيت الشيخ أقرب، فجاءه فأكرمه الشيخ في منزله وألان له الكلام، وأحسن ضيافته، ثم قال له: أنت يا فلان! من عائلة كبيرة ومحترمة ومعروفة، ولكن شاعت عنك إشاعات، وأرجو أنها ليست بصحيحة، وصار من أمرك أنك لو لم تفعل خطأ وحصل شيء في البلد، قالوا: فلان هو الذي فعله، ولو أنك ما فعلته اتهمك الناس على سمعتك، فقام الرجل واعتذر، وقال: ما تركت المسجد بعدها، وتركت الخروج بالليل.
وصار يتحاشا ويستحي ويحذر أن يبلغ الشيخ عنه أي خبرٍ سيء.
ونصح مرة تاركاً لصلاة الفجر في الجماعة على انفراد فما تركها بعد ذلك، وكان من حسن خلقه، ومن حسن تعليمه، أنه سمع مرة صاحب حمار يجر عربة، رجل عنده عربه يجرها حمار، فوقف الحمار في الطريق واستعصى على صاحبه، والحمار حمار، ورفض أن يواصل الطريق، وصاحبه يضربه وينهره بدون فائدة، ثم صرخ الرجل، قال: ألا يوجد واحد من أولاد الحرام يمشي لي هذا الحمار، وكان الشيخ ماراً فسمعه يقول هذه الكلمة (ألا يوجد واحد من أولاد الحرام يمشي لي هذا الحمار) فقال الشيخ: بل في من أولاد الحلال من يمشيه إن شاء الله، ثم قبض الشيخ بيده على ركبة الحمار وجذبه إلى الأمام فمشى الحمار، فاندهش الرجل، وقال: سبحان الله يا شيخ! حتى الحمير يستجيبون لك.
وبعض هؤلاء المشايخ -الحقيقة- والقضاة الذين مروا في هذه الجزيرة لم يكتب تاريخهم، وليس لهم مصنفات ولا أشرطة ولا محاضرات، وكانوا على خلقٍ عظيمٍ وعلمٍ وافر، لكن ما سارت بأخبارهم الركبان، إنما الذي يجلس مع بعض كبار السن، وبعض تلاميذ العلماء يسمع عجباً من أخبار ينقل مثلها في الكتب عن أخلاق السلف.
على أية حال: فإن الرفق بالناس وحسن الخلق دائماً يكون من مفاتيح القلوب المستغلقة، يقول الأستاذ سيد رحمه الله: عندما نلمس الجانب الطيب لنفوس الناس نجد أن هناك خيراً كثيراً قد لا تراه العيون أول وهلة -يتكلم عن بعض من خبره في الدعوة- شيء من العطف على أخطائهم وحماقاتهم، شيءٌ من الود الحقيقي لهم، شيءٌ من العناية باهتماماتهم وهمومهم ثم ينكشف لك النبع الخيِّر في نفوسهم، حين يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، في مقابل القليل الذي أعطيتهم إياه من نفسك، متى أعطيتهم إياه في صدقٍ وصفاء وإخلاصٍ، هذه الثمرة الحلوة إنما تتكشف لمن يستطيع أن يشعر الناس بالأمن من جانبه، بالثقة من مودته، بالعطف الحقيقي على آلامهم وعلى أخطائهم وحماقتهم، وشيءٌ من سعة الصدر في أول الأمر كفيلٌ بتحقيق ذلك أكثر مما يتوقع الكثيرون.
وصحيح أن اللين والرفق مهم؛ لكن هذا لا يعني أنك تتنازل عن أشياء من الدين، وتسكت إذا انتهكت حرمات الله، ولا تنبس ببنت شفةٍ إذا استهزئ بشيء من دين الله، كلا.
وبعض الناس يحتجون باللين على طول الخط بقصة موسى مع فرعون، وهم يأخذون جزءاً من القصة ويتركون أشياء، أليس في قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44] دليل على اللين والرفق في الدعوة؟ بلى فيها.
لكن هل كان موسى على طول الخط ليناً ورفيقاً مع فرعون؟ لا.
كان معه ليناً في البداية؛ لأنه يُبدأ في اللين لا بالعنف، لماذا العنف ويمكن البداية باللين؟ فإذاً اللين والرفق في البداية، إذا حصل أن الشخص تمادى وصار يقع في دين الله، ويستهزئ بشرع الله، وينتهك حرمات الله، فهل يبقى الإنسان رفيقاً وليناً على طول الخط؟ لا.
ولذلك يؤخذ الموقف الآخر من الآيات الأخرى، قال الله عز وجل: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:60 - 61] فالشدة في الموعظة مهمة أيضاً، ليست قضية الرفق واللين فقط، لما قال فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:101]، قال موسى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
وصحيح أن اللين والرفق هو الذي يُبدأ به، وهو الغالب، وإذا ما اضطررنا لغيره لا نستخدم إلا هو، لكن في بعض الحالات لا بد من الشدة فيها على من يستحق الشدة، النبي عليه الصلاة والسلام قال لقريش في بعض المواقف: (جئتكم بالذبح)، ولما قال فرعون لموسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19] قال موسى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] قبل أن يهديني الله: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:21 - 22] أهذه نعمة تمن بها علي؟ أطعمت واحداً من بني إسرائيل فقط وجعلته عندك وآويته، ثم ذبحت رجال قومه، وسبيت نساء قومه، أهذه نعمة؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:22] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:26 - 27] على أية حال: فإن اللين والرفق مهم يبدأ به ولا يعدل عنه إلا للحاجة.(29/10)
الكرم
ومن الأخلاق التي تكون سبباً في نجاح الداعية إلى الله عز وجل، ومن عوامل نجاحه: (الكرم) أن تعطي، أن تهب، أن تهدي، تغدق على المدعو، تضيفه، تكرمه، تعينه، تبذل له، فإن الكرم من مفاتيح القلوب المستغلقة.
جاء في صحيح مسلم عن أنس: (أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) وروى مسلم رحمه الله في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا غزوة الفتح ثم خرج صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين، فاقتتلوا بـ حنين فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ صفوان بن أمية وحده مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة -ثلاثمائة- قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) كان يعطي مائة من الإبل، وكم تساوي مائة من الإبل؟! وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (يا سعد! إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار) يعطيهم ليتألف قلوبهم حتى لا يدخلوا النار، يعطيهم ويستنقذهم بكرمه صلى الله عليه وسلم، ويترك أصحابه فقراء محتاجين من أجل هؤلاء الناس ألا يكبهم الله في النار: (إني لأعطي الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطيه، ولكن أعطي أقواماً أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير).
والهدية أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها من أسباب المحبة، فما أحسن أن يفتتح الداعية علاقته بمدعوٍ بهديةٍ يتألف بها قلبه، ويتحبب بها إليه.
إذا أردت قضاء الحاج من أحدٍ قدم لنجواك ما أحببت من سبب
إن الهدايا لها حظٌ إذا وردت أحظى من الإذن عن الوالد الحدب
ولكن ليس معنى هذا أن يسرف الداعية، فبعض الدعاة يقول: نريد أن نكرم مدعواً، فيسرف في الطعام، وربما رُمي الطعام، أو هؤلاء الذين يأخذون بعض المدعوين إلى مطاعم الخمس نجوم، وأماكن اختلاط، هذا ليس كرماً، بل هذه معصية.
فنقول: لا يمكن أن تأخذه إلى أماكن فسق وتقول: أنا أكرمه، الإكرام حسب الشريعة، الإكرام بموافقة الشرع، لو تغدق عليه المئات والألوف تكون محسناً، ولكن أن تجلبه إلى مكان المعصية، أو أنك تسرف، فإن الله لا يرضى ذلك ولا يحب المسرفين.(29/11)
التعفف والزهد
وفي مقابل الكرم يجب على الداعية أن يكون على خلقٍ عظيمٍ جداً ومؤثر للغاية، وهو خلق (التعفف والزهد) التعفف والتجرد عن المطامع، وهذا الكلام مهمٌ بالنسبة للدعاة الذين يقولون: إننا نريد أن ندعو علية القوم والأغنياء والوجهاء، يقولون: هؤلاء لو استقام الواحد منهم فإنه ينفع المسلمين نفعاً كبيراً.
نقول: إن الذي يحتك بهذه الطبقة من الناس -التجار والوجهاء- ويريد أن يدعوهم عليه أن يهتم بهذا الخلق غاية الاهتمام، وهو خلق التعفف والزهد، لأن من توجه إليه الدعوة إذا رأى أن الداعية ينافسه فيما آتاه الله؛ فإنه سيشك في إخلاصه، فلا بد أن يوضح الداعية أنه ليس طالب جاه ولا منصب، ولا رائد ثروة ولا مال.
قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يقال إنك تريد الملك؟ يقال: إنك بسيرتك وأعمالك هذه تريد أن تصل في النهاية إلى الإمساك بزمام الأمور، تريد الملك؟ فقال في دهشة وقوة: أنا أريد الملك؟!! والله إن ملك التتر لا يساوي عندي درهماً.
ومن المواقف التي حفظها التاريخ الحديث، موقف الشيخ سعيد الحلبي وهو من الأساتذة المربين في القرن الماضي، كان يلقي درساً في جامع من جوامع دمشق، فجاء إبراهيم باشا وكان من الظلمة، وكان حاكم سورية في وقته، وكان معروفاً بالقسوة والعنف، فدخل المسجد ووقف عند الباب، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله وكان ماداً رجله إلى الأمام؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب فدخل إبراهيم باشا ومعه العسكر والشرطة، فانتظر أن يقبض الشيخ رجله احتراماً للوالي ولكن الشيخ لم يفعل، فخاف أصحابه عليه من السيف، وقبضوا ثيابهم لكيلا يصيبها دمه، وبقي إبراهيم باشا واقفاً والشيخ لم يغير من جلسته، ثم رجع وأرسل بعد ذلك صرة فيها دنانير ذهبية مع أحد الخدم، وقال له: تقدم إلى سيدنا الشيخ سعيد الحلبي، وقل له: هذه هدية من إبراهيم باشا، فلما جاء الخادم إلى الشيخ وأعطاه الصرة، قال له الشيخ كلمة بليغة: قل لسيدك: إن الذي يمد رجله لا يمد يده.
وذهب أحد العلماء الصالحين ليشتري حاجة من دكان، فلما جاء إلى الدكان وسام السلعة، لم يكن البائع يعرفه، فقام أحد الموجودين بتعريف الشيخ وقال: هذا فلان العالم العامل، فعندما سمع العالم بذلك ولَّى هارباً فناداه البائع إلى أين يا سيدي؟ فقال: أريد يا أخي أن أشتري بمالي لا بديني.
ولما ذهب بعض الدعاة إلى بعض القرى للدعوة، لقوا إعراضاً وامتهاناً من بعض أهل القرية، لماذا؟ لأنهم ظنوهم مثل بعض الشحاذين، الذين كانوا يأتون للوعظ ثم يسألون الناس بعد الموعظة، وهذا منكر لو حصل في أي مسجد، ومن فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله منع هؤلاء الذين يعظون للتسول.
فأقول: إن الناس إذا لمسوا أن الداعية عنده أي مطمع دنيوي؛ أو رغبة مادية بما في أيدهم، فإنه يسقط من أعينهم تلقائياً -مباشرة- بل إن عمرو بن عبيد المعتزلي المبتدع بلغ من قلب أبي جعفر المنصور مبلغاً، ونال إعجابه بهذا المسلك وهو التعفف عما في أيدي السلاطين، حتى قال المنصور لبعض من عنده:
كلكم يمشي الرويد
كلكم طالب صيد
غير عمرو بن عبيد
فعلى الداعية إلى الله أن ينتبه من استخدام أغراض الآخرين، أو طلب الأشياء منهم، أو أن يمد يده فيطلب منهم أمراً من الأمور، وقد لا يكون الطلب حراماً، لكن من جهة الداعية لا يصلح أن يطلب من المدعو في موقف الدعوة، رأى داعية صاحبه ذاهباً، فقال: إلى أين؟ قال: إلى فلان -أحد المتفوقين دراسياً- منها دعوة ومنها يشرح لي.
وقفة: لا مانع أن يكون دخول الداعية على مدعو عبر شرح درسٍ له، ويظهر له أنه يحتاج إلى شرحه، لكن المانع إذا أحس المدعو أن الداعي يريد أن يستغله ويستفيد منه لأمرٍ شخصي، فهل يا ترى تؤثر فيه الدعوة وكلمات الداعية؟! ولذلك على الداعية أن يكون منتبهاً جداً إلى هذه القضية، وألا يطلب من المدعو شيئاً إلا نادراً، أو لمصلحة واضحة، ففكِّر إذاً قبل أن تطلب منه حاجة، أو تأخذ منه سيارة ونحو ذلك، فكر بأثر ذلك عليه، وأجِّلْ هذا فإنه سيأتيك بما معه لو أن الله قذف في قلبه نور الإيمان، الشاهد: التعفف عما في أيدي المدعوين ولو كان مغرياً، فإن الدنيا مغريات.(29/12)
العفو عند المقدرة
ومن الأخلاق المهمة: (العفو عند المقدرة) فإن الداعية قد يؤذى ويستطيع أن ينتقم ويرد، لكن إذا عفا عند المقدرة، كان عفوه بالغ الأثر في نفس من يدعوه، فيستجيب له، أو ربما لا تحصل استجابة فورية في كثير من الأحيان، لكن يكون ذلك الموقف نقطة إيجابية في قلب المدعو تدخر للمستقبل، فنقطة معها منه أو من غيره، وهكذا حتى يصبح قلب المدعو أبيض مستنيراً بنور الإسلام.
ماذا حصل لـ خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أخذ أسيراً؟ قالت بنت الحارث وكانت مشركة في مكة سجن في بيتها، سجنوه ليقتلوه، وضعوه في بيتها في مكان يشبه أن يكون حصيناً لسجْنه، فحين سجنوه استعار من بنت الحارث موسى لكي يستحد بها، فقد كان حريصاً على تطبيق السنة وهو في الأسر، فأعارته، قالت بنت الحارث: فأخذ ابنٌ لي وأنا غافلة حتى أتاه -ولد صغير حبى ومشى حتى أتى خبيباً، دخل على غفلة مني- فالتفت فوجدته قد أجلسه على فخذه والموس في يده، قالت: ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي، فقال: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك، ثم قالت -مع أنه محكوم عليه بالإعدام، وهذه فرصة لينتقم- والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنبٍ في يده وإنه لموثوق في الحديد وما بـ مكة ثمر.
ليس في مكة عنب وفي يده قطفٌ من عنب يأكل منه، وهذه من باب كرامات الأولياء.(29/13)
تقدير الآخرين واحترامهم
ومن الأمور المهمة أيضاً في أخلاق الداعية: (تقدير الآخرين واحترامهم) وخصوصاً كبار السن، وهذا له أثرٌ كبيرٌ على استجابتهم، النبي عليه الصلاة والسلام لما أُسر ثمامة وربط في المسجد كان يمر عليه كل يوم ويسأله سؤالاً واحداً فقط، مع إكرام الأسير بطبيعة الحال، وقد أطلقوا ثمامة في اليوم الثالث، فلما أطلق ذهب إلى مكان فتوضأ، ورجع وأعلن إسلامه، ليقول للنبي عليه الصلاة والسلام: ما كان وجهٌ أبغض إلي من وجهك فأصبح أحب الوجوه إلي، ما كان بلدٌ أبغض إلي من بلدك حتى أصبح أحب البلاد إلي، ما كان دينٌ أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلي.
وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أسياد القوم ويجلسهم عن يمينه، ويقول: (أنزلوا الناس منازلهم)، وعند موته أوصى عليه الصلاة والسلام بوصايا مهمة منها: (أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزه) وعلى ذلك سار أصحابه من تقدير واحترام الآخرين.
لما جاء عدي بن حاتم إلى عمر وجعل عمر يدعوهم رجلاً رجلاً، يسميهم: يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، وفود تأتي عمر وعمر يدعوهم واحداً واحداً، قال عدي: [أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ -لأن عدياً كان سيداً في قومه- قال عمر رضي الله عنه: بلى.
أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال: عديٌ، فلا أبالي إذاً] يعني إذا كنت تعرف قدري فلا أبالي أنك لم تدعني باسمي ولم تخصني.(29/14)
الستر
ومن الأخلاق المهمة: (الستر) فإن الداعية يطَّلع على معاصٍ من المدعو، فينبغي عليه ألا يشهر به، وإنما يكون بحلمه وعلمه ستيراً يستر عليه ما رآه من السوء ولا يشهر به، وهذا الستر يكون من الأمور التي تجذب المدعو، فعندما يرى أن الداعية يستر عليه ولا يشهر به، عند ذلك يستجيب، ويكون له بالغ الأثر.
وقد وردت قصة عن يزيد بن الأصم، قال: كان رجلاً من أهل الشام ذا بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب، ففقده عمر، فقال: [ما فعل فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين! يتابع في هذا الشراب- وقع المسكين في بلية شرب الخمر- قال: فدعا عمر كاتبه، وقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان: سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3] ثم قال لأصحابه: ادعوا لأخيكم أن يقبل بقلبه، وأن يتوب الله عليه، فلما بلغ الرجل كتاب عمر جعل يقرأه ويردده، ويقول: غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، قد حذرني عقوبته -يعني: حذرني الله عقوبته- ووعدني أن يغفر لي] رواه ابن أبي حاتم بإسنادٍ فيه مقبول، ورواه أبو معين من حديث جعفر بن برقان وزاد: [فلم يزل يرددها الرجل على نفسه ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر خبره، قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلة فسددوه ووثقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه].(29/15)
العطف
وأخيراً وليس هذا آخراً: ولا يذكر في الأخلاق، لكن نختم الكلام بخلق: (العطف) الذي هو تابعٌ للرحمة، فمما ينبغي أن يكون الداعية عليه في مواقف من المدعو، تفهُّم مشكلاته، ومواساته، إظهار العطف والحنان، والمدعو لا يخلو من مصيبة، أو شيء من همٍ، أو حزنٍ، أو مرضٍ، أو موتِ قريبٍ، أو دينٍ، أو رسوب في دراسة، أو طرد من وظيفة، في هذه الحالة يكون العطف والشفقة من الأشياء التي تفتح طريقاً واسعاً إلى قلب المدعو، والأذكياء من الدعاة ينتهزون هذه الفرص، ويأتون بالعطف والحنان اللازم.
ولكن هذا العطف -أيها الإخوة! - ليس من هذه العواطف الهوجاء الشخصية، التي يربط بها بعض الدعاة المخطئون في أساليبهم بعض المدعوين، يربطه بشخصيته ويجعل العلاقة علاقة عاطفية، ليس فيها كلام الله ورسوله، ولا موعظة، ولا تذكير بآخرة، وإنما قضايا من أنواع العلاقات التي هي من جنس التعلق المذموم.
فنقول: هذه علاقة مدمرة لا تهدي الشخص، وإنما قد تنقله من معصية إلى شيء أخطر من المعصية، وقد يقلد الداعية في بعض الأشياء لا من باب القناعة الشرعية، لكن من باب هذا التعلق الذي جعله هذا الداعية بشكلٍ خاطئ في قلب هذا المدعو، ولذلك فاحذروا -يا أيها الدعاة! - من أن تربطوا المدعوين بكم بروابط عاطفية خاطئة، وإنما يكون لديكم من العطف والحنان، ما تبدونه للمريض والمحزون، والمهموم والمغموم، والمصاب بالمصيبة، تكون العلاقة مبنية على الشريعة، لا على الأهواء الشخصية.
وفقني الله وإياكم للدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد.(29/16)
الأسئلة(29/17)
أولويات الدعوة في أوساط المبتدعة
السؤال
كيف أتعامل مع من يكون في وسط يعج بالمنكرات والبدع، من بدع الصوفية والسحرة والكهان وتصديقهم وغير ذلك؟
الجواب
الداعية الذي في مثل هذه الأوساط لا بد أن يركز على التوحيد أولاً، ولأن المدعوين يختلفون، فقد يكون المدعو عقيدته سليمة لكن عنده فجور، قد يكون من أهل الزنا، قد يكون من أهل الفواحش؛ من أهل الخمور، من أهل الربا، قد يكون كذاباً، فالإنسان يشتغل معه بتقوية إيمانه وربطه بالله تعالى، ويتكلم عن الكبائر، لكن إذا كان هذا الوسط مليئاً بالسحر والكهانة والشعوذة، والصوفيات الشركية، فإنه لا بد أن يركز ولا يتكلم الآن عن قضية الكبائر، وإنما يبدأ بالكلام عن التوحيد، وتقرير التوحيد والتوسع فيه، وربما لو كان مع غيره لاختصر وجاء بأمور أخرى تتعلق بالكبائر أو المعاصي.(29/18)
ليس على الداعية إلا التبليغ
السؤال
وقفت عند إشارة مرور ووجدت شخصاً بسيارته ومعه زملاء رافعاً صوت المسجل وموجودٌ فيه شريط غناء، فأشرت إليه وطلبت منه إنزال الزجاج الذي بيني وبينه فلم ينزله، فرميت عليه شريطاً لأحد الدعاة، وقال لي: ما هذا، قلت: اسمعه، وقال: لماذا؟ قلت: اسمعه، قال لي: لماذا؟ قلت: لوجه الله، فرماه في الشارع وذهب جهدي، ما هو خطئي؟
الجواب
لا يلزم أن يكون عندك خطأ، إنما لم يكتب الله له أن يستفيد من هذا، فأنت فعلت ما عليك وأنكرت وأعطيته البديل، ثم هو لم يستجب، كثير من الناس يخطئون، يظنون أن الأجر لا يحصل للداعية إلا إذا استجاب المدعو، وهذا خطأ، الأجر حاصل للداعية ومكتوبٌ إن شاء الله إذا قام بالدعوة، استجاب الناس أو لم يستجيبوا: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272] وبعض الناس يتصور من الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) أنه ما يحصل الأجر إلا إذا اهتدى الشخص، لا.
له أجر على التبليغ، وأجر على الاهتداء، وهذه مسألة من الله، فالأجر موجود على الدعوة والتبليغ، ولو لم يستجب الناس.(29/19)
وجوب تحمل الداعية لعداوة الناس للدعوة
السؤال
كيف الطريقة تجاه من كان على خطأ وعملت على نصحه، وتبين خطؤه بكل وضوح، ولكن وجد منه الصدود وعدم الاكتراث، بل أصبحت كالعدو بالنسبة له، وهذا غير ما يعمل علي بأن يجعلني نكتة في المجلس، عملت على تجنبه وعدم نصحه مرة أخرى فهل أكون آثماً؟
الجواب
لا ينبغي أن يصدنا عدوان الناس عن نصحهم، وإلا لترك نوح الدعوة منذ أول سنة وما انتظر تسعمائة وخمسين عاماً، ولكنه استمر على نصحهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، تسعمائة وخمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل.
ولا تقل يا أخي: عملت على تجنبه وعدم نصحه مرة أخرى، اعمل على اللين معه ونصحه مرة أخرى، ثم إن بعض الدعاة لا تكون علاقاتهم مع بعض المدعوين إلا الانتقاد، إذا جاء موضع المنكر أنكر عليه، فقط هذه العلاقة، إذا جاء موضع الخطأ خطأه، أين الصداقة التي إذا عقدتها معه صار ذلك من أسباب استجابته؟ أين العشرة الحسنة؟ أين الكلام الآخر غير قضية الإنكار والتخطئة؟ ألا يوجد كلام آخر بينك وبينه يلطف الجو؟ تصبح العلاقة إنكاراً وتخطئة؟ نقول: هذا قصور، ينبغي أن يتدارك.(29/20)
صدقة نقية من نفس تقية
الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار، وقد حث الشرع على الصدقة وجعل لها آداباً وشروطاً.
هذا ما تناوله درس الشيخ إضافة إلى الكثير من الأحكام الخاصة بالصدقة، مع ذكر حرص الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة على البذل والإنفاق في سبيل الله.(30/1)
آداب الصدقة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أمرنا في كتابه بالصدقة ودعانا إليها وحثنا عليها، فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] وصلى الله وسلم على نبينا محمد الذي أمرنا بالصدقة وحثنا عليها، فقال في خطبته: (أما بعد: فإن الله أنزل في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] إلى آخر الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] إلى قوله تعالى: {هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدقوا قبل أن تصدقوا؛ تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بره، تصدق من تمره، من شعيره، لا تحقرن شيئاً من الصدقة ولو بشق تمرة) رواه مسلم.
حديثنا أيها الإخوة! عن "صدقة نقية من نفس تقية".
ما هي آداب الصدقة؟ ما هي شروطها؟ ما هي مجالات الصدقة؟ ما هي بعض الأحكام المتعلقة بالصدقة؟ أما آداب الصدقة: فإن الله سبحانه وتعالى يقول في آدابها وشروطها، وما يتقبل منها: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262]، وقال عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274]، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]، وقال سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11].
هذه الدعوة من الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:11] إذا علم المقرض أن المقترض مليء غني ووفي ومحسن؛ كان ذلك أدفع له للصدقة، وأطيب لقلبه ولسماحة نفسه إذا علم المقرض أن الذي اقترض منه مليء، فهذا يدفعه إلى الصدقة إذا علم أن الذي يقترض منه يتاجر له فيها، وينميها له، ويثمرها حتى تصير أضعافاً مما كانت قبل سيكون بالقرض أسمح وأسمح، فإذا علم أن المقترض مع ذلك سيزيده من فضله ويعطيه أجراً آخر غير القرض الذي اقترضه، ليس فقط يرده إليه ويضاعفه وينميه وإنما سيعطيه شيئاً إضافياً عليه، لا شك أنه سيكون في ثقة وضمان، وأنه سيندفع إليها أكثر وأكثر، والله سبحانه وتعالى هنا قد أخبر: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد:11] من المقترض؟ الله.
هذه منة منه سبحانه وتعالى على عباده: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [الحديد:11] ينميه ويثمره الغني ثم يعطيه، بالإضافة إلى ذلك أجر آخر غير أجر الصدقة {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:11] غير الصدقة له أجر كريم.
والله عز وجل قد بيَّن لنا في هذه الآيات -التي سبق ذكرها- آداب الصدقة: أولاً: أن تكون من مالٍ طيب لا رديء ولا خبيث.
ثانياً: أن تخرج طيبةً بها نفس المتصدق يبتغي بها مرضات الله.
ثالثاً: ألا يمن بها ولا يؤذي.
قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) [البقرة:262]، ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274]، {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد:18].
فتأمل يا أخي المسلم هذه الآداب الثلاثة: الأول: يتعلق بالمال أن يكون طيباً.
الثاني: يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، أن يكون مبتغياً مرضات الله طيبةً بها نفسه.
الثالث: شيء يتعلق بينه وبين الآخذ، وهو ألا يمن ولا يؤذي.(30/2)
مضاعفة أجر المتصدِّق
قال الله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، فالله عز وجل بين صورة المضاعفة هنا، فقال: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] سنابل من جموع الكثرة، ومع أنها سبع، لكنه قال: (سَنَابِلَ) استعمل جموع الكثرة، وفي قصة يوسف قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ} [يوسف:43] سنبلات من جموع القلة، فاستعمل في السبع هنا في الرؤيا جمع القلة؛ لأنه لا مبرر للتكثير مع أنه سبع هنا وسبع هناك، لكن في السبع التي في آية الصدقة، قال عز وجل: {أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} [البقرة:261] جمع كثرة {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] لأن المقام مقام تكثير وتضعيف، فالسبع في مائة سبعمائة، وغير السبعمائة أضعاف كثيرة فوق السبعمائة.
وقال الله سبحانه وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ما هو المشبه؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة:261] شبهوا بأي شيء؟ ما هو المشبه به؟ الحبة.
إذاً: شبه المنفق بالحبة، مع أن المثل فيه منفق ونفقة وباذر وبذرة، فاختار المنفق من الشق الأول، والبذرة من الشق الثاني، واختار من كل شقٍ من المثل أهمه، مع أنه هنا يوجد منفق ونفقة، لكن المهم هو المنفق {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة:261] واختار هنالك البذرة؛ لأنها هي التي تنمو وتكثر، ولا يهم من الذي بذرها بالنسبة للمثل، فاختصره وجاء به في غاية البلاغة.(30/3)
عدم اتباع الصدقة بالمنِّ والأذى
قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] فهذا يبين القرض الحسن، وهو: أن تنفق أموالك في سبيل الله ثم لا تتبع ما أنفقت مناً ولا أذى، لأن عدم اتباعها بالمن والأذى يصيره قرضاً حسناً، والمن والأذى أنواع: النوع الأول: ما يكون بالقلب دون اللسان، يشعر الإنسان لما أعطى أنه منَّ على فلان لكنه ما جهر بذلك، صحيح أن هذا لا يبطل الصدقة لكنه لا يصيرها في المكان العالي والدرجة الرفيعة.
النوع الثاني: المن باللسان، فيعتدي على من أحسن إليه ويريه أنه قد صنع إليه معروفاً عظيماً وأنه طوقه منة في عنقه، فيقول له: أما أعطيتك كذا، أما تذكر كذا، أو أن يقول له: أعطيتك ولكن لا يوجد فائدة! ما رأيت منك شيئاً، أو أعطيتك فما شكرت، حتى أن بعض السلف قال: "إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه".
وكان من كلام بعض السلف: "إذا اصطنعتم صنيعة فانسوها".
إذا عملت معروفاً فانساه، "وإذا أسديت لكم صنيعة فلا تنسوها".
ولذلك أخبر الله سبحانه وتعالى أن من صفات القرض الحسن عدم المن لا بالقلب ولا باللسان.
وأما الأذى فإنه كثير أيضاً، والمن هو أذى فأكده، وهو نوع خاص من أنواع الأذى، ولا شك أنه إذا منّ عليه فإنه يؤذيه، قال الله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} [البقرة:262] ثم: تقتضي التراخي، لم يقل: ولا يتبعون، أي: ليس عدم المن فقط عند الإعطاء؛ لكن لا تمن ولو بعد الصدقة لمدة طويلة، ولذلك قال: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} [البقرة:262] فالمن يحصل ولو بعد سنين من الصدقة؛ لأن بعض الناس عندما يعطي -مثلاً- لله ونفسه طيبة وقد يكون بعد موعظة، لكن بعد أسابيع أو أشهر أو سنين قد يأتيه الشيطان ويلعب في ذهنه أو قلبه، فيدفعه إلى أن يذكر الفقير أو الشخص الذي منَّ عليه، يقول: أما تذكر أني أعطيتك قبل سنوات كذا وكذا وكذا، أما تذكر أني أسديت لك كذا وكذا، ولذلك قال تعالى: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ} [البقرة:262] أي: على التراخي ليس فقط عند الإعطاء وحتى بعده، وهذا من بلاغة القرآن ومن مجال التدبر فيه الذي أمرنا به.(30/4)
السر والعلن في الصدقة
قال سبحانه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] أيضاً النفقة تكون متتابعة بالليل والنهار، سراً وعلانية، فصدقة السر لها ميزان، وصدقة العلانية لها أحوال تكون أفضل، كما إذا كان يشجع غيره ويدفعه للصدقة، وإلا فإن الأصل أن تكون خفية حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وصدقة السر تطفئ غضب الرب.
ولا شك أن الذي يقول قولاً معروفاً: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263].
لأن القول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطئوا عليك صدقة؛ هذه صدقتان خير من نفقة وصدقة يتبعها أذى فتكون باطلة.
إذاً: حسنتان أحسن من حسنة باطلة، ولا نريد صدقة بالمنة مهما بلغت، ولو كان الإنسان لا يوجد عنده ما يتصدق به {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة:263] تصدق حذيفة بدية أبيه على المسلمين حين قتل أبوه في غزوة أحد بسبب ما حصل من اختلاط الأمور، فتصدق على المسلمين بديته.
وكان بعض السلف يتصدق على من آذاه واغتابه في عرضه.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263] أي: إذا كنتم ستمنون؛ فالله غني عنكم، وإذا كنتم ستئوبون وترجعون؛ فالله حليم لا يعاجل بالعقوبة، ويمهل عبده حتى يئوب إليه ويرجع، والله غني لا يحتاج إلى صدقاتكم فنفعها عائدٌ عليكم أنتم.(30/5)
الرياء في الصدقة
ولقد بين الله عز وجل مثلاً لمن يرائي في الصدقة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة:264] هذا الصخر الصلب {عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] عليه طبقة من تراب {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة:264] أصابه مطر شديد، ماذا سيحصل للتراب الذي على الصخر الأصم الصلب؟ هل سينبت؟! لا.
وإنما سيزول، والمطر يغسل هذا الصخر من التراب، فكأنه لا مكان للبذل أصلاً ولا لخروج شيء {فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة:264] أملس كما كان قبل أن يكون عليه تراب {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264].
فإذاً: هذا معنى أن المن والأذى يحبط الصدقة.
فقلب المرائي مثل الصخر لا ينبت شيئاً ولا ينبت خيراً، كما أن هذه الصخرة التي عليها التراب لم تنبت شيئاً، ما كان عليه إلا قليل من الغبار، شبه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر هذا هو المن الذي أذهب أثر الصدقة وأزالها، بخلاف الذي ينفق ابتغاء وجه الله، يقول الله في شأنه: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:265] الذي ينفق أمواله إخلاصاً لله وتصديقاً بموعود الله وتثبيتاً من نفسه وهو صدقه في البذل والعطاء لا شك أنه في هذه الحالة يكون حاله كمثل جنة -بستان- بربوة، أي: على مكان مرتفع، فإن البستان إذا صار في مكان مرتفع، في طريق الهواء والرياح تسطع عليه الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، ويكون الثمر أنضج وأحسن وأطيب ولا شك في ذلك، بخلاف الثمار التي تنشأ دائماً في الظلال، ولذلك قال في الزيتونة: {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: معتدلة في الوسط، الشمس تأتي عليها في جميع الأوقات {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور:35] فهذا أنفس الزيتون، وأنفس الأشجار ما تكون بهذه الصفة، فهذه الجنة التي بهذا المرتفع المتعرضة للشمس إذا أصابها الوابل والمطر الشديد آتت أكلها ضعفين؛ أعطت البركة أخرج ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} [البقرة:265] إذا ما أصباها وابل {فَطَلٌّ} وهو دون الوابل الرش الخفيف؛ هذا يكفي لإنباتها أيضاً، لكن إنباتاً دون الإنبات الأول، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للسابق بالخيرات والمقتصد المقتصد صاحب الطل، والسابق بالخيرات صاحب الوابل.
إذاً: هذا مثل المرائي ومثل الذي ينفق إخلاصاً لله سبحانه وتعالى.
ثم إن الله عز وجل ضرب مثلاً آخر في سورة البقرة التي فيها هذه الأمثال العظيمة حاثاً عباده على أن تكون صدقاتهم خالصة له عز وجل، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266] هذا الشخص تعلق قلبه بهذه الجنة من نواحي كثيرة: أولاً: أن فيها أعناب ونخيل، وهي من أنفس الثمار.
ثانياً: أن هذا البستان يجري من تحته الأنهار.
ثالثاً: أنه ليس فقط فيها أعناب ونخيل، وإنما فيها من كل الثمرات.
رابعاً: أن هذه الجنة التي فيها أشرف أنواع الثمار التي يؤخذ منها: القوت، والغذاء، والدواء، والشراب، والفاكهة، والحلو والحامض التي تؤكل رطباً ويابسةً، أي: النخيل والعنب؛ هذه صفاتها، وبالإضافة إلى كل الثمرات؛ فإن هذا الرجل قد كبر سنه، ولا شك أن الإنسان إذا كبر سنه لا يقدر على الكسب والتجارة ويحتاج إلى الأشياء التي لها مدخولات ثابتة كالمزارع والعقار، ولذلك أصابه الكبر، فهو يحتاج إليها حاجة شديدة الآن، وكذلك فإن هذا الرجل إذا كبر سنه اشتد حرصه فتعلق قلبه بها أكثر، فإن الإنسان يهرم ويشب معه حب المال والحرص.
وكذلك فإن هذا الرجل له ذرية؛ والذي له ذرية يحب أن يحفظ أمواله حتى يبقيها للذرية والأولاد، وبالإضافة إلى ذلك فإن هؤلاء الذرية ليسوا كباراً وإنما هم ضعفاء، وإذا كانت الذرية ضعفاء؛ فسيكون حرصه على هذا المال أكثر؛ لأن الذرية ضعفاء صغار لا يستطيعون الكسب، وكذلك فإنه هو الذي ينفق عليهم لضعفهم وعجزهم، كيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصبح يوماً فرأى أن جنته قد احترقت بإعصارٍ فيه نار فاحترقت وصارت رماداً، كيف تكون وقع المصيبة عليه؟! هذا الرجل مثله مثل رجل عمل أعمالاً في الدنيا لكن برياء ومنّ وأذى، فجاء يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى ثواب الأعمال؛ لأن أمامه النار والهلاك والدمار، فرأى أنه لا شيء له ألبتة؛ لأنها كلها ذهبت بالرياء والمن والأذى، فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى والله يضرب الأمثال للناس لعلهم يعقلون، وهذا مثل قلّ من يعقله من الناس، فكل واحد تسول له نفسه إحراق أعماله الصالحة بالرياء، فليتأمل هذا المثل، وليعرف أيضاً عظم المصيبة التي تنزل عليه عندما يدخل في موضوع الرياء أو يدخل الرياء في أعماله.(30/6)
حث الشريعة على الصدقة
أما بالنسبة للصدقة: فإن الصدقة لا شك أنها من الأشياء التي حثَّت عليها الشريعة، والتي كان النبي عليه الصلاة والسلام يدخلها في دعوته، حتى إن هرقل لما سأل أبا سفيان عن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أنه يأمر بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، حتى إن هرقل قال: هذه صفة نبي.
والصدقة منة من الله، ولذلك قال الصحابة:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فمن وفقه الله للدين الذي يوعز له بالصدقة؛ فإنه من الله حتى لو تصدقنا نحن، فالمنة لله؛ فالذي وفقنا إليها ومكننا منها، ورزقنا ما نتصدق به هو الله سبحانه وتعالى.
ثم إن الصدقة لها باب خاص في الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله -من أي شيء- نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله، هذا خير؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) المكثر من الصدقة يدعى من باب الصدقة.
نقول: الزكاة واجبة، والصلاة واجبة، والصيام واجب، لكن المكثر من صيام النافلة يُدعى من باب الريان، والمكثر من صلاة النافلة يدعى من باب الصلاة، والمكثر من صدقة النافلة بالإضافة إلى الزكاة يدعى من باب الصدقة.
والله سبحانه وتعالى أمرنا أن ننفق من الطيبات، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267]، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه الآية، باب: صدقة الكسب والتجارة.
إذاً: إذا كان الكسب طيباً؛ تكون الصدقة عظيمة، وأطيب الكسب ما عمله الإنسان بيده، قال صلى الله عليه وسلم: (كل بيع مبرور) والزراعة، والتجارة الحلال كل هذه مغانم {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] لا تتنازل به المرأة للرجل {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4].
الأبواب التي يحصل بها الناس على الأموال كثيرة؛ كلما كانت أطيب وأبعد عن الشبهة؛ كان الإنفاق منها أحسن وأجود وأكثر أجراً.(30/7)
حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدقة
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على الصدقة، مسارعاً إليها، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن عقبة بن حارث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العصر فأسرع، ثم دخل البيت، فلم يلبث أن خرج، فقلت، أو قيل له -أي: عن سبب هذا الإسراع- فقال: كنت خلّفت في بيتي تبراً من الصدقة، فكرهت أن أبيته فقسمته) أراد أن يتخلص من هذا الذهب الباقي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً على الإسراع فيها: (تصدقوا؛ فإنه يأتي عليكم زمانٌ يمشي الرجل بصدقته فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل المعطى: لو جئت بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم فلا حاجة لي بها) هذا في بعض الأزمنة يسود الرخاء، فلا يأخذ الناس الصدقات.
وكذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة قبل أن يأتي الموت، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: أن تصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل -لا تؤجل- حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان: كذا وكذا، ولفلان: كذا وقد كان لفلان) إذا بلغت الروح الحلقوم صار المال من حق الورثة، وتعينت أنصبتهم ومقاديرهم وصار المال لهم، الآن إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: أعطوا هذا وأعطوا هذا وأنفقوا هنا وهناك، خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح لست مريضاً ولا على فراش الموت، شحيح، أي: تخشى الفقر وتأمل الغنى، ويكون فيك حرص على المال، ومع ذلك تنفق في سبيل الله سبحانه وتعالى.(30/8)
حرص الصحابة على الصدقة
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حريصين كل الحرص على الصدقة، حتى أن أحدهم كان إذا ما وجد مالاً يتصدق به؛ يذهب إلى السوق يشتغل حمالاً لكي يتصدق من الأجرة.
قال البخاري رحمه الله في كتاب الإجارة، باب: من أجر نفسه ليحمل على ظهره ثم تصدق به وأجرة الحمال.
وقال أبو مسعود الأنصاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرنا بالصدقة انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل -يعمل حمال- فيصيب المد -أجرة الحمال- لكي يتصدق به، ثم قال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه: وإن لبعضهم لمائة ألف -أي: بعد الفتوحات- ما تراه إلا نفسه).
أي: أنه قصد نفسه، كان يذهب إلى السوق ويعمل حمالاً ويتصدق وهو اليوم فتح عليه ما فتح وصار له مائة ألف.
وينبغي على الإنسان المتصدق أن يراقب وجه الله، ولا يبالي بمن يتكلم عليه من الناس، فالمنافقون تكلموا على المتصدقين من المؤمنين، ففي حديث أبي مسعود المتقدم (لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقال المنافقون: مرائي، وجاء رجل وتصدق بصاع؛ شيء قليل، فقالوا: إن الله لغني عن صاع هذا، فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة:79] يعني: المتطوعين {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] سخر الله من هؤلاء المنافقين.
كان الصحابة رضوان الله عليهم يسارعون في الصدقة رجالاً ونساءً، ولما حثهم الرسول عليه الصلاة والسلام على الصدقة جاء رجلٌ بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت.
وتتابع الناس بالصدقات، وجهز عثمان جيش العسرة، وحصلت أشياء كثيرة جداً من الصحابة مما سبقونا نحن المسارعة في الإنفاق بالقليل والكثير، حتى تصدق أبو بكر بماله كله، وتصدق عمر بنصف ماله، المهم أنه لا يستطيع منا أحد اليوم أن يتصدق بماله كله ولا حتى نصف ماله إلا نادراً جداً من يفعل ذلك، وهذا من أسباب تفوق الصحابة علينا.
والنساء كن أيضاً إذا حثهن النبي صلى الله عليه وسلم ووعظهن يسارعن بذلك، كما جاء في خطبة العيد في صحيح الإمام البخاري: (ثم خطب، ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى حلقها تلقي في ثوب بلال.
وفي رواية: فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ بطرف ثوبه).
إذاً: نساءً ورجالاً رضي الله عنهم كانوا يسارعون بالصدقات.(30/9)
مجالات الصدقة
الصدقات فيها أولويات، فمثلاً: الصدقة على الأهل؛ هذه أولى من غيرها، إذا احتاج أهلك فهم أولى الناس، ابدأ بنفسك ثم أهلك والأقرب فالأقرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خيرٌ من اليد السفلى -المعطي خيرٌ من الآخذ- وابدأ بمن تعول) تقول المرأة: إما أن تطعمني أو تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني، فقالوا: يا أبا هريرة، راوي الحديث، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: [لا، هذا من كيس أبي هريرة].
هذا الجزء الثاني من الحديث.
والنفقة على الأهل بعض الناس يغفلون عن أنها صدقة يؤجر عليها الإنسان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (نفقة الرجل على أهله صدقة).
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة جاءت امرأة عبد الله بن مسعود إليه، فقالت له: إنك رجلٌ خفيف ذات اليد -فقير- وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم -إذا كان يجزي أن أعطيك صدقتي أعطيتك إياها يا زوجي، وإلا صرفتها إلى غيركم- فقالت: قال لي عبد الله: بل ائتيه أنت -استحيا أن يسأل- قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتها حاجتي، وكان صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزأ الصدقة عنهما إلى أزواجهما وعلى أيتامٍ في حجورهما ولا تخبره من نحن؟ قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود -حتى يعرف حال الزوج من هو- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهما أجران؛ أجر القرابة وأجر الصدقة).
إذاً: إذا تصدق الإنسان يبدأ بفقراء أهله فيتصدق عليهم، وقد حدث أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أعتقت وليدة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).
ومما يرتبط بهذا الموضوع أيضاً وبموضوع الإنفاق من أعز شيء على الإنسان وأنفسها عنده وأثمنها لديه حديث أبي طلحة رضي الله عنه؛ كان أبو طلحة أكثر الأنصار بـ المدينة مالاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد؛ هذا البستان العظيم ذو الثمار الطيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] كان سرعة التفاعل من ميزات الصحابة، تنزل الآية من هنا يكون تصرف تلقائياً.
قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا رسول الله! إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء -أعز ما عندي من الأموال، وأثمن ما عندي بيرحاء - وإنها صدقة لله، فضعها يا رسول الله حيث شئت].
الواحد منا قد يتصدق بالشيء النفيس، لكن قد يضعه في غير محله، فإذا جاء أهل العلم دلوه، أو عهده إليهم ووكلهم، وقال: هذا ضعوه بمعرفتكم يا أهل العلم.
جاء هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: (بخٍ بخ -هذه كلمة مدح- ذاك مالٌ رائح -وفي رواية: رابح-) فإذا وضعته أنت الآن في هذا الشيء لا ينفد بل يصبح باقٍ لك عند الله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طلحة: (قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين.
قال: أفعل يا رسول الله! فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).
إذاًَ: الإنسان عندما يضع الصدقة يبدأ بالأقرب فالأقرب فإنهم أولى بالمعروف، وإذا كانوا فقراء تصبح صدقة وصلة، وإذا كانوا أغنياء ذهب إلى الفقراء والمحتاجين.(30/10)
أحكام الصدقة(30/11)
أحوال التصدق بجميع المال
ومن الأحكام أيضاً: متى يتصدق الإنسان بجميع ماله؟ هذا حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود من عام حجة الوداع من وجعٍ اشتد به، فقلت: إني قد بلغ بي من وجعي، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا بنتٌ، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا.
فقلت: بالشطر.
فقال: لا.
ثم قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك) ما تضعه في فم المرأة من الأكل؛ تؤجر عليه.
تصدق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، قال أهل العلم: لا يتصدق الإنسان بماله كله إذا كان لا يصبر، أما إذا كان يصبر؛ فيندب له أن يتصدق بماله كله كما فعل أبو بكر، أما أن يتصدق بماله كله ثم يمد يده للناس، أو يكون أولاده لا يصبرون ويمدون أيديهم للناس؛ فليس من الحكمة.
ولذلك من أحكام الصدقة في الحياة أن الإنسان لا يشرع له أن يتصدق بماله كله إلا إذا كان لا يصبر.
ثانياً: لا يجوز للإنسان أن يوصي بماله كله في الوصية بعد مماته، وأن أكثر ماله أن يوصي به الثلث والثلث كثير، ولذلك قال ابن عباس: [وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع] جعل الوصية الربع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثلث والثلث كثير).(30/12)
الأفضلية في القلة والكثرة في الصدقة
وكذلك من الأشياء المتعلقة بالصدقة: أن الصدقة ليست دائماً أفضل إذا كانت كثيرة؛ بل قد يتصدق إنسان بدرهم ويتصدق إنسان آخر بمائة ألف ويكون الذي تصدق بالدرهم أجره أكبر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهمٌ مائة ألف درهم) ثم فسرها عليه الصلاة والسلام، فقال: (رجل له درهمان -ما عنده إلا هذين الدرهمين- أخذ أحدهما فتصدق به -أي: تصدق بنصف ماله- ورجل له مال كثير -عنده ملايين- فأخذ من عرض هذا المال مائة ألف فتصدق به).
الأول تصدق بنصف ماله، هذا يمكن تصدق واحد على مائة أو واحد على ألف من أمواله، إذاً: صحيح الثاني أكثر بالعدد لكن الأول أكثر بالأجر؛ ذلك لأنه تصدق بنصف ماله مع حاجته إليه.(30/13)
الأولويات في الصدقة
كذلك من الأشياء التي لخصها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء؛ فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك؛ فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء؛ فهكذا وهكذا) في أبواب الخير يميناً وشمالاً.(30/14)
استحباب الصدقة في الكسوف
ومن المقامات التي يستحب فيها الصدقة: الكسوف؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس على عهده خطب الناس، ثم قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك؛ فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا) فإذا صار هناك خسوف أو كسوف؛ فإن الصدقة مشروعة.(30/15)
مداواة المرض بالصدقة
جاء في حديث حسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المداواة بالصدقات مشروعة) فربما تكون الصدقة سبب للشفاء.
كذلك لو أن الإنسان قال لصاحبه: تعال أقامرك، نلعب قمار؛ هذه من عادات الجاهلية، فيشرع له أن يتصدق ويكفر عن هذه الكلمة، كما جاء في حديث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو حلف رجل، فقال: ما أنام بحياتي، برأس أولادي، بشرفي، حلف بأي شيء، فعليه أن يقول: لا إله إلا الله (ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق).(30/16)
مشروعية الصدقة عن الأموات
الصدقة عن الأموات مشروعة، فقد جاء في صحيح البخاري، أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: (يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائبٌ عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم.
قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عليها) فخرج من عهدته وصار صدقة لأمه.
وكذلك فقد جاء أيضاً عن عائشة، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي افتلتت نفسها -ماتت فجأة- وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجرٌ إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) رواه البخاري.
إذاً: الصدقة عن الأقرباء الأموات أو عن الأموات عموماً حتى ولو تصدق لصاحبه تصل، هذا استثناء من الآية القرآنية {لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لكن من الاستثناءات من وصول الأجر للميت الصدقة عنه الحج عنه، العمرة عنه، قضاء دينه، قضاء نذره، قضاء صومه، أداء الكفارة عنه، الدعاء له، إشراكه في الأضحية، هذه الأشياء كلها تصل إلى الميت.(30/17)
وقف الصدقة
من أعظم أنواع الصدقة: الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة؛ تجعل الأصل محبوساً لا يباع، لا يورث، ولا يوهب، ولا يشترى، وكل ما ينتج منه من ثمارٍ، أو مالٍ، أو عائدٍ، أو مردود يكون في سبيل الله.
هذا هو الوقف.
وقال البخاري رحمه الله: باب: أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (لا يباع ولكن ينفق ثمره، فتصدق به) وقد جاء أيضاً موصولاً عنده رحمه الله في صحيحه في كتاب الشروط، عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بـ خيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بـ خيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منها، فما تأمر به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها).
هذا هو الدليل على مشروعية الوقف، الأصل في الوقف حديث عمر ويتفرغ عنه مسائل كثيرة جداً.
قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف؛ الذي يتولى الوقف ويكون ناظراً عليه وراعياً له، يأكل منه بالمعروف، ويطعم غيره، لكن لا يأخذ منه مدخرات له، إنما يأكل منه فقط.
وكذلك فإن الإنسان لو كان عنده مزرعة، فقال: هذه وقف لله تعالى؛ صارت الثمار في سبيل الله، يقول: في الفقراء المساكين أقربائي أولادي ونحو ذلك، هذه العمارة إيجاراتها في سبيل الله، سواء حدد المصارف أو لم يحددها، صارت وقفاً، لا يجوز له أن يرجع عنها؛ لا في حياته ولا بعد مماته لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها، وقد حاول أعداء الله الاستيلاء على أوقاف المسلمين في كثير من البلدان، ولذلك كان هناك مدارس وعوائل تقوم على الأوقاف، ومساجد تعمر بالأوقاف، وينفق عليها من الأوقاف، وذهبت كلها لما اعتدى عليها أعداء الله؛ ولذلك فإن الوقف يبقى وقفاً إلى قيام الساعة، إذا تعطل تماماً يتصرف به تصرفاً ينشأ به وقف جديد له منفعة، ولا يجوز التصرف فيه بدون ضرورة.(30/18)
حكم الرجوع في الصدقة
وكذلك من أحكام الصدقة أنه لا يحل لأحد أن يرجع فيها؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده) أي: أعطيت واحداً فرساً في سبيل الله، صدقة خرجت مني، هذا الذي أخذه ما رعاه حق رعايته، أهمله، فربما أصابه الهزال والضعف.
(فأردت أن أشتريه) أي: أشفق على الفرس، وقال: أشتريه من صاحبه، وأعود أغذيه، وأعتني به.
فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تشتره وإن أعطاكه بدرهمٍ واحد؛ فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في القيء).
إذاً: الإنسان لا يجوز له أن يعود في الصدقة أبداً، لا يقول: يا فلان! حصل خطأ؛ أعطينا المال يا فلان! ندمنا، هات الصدقة التي أعطيناك إياها، لا يجوز أن يسترجعها ولو بالشراء، لكن لو أنك أهديت إنساناً، تصدقت على فقيرٍ بشاه حلوب، وهذا الفقير حلب لك وأهدى لك منها إناءً من لبن، فيجوز لك أن تشربه؛ لأنها قد جاءتك الآن هدية فلا بأس بأخذها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل الصدقة، ولا يجوز له ذلك، فلما تصدق على بريرة صدقة، أهدت بريرة منها لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (هو لها صدقة ولنا هدية) إذاً: يجوز عند ذلك الأكل منها.(30/19)
حكم التصدق بالصدقة أو الهدية
ومن الأحكام كذلك: أن الإنسان إذا تُصدِقَ عليه بصدقة؛ فيجوز له أن يتصدق منها؛ لو أعطاك رجل هبة أو هدية أو صدقة يجوز لك أن تتصدق وتخرج زكاتك منها، وكذا زكاة فطرك، ولكن أن تحج منها حجة الفريضة وكذلك لو أردت والعمرة؛ لأنك عندما قبضتها؛ صارت ملكاً لك.
إذاً يجوز لك أن تتصرف فيها ولو أخرجت منها شيئاً واجباً، كذلك يجوز لك أن تعطي منها كفارة يمين، قال البخاري رحمه الله في كتاب الصوم: باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله! هلكت -وفي رواية: احترقت- قال: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبةً تعتقها؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا.
فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا.
فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق: المكتل، مثل الزنبيل- قال: أين السائل؟ قال: أنا.
قال: خذها فتصدق به -أخرج كفارتك من هذه الصدقة- فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله! فوالله ما بين لابتيها -أي: حرتي المدينة الشرقية والغربية- أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) فهذا مسكين أتى وهو يحترق، وإذا به يرجع بطعامٍ إلى بيته؛ وهذا من يسر الدين وسهولته، أما اللعب بالدين والأحكام والتساهل في الشريعة وتمييع الأشياء، فهذا ليس بيسر، وإنما هذا تضييع وتحريف.(30/20)
حكم الصدقة على من لا يستحق
وكذلك من الأشياء المتعلقة بالصدقة: أن الإنسان إذا تصدق على شخص ثم تبين فيما بعد أنه لا يستحق؛ فإنه يؤجر عليه، بل قد تكون سبباً في توبة هذا الشخص، وأوبته إلى الله، كما حدث في حديث الرجل -هذه في بني إسرائيل- النبي صلى الله عليه وسلم روى الحديث والحديث في البخاري، قال رجل: (لأتصدقن بصدقة، فخرج لصدقته، فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق.
فقال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني.
فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني.
فأتي فقيل له -رأى هذا الرجل في المنام، فقيل له في المنام وكان من الصالحين وهذه رؤيا حسنة-: أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله).
وكذلك من الأحكام: أنه يجوز للرجل أن يشتري صدقة غيره لكن لا يشتري صدقته كما سبق بيانه.(30/21)
حكم من وصلت صدقته إلى ولده
ومن الأحكام كذلك: أنه إذا تصدق ووصلت الصدقة إلى ولده وهو لا يشعر فإن ذلك لا حرج فيه وهو مأجور، كما جاء عند البخاري، أن معن بن يزيد قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي وجدي كلنا أسلمنا وخطب عليَّ فأنكحني، وكان أبي يزيد قد أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد -وكله يتصدق- فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت -أنا ما أردت صدقة عليك، أنت ولدي- فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لك ما نويت يا يزيد من الصدقة، ولك ما أخذت يا معن) أي: ليست من مقصودك.(30/22)
حكم التصدق بالمال كله مع الضرر
كذلك فإن الإنسان لو انخلع من ماله كله وأدى ذلك إلى ضررٍ عليه، فإنه له أن يرجع في ذلك، وهذا مثل ما حصل في قصة كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال البخاري رحمه الله: باب: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى ومن تصدق وهو محتاج، أو عليه دين فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق هبة وهو رد عليه".
أي: أن تصرف الصدقة غير صحيح، وليس له أن يتلف أموال الناس.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) إلا أن يكون معروفاً بالصبر فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كفعل أبي بكر، وليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة، أحدهم عليه ديون يذهب يتصدق، هذه أموال الناس يجب عليه أن يؤديها! وقال كعب بن مالك: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) فلو أنه تصدق بكل المال ثم تبينت الحاجة؛ فإن له الرجوع، والإنسان لو كان خازناً أميناً كلما أمر بشيء أن يعطي أعطى؛ فإنه أحد المتصدقين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، هذه بشرى للخازن المسلم الأمين الذي ينفق ما أمر به كاملاً موفراً طيباً به نفسه، فيدفعه من الذي أمر به أحد المتصدقين، مع أنه ما أنفق شيئاً لكن بأمانة.
وكذلك المرأة إذا تصدقت من مال زوجها بإذنه ورضاه من غير مفسدة؛ كان لها أجرها ولزوجها بما كسبا وللخازن مثل ذلك، ولو أن إنساناً تصدق وهو كافر ثم أسلم فإن أجر الصدقة يثبت له.(30/23)
حكم التصدق على بعض الأولاد دون بعض
كذلك لو أن إنساناً تصدق على بعض أولاده دون بعض، فإن صدقته عليهم مردودة؛ لما روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، باب: من نحل بعض ولده دون سائر البنين، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (تصدق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي أبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليشهده على الصدقة، فقال له صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم.
فرجع أبي فرد تلك الصدقة).
وفي رواية: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: نعم.
قال: فلا إذاً).
ويؤخذ من هذا: أنه لا يجوز للشخص أن يخص بعض أولاده بمالٍ دون بعض إلا لحاجةٍ شرعية، كأن يكون أحدهم صاحب عيال محتاج ليس الآخر مثله، أو أحدهم مريض واحتاج إلى علاج والآخر ليس بمريض وهكذا.(30/24)
الصدقة الجارية
كذلك فإنه مما ينبغي أن يعلم في هذا الموضوع: أن الصدقة الجارية من الأشياء العظيمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: (أربع من عمل الأحياء تجري للأموات: رجل ترك عقباً صالحاً يدعو له ينفعه دعاؤه، ورجل تصدق بصدقة جارية من بعده له أجرها ما جرت بعدها) يبقى أجر الصدقة يجري عليه ما بقي، وهذا معناه أنه هو الذي يفعلها في حياته، ولو فعلت له بعد موته ليست أكثر أجراً من أن يفعلها على حياته، كأن يبني شيئاً له دخلٌ يجعله لله، هذه صدقة جارية يجعلها على حياته، تجري عليه بعد موته طالما بقيت هذه الصدقة أو بقي أصلها.(30/25)
أنواع الصدقات
يظن بعض الناس أن الصدقة هي الصدقة المالية فقط، ولكن الحقيقة أن الصدقة أنواع كثيرة جداً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الصحابة لما جاءوه: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون من فضول أموالهم.
قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة.
قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
وقد وردت نصوص كثيرة في أنواع الصدقات.
فمما اختصرته لكم من هذه الروايات من أنواع الصدقات: الكلمة الطيبة، عون الرجل أخاه على الشيء، الشربة من الماء يسقيها، إماطة الأذى عن الطريق، الإنفاق على الأهل وهو يحتسبها، كل قرض صدقة، القرض يجري مجرى شطر الصدقة، المنفق على الخيل في سبيل الله، ما أطعم زوجته، ما أطعم ولده، تسليمه على من لقيه، التهليلة، التكبيرة، التحميدة، التسبيحة، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، إتيان شهوته بالحلال، التبسم في وجه أخيه المسلم، إرشاد الرجل في أرض الضلال؛ إذا تاه رجل وضل الطريق، ما أطعم خادمه، ما أطعم نفسه، إفراغه من دلوه في دلو أخيه، الضيافة فوق ثلاثة أيام، إعانة ذي الحاجة الملهوف، الإمساك عن الشر، قول: أستغفر الله، هداية الأعمى، إسماع الأصم والأبكم حتى يفقه، أن تصب من دلوك في إناء جارك، ما أعطيته امرأتك، الزرع الذي يأكل منه الطير أو الإنسان أو الدابة، ما سرق منه فهو صدقة، وما أكله السبع فهو صدقة، إنظار المعسر بكل يومٍ له صدقة، تدل المستدل على حاجةٍ قد علمت مكانه، تسعى بشدة ساقيه إلى اللهفان المستغيث، ترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ما صنعت إلى أهلك، النخاعة في المسجد تدفنها، تعدل بين اثنين، تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه، كل خطوة تخطوها إلى الصلاة، التصدق على المصلي لكي تكون جماعة من يتصدق على هذا، إذا منحت منحة أعطيته إياها غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوطها؛ ما يحلم في الصباح وما يحلم في المساء؛ هذه بعض أنواع الصدقة.
والمتأمل لها يجد أنها على نوعين، الصدقات الغير مالية هذه على نوعين: الأول: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق يكون صدقة عليه، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إقراء القرآن، تعليم العلم، إزالة الأذى عن الطريق، نفع الناس، استعمال وجاهة تكفيه أو شفاعة حسنة لنفع مسلم، الدعاء للمسلمين، الاستغفار لهم، هذا نفعه متعدي، وقد يكون أفضل من الصدقة بالمال.
النوع الثاني: ما نفعه قاصرٌ على فاعله، مثل: التكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، والمشي إلى المساجد وغير ذلك.
إذاً: كل ما كان نفعه متعدٍ أكثر؛ كلما كان زيادة في الأجر، وكلما كان شرفه وفضله أكثر؛ فهو أيضاً زيادة في الأجر، فإن الذي يمشي إلى الصلاة بكل خطوة يخطوها حسنة تكتب، وسيئة تمحى، ودرجة ترفع.(30/26)
الأسئلة(30/27)
حكم التصدق بجميع الدية مع وجود ورثة آخرين
السؤال
هل يجوز للوارث أن يتصدق بجميع الدية مع وجود ورثة آخرين؟
الجواب
لا.
إنما يتصدق بنصيبه هو من الدية، لكن لا يتصدق بدية الآخرين.(30/28)
حكم الإنفاق على الإخوان
السؤال
هل الإنفاق على الإخوان وإطعامهم من الصدقة؟
الجواب
نعم.
هو ذلك إن شاء الله.(30/29)
حكم قضاء دين المديون
السؤال
هل قضاء دين المديون من الصدقة؟
الجواب
نعم.
قضاء دين المديون من الصدقة.(30/30)
حكم التصدق بمال حرام في جهة محرمة
السؤال
ما حكم التصدق بمالٍ حرام في جهة محرمة؟
الجواب
لا يجوز أن ينتفع من المال الحرام أبداً، فلو قال: إن البنك أعطاني ربا وبه أدفع ضريبة، فنقول: لا يجوز؛ لأنك استخدمت هذا المال الحرام بشيء عاد بالنفع عليك؛ وهو أنك وقيت نفسك من الظلم، فهذه منفعة استفدت من الربا، إذاً لا يجوز، ولا يقال: حرام في حرام أو من حرام في حرام يصير حلال؛ هذا لا يقول به قائل.(30/31)
حكم التصدق بالصدقة اليسيرة
السؤال
لو تصدقت بريال هل تعتبر صدقة؟
الجواب
لا شك في ذلك.(30/32)
حكم التصدق مع وجود دَين
السؤال
إذا كان علي دين.
فهل يجوز لي أن أتصدق؟
الجواب
إذا كان يضر بإخراج الدين وأنت مطالب لا يجوز لك أن تتصدق.(30/33)
حكم الصدقة على غير المسلمين
السؤال
ما حكم الصدقة على غير المسلمين بقصد ترغيبهم في الإسلام؟
الجواب
هذا جيد، وهو من أبواب الخير.(30/34)
حكم إخراج الصدقة أو الزكاة لغير أهلها
السؤال
بعض الناس يصرفون صدقاتهم في رمضان أو زكاوتهم إلى أقاربهم، وربما جعلوها عيدية في نهاية شهر رمضان مع أن أقاربه هؤلاء ميسورٌ حالهم، وليسوا من أهل الصدقة؟
الجواب
إذاً هذا زكاته غير مجزئة، لا يجوز له أن يعطيها لغير أهلها، ويجب عليه إعادة الإخراج إذا كان يعلم أنهم أغنياء.(30/35)
حكم الإنفاق مع الحاجة
السؤال
إذا كنت أنفق من راتبي شهرياً بشيء معين، والآن عندي التزامات من ديون وقسط شهري واستعداد للزواج، هل أستمر على إنفاقي مع حاجتي؟
الجواب
ما دام عندك حاجة، فمن الممكن أن توفر أشياء من المال بحاجتك، لكن أيضاً خذ في اعتبارك أنك إذا تصدقت، فالله سبحانه وتعالى يعوض ويغني (ما نقص مال من صدقة).(30/36)
حكم التصدق بالمال المعطى من الولد
السؤال
إذا كان ولدي يعطيني مالاً، فهل أتصدق منه؟ وما عندي مال إلا ما يعطيني ولدي؟
الجواب
نعم، تتصدق من المال الذي أعطاها إياه ولدها، كما قالت أسماء للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، مالي مالٌ إلا ما أدخل عليَّ الزبير -زوجها- فأتصدق؟ قال: تصدقي ولا توعي فيوعى عليكِ).
إذاً: المرأة إذا أعطاها زوجها مصروفاً وتصدقت منه فهي مأجورة، الأم إذا كان ولدها يعطيها نفقة، فتتصدق منها؛ فهي مأجورة.(30/37)
حكم التصدق بسبب الحلف
السؤال
شخص حلف إذا فاتته صلاة الفجر تصدق بشيء من المال، فما الحكم؟
الجواب
عليه أن يتصدق ما دام مستطيعاً.(30/38)
حكم من أوقف نفسه لله في الدعوة
السؤال
ما رأيك فيمن أوقف نفسه لله في الدعوة، هل تكون من الصدقة؟
الجواب
طيب إذا كان ذلك حاصلاً فعلاً؛ لأن الإنسان المسلم ينبغي عليه أن يكون وقفاً لله تعالى، لكن في كثير من الأحيان لا يحصل ذلك، فينبغي أن نجاهد أنفسنا على هذا.(30/39)
حكم بناء مسجد ووضع اسم الوالد عليه
السؤال
أريد بناء مسجد صدقة ووضع اسم والدي على هذا المسجد؟
الجواب
الأفضل ألا تضع اسم والدك عليه؛ حتى لا يكون ذلك مدخل للرياء، أو يقال: هذا فلان بنى لوالده مسجداً، ونحو ذلك، سمِّه بأسماء بعض الصحابة أو اسم طيب من الأسماء يكون أفضل.(30/40)
الصدقة والدعاء للميت
السؤال
أيهما أفضل للميت: الصدقة أم الدعاء؟
الجواب
أعظم ما يصل إلى الميت الدعاء، والصدقة لا شك في وصولها.(30/41)
حكم إعطاء الزكاة والصدقة لمن عليه التزامات مالية
السؤال
لي أقارب عندهم بعض الأعمال التجارية وهم موظفون، ولكن الظاهر لي أن عليهم ديون متفرقة بسبب ما عندهم من التزامات مالية من بناء بيوت ونحوها هل تحق الصدقة؟
الجواب
إذا ما كانت زكاة ليس هناك مانع أن تعطيهم إياها، لكن إذا كانت زكاة ينبغي أن تتأكد أنهم من أهل الزكاة، فإذا كان عليه دين وهو مطالب به، ولا يستطيع التسديد يُعطى من الزكاة.(30/42)
حكم المنشورات التي تحث على الصدقة وتوضع في المساجد
السؤال
المنشورات التي توضع في المساجد تحث الناس على الصدقة؟
الجواب
لا بأس إذا كانت حقيقية وصحيحة تحث الناس على الصدقة؛ لأنها ليست إعلانات تجارية، لعله التبس عليه أو ظن أنها داخلة في مسألة: نشدان الضالة، أو التجارة، نقول: ليست كذلك.(30/43)
حكم التصدق على الوالدة والأخوات مع عدم الحاجة
السؤال
امرأة متزوجة، وليس لديها أولاد، وأمها ميسورة الحال لا تحتاج إلى صدقة، فهل من البر أن أتصدق على والدتي وأخوتي مع عدم احتياجهم؟
الجواب
نعم؛ لأنها تكون هبة أو هدية، الأشياء المالية ليست فقط صدقات؛ يمكن تكون هدايا أو هبة، صِلِ أمكِ وأعطها، ولو كانت غير محتاجة، فهذا من البر.(30/44)
صاحب الدَّين لا أعرف مكانه
السؤال
إذا ذهب صاحب الدين إلى مكانٍ لا أعرفه؟
الجواب
إذا عجزت عن الوصول إليه تصدق بالمال نيابة عنه.(30/45)
حكم إعطاء الوالدة المحتاجة من الزكاة الواجبة
السؤال
ما حكم إعطاء والدتي المحتاجة من الزكاة الواجبة؟
الجواب
لا يجوز؛ لأنك مكلف بالإنفاق عليها، وعلى إخوانك الفقراء جائز.(30/46)
حكم الجهر بنية الصدقة
السؤال
ما حكم من يقول: اللهم هذه صدقة عن جدي؟
الجواب
لا بأس، والله أعلم بنيتك، ولا داعي أن تتكلم.(30/47)
حكم مساعدتي لأخي عندما يحتاجني
السؤال
عندي شقيق أحواله المالية والمعيشية صعبة، ويحتاج إلى المساعدة، ويطلبني حين حاجته فأعطيه، هل تعتبر هذه الأعطية صدقة؟
الجواب
نعم.
تعتبر صدقة ولك أجرها.(30/48)
الفرق بين المن والسلوى، والمن والأذى
السؤال
ما الفرق بين المن والسلوى، والمن والأذى؟
الجواب
المن هذا غير المن الآخر؛ منٌ منَّه الله سبحانه وتعالى عليه، وقيل: شيء مخصوص، وقيل: إنه المن العام، وهو: غير المن الذي يمنُّ به صاحب المال على من يعطيه ويؤذيه به ذلك منة من الله على بني إسرائيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين) وواضح لماذا هي من المن؛ لأنها تخرج بدون هذه الكمأة؛ وهي التي تخرج عند نزول المطر من الله؛ لكي لا يتعب الإنسان في زراعةٍ ولا حصد ولا بذر ولا سقيا ولا إجارة ولا شيء، فهي منة من الله.(30/49)
حكم من استطاع الحج ورفض والده ذلك
السؤال
أريد الحج ووالدي يرفض ووالدتي موافقة وعندي مال وليس عندي ديون؟
الجواب
إذا حج فريضة؛ فيجب عليك أن تذهب إلى الحج، ولو كان الوالد لم يوافق مع سعيك في إرضائه.(30/50)
حكم إعطاء الصدقة لمن يستعملها في المنكرات
السؤال
إذا كان هناك شخص فقير وأردت أن تتصدق عليه وأنت تعلم أنه يستعمل الصدقة في المنكرات؟
الجواب
لا تتصدق وإنما تشتري له بها طعاماً أو تعطيه لزوجته المأمونة، أو أولاده ولا تعطيها له.(30/51)
حكم أخذ آل البيت للزكاة
السؤال
ما حكم أخذ الزكاة لآل البيت؟
الجواب
لا يأخذون الزكاة وإنما يعطون من مصرف في بيت المال، لكن إن لم يعطوا واحتاجوا؛ جاز لهم أن يأخذوا، كما أفتى بذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.(30/52)
حكم الصدقة على من ظهر كذبه بعد إخراجها
السؤال
لو قام سائل في المسجد يشكو حاله، فتأثر المصلون فتأثرت مثلهم، ولكن كنت أشك في حاله ولكن لدينا من أموال الصدقة فأعطيته ثم علمت بعد ذلك أن الرجل متسول فندمت أني أعطيته؟
الجواب
لك أجرك ما دام عملت بالظاهر وتصدقت عليه، وما ظهر لك خلاف الظاهر، فأنت بذلك مأجور إن شاء الله.(30/53)
حال أخي السيئ
السؤال
لي أخ لا يصلي، ويسمع الغناء كثيراً، ويرافق قرناء السوء، ويلبس الحرير، ونصحته ولكن لا فائدة؟
الجواب
{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فلذلك لا تذهب نفسك عليه حسرات، مع مواصلتك واجتهادك في دعوته وتأتي معه بأسلوب، أو تطلب من غيرك أن ينصحه، فربما لا يقبل منك كأخ، لكن قد يقبل من غيرك إذا جاءه لصداقة ومودةٍ ونحو ذلك.(30/54)
ألفاظ شركية
السؤال
إذا قال الإنسان: ما شاء الله وشئت، أو توكلت على الله وعليك، فهل هذا شرك؟ وكذلك إذا قال: ما شاء الله ثم شئت، أو توكلت على الله ثم عليك فهل يجوز؟
الجواب
نعم.
إذا قال: ما شاء الله وشئت، أو توكلت على الله وعليك فهذا شرك ولا شك، ولا يساوى الله بالمخلوق، أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال فيحتاج إلى تفصيل: إذا قال: ما شاء الله ثم شئت فهذا جائز، وقد جاء في الحديث، لكن لا يقول: توكلت على الله ثم عليك؛ لأن التوكل عبادة لا تجوز إلا لله، لا يتوكل على غير الله لا بالواو ولا بثم.(30/55)
حكم إعطاء الزكاة للإخوة من أب
السؤال
لي أخوة من أب، وأبي مقعد عن العمل وأعطيه مصروفاً شهرياً لكن لا يكفيهم، ثم إني قد أعطيته زكاة حلي زوجتي؟
الجواب
لا بأس، إذا كانوا محتاجين تعطيهم من زكاة حلي زوجتك.(30/56)
حكم من حلف يميناً ثم رأى غيرها خيراً منها
السؤال
من حلف بيميناً ثم رأى غيرها خيراً منها، هل يكفر عن اليمين الأولى؟
الجواب
نعم، يكفر ويأتي الذي هو خير.(30/57)
أعمال الحج عن والدي المتوفى
السؤال
ماذا أعمل عندما أقوم بأعمال الحج عن والدي المتوفى؟
الجواب
تكون نيتك له فقط عند الإحرام، وتقول: ولبيك اللهم عن فلان، هذه التلبية.(30/58)
حكم الهجر بين الإخوة لفترة طويلة
السؤال
ما رأيك في أخوين ملتزمين لا يكلم أحد منهما الآخر منذ فترة ليست بالقليلة؟
الجواب
هؤلاء المغفرة عنهما محجوبة حتى يعودا: (أنظرا هذين حتى يصطلحا) يؤخر الله سبحانه وتعالى رحمته عنهما حتى يعودا إليه عز وجل، ينظر الله إلى أهل الأرض فيغفر لكل أحد إلا المشرك والمشاحن؛ وهو الذي بينه وبين أخيه شحناء، فإذا كان يريد أن تحجب المغفرة عنه فليستمر في العقوق والقطيعة.(30/59)
امرأة رأت أباها قد ذهب للحج
السؤال
رأت امرأة في المنام أن أباها قد ذهب للحج هذا العام مع العلم أنه ميت، فهل توكل أحداً للحج عنه؟
الجواب
لا يؤخذ من المنامات أحكام شرعية ألبتة، وإنما إذا أرادت أن تحج عنه أو توكل من يحج عنه توكل، أما أنه يؤخذ من المنام فلا يؤخذ منه أحكام شرعية.(30/60)
التصدق عن الميت والدعاء له
السؤال
هل المتصدق للميت أو الداعي له أجر؟
الجواب
لا شك في ذلك، وقد يكون إذا حج عنه يبتغي إبرار ذمته والإحسان إليه مثل أجره أو أكثر.(30/61)
حكم الأخذ من المال المجهز للتبرعات
السؤال
اقتطعت مالاً ووضعته في صندوق خاص في البيت لجمع التبرعات، وبعد فترة اضطررت واحتجت حاجة شديدة فأخذت من المال؟
الجواب
إذا كان هذا الوعاء وعاء للفقير، مثل بعض الحصالات التي تكون للجمعيات الخيرية توزع ومكتوب عليها الجمعية أو نحو ذلك، فهذا وعاء الفقير لا يجوز لك أن تأخذ منه أبداً، لكن إذا كان هذا الوعاء وعاءك، أنت تجمع على جنب حتى تعطيها للفقراء، والوعاء ليس للفقير، إنما هو لك، فلا بأس أن تأخذ منها؛ لأنها ما قد صارت للفقير ولم تعط لوكيل الفقير، ولا وضعت في حصالة أو ماعون الفقير.(30/62)
حكم إعطاء زكاة الفطر لمن ادعى أنه محتاج
السؤال
هل يجوز إعطاء زكاة الفطر لمن ادعى أنه محتاج إلى ذلك؟
الجواب
نعم، ما لم يظهر شيء آخر.(30/63)
حكم من لم يعمل له عقيقة وقد كبر
السؤال
من ولد له ولد ولم يعمل له عقيقة وقد كبر الولد فماذا يفعل؟
الجواب
يعمل له عقيقة الآن، أو يعق الولد عن نفسه ولا مانع.(30/64)
حكم الزكاة عن الدين الذي عند الناس
السؤال
لي مبلغ دين عند الناس ولم أقبضه هل أزكي عليه؟
الجواب
لو طالبتهم به لم يعطوك إياه فهو إما مماطل أو فقير؛ إذاًَ ليس عليك زكاة، أما إذا لو طالبته أعطاك فعليك الزكاة.(30/65)
حكم الصدقة على الأب
السؤال
أبي يسأل الناس وهو في كلامه أنه في حاجة هل أتصدق عليه؟
الجواب
نعم، على الأقل تعفه عن سؤال الناس.(30/66)
حكم إعطاء الصدقة على شكل هدية
السؤال
هل يجوز إعطاء الصدقة على شكل هدية؟
الجواب
نعم.
يجوز ذلك.(30/67)
حكم ارتداء المخيط قبل الحلق
السؤال
ارتديت المخيط قبل أن أحلق ما الحكم؟
الجواب
تعيد لبس ملابس الإحرام ثم تحلق، وليس عليك شيء ما دمت ناسياً أو جاهلاً.(30/68)
حكم التصدق على قرابة محتاجين
السؤال
لي بعض القرابة ليسوا فقراء، ولكن حالهم يحتاج إلى مساعدة، وعلمت أن هناك أناساً عندهم مجاعة يحتاجون إلى صدقة باعتبار حالهم الشديد، ولا سيما وأننا نراهم شبه عراة؟
الجواب
إذا كانت الحاجة التي في الأقارب ليست شديدة، وهؤلاء حاجتهم شديدة جداً، فربما يكون تقديرهم وجيه، فيكون الأفضل إعطاء الأموال لهم.(30/69)
حكم الصدقة على الجدة والخالة
السؤال
ما حكم الصدقة على الجدة أم الأم وأم الأب، والخالة؟
الجواب
الجدة ممن تلزمك نفقتها وكذا الجد والولد والحفيد والأب والأم إذا كان أعطاه من الزكاة، أما الخالة الفقيرة فيجوز أن تعطيها من الزكاة.(30/70)
حكم إخراج الصدقة مجزأة دون علم من تصدق بها
السؤال
أعطتني أمي مالاً أتصدق به؛ فأخرجته مجزأً من فترة إلى أخرى دون علمها؟
الجواب
إذاً تستسمح منها وتخبرها بما فعلت.(30/71)
حكم الحلف على الأخذ وعلى عدم الأخذ
السؤال
حلف رجل على أن يأخذ شيئاً، والآخر على ألا يأخذه، فما الحكم؟
الجواب
الذي يحنث في يمينه عليه كفارة.(30/72)
حكم مكافأة طالب الجامعة
السؤال
هل مكافأة طالب الجامعة تعتبر من الكسب؟
الجواب
نعم.
يتصدق منها ويؤجر على الصدقة منها.(30/73)
حكم كفالة أختي الصغيرة
السؤال
لي أخت صغيرة ووالدنا متوفى، هل كفالتي لها كفالة يتيم؟
الجواب
نعم.
ولا شك في ذلك.(30/74)
حكم شرب دم القنفذ للعلاج
السؤال
شرب دم القنفذ للعلاج؟
الجواب
لا يجوز، لأن شرب الدم محرم.(30/75)
صحة حديث: (يستحب العطاس ويكره الجشاء)
السؤال
ما صحةحديث: (يستحب العطاس ويكره الجشاء)؟
الجواب
أما العطاس أنه مستحب فنعم، وقد ورد ذلك في الحديث: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب).
أما الجشاء فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً تجشى أمام الناس، قال: (كف عنا جشاءك) لأنه يؤذي الآخرين والجلساء ولاشك.(30/76)
حكم قصر صلاة المغرب
السؤال
هل تقصر صلاة المغرب؟
الجواب
لا تقصر.
بل تبقى كما هي ثلاث ركعات، وكذلك الفجر سواء في الحضر والسفر.(30/77)
حكم الزكاة عن الولد الذي في بطن أمه
السؤال
هل تجب الزكاة عن الولد الذي في بطن أمه؟
الجواب
لا تجب زكاة الفطر عن الولد الذي في بطن أمه لكن يستحب.(30/78)
حكم نقل الوقف إلى أرضه وأخذ أرض الوقف
السؤال
رجل في طرف أرضه أرض مسجد موقوف، هل يجوز أن يستبدل أرض المسجد بأرض مزرعته ويأخذ أرض المسجد؟
الجواب
لا يجوز ذلك، تبقى أرض المسجد الوقف كما هي إلا إذا تعطلت الاستفادة منها، فهنا يلجأ إلى القاضي في نقلها إلى مكانٍ آخر.(30/79)
حكم من قال مازحاً: تعال أقامرك
السؤال
لو قال: تعال أقامرك مزاحاً فما الحكم؟
الجواب
يتصدق، ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا أمر لا مزاح فيه.(30/80)
الفرق بين الصدقة والزكاة
السؤال
ما هو الفرق بين الصدقة والزكاة؟
الجواب
لا شك أن أبواب الصدقة أوسع من أبواب الزكاة، فمثلاً: الزكاة لا تصرف في بناء المساجد، ولا طباعة الكتب الإسلامية، ولا بناء المستشفيات، لكن الصدقات يمكن أن يبني بها مسجداً، ومستشفى، ويطبع بها الكتب، أو يشتري بها مصاحف ونحو ذلك، فباب الصدقات أوسع من باب الزكاة.(30/81)
حكم إخراج الزكاة من الراتب غير الثابت
السؤال
أنا موظف ومالي من المعاش غير ثابت، ولا يبقى حتى الحول؟
الجواب
بعد سنة انظر ماذا تجمع عندك، وأخرج عن الألف خمسة وعشرين يكون هذا مريحاً لك.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(30/82)
ثغرات في بيوت الدعاة
إنه لابد لمن أراد أن يدعو الناس إلى أمر أن يكون أولهم امتثالاً، وإذا كان الله تعالى قد أمر الناس بالالتزام بشرعه ما أمكن، فذلك بالدعاة أخص، وإلا فلمَ يقولون ما لا يفعلون؟ ومع أنه لن يشادَّ هذا الدين امرؤ إلا غلبه، إلا أن هناك تساهلاً كبيراً، وثغرات فظيعة نتيجة التساهل؛ في البيت في الأخلاق وغير ذلك، وقد تحدث الشيخ عن ذلك في هذه المحاضرة، وبينه أحسن بيان.(31/1)
بيت الداعية لابد أن يكون أكمل من غيره في التدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة: إن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وظيفة الرسل، وهي مهمة شريفة، وخطيرة أيضاً، ولها شأن عظيم وخطرٌ كبير، ذلك أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يبذل جهده ووقته لله رب العالمين وهو يسير في دعوته، وينبغي عليه أن يسير كما أمر الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ولا شك أن الداعية إلى الله عز وجل تصلي عليه الملائكة والحيتان في البحر، لأنه ممن يعلمون الناس الخير.
والداعية إلى الله عز وجل لا بد أن يكون متميزاً عن غيره، فهو ليس مسلماً عادياً كما يقول بعض الناس، وإنما هو فوق ذلك، بل إنه ليس شخصاً ملتزماً بالدين فحسب، بل هو فوق ذلك، إنه رجلٌ أو امرأة عرف الله وعرف الطريق، فقام يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى سبيل هذا الدين ورفعته، ومن هنا فإن ما يتعلق بهذا الداعية ينبغي أن يكون غير عادي أيضاً بالنسبة إلى غيره من الناس، كما أن وظيفته غير عادية بالنسبة إلى غيره من العوام، وبعض الناس حين يسمع كلمة الدعاة وخصوصاً من المقصرين يظن أن الكلام لا يعنيه، وهذا خطأ كبير؛ فإنه يجب علينا جميعاً أن نكون دعاةً إلى الله سبحانه وتعالى، لأننا مأمورون بذلك: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125] والخطاب للجميع، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (بلغوا عني ولو آية) والتبليغ هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
فلا تظنن أيها المسلم -مهما كان مستواك أو كانت منزلتك في العلم أو الالتزام بالدين- أنك خارج عن دائرة هذا الموضوع، وذلك لأن الدعوة إلى الله واجب علينا جميعاً، وهذه المحاضرة بعنوان: (ثغراتٌ في بيوت الدعاة) والمقصود المعالجة والكلام عن بعض الظواهر السلبية الموجودة في بعض البيوت، وإذا كانت موجودة في بيوت بعض الدعاة فلأن تكون موجودة في بيت غيرهم من باب أولى وأكثر منها، ولكن لعلنا نخص الكلام عن الدعاة إلى الله عز وجل نظراً لخطورة هذا الموضوع.
فكما أن الداعية شخص غير عادي، فكذلك يجب أن يكون البيت الذي يسكن فيه أيضاً بيتاً غير عادي؛ والمقصود أن يكون الالتزام فيه بالإسلام أكثر ما يمكن، فإنه لا يمكن أن يتصور أن يدعو إنسان إلى الله في الشارع وبين الناس، ثم بعد ذلك إذا انقلب إلى بيته وجده بيتاً يعج بالمنكرات، أو بعيد عن شرع الله، أو لا توجد فيه الإيمانيات المطلوبة الموجودة في هذا الدين.
ليست المسألة فقط مسألة أن يكون البيت على مستوى الدعوة، ولكن القضية مسئولية عند الله عز وجل قال تعالى:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ثم إن الله سيسأله يوم القيامة عما استرعاه؛ أحفظ ذلك أم ضيع؟ ومن حساسية هذا الموضوع أن بعض الدعاة إلى الله عز وجل يجتهد في دعوة الآخرين ثم يقصر هو في دعوة أهل بيته؛ إنه يساهم في تطهير بيوت الآخرين من المنكرات، لكنه غير مهتمٍ بتطهير بيته، إنه يساعد في إعطاء المناهج والعلم للآخرين في بيوتهم، وحثهم على إصلاح زوجاتهم وتربية أولادهم؛ لكنه قد يكون مصاباً هو في قعر بيته، ولا شك أنه سيسأل عما استرعاه الله سبحانه وتعالى أحفظ ذلك أم ضيعه.
فلا يليق به مطلقاً أن يكون جيداً في الصعيد الخارجي ومقصراً في الصعيد الداخلي، بل من الطبيعي أن ينطلق الإنسان من الأقرب الأقرب فالأقرب، هذا هو الأمر السليم، وكذلك فإن بيت الداعية إلى الله سبحانه وتعالى إذا كان بيتاً سليماً نظيفاً طاهراً نقياً؛ فإنه يكون من الأشياء التي تحمس للانطلاق في الدعوة وتعينه في ذلك، أما إذا أصيب الرجل في بيته الخاص به، والذي يسكن فيه ويأوي إليه؛ فإنه يكون قد أصيب في مقتل، فإن هذا البيت الذي قد أصيب يعطله عن الدعوة ويجعل بينه وبينها عوائق، بل أقل ما يمكن أن يقال: إنه يشغله عن متابعة سيره في الدعوة إلى الله عز وجل.
إن بيت الداعية من الاختلافات التي يختلف بها عن بيوت بقية الناس، أنه بيتٌ يغشى للخير، يغشى للتعلم، يغشى للتدريس، يغشى للانتفاع، يغشى للإكرام أيضاً.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة: أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير -يعني: الثياب المزينة- ولا يخدمني فلانٌ ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء -يعني: الأرض- من الجوع، وإن كنت لأستقرض الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس -هذا هو الشاهد- وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب -ولذلك كان يلقب بـ أبي المساكين - وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة -قربة من الجلد يحفظ فيها السمن- حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء فنشقها فنلعق ما فيها.
فرضي الله عنه؛ يخرج العكة وليس فيها شيء إلا البقايا على جدرانها وأطرافها، فيشقها ليلعق ضيوفه ما فيها، فالداعية إلى الله كريم، بل ينبغي أن يكون بيته مفتوحاً للمساكين والفقراء، وأن يتخذ الإكرام وسيلة للدعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يجعل من إكرامه للناس وسيلة لاستمالة قلوبهم، كان يجيز الضيف ويعطيه، وإذا فتح الله عليه بشيء وزعه على الناس يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، حتى كان ذلك سبباً في إزالة الشحناء من قلوب كثير من أعدائه، ودخول الألداء من خصومه في دين الله سبحانه وتعالى، ولا شك أن بيتاً بهذه المهمات ينبغي أن يكون ذا مواصفاتٍ عالية، لأنه بيت ينطلق منه الخير، ويشع بالعلم، ويستقبل الناس الراغبين في الهداية والتعلم، بل ربما يستقبل بعض المصابين بالأمراض والذين فيهم ضلال، فيكرمون في هذا البيت، فيكون ذلك سبباً في هدايتهم وانقيادهم للحق وإلى طريق الله المستقيم، ولذلك كان الاهتمام ببيت الداعية من الأمور المهمة جداً.(31/2)
ثغرات في بيوت الدعاة مع الزوجات(31/3)
قلة العبادة
من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة: خلوها من العبادة، أو قلة العبادة فيها، وعبادة الله سبحانه وتعالى لا شك أنها تجعل البيت منيراً مشرقاً بذكر الله سبحانه وتعالى، البيت الذي لا يذكر الله فيه كالميت، كيف يكون البيت وسيلة لهداية الناس ولا يذكر الله فيه؟! والنبي صلى الله عليه وسلم قال لنا: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبوراً) وذلك حتى يكون البيت حياً بذكر الله سبحانه وتعالى، وعامراً بعبادة الله عز وجل، وإذا رأينا البيت لا قرآن فيه ولا نوافل، لا الزوجة ولا الأولاد يرون أباهم يرفع يديه ويدعو، أو يصلي في هذا البيت، أو يفتح المصحف ويقرأ، فكيف سيعيشون؟ وعلى أي شيءٍ سيتربون؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عمارة بيته بذكر الله، وكان حريصاً على الصلاة فيه، وكانت هذه الصلاة وسيلة لتربية من في البيت، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها، ثم قام فقمت عن يساره، قام ابن عباس فتوضأ نحو وضوئه صلى الله عليه وسلم، ثم قام عن يساره، فأخذ بأذنه صلى الله عليه وسلم فحوله عن يمينه، قال ابن عباس: فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم خرج إلى الصلاة).
إذن لما كان البيت فيه عبادة تشجع الولد على القيام للصلاة -لما رأى زوج الخالة- وهكذا عندما يرى الولد أباه يصلي يقوم معه؛ بل إن كثيراً من الأطفال الصغار جداً في البيت إذا رأوا من يصلي قاموا يشابهونه بالحركات (يحاكونه بحركاته).
فهذه مسألة في غاية الأهمية، فإذا كانت بيوت الناس مقفرة من العبادة فينبغي أن يكون بيت الداعية حياً بالعبادة.(31/4)
فساد الزوجة
ومن الثغرات الخطيرة جداً في بيت الداعية: الزوجة غير المتدينة؛ فإن رجلاً مسلماً داعية إلى الله عز وجل يريد أن ينطلق في الدعوة، وهداية الناس وإرشادهم، ودلالتهم إلى طريق الحق، إذا أصيب في بيته في أقرب الناس إليه، وابتلي بزوجة سيئة غير متدينة، لا تقيم للمعروف وزناً ولا تحذر من المنكر، فأي حالٍ سيكون فيها هذا الرجل؟ وكيف سيكون انطلاقه في الدعوة وهو مصاب في عقر داره وفي أقرب الناس إليه؟.
- أسباب عدم تدين الزوجة:- أول من يحتاج إلى دعوته زوجته ولا شك، ولا شك أن هؤلاء الشباب الذين يتساهلون في الأمر ويقول الواحد منهم: أتزوجها الآن ثم بعد ذلك ستتدين بالتدريج، وتلتزم بالتدريج؛ لا شك أن هؤلاء يخاطرون مخاطرةً عظيمة، فإن المسألة ليست مضمونة، وكثيراً ما تبقي الزوجة على حالها.
ثم إن الداعية إلى الله عز وجل من طبيعته الانشغال بدعوته، فهل سيكون متفرغاً لها بحيث يتابعها ويدعوها الدعوة التي تصلح شأنها، ويبذل لها المجهود المناسب لهدايتها، بإذن الله طبعاً؛ الهداية من الداعية هداية الدلالة والإرشاد، وليست هداية التوفيق والإلهام، فإن الله عز وجل هو الذي يهدي من يشاء، فهل يا ترى سيتفرغ لذلك، أم أنه سيظن أنه سيفعل ثم لا يفعل؟ لأن الواقع الذي سيعيش فيه سيجره لانشغالات كثيرةٍ خارج البيت، فإذا كان ظهره في البيت غير مؤّمن، وإذا كان لا يخرج من درعٍ حصينة، فلا شك أنه سيكون مكشوفاً، ويكون مضطرباً قلقاً، ولذلك تجد بعض الناس الذين يفعلون بعض النجاحات الخارجية في دعوتهم إلى الله عز وجل يعانون من مصائب داخلية في بيوتهم؛ فيعانون من مشكلات كثيرة في زوجاتهم هم.
كما أن بعض النساء المتدينات أيضاً يعشن هذا الهاجس، وتحت مطرقة الزوج المنحرف، وبسبب أن منشأ القضية كان خطئاً: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) هذا بالنسبة للرجل وبالنسبة للمرأة: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فحث الرجل على الاهتمام والانتقاء واختيار المرأة الصالحة، وأخبر أن الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة، بل أمر فقال: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولسانا ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة) أوصى بذلك وأمر به، وكذلك أمر أهل المرأة أن ينتقوا لبنتهم صاحب الخلق والدين، إذا كان منشأ القضية الغلط، فلم يحصل الانتقاء ولا الاختيار فلا يلوم بعد ذلك أو يتبرم الداعية ويقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي، أو تتبرم المرأة وتقول: إنني أعاني من أقرب الناس إلي؛ لأن المسألة خطأ من أصلها وبدايتها، وكان ينبغي أن يكون الحرص على صاحبة الدين وعلى صاحب الدين، وأن يكون الدين هو محور الاختيار، وهو الأساس في الانتقاء.
أما إذا لم يحصل ذلك فلا تقل بعد ذلك يا أيها الداعية: كيف أشتغل في دعوة الناس وزوجتي عندها انحرافات؟ كيف أتفرغ لهم وعندي ما يشغلني في الجبهة الداخلية؟ نقول: أنت السبب؛ نعم الإنسان قد يبتلى، وقد يلبس عليه في أشياء، لكن إذا كان حريصاً فلا شك أن هذا الجانب سيكون قليلاً جداً وضيقاً، والزوجة غير المتدينة ستطالب زوجها بأمور منها منكرات ومحرمات، أو على الأقل شبهات، ولن تصمد أمام أقربائها والآخرين إذا دعوهم لإدخال شيءٍ من المنكرات إلى البيوت، بل ستطالب الزوج، وربما تجعل حياته جحيماً لا يطاق.
إن الزوجة غير المتدينة لن تحتسب في غياب زوجها في الدعوة إلى الله وطلب العلم، ولن تصبر على افتقاده في البيت، ولا على بكاء الأطفال، ولا على تأخر الأغراض، ولا شك أن الإنسان إذا أمن الجبهة الداخلية ارتاح إذا انطلق في الخارج، وهذه مسألة لا يقدرها إلا من جربها.
- علاج المشكلة:- لكن لنأتي الآن إلى الحل والعلاج فيما لو حصل شيء من التقصير من الزوجة؛ لو أنه ابتلي بزوجة غير متدينة، أو أنه تزوج امرأة متدينة ثم حصل منها تقصير، ومسألة الانتكاس أو التراجع شيء واقع موجود، فلو حصل هناك ضعف من جانب الزوجة أو الزوج فما هو الواجب إذن؟ ينبغي القيام أولاً بالتربية؛ تربية الزوجة وحثها على فعل الخيرات، وحضها على الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وعلى تلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار، والحث على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية، واستماع الأشرطة المفيدة، واختيار الحلقة التي تعينها بصويحباتها على أمر الآخرة، ودرء الشر وسد منافذه.
انظر إليه صلى الله عليه وسلم في بيته ماذا حصل لما وقعت عائشة في شيءٍ من القصور أو التقصير عن غير علمٍ منها؛ لكن المحرم يبقى محرماً، والمنكر يبقى منكراً، سواءً كانت الزوجة تعلم الحكم أولا تعلم الحكم، ولا بد أن يكون للزوج موقف، ولا بد أن يكون الموقف حاسماً، يتناسب مع العلاقة بينهما.
روى البخاري رحمه الله: عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فيما رواه أنها أخبرت القاسم بن محمد (أنها اشترت نمرقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل!! -والنمرقة: هي الوسادة التي يجلس عليها- فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله، ماذا أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة؟ قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها -يعني نيتي صالحة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم) وقال: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة).
وفي كتاب المظالم والغصب أخرج رحمه الله تعالى الحديث عن عائشة: أنها كانت اتخذت على سهوةٍ لها ستراً فيه تماثيل، فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم -هتكُه تدَّخل لتغييره بيده- فاتخذت منه نمرقتين، قد زالت التصاوير المحرمة عنها بالشق، فكانتا في البيت يجلس عليهما صلى الله عليه وسلم.
بل إنه عليه الصلاة والسلام في أدق من ذلك، وهي الأشياء التي تلهي عن الصلاة وإن لم تكن محرمة؛ لكن من أجل أنها تلهي عن الصلاة بزخارفها مثلاً كان يحارب ذلك، فقد أخرج البخاري رحمه الله في كتاب الصلاة، عن أنس بن مالك: كان قرامٌ لـ عائشة سترت به جانب بيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك هذا، فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي).
وينبغي أن يكون موقف الزوج -كما سبق- موقفاً واضحاً جداً، وموقفاً مبنياً على الشريعة، لا بد أن يكون عنده علم، لأن الزوجة قد تسأله عن الدليل على تحريم هذا الشيء، فينبغي أن يكون عنده دليل.
كذلك بعض الأزواج يمشي الأمور في بيته، فيقع منكر بسيط فيرضى به ويسكت، ثم يوضع شيء فيه منكر أكبر قليلاً؛ قد يكون الأول من المشتبهات، والثاني الشبهة فيه أكبر، والثالث محرم من المحرمات التي ليست بالكبيرة، وهكذا تتدرج الأمور، فينبغي أن يكون العلاج من البداية علاجاً حاسماً، وينبغي أن يظهر أثر إنكار المنكر على وجه الزوج؛ لأنه قد جاء في الرواية أيضاً عند البخاري رحمه الله عن عائشة قالت: حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادةً فيها تماثيل -كأنها نمرقة- فجاء فقام بين البابين وجعل يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم!! فقلت: ما لنا يا رسول الله؟ قال: (ما بال هذه الوسادة؟ قلت: وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وأن من صنع الصورة يعذب يوم القيامة يقول: أحيوا ما خلقتم) الزوج المتعلم يسهل عليه إقناع زوجته؛ لكن الجاهل الذي لا يعرف الحكم، ولا يعرف الدليل، ولا يعرف السبب فإنه لو سألَتْه: لماذا؟ يقول: افعلي ولا تناقشي، ولا شك أن هذه الطريقة ليست طريقة مؤثرة في العلاج أو إزالة المنكر، ولذلك الداعية إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون عالماً بما يأمر، عالماً بما ينهى، حليماً فيما يأمر، حليماً فيما ينهى، وهكذا.
- أهمية صلاح الزوجة:- ونعود مرةً أخرى فنقول: إن حياة الداعية تحتاج من زوجته إلى تضحيات؛ إن حياته للناس، فهو كما ينبغي أن يكون وقفاً لله تعالى وينبغي عليه أن يترك وقتاً لأهله؛ لكن لا شك أن الإنسان صاحب الارتباطات، الذي يغشى مجامع الناس وملتقياتهم وأنديتهم؛ ليقوم بواجب الدعوة والتذكير والنصح؛ لا شك أنه سيكون منشغلاً، إنه قد يلقي درساً أو موعظةً، أو يذهب في زيارةٍ، أو يمر على أماكن للتعليم فيها والإنكار والنصح ونحو ذلك، ويشترك في مناسبات تربوية لا شك أن هذه الأشياء تأخذ وقتاً منه.
والمرأة بطبيعتها تحب أن يكون زوجها سلماً سالماً لها لا يشاركها فيه أحد، وإذا كانت لا تقدر هذه الأشياء فمن الذي يقدر؟ لا شك أنها إذا كانت متدينة تفقه هذه الأمور فإنها ستقدر، وأما إذا كانت امرأة عادية لا تفقه ولا تفهم هذه الأشياء فإنها لن تقدر الواقع، فلذلك تتبرم من تأخره وتتضجر من تغيبه عن البيت.
ثم المسألة- أيها الإخوة- أعمق من ذلك، ولعلنا ندخل في شيءٍ من هذا العمق من خلال الرواية التالية في فائدة الأهل الطيبين، فائدة الزوجة الصالحة والأولاد الصالحين، والكلام ليس فقط عن الزوجة الصالحة؛ لأن أهل البيت يعينون أباهم أو يعينون الذي يرعاهم على الدعوة إلى الله، سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ زوجات أو بنات، أولاداً ذكوراً أو إناثاً، المقصود أن يكون بيت الداعية صالحاً، ومن فيه صلحاء حتى يعينوه.
أقول: إن مسألة حساسية أهل البيت وصلاحهم، لا شك أن له أثراً كثيراً في نجاح الداعية في حياته، وتمعنوا معي الآن في هذه الرواية: روى البخاري رحمه الله في كتاب المناقب في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر قد جهز راحلتين وعلفهما أربعة أيام استعداداً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله(31/5)
الخلافات الزوجية
ومن الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة، والتي تؤثر كثيراً على دعوتهم: قضية الخلافات الزوجية؛ والخلافات الزوجية نارٌ يكتوي بها كثير من الناس، والشخص إذا كان صاحب عمل عادي ربما لا يتأثر كثيراً لأنه إذا خرج إلى العمل ارتاح من زوجته، وإذا رجع بعد ذلك يدبر أمره، لكن الداعية يدرك خطورة البيت، وما ينبغي أن يكون عليه أهله؛ فإذا دخل في أتون الخلافات الزوجية فإنه سيتأثر وتتأثر دعوته ويتأثر طلبه للعلم؛ كيف يركز في حلقة العلم وبينه وبين زوجته ما قام بين داحس والغبراء؟ كيف سيكون صاحب عطاء في الدعوة إلى الله وهناك مشاتماتٌ وسبابٌ وهجرٌ وقطيعةٌ ومخاصمة بينه وبين زوجته؟ لا شك أن الحزن الذي سيسببه ويخلفه هذا الخلاف سيؤثر في عطائه في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان عندما ينطلق مرتاحاً بالدعوة وطلب العلم لا شك أنه سيكون مهيأ أكثر؛ ذهنه صاف، نفسه متطلعة ومنفتحة لأجل العطاء والتحصيل، لكن إذا كان مهموماً بالخلافات يعيش ويكتوي بنارها، ويصطلي بحرها، فكيف إذاً سيكون عطائه؟ وهذه الخلافات قد يكون سببها الداعية نفسه! قد يكون عنده شيء من الاستبداد، قد يكون عنده تحكمٌ ليس فيه حكمة، قد يكون مقصراً في الحقوق الزوجية، قد يكون عنده إهمال وتفريط مما يثير نقمة زوجته عليه، وبعضهم يغيب غياباً طويلاً جدا، ً ويهمل حاجات البيت فلا يأتي بما تحتاج إليه الزوجة، بل حتى النفقة يقصر فيها، فيكون باختصار هو السبب.
وقد يجعل الداعية زوجته تعيش في غموض كبير، ويكثر من التوريات عليها فتفقد الثقة به! لأنه لابد من مستوى معين من المصارحة، نعم هو غير ملزم أن يعطيها جميع التفصيلات عن دقائق أموره، لكن لا بد أن يخبرها بأشياء، لا يمكن مثلاً أن يسافر ولا يخبرها أنه مسافر! وقد يرهقها بكثرة العمل أو الضيوف، بشيءٍ فوق المستوى المعقول، ومعاملة الزوجة بهذا الغموض وإخفاء الأشياء باستمرار حتى التي لا ضرر فيها ولا حرج، لا شك أن ذلك سيضايق الزوجة كثيراً، فإذاً الخلافات الزوجية قد يكون سببها الداعية!.
وبعض الدعاة إلى الله يقرءون في أساليب الدعوة، والحكمة في الدعوة، ويقرءون في مراعاة الأولويات، ويقرءون في الوسائل الناجحة، وقد يكونون ناجحين فعلاً في استخدام هذه الوسائل والأساليب، لكنهم ليسوا بناجحين مطلقاً في سياسة زوجاتهم، يمكن أن يهدي مدعوه هديةً يتألف بها قلبه ثم هو لا يهدي زوجته هدية واحدة! إذاً هذا النجاح على صعيد والفشل على صعيد آخر؛ لا شك أنه يشقي الإنسان، ليس النجاح الذي يشقيه في صعيد الدعوة، لكن الذي يشقيه الفشل على صعيد الحياة الزوجية.
إذاً لا بد من إعطاء الحقوق الزوجية، ولا بد من مصارحة الزوجة بما ليس فيه ضررٌ ولا حرج، لا بد من إشعارها بالاهتمام حتى ولو بالكلام، ولا شك أن المرأة تأنس إذا ما اعترف لها زوجها بتقصيرٍ مثلاً، أو طلب منها السماح في أمرٍ من الأمور، وتنازل عن رأيه في أشياء فتتنازل له بالمقابل عن أشياء كثيرة.
وشيءٌ من الهدية مع شيءٍ من الكلام الطيب والإكرام، وإكرام أهل الزوجة أيضاً، وليس إكرام الزوجة فقط، والمعاملة الحسنة لأهل الزوجة، وتذكرهم في المناسبات؛ لا شك أنه يصلح الأحوال مما يريح الداعية كثيراً في مهماته، وإذا شعرت الزوجة أنه يشاركها في اهتماماتها، بل ويجعل لها من وقته حلقةً أو درساً، أو يقرأ معها من كتاب، أو يوقظها لقيام الليل كما في الحديث: (رحم الله رجلاً قام من الليل فأيقظ أهله، فإن أبت نضح في وجهها الماء) لا شك أن هذا الاهتمام يشعر الزوجة أن زوجها ليس صاحب هوى، ولا صاحب استبداد، وإنما هو إنسان يريد الخير لها فعلاً.
ثم إنه إذا أذن لها بالمباح من اللهو؛ فإنها لا شك ستأنس به أكثر، ألم يأتك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين).
فهذا الغناء عبارة عن أشعار تنشد بصوتٍ جميل من قبل بنات صغيرات الآن عائشة لما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان عمرها تسع سنوات، وكان عليه الصلاة والسلام يدخل لها صويحباتها ليلعبن معها، وكان يجعل لها ألعاباً، وكان يسألها عن الفرس الذي له أجنحة، وكان عندها لعب تتناسب مع سنها، لا شك أن السماح للزوجة بالصويحبات والجواري اللاتي كن معها بدون محرم، لما ظنه أبو بكر محرماً بين له عليه الصلاة والسلام أنه ليس بمحرم، (قال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) والمزمور يطلق على آلة اللهو المحرم، ويطلق على الصوت الحسن، ولا شك أن المقصود بالرواية هنا الثاني، ولا شك أن الكلام الذي كن ينشدنه ليس فحشاً ولا فجوراً، وإنما هو شيءٌ تقاولت به الأنصار في يوم بعاث، فبين النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أنه ليس بمنكر وقال: (يا أبا بكر إن لكل قومٍ عيداً وهذا عيدنا) والترفية عن الزوجة وإتاحة المجال لها في العيد بما يرضي الله عز وجل لا شك أنه أمرٌ مطلوب.
لقد كانت البساطة بينه وبين زوجته عليه الصلاة والسلام عاملاً كبيراً من عوامل الاستقرار والهناء في الحياة الزوجية، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما قالت: والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح).
وبالرغم مما سبق كله فهل يقال: إن من المطلوب ألا توجد الخلافات أبداً؟ نقول: هذا محال، فلا بد أن توجد خلافات زوجية، لكن لا بد أن تكون الأوبة سريعة، والخلاف يزول بسرعة، وتتدخل الأطراف التي عندها حكمة في حل الإشكالات.
هل وجد خلافات زوجية على عهد النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا شك في ذلك، وهذا مثال: عن سهل بن سعد قال: (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيءٌ فغاضبني فخرج فلم يقل عندي -أي: ما نام عندي القيلولة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسانٍ: انظر أين هو، فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط ردائه عن شقه وأصابه التراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب) فالخلافات تعالج بسرعة وفي نفس اليوم، وترجع المياه إلى مجاريها، وليس هناك إصرار وعناد، والزوجة تفتح الباب وتمشي وتجلس عند أهلها الأسابيع والشهور وتقول: لا بد أن يأتي لي بربوة، وهو يقف أيضاً عند كبريائه، وهي تقول: لا أتنازل، وأهلها يقولون: لا ترضخي له، وتتسع المسألة وتتشعب، لا يمكن لإنسان في مثل هذه الحالة أن يعيش حياةً دعويةً سعيدة، أو ينطلق انطلاقة جيدة في دعوته وطلبه للعلم وهو يعاني من آثار هذه الخلافات.
إذاً لو حصل خلاف فليعالج بالحكمة وبالحسنى، والمسألة سهلة بعد ذلك -إن شاء الله- إذا وجدت النية الطيبة من الطرفين.(31/6)
عدم الاهتمام بتربية الأولاد
من الثغرات الموجودة: عدم الاهتمام بتربية الأولاد؛ فبعض الدعاة إلى الله يهتمون بأولاد الناس وأولادهم يهيمون في الشوارع، بعض الدعاة إلى الله يعلمون الناس الكلام الحسن وأولادهم يتعلمون الكلام القذر من أولاد الشوارع، بعض الدعاة إلى الله عز وجل يحاربون الفحشاء والمنكر وأولادهم ربما وقعوا في الفواحش، نعم هذا حاصل موجود، ونسأل الله السلامة.
أليس من العيب إذاً أن يهتم الإنسان بأولاد غيره وهو يهمل أولاده؟ وما هو الانطباع الذي يحصل عند الناس عندما يرون أولاد هذا الداعية يعيشون في هذا الجو من المعاصي؟ الداعية ملتح وابنه حليق، الداعية يصلي الفجر وابنه في البيت نائم، الداعية في سيارته أشرطة القرآن والذكر وولده عنده سيارة يفحط بها وهي مملوءة بأشرطة الأغاني، لا شك أن المسألة فيها جانب كبير من التفريط، نعم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لكن هل بَذلَ الأسباب؟ هنا السؤال، على الأقل أشرك أولادك مع الآخرين، اجعل لهم رحلةً يخرجون فيها عن البلد يعيشون فيها برنامجاً إسلامياً أو شيئاً طيباً، كما أنك تحرص على ذلك مع أولاد الناس.
إذاً المسألة أيها الإخوة فيها تفريط، وهو الذي يؤدي إلى هذه النتائج، ثم إن الخلافات الزوجية التي أشرنا إليها قبل قليل لها أثر سيئ على الأولاد، وعندما يكون الداعية في طرف وزوجته في طرف يكون هناك معسكران في البيت، لا شك أن هذا الأمر السيئ يلقي بظلاله الثقيل على نفوس الأطفال مما يسبب لهم العقد النفسية، وربما كره الولد طريقة أبيه عموماً بما فيها من الخير؛ نتيجة لبعض السلوكيات من هذا النوع.(31/7)
الإقدام على تعدد الزوجات قبل الدراسة للوضع
وقبل أن نغادر الجانب الاجتماعي في الحياة الزوجية لعلنا نشير إلى مسألة وهي قضية المشكلات التي يواجهها الداعية إذا كان متزوجاً أكثر من زوجة، فالموضوع ليس هذا محل التوسع فيه والبسط، ولعله سيأتي إن شاء الله، لكن هناك تلميحات سريعة.
بعض الدعاة إلى الله لا يقدر الموقف حق قدره قبل أن يقدم على الزواج بالزوجة الثانية أو الثالثة؛ لو أنه ينطلق من عفته لنفسه لسكتنا، بل وهنأناه، ولا يمكن أن نقول له إلا الخير؛ ولو أنه يحرص على أن يكثر النسل ويربي هذا النسل، لقلنا له كلاماً حسنا موافقين له ومغتبطين بما فعل، لو ضم أرملةً أو ضم إليه ضعيفةً للإحسان إليها لكان مأجوراً عند الله، ولا شك أن من هذه الشريعة تعدد الزوجات، ولا يجادل في ذلك إنسان، لكن المقصود من هذا الكلام الذي نقوله الآن: دراسة الداعية لموقفه قبل أن يقدم على تعديد الزوجات: هل يطيق ذلك من جميع الجهات مادياً وجسدياً؟ وهل عنده قدرة على العدل أو لا؟ هذه مسألة شرعية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3].
هل عنده استعداد للإنفاق أم أنه سيجور في النفقة؟ هل عنده استعداد لتربية الأولاد ومتابعة بيتين معاً أم لا؟ هذه من الأشياء المهمة.
ولا يمكن أن يتصور أنه لن تحدث هناك مشكلات البتة، إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعاني من بعض الأشياء التي تحدث بين زوجاته، وقد جاء عن عائشة: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين؛ فحزبٌ فيه عائشة وحفصة وصفية وسودة والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرها حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلم أم سلمة حزبها فقلن لها: كلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فليهد إليه حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته، فلم يقل لها شيئاً، جاءوا إلى فاطمة طلبوا منها أن تكلمه فكلمته: (إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى).
كون الناس يهدون إليه في بيت عائشة ليس هو مسئولاً عن هذا، هذا ليس من الإنفاق الذي يفعله هو من فعله، وليس من اللائق أن يقول للناس: لا تجعلوا هداياكم هنا واجعلوها هنا، هذا من شأن الناس؛ من أراد أن يهدي فليهد في الوقت الذي يريد وفي البيت الذي يريد.
فأرسلن زينب بنت جحش حين لم تحصل فائدة من جهة فاطمة، فأتته فأغلظت وقالت: إن نسائك ينشدنك الله العدل في بنت أبي قحافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبتها، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظر إلى عائشة؛ هل تكلم؟ قال: فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة وقال: إنها بنت أبي بكر، إذاً من شابه أباه فما ظلم.
فهل كانت تحدث مشاكل؟ نعم ألم تكسر عائشة إناءً لإحدى أمهات المؤمنين حين أتت بطعامٍ فيه إلى بيتها، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ إناء التي كسرت السليم وأعطاها إناء بدل الإناء الذي كسر.
إذن كان هناك مشكلات ناتجة عن وجود أكثر من زوجة، فينبغي أن توجد الضوابط الشرعية؛ قيام العدل، النفقة، العدل في المبيت، وغير ذلك.
لكن نعود فنقول: هل هذا الرجل الذي أقدم على التعدد درس المسألة من جهة إمكاناته أم أنه فعل ذلك تقليداًَ للآخرين وقال: ما أحد أحسن مني؟ ولماذا فلان يتزوج أنا سأتزوج أيضاً.
إذاً نحن الآن نقول: الإنسان لا بد أن يقدر المسألة حق قدرها شرعاً وواقعاً، ثم يقدم على الخطوة إذا وجد ذلك لمصلحته، وأنه مستطيع؛ لكن إذا وجد أنه لا يستطيع، وأنه ليس بحاجة من جهة العفة مثلاً، وإنما يفعل ذلك تقليداً للآخرين، وهو غير مستطيع للعدل فلا يقدم على ذلك، ولا شك أن بعض الذين أقدموا على ذلك قد عانوا جداً في مجال الدعوة إلى الله، وصارت أمورهم في حيص بيص، نتيجة لعدم الدراسة المسبقة والتقدير السليم للموقف.
ثم نقول أيها الأخوة: إن عدم الاعتناء بهذه الثغرة؛ وهي ثغرة الزوجة لا شك أنه يسبب فشلاً كبيراً وعقوبةً عند الله سبحانه وتعالى وربما يكون سبباً في فشل الداعية في دعوته.
وإن من العجب العجاب أن نجد بعض الذين يزعمون الاشتغال بالدعوة؛ يمشي بجانب زوجته التي وضعت نقاباً متسعاً فظهر الحاجب الذي عليه الكحل، وظهر أجزاء من الخد والوجه ونحوه، ولا شك أن هذا عملٌ محرم، أو أن يذهب بها في أماكن الاختلاط والأماكن المشبوهة، وأماكن النزهة المحرمة، فلا شك أن هذا عيبٌ كبير يرتكبه.(31/8)
عمل الزوجة من غير داع لذلك
ومن الثغرات كذلك عمل الزوجة من غير داعٍ، فلا شك أن عملها وما يتطلبه من مشقة، وما يترتب عليه من انشغال عن البيت والأولاد والزوج؛ لا شك أنه ثغرة في البيت، نعم قد يكون هناك حاجة، أو شرط عليه في العقد؛ فينبغي الوفاء به إذا لم يكن ذلك مصادماً للشرع، فعند ذلك تعمل، لكن عندما لا تكون الحاجة؛ فلماذا تذهب للعمل مع أن عملها الأساسي للبيت، وقد أثبتت التجارب وكلام العقلاء حتى الكفار قالوا: إن خروج المرأة من البيت للعمل مفسدة، وتضييع للبيوت، وتشتيت للأسر، وتشريد للأطفال، وسبب في زيادة الجرائم، وغير ذلك من الأشياء، ولا شك أننا نقول أيضاً: وعلى رأس ذلك فإنه سببٌ للفساد.(31/9)
ثغرات في جوانب أخرى في بيوت الدعاة(31/10)
التقصير في إصلاح مَنْ في البيت
وننبه أيضاً هنا على مسائل وهي: بالنسبة للشباب الذين يدعون إلى الله عز وجل من غير المتزوجين، ماذا لهم في هذا الموضوع؟ فهو ليس صاحب زوجة ولا أولاد، وليس صاحب بيت مستقل، نقول: إنه ليس بمعفو من المسئولية، فإن الله قال: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] ولا شك أن أباه وأمه، وإخوته وأخواته من أهله، فإذاً ماذا فعل من أجلهم؟ كم تكلف في إصلاح بيته الذي يسكن فيه؟ نعم، قد لا يملك في البيت السلطة الكاملة، فيكون في موقفه ضعف، وقد يكون مبتلى بأخٍ أكبر منه هو الذي يسيطر، أو أب فاسق، أو أم سيئة، أو أخوات عاصيات، نعم.
هذا موجود! وهو يحتاج من وقتٍ لآخر أن يزوره إخوانه في بيته، فإذا زاروه في بيته وجد الحرج والضيق، البيت فيه ملاهٍ محرمة، البيت يخرج منه ويدخل فيه نساء متبرجات، البيت يسمع فيه صوت الموسيقى، كيف سيدخل إخوانه إلى بيته، إذاً يعسر عليه أن يستضيف أخاً له أو يدعوه إلى طعامٍ ونحو ذلك، لا شك أنه سيتعرض لمشقةٍ كبيرة، لكن يبقى السؤال باستمرار: ماذا قدم الشاب لأهله؟ ماذا قدم لبيته؟ هل هو من النوع الذي يذهب مع أصدقائه وأصحابه ويهمل أمر بيته تماماً ويقول: هذا شيءٌ ميئوسٌ منه،! أبي ميئوسٌ منه، أمي ميئوسٌ منها، إخواني ميئوسٌ منهم، أخواتي ميئوسٌ منهن، ولا يقدم شيئاً؟ إذا كان كذلك فليعلم أن هذا خطأٌ كبير، ونقول: هل جربت؟ هل أصررت؟ هل كنت حكيماً؟ هل اتبعت الوسائل الناجحة؟ لا شك أن كثيراً من الشباب مقصرون في بيوتهم، ولا شك أن ذلك ينعكس عليه في حياته الدعوية، لأنه يشعر أحياناً أنه كالمطرود من بيته، خاصة الذي يعيش حالة شتات وخصومة بينه وبين والديه وإخوانه، صحيح أنه يجد في إخوانه في الدين ملاذاً ومهرباً من مشكلاته البيتية، لكن ليس الحل الصحيح أن يهرب من أهله إلى إخوانه، لا بد أن يواجه الواقع، لو حاول ولم يكتب الله له النجاح لقلنا: قد فعل ما عليه وترك ذلك المكان الذي يعج بالمعاصي إلى وسط إخوانه المعمور بالطاعات، هذا أمرٌ حسن، لكن العتب على الذين لم يقدموا شيئاً؛ حتى أنه لا يستطيع أن يستغل بيته في خدمة الدعوة إلى الله.(31/11)
غياب الأخلاق
ومن الثغرات أيضاً: ثغرة الأخلاق، وغياب الرأفة والرحمة والمودة في البيت؛ إذا دخل البيت سكت الجميع؛ خافوا وهابوا؛ قام الجالس واستيقظ النائم، ربما يكون له أولاد لا يقبلهم، كما قال ذلك رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: تقبلون صبيانكم! إن لي عشرة من الولد ما قبلتهم، قال: (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الصبيان ويضاحكهم ويمازحهم، ويحملهم في الصلاة، ويطيل السجود حتى يأخذ الولد حظه من الركوب، إذاً مسألة الأخلاق من الثغرات التي تجعل البيت غير مريح، الجلوس فيه غير مريح، المعيشة فيه غير مريحة، إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق، وهذا بيتٌ لا رفق فيه؛ البيت كله زعيقٌ وصياح، البيت كله شقاق وخلاف، فلا شك أن هذا سينعكس بالتأكيد على نفسيته وهو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.(31/12)
مشكلة الخدم والسائقين
من الثغرات الموجودة أيها الأخوة: مسألة الخدم والسائقين؛ هذه القضية كنا نتكلم عنها في بعض المرات، ويشعر الإنسان أنه يوجه كلامه إلى العامة الذين يأتون بالخادمة بغير محرم، أو جاء بخادمة كافرة أو سائق ليس في مكانٍ منفصلٍ عن البيت، لكن الإنسان يفاجأ بأناسٍ يظن فيهم الفضل والخير يدخلون بيوتهم هذه الخادمة بفتنتها، وليس بالضوابط الشرعية؛ فالخلوة موجودة، الكشف موجود، وإذا ذهبت زوجته للعلم نام هو في البيت ويقول: ماذا أفعل أأنام خارج البيت؟ جاء قبل أن تأتي زوجته من الدوام فجلس في البيت، إذاً هناك عدم تقوى لله في هذه المسائل، وكأنه يظن أن الذهاب إلى مجالس الطيبين، والقيام ببعض الأنشطة الخيرية، وحضور بعض الدروس هو المهم وهو لب الموضوع، وأما بقاؤه في البيت مع الخادمة بمفردهما ليس شيئاً ذا أهمية فلا يعيره اهتمامه.
وأقول: لا بد أن يوازن الإنسان في قضية دخول هؤلاء الخدم، هل هي بالضوابط الشرعية فعلاً أم لا؟ وحتى لو كانت بالضوابط أحياناً يكون تقييداً شديداً له لا يستطيع أن يتحرك ولا أن يتنقل، لأنه لا بد أن يتأكد أنها متحجبة، وأنها غير موجودة في الطريق ونحو ذلك، ولذلك يعيش حياةً فيها صعوبة من هذه الجهة.
فإذاً نعود لمسألة التأكيد على قضية الضوابط الشرعية.(31/13)
ضعف الداعية أمام العادات المخالفة
ومن الثغرات الموجودة في البيوت أيضاً: الضعف أمام العادات الاجتماعية المخالفة للشريعة، وأول ما يبدأ بأشياء فيها تشبُّه بالكفار، ويرضى أن يكون في حفلة زواج فيها منكرات كالدبلة، وغير ذلك من علب الفضة؛ إلى وجود الفرقة الغنائية عند النساء؛ إلى آخره من أنواع المنكرات، وحتى يشترك في الزفة، وهذا محسوب على الدعاة الملتزمين، يشترك الشخص في الزفة ويدخل يصافح الحريم، وتؤخذ له الصورة فأين الدعوة التي يزعم أنه يمارسها.(31/14)
وجود بعض المحرمات في البيوت كالملاهي
من الثغرات الموجودة أيضاً في بيوتنا أو بيوت الدعاة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ بيوتنا جميعاً منها: مسألة الملاهي المحرمة، والوسائل المرئية أو المقروءة أو المسموعة المشتملة على الحرام، ولا شك في حرمتها وفسادها، وإفسادها واضحٌ جداً، فمناظر الاختلاط في هذه الوسائل موجودة، الحرب على الدين موجود، الاستهزاء بالمتدينين موجود؛ تعرض التمثيليات من أجل ذلك، والإعلانات التجارية وما فيها من المنكرات، وما يتفرج عليه الأولاد من أفلام؛ حتى أفلام الكرتون ما سلمت من الشرور والمفاسد، التي فيها إضرارٌ بالعقيدة ونحو ذلك! الصور المحرمة، الأدوات الموسيقية، الألعاب؛ حتى ألعاب الأطفال يهمل البعض في إدخالها إلى البيت وقد تكون فيها صلبان، أو فيها نرد وهو محرم، أو فيها بطاقات ألعاب فيها سحب من البنوك واقتراض بفوائد، أو الأصنام ذات الرءوس، وألعاب الكمبيوتر المحرمة، وربما يوجد فيها مناظر للنساء متعريات، ولدٌ يقبل بنتاً في ألعاب الكمبيوتر، وصور الكنائس، وربما أدخل الكمبيوتر على شاشة التلفزيون فيؤدي إلى رؤية أولاده لهذا في غيابه، وحتى عدم مراعاة الأضرار الصحية، حتى اضطرت شركات ألعاب الكمبيوتر الكتابة على الأجهزة؛ مثل شركة ناين تيندو وغيرها من الشركات تقول: إن الإدمان أو الإكثار من اللعب بهذه الألعاب هو من أسباب مرض الصرع عند الأطفال، وهذا واضح، ولذلك تجد عدداً من أطفال هؤلاء الدعاة ربما انهمكوا فيها، فتجد الولد عصبي المزاج من كثرة إدمانه على هذه الألعاب.
فأقول: حتى بعض الأشياء التي ليس فيها منكرات قد يكون في الإدمان عليها أضرار صحية يحولها إلى منكرات، ولذلك يجب أن يكون اللعب بقدر محدود في مثل هذه الأشياء، لماذا لا يأتي لهم بألعاب التصويب والتهديف، أو الفك والتركيب، أو الألعاب العضلية، ويلعب بها هو معهم؛ كلعبة الكراسي ولعب الكرة، أو يأتي لهم بآلاتٍ متحركة، أو ببعض البرامج المفيدة: تربية الحيوانات، الدراجة، الأرجوحة؟ والمقصود أن هناك بدائل شرعية عن هذه الألعاب المحرمة الموجودة في السوق، وأشرطة الأناشيد التي ليس فيها محظورات من الميوعة في الألحان، ومطابقة ألحان الأغاني، وحتى الدمى هذه التي يعلب بها البنات ينبغي أن تكون مطابقة للشريعة، فإن بعض العلماء يحذر من هذه الدمى البلاستيكية متقنة الصنع، التي ربما تتكلم وتمشي وتتحدث، وتفتح عينيها وتغمضها، بل سمعنا من الطامات الآن أنه يوجد بعض المحلات الخاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، هذا محل يبيع ملابس باربي، هذا محل يبيع ملابس شنطة، الشنطة بكذا، والحزام بكذا، والملابس بكذا، محلات خاصة ببيع ملابس عرائس الأطفال، وتنفق فيها الأموال، وتهدر هذه الأموال التي ينبغي أن تذهب لمنفعة المسلمين.
ثم ينبغي على الداعية أيضاً أن ينتبه لمسألة البديل، قد لا يوجد بديل في بعض الأشياء، فلا يلزم أن يوجد بديل لكل شيء، قد يكون الشيء محرماً بالكيلة لا يوجد له بديل فيلغى، يعني: إذا وجدت موسيقى هل هناك موسيقى إسلامية، وإذا وجد رقص فلا يوجد رقص إسلامي، فمثل هذه الأشياء التي توجد عند بعض الناس الذين لديهم أشياء من الجرأة والعقلانيات، لا شك أن هذا من منهج المنحرفين في مثل هذه الموضوعات.(31/15)
مجاراة الناس والوقوع في الشبهات
ثم من الثغرات الموجودة في بيوت الدعاة إلى الله عز وجل وقوعهم في المجاراة لغيرهم من الناس، فإذا أتى جاره بشيء أتى بمثله ولو محرماً، إذا طلبت منه زوجته أشياء محرمة أتى بها تحت الضغط، وكذلك إذا ألح عليه أولاده، وبعض الدعاة إلى الله يقعون في الشبهات، والشيطان ينفذ من باب الشبهات لإيقاعهم في المحرمات؛ وربما قال: آتي لهم بشاشة في البداية على غير محرم، ثم يحدث التوسع بعد ذلك في قضايا أخرى، لأنه غير قادر على الضبط، ويعتمد البعض على بعض الخلافات الفقهية ويقول: يوجد مشايخ أفتوا بالإباحة مثلاً؛ مع أن قوله مرجوح، والمفروض أن يكون هذا طالب علم يعلم بالراجح ويعمل بالدليل، ولا يتتبع الرخص، لكن مع الأسف ربما يُعلِّم غيره أشياء ويقع هو فيها.
ثم هناك التنازلات التي تحدث في العلاقات الاجتماعية، وهو ربما لو طلب منه أبوه أن يصافح زوجة أخيه أقدم على ذلك، ويتساهل في كشف زوجته على إخوانه، وكشف الإخوان على زوجته، وكشف زوجات إخوانه عليه، ونحو ذلك، وهذا يقع في البيوت التي يسكن فيها مجموعة من العوائل في بيت واحد.
وكذلك أيضاً لا بد أن ينتبه الداعية مما يدخل إلى بيته من المقالات أو المجلات أو الكتب، قد يكون بعضها فيه فوائد؛ لكن أيضاً فيه محرمات، وربما زوجتة تطلع عليها وتقرأ فيها، كتب بعض الدارسين للطب مثلاً يوجد فيها صور مشينة، فينبغي الحذر من ذلك، بعضهم قد يأتي بمقالات لمجلات أجنبية في موضوعات متخصصة قد يحتاج إليها أحياناً، لكن فيها أشياء سيئة لا يهتم بطمسها ولا بإزالتها، أو على الأقل بإبعادها عن متناول أيدي الزوجة والأطفال، وبعضهم يأتي بالمجلات والجرائد إلى البيت وقد يزعم أنه يريد أن يتتبع الأخبار، ثم يفاجأ بزوجته وأولاده يقرءون هذه الأشياء وفيها من السموم ما فيها.(31/16)
التوسع في المباحات
ثم من الثغرات الموجودة في بيوت بعض الدعاة إلى الله عز وجل: التوسع في المباحات توسعاً ملهياً، بل هو من مداخل الشيطان، فإن الشيطان يشغل الإنسان بالمباح عن الطاعة والعبادة؛ تجديد الأثاث، التزويق في البيت، الصف في الأسواق فترات طويلة ليشتري هذه وهذه، هذا يزعم أنه داعية إلى الله وأنه طالب علم و، أو ربما تكون زوجته كذلك، ثم يكون اللف والدوران في الأسواق على النجف والمزهريات والسجاد العجمي، فأين التقشف وأين ما ينبغي أن يكون عليه من الزهد في بيته؟ تجد فيه الزخارف بأنواعها، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من البيت المزوق، وبعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رجع من البيت الذي كسي جداره من أجل ما فيه؛ فإنه قد جاء عن سهل بن عبد الله بن عمر: أعرست في عهد أبي، فآذن أبي الناس فكان أبو أيوب فيمن آذن، وقد ستروا بيتي بنجادٍ أخضر، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه فقال: يا عبد الله: تسترون الجدر، فقال أبي واستحيا: غلبنا النساء يا أبا أيوب فقال: من خشيت أن تغلبه النساء يعني: ما أتوقع أن يغلبنك، فرجع ولم يدخل.
فإذن يوجد هناك توسع في المباحات وكثير منه يكون بسبب مجاراة الآخرين، يدخل بيوت الناس يرى فيها تزويقاً فيريد أن يجعل ذلك في بيته، وعند فلان مزخرفات يريد أن يجعل ذلك في بيته، وزوجته تدخل بيوت نساء وتجد عندهن نجفاً وتحفاً فتطلب مثل ذلك في بيتها وهو يستجيب، إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحارب ذلك حتى في بيوته، وفي بيت فاطمة بنته؛ أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يدخل عليها، وجاء عليٌ فذكرت له ذلك، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: لماذا لم تدخل إلى بيتنا يا رسول الله؟ قال: (إني رأيت على بابها ستراً موشياً؛ ثم قال: مالي وللدنيا! فأتاها عليٌ فذكر لها ذلك، فقالت: يأمرني فيه بما شاء قال: ترسل به إلى فلان أهل بيتٍ بهم حاجة) فقد لا يكون محرماً ولو كان محرماً لما جاز أن تعطيه إلى غيرها، لكنه عليه الصلاة والسلام لا يرضى بهذه الأشياء لأهله، وكان بيته صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما قال عمر رضي الله عنه: رفعت بصري في بيته، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهب ثلاثة، الإهاب: هو الجلد قبل الدبغ فقلت: ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فقال: (أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب! أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا) فقلت: يا رسول الله! استغفر لي الحديث، وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان على سرير مرمل يضطجع عليه حتى يؤثر في جنبه.(31/17)
البخل وسوء معاملة الجيران
ومن الثغرات في بيوت الدعاة: البخل وعدم الإنفاق، وسوء التعامل مع الجيران، وكثيراً ما يكون لهذا آثار سلبية في نظر الآخرين للداعية إلى الله سبحانه وتعالى، ويقولون في أنفسهم: هذا الذي يزعم ويزعم ويظهر، ثم هو بهذا البخل ولم يحسن إلينا مرةً واحدة، وربما كان يؤذي في إلقاء القمامة أو موقف السيارة ونحو ذلك، ولا شك أن لهذه الأشياء التي قد تبدو أحياناً بسيطة في أنظار البعض آثار سلبية في نفوس الآخرين، والمساعدة والمعاونة لأهل البيت قد تكون من الأشياء المفقودة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -كما روت عائشة - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.(31/18)
ثغرات أخرى
ومن الثغرات الموجودة في البيت: جعل البيت فوضى مفتوحاً على مصراعيه لمن شاء، فليس له وقت نوم معين، ولا وقت أكل معين، ولا التفات لأهله أيضاً في وقت معين، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ضيوف فأثقلوا عليه بطول الجلوس، فنزلت آية الاستئذان بسبب ذلك، وأنه لا يجوز للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم إذا طعموا فلينصرفوا، وعليه فلا يصح أن يكون البيت كالمقهى يُدخل إليه في أي وقت وفي أي حين.
كذلك من الثغرات تضييع الأوقات بالكلام في الهاتف كلاماً طويلاً ليس من ورائه كبير فائدة، سواءً كان من الداعية أو من زوجته، فوجود مضيعات الأوقات في البيت من الثغرات.
ثم لنختم بهذه النقطة وهي إهمال الكتب التي اشتريت من المعارض والمكتبات، فلقد شريت المجلدات وصففت على الرفوف، وأتي بها على اختلاف أحجامها وأنواعها ومواضيعها، وفصلت لأجلها هذه المكتبات الخشبية، ثم بعد ذلك تركت مركونةً مهملةً لا يُقرأ فيها؛ قد علاها الغبار وربما تأكلها الأرضة، أليست هذه ثغرة أيضاً يجب الالتفات إليها، ولا يليق بالداعية إلى الله عز وجل أن يهمل كتب العلم عنده في بيته، ولا يستفيد منها ولا غيره، والكلام في هذا الموضوع طويل، ونكتفي بهذه النقاط التي ذكرناها، ولعل في بعض الأسئلة ما يضيف أشياء أخرى إلى الموضوع، فنتوقف للصلاة ونعود إلى الأسئلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيوتنا من المنكرات، وأن يعمرها بالطاعات، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(31/19)
الأسئلة(31/20)
التقصير من الداعية عيب
السؤال
يقول: أرى بعض التقصير عند بعض من يؤم الناس في المساجد، أو ينظر إليهم على أنهم من أهل الصلاح والتقوى، ومن أوجه هذا التقصير: خروج بعض نساء أهل بيته بشيءٍ من التبرج، أو تلفظهم بألفاظ من اللعن وغيره؟
الجواب
طبعاً كون الإنسان يصبح إماماً لمسجد هذا لا يعني أنه قد كمل، بل إنه يحتاج إلى تكميل نفسه كثيراً، لأن إمام المسجد قدوة، ولذلك ينبغي أن يركز على الاعتناء بنفسه أكثر من أي شخصٍ آخر يمارس دوراً أقل منه، ولذلك فإن من العيب الكبير أن ينصح المرء الناس بالصدقة ثم يبخل، وينصح الناس بالاقتصاد ثم هو يبذر ويسرف، وينصح الناس بأن تتحجب نساؤهم ثم أهل بيته يعيشون في تقصير سيئ.(31/21)
تساهل بعض الدعاة بآلات اللهو في البيت
السؤال
هناك بعض الشباب يجعلون في بيوتهم أجهزة اللهو، يتركونها لزوجاتهم وأولادهم يتفرجون عليها، وإذا نصحناهم بإبعادها قالوا: إنهم يتفرجون على الأخبار وأفلام الكرتون، وإذا دخل زوجاتنا في بيوتهم وجدوا أن أهل ذلك الشخص يسمعون الأغاني، ويرون المسلسلات العربية والغربية، ويقولون: هذه مسلسلات اجتماعية؟
الجواب
لا شك أن هذا من الانحراف، وأن الذي يرضى بالمحرم في بيته يرضى بالسوء في بيته، فلا شك أن فيه دياثة، وهذا الذي يقر الخبث في أهله ويرضى أن يتفرجوا على هذه الأشياء المنكرة ليس عنده غيرة؛ لو كان عنده غيرة لمنع الفساد في البيت، لذلك يجب على هؤلاء إخراج أدوات اللهو المحرم من بيوتهم.(31/22)
التصرف السليم لمن في بيته خادمة
السؤال
من أكبر الثغرات وجود الخدم في البيت؛ خاصة عندما تكون خادمة وتتجول في البيت؛ فأينما ذهب الشخص وجدها أمامه تقريباً، فما الحل؟
الجواب
إذا أراد أن ينتقل في الطريق فليتنحنح، ويطلب أن يكون الطريق خالياً، وهذا أمر ممكن لمن أراد أن يصون دينه، وأن تكون ملتزمة بالحجاب ما دام في البيت أو يتنقل فيه، ثم إن عليه أن يغض البصر، والله أعلم.(31/23)
عذاب أهل الكبائر في البرزخ
لقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده شرائع، وحد لهم حدوداً، وبيَّن لهذه الأمة الحلال والحرام في كتابه، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ضعفت نفسه، واستهواه إبليس، ولم يتب عُذب في قبره حتى تقوم الساعة، ثم هو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وقد بين الشيخ في هذا الدرس أنواعاً من عذاب البرزخ لأهل الكبائر والعصاة.(32/1)
حديث سمرة في عذاب البرزخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فموضوعنا اليوم حول حديث الرقائق من سلسلة هذه الدروس، التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها حجة لنا، وأن يعلمنا منها ما نستفيد به موعظة في حياتنا، وزاداً لنا في آخرتنا.
روى البخاري -رحمه الله تعالى- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ قال: فيقص عليه من شاء الله ما شاء الله أن يقصه) كثيراً ما كان عليه الصلاة والسلام يسأل: هل رأى أحدٌ رؤيا؟ فمن رأى رؤيا يقصها على النبي صلى الله عليه وسلم (وإنه قال ذات غداة: إني أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، فأتينا على رجلٍ مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ بها رأسه) أي: يكسره ويشدخه (فيتدهده) أي: ينحط وينحدر (فيتدهده الحجر هاهنا) أي: من هذه الجهة (فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه) القائم الذي التقط الحجر لا يرجع إلى الرجل المضطجع (حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه، فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوبٍ من حديد) أي: الحديدة المعوجة الرأس التي ينزع بها اللحمة من القدر مثل الخطاف (وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه) وجه هذا الرجل المستلقي (فيشرشر شدقه) أي: يشق طرف الفم ويقطعه (إلى قفاه) من الخلف (ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثلما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب، حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود إليه فيفعل به مثلما فعل المرة الأولى.
قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -الفرن- قال: فأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجالٌ ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا وضجوا- قال: فقلت لهما: ما هؤلاء؟ فقالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا فأتينا على نهرٍ حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجلٌ سابح يسبح، وإذا على شاطئ النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر -أي: الرجل السابح- له فاه فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً.
قال: قلت لهما: ما هذان؟ قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا فأتينا على رجلٍ كريه المرآه، كأكره ما أنت راءٍ رجل مرآة، وإذا عنده نارٌ يحشها -يزيدها إشعالاً- ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق.
فانطلقنا فأتينا على روضةٍ معتمة فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويلٌ لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط.
قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق.
قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أرَ روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا ففتح لنا، فدخلناها فتلقانا فيها رجالٌ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راءٍ، وشطر كأقبح ما أنت راءٍ.
قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض -أي: الخالص- في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة.
قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صُعُداً، فإذا قصرٌ مثل الربابة البيضاء -أي: السحابة البيضاء المنفردة المجتمع بعضها فوق بعض- قال: قالا لي: هذاك منزلك.
قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله.
قالا: أمَّا الآن فلا، وأنت داخله.
قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً! فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنَّا سنخبرك.
أمَّا الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق.
وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني.
وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر، فإنه آكل الربا.
وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم.
وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة.
فقال بعض المسلمين: يا رسول الله! وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين.
وأما القوم الذين كان شطرٌ منهم حسناً وشطرٌ قبيحاً، فإنهم قومٌ خلطوا عملاً صالحا وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم).(32/2)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤى الصالحة
هذا الحديث العجيب الصحيح قد رواه الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله في صحيحه، في مواضع: في كتاب الجنائز، وفي كتاب التعبير وغير ذلك، وأخرج قطعة منه الإمام مسلم رحمه الله، وكذلك الإمام أحمد، فهو حديث صحيح في غاية الصحة.
يقول فيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟) وهذا سؤال منه صلى الله عليه وسلم عن الرؤيا واهتمامه بها، لأن الرؤيا جزء من النبوة، والرؤيا قد يكون فيها إخبار عن غيب مستقبلي، أو تحذير من شيء، وإذا كانت من رجل مؤمن صادق، فإنها تكون من أصدق ما يكون، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن أن أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً، فتأتي رؤياه مثل فلق الصبح، وربما تقع كما رآها بالضبط.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤول لأصحابه الرؤى ويفسرها لهم، وربما كان من أصحابه من يفسر أيضاً، وقد طلب أبو بكر الصديق مرةً أن يفسر رؤيا، فلما أذن له عليه الصلاة والسلام، قال له بعد تفسيرها: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً).(32/3)
تعريف الرؤيا وحكم تعبيرها بدون علم
إذاً: الرؤيا علم، تفسيره من الله تعالى، لا يعلم تأويله إلا الله، ومن يُعلِّمه الله تأويل الرؤيا، وليس كل أحد يعلم تفسير الرؤى، وإنما ذلك علم يهبه الله من يشاء، وقد كان يوسف الصديق عليه السلام من أعلم الناس بتفسير الرؤى، واتجهت أنظار السجينين إليه مما كان عليه من الإحسان، ولذلك قالا: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فكان من المجيدين في تعبير الرؤى وهذا من البيان.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله: أن تعبير الرؤى من الفتوى، فلا يجوز أن يُعبِّر الرؤيا من لا يُحسن التعبير، ومن عبَّر رؤيا وهو لا يُجيد التعبير فكأنما أفتى بغير علم، كما نبه على ذلك الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله وغيره من أهل العلم، فلا يجوز الدخول في التأويل والتعبير لمن لا يحسنه.(32/4)
أقسام الرؤى
والرؤيا على ثلاثة أقسام: كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: أولاً: الرؤيا الحسنة من الله.
ثانياً: الحلم السيئ من الشيطان ليحزن المؤمنين.
ثالثاً: الشيء يهتم به الرجل في يومه فيراه في ليلته، فلا هو حسن ولا هو سيئ، بل بحسب الهم النفسي الذي يكون عليه فيراه في الليل.(32/5)
آداب من رأى ما يزعجه
وإذا كانت الرؤيا سيئة فالإنسان عليه عدة أمور: أولاً: إذا استيقظ عليه أن يتعوذ بالله من الشيطان، ويتفل عن يساره، ويتعوذ بالله من شر ما رآه ثلاثاً ثلاثاً ثلاثاً.
ثانياً: أن يغير جنبه الذي كان نائماً عليه، وليس بشرط إذا كان على الجنب الأيمن أن ينقلب على الأيسر، وإنما ينقلب على ظهره مثلاً، وإذا كان على الأيسر يغير إلى الجنب الأيمن.
ثالثاً: ورد في سنن الترمذي -أيضاً- صلاة ركعتين إذا رأى ما يُزعجه، ولا يخبر بها أحداً من الناس، وكثيراً ما يتلاعب الشيطان بالشخص في المنام، كما جاء في صحيح مسلم عن رجلٍ رأى أنه قد قطع رأسه وذبح وأنه يتدحرج، فلامه النبي عليه الصلاة والسلام على إخباره بها، وقال: (علام يخبر أحدكم بتلاعب الشيطان به في المنام؟!) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(32/6)
آداب من رأى ما يسره
وإذا كانت الرؤيا حسنة، فإن الإنسان يُخبر بها من يُحب، ولا يقصها على عدو أو حاسد، وإنما يخبر بها العالم والناصح، وكثير من الأحيان يكون ما يراه الإنسان على نفسه مثل الجبل في الثقل، ولكن إذا استعاذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأى، فإنه لا يهمه ذلك إن شاء الله.
قال: (فيقص عليه من شاء الله ما شاء الله أن يقص).
"من" تعود على الرائي الذي رأى الرؤية، و"ما" تعود على الرؤية نفسها.(32/7)
روايات أخرى لحديث سمرة
في بعض روايات هذا الحديث (فسأل يوماً: هل رأى أحدٌ رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكن رأيت الليلة وذكره) فكأنه قال لهم لما قالوا له: ما رأينا شيئاً، قال: أنتم ما رأيتم شيئاً لكني رأيت.
وفي رواية عن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد يوماً، فقال: من رأى منكم رؤيا فليحدث بها؟ فلم يحدث أحد بشيء، فقال: إني رأيت رؤيا، فاسمعوا مني).
وفي حديث البخاري هذا قال: (وإنه قال لنا ذات غداة) وفي رواية: (كان إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه) وفي رواية: (إذا صلَّى صلاة الغداة) أي: صلاة الصبح كما جاء في روايةٍ أخرى، فهو بعد صلاة الصبح يلتفت إليهم؛ لأن الصبح بعد النوم، فيقول: (هل رأى أحدٌ منكم رؤيا؟) فإذا كان الشخص يجيد تفسير المنام، فلا بأس أن يقول: هل رأى أحدٌ رؤيا فأعبرها له؟ وأخرج الطبراني بسندٍ جيد عن أبي أمامة قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح، فقال: إني رأيت الليلة رؤيا هي حق فاعقلوها) فذكر حديثاً يُشبه حديث سمرة، لكن الذي يظهر من سياق الحديث أنه حديثٌ آخر، فإن في أوله: (أتاني رجل فأخذ بيدي، فاستتبعني حتى أتى جبلاً طويلاً وعراً، فقال لي: ارقه، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك) فهذا الحديث فيه أن الآتي واحد، وحديث سمرة قال: إنهما اثنان؛ وأنهما: (ابتعثاني وقالا لي: انطلق) وهذا الحديث قال: (أنه أتى بي جبلاً وعراً، فجعلت كلما وضعت قدمي وضعتها على درجةٍ حتى استويت على سواء الجبل -أي: وسط الجبل- ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يقولون ما لا يعلمون).
وفي بعض الطرق: (أنه رأى ناساً تسيل أشداقهم دماً، معلقون من عراقيبهم -العرقوب في القدم- تسيل أشداقهم دماً -بالعكس، مثل حال التعذيب- فسأل عنهم؟ فقيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) ولذلك ينبغي للصائم الانتباه إلى عدم الإفطار قبل الوقت الشرعي.(32/8)
شرح ألفاظ حديث سمرة في عذاب البرزخ
قال: (إنه أتاني الليلة آتيان) هذان الآتيان هما ملكان، وهذان الملكان هما: جبريل وميكائيل كما جاء تفسيره،) وإنهما ابتعثاني) أي: أرسلاني، ويحتمل أنه رأى في المنام أنه كان نائماً، فأخذ من قبل الملكين وابتعثاه من النوم وأخذ به، فحدث ما حدث، فلما استيقظ استيقاظاً حقيقياً خبَّر بما سمعنا.(32/9)
عقوبة من نام عن الصلاة المكتوبة
قال: (وإني انطلقت معهما) وفي رواية: (إلى الأرض المقدسة) وفي رواية: (إلى أرض مستوية) قال: (وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة) وفي رواية قال: (فمررت على ملك وأمامه آدمي وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي).
إذاً من هو الذي يتولى التعذيب؟ إنه ملك: (يهوي بالصخرة فيثلغ -أي: يشدخ- بها رأس هذا المضطجع) فإذاً الذي يتولى الشدخ هو ملك يحمل صخرة ويضرب بها رأس المضطجع فيشدخه والحجر يتدهده ويذهب هاهنا وهاهنا، فالملك يتبع الحجر ويأخذها، ويعود للرجل فلا يعود إليه إلا وقد عاد الرجل كما كان، ويصح رأسه فيضربه مرة أخرى، فالعذاب متكرر ومتوالٍ، فالرأس يعود كما كان ليعذب مرةً أُخرى.
وفي رواية: (عاد رأسه كما كان)، وفي رواية: (فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً) يشدخه بالصخرة فيقع الدماغ على طرف، والصخرة تتدحرج من الطرف الآخر.
وهذا الرجل هو الذي أُوتي القرآن فرفضه، ونام عن الصلاة المكتوبة، قال ابن العربي رحمه الله: "جعلت العقوبة في رأس هذا الشخص؛ لأن النوم موضعه في الرأس، فجعلت العقوبة في محل الإثم" وهذا الرجل بالتأكيد لا ينام لغلبة النوم لأنه معذور، وإنما يتعمد النوم عن الصلاة المكتوبة.
وهنا ننبه الإخوان وخصوصاً أصحاب النوبات في الأعمال، فبعضهم يتعمد أن يقول لزوجته: لا توقظيني فأنا سوف أستيقظ؛ لأنه لا يريد أن يتقطع نومه، ويتعمد بعضهم ألاَّ يضع ساعة، فبدلاً من أن يُوصي زوجته بإيقاظه، يوصيها بعدم إيقاظه.
إذاً فهذا تعمد النوم عن الصلاة المكتوبة، وفي رمضان يتعمد بعض الناس السهر حتى ينامون عن الصلاة المكتوبة.
سألت ذات مرة عن شخص، فقلت لمن يعرفه: متى يكون فلان في بيته؟ قال: إنه يرجع من العمل الساعة الثالثة، لكنك لا تجده لأنه ينام.
وقلت له: كيف ينام؟ قال: ينام من الساعة الثالثة عصراً إلى الساعة العاشرة ليلاً، ويسهر من العاشرة ليلاً إلى السادسة والنصف صباحاً، ويذهب إلى العمل ويرجع في الساعة الثالثة، وينام من الثالثة إلى العاشرة ليلاً، فينام من قبل العصر إلى بعد العشاء، فيفوت صلاة العصر والمغرب.
لكن الجريمة العظيمة هي: كيف يكون هذا النظام في النوم؟ بكون النظام بتعمده النوم عن الصلاة المكتوبة حيث وأن ذلك واضح من كيفية نومه.
إذاً أين يكون موضع هذا العذاب؟ هذا عذاب برزخي لهؤلاء الأشخاص يكون في القبر، فالذي يتعمد النوم عن الصلاة المكتوبة يُعاقب بأن يشدخ رأسه في القبر، ويعود رأسه ويشدخ، ويعود رأسه ويشدخ إلى قيام الساعة، هذا عقاب البرزخ، ولذلك يجب على الإنسان أن يعد العدة اللازمة للاستيقاظ سواء كان بالمنبه والساعة، أو أن يُوصي شخصاً أو بالهاتف أو غير ذلك كطارق يطرق، أو بالماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يُرشد إلى الإيقاظ بنضح الماء، لأن الماء منشط، وطارد للنوم وموقظ، وجرب تجد النتيجة، والإيقاظ بالماء من أحسن وسائل الإيقاظ للنائم.
وإن كان بعضهم لا يعجبه هذا أبداً، فنقول: لا بأس فنأخذ الأسهل فالأسهل، لكن إذا لم يُوجد طريق لقيامك من النوم إلا بهذا فليكن، لأن القيام إلى الصلاة أهم من كل شيء.(32/10)
عقوبة صاحب الكذبة تبلغ الآفاق
وبالنسبة للرجل الثاني: (فانطلقنا فأتينا على رجلٍ مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد) وجاء في رواية: (فإذا أنا بملك وأمامه آدمي، وبيد الملك كلوب من حديد، فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه من اليمين إلى القفا، والعين من اليمين إلى القفا، والمنخر من اليمين إلى القفا) فالذي يتولى التعذيب هو ملك، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك، ويلتئم الشق الأول -الذي في الشق الأيمن- ويعود ليشقه ويشرشره مرة أخرى.
فهذا هو الكذَّاب الذي يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، والآن مع وجود البث الفضائي، أصبح انتشار الكذبة في الآفاق من أسهل ما يكون، فخذ العبرة، ولذلك قال ابن العربي رحمه الله: "شرشرة شدق الكاذب إنزال العقوبة في محل المعصية، وعلى هذا تجري العقوبات في الآخرة بخلاف الدنيا".
والاختلاف في حال هذا الرجل بحسب اختلاف حاله، فقد جاء في رواية: أنه مضطجع، وفي رواية: أنه جالس، وفي رواية: أنه قائم.
فهذا عذاب الكذابين الذين يكذبون الكذبات التي تبلغ الآفاق وتنتشر في العالم.
والأفق هو: الناحية في السماء، والآفاق هي: النواحي.
ولذلك فإن على الإنسان أن يحذر الكذب وكذا نشره في أي وسيلةٍ ينتشر فيها الكذب، وكلما كانت الوسيلة أشد انتشاراً كان العذاب أشد عليه.
وكذلك فإن من أعظم الكذب: الكذب في المنام، بأن يري الرجل عينيه ما لم تريا، فهذا يكلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل لأن العقد بين الشعيرتين أمر محال، فيكلف بمحال، فيكون عليه عذاب نفسي وجسدي، لماذا ادعى أنه رأى الرؤيا الفلانية وهو لم يرها؟ وبعض الناس ربما يفعلها من باب الدعوة بزعمه! يقول: هذا لا يفيد إلا أن أخترع له رؤيا؟! أقول: رأيتك في القبر وكذا وكذا وكذا! فهذا حرام ولا يجوز، والغاية لا تبرر الوسيلة، يجب أن تكون الوسيلة شرعية، كما أن الغاية شرعية، أما أن نسلك وسيلة غير شرعية لتحقيق غاية شرعية، فليس هذا من هدي الإسلام.
وهنا يأتي سؤال وهو: انظر إلى التقنية الحديثة ماذا تفعل؟ من الأبواب العظيمة التي فُتحت في هذا الزمان باب أتى به هذا الحاسوب في العالم وهو شبكة الإنترنت، فأحد الناس إذا قذف شخصاً على الشبكة كأن أرسل باتهامه وقذفه ربما إلى آلاف الأشخاص، الآن هذا الرجل كيف تكون عقوبته؟ لنا أن نتصور أن الكذبة التي تبلغ الآفاق بالوسائل العصرية من عدة جهات وبعدة صور وأشكال، فبعضهم ربما يستخدم هذه التقنية الحديثة في نشر الشر، والكذب، وظلم الأبرياء، وقذف المسلمين والمسلمات ونحو ذلك، ثم بعد ذلك إذا تاب يقول: ماذا أفعل؟(32/11)
عقوبة الزناة والزواني
قال في الشخص الثالث: (فأتينا على مثل التنور -في رواية- أعلاه ضيق، وأسفله واسع يوقد تحته نارٌ) إذاً هذا فرن أعلاه ضيق وأسفله واسع، قال: (فإذا فيه لغط وأصوات، وفيه رجالٌ ونساء، وإذا هم يأتيهم اللهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا) أي: صرخوا، وفي رواية: (فإذا اقتربت ألسنة اللهب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت -أي: ألسنة اللهب- رجعوا).
هذا عقوبة الزناة والزواني، يجمعهم الله عز وجل في تنورٍ من نار، فهذا عذاب البرزخ للزناة والزواني.
لو قال أحد من الناس: ما عقوبة الزناة والزواني؟ لإننا لم نجد أشياءً في القرآن تُخبر عن عقوبة الزناة والزواني، فكيف تكون عقوبة هذا الزنا الذي انتشر الآن، هذه المواعدات بين الفتيان والفتيات التي تنتهي بالفاحشة في كثيرٍ من الأحيان، وهذه بيوت الدعارة، والأفلام التي تدعو إلى الفاحشة فيقع الناس فيها، وهؤلاء الناس الذين يُسافرون إلى أماكن الخنى والفجور ليقعوا في الفواحش، أو أولئك الذين يذهبون إلى الفنادق أو يحضرون الحفلات ليقعوا في الفواحش، ويركبون في سفن كالفنادق، ويقعون في الفواحش، والذين يذهبون شرقاً وغرباً، هؤلاء الزناة والزواني ما عقوبتهم؟ الآن إذا كانت هذه العقوبة في البرزخ، تنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، ويأتي اللهب من الأسفل ويرتفع هؤلاء الزناة والزواني في صياح من الألم، ثم ينزل اللهب فينهارون معه، ثم تصعد الألسنة فيصعدون، وكُلمَّا أوشكوا على الاقتراب من فوهته رجعوا مرة أخرى وهكذا إلى قيام الساعة، وهذا الفرن ورد أن رائحته موخمة منتنة، وأن من شراب أهل النار ما يخرج من القيح والصديد من فروج الزناة والزواني.
إذاً هذه الفاحشة العظيمة لما حرَّمها الله، وقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
معناها: أن العقوبة عليها شديدة، وإذا كان هذا في البرزخ المؤقت الذي ينتهي، فيكف يكون في نار جهنم؟ لا شك أنه سيكون أشد، لأن عذاب البرزخ أهون من عذاب النار، في البرزخ يُعرضون على النار عرضاً، لكن إذا قامت القيامة يدخلونها دخولاً؛ ولذلك قال الله تعالى عن قوم فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [غافر:46] هذا عرض يفتح له باب من النار، ويأتيه من سمومها وحميمها، هذا فقط في البرزخ ثم بعد ذلك يوم القيامة: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].(32/12)
عقوبة آكل الربا
وبعد ذلك قال: فأتينا على نهرٍ أحمر مثل الدم -وفي رواية على نهر من دم- ثم فيه سابح يسبح، ثم يأتي ذلك السابح إلى الشاطئ، فيفغر ويفتح فاه، وعلى الشاطئ يوجد رجل معه صخور، فيفتح هذا فاه فيرمي الواقف على الشاطئ الصخرة في فمه، ويفتح فاه مرغماً فيلقمه إياها، هذا المنظر الكريه والمؤلم يسبح بالصخور في نهر الدم، سباحة بصخور عظيمة في البطن في نهر الدم، وتزداد الصخور وكلما زاد الربا والفوائد المركبة زاد العذاب بنسب مركبة، وهذه الصخور تزداد في بطن هذا السابح في نهر الدم وهكذا لازال يثقل، ولازال يسبح في الدم متألماً بهذه الصخور العظيمة المتراكمة جزاءً له، كما كان في الدنيا يأكل الربا، والربا يتضاعف أضعافاً مضاعفة، وهو لا يزال يأكله، وبحسب الربا الذي أكل بحسب العذاب يكون عليه، مثلاً بمثل سواءً بسواء: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].(32/13)
ذكر الرجل الكريه المنظر
ثم ذكر الرجل كريه المرآة -المنظر- كأكره ما أنت راءٍ رجلاً، وعنده نارٌ يحشها، وأخبر أنه مالك خازن النار، هذا الملك يُعذَّب أهل النار بمنظره.
إذاً الملائكة الغلاظ الشداد الذين هم أعوان (مالك) خازن النار، يكون عذاب أهل النار بمنظرهم أيضاً، لأن المنظر المفزع لوحده عذاب ورعب، والرعب عذاب، ولذلك يكون عذاب أهل النار -غير الحرق بالنار- المنظر المفجع والمفزع لملائكة العذاب الذين في النار، وعلى رأسهم مالك خازنها.(32/14)
ذكر الروضة المعتمة
ثم ذكر الروضة المعتمة -أو المعتّمة- وهي: البستان العظيم الشديد الخضرة، حتى أنه كاد يسود من شدة الخضرة، كما قال الله تعالى في وصف الجنتين: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] أي: شديدتا الخضرة، حتى ربما كانتا في اللون كالسوداوين من شدة الخضرة، فالخضرة إذا ازدادت أصبح اللون غامقاً.
فيها من كل زهر ونبت الربيع، أي: من أجمل ما يكون، وبين ظهري الروضة يوجد رجلٌ طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً وحوله ولدان، ثم بيَّن أن هذا إبراهيم الخليل عليه السلام، رآه جميلاً طويلاً وحوله هؤلاء الولدان.
أما أولاد المسلمين فإن البشارة بموتهم لآبائهم أنهم في كفالة إبراهيم وسارة، يكفلانهم لآبائهم وأمهاتهم إلى أن تقوم الساعة، فلو أردت أن تعزي شخصاً في وفاة ولده، فقل له: أيهما أحب إليك: أن يكون ولدك حياً فتكفله أنت أو يكون عند إبراهيم وسارة؟ لأنه قد ثبت في الحديث أن إبراهيم وسارة يكفلان أولاد المسلمين الصغار لآبائهم حتى يعودوا إليهم يوم القيامة، فلاشك أن بقاء الولد في كفالة إبراهيم عليه السلام وزوجته سارة أفضل وأحسن وأعلى بكثير وبما لا يقارن من بقائه في كفالة أبويه في الدنيا، وربما أجرم أبواه في حقه، أما إذا صار في كفالة الخليل وزوجته فإنه يكون في أحسن ما يكون، فهذه من البشرى لمن مات له ولد صغير.
وأمَّا بالنسبة لأولاد المشركين فقد تفاوتت أقوال أهل العلم فيهم، وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فقال: (وأولاد المشركين) وقال في حديث آخر: (الله أعلم بما كانوا عاملين) فيحتمل أنه كان لم يوحَ إليه شيء بشأنهم، فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين) ثم أوحي إليه بشأنهم، وفي رواية حسَّنها بعض أهل العلم: (أنهم خدم أهل الجنة) وقال بعض أهل العلم: أنهم يُمتحنون، وقد ذكر هذه المسألة الكبيرة الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب: شفاء العليل وتوسع فيها، ونحن لا يضرنا ماذا يكون مصيرهم لو لم نعرف ذلك؛ لأن الله عز وجل عادل لا يظلم أحداً، فمن صفاته سبحانه وتعالى العدل، وهو العدل.(32/15)
عقوبة خلط العمل الصالح بالسيئ
قال: (فانتهينا إلى مدينةٍ مبنية بلبن ذهب ولبن فضة) ولاشك أن هذه صفة الجنة، وأنهما أدخلا النبي صلى الله عليه وسلم داراً فيها شيوخ وشباب ونساء وفتيان، وأنه عليه الصلاة والسلام لقي رجالاً شطر من خلقهم حسن وشطر قبيح.
الآن هل نصف هؤلاء الناس حسن ونصفهم قبيح؟ أو أن كل واحد من هذه المجموعة نصفه حسن ونصفه الآخر قبيح؟ اللفظ يحتمل كلا الأمرين، لكن أحدهما يرجحه باقي النص، فما هو الراجح؟ كل شخص نصفه قبيح ونصفه حسن، والذي يدل على هذا التأويل هو أنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فكان الجزاء من جنس العمل، لما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، صار نصفهم قبيحاً ونصفهم حسناً.
فقيل لهم: قعوا في النهر المعترض، الذي يجري بالعرض، كأن ماءه المحض -مثل اللبن الخالص- في البياض، وقيل: يحتمل أن يُراد به الماء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد) فهذا مُنقي ومطهر ومنظف، فيذهب السوء عنهم، ويصبح القبيح كالشطر الحسن، وهذا يدل على عظم رحمة الله، وأن رحمته سبقت غضبه.
فأهل الأعراف الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم مصيرهم في النهاية إلى الجنة؛ لأن رحمة الله تسبق غضبه، لكن هذا الوقوف بين الجنة والنار مفزع بحد ذاته، لا يدري الإنسان إلى أين يتجه به، لذلك قال الله عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].(32/16)
منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وقصره في الجنة
رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام جنة عدن وسما بصره صعداً وارتفع، ثم رفع إلى قصر مثل الربابة، وهي السحابة البيضاء المنفردة دون السحاب، التي ركب بعضها على بعض، شبه القصر بهذا المنظر الجميل جداً، سحابة بيضاء متراكمة بعضها فوق بعض، فهذا قصره صلى الله عليه وسلم.
قال: (ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله) بالتأكيد ستدخله، وفي رواية: (فقلت: دعاني أدخل منزلي، قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، ولو استكملته أتيت منزلك).
ثم أخبر الملكان -وهما جبريل وميكائيل- رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه.(32/17)
فوائد مأخوذة من حديث سمرة
في هذا الحديث خطورة رفض القرآن بعد حفظه، رجل أُوتي القرآن -حفظه- ثم رفضه، وهذه صورة للمرتد والمنتكس والمنقلب على عقبيه والمتولي عن الحق، الذي رزقه الله نعمة عظيمة وهي حفظ كتاب الله عز وجل، ثم هو بعد ذلك أعرض عنها وتركها، وينام عن الصلاة المكتوبة، فالعقوبة على مجموع الأمرين: ترك القراءة وترك العمل، وعلى ترك الصلاة المكتوبة.
وهذا الرجل الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق، ليس رجلاً متأولاً، ولا مكرهاً، لأن الإنسان يجوز له الكذب إذا أكره، فهذا الكاذب ليس بمكره، ولما كان الكاذب يساعد أنفه وعينه لسانه على الكذب في ترويج الباطل، وقعت المشاركة بين هذه الأعضاء في العقوبة.
فإن قيل: الزناة والزواني ما هي مناسبة العذاب لجريمتهم؟ هناك شيء في العذاب يُناسب جريمتهم وهو أن النار تأتيهم من تحتهم، لأن جنايتهم من أعضائهم السفلى.
وآكل الربا الذي يسبح في نهر الدم قيل: إن الدم أحمر وأعظم نقد موجود هو الذهب وهو أحمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض)، فقيل: وجه المشابهة هو أن الربا يقع في النقد وأعظم النقد الذهب، وما يقوم مقامه من العملات الورقية، ويزاد له العذاب إشارة إلى أنه يتخيل أن ماله يزداد لكنه في الحقيقة يزداد عذاباً.
عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر؛ لأن أصل الربا يجري في الذهب، وكذلك الملك يلقمه الحجر وراء الحجر، إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئاً، وكذلك الربا ممحوق ثم العذاب فيه متوالٍ.
ما هي المناسبة في وجود أطفال المسلمين عند إبراهيم عليه السلام؟ لأنه ما من مولود إلا ويولد على الفطرة -التوحيد- وكان إبراهيم الخليل حنيفاً، وقد ابتلاه الله بسنن الفطرة، فإبراهيم الخليل عليه السلام هو أبونا {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68] والولدان الذين حوله هم كل مولود ولد على الفطرة، فلذلك يكونون معه.
وأما بالنسبة لهؤلاء القوم الذين شطر منهم قبيح وشطر منهم حسن، فهذا فيه عظة وعبرة في أن المسلم يحذر أن يخلط عمله الصالح بعمل سيئ؛ لأن فيه نوعاً من العقوبة، وهو تشويه منظرة، وربما يئول بعد ذلك إلى عفو الله عز وجل، لكن بعد ماذا؟! وفي هذا الحديث: أن القصر الذي في الجنة لا يقيم الإنسان فيه إلا إذا مات حتى النبي والشهيد، وأن هناك قصوراً للأنبياء والشهداء والأولياء (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة).
وفي هذا الحديث: الحث على طلب العلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كلما تعرض لموقف عجيب سأل عنه لمعرفة الحقيقة وطلبها والتماسها.
وفي هذا الحديث: فضل الشهداء وأن منازلهم في الجنة أرفع المنازل.
كذلك في هذا الحديث: أن من استوت حسناته وسيئاته فإن الله يتجاوز عنه، ونسأل الله تعالى أن يتجاوز عنا برحمته، إنه هو أرحم الراحمين! ثم في هذا الحديث: أن العقوبات تناسب الجرائم والجنايات، ولما كان الزنا يتم عادة بالخفية فضحهم الله في البرزخ وصاروا عراة، والعاري مفضوح، والزاني من شأنه طلب الخلوة، كما كان يزني في خلوة صار في تنور، وكما كان في خفاء فضح بالعري، ويأتيه النار من أسفل مناسبة لأداة الجريمة.
وقد ذُكر في هذا الحديث أنواع من الجرائم، وهناك أنواع كثيرة من الجرائم لم تذكر، فهذا يغني عما لم يذكر، ثم كل الجرائم الأخرى لها عذاب، لكن لم نخبر عنه.
فعلى كل شخص أن يتعظ ويتذكر بأن الجريمة التي يعملها لها عذاب وإن لم يخبر به، والله تعالى أعلم.(32/18)
الأسئلة(32/19)
المدة التي يعتبر فيها الإجهاض نفاساً
السؤال
إذا أجهضت المرأة بعد شهرين من حملها بسبب موت الجنين، وصار ينزل منها دم، فما هو الحكم؟
الجواب
الجنين يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم يكون بعد ذلك التخليق بعد الثمانين، ولذلك قد ذكر ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في المغني: أن الحامل إذا أسقطت بعد ثمانين يوماً تكون نفساء؛ لأن الجنين تخلق، وبدأ يظهر فيه تخطيط اليد والرأس ونحو ذلك، أما قبل الثمانين يوماً فلم يتخلق بعد.
إذاً بعد الثمانين يوماً إذا أسقطت المرأة تكون نفساء، وقبل ثمانين يوماً تكون مستحاضة، وبناءً على هذا يكون صومها وصلاتها.(32/20)
كيفية قضاء الفوائت من الصلوات
السؤال
رجل نام قبل صلاة الظهر، ولم يستيقظ إلا عند إقامة صلاة العصر، فكيف يصلي هذا الرجل؟
الجواب
هذا الرجل عليه أن يرتب الفوائت، فيصلي الظهر أولاً ثم العصر، ولا حرج عليه أن يُصلي الظهر وراء الإمام الذي يصلي العصر، وتكون صلاته بنية الظهر، وكذلك من فاتته عدة صلوات، كالمستيقظ من عملية جراحية، فيرتب الصلوات بعضها وراء بعض؛ لأن بعض الناس يظن أن الفوائت تقضى مثلاً: الظهر مع الظهر في اليوم التالي، والعصر مع العصر في اليوم التالي، ولكن الصحيح أنها تُقضى متوالية.
فأول ما يستطيع القضاء عليه أن يصلي، ولو كانت كثيرة فإنه يصلي ويرتاح ويصلي ويرتاح، ويصلي الصلوات مرتبة.(32/21)
حكم مسح الوجه بعد الدعاء
السؤال
ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء في صلاة التراويح؟
الجواب
هذا لا أصل له، ولا يجوز لأنه بدعة، أما المسح عموماً بعد الدعاء في خارج الصلاة، فقد وردت فيه أحاديث ضعيفة، بعضهم قال: إنها تصل إلى درجة الحديث الحسن لغيره، كما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.(32/22)
حكم قول: "سيدنا" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
قال شخص في حديثه: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، فأنكر عليه آخر، وقال: الصحيح أن تقول: اللهم صلِّ على محمد، فهل هذا الإنكار صحيح؟
الجواب
هذا يعتمد على مكان ورود هذه العبارة، فإن قال: "اللهم صلِّ على سيدنا محمد" في الصلاة فنقول له: لقد زدت على تشهد النبي عليه الصلاة والسلام وعلى ما علمنا؛ لأنه لم يعلمنا لفظ "سيدنا"، فإذاً نحن لا نقولها في هذا الموطن.
لكن لو قالها الإنسان خارج الصلاة فهذا شيء صحيح، ولا يمكن إنكاره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم).
فإذاً الإنكار في لفظة "سيدنا" إذا كانت في مكان معين بألفاظ معينة وليست هي فيها كأن يتلفظ بها في الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأخير، فإضافتها بدعة، وإلا فيجوز أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أو نقرأ آية الدين ونقول: هذا قرآن فيجوز! فنقول: لا، المسألة ليست أن نقول: هذا كلام صحيح أو غير صحيح؟ ولكن هل ورد هذا الكلام في هذا الحال أو في هذه المناسبة أو لم يرد؟ فلا نبتدع من عندنا ولا نضيف، ولما عطس رجل عند ابن عمر فقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول: صلى الله على محمد، لكن ما هكذا علمنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: الزيادة في الأذكار الواردة المحددة من البدع، أما الكلام العادي المفتوح، كأن يقول خطبة، أو يتكلم كلمة ما ويقول: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، وقال: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا لا بأس به.(32/23)
حكم أخذ إجازة اضطرارية للعمرة
السؤال
هل يجوز أخذ إجازة اضطرارية للعمرة؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن الإجازة الاضطرارية تُعطى في حالات معينة ليست العمرة منها، فمن قدم إجازة اضطرارية لعمرة فمعنى ذلك أنه قد كذب في دعواه.(32/24)
وقت صلاة الضحى
السؤال
أريد أن أجلس في المسجد إلى وقت شروق الشمس لأصلي ركعتين، فما هو وقت صلاة الضحى؟
الجواب
إذا ارتفعت الشمس قدر رمح، أي: بعد الإشراق بعشر دقائق أو ربع ساعة، بحيث تكون الشمس قد ارتفعت.(32/25)
وجود الرقى في الجاهلية
السؤال
هل طلب الكفار للرقية من الصحابة دليل على أن الكفار كانوا يرقون في الجاهلية؟
الجواب
نعم، ولذلك لما طلب عليه الصلاة والسلام أن يعرضوا عليه الرقى، قال: لا بأس بها ما لم يكن فيها شرك، فدَّل ذلك على أنهم كانوا يعرفونها في الجاهلية، ولكن كان فيها شرك.(32/26)
سورة تبارك واقية من عذاب القبر
السؤال
سمعت أن سورة تبارك تدفع عن حافظها عذاب القبر، فهل هذا صحيح؟
الجواب
نعم، تقي صاحبها عذاب القبر، إذا حفظها وراعى معناها، فإنها من أسباب الوقاية من عذاب القبر.(32/27)
حكم النظر إلى العورة بعد انفصالها
السؤال
قرأت عبارة معناها: كل عضو لا يجوز النظر إليه قبل الانفصال لا يجوز النظر إليه بعده.
الجواب
نعم هذه عبارة مشهورة؛ فمثلاً: عملية فيها استئصال موضع في العورة، فقبل الاستئصال والانفصال لا يجوز النظر إليه، فكذلك لو استئصل هذا الموضع فلا يجوز النظر إليه بعد الاستئصال.(32/28)
حكم من جاءتها الدورة وهي صائمة
السؤال
ما حكم المرأة الصائمة إذا جاءتها الدورة في منتصف النهار؟
الجواب
بطل صومها، وهي مأجورة إن شاء الله، وعليها أن تفطر، ولكن إذا أخفت هذا عن أعين أولادها الذين لا يفهمون قضيتها، فهو أولى لكي تكون بعيدة عن التهمة.(32/29)
حكم من ينام عن صلاة الفجر
السؤال
لي أخ ينام قبل الفجر بأقل من ساعة ليقوم إلى عمله الساعة التاسعة، وأحياناً يتسحر ثم ينام، ولا يصلي الفجر، وهو أكبر مني؟
الجواب
لابد أن تنصحه، ومن نصحك له: أن تورد له الأحاديث التي فيها الوعيد لمن أخر الصلاة عن وقتها.(32/30)
الجمادات تصيبها العين
السؤال
هل تعان الجمادات كالسيارة؟
الجواب
نعم تصيبها العين.(32/31)
حكم بيع الماء المقروء عليه
السؤال
هل يجوز بيع الماء المقروء فيه؟
الجواب
قد سألت شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله بعلمه عن هذه المسألة، فقال: لا يجوز بيع الماء المقروء فيه، وقد حصلت أمور كثيرة من السخافات من بعض هؤلاء الذين يدعون الرقية، فيبيعون الماء ويعملونها تجارة، ويقول: هذا بخمسين، وهذا بمائة، وهذا بخمسمائة، لماذا؟ يقول: هذا مقروء فيه مرة، وهذا ثلاث مرات، وهذا مقروء فيه سبع مرات، وهذا مقروء فيه ثلاثين مرة، فكلما زاد عدد المرات زاد السعر حسب الجودة في السلعة، فيبيعون كلام الله، وبعضهم ما عنده وقت لينفث في الماء، فيوكل من ينفث، ولذلك فإن بعض هؤلاء لا يتقون الله، يكون رجلاً فاشلاً فيريد باب رزق يدخل فيه ويخدع عباد الله.
فلا يجوز بيع الماء المرقي فيه، ولا الزيت أيضاً، لكن يباع على أنه ماء، فسعر الماء معروف، ويباع على أنه زيت فسعر الزيت أيضاً معروف، أما أن يرفع سعره لأنه مقروء فيه، فهذا لا يجوز.(32/32)
جواز الاغتسال بالماء المرقي فيه في الحمام
السؤال
هل يجوز الاغتسال بالماء المقروء فيه في الحمام، علماً أنه يختلط مع النجاسات؟
الجواب
نعم، لا بأس بذلك، لأنه ليس للماء المقروء فيه القرآن حكم القرآن، ولا الشريط المسجل عليه القرآن حكم المصحف، ولذلك يجوز للجنب والحائض أن يمسا شريط القرآن، وكذلك يجوز أن يغتسل بالماء المرقي فيه في الحمام ولو كان ماء زمزم.(32/33)
حكم قول: رضي الله عنه للتابعي
السؤال
هل يُقال للتابعي: رضي الله عنه؟
الجواب
نعم، من باب الدعاء، ولكن إذا أردنا أن نخص فنخص الصحابة، لقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100] وهكذا كان العلماء يترضون عن الصحابة.(32/34)
حكم بلع النخامة والنخاعة في الصوم
السؤال
النخامة والنخاعة هل تفطر؟
الجواب
إحداهما: تكون من الأنف فتنزل الحلق، والثانية: تكون في الصدر فتصعد إلى الفم، فلا تبلع لا هذه ولا هذه، لكن إذا بلع شيئاً رغماً عنه فليس عليه شيء.(32/35)
كيفية التعامل مع العائن
السؤال
إذا عُلم أن رجلاً يصيب بالعين، فكيف يتعامل مع هذا الشخص؟
الجواب
الإنسان يحوط نفسه، ويعوذها بالمعوذات والرقى الشرعية (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ثم إن العلماء -رحمهم الله- قد ذكروا في أبواب الفقه في مسائل السجن من عرف أنه دائماً يصيب بالعين، فإن على الإمام أو الحاكم أن يحبسه في بيته ويمنعه من الخروج، ويرتب له من بيت المال رزقاً يجرى عليه ليكفي المسلمين شره.(32/36)
المرأة البحرية
ضمن سلسلة قصص الصحابة في عهد النبوة يذكر الشيخ هذه المرة قصة عظيمة لامرأة عظيمة من فضليات الصحابيات، وهي أسماء بنت عميس، المهاجرة إلى الحبشة، ذاكراً حوارها مع عمر بن الخطاب، مبيناً ما تضمنته هذه القصة من فوائد تربوية ودعوية مهمة.(33/1)
من فضائل الصحابة(33/2)
صبرهم وتضحياتهم في سبيل الدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلا زلنا -أيها الإخوة- في هذه السلسلة من قصص الصحابة في عهد النبوة؛ نسترشد بسيرتهم، ونطيب أنفسنا بذكرهم وأخبارهم، ونستفيد دروساً عظيمةً من الأحداث والمواقف التي مرت بهم.
أولئك القوم الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أبر الأمة، وأطهر الأمة، وأفقه الأمة، وأعبد الأمة لله عز وجل، أولئك الذين نزل الوحي بينهم، وهم الذين عقلوه ولم يعقل الوحي أحدٌ مثلهم رضوان الله تعالى عليهم، إنهم القوم الذين نستفيد منهم مواقف في العقيدة، مما تحملوه في سبيل الله، وجاهدوا به أعداء الله.
إن واحداً منهم صدع بالقرآن في وجه الكفار فضربوه وآذوه، ولكنه استمر يقرأ القرآن عليهم.
وآخر ينطق بالشهادتين، فيضربونه حتى يسيل منه الدم، فيصير كهيئة النصب الأحمر من كثرة ما سال من دمائه حتى يقع مغشياً عليه.
إنهم ضربوا لنا أمثلة رائعة في الصبر، وكان يقذف بالواحد منهم على الرمال الحارة، وتوضع الصخرة على صدره فلا ينطق إلا بصفة من صفات الله التي تدل على وحدانيته، ورفض الشرك وعبادة الأوثان، وإن الواحد منهم كان يطرح على أسياخ الحديد المحماة، فلا يطفئها إلا الشحم الذي يسيل من ظهره عليها.
وكان الواحد منهم يؤذى ويضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة الضرب، إنهم الذين ضربوا لنا المُثُلَ في التحمل والصبر على الجوع في سبيل الله، فحوصروا حتى لم يعد الواحد منهم يجد شيئاً يأكله، فيبول فيرتد رشاش بوله من شيء في الأرض، فيأخذه فإذا هو جلد بعيرٍ قد فني منذ مدة وبقي هذا الأثر، يأخذه ليغسله؛ فينقعه ويقتاته أياماً.
ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم وبلال من شيء يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال، وكان للواحد تمرة واحدة في اليوم يقتاتها وهم غزاةٌ في سبيل الله، ينقعونها في الماء يشربونه ويمصها الواحد منهم كما يمص الطفل ثدي أمه، اشتكوا من القلة إلى الله عز وجل لا إلى خلقه، وصبروا على العيلة والمسكنة، حتى جعل الواحد منهم من قلة الطعام يضغو كما تضغو الشاة، أي كالبعر الصغير تضعه الشاة، فكان الواحد من الصحابة إذا قضى حاجته لا يخرج منه إلا مثل ذلك، لأنهم لم يجدوا شيئاً يأكلونه، حتى ربطوا الحجارة المسطحة بمقدار الكف على بطونهم ليعتدل ظهر الواحد منهم؛ لأن الجوع احناه، ويبرد الحجر حرارة الجوع، ولأن ضغط الحجر على المعدة يؤدي إلى تقليل الإحساس بألم الجوع.(33/3)
كثرة تعبدهم وحرصهم على نشر الإسلام
وقد تعلمنا منهم دروساً في قيامهم بالليل بالقرآن، كالقراء الذين كانوا يصومون بالنهار ويقومون بالليل يقرءون القرآن، حتى مات وقتل عددٌ منهم في سبيل الله، كالسبعين الذي قتلوا في بئر معونة رضي الله عنهم، وكان أبو موسى الأشعري يقوم الليل بالقرآن، فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما أوتي مزماراً من مزامير آل داود؛ والمزمار هو: الصوت الحسن الجميل، وكان عليه الصلاة والسلام يعرف صوت الأشعريين بالليل في قراءة القرآن.
فهم الذين تعلمنا منهم الدروس في تلاوة القرآن، وتحسين الصوت به، والقيام به آناء الليل، وصيام النهار، رضوان الله تعالى عليهم.
وهم الذين تعلمنا منهم الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل، وكيف أن مصعب بن عمير وعبد الله ابن أم مكتوم ذهبا إلى المدينة ليسلم على أيديهما رؤساء الأوس والخزرج، ويفتح مصعب المدينة بالقرآن، ويمهدها للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم تفتح المدينة بالسيف، إنما فتحت بالقرآن، إنه القرآن الذي يقرأه الدعاة أمثال مصعب وابن أم مكتوم المرسلين من مكة.(33/4)
حراسة الدين ونقله إلى من بعدهم من المسلمين
وقد تعلمنا منهم مقاومة المنافقين، والكشف عن دسائسهم، حتى كان الغلام منهم يتلقط الأخبار ليأتي بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وينزل الله آياتٍ تنبئ عن وفاء أذن هذا الغلام وصدقه، فكانوا صغاراً وكباراً جنوداً للدعوة، حراساً للعقيدة، أمناء على الدين، نقلة لأخبار المنافقين لكي يحذر منهم المؤمنون.
تعلمنا منهم دروساً في مواجهة أعداء الله من اليهود والمشركين، وكيف كانوا يحرسون الخندق بعدما حفروه بأيديهم، ولم يستطع الكفار اقتحام المدينة، ولم يستطع اليهود أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته شيئاً تمنوه، أو أرادوا بلوغه فبلغوه، لأن الصحابة كانوا يحرسون كل ذلك.
وتعلمنا من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم التواضع، تعلمنا منهم العفو، تعلمنا منهم الوقوف عند كتاب الله تعالى، تعلمنا منهم الجرأة في الحق، تعلمنا منهم الأمانة في نقل العلم، والحرص على حفظ الحديث وتأديته، فكم لـ أبي هريرة من الأجر، وأحاديثه في الصحاح والمسانيد والأجزاء الحديثية؛ تتلى وتقرأ في الدروس والخطب والمساجد، وتتناقل، هو الذي نقلها عن النبي عليه الصلاة والسلام، فله مثل أجر ذلك، وكذلك بقية المكثرين من الرواة كـ عائشة، وأنس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عن الجميع.(33/5)
حديث المرأة البحرية
ونحن في هذه الليلة مع قصة من القصص التي حدثت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يرويها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: (بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بـ اليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة، والآخر أبو رهم -في بضع وخمسين رجلاً من قومه- فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي في الحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، وكان أناس من الناس يقولون لنا -لأهل السفينة-: سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: آلحبشية هذه، البحرية هذه -التي ركبت البحر-؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البضغاء بـ الحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأساله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلتِ له؟ قالت: قلت له كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح، ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم) قال أبو بردة: [فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث منها].
هذا الحديث متفق على صحته؛ رواه الإمامان أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى، والإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري في صحيحيهما.(33/6)
أهل اليمن خير من يستجيب لدين الحق
يقول أبو موسى الأشعري: (بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن بـ اليمن) يمكن أن يكون المخرج البعثة، ويمكن أن يكون الهجرة، بلغتهم الدعوة فأسلموا وأقاموا ببلاد اليمن، وأهل اليمن سباقون إلى الخيرات، أقاموا ببلادهم إلى أن عرفوا أن الهجرة واجبة، وأنه لا بد من الهجرة، فعزموا عليها، لكن الذي أخرهم إما عدم بلوغ الخبر إليهم، أو عدم علمهم بما كان المسلمون فيه من المحاربة مع الكفار، لم يكن هناك وسائل اتصال في القديم مثل الآن لتعرف الأخبار أول ما تقع، فربما يمكث الواحد شهوراً لا يعرف ماذا يحدث في المكان الآخر، فلما بلغتهم المهادنة طلبوا الوصول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وربما أنهم مروا بـ مكة في حال مجيئهم إلى المدينة، ويجوز أن يكون هذا المرور في وقت الهدنة بين النبي عليه الصلاة والسلام وكفار قريش.
يقول أبو موسى: (أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة -واسمه عامر - وأبو رهم -الثاني واسمه مجديّ بالياء المشددة-) وهؤلاء من الأشعريين من أهل اليمن، وقد صارت هذه الكلمة تطلق بعد ذلك على الأشعريين، وهم غير الأشاعرة، أما الأشاعرة فلهم منهج في العقيدة ليس سوياً ولا مستقيماً، وفيه انحراف عن جادة السلف في الأسماء والصفات، وبعض القضايا الأخرى المتعلقة بالإيمان والقضاء والقدر ونحو ذلك من قضايا العقيدة.
أما الأشعريون فهم قوم من اليمن منهم أبو موسى الأشعري، معه أخوان له، ومعهم ثلاثة وخمسون أو اثنان وخمسون رجلاً من قومهم.
ويقول: فوافقنا جعفر بن أبي طالب أي: اتجهت السفينة من اليمن عن طريق البحر إلى الحبشة، ووافقوا جعفر بن أبي طالب في الحبشة، لأن جعفر بن أبي طالب خرج مع بعض المسلمين مهاجراً من مكة إلى الحبشة لما اشتد عليهم أذى قريش، وقاموا بما يستطيعون من الدعوة هناك، والمحافظة على هذه المجموعة التي ذهبت إلى هناك حتى رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد خيبر.
فالتقى أبو موسى ومن معه بـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ومجموعة المسلمين هناك، وأقاموا معهم حتى هاجروا جميعاً مع جعفراً إلى المدينة، وقد جاء في رواية أن جعفر قال لهم: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا] فـ جعفر بن أبي طالب كان مقيماً في الحبشة بناءً على أوامر من النبي عليه الصلاة والسلام، ولما قدموا المدينة كان مع جعفر بن أبي طالب زوجته أسماء بنت عميس، ومن اليمنيين أبو موسى وجماعته، وجاء خالد بن سعيد بن العاص وامرأته، وأخوه عمر بن سعيد ومعيقيب بن أبي فاطمة.(33/7)
أسماء بنت عميس تستخرج شهادة بالهجرتين
قال: [فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر مباشرة] وغنائم خيبر كانت فتحاً عظيماً للمسلمين وفكت ضائقة اقتصادية شديدة كانت نازلة بالمسلمين، ومعروف أن الغنائم توزع على من قاتل في المعركة، لكن نظراً للدور العظيم الذي قام به جعفر بن أبي طالب في الحفاظ على هذه المجموعة الإسلامية في الحبشة، وقيامهم بالدعوة هناك، وحكمتهم في دعوة النجاشي، وما حصل من وجود قاعدة إسلامية خلفية احتياطية، رديفة للقاعدة التي كانت موجودة في مكة، بحيث لو ضرب المسلمون في مكة فلا تزال مجموعة في الحبشة باقية، فنظراً لهذا الدور العظيم أشرك النبي هؤلاء المهاجرين في غنائم خيبر؛ مع أنهم ما شهدوا فتح خيبر، ولذلك جاء في رواية في البخاري: [فأسهم لنا ولم يسهم لأحدٍ غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهدها معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، فإنه قسم لهم معهم].
وكان أناس في المدينة يتباهون أنهم الذين هاجروا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم حازوا قصب السبق، وأنهم أفضل، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فالذي حصل أن أسماء بنت عميس، وهي زوجة جعفر، دخلت على حفصة بنت عمر، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عمر على بنته يزورها، فوجد أسماء، قال عمر: من هذه المرأة التي عندك؟ فقالت: هذه فلانة، قال: ألحبشية هذه، أو ألبحرية هذه؟ أو البحيرية بالتصغير أما الحبشية، فنسبة لأنها كانت ساكنة في الحبشة، وأما البحرية لركوبها البحر، ثم ذكر عمر أنهم أولى بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم سبقوا بالهجرة، فقالت أسماء بنت عميس: كلا والله وأنتم كنتم عند النبي عليه الصلاة والسلام ينفق عليكم ويعلمكم، ونحن كنا صابرين على اللأواء والشدة في دار البعداء البغضاء، جمع بعيد بغيض: البعداء والبغضاء، لأن ذلك كان بلد نصارى، وإذا كان النجاشي أسلم، ومعه قلة قليلة جداً، فالبقية على دين النصارى، لم يسلم قوم النجاشي، لكنه أسلم رحمه الله، وبقي ملكاً عليهم مطاعاً فيهم، وحصل انشقاق ومعركة، وانتصر النجاشي ومن معه على الجناح المنشق الذي خرج عليه في قصة حضرها الصحابة من بعد، وأرسلوا من يأتي بالخبر سباحة ورجع إليهم، وبالتأكيد أنهم كانوا يدعون الله للنجاشي أن ينتصر، وأن دعوات الصحابة واكبت النجاشي في نصره على من خرج عليه.
فقالت: -ولعمري لقد صدقت- كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا البعداء والفرداء، قالت بهذه الرواية: نحن كنا هناك صابرين وذلك في الله وفي رسول الله.
وايم الله: وايم اختصار لأيمن الله من اليمين، حلفت أن تخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما قال عمر، وأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام بعدما جاء، فأخبرها أنه ليس عمر أولى بي منكم، وأخبرها أن للذين هاجروا من مكة إلى المدينة هجرة واحدة، بينما لهؤلاء هجرتان؛ هجرة إلى النجاشي وهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبإسناد صحيح للشعبي، قال: قالت أسماء بنت عميس: (يا رسول الله! إن رجالاً يفخرون علينا ويزعمون أنا لسنا من المهاجرين الأولين).
لأن الله مدح المهاجرين الأولين، فقال عمر: (نحن المهاجرون الأولون أي: وأنتم رتبة ثانية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أنتم لكم هجرتان) أي: هاجرتم إلى أرض الحبشة ثم هاجرتم بعد ذلك إلى المدينة.
وفي رواية قال: (للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان) قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك والصحابة أحرص شيء على الأجر، وهذا شرف عظيم جداً؛ فحصل هناك بين هؤلاء المهاجرين انتعاش وفخر، وفرح وسرور بالغ لا يوصف، حتى أن أهل السفينة جاءوا أفواجاً وأرسالاً، سمعوا أن أسماء بنت عميس أخذت تزكية من النبي عليه الصلاة والسلام أن لهم هجرتين، فجاءوا يسألون أسماء فوجاً بعد فوج؛ لأنهم كانوا يحتسبون الأجر، يريدون أن يسمعوا هذه الكلمة.
حتى أبو موسى وهو من كبار رواة الحديث، يأتي بنفسه لـ أسماء بنت عميس يقول: أسمعيني أسمعيني، يطلب منها أن تعيد له الحديث مرة أخرى فرحاً به.(33/8)
الدروس المستفادة من حديث المرأة البحرية
هذه القصة فيها فوائد متعددة نذكرها فيما يلي:(33/9)
وفاء اليمنيين وثباتهم على الدين
فمن فوائد هذه القصة أن الإنسان المسلم يبقى وفياً لإسلامه ولو كان في أرضٍ بعيدة، فلقد بقي المسلمون في اليمن فترة من الزمن وأخبار المسلمين عنهم منقطعة، لكن انقطاع الأخبار لا يعني انتكاساً ولا ردةً ولا تغيير موقف، بل ثبات على الدين، نعم وصول ما استجد من وحي وما نزل من سور في مكة، أو الأخبار من النبي عليه الصلاة والسلام لا شك أن ذلك يزيد الإيمان، لكن لو ما وصلت فهم على العهد باقون، وعلى الدين ثابتون، لأنهم أناس مؤمنون دخلوا في دين الله لا لشخص، وهم مستمرون على عقيدتهم وعلى دينهم يعبدون الله بما وصلهم، وبحسب ما عندهم من العلم، وهكذا الإنسان لو ذهب إلى بلدٍ بعيدة.(33/10)
الثبات على الدين في بلاد الغربة
ودرس آخر نستفيده من وجود المسلمين في الحبشة، وهو لو أن أحداً ذهب إلى أمريكا أو أوروبا أو بلاد المشرق في أقصى الأرض وهو مسلم، فهو لا يزال على صلاته يؤديها في أوقاتها بالطهارة والخشوع، ولا زال معه مصحفه يقرأ فيه، ولا زال مع العلم الذي تعلمه، ولا زال يذكر الله كثيراً، ولازال يدعو الله، وهكذا لا يزال مع إخوانه المسلمين قدر الإمكان.
إذاً: فالثبات على الدين حتى في بلاد الغربة درس عظيم يستفاد من هذه القصة.(33/11)
التضحية لأجل الدين والعمل وفق مصلحته
كذلك أن التحرك لأجل الدين ينبغي أن يكون نابعاً من مصلحة الدين لا مصلحة الأشخاص، هؤلاء الناس بقاؤهم في بلدهم في اليمن من ناحية الدنيا أحسن، فقد تكون لهم مزارع، وعندهم عقار، وبيوت وأهل وقبيلة، بلاد اليمن بلاد خير عظيم لا تقارن بما كان عليه المسلمون من الشدة، ومع ذلك تركوا بلادهم مهاجرين.
إن ترك البلد التي فيها خير ونعيم لأجل الله ليست مسألة سهلة؛ فأن يترك الإنسان بيته ويذهب إلى مكان بدون بيت، ويترك زرعه وثمره يذهب إلى مكان لا يجد فيه ثماراً ولا يجد فيه إلا أشياء يسيرة يعد تضحية جسيمة، أين اليمن بخيراتها في ذلك الوقت مما كان يوجد في المدينة مثلاً؟ خيرات اليمن أكثر بكثير، ولذلك فإن ترك هؤلاء بلدهم لله ثمنه عظيم، وقدره كبير عند الله سبحانه وتعالى، فبعض الناس قد يترك بلده وفيها فقر؛ لكن الذي حصل هنا عكس ذلك؛ فإنهم تركوا بلد الخيرات الدنيوية لأجل خير الآخرة.(33/12)
المخاطرة لأجل الدين
كذلك في هذا الحديث: المخاطرة لأجل الدين، فركوب البحر خطر عظيم؛ خاصة أن القوارب أو السفن كانت بدائية في ذلك الوقت، واحتمال هيجان الأمواج في البحر كبير، وحصل لعدد من العلماء من اليمن إلى جدة رحلات بحرية ذكروها وذكروا الأخطار التي فيها، حتى ذكر الشيخ صديق حسن خان رحمه الله رحلةً بحرية من اليمن إلى جدة لأجل الحج، وذكر ما حصل من تلاطم الأمواج بالسفينة التي كانوا فيها حتى أوشكت على الغرق، ورأى بعض الناس في خضم هذه الأهوال بدلاً من أن يقولوا: يا الله أنقذنا، كل واحد منهم جعل ينادي الولي الذي يفزع إليه في وقت الشدة، يا عيدروس المدد المدد، يا بدوي المدد المدد، يا جيلاني المدد المدد، يا شاذلي أدركنا وهكذا، حتى أن أحد الموحدين قال: اللهم أغرق أغرق فما بقي أحدٌ يعرفك! كل واحد فزع إلى ولي وإلى بشر، وتركوا الله، ولذلك فإن مشركي عصرنا أسوء من مشركي قريش، أولئك إذا ركبوا في الفلك واضطربت الأمواج دعوا الله مخلصين له الدين، وهؤلاء لما ركبوا في الفلك واضطربت بهم الأمواج قالوا: يا فلان يا فلان، وتركوا الله عز وجل.
فركوب البحر إذاً خطير، ومع ذلك ركبوا البحر مع كون الوسائل بدائية، ركبوه لله وفي سبيل الله، فالإنسان في سبيل الدين يخاطر، لكن عندما تكون المصلحة متحققة، فإنه قد صدرت أوامر إلى المسلمين بالهجرة.
وركب المسلمون البحر للجهاد، والغازي في البحر أعظم من الغازي في البر، لأن الغزو في البحر فيه خطورة، وأجره أكثر، وقد طلبت إحدى النساء المسلمات من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعو لها أن تكون شهيدة في البحر، وقد كان ذلك فعلاً في غزوة في البحر رضي الله تعالى عنها، بايعت النبي عليه الصلاة والسلام واستشهدت، واستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام يضحك، ورأى قوماً من أمته كالملوك على الأسرة يركبون ثبج البحر للجهاد في سبيل الله، هذه الجزر الموجودة كجزيرة قبرص وغيرها من الجزر فتحها المسلمون وعبروا منها إلى الأندلس، ركبوا البحر في سبيل الله وتفوقوا وانتصروا على الكفار.
فإذاً ركوب البحر على المخاطرة التي فيه أجره أعظم ولا شك.(33/13)
جواز تحدث المرء وفخره بنعمة الله ما لم يكن عجباً
كذلك من فوائد هذا الحديث أنه يحق للإنسان أن يفتخر بالمزية الشرعية؛ ما لم يكن في ذلك كبرٌ أو عجب، بشرط أن يكون هذا الافتخار صحيحاً، أي: أن تكون له ميزة صحيحة، وأن ذلك من التحدث بنعمة الله ومن الفرح بثواب الله عز وجل.(33/14)
انتقاء المكان المناسب للفرار بالدين
وكذلك في هذا الحديث: انتقاء المكان المناسب للفرار بالدين، فإن النبي عليه الصلاة والسلام وجه أصحابه إلى الحبشة وقال: (إن فيها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد).
والنجاشي كان عند ظن النبي عليه الصلاة والسلام، فحماهم وحافظ عليهم وأكرمهم، وأسلم، ولكن قيل إنه كان متكتماً على إسلامه عن قومه، كان يخشى لو أظهر إسلامه أن يخرجوا عليه، بل قد خرجوا عليه، ولكن الله نصره بمن معه على من انشق عنه وخرج عليه، لكن قال بعض أهل العلم كـ النووي رحمه الله: إن النجاشي كان مستسراً بإسلامه عن قومه.
والعبرة أن الأسباب التي أدت إلى اختيار الحبشة هي وجود ذلك الحاكم الذي يعدل ولا يظلم، وهكذا حصل وجود قاعدة مهمة للمسلمين في ذلك المكان.(33/15)
أن المسلم كالغيث أينما وقع نفع
ولم يقصر الصحابة في الدعوة في بلاد الغربة، وهذه فائدة أخرى، أن الإنسان إذا ذهب إلى بلد غربة وإن كان ضعيفاً، أو كان علمه قليلاً، وقد لا يجد مدداً من إخوانه، والعلماء والمشايخ ونحو ذلك، لكن هل يمنعه ذلك من الدعوة؟ بعض الناس إذا ذهب إلى الخارج انكفأ على نفسه وانزوى، وشعر بالوحشة والغربة فلا يفعل شيئاً للدين، لكن هؤلاء الصحابة لما هاجروا إلى الحبشة مع أنها أرض بعداء وبغضاء وكفارٍ نصارى، لكن اشتغلوا بالدعوة؛ واشتغلوا مع رأس الهرم، ومع القمة، ومع الأحبار والرهبان والقساوسة الذين كانوا مع النجاشي؛ يدعون إلى الله، يعبدون الله في تلك الأرض.(33/16)
على المسلم المضطهد أن يهاجر
ففيه أن الإنسان إذا ضيق عليه في دينه فعليه ألا يبقى في مكان لا يستطيع أن يقيم فيه شعائر الدين، وهذه مسألة مهمة جداً، أن إذا وجد الإنسان بأرض لا يستطيع أن يجهر فيها أو يظهر شعائر الدين؛ فلا صلاة ولا أذان، فلينتقل عنها: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] فالمرء غير معذور بالإقامة في بلد لا يستطيع أن يصلي فيها أو لا يستطيع أن يقيم شعائر الإسلام فيها، فعند ذلك يتركها إلى بلد آخر أرحم وأرحب: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] مراغماً يعني: يرغم أنوف الذين أخرجوه، فإن إظهار شعائر الدين مسألة مهمة؛ فهي حياة للدين، ونشر له، وإقامة لشعائره كالأذان، وإقامة الصلاة، وحتى صلاة العيدين، وعلى الأقليات الإسلامية في الخارج ألا يصلوا العيد في أماكن مغلقة، بل يخرجوا إلى الصحراء، وتخرج معهم النساء والحيض وذوات الخدور ليشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويكون بذلك إظهار الدين، لأن إظهار الدين يلفت الأنظار، وفعل ذلك أبو بكر الصديق، فإنه ابتنى مسجداً بفناء داره، فجعل يقرأ القرآن والناس في الشارع يمرون، فجعل أبناء المشركين ونساؤهم يتجمعون للسماع؛ لأن إعلان صوت الحق مهم في الدعوة، بل كيف يعرف الكافر أن هنا ديناً وإسلاماً إذا لم تعلن الشعائر؟ ولذلك إذا تعذر إقامة الشعائر في بلد فعلى المرء أن يهاجر وأرض الله واسعة رحيبة: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] فإذا خرج إلى أرض أخرى، أرغم أنوف الذين ضيقوا عليه في ذلك البلد، حتى يتمنوا لو قتل بل ربما يندمون على إخراجه، فيقولون: ذهب من بين أيدينا.
ثم قد يلاحقونه ويطالبون به، ويريدون بأي طريقة إعادته من الغيظ الذي أصابهم حين انفلت من بين أيديهم، والله عز وجل قد تكفل بالعون لمن هاجر في سبيله، وأن يغنيه وينصره ويحميه ويحفظه، والذي يبقى تحت حكم الكفار غير معلن للدين حتى يموت أو يموت دينه، تقول له الملائكة عند الوفاة: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] لماذا لم تهاجروا؟(33/17)
اختلاف أوضاع المسلمين والأجر على قدر الصبر
وكذلك من دروس هذه القصة: أن حال بعض المسلمين أهون من بعض، وبعض المسلمين حالهم أشد من بعض، فلما قارنت أسماء بنت عميس وضعها الذي كانت فيه هي والمسلمين في الحبشة، مع وضع عمر بن الخطاب والمسلمين في المدينة، قالت: [معكم رسول الله يطعم جائعكم] مما يأتي من الصدقات والغنائم [ويعظ جاهلكم] أي: وعندكم مصدر العلم، وكنا صابرين في دار البعداء والبغضاء، فصَبْرُنا أعظم وأشد، فالآن لو قارنت أوضاع المسلمين في العالم لوجدتها تختلف في الشدة واليسر، ومادام كل واحد في مكانه يؤدي دوراً، فالثواب على قدر النصب، فنحن هنا عندنا أموال وخيرات، وعندنا أثاث ومتاع، وعندنا بيوت وسيارات، وفي بعض البلدان لا يوجد ذلك أبداً، بل هم حفاة عراة، بل لا بيوت لهم ولا سيارات، ما وجد بعض المسلمين في الصومال إلا الأشجار يتسلق عليها من الفيضانات، ويتعلقون بأغصانها، وإذا سقط الولد انتهى، لأنه موضوع على نصف الشجرة، والمياه عميقة، ولا يمكن لوالديه أن يرداه وإلا غرقا معه، فلا يقارن وضع هؤلاء بوضعنا في بيوتنا، وفي عمائرنا، وشققنا، وفللنا، ولا صبرهم على اللأواء والشدة بصبرنا نحن؟ وكذلك من أراد منا أن يذهب إلى درس في المسجد حرك السيارة بسرعة ووصل، لكن في بلدان أخرى لا توجد معهم سيارات، والحافلات مزدحمة فلا يصل إلا بعد ساعة أو ساعات، إذاً الأوضاع ليست سواء.
وحتى بالنسبة للطعام واللباس، أحياناً الواحد يقول: كنت مرة قد أعطيت بعض الإخوان كتاب (أربعون نصيحة لإصلاح البيوت) كتيب صغير، قلت: هذا خذوه معكم إلى تلك البلاد ووزعوه، قالوا: لا توجد بيوت حتى تصلح، الناس في البراري والقفار، لا يوجد مكان يعيش فيه هؤلاء، ثم تقول: اجعل مكتبة صوتية في بيتك فيقول: لا يوجد مسجلات أصلاً ولا أشرطة وضع مأساوي! إذاً نحن قد نتكلم أحياناً في الدعوة، ونتكلم على مستوى الإمكاناتُ فيه موجودة ومتوفرة، لكن بعض المسلمين ما عندهم إمكانات مطلقاً.
وتقول مثلاً: وطالب العلم إذا ما وجد شيخاً فليسمع أشرطة المشايخ، يقول: لكن ليس عندهم مسجلات أصلاً حتى يسمعوا أشرطة مشايخ، فلما قالت أسماء: أنتم مع النبي عليه الصلاة والسلام يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، ونحن في أرض البعداء والبغضاء، الإمكانات إذاً في بلاد المسلمين تختلف، ولما صبرت أسماء بنت عميس ومن معها حازوا هجرتين بسبب صبرهم والشدة التي عانوها.
فإذاً كل مسلم يصبر في المكان الذي هو فيه حسبما تقتضيه المصلحة الشرعية، وأجره يكون على حسب صبره، وربما يكون لبعض المسلمين من الأجر أكثر بكثيرٍ مما لنا نحن؛ لأن الإمكانات لدينا متوفرة؛ من خيرات وأموال وأوضاع مادية جيدة، وألوان من الطعام والأثاث ونحو ذلك.(33/18)
الرجوع إلى أهل العلم عند الاختلاف
كذلك من دروس هذه القصة: أنه إذا حصل خلاف علمي فالمرجع إلى أهل العلم، فالآن حصل خلاف علمي بين أسماء بنت عميس وعمر بن الخطاب، في أي الفريقين خيرٌ وأفضل، فقال عمر: نحن هاجرنا مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم ذهبتم إلى الحبشة، فنحن أولى به، فتقول أسماء: وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمرجع للخلاف لأهل العلم.(33/19)
الأمانة في النقل
درسٌ آخر: الأمانة في نقل الخلاف والسؤال، ومع الأسف أنه إذا وقع اليوم خلاف في مسألة علمية، فكل واحد ينقلها إلى الشيخ بطريقة تختلف عن الآخر، وتجد تحريفاً حسب هوى الشخص، فتقول أسماء رضي الله عنها: [وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه] سأنقل الحوار بالضبط كما حصل، وأسأله عن رأيه فيه لا أزيد ولا أزيغ ولا أكذب، وهكذا حصل وسألت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: [يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا].(33/20)
على المفتي أن يتثبت ويستوفي السؤال
وهنا درس للمفتي: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (فما قلت له؟) يريد أن يعرف أيضاً ماذا قالت هي، وما هو رأيها فيه أيضاً، قالت: [قلت له: كذا وكذا] وذلك لاستطلاع رأي الطرف الآخر واكتشاف الأشخاص والفهم الموجود لديهم.
وكذلك في هذا الحديث: الفيصل الذي يخرج من كلام العالم ليحسم الخلاف، لأن بعض الناس يقولون: نرجع للعالم، ثم يختلفون بعد ذلك، فبعضهم يفسر كلامه، ويقول: لعله ما فهم، أو لعلك ما فهمت الشيخ، نعم قد يكون هناك تقصير في الشرح، ولكن بعض الناس يرفض الفتوى لأنها تخالف هواه، فيقول: لا، وربما أنك ما سألته بشكل سليم، وما شرحت القضية كما حصلت، فهناك شجار وخصومات، وأحياناً تكون الفتوى مكتوبة مطبوعة ومع ذلك يقولون: لا.
وفيها كذا وكذا، أما هنا فكلام النبي صلى الله عليه وسلم فصل في القضية، ولا أحد يعترض ويورد الإيرادات {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].(33/21)
فرح الصحابة بما يقربهم من الله
كذلك من دروس هذه القصة: فرح الصحابة رضوان الله عليهم بخبر الأجر والمنزلة التي لهم عند الله، (وهذه عاجل بشرى المؤمن) ولذلك من شدة فرح أهل السفينة أن جاءوا أفواجاً يسألون ويستعيدون الحديث من أسماء.
ودرس في تواضع أبي موسى الأشعري فما قال: أنا أفقه من أسماء، وأنا رجل وهي امرأة؛ فأرسل إليها ولدي الصغير ليأتيني بالكلام.
لا ذهب هو بنفسه: [فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني] ولقد عبرت عن الفرح بتلك الكلمات: [ما من الدنيا شيءٌ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم].(33/22)
إشراك الأقرباء فيما فيه خير
وكذلك في هذا الحديث: أن الإنسان يشرك أهل بيته في الأجر، فلقد خرج أبو موسى وأخواه، أبو رهم، وأبو بردة، والله تعالى إذا أراد لأهل بيت خيراً جعلهم شركاء في الدعوة، شركاء في طلب العلم، شركاء في الخير، يحضرون مجالس الخير، ثلاثة إخوة خرجوا من بيت واحد مهاجرين إلى الله ورسوله، فالإنسان عليه أن يحرص على إشراك إخوته، وأولى الناس الأشقاء، كانت منة موسى على هارون عظيمة لما طلب من الله أن يجعله نبياً معه حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32] وصار نبياً مع موسى.(33/23)
التقيد بالأوامر والتعليمات
وكذلك في هذا الحديث: أن على الإنسان أن يتقيد بالتعليمات التي جاءته في الله وفي سبيل الله من أهل العلم، فإن جعفراً رضي الله عنه قال لـ أبي موسى ومن معه: [أقيموا معنا] أي: فإن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل إلينا أن نجلس هنا فنقيم، فأنتم أيضاً أقيموا معنا، وهذا ما حصل، فالتزموا بذلك، وكان جعفر رضي الله عنه سيداً حكيماً جليلاً، وهو الذي قاد دفة المسلمين، وكان رباناً ماهراً في بحار بلاد الكفر في الحبشة، وكانوا جرآء في الحق، ولعل جرأتهم كانت سبباً في هداية النجاشي رحمه الله تعالى، فقد أجمعوا أن يقولوا الصدق، وما يعتقدونه حقاً في عيسى ومريم.(33/24)
إكرام أهل السبق
وكذلك في هذا الحديث: إكرام أهل السبق، فمع أنهم ما حضروا المعركة لكن النبي عليه الصلاة والسلام أشركهم، اعترافاً لأهل الفضل بفضلهم، والمواقف تقدر، ومن لم يقدر المواقف خسر الأشخاص، فالنبي عليه الصلاة والسلام أكرمهم وجعلهم مع أهل الغنائم، مع أنهم لم يشتركوا في المعركة؛ لِمَا صبروا، ولحاجتهم رضوان الله تعالى عليهم.
هذه طائفة من الدروس التي اشتملت عليها القصة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يحب الصحابة، ويقتدي بهم، ويهتدي بهديهم رضي الله تعالى عنهم.(33/25)
فوائد لغوية في ألفاظ حديثية
كلمة (درك) بسكون الراء، أعوذ بك من درك الشقاء، قال في النهاية في غريب الحديث والأثر لـ ابن الأثير، الدرك: اللحاق والوصول إلى الشيء، تقول: أدركته إدراكاً، ودركاً المصدر، وأما الحديث" درك الشقاء" فإنه يستعيذ بالله أن يدركه الشقاء أي: يلحق به.
قال صاحب اللسان في الحديث: نعوذ بك من درك الشقاء، الدرك: اللحاق والوصول إلى الشيء تقول: أدركته إدراكاً ودركاً، والإدراك اللحوق، يقال: مشيت حتى أدركته، وعشت حتى أدركت زمانه.
قال ابن الأثير: في حاء وباء: رب تقبل توبتي واغسل حوبتي، حَوبتي أو حُوبتي، أي: إثمي، ومنه الحديث: اغفر لنا حَوبنا أو حُوبنا، أي: إثمنا، تفتح الحاء وتضم.
والحمد لله؛ كل الآراء صحيحة في هذا، ومنه حديث الدعاء: إليك أرفع حَوبتي أو حُوبتي، أي: حاجتي.
وهذا في نهاية غريب أثر الحديث، قال ابن الجوزي قوله: اغسل حوبتي، أي: إثمي، ومثله: الربا سبعون حوباً، أي: سبعون ضرباً من الإثم، وفيه لغتان فتح الحاء وضمها، انظر غريب الحديث لـ ابن الجوزي.
هنا مضبوطة بالشكل أيضاً: رب تقبل توبتي واغسل حَوبتي، ومنه الحديث: اغفر لنا حَوبنا أي: إثمنا، وتفتح الحاء وتضم، وقيل: الفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم، أي: فكلاهما من لغات العرب.(33/26)
وليمة سمك
إن قصة خروج بعض الصحابة في سرية سيف البحر يبين الحالة التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم؛ فقد كانوا في ضيق وشدة من العيش، حتى إنهم لم يجدوا إلا تمرة لكل واحد طيلة اليوم، وقليلاً من الماء يشربونه عليها، فبينما هم كذلك إذ فتح الله عليهم وأكرمهم بحوت عظيم قذفه البحر، فأكلوا منه حتى شبعوا وتزودوا، وأعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، ثم ذكر عدة فوائد مستفادة من هذا الحديث.(34/1)
حديث خروج سرية سيف البحر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على آله وصحبه أجمعين وبعد: فحديثنا في هذه الليلة عن قصة أخرى من القصص التي كانت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام، وفيها فوائد وعبر، وفيها بيان ما كان عليه الصحابة من الشدة، وكيف تحملوا في ذات الله وفي سبيل الله.
روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله في عدد من المواضع من صحيحه، ورواها كذلك الإمام مسلم رحمه الله، وروى طرفاً منها الإمام الترمذي رحمه الله، وكذلك رواها ابن إسحاق من أهل السير أيضاً.
وهذه رواية الإمام مسلم عن جابر قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرةً تمرة، فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله، قال: وانطلقنا في ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة.
ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال، ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله).(34/2)
خروج السرية لتلقي عيراً لقريش
هذه الغزوة هي غزوة سِيف البحر، أو سرية الخبط، بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر يتلقون عيراً لقريش، وكذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة من المشركين مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيداً، أي: هؤلاء الصحابة ذهبوا ولم يجدوا حرباً، وكانت هذه السرية في رجب سنة ثمانٍ، ولا مانع أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام بعث هذه السرية لهدفين: الهدف الأول: إلى هذا الحي من جهينة من المشركين.
والهدف الثاني: تلقي عير قريش، فتكون هذه السرية مزدوجة الهدف، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصيب أكثر من هدف بهذه السرية.
فانطلقت هذه السرية إلى أرض جهينة، وأرادت أن تتلقى عيراً لقريش لتقطع الطريق عليهم، ومعلوم أن أموال المحاربين حلال للمسلمين، وهذه كانت تقريباً سنة ثمان للهجرة، كما أشار ابن سعد رحمه الله، ولكن الأرجح أنها كانت سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية، لأن هدنة الحديبية وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والمشركين، وإذا كانت في وقت الهدنة فيحتمل أنها كانت لتلقي العير لحفظها من جهينة، ولذلك لم يأخذوا شيئاً ولم يستولوا على شيء، أقاموا نصف شهر في مكان واحد ثم بعد ذلك رجعوا.(34/3)
تأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وفناء الزاد
يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح فـ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بالإضافة إلى كونه أمين هذه الأمة فهو كذلك قائد عسكري مظفر، وله خبرة واسعة في القتال، ولذلك ليس بغريب أن يوليه عمر رضي الله عنه بعد خالد قيادة جيوش المسلمين، القيادة العامة لجيوش المسلمين.
وخرج بهم أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، ولما كانوا في أثناء الطريق فني الزاد، انتهى زاد الجيش، ومعروف أن الجيوش من أهم الأشياء فيها التموين، لأن التموين مهم لاستمرارية التحرك نحو الهدف وتحقيق الهدف والعودة، لكن انتهى الزاد، فما هو الإجراء الذي اتخذه أبو عبيدة رضي الله عنه لمواجهة انتهاء الزاد؟ أمر أبو عبيدة بأزواد الجيوش، فجمع فكان مزود تمر كما في رواية البخاري، والمزود هو: ما يوضع فيه الزاد، فهذا المزود من التمر هو الذي كان يقيتهم أثناء الطريق، كيف كان ذلك؟ كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، وانتهى.
قال: فلم يكن يعطينا إلا تمرة تمرة كان هناك زاد عام للجيش كله، ولما انتهى الزاد العام جمع أبو عبيدة ما كان عند كل واحد بمفرده، جمعه ثم أراد أن يقسمه على الجميع للمساواة بينهم، فجعله جميعاً في مزودٍ واحد إذاً: الزاد العام الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل كان جراباً، فلما نفد جمع أبو عبيدة الزاد الخاص فخرج جراب أيضاً، لكن غير الأول، ثم فرق عليهم تمرةً تمرة.
فلنتصور الآن أن هؤلاء المسلمين ما معهم إلا تمرة تمرة، والتمر الذي وزع عليهم الأول كان من الجراب النبوي، ولذلك كان زاداً عاماً للجيش وفيه بركة، وبعد ذلك جمع ما تبقى لدى الأفراد لمواجهة الموقف الطارئ، فصار من نصيب الشخص تمرة واحدة، يعطي كل واحد تمرة واحدة، فإذا انتهت التمرة أعطاهم نصيبهم في المرة التي بعدها تمرة أخرى والذي يسمع الرواية يقول: وما تغني عنكم تمرة؟ فهذا وهب بن كيسان من التابعين -رحمه الله تعالى- يسأل جابراً ويقول: يا أبا عبد الله! أين كانت تقع التمرة من الرجل؟ ماذا تغني عنكم تمرة؟ فقال جابر: لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال: أنت الآن تقول: ما فائدة التمرة؟ لكن لما فقدنا التمرة هذه التي أنت تستهين بها وجدنا أثر فقدها، أي: أن التمرة كانت تفعل لهم شيئاً عظيماً مؤثراً فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل إذاً: طيلة اليوم تمرة واحدة بالمص كما يمص الطفل ثدي أمه، ثم يشربون عليها الماء، هذا زاد يوم كامل، وهذا ما تحمله الصحابة في سبيل الله.
ولذلك هؤلاء هم المجاهدون حقيقةً، هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم الذين ضحوا من أجل هذا الدين، وعلى تمرة واحدة في اليوم يمصونها، ليس بأكل ولا مضغ ما يكفي للمضغ، وعلى الماء، مقاتلين في سبيل الله، انتهى الزاد، وانتهى التمر، حتى التمرة لم تكن موجودة.(34/4)
وصولهم إلى البحر وخروج الحوت العظيم
قال: ثم انتهينا إلى البحر وصلوا إلى ساحل البحر، فإذا حوت مثل الضرب، والحوت: اسم جنس لجميع السمك، وقيل: هو اسم للسمكة العظيمة الكبيرة، ولاشك أن الذي وجدوه هو حوت، والحوت: السمكة العظيمة الكبيرة جداً، مثل الضرب، والضرب: الجبل الصغير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء: (اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) فالضراب: جمع ضرب، والضرب هو الجبل الصغير، والحوت كان بضخامة الجبل الصغير، مثل الكتلة العظيمة، على ساحل البحر، ومن صفات الضرب أنه يكون منبسطاً وليس مرتفعاً جداً، بل منبسطاً فوق الأرض.
وفي رواية: (فوقع علينا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر)، والعنبر نوع من الحوت يمتاز بضخامته فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر.
وفي رواية: (فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت)، قال أهل اللغة: العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها التروس، وهذا من قوة الجلد، ويقال: إن هذا العنبر الطيب المشموم يستخرج من رجيع الحوت، سبحان الله!! رجيع الحوت هذا هو العنبر المشموم الذي يستخدم كطيب، وقيل: إن المشموم يخرج من البحر ويؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه، وقال الماوردي نقلاً عن الشافعي: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها، فيقتلها فيقذفها فيخرج العنبر من بطنها.
وقال الأزهري من علماء اللغة: العنبر سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعاً.
وجاء في رواية عمرو بن دينار: (فألقى لنا البحر حوتاً ميتاً) ولما وجدوه قال أبو عبيدة: هذه ميتة، ثم فكر مرة أخرى؛ لأنهم كانوا قد أصابهم الجوع، ولما فني التمر ماذا حصل؟ كانوا يضربون ورق السلم، وهو الخبط، نوع الشجر، ويبلونها بالماء فيأكلونها، حتى تقرحت أشداقهم من أكل ورق الشجر وأصابتهم مخمصة، فلما وجدوا هذا قال أبو عبيدة: هذه ميتة، ثم تراجع بعد ذلك قائلاً: أنتم رسل رسول الله -الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلكم- وفي سبيل الله، إذاً لا بأس أن تأكلوا، لأنهم في مخمصة، حتى ولو كانت ميتة؛ لأنه يوجد ضرورة.
قال: فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية عمرو بن دينار: فأكلنا منه نصف شهر، وفي رواية: شهر، يأكلون من هذا الحوت، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت -البعير الكبير وعليه الحمولة- ثم مرت تحتها فلم تصبه، وهذا يدل على ارتفاع الضلع أوقفوه على الأرض، ثم رحلت الراحلة وعليها شخص راكب وما مس رأسه الضلع وجاء في رواية ابن إسحاق وحسنها الشيخ الوادعي، يقول ابن إسحاق في الرواية: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا، فخرج من تحتها وما مست رأسه.
وقيل إن هذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة، وكان مشهوراً بالطول.
وحصلت طرفة بين المسلمين والروم في عهد معاوية رضي الله عنه: أن الروم أخرجوا أطول رجل عندهم، والمسلمون أخرجوا أطول رجل عندهم، وأطول رجل عند المسلمين كان هذا: قيس بن سعد بن عبادة، فـ قيس بن سعد بن عبادة نزع سراويله للرومي، فكانت مثل طول الرومي؛ بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض سروال المسلم هذا جاء على طول الرومي كله، فكم سيكون طول المسلم؟ سيكن طوله ضعف طول ذاك، فكأنه يقول: غلبناكم بالدين وبالطول وبالعرض وكل الأشياء.
وجاء في رواية مسلم: (فأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً، فأقعدهم في وقب عينه)، والوقب: هو حفرة العين التي في عظم الوجه، وأصل الوقب: النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وجمعها: وقاب، فمن عظم الحوت هذا أن الحفرة التي فيها عينه في وجهه قعد على حافتها ثلاثة عشر رجلاً، وقد جاء في حديث عبادة بن الصامت قال: (خرجت أنا وأبي نطلب العلم، وشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، فقال: عسى الله أن يطعمكم.
فأتينا سيف البحر) والسيف هو: الساحل أو الشاطئ، وهذا مما أخذته اللغة الإنجليزية من العربية، ففي الإنجليزية ( saif) أي: شاطئ، وهي عندنا سيف البحر باللغة العربية، فأخذوها منا، وبعض الناس الآن يقولون: سيف؛ تقليداً للخواجات، وما يدرون أن الكلمة أصلاً عربية.
قال: (فأتينا سيف البحر، فزخر البحر زخرةً فألقى دابةً، فأورينا في شقها النار، فطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا، قال جابر: فدخلت وفلان وفلان حتى عدَّ خمسةً في حجاج عينها وما يرانا أحد -أي دخلوا وصاروا مختفين داخل هذه الحفرة- حتى خرجنا وأخذنا ضلعاً من أضلاعها، فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب، فدخل تحته ما يطأطئ رأسه).
فلعلها هذه القصة أو تتحد مع هذه القصة، مع أن الظاهر أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعل فيها محذوفاً تقديره: فبعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا إلى آخر الكلام.
استعملوا من هذا الحوت الدهن، لأنهم كانوا قد أصابهم هزال من الجوع، قال في رواية البخاري: وادهنا من ودكه، والودك هو: الشحم، وقال أيضاً: كنا نقطع منه الفدر كالثور، والفدر جمع فدرة، والفدرة: القطعة من اللحم قال: فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر أي: عبئوا من شحمها وأخذوا من اللحم.
وحصل أيضاً في هذه الغزوة أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، فنحر للمسلمين مرة، ً ثم الثانية ثم الثالثة، حتى أمره أبو عبيدة أن يكف، ولعل ذلك لأنه كان ينفق هذا من ماله، فأراد أبو عبيدة ألا يفنى مال هذا الرجل، فأمره أن يكف عن ذبح هذه الأنعام.(34/5)
رجوعهم إلى المدينة
ولما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا
السؤال
هل هذه ميتة؟ هل يجوز أكلها أو لا يجوز؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام للتأكيد على إباحتها قال: (أطعمونا إن كان معكم منه) لأن النبي عليه الصلاة والسلام في البلد، وليس في مخمصة ولا مضطر، فقال: (أطعمونا إن كان معكم منه) فأتاه بعضهم بشيء من اللحم الذي تزودوا به من هذا الحوت، فأكله صلى الله عليه وسلم، إذاً: أكله له تأكيد على حله.(34/6)
من فوائد حديث خروج سرية سيف البحر
وفي هذا الحديث فوائد منها: مواساة الجيش بعضهم بعضاً عند وقوع المجاعة، وأن الاجتماع على الطعام يسبب البركة فيه.
ويستفاد منه: أن القائد يرفق بجنوده؛ فلعل الذي ذبح كان يستدين على ذمته وليس له مال، فأراد الرفق به، وقد وضع البخاري -رحمه الله- هذا الحديث في كتاب الشركة من صحيحه؛ لأن أبا عبيدة جمع ما عندهم من التمر فصار يوزع على الجميع من مال الجميع، فصاروا كأنهم شركاء؛ فإن عدد أفراد السرية هذه ثلاثمائة، وأميرهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه، هذا العدد الذي كانت هذه السرية متكونة منه.
والحديث يدل على ما كان عليه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من الزهد في الدنيا والتقلل منها، والصبر على الجوع وخشونة العيش، وعدم ترك الجهاد في حال الشدة، حتى مع الشدة ما تركوا الجهاد في سبيل الله.
ويؤخذ منه: أن أبا عبيدة لما أمرهم فأقاموا هذا الضلع من أضلاع الحوت، ومر تحته الركب، ولم يصطدم رأس الرجل بالعظم هذا، لم يعتبر العلماء هذا من العبث، قالوا: إن مثل هذه الحركة لا تعتبر من العبث وإضاعة الوقت؛ لأنه ترويح مباح، فهو ينظر كم قدر هذا الحوت، وكم عظم هذا الحوت، فإن هذا الفعل من أبي عبيدة رضي الله عنه من المباح، فلا يعتبر من العبث ولا من إضاعة الوقت.
وفي هذا الحديث: أن المفتي يطيب خاطر المستفتي بالفعل وليس بالقول فقط، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (كلوا رزقاً أخرجه الله لكم وأطعمونا إن كان معكم).(34/7)
جواز أكل السمك الطافي
والحديث يدل على جواز أكل السمك الطافي، الذي مات من نفسه، خلافاً لبعض الحنفية الذين يرون عدم جواز أكل هذا، ولكن الراجح -حسب ما دل عليه الحديث والسنة الصحيحة- جواز أكل الطافي من السمك، وما ألقاه البحر إلى الشاطئ، فلو قال أحد: لو وجدنا على ساحل البحر سمكة، أو وجدنا سمكه عائمة على الماء ميتة، فهل نأخذها فنأكلها؟
الجواب
نعم.
وقد وقع لي مرة أنني كنت على ساحل البحر، فكانت هناك سمكة طافية فأخذتها، فمر رافضيٌ فقال: أتأكلون هذه الميتة؟! إنها فطيس، قلت: وأنت إذا صدتها من البحر وأخرجتها ماذا تصبح؟ أليست فطيساً يا أفطس العقل؟! فبعض هؤلاء من أهل البدع عندهم القضية هذه، أيضاً يفرقون بين ما أحل الله، لماذا؟! لذلك العلماء يقولون: إذا لم يكن متغيراً متعفناً فإنه يؤكل؛ لأن المتعفن يضر بالجسم، والسمك إذا صدته أو اللحم العادي إذا ذبحته وتركته حتى تعفن فإنه يضر، ولذلك إذا رأيت سمكة على سطح البحر فخذها؛ فإن كانت سليمة ليس فيها شيء؛ فكلها هنيئاً مريئاً، وهو سيموت بخروجه من البحر؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد).
وهذا الذي قذفه البحر يمكن أن يؤخذ منه أنه كرامة لأولياء الله؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في الجهاد، وكانوا في مخمصة وفي مجاعة، فأخرج الله لهم هذا الحوت، كرامة منه سبحانه، وأطعم ثلاثمائة رجل من الصحابة، انظر إذا أراد الله أن يطعم كيف يطعم!! أطعمهم بهذه الوليمة الفاخرة، حوت يكفيهم شهراً، أكلوا منه، وحملوا معهم إلى المدينة، وقطعوا من اللحم، وأخذوا من الدهن واستمتعوا به، رزق ساقه الله إليهم (إنما هو رزق ساقه الله إليكم، وأنتم في مخمصة) والنبي عليه الصلاة والسلام وضح لهم حله، والصحابة أكلوا منه حتى سمنوا، فقد كان الواحد نحيلاً نحيفاً من المجاعة التي أصابتهم، فأكلوا منه لحماً طرياً {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر:12].
إنه منة من الله، فأخرج لهم هذا، فأكلوا منه شهراً، وقددوا منه، أي: جففوا من الشرائح اللحم هذه الفدر، جففوا منها وأخذوا معهم، ولذلك قال بعضهم توفيقاً بين رواية أنهم أقاموا عليه خمسة عشر يوماً، ورواية أنهم أكلوا منه شهراً، قالوا: أكلوا خمسة عشر يوماً طازجاً وأكلوا باقي الشهر من القديد المجفف.
وقال النووي رحمه الله في حكم السمك الطافي: وأما السمك الطافي -وهو الذي يموت في البحر بلا سبب- فمذهبنا إباحته، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة فمن بعدهم، منهم أبو بكر الصديق، وأبو أيوب، وعطاء، ومكحول، والنخعي، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، وداود وغيرهم، ودليلنا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة:96] قال ابن عباس والجمهور: صيدهُ ما صدتموه، وطعامه ما قذفه.
كذلك ما ألقاه البحر أو جزر عنه، أحياناً البحر يكون فيه جزر، فيوجد سمك في قاع البحر كشف الجزر عنه، فيلتقط ويؤخذ.
وأما حديث: (ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه) فهو حديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث، لا يجوز الاحتجاج به، فإن قال قائل: إنما أكلوه مضطرين.
فكيف يرد عليه؟! يرد عليه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل منه ولم يكن في مخمصة، فهذا يدل على جواز الأكل منه.
هذا ما تيسر ذكره من فوائد هذه القصة.
نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما سمعنا من سيرهم وأن يجزل لهم الأجر والمثوبة إنه سميعٌ قريب.(34/8)
الأسئلة(34/9)
زكاة الذهب
السؤال
يوجد لدي ذهب حال عليه الحول، وجزء آخر من الذهب سيحول عليه الحول بعد خمسة عشر يوماً، فكيف أزكي عنه؟
الجواب
إذا أردت أن تزكيه جميعاً فلا بأس -إن شاء الله- أن تزكي عن الجميع مرة واحدة، واجعله كله مع الذهب الموجود الذي حال عليه الحول الآن، واجعل هذا الحول لكل سنة، وأخرج عن الجميع.(34/10)
تعريف السرية
السؤال
ما هي السرية؟
الجواب
هي القطعة من الجيش، وهي أصغر من الجيش وأقل عدداً.(34/11)
جعل صدقة الميت في المساجد
السؤال
لي جدة توفيت وتملك ستة آلاف ريال، ونريد أن نتصدق بها، فماذا تنصح في توجيهها لأن الآراء كثيرة؟
الجواب
لو جعلتموها في شيء ثابت كمسجد وقف؛ فهذا طيب جداً.(34/12)
الإمساك عن الأكل بطلوع الفجر في رمضان
السؤال
كنا في رمضان في رحلة إلى البر، ولم يكن هناك مسجد، فكيف نمسك عن الطعام؟
الجواب
بالرؤية، والنظر إلى الفجر، إذا نظرت إلى جهة المشرق فوجدت بياضاً معترضاً في الأفق من جهة المشرق، منتشراً ممتداً، فهذا هو الفجر الصادق، أما النور الذي تراه من وسط السماء إلى الناحية الأخرى، هو عمودي على الأفق كذنب السرحان -وهو الذئب- فليس بالفجر الصادق، إنما هو الفجر الكاذب الفجر الصادق فجر معترض منتشر في الأفق من جهة المشرق، وإذا نظرت إلى جهة المغرب تجده أسود دامساً وإذا نظرت إلى جهة المشرق رأيت اللون الفاتح البياض المنير المعترض الموجود في جهة المشرق، وإلا فاعتمد على الساعة والتقويم.(34/13)
زكاة الفطر تكون طعاماً
السؤال
لي قريب دفع زكاة فطره مالاً، فما الحكم؟
الجواب
انصحه أن يدفع طعاماً، أو يعطي المال لمن يتوكل بإخراجه عنه طعاماً، فيشتري طعاماً ويعطيه للفقراء.(34/14)
حكم المسابقات
السؤال
ما حكم المسابقات؟
الجواب
المسابقات أنواع: فنوع يجوز بجعل وبغير جعل، ونوع يجوز بلا جعل، ونوع لا يجوز لا بجعل ولا بغير جعل، والجعل هو المقابل، أو الجائزة التي يسمونها للمسابقات.
فأما المسابقات الجائزة بالجعل فهي على قول جمهور أهل العلم: الموجودة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خفٍ أو حافر) النصل: هي السهام، والخف: هي الإبل، والحافر: هي الخيل، فسباق الخيل والإبل والرماية يجوز فيها الجعل؛ لأنها تعين على الجهاد، مع أن الأصل أن العملية فيها ميسر وفيها مقامرة، عملية الجائزة على المسابقة فيها مقامرة، فإن الذي يسبق يأخذ الجائزة، ففيها شيء من المقامرة أباحته الشريعة في حالة المسابقات التي تعين على الاستعداد والتدريب للجهاد، وهي إجراء الخيل والإبل ورمي السهام.
وألحق بعض العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بهذا مسابقات حفظ القرآن والسنة، لأن المقصود بها مثل المقصود بحديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) الذي هو نشر الدين، قالوا: لماذا أبيحت الجوائز في مسابقات العدو بالخيل والإبل والسهام وهي نوع من المقامرة؟ أبيحت لأجل الجهاد، ولنشر الدين، إذاً: المسابقات التي فيها حفظ القرآن والسنة، وتشجيع الناس على حفظ القرآن والسنة، هذه أيضاً فيها تحصل قضية نشر الدين، إذا: ً يجوز فيها المسابقات، أما الجمهور فلم يُجِزْ إلا الثلاثة الأولى، ويقاس عليها: الرمي بالطائرة، والرمي بالمدفعية، والرمي بالبندقية، فإن المقصود هو الرمي كله.
وكذلك المسابقات بالآلات الحربية وبالدبابات وبالعربات المصفحة؛ لأن هذه تقوم مقام الخيل والإبل، فكل شيء يعين على الجهاد يجوز جعل المسابقات فيه؛ لأجل أن تبقى الأمة مستيقظة متيقظة.
النوع الثاني من المسابقات: ما يجوز بدون جعل ولا يجوز بجعل، كمسابقة العَدْو على الأقدام مثلاً، سباق الجري إذا لم يكن فيه كشف عورات، ولا إضاعة صلوات، ولا إلى آخره فيجوز أن تجعل مسابقة في الجري مثلاً، أو في السباحة، لكن لا يجوز أن تجعل فيها جوائز؛ لأنها ليست داخلة في حديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وهذا أسلوب حصر (لا سبق إلا) إذاً: الذي يجوز بدون جعل هو المسابقات المباحة، كالعدو على الأقدام، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته، ثم سابقها بعد ذلك فسبقها.
هناك مسابقات تتردد بينهما، مثلاً: الغطس، قال الشافعية: هذا يفيد في الجهاد؛ لأنه في المعارك الحربية ونحوه، فأجازوا إدراجه في القسم الأول، وقال بعضهم: لا يدرج، فإن القسم الأول لتلك الأشياء فقط.
النوع الثالث: مسابقات لا تجوز لا بجعل ولا بدون جعل، كنطاح الأكباش، ومصارعة الثيران، ومناقرة الديوك وتهييجها؛ لأن فيها إيذاء للحيوانات والبهائم والدواب، وهذا من رفق الشريعة بالحيوان، وهؤلاء الذين يصارعون بين الثيران- وهم يزعمون أن عندهم رفقاً بالحيوان- أولئك هم الثيران حقيقةً.
أيضاً الملاكمة لعبة محرمة في الشريعة الإسلامية؛ لأن فيها ضرباً على الوجه، والضرب على الوجه حرام لا يجوز، ولذلك الآن كلما صارت حوادث موت والنزيف الدماغي، ووفاة بعض اللاعبين، قالوا: نريد أن نعيد النظر في قوانين الملاكمة وشرعية الملاكمة ونحو ذلك على مستوى القانون الدولي لهذه الرياضة.
على كل حال في شرعنا يحرم ممارسة مباراة الملاكمة؛ لأجل أن فيها ضرباً على الوجه والرأس، وهذه مقاتل، وحرام ولا يجوز الضرب فيها فهذه مسابقة أخرى لا تجوز لا بجعل ولا بغير جعل.
هنا مسألة، وهي: إذا عملوا مسابقة فيها أسئلة ليس لها علاقة بالشريعة ولا بنشر الشريعة ولا بنشر الدين ولا بشيء فما حكمها؟ لا يجوز أن يعطى فيها جوائز على قول جمهور أهل العلم، لحديث: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وإذا أضافوا إلى ذلك أنك لا تشترك في المسابقة إلا إذا دفعت مالاً أو اشتريت شيئاً؛ فتتأكد عملية المقامرة تأكداً شديداً، لأنك لا تدخل فيها لإحراز الجائزة إلا إذا دفعت مالاً تخسره يقيناً إذا لم تفز بشيء وقد تكسب، وهذه فكرة الميسر.(34/15)
المقصود دعاء: (اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا)
السؤال
في دعاء القنوت (اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا) في قلبي شيء من الشطر الثاني في هذا الدعاء، فما معناه؟
الجواب
هذا الدعاء موجود في حديث صحيح من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتجده في صحيح الجامع، ويمكن أن ترجع إلى شرحه، والله سبحانه وتعالى يمكر بمن مكر بالدين، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51].
إذاً: الله سبحانه وتعالى يمكر بالكفار، والله يمكر للمسلمين ويمكر على الكفار، يمكر للمسلمين لمصلحة المسلمين، ويمكر على الكفار، ويمكر بالكفار، أي: يوقع بهم، مثل الكيد كاده وكاد له، كاده أي: ضده، حاك ضده وعمل ضده، وكاد له، أي: من أجله ولمصلحته، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] أي: لأجل يوسف، وأما إذا كاد الله شخصاً فإنه يهلك، ولذلك من كادك فكده، أي: اجعل الكيد عليه، وهذه الصفات لا يشتق منها أسماء، فلا يقال: الله هو الكائد والماكر؛ لأنها صفات مقيدة، الله ماكر بمن مكر به، وماكر بمن مكر بالدين، وماكر بمن مكر بالمسلمين، والله يكيد من يكيد للدين، ويكيد من يكيد المسلمين.(34/16)
تأخير كفارة الصيام عن الشيخ الكبير
السؤال
هل يجوز تأخير كفارة الصيام عن الشيخ الكبير إلى بعد العيد؟
الجواب
نعم.(34/17)
الإطعام بدون إدام
السؤال
هل يجوز الإطعام بدون إدام؟
الجواب
نعم.
ولكن من الأفضل أن يجعل معه شيئاً من الإدام.(34/18)
حكم التأمين
السؤال
ما حكم التأمين للعلاج؟
الجواب
إذا صار التأمين بالشروط الشرعية فهو جائز.
سواءً للعلاج، أو للسيارات، أو لغير ذلك، لا بأس به إذا كان بالشروط الشرعية، وفكرة التأمين الشرعي: أن يجتمع مجموعة من الأشخاص، أو مؤسسة تتبنى هذا، وكل واحد من هؤلاء المشاركين في التأمين يدفع قسطاً معلوماً، ويتضامنون فيما بينهم ويتراضون إذا حصل على واحد منهم شيء أن يعوض من هذا الصندوق، وهذا الصندوق يمكن أن ينمى ويستثمر أو لا يستثمر، تستثمر الأموال التي فيه لصالح هؤلاء الأشخاص، فهذا المال ملك للذين وضعوه في الصندوق، ويعوضون منه حسب ما تراضوا عليه، وليس ملكاً للشركة، ولم تأخذ منه الشركة شيئاً، أما التأمين التجاري فإن الشركة تأخذ الأموال من الناس وتمتلكها هي وإذا صار شيء للشخص عوضوه، وإذا ما صار شيء ذهب ماله، فهذا هو الميسر.(34/19)
حكم الزكاة عن أموال الجمعيات
السؤال
ما حكم الزكاة عن أموال الجمعيات؟
الجواب
الجمعية شيء آخر، والمال الذي يجمعونه إذا كان ليس خيرياً وليس مالاً للآخرين، وغير خارج عن ملك الشخص، ففيه الزكاة، أما إذا كان صندوق تبرعات خيرياً، والذي يدفع مالاً لا يسترده، فهذا ليس فيه زكاة، وهو مثل أموال صناديق التبرعات وصناديق الصدقات، فهذه الصناديق الخيرية ليس فيها زكاة، لأنه ليس لها مالك معين، وهنا قاعدة: (كل ما ليس له مالك معين فليس فيه زكاة).(34/20)
أكل الحوت كان بعد أن أنضجوه
السؤال
هل الحوت الذي أكلوه بعد النضج أم قبل النضج؟
الجواب
أكيد أنهم أوقدوا عليه وأنضجوه وأكلوا منه.(34/21)
حكم إخراج صدقة جارية من مال الميت
السؤال
هل يجوز إخراج صدقة جارية عن الميت من ماله الخاص قبل توزيعه على الورثة؟
الجواب
نعم.
إذا رضي الورثة بذلك، لكن أجر الصدقة الجارية الحقيقي عندما يخرجه الميت من ماله قبل أن يموت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) فقال: (عمله) وليس عمل غيره، (انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية) عملها قبل أن يموت (أو علم ينتفع به) تركه قبل أن يموت أما كوننا نتصدق عن الميت بصدقة جارية أو غير جارية فهي تصل إليه إن شاء الله، لكن إذا أردت تطبيق الحديث؛ فإنه الشخص يعمله قبل أن يموت، يعمله لنفسه قبل أن يموت.(34/22)
تقسيم الساعات للذهاب إلى المسجد في صلاة الجمعة
السؤال
كيف نقسم الساعات للذهاب إلى المسجد في صلاة الجمعة؟
الجواب
تبدأ الساعة -كما ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، ورجح ذلك من أوجه- من بعد طلوع الشمس إلى طلوع الإمام على المنبر، هذا الوقت يقسم إلى خمسة أجزاء، الجزء الأول منه هو الساعة الأولى، فإذا أراد أن يحصل أجر التصدق ببدنة، فيذهب في الساعة الأولى، وهي الجزء الأول بعد طلوع الشمس.
وقال بعضهم: بعد طلوع الفجر، ولكن المسلمين ومن قديم عملهم ليس على هذا، فإن بعد الفجر كانوا يرجعون إلى بيوتهم، ويغتسل أحدهم ويتجهز ويأتي إلى المسجد، ولم يكن يجلس بعد الصلاة مباشرة، ولذلك التبكير والتهجير من بعد طلوع الشمس، وهو بداية الساعة الأولى.(34/23)
حكم أخذ الزيادة من البنوك والشركات الإسلامية
السؤال
أودعت مبلغاً في شركة إسلامية للاستثمار، وبعد مدة وجدت في الرصيد زيادة، فما حكمها؟
الجواب
إذا كانوا يتاجرون ويستثمرون بطرق شرعية، كأن قالوا مثلاً: نحن نشتري نفطاً ونبيعه، أو عندنا مزارع ونبيع الثمار، ونحن عندنا تجارة مواد البناء، نستورد أسمنتاً وحديداً وخشباً ثم نبيعها في السوق المحلي، أو نحن نشتري جلداً من مكان ونبيعه على شركات في إيطاليا لدبغه، وبعد ذلك ننقله إلى لبنان لتصنيعه ملابس، ثم نبيعه في بلدان أخرى، تجارة دولية، فما دام أن هذه التجارة في مباحات فأرباحها حلال أن تأخذها، فأنت تستفسر منهم: ماذا يفعلون بالمال؟ وفي أي مجال يتاجرون به؟ أما إن قالوا: نتاجر في أسهم بنوك ربوية، أو قالوا: نتاجر في عملات ليس فيها تقابض يداً بيد أو في طرق غير شرعية، فلا تأخذ هذه الأرباح.(34/24)
من هو الفقير الذي تحل له الزكاة؟
السؤال
ما حكم دفع الزكاة إلى شخص فقير، ولكن سبب فقره عدم جده في العمل واعتماده على الغير؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه الرجلان وطلبا الزكاة، نظر فيهما وقال: (إنها لا تحل لغني ولا لذي مرةٍ سوي) ذي مرة، أي: قوي، وسوي، أي: سليم من العاهات قادر على العمل، فلا تحل له الزكاة، إذاً: القوي القادر على الكسب لا تحل له الزكاة.(34/25)
ضبط كلمة (ضرب)
السؤال
هذا يسأل عن ضبط كلمة (ضرب) يقول: لعل مفرد الضراب ضِرب، كما هو دارج في كثير من القبائل.
الجواب
هذه القبائل ضاربة بالعامية، أما بالنسبة لكلام العلماء فإنهم قالوا: (الضَّرب) بفتح المعجمة (الضاد)، بفتح المعجمة، لكنه أشار إلى أن الراء مكسورة أيضاً، (ضَرِب) بكسر الراء فالضاد مفتوحة والراء مكسورة (ضَرِب).(34/26)
حكم وضع كفارة اليمين مع زكاة الفطر
السؤال
علي كفارة يمين، فهل يمكن وضعها مع زكاة الفطر؟
الجواب
لا، والسبب في ذلك أن زكاة الفطر يمكن أن تعطيها لشخص واحد، أما كفارة اليمين فيجب إعطاؤها لعشرة مساكين مختلفين، ولذلك أنت إذا وضعتها مع صدقة الفطر في كيس -مثلاً- فهي طعام عشرة مساكين، ثم يعطي لعائلة أو لشخص واحد، أو لعائلة ثلاثة مساكين أو خمسة.(34/27)
حكم من أفطر ظاناً أن الشمس قد غربت
السؤال
سافرت إلى جدة في الساعة الخامسة، وبعد مضي نصف ساعة وضع ملاحو الطائرة الإفطار، ثم أفطرنا في الساعة الخامسة وخمس وأربعين دقيقة بعد ظننا أن الشمس قد غربت، ثم أعلن أحد الملاحين في الساعة السادسة أن الإفطار قد حان، فما حكم صيامنا؟
الجواب
عليكم إعادة هذا اليوم.(34/28)
حكم من رأت الدم بعد الإفطار ولم تعلم متى نزل
السؤال
امرأة رأت دم الحيض عند الوضوء لصلاة المغرب وذلك بعد الإفطار، ولا تدري هل هذا الدم نزل قبل المغرب أم بعده، فما حكم صيامها؟
الجواب
ما دام أنها لا تدري متى نزل الدم، ما علمت إلا الآن أنه نزل، ولا تدري قبل كيف كان، فالأصل أنها كانت طاهرة؛ ولذلك فصيامها صحيح.(34/29)
حكم وضع السمك في المقلاة وهو حي
السؤال
هل يجوز رمي السمك في المقلاة وهو حي فيطبخ بهذه الطريقة؟
الجواب
كرهه بعض أهل العلم لما فيه من تعذيب، وهذه من المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسائله، وهي مذكورة في كتب الفقه أيضاً، فالأحسن أن يترك حتى يموت وحتى تذهب الحياة منه، ثم بعد ذلك يقلى.(34/30)
حكم وضع أرباح الشركة في بنك ربوي
السؤال
وضع أرباح الشركة في البنك الربوي؟
الجواب
إذا لم يكن هناك مجال لحفظ المال إلا هذا فيجوز من باب الضرورة، ولكن لا يجوز أخذ الفوائد عليه.(34/31)
حكم دفع الزكاة للأعمال الخيرية
السؤال
هل تدفع زكاة المال لأعمال خيرية مثل المساهمة في تعمير المساجد؟
الجواب
لا، لأن مصارف الزكاة معروفة هي ثمانية، منها: في سبيل الله، وهو الجهاد، وبعض العلماء قال: الحج يدخل فيه؛ لأجل الحديث: (إن الحج والعمرة لمن سبيل الله) وأما تعمير المساجد فليس من الصدقات.(34/32)
حكم دفع الزكاة للأقرباء
السؤال
هل يجوز دفع زكاة المال للأقرباء، مثل أهل الزوجة والعمات والخالات؟
الجواب
نعم، إذا كانوا فقراء مستحقين.(34/33)
حسن الخاتمة
السؤال
من مات وهو يصلي، فكيف حاله؟
الجواب
من مات وهو يصلي يرجى أن يكون هذا من علامات حسن الخاتمة، وقد جاء في الحديث: (إن الله إذا أراد بعبد خيراًَ عسله قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه).(34/34)
الصلاة في السفر
السؤال
كنت مسافراً، وفي العودة خرجت من المدينة التي كنت فيها قبل أذان العصر، والمسافة عادةً أن نصل إلى بلدنا قبل المغرب، فهل أصلي العصر قبل السفر أو أنتظر حتى أصلي في بلدي مع احتمال أن أصل بعد المغرب؟
الجواب
لا يجوز أن تؤخر العصر إلى المغرب، لابد أن تصليها في وقتها في الطريق، وهذا على حسب حالك؛ فإن كنت لا زلت مسافراً في البلد التي خرجت منها، كأن تكون جالساً فيها يوماً أو يومين أو ثلاثة مثلاً، فتقصر وتجمع العصر مع الظهر فيها وتنطلق ولا حرج، وإذا كنت مقيماً فيها فعند ذلك تصلي في الطريق على حسب حالك.(34/35)
حكم المرور من الميقات بدون إحرام
السؤال
ذهبت لأداء فريضة الحج قبل سنة، ومررنا بميقات وادي المحرم ولم نحرم؛ لأن الوقت كان مبكراً ونحن سوف ننزل إلى جدة، فقال بعض المشايخ: يجب أن تعودوا إلى الميقات، ولم نذهب بل ذهبنا إلى رابغ، فما الحكم؟
الجواب
إذا لم تحرم من المكان الذي مررت عليه فيلزمك الدم.(34/36)
تعس عبد الدينار
عبد الدينار له صفات يعرف من خلالها، وقد تحدث عنها الشيخ في هذا الدرس، وتطرق إلى مسألة المال في الشرع من حيث امتلاكه، ففرق بين الامتلاك وبين العبودية لهذا المال.
وفي الجزء الثاني من الدرس تكلم عن صفات بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم من اتصف بها بالجنة.
فإلى هذا الدرس لعل الله أن ينزع حب المال من القلوب، ويقذف فيها حب الآخرة والبذل من أجلها.(35/1)
وقفات مع حديث (تعس عبد الدينار)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب ولم يجعل له عوجاً، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
أما بعد: أيها الإخوة: حديثٌ آخر من أحاديث الرقائق الذي علمنا إياه النبي صلى الله عليه وسلم وذكرنا به ألا وهو الحديث الذي رواه أبو هريرة في صحيح البخاري قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله! أشعث رأسه مغبرة قدماه! إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) روى هذا الحديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الرقاق وفي كتاب الجهاد من صحيحه، وكذلك روى طريقاً له وروايةً الإمام الترمذي رحمه الله تعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:) تعس عبد الدينار) تعسَ معناها: هلك، دعاءٌ عليه بالخيبة، والهلاك ضد السعادة، شقيَ وهلك وانكب على وجهه، مثلما لو تعثر الشخص وانكب على وجهه، فكلمة تعسَ: دعاءٌ عليه بالهلاك، إن النبي عليه الصلاة والسلام مجاب الدعوة، يدعو على هذا الرجل بالهلاك والشقاء وأن يتعثر وينكب على وجهه، من هو؟ عبد الدينار.(35/2)
عبد الدينار وشدة تعلقه بالمال
(تعس عبد الدينار) الدينار من الذهب، والدرهم من الفضة، والدينار يساوي عشرة دراهم، في المتوسط هكذا كان الدينار الإسلامي، قال: (عبد الدينار) أضاف العبودية إلى الدينار؛ لأن هذا الرجل تعلق قلبه بالدينار، كما يتعلق قلب العبد بربه، فكان الدينار أكبر همه فقدمه على طاعة ربه، وكذلك كان حاله مع الدرهم، فهذا يبين حال من يعبد الدنيا ويتذلل لها، ويخضع لها، فتكون مناهُ وغايته، فيغضب من أجلها، ويرضى من أجلها، ولذلك سماه عليه الصلاة والسلام عبداً، إنه يجمع الدينار والدرهم من الذهب والفضة من أي وجهٍ كان، قد بذل حياته لهذا الجمع، وهذه المحافظة وهذه التنمية لهذه الدنانير والدراهم مقدما ًإياها على طاعة الله، فلو تعارضت مع الشريعة قدمها على الدين، ولذلك كان عبداً لها، لذلك كان سروره وحزنه من أجلها فهو عبدٌ لها، يعمل لها طيلة عمره.
(تعسَ عبد الخميصة، تعسَ عبد الخميلة) الخميصة والخميلة: نوعان من القماش والثياب، ثوب الحرير خميصة، وكذلك الخميلة: هي القطيفة، الثوب الذي له خمل من أي شيءٍ كان هذا الخمل، والخميل: هو الأسود من الثياب أيضاً، فالخميصة: كساءٌ جميل، والخميلة: فرشٌ وثير، فهذا الرجل متعلقٌ قلبه ليس بالدينار والدرهم فقط، وإنما أيضاً بالمفارش والثياب، بالحلل والأثاث، فقلبه متعلقٌ بالدنانير والدراهم وما يلبس وما يفرش كل همه في هذه الأشياء، ليس له همٌ إلا هذه فكان عابداً له، فسماه عبد الخميصة وعبد الخميلة.
لقد جعل الدين وسيلةً للدنيا، فالدنيا عنده أعظم، لقد جعل الدنيا هي الأساس وهي المقدمة، فهل اكتفى عليه الصلاة والسلام بالدعاء عليه مرةً تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس تعس؟ لم يكتفِ بذلك.(35/3)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الدينار بأنه إذا شيك فلا انتقش
لقد دعا أربع مرات على كل عابد لهذه الأشياء، ثم إنه أعاد الدعاء، فقال: (تعس عبد الدينار) عاوده المرض، انقلب على رأسه، باءَ بالخيبة، خاب وخسرَ، وهذا فيه ترقٍ في الدعاء عليه، لأنه إذا تعسَ، انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعدما سقط، وليس هذا فقط دعاء عليه، وإنما تتوالى الأدعية من النبي صلى الله عليه وسلم على عابد الدنيا, يقول: (وإذا شيك فلا انتقش) إذا أصابته شوكة (شيك): أصابته شوكة، يدعو عليه ألا يجد أحداً يخرجها له بالمنقاش، ولا يستطيع أن يخرجها هو، هذا الدعاء عليه مرتبط بمقصوده، عكس مقصوده؛ لأن من عثر فدخلت في رجله شوكة فلم يجد من يخرجها، ماذا يصبح بالنسبة للحركة والسعي؟ عاجزاً عن السعي والحركة، وهذا الرجل كل سعيه وحركته من أجل الدنيا، فدعا عليه دعاءً يعطله عن ما نذر نفسه له من الدنيا، ويدعو عليه ألا يستطيع أن يحصل الدنيا، وأن يقعد به المرض، تقعد به صحته عن مواصلة السعي بالدنيا، وإذا وقع في البلاء لا يجد من يترحم عليه، لأن من وقع عليه البلاء فترحم عليه الناس وعطفوا عليه ورقوا له ربما هان عليه الخطب.
(إذا شيك فلا انتقش)، ولا أحد يخرجها له بالمنقاش، فقد يهتم به أحد ليخرجها له بالمنقاش، لكن يدعو عليه أنه إذا أصابته ولو شوكة، بألا يجد أحداً يخرجها له، فكيف بما هو أعظم من الشوكة؟! إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام يدعو عليه ألا يرق له قلب إنسان، ولا يعطف عليه إنسان، حتى لا تهون عليه مصيبته، ولا يتسلى بكلام الناس وتعزيتهم له، بل إنه يزيد غيظه، لأنه لا يجد أحداً يهتم به، ولا شك أن فرح الأعداء غيظ بالنسبة للمصاب.
فما دعا عليه بهذه الدعوات، وتنوعت الدعوات وتكررت وصارت بهذه الشدة إلا لأن هذا الرجل وضعه في غاية السوء، إنه جعل مقصوده ومطلوبه هو المال والدنيا، وسعى للتحصيل بكل سبيلٍ ممكن، حتى صارت نيته مقصورةً على الدنيا يغضب لها ويرضى لها، ولذلك سماه عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر في هذا الحديث دعاءٌ وما هو خبر: (تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) هذه حال من أصابه شر، لا نال المطلوب ولا تخلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال أيضاً.(35/4)
عابد المال: إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط
قال في الحديث: (إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط) محتمل أن يكون المعطي هو الله، ومحتمل أن يكون المعطي إنساناً آخر، فهذا الرجل: إذا أعطاه الله شيئاً ربما يفرح لذلك وينشرح صدره، وإذا ما أعطاه الله قال: (ربي أهانن) سخط على ربه، وسخط على القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون المعطي والمانع شخصاً من الأشخاص، مثل حال المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ماذا قال الله عنهم؟ قال جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
إذاً هذا يرضى إذا أعطي، أعطاه الله أعطاه الناس يرضى إذا أعطي، وإذا لم يعط وحرم ومنع، سخط؛ سخط على الله أو على الناس أو على الإمام أو على أمير الجيش لأنه لا يعطيه، المهم أن يأخذ، وإذا لم يعطَ، فهو ساخط وغاضب يسب ويلعن؛ لأن الهدف عنده هو المال، ما الذي يسكته؟ الإعطاء، وما الذي يثيره؟ المنع، وإذا حرمه الله من شيء، قال: لماذا كنت فقيراً وهذا غني؟ فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدره، والله إذا أعطى يعطي لحكمة، وإذا منع يمنع لحكمة سبحانه وتعالى، إن هذا الرجل لا يفقه أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب، إن هذا الرجل يظن أن الله إذا أعطاه فإن ما هو يحبه، ما هو الدليل على ذلك؟ ما هو الدليل على أن بعض الناس يظنون أن الله إذا أعطاهم أنه يحبهم؟ قال تعالى: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15] فإذا أعطاه الله سبحانه وتعالى قال: هذا إكرام من الله ذلك قد يكون ابتلاء ومحنة، وقد تكون هذه المنحة محنة عليه وهو لا يدري: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] وهذه يعتبرها إهانة.
والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره، إن أعطي شكر، وإن منع صبر، فهو راضٍ على ربه في جميع الحالات، لما كان هذا الرجل رضاه لغير الله وسخطه لغير الله، وكان متعلقاً بالمال، بالمتاع، أو بالرئاسة، أو بالصورة، أو بأي شيءٍ من أهواء النفس، فهذا عبد ما يهواه، وهذا هو الرق في الحقيقة، ولذلك سماه عبداً، فكل ما استرق القلب واستعبده، فهو عبده، صاحب هذا القلب عبد لهذا الشيء.(35/5)
الموقف الشرعي من المال
ما هو موقف المؤمن من المال؟ ما هو الموقف الشرعي من المال؟ هل يطلبه الإنسان؟
الجواب
نعم: الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نمشي في مناكبها ونأكل من رزقه، وهذا المشي يعني طلب للمال، هل نحافظ على المال؟ نعم: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5].
المال بالنسبة للعبد نوعان: نوعٌ يحتاج إليه، ونوعٌ لا يحتاج إليه، فما كان محتاجاً إليه من طعامٍ أو شرابٍ أو منكحٍ أو مسكنٍ ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويسعى في سبيل تحصيله بالأسباب المباحة، فإذا حصَّل المال هذا، فهو يستفيد منه ويستخدمه في طاعة الله، ينوي به التقرب إلى الله حتى في المباحات ليس في الصدقات، لكنه -وهذه هي النقطة المهمة جداً جداً- لا يتعلق قلبه به، الإنسان قد يسعى في تحصيل المال، لكن لا يتعلق قلبه به، دعونا لنضرب أمثلة كما ذكر ابن تيمية رحمه الله، فيقول: يكون المال عنده يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، وبيت الخلاء الذي يقضي حاجته فيه.
فالإنسان يحتاج إلى مركب أم لا؟ من قديم كانوا يحتاجون الدواب كالحمير والبغال والجمال، يحتاج حماراً يركبه، وبساطاً يجلس عليه وبيت خلاء يدخل ليقضي حاجته فيه، لكن هل الواحد يحب الحمار جداً وقلبه يعشق الحمار، أو أنه متيم ببيت الخلاء ومتعلقٌ به ولا يصبر على مفارقته، فهذه هي النقطة التي من أدركها فقد أدرك نظرة الإسلام إلى المال، يريد الله تعالى منا أن نكون عباداً نسعى لتحصيل المال وإنفاقه في طاعة الله دون أن نتعلق به، فإذا كان المال عندك مثل الحمار الذي تركبه، أنت لا تستغني عن الدواب، أنت تحتاجها وتشتريها وتبحث عنها وعن الجيد منها، وتسعى لذلك، لكنك لا تعشقها، وأنت أيضاً تحتاج إلى بيت الخلاء، ولكنك لست متيماً ببيت الخلاء ولا عاشقاً له.
إذاً: من كان المال عنده بهذه المثابة، فهو على خير وهذا هو المطلوب.
النوع الثاني من الأموال وهو: الأموال التي لا تحتاج إليها، الزائدة عن حاجتك، فهذه لا تتبعها نفسك، إذا حصلت لك، أنفقت منها في سبيل الله، وإذا ما حصلت لك، فأنت غير محتاج إليها أصلاً، فهذه لا ينبغي أن يتعلق بها القلب، فإذا تعلق القلب بها صار مستعبداً لها، معتمداً على غير الله فيها، فلا يبقى في القلب توكل ولا شعبة من التوكل.
إذاً هذه النظرة الشرعية للمال، كيف يجب أن يكون موقفنا من المال؟ نأخذه من الحلال، وننفقه في الحلال، ولا نعبده ولا نسخط إذا حرمنا ونرضى إذا أعطينا، وما نحتاج إليه نسعى إليه، وما لا نحتاج إليه لا نتعلق به، وما حصل لنا منه، فلسنا نحبه ونتيم به ونهيم من أجله، ولا يكون حبنا من أجل المال وكربنا من المال، ومن أعطانا أحببناه ومن منعنا كرهناه، ونؤدي حق الله فيه من الزكاة والصدقات، ونصل منه أرحامنا، ونفعل فيه بالمعروف: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) فإذا كانت هذه هي العلاقة بالمال، فنحن على خيرٍ عظيم.(35/6)
صفات رجل من أهل الجنة
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذه الصورة السيئة لهذا الشخص السيئ من باب التبيان وبضدها تتبين الأشياءُ، ذكر نموذجاً مختلفاً تمام الاختلاف -في الجزء الثاني من الحديث- مغايراً ومناقضاً للنموذج الأول، النموذج الثاني يقول: (طوبى لعبدٍ آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).(35/7)
هذا الرجل دائماً مستعد للجهاد في سبيل الله
طوبى: هذا اسم للجنة واسم لشجرة الجنة، كما جاء في أحاديث ترتقي إلى درجة الحسن، أن طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها، من أغصانها تخرج ثياب أهل الجنة، هذه طوبى أكبر شجرة في الجنة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها كذا وكذا من السنين لا يدركها ولا يقطعها من عظمها.
طوبى أيضاً: كلمة ثناء ومدح في اللغة، أيضاً طوبى: العيش الطيب والهنيء، كل هذه الأشياء لعبد ما هي صفاته؟ هل هو عبد الدينار والدرهم؟! إنه عبدٌ من نوعٍ آخر، إنه لم يذكره هنا مضافاً إليه، فإذاً ما له إلا سيد واحد، إنه عبدٌ لربه، لم تتشعب به الدنيا فيكون عبداً للدرهم وعبداً للدينار وعبداً للخميلة وعبداً للخميصة، وعبداً للزوجة، وإنما هو عبدٌ لله، آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، ما هو سبيل الله؟ الجهاد، ما هو الفرس؟ عدة الجهاد، آخذ بعنان الفرس: يعني هذا دائماً حاضر ومستعد للجهاد، ما يحتاج إلى تجهز وإعداد، لأنه دائماً في استعداد للجهاد، لأنه أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، آخذ بعنان الفرس مستعد دائماً للجهاد، ما هو العنان؟ هو مِقود الفرس الذي يقاد منه الفرس، هذا الرجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، هذه حياته، قد نذر نفسه لهذا، لأجل الجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله ليس له إلا معنى واحداً، من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله، الرجل هذا ليس إنساناً منعماً ولا مترفاً ولا منغمساً في الدنيا، ولا حريصاً عليها، والدليل على ذلك أنه قال في وصفه: أشعث رأسه، والأشعث: هو مغبر الرأس، من نتيجة ماذا حصل الغبار؟ من الجهاد؛ لأن الذاهب للجهاد والقتال يعلوه الغبار فالمقاتل في السفر وفي المعركة يثور عليه الغبار، فالرجل هذا أشعث.
وقد جاء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة الخندق وهو يحث النبي صلى الله عليه وسلم على الذهاب للجهاد، إلى بني قريظة، فهذا الرجل أشعث رأسه، ليس عنده كريمات ولا مرطبات، ولا أمشاط، في الجهاد أشعث رأسه، مغبرةٌ قدماه من فوق ومن أسفل غبار؛ لأن هذا الرجل يمشي في طريق الجهاد، فهو مغبرةٌ قدماه، الغبار كثير لكثرة جهاده ومصابرته، الغبار كثير على رأسه وقدميه، فهذا الرجل بالإضافة إلى أنه نذر حياته للجهاد، ومستعد دائماً له آخذاً بعنان فرسه، ونيته صافية في سبيل الله وليس منعماً ولا منغمساً في الدنيا بل إنه من كثرة الجهاد واستمراريته في الجهاد دائماً مغبر، الشعث رءوساً: المغبرون.(35/8)
من صفات هذا الرجل أنه كالغيث أينما حل نفع
وهناك صفة مهمة جداً من صفات هذا الرجل وهو أنه حيثما وضِعَ نفع، وحيثما عُين صبر على الوظيفة التي عين فيها، إن كان في الحراسة -مع أن القضية الآن قضية جهاد، فإذاً المهمات كلها مهمات جهادية- إن كان في الحراسة، قيل له: احرس، مع مشقة الحراسة؛ لأن فيها سهراً وتعباً، تحتاج إلى يقظة وانتباه، والمسئولية في الحراسة مسئولية، (إن كان في الحراسة، كان في الحراسة) ليس فقط يعني: استسلم للأمر لا.
كان فيها، يعني: قائماً بحقها، فإذاً: انتبه إلى أن المسألة فيها أنه إذا كان في الحراسة كان في الحراسة يعني: إن وضع في الحراسة، استسلم للأمر وأطاع أمير الجيش ونفذ ما هو مطلوب منه، وقام بأداء الحق، (كان في الحراسة) أي: قائماً فيها غير مقصرٍ بنومٍ أو غفلة، فليس للحارس أن ينام، أو يغفل، فتقع النكبة، فهذا الرجل مطيع، ولو وضع في الأشياء الشاقة، الحراسة تحتاج إلى سهر ومقاومة النعاس، فهذا رجل مطيع وقائم بحق المكان الذي وضع فيه، لا ينام ولا يغفل، (وإن كان في الساقة) انظر سبحان الله! ضرب مثلين، ضرب الحراسة والساقة، الساقة: مؤخرة الجيش، ومؤخرة الجيش مكان لا يتمناه الناس؛ لأن آخر الجيش مكان خمول، فالرجل هذا ليس عنده فرق وضع في المقدمة أم وضع في المؤخرة.
فإذاً: سواء كانت المهمة التي عين فيها شاقة، أو كانت المهمة التي وضع فيها مهمة الجندي المجهول الذي لا يؤبه له، المكان الذي وضع فيه ما عليه أنظار ولا عليه أضواء الناس، ولا يبرز اسمه بين الناس، في الساقة: في مؤخرة الجيش، قيل له: أنتَ وظيفتك أن تمشي خلف الجيش تحرسهم آخرهم من الخلف، وأي شيء يسقط من متاع الجيش تلتقطه، كما كان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، كان ثقيل النوم، فربما تأخر في الاستيقاظ، فكان مستغلاً حتى لتأخره هذا فكان يمشي وراء الجيش وإذا سقط متاع لأحد أو أي شيء، أخذه وأتى به.
هذا الرجل سواء كانت الوظيفة أو المهمة أو الموقع الذي وضع فيه موقعاً شاقاً أو موقعاً مغفلاً، موقعاً ليس مسلطاً عليه الأضواء، فهو مستسلم وراضٍ، ويفعل ما وكل إليه وما أمر به، إنه خامل الذكر، لا يقصد السمو وإنه يأتمر بالأمر، وإنه يتحمل مهما كانت المسألة شاقة، وهذا يدل على فضل الحراسة في سبيل الله.
وقد جاء في فضل الحراسة في سبيل الله أحاديث عدة مثل: (أن النار لا تمس عيناً باتت تحرس في سبيل الله) وفي روايةٍ: (باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر) وجاء عند ابن ماجة: (حرس ليلةٍ في سبيل الله، خيرٌ من ألف ليلةٍ يقام ليلها ويصام نهارها) وأيضاً من حديث عند ابن ماجة عن سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعاً: (من حرس وراء المسلمين متطوعاً لم يرَ النار بعينه إلا تحلة القسم) أخرجه أحمد، وحديث أبي ريحانة مرفوعاً (حرمت النار على عينٍ سهرت في سبيل الله)، هذا جاء نحوه للترمذي وهو عند أبي يعلى من حديث أنس وإسناده حسن كما ذكر الحافظ رحمه الله.
إذاً: الرجل يحرس ويعمل أي مهمة من مهمات الجهاد، هذا الرجل بالرغم من كل هذه المزايا التي فيه إلا أنه عبد لله، نيته خالصة في سبيل الله، الجهاد رغم ما فيه من المشقات والأهوال، مستعد دائماً، وفي أي موضع يوضع يعمل.(35/9)
من صفات هذا الرجل أنه لا يحب الشهرة ولا الرئاسة
هذا الرجل ليس له مكانة في قلوب الخلق أبداً، مستضعف لا يؤبه له، ما هو الدليل؟: (إن استأذن لم يؤذن له) فهو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى لو جاء يستأذن على أهل سلطةٍ لم يأذنوا له، لأنه ليس له مرتبة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب مال، ولا صاحب حسب، ولا صاحب منزلة ومكانة دنيوية، ولذلك لو استأذن عليهم لم يأذنوا له، وبالإضافة إلى ذلك، هو إنسان يحب أن يسير في حاجات الخلق، ويشفع لهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في صفات هذا الرجل: (وإن شفع لم يشفع) فهو إنسان محب للخير، محب لأداء الخدمات للآخرين، ما هي الشفاعة؟ التوسط للغير لجلب منفعةٍ أو دفع مضرة، هذه هي الشفاعة، فهو إن شفع لم يشفع، إذا طلب الدخول لم يؤذن له، وإذا طلب أن يتوسط لأحد لم يقبل كلامه؛ لأن الناس لا يرونه أهلاً للشفاعة، ولا أهلاً للتوسط، ولذلك لو جاء يتوسط لأحد ردوه، فالرجل هذا المدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، وليس مهماً عنده أن يكون وجيهاً عند الناس بل المهم أن يكون وجيهاً عند الله، كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
فليس المهم أن يكون الإنسان صاحب وجاهة عند الناس، المهم أن يكون عند الله وجيهاً، ولو أن الناس ما قبلوا شفاعته ولا أذنوا له، فإن هناك من يقبل وربما هذا الرجل يوم القيامة يخرج من النار آلافاً مؤلفة، فقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن رجل من هذه الأمة يخرج بشفاعته من النار مثل بني تميم، بنو تميم ملايين، واحد من هذه الأمة يخرج من النار بشفاعته عند الله، يشفع عند الله، يقول: يا رب! إخواني الموحدين في النار -هؤلاء عصاة فسقة، لكنهم موحدون وأصحاب صلاة- تجاوز عنهم، اقبل شفاعتي فيهم، فيخرجون من النار بشفاعة هذا الرجل.
قال الشراح أو بعض الشراح: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، المهم أن هذا الرجل الذي لا يشفع وما تقبل شفاعته في الدنيا، يمكن أن يشفع لآلاف مؤلفة عند الله يوم القيامة، لأنه وجيه عند الله، فالله يقبل شفاعته، ويسمح له أن يخرج من النار على يديه أناساً من الموحدين استحقوا العذاب.
(رب أشعث مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وهذا المقطع من الحديث يدل على مسألة ترك حب الرئاسة والشهرة، وحب الرئاسة والشهرة مسألةٌ ابتلي بها كثيرٌ من الناس، التطلع للمناصب، الظهور أمام العدسات، وفي الأضواء وفي المقدمة، ولابد أن يكون اسمه مكتوباً بالخط العريض، وإلا سخط، ولذلك كانت الشهرة وكان عالم الأضواء مهلكة؛ لأنه يذبح الإخلاص ويوقع في الرياء؛ لأن الإنسان يصبح هدفه الخلق والمكانة والذكر عندهم، وأن الخلق يثنون عليه، ويذكرون سيرته، ويكرمونه ويعظمونه، ويدعونه.
إذاً: هذا الرجل الذي في الحديث، ونسأل الله أن نكون من النوع هذا من البشر، هذا رجل عنده خمول ذكرٍ لا يريد الأضواء ولا الشهرة أبداً، وهو إنسان متواضع، تارك للرئاسة والشهرة، وهذا الإنسان ليس إنساناً يدفعه إهمال الناس له إلى إهمال المهمة التي وكل بها، لا.
فلا يقول: الناس أهملوني ودفعوني بالأبواب، وما أذنوا لي ولا قبلوا شفاعتي، فلن أعمل لهم شيئاً، لا، إنه قائمٌ بالمهمات، رغم أن الناس لا يرغبونه، هذه العظمة في هذا الرجل، أنه قائم بالمهمات رغم أن الناس لا يرغبون له، ومع ذلك قائم بالمهمات.(35/10)
الناس في متاع الدنيا على قسمين
هذا الحديث قسَّم الناس إلى قسمين: القسم الأول: ليس له هم إلا الدنيا، إما لتجميع المال، أو لتجميل الحال، فاستعبدت الدنيا قلبه حتى اشغلته عن ذكر الله.
القسم الثاني: من أكبر همه الآخرة، فهو يسعى لها ولو في أعلى المشقات، وأصعب المهمات، والحديث يفيد أيضاً أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور، ولا يستطيع أن يصيب من الدنيا.
ولذلك تجد بعض هؤلاء من التجار الفجار في النهاية يجعله الله عز وجل في نكبة، لا يستطيع أن يعمل أو يداوم أو يسافر، وحتى الأكل لا يتهنأ بالأكل، توضع أمامه المأكولات يقول: أنا ممنوع من هذا، وممنوع من هذا، وممنوع من هذا، يأخذ قليلاً من الخضار المسلوقة ويكفي، هذا كل ما يستطيع أن يأكله، فهو محروم.(35/11)
أهمية الشفاعة الحسنة للمحتاجين
كذلك في هذا الحديث أن الرتب في الدنيا ليست بشيء، لا مدير عام، ولا مدير عام مساعد، كل هذا ليس بشيء مهما طالت الألقاب لا تعني عند الله شيئاً، فلا ينفع عند الله إلا من جاء بقلبٍ سليم وعملٍ صالح، وإنَّ دنو المرتبة عند الناس لا تستلزم دنوها عند الله، بل هذا الرجل الآن مدفوع بالأبواب.
كذلك في الحديث أهمية الشفاعة الحسنة، يعني: أن الإنسان يتوسط في الخير للأشخاص الآخرين، أي شخص يريد منك واسطة خير فقدمها له، إن في الجاه زكاة كما في المال زكاة، ولما فعل بعض السلف شفع واحد لشخص عند الأمير في حاجة، فقضيت الحاجة، فجاء يشكره -جاء يشكر هذا الرجل الذي شفع له- فقال: علام تشكرني؟ نحن نرى أن للجاه زكاةً كما أن للمال زكاة.
مثلما أن للمال زكاة، كذلك للجاه زكاة، فأنا أديت زكاة جاهي وشفعتُ لك عند الأمير، أنا عملت الواجب علي، وليس أني عملتُ معروفاً أو نافلةً حتى تشكرني عليها، أنا عملت الواجب، ما دمت أني معروف والناس يقدرونني، فأقوم بذلك زكاةً واجبةً علي في الجاه، كما أن الزكاة واجبة في المال.
وكذلك في هذا الحديث: أنه قال: (تعس عبد الدينار) ولم يقل مالك الدينار؛ لأن الملك في حد ذاته ليس عيباً، وإنما العيب أن تستعبده الدنيا، وليس أن يملكها، ولذلك قيل للإمام أحمد رحمه الله: أيكون الرجل زاهداً وله مائة ألف؟ قال: نعم.
بشرط ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت، لكن هل هذه سهلة، هل تتصورون يا إخوان أنه سهل للإنسان إذا جاءه مليون فجأةً ألا يفرح، وإذا خسر مليوناً فجأةً ألا يحزن؟! هذه مسألة صعبةٌ جداً جداً، فليست القضية بهذه السهولة، وكون المال يكون عند الواحد إذا جاء وإذا ذهب سواء، من الذي يصل إلى هذه المرتبة؟!(35/12)
الناس أنواع عند تكليفهم بالمهمات
هذا بعض ما اشتمل عليه هذا الحديث، وبالإضافة إلى مسألة إتقان المهمات، الآن نجد أن من الإشكالات الكبيرة أن يوكل الواحد بمهمة ثم ينسحب منها، أو يأباها، والناس مع المهمات أنواع: هناك أناس يهربون من المهمات هرباً لا يريد أن يقوم بأي مهمة، كسلان متواكل متخاذل، وهناك أناس لا يقبل مهمة إلا بعد رجاء وتقبيل الرأس واليدين، وهناك أناس يقبل المهمة ثم ينسحب منها في أولها أو في وسط الطريق ويسبب كارثة، وهناك أناس يقبل المهمة ثم لا يعطيها ولا يقوم بها حق قدرها ولا يقدرها حق قدرها ولا يقوم بها كحق القيام، ولذلك تكون أيضاً كارثة، قلة من الناس من يتقدم ليتحمل المسئولية على الوجه الذي يرضي الله، وقلة من الناس الذين إذا كلفوا بشيء أتقنوه.
بينما هذا الرجل: إذا كلف بشيء أتقنه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، قائمٌ بحقها، فإذاً الأشخاص والمهمات، موقع الأشخاص أو تفاعل الأشخاص مع المهمات، هذه مسألة مهمة جداً وتحتاج إلى تبيين ودراسة وتمحيص؛ لأن كثيراً من الفشل يعود إلى بعض هذه الأسباب التي ذكرناها؛ من قضية الإعراض عن تحمل المسئولية، وقضية أنه لا يتحملها إلا بعد ترجٍ، وقضية أنه ينسحب في أثنائها، أو يقصر في أدائها، هذه من الكوارث التي أدت إلى فشل أعمال كثيرة للمسلمين.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يعملون لنصرة دينهم، ويتحملون مسئوليات هذا الدين، نسأله أن يجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، نسأله أن يجعلنا ممن استعملهم في طاعته، وصلى الله على نبينا محمد.(35/13)
الأسئلة(35/14)
لا تصرف الزكاة في بناء المساجد
السؤال
هل يجوز إعطاء زكاة الأموال في بناء المساجد؟
الجواب
لا، لأن زكاة الأموال في مصارف محددة ليس بناء المساجد منها.(35/15)
يجوز صرف الزكاة في إعانة شاب على الزواج
السؤال
هل يجوز إعطاء شخص يريد الزواج من مال الزكاة؟
الجواب
نعم.
إذا كان يجد العنت إذا ما تزوج؛ يخشى على نفسه الحرام، يعطى ما يمكنه من الزواج دون إسراف، فإن قال قائل: هذا الرجل يدخل في أهل الزكاة من أي باب؟ الجواب يدخل من باب الفقراء؛ لأنه وإن كان غنياً بنفسه لكن هو فقيرٌ لأهله، فقير بزوجته.(35/16)
حكم لبس البنطلون للفتيات
السؤال
لبس البنطلون للفتيات من أسباب الشر العظيمة؟
الجواب
ولذلك أفتى من أفتى من علماء عصرنا بتحريم لبسه؛ ولأنه لو وضع ما وضع من الضوابط كم يمتثل لها من النساء؟ لا يكاد يذكر.(35/17)
أم تعاني من ابنتها المراهقة
السؤال
أنا أمٌ لفتاة مراهقة، ولكنها عنيدة كثيراً لا تريد أن تفعل ما تريد، وكلما رفضتُ لها طلباً تغضب وتثور وترد كثيراً، وتحب أن تتكلم مع زميلاتها بالتليفون كثيراً، وعندما أمنعها تقول: كل زميلاتي لديهنّ أمهات لا يمنعنهن وتتفوه بكلمات جارحة، ومرات أغضب عليها وأدعو عليها، ونسيت أن الله أمرها بالطاعة في غير معصية الله؟
الجواب
تربية البنات وما أدراك ما تربية البنات! تربية البنات صارت في عصرنا هذا أمراً شاقاً وعسيراً ومهمة قل من تصدى لها وأعطاها حقها، مهمة تربية البنات؛ لأننا نتساهل مع البنات منذُ البداية، فإذا لبست ملابس فاضحة، قلنا: هذه صغيرة، وإذا صارت تقرأ بعض المجلات وتشاهد بعض الأفلام، غضينا النظر وتساهلنا في جلوسها في بعض المجالس وعلاقتها بأبناء عمها وأقربائها من الذكور من غير المحارم أو من أبناء الجيران، أو في بعض المجتمعات المفتوحة، ونتساهل عندما تدعى إلى حفلة عيد ميلاد، حفلة مبتدعة، محرمة من التشبه بالكفار، أو تدعى إلى حفلة فيها منكرات، كغناء وموسيقى، ورقص فاضح، وبعد ذلك نقول: البنت لا تسمع الكلام والبنت صار لها اتجاهات سيئة، والبنت بدت عليها أمور مشينة، ونحن لم نعالج ذلك من البداية، فالإهمال في البداية هو الذي يقود إلى النتائج السيئة.
ثانياً: إن معاملة البنات تحتاج إلى شيءٍ من الحزم، ولكنها أيضاً تحتاج إلى شيءٍ من العاطفة، فلابد أن تكون العملية عاطفة ممزوجة بحزم، أما ترك المسألة للبنات تلبس البنت ما تشاء وتذهب إلى أين ما تشاء وتقول: هذه صاحبتي عزمتنا في الفندق، وعملت حفلة في مطعم في القسم العائلي، ونرسلها مع السائق وحدها ونحو ذلك من الأشياء، ونترك لها تقرأ سمر وسحر وتنظر في الأفلام، والأفلام هذه تأتي على النفس الفارغة فتملؤها.
بعض الآباء والأمهات عندهم بعض القواعد، أو بعض الخلفيات الجيدة، أو بعض الممانعات للفسق والفجور نتيجة ما تعرضوا له من الحوادث في حياتهم والخبرة التي اكتسبوها والتجربة عرفوا أن هذا شر وهذا خير، فالأبناء لا يعرفون ذلك، الخبرة نفسها غير موجودة عندهم، ثم إن الزمن يكثر فيه الشر والسوء، وما كان في زمن الآباء والأجداد من وسائل الفساد الآن قد اخترع وروج أضعافه، ولذلك المسألة تحتاج إلى إغلاق أبواب الشر عن البنت وفتح أبواب الخير لها، من الصحبة الطيبة المجالس الطيبة مراكز تحفيظ القرآن درس أسبوعي قصص طيبة وهادفة يقصها الأب تارةً وتسمع من شريطٍ تارة وتقرأ في كتابٍ تارة تعليم الآداب؛ لأن الجيل الجديد هذا متميز بقلة الأدب إلا من رحم الله، فتعليم الآداب في الكلام والنقاش والسلام واحترام الآخرين.
قضية الحياء: نحن نخدش حياة البنت بأشياء، ثم نقول: فقدت الحياء ولا تسمع كلامنا، الحياء يتعلم بالملابس بحشمة الملابس بحشمة الأماكن، الحياء يتعلم بتجنيب البنت التعرض للأفلام والمسلسلات التي تزيل الحياء وتهدمه، ثم إن جعل البنت تكلم من تريد متى شاءت وكيف شاءت تخرج متى شاءت، الحرية التي يتشدق بها بعض الآباء هي التي تفسد البنات.
ولسنا نقول: اكتموا أنفاسهن، لا.
عائشة تقول: [اقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو] والشريعة سمحت بالألعاب رغم أنها مجسمات لذوات أرواح، سمحت بها لأجل مراعاة غريزة العناية بالأولاد والأمومة في نفس البنت من صغرها، غريزة الأمومة، ولذلك ترى البنت إذا أعطيت لعباً اعتنت بهن، تأخذها وربما غسلتها وأطعمتها وجعلتها في الفراش وعليها غطاء وسمتها اسما ًونحو ذلك، غريزة الأمومة في نفس البنت، فلهذا سمحت الشريعة بألعاب البنات، أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم كان يسرب إلى عائشة صويحباتها يلعبن معها، لكن صويحبات خير، أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمح لـ عائشة وصويحباتها بضرب الدف في الأعياد والإنشاد المباح.
إذاً: البنت لابد أن تعطى مجالاً أيضاً، في اللعب المباح، عائشة تقول: [فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو] اللهو المباح، وموضوع الكلام في تربية البنات يطول، ونحن نسأل الله تعالى أن يهدي بنت هذه الأخت وسائر بنات المسلمين.(35/18)
إخراج الزكاة للهيئات الخيرية
السؤال
هل يجوز إخراج زكاة الفطر للهيئات الخيرية؟
الجواب
إذا كانوا سيوزعونها في موعدها على مستحقيها ويشترونها من الأنصاف المشروعة وهم ثقاة، فنعم.(35/19)
حكم التأخر عن الإجازة المقررة في العمل
السؤال
هل يجوز أن نتأخر عن الإجازة التي أعطيتها؟
الجواب
إذا كان عقد العمل الذي أنت تأخذ راتباً بناءً عليه لا يسمح للتأخر عن الإجازة، فلا يجوز لك أن تتأخر، وإذا غبت عن يومٍ لا يجوز أن تأخذ أجرته بل تعيدها إليهم وإن عسر ذلك تصدق بها.(35/20)
الصائم عند فطره يدعو بما يشاء
السؤال
للصائم عند فطره دعوة مستجابة، هل يدعو الواحد بدعوة واحدة؟
الجواب
يدعو بما شاء، ليست دعوة واحدة، يدعو بما شاء، ليس طلباً واحداً بل يطلب عدة طلبات.(35/21)
لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل
السؤال
اشتريت طقم ذهب وفي اليوم التالي ذهبت لإرجاعه فرفض صاحب المحل، ولكن أعطاني وصلاً بسعرها، وقال: يمكنك شراء طقم آخر من أحد فروعنا، فذهبت لفرعٍ آخر وأعطيته وزدت عليه مائتين؟
الجواب
لا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، إذا اشتريت طقماً وزنه عشرون جراماً، وأردت أن تبدله، فأبدله بطقم آخر وزنه عشرون جراماً، بدون زيادة ولا نقصان أو تعيد الطقم وتأخذ مالك.(35/22)
لا يجوز الاستلاف من الأمانة
السؤال
لشخص مال عندي أمانة، وأريد أن آخذ منه مبلغاً لفترة مؤقتة؟
الجواب
لا يجوز أن تستلف من الأمانة شيئاً، إذا أعطيت أمانة تحفظها عندك لا تستلف منها ولا تسلف منها ولا تتصرف فيها أبداً، الأمانة لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن الذي استأمنك عليها.
الأمانة ملك الشخص الآخر فهو الذي يزكيها.(35/23)
حكم استئذان الوالدين عند الذهاب للعمرة
السؤال
أريد أن أذهب إلى العمرة فهل أستأذن والدي؟
الجواب
من البر أن تقول لهم: إنني أريد أن أذهب إلى العمرة.(35/24)
لا يُؤَم المرء في بيته
السؤال
كثيراً ما أسمع: لا يُؤَم المرء في بيته؟
الجواب
نعم.
هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح: (لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد على تكرمته في بيته إلا بإذنه) فصاحب البيت أولى بالإمامة، ولو ما كان هو الأقرأ، طبعاً إذا كان ممن تصح الصلاة خلفه، لكن إذا تنازل، وقال: صلِّ يا فلان؟ أنا قدمتك أنا سمحتُ لك، فلا بأس أن يصلي غيره.(35/25)
لا فرق بين الوساطة والشفاعة
السؤال
ما الفرق بين الشفاعة والواسطة؟
الجواب
هي الواسطة فالشفاعة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85].(35/26)
دفع كفارة اليمين لإفطار الصائم
السؤال
هل يجوز دفع كفارة اليمين لإفطار الصائم؟
الجواب
إذا كانوا عشرة فقراء يجوز أن تعطيهم إفطار صائم.(35/27)
المقصود ببركة السحور
السؤال
ما المقصود ببركة السحور؟
الجواب
البركة الخير والكثرة والزيادة، قد تكون في الجسم وفي الصحة وفي أشياء لا ندركها، فما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن فيه بركة، إذاً فيه بركة.(35/28)
ما يقول المأموم عند ثناء الإمام على الله
السؤال
ماذا يقول المأموم عند ثناء الإمام على الله في الدعاء؟
الجواب
يمكن أن يقول سبحانك، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبح، فإذا كان الموضع موضع تسبيح تسبح.(35/29)
الجمع بين تدبر القرآن وكثرة قراءته
السؤال
أيهما أفضل تدبر القرآن أم كثرة القراءة؟
الجواب
الجمع بينهما.(35/30)
التقصير في الوظيفة بحجة عدم الرضا عن الواقع
السؤال
ما الحكم أن يقصر في أداء الوظيفة بحجة عدم الرضا عن واقع الحال؟
الجواب
إذا كانت وظيفة مباحة فلا يجوز، إذا كان غير راضٍ، يخرج منها، أما يقول: أنا لست راضياً، وأنا لن أفعل، لا.
إما أن يقوم بالوظيفة أو يخرج منها، ما دامت وظيفة مباحة.(35/31)
خروج المذي لا يؤثر في الصوم
السؤال
خروج المذي هل يؤثر في الصوم؟
الجواب
جمهور العلماء أنه لا يبطل الصوم، ولكن هذا الرجل مسيء، وقد جرح صيامه وأنقص أجره بتعرضه لما يخرج المذي.(35/32)
العدل مع الأولاد واجب
السؤال
عن هبة الوالدة لأحد أولادها؟
الجواب
لا يجوز أن يخص الوالد أو الوالدة أحد الأولاد ويعطيه إلا إذا أعطى الآخرين مثله، أو أن يكون هناك سبب شرعي لتخصيص هذا الولد؛ إما أنه مريض يحتاج إلى علاج، أو جائزة حفظ القرآن، أو يريد أن يتزوج فيعيه مهراً، أو قضاء دين، لابد أن يوجد سبب، أما أن يكونوا متساوين في الظروف، نعطي واحداً دون الآخر، فلا يجوز، هذا زور كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.(35/33)
الزكاة تجوز لأحد الأقارب إذا كان فقيراً
السؤال
لي قريب متقاعد يستلم ألفاً وأربعمائة ريال شهرياً راتب تقاعد، له زوجتان ليس له أي مصدر آخر للدخل، سليم البدن بحث عن عمل وما يزال ولم يجد؟
الجواب
إذا كان لا يكفيه ما يأخذه فيستحق الزكاة.(35/34)
لا يجوز أخذ مال أو شيء آخر مقابل الشفاعة
السؤال
إذا عُرض علي أن أشفع لأحد ولكن طلبتُ منه أن يعطيني مقابلاً للشفاعة؟
الجواب
هذا حرامٌ لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من شفع لأخيه شفاعةً فأعطاه هديةً فقبلها منه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، هذا ظاهره أنه حتى لو أن ما اشترط يدخل فيه، لا يجوز أخذ الهدية على الشفاعة، حتى تكون الشفاعة عملية مجانية، كل الناس يقومون بها لكل الناس، كل واحد محتاج يجدها، وليست خاصة لفلان وعلان ومقابل مال، وكل واحد يحتاج إلى شفاعة لا يجد إلا بالمال وبالمعرفة ويضيع أناسٌ كثيرون من المستضعفين، لذلك كانت الشفاعة في الإسلام يجب أن تبذل مجاناً لا يجوز أخذ الأجرة عليها.(35/35)
رجل يمنع زوجته من زيارة الجيران
السؤال
أبي يمنع أمي من الذهاب إلى الجيران ويمنع الجيران من الذهاب إليها؟
الجواب
إذا كان لسبب شرعي فهو محق، وإذا لم يكن هناك سبب شرعي فليس من البر أن يمنعها من البر.(35/36)
صحة حديث الجلوس بعد الفجر إلى أن ترتفع الشمس
السؤال
ما صحة حديث الجلوس بعد الفجر في المسجد ويذكر الله إلى أن ترتفع الشمس ويصلي ركعتين؟
الجواب
حسنه بعض أهل العلم، الإنسان يعمل وحتى لو كان الحديث فيه شيء؛ لأن ذلك فيه أجر عظيم بالتأكيد.(35/37)
الإجازة المرضية حسب العقد المتفق عليه
السؤال
مدرسة مريضة وتأخذ إجازة من الطبيبة، هل تأخذ المعاش؟
الجواب
هذا حسب النظام، نظام العقد التي تعاقدت معهم به وبناءً عليه تأخذ الراتب، إذا قالوا: الإجازة المرضية إلى حد كذا، نعطيها الراتب كاملاً، بعده نصف الراتب، بعده لا نعطيها شيئاً، فإذاً يكون على حسب النظام، العقد الذي تعاقدت معهم بناءً عليه.(35/38)
التراجع تحت ضغط الواقع
لقد أمرنا الله عز وجل أن نتمسك بالدين وأن نثبت عليه، وقد ثبت الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره من تقديم التنازلات، أو الركون إلى الكفار.
وقد ظهر من بين المسلمين اليوم من يدعو إلى قضية التقارب بين الأديان، أو التأقلم مع الواقع والتمشي معه، ويتحججون بحجج أوهى من بيت العنكبوت، إنما هي من تلبيسات الشيطان، فيا ترى ما هو حكم هؤلاء في الكتاب والسنة؟ وهل لا يزالون في دائرة الإسلام أم لا؟ هذا ما تحدث عنه الشيخ في موضوعه هذا.(36/1)
الحث على الثبات أمام ضغط الواقع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الله عز وجل قد أمرنا أن نعتصم بحبله المتين، وبكتابه المبين، وأن نقيم شرعه القويم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103].
وأن الاستمساك بالعروة الوثقى من علامات الإيمان، والاستمساك هو الأخذ بالجميع وعدم ترك شيءٍ: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:93].
وقد أنزل الله عز وجل هذا الدين ليعمل به كما هو، بدون تغييرٍ ولا تبديل، ولا تحريف ولا زيادةٍ ولا نقصان: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
عباد الله! إن عدداً من المسلمين وخصوصاً في هذا الزمان، قد شرعوا تحت ضغط الواقع إلى عمل تغييراتٍ وإجراء تبديلاتٍ في بعض أحكام الدين، لأجل مسايرة من حولهم، وهذه قضيةٌ جِد خطيرة، أن ننتقل من المعصية إلى التبديل والتحريف، فإن العاصي الذي يفعل ما يفعل، وهو مقرٌ بالحكم الشرعي أهون عند الله من الذي يقول: إن الدين ليس هكذا أصلاً، فيحل ما حرم الله، ويبدل ويغير ويزعم أن هذا هو الحكم الذي أنزله الله، وأن الدين يبيح هذا الأمر! ونحن المسلمين لا يجوز لنا بأي حالٍ من الأحوال أن نرضى بأي تغييرات، التي يحاول بعض هؤلاء الانهزاميين أن يجروها على أحكام الدين ويشيعون هذه التغيرات بين العامة.
وانتبهوا معي لهذه القضية، فإنها من الخطورة بمكان، تحت ضغط الواقع، وانهزاماً أمام الهجوم الذي يقوده أعداء الإسلام على الإسلام، وما يروجونه حول المسلمين في إعلامهم، يقوم بعض المسلمين بالكلام على أمورٍ من الأحكام الشرعية، يتضمن تقديم تنازلاتٍ والتراجع عن التمسك بأحكامٍ أو إثباتها، تراجعاً أمام الكفار، وانهزاماً أمام الهجوم ورضوخاً للضغوط، وتروج هذه الفتاوى الجديدة للعامة، في الفضائيات وغيرها على أن هذا من دين الإسلام، هذه من أخطر القضايا التي ينبغي على المخلصين أن يتصدوا لها، وأن ينتبهوا للمكرِ والسوءِ الموجود فيها.(36/2)
تثبيت الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
عباد الله: لقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75].
والله سبحانه وتعالى أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بأن القضية قولٌ فصلٌ وليس بالهزل، وعندما عرض عليه الكفار شيئاً من المبادلة في المواقع وقالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة! أنصاف حلول نتوصل بها إلى أرضيةٍ مشتركة، نتعايش فيها وإياك يا محمد -صلى الله عليه وسلم- تعايشاً سلمياً بـ مكة، تعبد إلهنا سنة، ونعبد إلهك سنة: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
تتراجع أنتَ ويتراجعون هم وتصلون إلى حلٍ وسط: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وناداهم بالكافرين، تصريحاً بكفرهم وإعلاناً بعداوتهم واتخاذاً بالموقف الصريح منهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ليس يا أهل مكة الذين تقيمون معي ويا إخواننا في البلد، لا.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 5].
تكرار بعد تكرار وإصرارٌ بعد إصرار على الثبات على الأصل وعدم التراجع، وإعلان المفاصلة بقوله في النهاية: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
يودع المؤمنُ روحه التي تقبض في نومه بهذه السورة إعلاناً منه بالبراءة من المشركين والثبات على التوحيد قبل كل نومةٍ ينامها! {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].(36/3)
ثبات الكفار على دينهم الباطل
عباد الله: إذا كان الكفار يثبتون على دينهم الباطل، ويقولون لأنبيائهم: إننا غير مستعدين لتغيير ما كان يعبد آباؤنا، ويقولون لأنبيائهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70] {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62] وقال عن قوم فرعون عن قولهم لموسى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170].
الشاهد هنا أن الكفار يتمسكون بما عندهم من الباطل، وإذا كانوا يصرون على الكفر، وليسوا مستعدين لترك ما كان عليه آباؤهم، أفلا يكون الأجدر بنا أهل الإسلام أن نتمسك بما نحن عليه من الحق، وألا نتراجع عما يروجه هؤلاء؟! سواء كانوا أعداء الإسلام، أو الذين يريدون أن يسيروا على منوالهم، ويستجيبوا لدعوتهم، ويتأثروا بضغوطهم.(36/4)
الرد على دعاة التقارب بين الأديان
وإنّ من أوضح الأمثلة على هذا قضية التآخي بين الأديان، أو التقارب بين الأديان، هذه الدعوة التي يروجونها اليوم تحت عنوان السلام العالمي، والتقارب بين الأديان.
ما معنى التقارب بين الأديان؟ إذا كان اليهود يقولون: عزير ابن الله، ويقولون: يد الله مغلولة، ويقولون: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وإذا كان النصارى يقولون: المسيح ابن مريم هو الله، أو هو ابن الله، أو هو ثالث ثلاثة!! كيف يكون التقارب مع مثل هؤلاء البشر؟ أنت يمكن أن تتقارب مع أناسٍ يشتركون معك في الأصول مثلاً، تتقارب معهم في الفروع، لكن إذا كانت الأصول مختلفة تماماً، فكيف يحدث التقارب؟! كيف يمكن أن يحدث التقارب؟! فالتقارب إذاً مع اليهود والنصارى ليس في ديننا وهو كفرٌ بالله عز وجل، والتقارب معهم خروجٌ عن الإسلام؛ لأن الله أنزل ديناً لا يقبل غيره، وأنزل شرعاً لا يرضى بتبديله عز وجل، ولا بالتنازل عن شيءٍ منه، هذا الكلام نقوله الآن في الوقت الذي يخرج أولئك في الفضائيات وغيرها، ليقولوا: إن هناك أخوةً بيننا وبين إخواننا المسيحيين، لماذا؟ قال فُض فوه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] نحن مؤمنون وهم مؤمنون! هذا الدليل.
فإذا آمنوا بكفرهم وبباطلهم، فهم مؤمنون عنده، ونحن مؤمنون بالله، إذاً نحن جميعاً نشترك، ثم يقول: إن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها! أليس الله قد قال: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1].
كيف نقول بعد ذلك: إن بيننا وبينهم مودة؟! يأتي إلى قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] فيقول هذا الكلام كان بالنسبة للوضع أيام النبي عليه الصلاة والسلام وليس الآن؟ فقل لي -أيها المسلم- بالله عليك! أيهما أفظع في التسلط والحرب على الإسلام وأهله؟ يهود اليوم أو اليهود الذين كانوا أيام النبي عليه الصلاة والسلام؟! من هم أشد كيداً وقوةً وحرباً على الإسلام يهود اليوم أم يهود الأمس؟ ثم نأتي ونقول: هذه الآية خاصة بزمن النبي عليه الصلاة والسلام! وكلما تورط هؤلاء العقلانيون الضلال بورطة في نصٍ شرعي، أقرب ما يكون لها أن يُزعم أن هذه خاصة بأيام النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا أي حكم شرعي لم يستطيعوا تطويعه والعبث به، وخداع الناس في شأن تنفيذه أسهل ما يقولون: هذه خاصة بأيام النبي عليه الصلاة والسلام.
وكأن الله عز وجل أنزل ديناً لسنواتٍ معينة، ثم ينتهي مفعوله، وكذلك بناءً عليه تباح الفروع الأخرى! فيما هو دون ذلك في قضية التهنئة بالأعياد مثلاً؛ لأن هذه بجانب هذه لا شيء، فإذا أجاز المودة وقال: إن العداوة أشد العداوة كانت في ذلك الزمان، إذاً قضية التهنئة بالأعياد ليس فيها شيء، قضية بسيطة وسهلة بجانب القضية الكبرى والقاعدة التي وضعت، وهي مسألة الأرضية المشتركة بيننا وبينهم.
ثم يقال: إن العداوة بينا وبين اليهود هي عداوةٌ من أجل الأرض التي سلبوها وليست عداوة ًدينية، والله الذي لا إله إلا هو إذا كنا لا نكرههم لأنهم سبوا الله وقالوا: يد الله مغلولة، وأن الله خلق السماوات والأرض وتعب واستراح يوم السبت، وأن الله فقير ونحن أغنياء، إذا كنا لا نكرههم لأجل هذا فلا دين ولا إيمان، ولا خير فينا على الإطلاق.
إذا كنا سنكرههم؛ لأنهم سلبوا شيئاً مادياً ودنيوياً وهو أرضٌ وزرعٌ، ولا نكرههم لأنهم سبوا إلهنا وخالقنا وأشركوا به، فأي خيرٍ فينا إذاً؟ وأي دينٍ وأي إيمان؟! أيها الإخوة: هناك ممارسات خطيرةٌ جداً تمارس في قضية العقيدة؛ تلبيساً وتشويهاً وتمويهاً، وخداعاً وتضليلاً على المسلمين، قل بحسن نية: يقصد ولا يقصد لكن هذه هي النتائج بوضوح.
أيها الإخوة: إن الإنسان إذا شُتمَ وسبّ أبوه وأمه غضب وانتفخت أوداجه واحمر وجهه، فكيف إذاً يرضى بأن يحب أو يتقارب مع قومٍ سبوا إلهه، إذا كان الإنسان يغار على عرضه، أفلا يغار على دين ربه؟ لماذا إذا انتقص منا شيءٌ غضبنا، وإذا سلب منا مالٌ قمنا وفزعنا، وإذا انتقص شيءٌ من الدين سكتنا، ولم ندافع عن ديننا فأي خيرٍ في قومٍ هذه طريقتهم؟!!(36/5)
قضية التأقلم مع الواقع
عباد الله! وإن من التنازلات التي تقدم التنازل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، إن التنازلات في هذا المجال كثيرةٌ وكثيرةٌ جداً، وتأتينا تحت مسمى التأقلم والتمشي مع الواقع، يُعرف علماء الاجتماع هذا بالتأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في العصر.
التأقلم والتمشي والمسايرة يجب أن ننتبه جداً لهذه الدعوة الخطيرة بهذه السكين التي تذبح العقيدة! وتذبح الأحكام الشرعية، فإذاً لو قال لك إنسانٌ: أنا سأتأقلم مع الواقع المعاصر، وسأنتقل من استعمال الجمل إلى استعمال السيارة، نقول: هذا تأقلمٌ جيد في أمور الدنيا، تأقلم بما أباح الله! وساير وواكب وتمشى بما أباح الله، لكن لو أن أحداً قال لك في أحكام الدين: سنتأقلم ونتمشى ونساير الواقع؛ فاعلم أنه ضالٌ مضلٌ، مفترٍ كذابٌ، أشر وداعيةُ باطل؛ لأن المقصود تغيير الدين، لو قال: هذا حكمٌ ولا أستطيع تطبيقه، بل لو قال: وأنا عاصٍ لا أطبقه لكان أهون، لكن أن يقول: إن الحكم ليس هكذا، وأن الحكم قد تغير في هذا الزمان؛ الحكم قد تغير؟! هذه كارثة كبرى، وهذه مصيبة عظيمة!! ولذلك كان من الوسائل التي استعملها هؤلاء المنهزمون، قضية العقل في مواجهة النص الشرعي، وجاءوا بالأمثلة، فإذا قلت، ثبت في الصحيحين عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يؤتى بالموت كهيئة كبشٍ أملح) قال عقلي لا يقبل هذا! والموت أمر معنوي وكيف يكون كبشاً أو حيواناً من الحيوانات؟! فنقول: ألست تعلم أن الله على كل شيء قدير؟!! إن الله قادر على أن يبعث هذه الأجساد بعد أن صارت بالية، فما بالك إذاً بأن يجعل الشيء المادي معنوياً والمعنوي مادياً، أليس الله على كل شيءٍ قدير؟! وعندما يأتي إلى حديث في البخاري: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) قال: هذا لا يتماشى مع الواقع، لابد أن نتأقلم مع الواقع، والواقع الآن فيه رفعٌ لراية المرأة، وحرية المرأة، ودور المرأة، فكيف نستطيع أن نجاهر بهذا الحديث في عالم اليوم؟ لا مكان لحديث البخاري في عالم اليوم! عالم اليوم: عالم الحرية، عالم رفع لواء المرأة وتحرير المرأة، وتوسيع دور المرأة، كيف نقول: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)؟ إذاً: هذا حديث لا يصلح أن يطبق في عالمنا اليوم!.
ولذلك هؤلاء لا يمكن أن يقروا أبداً أمام الناس وفي الملأ والفتاوى الفضائية بحديثٍ مثل: (ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودينٍ أسلب للب الرجل الحازم من إحداكن) ما يمكن أن يقول بهذا، لأنه يراها عيباً، وهذا من أسوأ أنواع الانهزام، أن يرى الإنسان نصاً شرعياً وحكماً دينياً، يراه عيباً، ولذلك لما عرض عليه الحديث قال: هذه كانت مزحة من النبي عليه الصلاة والسلام، مزحة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
كيف يكون هذا الكلام مزحة، وغير مقصود؟ هل النبي عليه الصلاة والسلام يلبس على الناس ويقول كلاماً لا نعرف جده من هزله ولا نعرف مقصوده؟! أهذه مزحة؟! أهذا نبي أم لعب؟! أهذا مسلسل فكاهي؟! أم هو نبيٌ يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم! ثم يأتي إلى حديث: (ما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين) يقول: مزحة!! فإذا قلت: قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يقتل مسلمٌ بكافر) هذا مؤمن وذاك كافر لا يستويان عند الله فيقول: هذا مخالف للعدل، وهذا الحديث لا يليق بزماننا، سبحان الله! انظر للقضية لا يليق بزماننا! إذاً الزمان الآن هو الحاكم، والواقع هو المسيطر، والتشريع يأخذ من الواقع، وما كان مرفوضاً في الواقع فهو مرفوضٌ عنده، وما كان الواقع يقبله فهو مقبولٌ عنده، وليس ما يقبله الدين وما يرفضه الدين، وإنما ما يقبله الواقع وما يرفضه الواقع.
فإذا قال لك إنسان: لو أن مسلماً قتل كافراً ماذا يكون عند الله؟ نقول: إذا قتله بحق، فهو مأجور، وتقرب إلى الله بقربةٍ من أعظم القربات، وإذا قتله معتدياً ظالماً فهو آثم عند الله (ومن قتل ذمياً بغير حق لم يرح رائحة الجنة) لكن شرعاً في القضاء الإسلامي لا يُقتل، مثل الوالد لو قتل ولده حكمه عند الله من جهة الإثم أنه آثم إثماً كبيراً.
أزهق نفساً بغير حق، لكن الشارع هو الذي قال: لا يقاد والدٌ بولده، ولذلك لا يقتل الوالد، لاعتبارٍ معين يريده الشرع، لكن عند الله آثم يعذب في نار جهنم بالزبانية وبأشد العذاب، هذا أمرٌ معروف، لكن في الحكم والقضاء الشرعي لا يقتل! هذا شرع الله، فإذا قال لك: إن هذا ليس فيه عدل ولا إنصاف، كفر مباشرةً؛ لأنه يتهم الله بالظلم ويتهم الشريعة بالحدية.
إذاً أيها الإخوة: تحت ثقل الواقع يرزح هؤلاء ويتراجعون عن أحكام الدين، ويشوهون الإسلام، وينقضون عرى هذه الشريعة عروةً عروة، باسم التأقلم والمسايرة والتمشي، ليس في الأمور الدنيوية، وإنما في الأمور الدينية وهذا هو الخطر.
اللهم إنت نسألك أن تفقهنا في ديننا، وأن تبصرنا بشرعك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا بدينك مستمسكين، اللهم إنا نسألك السلامة والعافية يا أرحم الراحمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(36/6)
حكم من يرفض بعض الأحكام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله! قد عرفنا خطورة دعاوى هؤلاء الذين يريدون تغيير الأحكام الشرعية، ولا يقرون بالحدود مثلاً، فيرفضون تطبيق حد الردة، ويرفضون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ويرفضون تطبيق حد رجم الزاني ويقولون: لا يتناسب مع العصر، ويرفضون قطع الأعضاء، مثل قطع يد السارق، أو إقامة حد المفسدين في الأرض، أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويقولون: هذه وحشية لا تتناسب مع العصر الحالي، عرفنا أن القائل بهذا ضالٌ مضل، بل إنه كافرٌ لأنه رافضٌ للحكم الشرعي الذي أنزله الله، ومن لم يرض بما أنزل الله فهو كافر، ومن لم يكفر الكافرين الذين كفرهم الله فهو كافرٌ كما نص العلماء، ومن رفض تكفير الكافر أو شك في كفره فهو كافر، لأن الله كفره، قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ثم قال هذا أنا لا أكفره، أو أتوقف في كفره والله قد كفره وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] عرفنا إذاً على ضوء ما تقدم الذين يقولون: إن الربا لا شيء فيه في هذا العصر، أو أن القليل منه: (1%) / (2%) لا يتجاوز (5%) لا بأس به إذا كان باسم مصاريف إدارية! إن ذلك كله هراء وكلامٌ فارغ، وأنه خروجٌ عن الشرع، ومصادمةٌ لدين الله عز وجل، والذين يقولون إن الاختلاط اليوم لا بأس به تحت ضغط الواقع، وأن المدارس والجامعات لو صارت مختلطة فلا بأس بذلك تحت ضغط الواقع، وأن النساء لو تساهلن في بعض الأشياء المتعلقة بالحجاب لا بأس به تحت ضغط الواقع، ولو قادت المرأة السيارة وخرجت بين الرجال فلا بأس به تحت ضغط الواقع.
إن كل هذه الدعاوى ضالة مضلةٌ، مصادمة للشرع ولو قالوا: إنكم متخلفون ورجعيون، وتنظرون إلى الوراء وغير ذلك، فنقول: الحمد لله، من تمسك بهدي النبي عليه الصلاة والسلام فهو المفلح، نحن ننظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى هديه وسيرته فنأخذ عنها.(36/7)
التحذير من تقديم التنازلات
ونريد أن نذكر في هذا المقام في قضية ضغط الواقع والتأقلم والتمشي، ونحو ذلك من أنواع المسايرات ما يفعله بعض المقصرين من المسلمين في إدخال أمورٍ من المنكرات إلى بيوتهم وحياتهم.
فيتساهلون بمجيء الخادمة بغير محرم، أو المرأة الكافرة إلى بيوتهم، وكذلك جلب أدوات اللهو وآلاته وأجهزته إلى بناتهم ونسائهم وأولادهم فيطلعون على الأمور المحرمة، ويتساهلون في اختلاط الرجال بالنساء في الأعراس مثلاً، وفي مصافحة المرأة للرجل في المقابلات العائلية، ويأمر زوجته بأن تترك الحجاب أمام إخوانه؛ لأن بالحجاب بزعمه تشتيتٌ للعائلة وتفريقٌ لهذه الجَمْعَة، وتخريبٌ لحلاوة السهرة، وإفسادٌ للوئام، ولمْ شمل العائلة كما يقولون.
نعلم أن هذه كلها من التساهلات التي لا يرضى بها الشرع، وكذلك ما حدث من تقليد نساء المسلمين للكافرات في لباسهنّ وغير ذلك؛ وهذا كله من أنواع التساهل الذي فعله بعض الناس، قد يكون فعلاً بغير رغبة في المعصية، ولا إرادة مبدئية للخروج عن شرع الله، لكن فعلوه تحت ضغط النساء والأولاد، أدخلوا هذه المنكرات وأجهزة اللهو وسمحوا لبناتهم بممارسة أمور غير شرعية تحت ضغط هؤلاء، ومسايرة لهم، ومن كثرة إصرار زوجته عليه، ومما سمع من الكلام من بناته جلب ما جلب وسمح بما سمح، وتغاضى عما تغاضى عنه، وسكت عما سكت عنه! هذا حال كثيرٍ منا، لا يريد فعلاً أن يخرج عن شرع الله ابتداءً، ولو لم تكن هناك ضغوط لما رضي بهذا، هذا حال الكثيرين فيهم خيرٌ ودينٌ وطيبة، لكن تحت الضغط رضي بأشياء!! أيها الأخ المسلم! من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله ولو سخط الناس، رضي الله عليه وأرضى عنه الناس.
أيها الأخ المسلم! قدم دينك قبل زوجتك وبناتك وأولادك، قدم حكم الله على ضغط الواقع، أين الصمود وأين القبض على الدين؟! نحن نعلم أننا في زمن كثرت فيه الفتن، وأن القابض على دينه يوشك أن يصل إلى مرحلة القبض على الجمر، لكن يا إخوان: أليست هذه مسئولية؟! أليس هناك حسابٌ يوم الدين؟! أليس الله سائل كل راعٍ عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع؟! إذاً لا بأس بالصبر على مرارة الضغوط من أجل تحصيل الحلاوة يوم القيامة! لا بأس بالصبر على ضغوط الواقع من أجل النجاة يوم الدين، عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة! ولذلك نذكر أنفسنا بيومٍ يجعل الولدان شيباً، بيومٍ طويل عبوسٍ قمطرير؛ أي طويل مهول يعبس الناس فيه من شدة الأهوال التي يرونها: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
أيها الإخوة: من خاف ربه لم يخف الناس! ومن خشي الله واليوم الآخر لم يخش الناس: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:3].
فمن وضع الآخرة نصب عينيه صبر على الضغوط، وصبر على ما يلقى من الأذى، وليس المقصود استعمال القوة دائماً والبطش، وإنما المعالجة بالحكمة؛ دارهم دون أن تغضب ربك! ليس على حساب الشرع، وإنما بالكلمة الطيبة، والحكمة والموعظة الحسنة، وفي النهاية الامتناع من قبلك عن جلب أي منكر، وعن الرضى بأي حرام لأجل أن يرضى الله عنك.
اللهم ارض عنا يا رب العالمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم اجعلنا نخشاك كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وأصلح أولادنا وذرياتنا وبيوتنا يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في بلاد الشيشان، اللهم انصر المجاهدين في بلاد الشيشان، وفي كشمير وسائر البلدان يا رب العالمين! اللهم ارفع راية الجهاد، وأعلِ كلمتك في أرضك يا إلهنا يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين، وأذل الكافرين.
اللهم إن نسألك أن تعاجل الروس واليهود والمشركين بنقمتك إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم أنزل بهم بطشك وعذابك، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آية، اللهم أرنا فيهم آيةً يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم زجرك وعذابك.
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم من أراد بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين بسوءٍ فاجعل كيده في نحره، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وارشد الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(36/8)
مواقف تربوية مؤثرة من سير العلماء
إن العلماء الربانيين هم القدوة الحسنة، لذلك لابد من معرفة المواقف التربوية في حياتهم حتى نتعلم منهم التربية الحسنة، ونستشف من مواقفهم العظيمة دروساً وعبراً وعظات، فلم يكن العالم صاحب علم فقط، بل كان صاحب علم ودين وتربية وأخلاق وآداب إذاً لابد من معرفة هذه المواقف والتأمل فيها والاستفادة منها هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله في هذا الدرس، حيث إنه قد ذكر عدة مواقف تربوية للعلماء الربانيين السابقين، مبيناً أثرها في التربية.(37/1)
حقيقة التربية عند العلماء السابقين
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى كما جمعنا في بيته هذا أن يجمعنا في دار الخلد في جنات النعيم، آمين وأشكر هذه الإدارة الكريمة على هذه الدعوة الكريمة في هذه الليلة، وأسأل الله أن يجزي بالخير جميع من حضر واشترك وساهم في إعداد هذه الدروس، التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً.
أيها الإخوة: إن الله سبحانه وتعالى قد طلب منا أن نكون ربانيين، فقال: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] والرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وهذه الأمة علماؤها الذين ساروا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم علماء ربانيون، مواقفهم تربي الناس.
ما هو الموقف التربوي أيها الإخوة؟ هو كلمات أو تصرفات يقوم بها العالِم، أو طالب العلم، أو الداعية، أو مسلم من المسلمين، صاحب نيةٍ حسنة ينفع الله بها، تستقر في النفوس، وتعمل عملها في النفوس.
وأبدأ بكلام لـ ابن الجوزي -رحمه الله- يبين هذا المفهوم، يقول رحمه الله في صيد الخاطر معبراً عن تأثره الشخصي بهذه القضية، قال: "ولقيت الجماعة من علماء الحديث أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه، ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبةٍ يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة ويسرعون بالجواب؛ لئلا ينكسر الجاه وإن وقع الخطأ، ولقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذٍ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد الأدب في نفسي -وهذا هو الشاهد- وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل، ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً محققاً، وربما سُئل عن المسألة الظاهرة التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما، ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول، فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر.
أيها الإخوة: إن علماءنا -رحمهم الله ونفعنا بهم- وأهل العلم الذين عملوا بالعلم لا تزال سيرتهم تنقل عبر الأجيال، تؤثر في القريب والبعيد، والذي لم يشهد يقرأ هذه السير وينتفع بها من بعدهم، فيكون ذلك معيناً لأجورهم، لا ينضب عبر الأجيال، خلَّد الله ذكراهم بإقبالهم على الله وعملهم بالعلم.
إن المواقف التربوية من سير العلماء هو ما ينبغي أن نتطلبه ونحن نؤكد على أهمية التربية، وكيف يربي الإنسان نفسه، وكيف يأخذها بمجامع الإيمان والأدب والخلق والعلم؟ هذه المواقف ينبغي أن نتوقف عندها وأن نتمعن فيها، وهي كثيرة جداً، وبعضها مشهور ومعروف، انتخبت بعضها؛ لكي تكون لنا ذكراً وتذكرة ونفعاً بإذن الله عز وجل.(37/2)
تعظيم الحديث عند السابقين
كيف كانت النصوص الشرعية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تؤثر في قلوب الناس ويكون لها وقع في قلوب الناس؟ لماذا تقرأ الأحاديث الآن ويندر أن تجد لها أثراً وقد كانت تقرأ من قبل ولها آثار عظيمة؟ السبب هو قلب الذي يقرأ وكيف تربى وكيف رُبىِّ بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كان مالك رحمه الله من أشد الناس إجلالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فعمن اكتسب هذا؟ يقول مالك رحمه الله وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه -وكلمة (أرمقه) مهمة في معايشة أهل العلم والفضل والأدب والخلق المربين- فلا أسمع منه غير أنه إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضل، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثير الدعابة والتبسم؛ فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة، ولقد اختلفت إليه زماناً -المسألة ليست مشهداً ولا مشهدين ولا موقفاً ولا موقفين- فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلياً، وإما صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري، وكان ممن أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.
إذاً: أيها الإخوة! كان للحديث شأن في نفس الإمام مالك؛ لأنه عايش وتربى على أيدي علماء كانوا يعظمون الحديث، فخرج معظماً للحديث مثلهم إن الأحاديث لها وقع في النفوس، ولها مكانة وهيبة.
وكان هؤلاء العلماء من تربيتهم لتلاميذهم أنهم يشعرون المتلقي بعظمة العلم الذي يتلقاه وأهميته؛ فقد روى ابن أبي حاتم -رحمه الله- عن عمران بن عيينة، قال: حدثنا عطاء بن السائب، قال: أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال: قد أخذت علم الله، قد أخذت علم الله، فليس أحدٌ اليوم أفضل منك إلا بعملك، ثم يقرأ: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:166] هذا المعلم يقول للمتعلم: انظر إلى العلم الذي تأخذه واعرف قدره ومنزلته.
ولذلك كان للعلم تأثير عظيم في نفوسهم، وتعظيم نصوص الوحي والوقوف عندها وعدم الاعتراض عليها مبدأ مهم جداً في حياة المسلم، هذا المبدأ لو أُلقيت فيه محاضرات وخطب لا يكون مستقراً في النفوس كما لو صار مستقراً بمواقف وأحداث.
قال الذهبي رحمه الله: وفي مسند الشافعي سماعنا: أخبرني أبو حنيفة بن سماك، حدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود) الدية أو القصاص، يقول الراوي: فقلت لـ ابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا الحديث؟! فضرب صدري وصاح كثيراً، ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ نعم.
آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى كل من سمعه، إن الله اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس؛ فهداهم به وعلى يديه؛ فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك.
وقال محمد بن أحمد البلخي المؤذن: كنت مع الشيخ ابن أبي شريح في طريق، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة شهور، فكأنه يقول: هل هو ولدي أو ليس بولدي؟ فقال: هو ولدك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش) ما دامت الزوجة عندك، وما دامت الزوجية قائمة فهي فراشك، فعاوده -أي: السائل- فرد عليه بذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا -غير مقتنع- فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا له: جاهل لا يدري ما يقول، اعذره، تلطفنا معه حتى سلم منه.
لقد كانت للنصوص هيبة عندهم، وتعظيم النص والتسليم له كان أمراً معروفاً عندهم، وقد يحتاج أحياناً العالِم لشيء من التأديب لبعض هؤلاء المعترضين.
وهذه قصة ذكرها ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسيره، ناقلاً عن ابن جرير، حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي، حدثنا وكيع بن الجراح، عن المسعودي، -ووكيع روى عن المسعودي قبل الاختلاط- عن عبد الملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خرجنا حجاجاً؛ فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نماشى ونتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي -سنح لنا، أي: أتى من الشمال، وإذا أتى من اليمين يقال: برح- فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خشاءه -وهي المنطقة الناتئة خلف الأذن، أصابه في مقتله- فسقط ميتاً، قال: فعظّمنا عليه كيف تصيد في الحرم؟ قال: فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْبُ فضة -وهو السوار الذي يكون لياً واحداً، وكان عبد الرحمن بن عوف أبيض مشرباً بحمرة، وهذا هو الذي كان جالساً بجانب عمر - فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه -يتشاور معه في الحكم، ثم أقبل على الرجل، فقال: أعمداً قتلته أم خطأً؟ قال الرجل: لقد تعمدت رميه وما تعمدت قتله، فقال عمر: [ما أراك إلا أشركت بين العمد والخطأ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها وأسق إهابها] وعلق الشيخ محمود شاكر رحمه الله: [وأسقِ إهابها] أي: إعط إهابها من يدبغه، ويتخذ من جلدها سقاء [قال: فقمنا من عنده فقلت لصاحبي: أيها الرجل! عظم شعائر الله، عظم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه، اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعل ذلك، قال قبيصة: ولا أذكر الآية من سورة المائدة: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] قال: فبلغ عمر مقالتي فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدرة، فعلا صاحبي ضرباً بالدرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفهت الحكم؟! ثم أقبل علي -ليؤدبه- فقلت: يا أمير المؤمنين! لا أحل لك اليوم شيئاً يحرم عليك مني.
فقال: يا قبيصة بن جابر! إني أراك شاب السن، فسيح الصدر، بين اللسان، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة، وخلق سيئ، فيفسد الخلق السيئ الأخلاق الحسنة، فإياك وعثرات الشباب] لا تستعجل وتعترض على الحكم، حكم به ذوا عدل من الصحابة وتخالف وتفتي بغير ما قلناه، وهذا التأديب يكون سلطة لبعض الناس قد لا تتوافر للكثيرين، لكن الشاهد أنه وسيلة، موقف يتربى عليه قبيصة من عمر رضي الله تعالى عنهما في الوقوف عند الفتوى، وفي عدم الاستعجال في تخطئة العلماء.(37/3)
التأثر بالآيات عند العلماء السابقين
أيها الإخوة: لماذا تكون بعض الآيات حية في بعض النفوس والضمائر؟ لماذا يكون لها تأثير؟ لأن هؤلاء تلقوها بنفوس مفتوحة، والذي علموهم إياها لم يعلموهم إياها بنفسٍ باردة، بل علموهم إياها بنفوس وقلوب حية، ولذلك بقيت الآيات لها تأثير.
خذ مثلاً قول الله تعالى في سورة مريم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] هذه الآية كان عدد من السلف إذا قرءوها بكوا بكاءً شديداً، [كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته؛ فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيكِ؟ فقالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فلا أدري أأنجو منها أم لا؟] وكان مريضاً هذه تربية من الزوج لزوجته على هذه الآية، والخشية من الله.
وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: "ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال: أخبرنا أنَّا واردوها، ولم نخبر أنَّا صادرون عنها"، قطعاً أنا واردون جهنم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] لكن ليس عندنا شيء يثبت لكل واحد منا أنه سينجو منها.
وعن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك واردٌ النار؟ -انظر إلى الموعظة وأسلوبها، هذا الأسلوب التربوي- قال: نعم.
-تذكر الرجل الآية- قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا.
قال: ففيم الضحك؟!(37/4)
سيرة السلف وأثرها في التربية
كان العلماء رحمهم الله يخفون أعمالهم بالعبادة؛ فيطلع الله عز وجل بإخلاصهم بعض الناس على أعمالهم الخفية.
إن على الإنسان أن يجتهد في عمله، لكن الله سبحانه وتعالى أحياناً يطلع بعض الناس من تلاميذهم أو من أصحابهم على أعمالهم الخفية، فإذا رأوها تأثروا بها؛ فيكون لذلك الموقف تأثير ما قصده الشخص، فما قصد الشخص أن يري الآخر عمله، لكن لإخلاص هذا الرجل يطلع الله بعض الناس على أعماله الخفية؛ فتكون تربيةً لهم.
إن التربية -أحياناً- لا تكون مقصودة بالذات، لكن سيرة الرجل ما خفي منها وما ظهر كلها تربية، يقول حماد بن جعفر بن زيد: إن أباه جعفر بن زيد أخبره قال: خرجنا في غزاةٍ إلى كابول، وفي الجيش صلة بن أشيم؛ فنزل الناس عند العتمة فصلوا، ثم اضطجع، فقلت: لأرقبن عمله -هذا رجل يستحق أن نراقب أعماله، وننظر ماذا يفعل في خلوته وسره- فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثب فدخل غيضةً قريباً منا ودخلت على إثره -ينظر ويراقب- فتوضأ فقام يصلي -دخل في مكان فيه أشجار حتى يستتر عن الناس في الليل ثم قام يصلي- وجاء أسد حتى دنا منه؛ فصعدت في شجرة، فلما سجد قلت: الآن يفترسه فجلس ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكانٍ آخر، فولى وإن له لزئيراً تصدع الجبال منه! قال: فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس -جهاد وقيام ليل- فحمد الله بمحامد، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ثم رجع وأصبح حتى كأنه بات -أي: بين الناس- وأصبحت وبي من الفزع شيء لا يعلمه إلا الله.
وكذلك دخل رجل من طلاب النووي -رحمه الله- المسجد في الليل، فإذا صوت شيخه النووي قائماً في الليل في المسجد، يقرأ آية ويرددها ويبكي، ويقرأ آية ويرددها ويبكي، وهكذا قال: فوقع في نفسي من الخشوع ما الله به عليم.
إذاً: الناس المخلصون يُطلع الله على بعض سيرتهم بعض الناس فينقلونها، وكثير من هذه الأشياء موجودة في الكتب، هذه مواقف كانت مخفية، وبعضهم اطلع بعض طلابهم على شيء، فاستحلفه ألا يخبر به حتى يموت، وهدده أنه لو أخبر به أن يقاطعه ولا يكلمه أبداً ولا يعلمه حرفاً، ولذلك ما نشرت الأعمال إلا بعد موت الشخص، نشرت وسطرت ونقلت إلينا في الكتب.
ومن هؤلاء عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى، قال علي بن الفضل: رأيت الثوري ساجداً، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، وصلى بعد المغرب فسجد فلم يرفع حتى أذن العشاء، وكان الثوري -رحمه الله- إذا صلى الليل اضطجع فرفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى أسفل من كثرة وقوفه.(37/5)
إخفاء الأعمال وأثره في التربية
إن إخفاء الأعمال له أثر تربوي كبير جداً، والإخلاص باب يفتح الله به على بعض الناس، يرى من خلاله سير بعض هؤلاء الذين أخفوا أعمالهم.
ففي ترجمة محمد بن إسماعيل البخاري يقول أبو بكر بن منيف: كان محمد بن إسماعيل البخاري ذات يوم يصلي، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته اشتكى، فنظروا فإذا الزنبور قد أصابه بالورم في سبعة عشر موضعاً ولم يقطع صلاته، فلاموه، فقال: كنت في آية فأحببت أن أتمها.
وما قطع الصلاة.
يقول علي بن محمد بن منصور: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري، فرفع إنسان من لحيته قذاةً وطرحها إلى الأرض، فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس -الآن حركات محمد بن إسماعيل تحت المجهر من ذلك الرجل- والبخاري يراقب الناس وينظر إلى القذاة، فلما غفل الناس رأيته مد يده فرفع القذاة من الأرض فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد رأيته أخرجها وطرحها على الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه لحيته.
ففي هذا الموقف هل كان البخاري تقصد أن يراه ذلك الشخص؟ أبداً.
لكن الموقف أطلع الله عليه واحداً ونُقل وسُطر، وفي سيرة البخاري يوجد هذا الموقف ويقرؤه طلاب العلم إلى الآن.(37/6)
مواقف إثبات عقيدة السلف وأثرها في التربية
وقد يكون الموقف -أحياناً- في تقرير السلف موقفاً تربوياً يظهر عقيدة السلف ويرد على البدعة فهذا الشيخ الصالح أبو جعفر الهمداني -رحمه الله- لما صعد أبو المعالي الجويني على المنبر يقول: كان الله ولا عرش.
وهو يريد أن ينكر العلو، وينكر استواء الله على عرشه، فقال: يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش، هذا شيء قد ثبت بالسمع وهو أمر منتهٍ، أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، وما رفع داعٍ قط يديه يقول: يا ألله، إلا ونفسه وفطرته تطلب العلو، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني، ونزل.
هذا موقف واحد نصر الله به الحق موقف واحد قد يدخل به الإنسان الجنة موقف واحد يسكت به بدعة، أو ينصر به السنة خطبة واحدة أو درس واحد أو عبارة واحدة ينصر الله بها الحق، وتكتب عند الله حسنة عظيمة ترجح في الميزان، وربما لا ينقل عن بعض الأشخاص إلا موقف واحد فقط، ما عرفناه إلا من خلال هذا الموقف، لكن هذا الموقف لما كان عظيماً عند الله نُشر ونُقل وكتب الله له الخلود.(37/7)
مواقف العلماء مع السفهاء وأثرها في التربية
أحياناً يقع العالم في تعامله مع سفهاء جاهلين، فكيف يكون موقفه؟ وكيف يتعلم الناس منه؟ وما هو التصرف لو نصحت شخصاً فرد عليك بسفاهة؟ لو أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فاعترض عليك بوقاحة؟ روى ابن أبي حاتم -رحمه الله-: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءةً، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الله بن نافع: أن سالم بن عبد الله بن عمر مرَّ على عير لأهل الشام وفيها جرس، فقال: إن هذا منهي عنه -الجرس في عنق البعير والدابة في السفر منهي عنه- (لا تصحب الملائكة رفقة وفيهم جلجل) أي: جرس -فقالوا: نحن أعلم بهذا منك -بهذه السفاهة- إنما يكره الجلجل الكبير، فأما مثل هذا فلا بأس به، فسكت سالم وقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وستأتينا -إن شاء الله- مواقف حول هذا الموضوع في تصرف العالِم مع السفيه ومع الجاهل.(37/8)
صيانة العلم عمن لا يستحقه وأثره في التربية
كيف تكون للعلم قيمة؟ عندما يصان عمن لا يستحقه، ولا يوضع في غير موضعه؛ كان المازني -رحمه الله- من كبار علماء اللغة ذا ورع ودين، أراد يهودي أن يدرس النحو فقد حصّل جزءاً من هذا العلم فجاء ليقرأ على المازني كتاب سيبويه فبذل له مائة دينار وقال: أعطيك مائة دينار وأقرأ عليك كتاب سيبويه، فامتنع وقال: هذا الكتاب يشتمل على ثلاثمائة آية ونيف، فلا أمكن منها ذمياً أنت يهودي وهذا كتاب وإن كان في اللغة لكن فيه ثلاثمائة آية، فلا أمكن منه ذمياً، ولذلك يعظم العلم في نفوس الأصدقاء والأعداء بمثل هذه المواقف.(37/9)
التواضع وأثره في التربية
من الأشياء التي نستفيدها من العلماء في مواقفهم: التربية في تواضعهم في أخذ العلم، وعزو العلم إلى قائله، ووصاياهم، فإذا ذكر شيء يقول الشخص: خفي عليّ، لم يكن لي به علم حتى أفادنيه فلان، هذه المسألة استفدتها من فلان، فلان علمني إياها، وهذا من التواضع.
يقول أبو عبيد رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل -والإنسان إذا ذهب يزور العلماء بنية الاستفادة يخرج بفوائد- فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقني وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله! أليس يقال: صاحب البيت أو المجلس أحق بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم.
يقعد ويُقعد من يريد، فقلت في نفسي: خُذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله! لو كنت آتيك على حق ما تستحق لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، فقلت: هذه أخرى يا أبا عبيد، فلما أردت القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! فقال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن يُمشى معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه -والآن حتى يدخل السيارة ويغلق باب السيارة ويتحرك- قال: فقلت: يا أبا عبد الله! من عن الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة، عن مجالد، عن الشعبي، فقلت: يا أبا عبيد! هذه الثالثة.
هذه نفسية المستفيد، والذي يقول: استفدت الفائدة من شيخنا فلان، أو شيخي فلان علمني إياها ونحو ذلك.(37/10)
جداول العلماء وبرامجهم اليومية وأثرها في التربية
أحياناً تكون جداول العلماء ودروسهم وبرنامجهم -كما يقال- اليومي بحد ذاته عبرة لطالب العلم أن يتربى على الاستفادة من الوقت، عندما ينظر هذا الشيخ يُشغل وقته في أي شيء؟ وكيف يمر يومه؟ وكيف يغتنم عمره؟ ففي ترجمة ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- يقول السخاوي تلميذه: وأما طريقته في تقضي أوقاته فكان في أوائل أمره يصلي الصبح بغلس في الجامع، ثم صار بعد ذلك لما انتقلوا إلى المدرسة وفيها مكان الصلاة يصلي فيها، ثم يجيء من خلوته النافذة لمنزل سكنه؛ فإذا فرغ من الصلاة فإن كانت لأحدٍ حاجة كلمه، ثم يدخل إلى منزله فيشتغل بأذكار الصباح أو التلاوة، ثم يأخذ في المطالعة أو التصنيف إلى وقت صلاة الضحى فيصليها، ثم إن كان بالباب من يستأذن للقراءة ظهر إليهم، فقرأ بعضهم روايةً وبعضهم درايةً، واستمر جالساً معهم إلى قريب الظهر، ثم يدخل إلى منزله قدر ثلث ساعة، ثم يقوم فيصلي الظهر داخل بيته، ثم يطالع أو يصنف إلى بعد أذان العصر بنحو ثلثي ساعة أو أقل أو أكثر، فيظهر إلى المدرسة فيجد الطلبة في انتظاره، فيصلي بهم العصر ثم يجلس للإقراء، وفي غضون قراءتهم عليه وكذا في نوبة الصباح يكتب على ما يجتمع عنده من الفتاوى الحديثية والفقهية، وربما دار بينه وبين بعض الطلبة الكلام في بعضها، ولا ينتهي غالباً من هذه الجلسة إلا عند الغروب، فيدخل إلى منزله، فإن لم يكن صائماً تعشى، وإلا انتظر الأذان فيأكل ثم يصلي ويشتغل أو يطالع إلى أن يسمع العشاء؛ فيقوم إلى المدرسة فيجد جمعاً من الطلبة أيضاً في انتظاره، فيصلي ركعتين، ثم يجلس للقراءة غالباً، أو للمذاكرة أكثر من ساعة، ثم يقوم فيصلي العشاء بالجماعة، ثم يدخل إلى بيته فيصلي سنة العشاء، وهكذا رحمه الله.
هذا البرنامج اليومي والجدول الذي كُله نفع وإفادة واستفادة، هذا الوقت وهذا اليوم المليء بالغنائم هذا بحد ذاته -أيها الإخوة- فائدة، وعندما يراه طلابه يحصل في نفوسهم من الحماس للعلم الشيء الكثير، كان -رحمه الله- يغتنم وقته، حتى أوقات الانتظار الطارئة كان يغتنمها، توجه مرةً إلى المدرسة المحمودية فلم يجد مفتاحها، كان قد سها عنه بمنزله -نسي المفتاح- فأمر بإحضار نجار ليصنع المفتاح، وشرع في الصلاة إلى أن انتهى النجار من فتح الباب، فقيل له: لو أرسلت وأحضرت المفتاح من البيت كان أقل كلفة! قال: هذا أسرع، ويحصل الانتفاع بالمفتاح الثاني، النسخة الثانية هذه مفيدة.(37/11)
مواقف فيها توبيخ وتقريع وأثرها في التربية
نرجع مرةً أخرى إلى المسألة التي سبق أن قلنا: إن الإنسان أحياناً أو صاحب العلم يحتاج إلى موقف أو يكون في موقف يتعامل فيه مع جاهل أو سفيه، وتقتضي القضية أحياناً شيئاً من التقريع والتوبيخ، لكن إذا كانت ممن يقبل كلامه فإنها تكون فائدة تربوية مؤثرة؛ لأن بعض الناس لا يقبل منهم لو قال.
جلس أعرابي إلى يزيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني -أعرابي جاهل- وإن يدك لتريبني -يتهم الشيخ بأن يده يد سارق- فقال يزيد: ما يريبك من يدي؟ إنها الشمال، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال يزيد بن صوحان: صدق الله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97].
فالموقف -أحياناً- يحتاج إلى شيء من التقريع والتوبيخ لأمثال هؤلاء السفهاء.
ومن أمثلة هذا أيضاً: أن رجلاً جاء إلى أبي عبيد وهو من كبار علماء اللغة، وكان -رحمه الله- فقيهاً، وهو صاحب كتاب الأموال، فسأله عن الرباب فقال: أريد أن أعرف معنى الرباب.
فقال: هو الذي يتدلى دوين السحاب -تحت السحاب بقليل- وأنشده بيتاً لـ عبد الرحمن بن حسان:
كأن الرباب دوين السحاب نعام تعلق بالأرجل
فقال: لم أرد هذا -ليس هذا مقصودي- قال أبو عبيد: فالرباب اسم امرأة، وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننا وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة من رباب وزادها في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أرد هذا أيضاً، فقال أبو عبيد: عساك أردت قول الشاعر:
رباب ربة البيت تصب الخل في الزيت
لها سبع دجاجات وديك حسن الصوت
قال: هذا أردت -هذا هو الذي أبحث عنه- قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة.
قال: على أي شيء جئت: على الظهر أم على الماء؟ -على دابة أم على سفينة؟ - قال: في الماء.
قال: كم أعطيت الملاح؟ قال: أربعة دراهم.
قال: اذهب واسترجع منه ما أعطيته، وقل: لم تحمل شيئاً فعلام تأخذ مني الأجرة؟ فقد يبتلى العالِم أو طالب العلم بأسئلة جهلة، يفترض فيهم في البداية حسن الظن، ويعطيه الأدلة وأقوال العلماء، ثم يتبين لهم أنهم في سخرية، فهنا يكون عليهم صارماً، هذا علم وليس لعب، هذا علم ينبغي أن يُوقر، فلما وجد الرجل خالياً قال له ما قال تربية له وتقريعاً وتوبيخاً لأمثاله.(37/12)
أخلاق العلماء وأثرها في التربية
ونتعلم أيها الإخوة من سير العلماء: التربية على الأخلاق.
مواقف يتربى فيها المطلع على أخبارهم وعلى أخلاقهم.(37/13)
العلماء والكرم
خذ مثلاً كرم الزهري وهو يعد من كبار المحدثين، وهو الآن -إن شاء الله- في قبره تجري عليه الأجور أنهاراً إن شاء الله، فما من كتاب من كتب الحديث إلا وفي سنده محمد بن شهاب الزهري، هذا الرجل لم يكن فقط محدثاً وينفع الناس بالعلم، بعض الناس يتخيلون أن العالِم ليس عنده إلا العلم والفقه والحلال والحرام والأحكام والشروح، لا العلم وشخصية العالِم وطالب العلم أوسع من هذا بكثير، إنها خُلق وأدب.
يقول الليث: كان ابن شهاب من أسخى من رأيت، وكان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فيعطيهم، حتى إذا لم يبق معهم شيء تسلف من عبيده، وربما جاءه السائل فلا يجد ما يعطيه فيتغير وجهه، فيقول للسائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير، قال: فيقيض الله لـ ابن شهاب على قدر صبره واحتماله أحد رجلين: إما رجل يهدي له، وإما رجل يبيعه وينظره.
وكان -رحمه الله تعالى- ينفق على طلابه، يقول زياد بن سعد للزهري: إن حديثك ليعجبني، لكن ليست معي نفقة فأتبعك، فقال له الزهري: اتبعني أحدثك وأنفق عليك.
وكان يأتيه الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم كان يقصد الأعراب، مثلما نقول الآن: عليكم بالقرى والهجر اخرجوا للقرى والهجر اشتغلوا بالدعوة إلى الله في البادية، هناك أناس فيهم جهل عظيم، بعضهم لا يحسن الفاتحة ولا تصح صلاته، ولا ولا إلخ.
وذات مرة ذهب إليهم واعظ، فوعظهم بعد الصلاة، فقال له إمامهم: يا شيخ، هل خروج الريح ينقض الوضوء؟ قال: نعم.
من نواقض الوضوء.
قال: والله لقد كان يخرج مني الريح وأصلي كل السنوات الماضية، وهو إمامهم، وربما سرد له أبياتاً من الشعر النبطي على أنها سورة من القرآن، أو أكمل لهم السورة بأبيات أو بأشياء من هذا الشعر.
كان الزهري -رحمه الله- يقصد الأعراب في البادية يفقههم ويعظهم ويقدم إليهم الطعام؛ لأن هؤلاء الأعراب جزء كبير من مفتاح السيطرة عليهم، يكون بإكرامهم وإعطائهم.
قال مالك بن أنس: كان ابن شهاب يجمع الأعراب، فيتذاكر بهم حديثه، يعيد الأحاديث فيستفيد هو، فإذا كان الشتاء شق لهم العسل وجاء بالزبد، وإذا كان الصيف شق لهم وجاءهم بالسمن، فجاءه أعرابي وقد نفذ ما في يده، فمد الزهري يده إلى عمامته؛ فأخذها عن رأسه فأعطاها للرجل، وقال: يا عقيل! أعطيك خيراً منها.
هذا تلميذه الخاص، ومثل هذا بينه وبينه خصوصية، قال: أعطيك خيراً من هذه.
وكان -رحمه الله تعالى- يقدم لطلابه كذا وكذا لوناً، ونزل الزهري مرةً بماء فشكا إليه أهل الماء أن لنا ثماني عشر امرأة عمرية، أي: لهن أعمار وليس لهن خادم، فاستلف ثمانية عشر ألفاً وأخدم كل واحدة خادماً بألف وقال عمرو بن دينار: ما رأيت الدرهم والدينار على أحد أهون منه على ابن شهاب، ما كانت عنده إلا بمنزلة البعر، وهل للبعر قيمة؟ فكذلك الدراهم والدنانير
ذر ذا وأثنِ على الكريم محمد واذكر فواضله على الأصحاب
وإذا يقال من الجواد بماله قيل الجواد محمد بن شهاب
أهل المدائن يعرفون مكانه وربيع ناديه على الأعراب
فهذا الكرم يفعل ما يفعله في اجتذاب النفوس، والطلاب إذا رأوا الشيخ يكرمهم اقتدوا به فأكرموا، وكان شعبة -رحمه الله- يُسمى أبا الفقراء، وكان صبيان الحي ينادونه: بابا بابا، هكذا ورد في كتب العلماء في سيرة شعبة، من كثرة ما كان يعطيهم، وكان يقول: والله لولا الفقراء ما جلست إليكم، فإني أحدث ليعطوا، وقال: لولا حوائج ما حدثتكم، ويقصد بالحوائج حوائج لنسوة ضعاف، وكان إذا قام في مجلسه سائل توقف عن الحديث حتى يُعطى السائل، وجاء مرة سائل فجلس فجأةً، فارتاب شعبة، وقال: ما شأنه؟ كيف جلس فجأةً؟ فقيل: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهماً، قال له: اجلس وعلي درهم؛ ليمضي الشيخ في حديثه، وكان كريماً سخي النفس، وكان إذا ركب مع قوم في زورق دفع إيجار الزورق عنهم جميعاً.
وكان الخطيب البغدادي -رحمه الله- يتعاهد تلاميذه، يقول أحدهم وهو الخطيب التبريزي: دخلت دمشق، فكنت أقرأ على الخطيب بحلقته بالجامع كتب الأدب المسموعة له، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إلي وقال: أحببت أن أزورك تصور الآن العالِم عندما يزور طالب العلم، كم تكون كبيرة وعظيمة في النفس! وهذا موقف تربوي عظيم، الأعلى يزور الأدنى، هذا الشيخ يزور تلميذه الساكن في منارة المسجد، أو قل الآن: في غرفة المؤذن أو غرفة الفراش، ربما يسكن فيها أحد هؤلاء قال: فتحدثنا ساعةً، ثم أخرج ورقة، وقال: الهدية مستحبة، اشتر بهذه أقلاماً، ونهض وذهب، ففتحتها فإذا خمسة دنانير مصرية، ثم إنه صعد مرةً أخرى ووضع نحواً من ذلك.
أحد المشايخ في هذا الزمن من الأفاضل، فقد أحد الطلاب نعاله عند المسجد، فخرج الطالب فما وجد النعال بعد الدرس؛ فعرف الشيخ، فأصر عليه أن يأخذه معه بسيارته إلى السوق، ودخل مكان النعال واشترى له نعالاً، ودفع الشيخ القيمة، وأصر على أن يدفع القيمة هو، وأعاده إلى مكانه.
أيها الإخوة: هذه المواقف وإن كانت قد تبدو بسيطة، لكن أثرها عظيم في النفوس، فإن التربية مواقف وتصرفات وكلمات ينفع الله بها وتستقر في النفوس.(37/14)
مواقف تربوية في تعليم الأخلاق
لقد كان لهم مواقف تربوية في تعليم الأخلاق، وحسن الخلق، قيل للحسن البصري: إن فلاناً اغتابك -الآن ما هو التصرف المتوقع- فبعث إليه طبقاً من الحلوى، وقال: بلغني أنك أهديت إلي حسناتك فكافأتك.
هذا موقف مؤثر في النفس، وهل ترى مثل هذا سيغتاب الحسن مرةً أخرى؟! هذا طبق حلوى فيه موعظة، ليس فيه حلوى بل فيه موعظة.
وفي تواضعهم -رحمهم الله- مواقف تربوية كيف يتعلم الطلاب التواضع عندما يرون الشيخ متواضعاً؟ سأل الدارقطني أحدُ تلاميذه، وقال: هل رأيت مثل نفسك؟ قال الدارقطني: قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] فقال: هل تعرف أحداً أحفظ منك يا شيخ؟ قال: يقول الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] وكذلك سئل ابن حجر رحمه الله: أنت أحفظ أم الذهبي؟ فسكت وما أجاب.
والمواقف التي تُنقل عن العظماء والأجلاء، عندما يأتي أحدهم إلى الإمام أحمد -رحمه الله- ويتمسح به، فينتفض ويدفع الشخص ويزجره، ويقول: عمن أخذتم هذا؟! من أين أخذتم هذا؟! والذي يأتي ويقول له: ادع لي، يطلب الدعاء؛ فيزجره الإمام أحمد -رحمه الله- ويذهب، ويقول: مني لا يطلب الدعاء، أنا أدعو لك! فإذا خلا بنفسه دعا له، والذي يقول له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فيقول: بل الإسلام جزاه الله عني خيراً، ومن أنا؟! موقف تربوي عندما يكتب ابن تيمية -رحمه الله- لـ ابن القيم خطاباً، ويقلب ابن القيم الخطاب ويجد مكتوباً وراءه:
أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي
عندما يقرأ التلميذ كلام الشيخ في ذمه لنفسه، هذا هو الشيء الذي يُعلم التواضع، وليس أن يمدح بعض الناس، فكأنه يقول: زد قليلاً زد قليلاً.(37/15)
الدفع بالتي هي أحسن
من الأخلاق التي نتعلمها من المواقف التربوية في الأخلاق: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
كان ابن جرير الطبري -رحمه الله- يجلس في حلقة داود الظاهري، وابن جرير -رحمه الله- رزق فقهاً وفطنةً، فلاحظ بعض الأشياء الغريبة في منهج داود، فكان يناقشه في هذه المسائل، حتى ضاق أحد أصحاب داود الظاهري فأفحش الكلام في الطبري، وكلمه كلاماً فظاً غليظاً، فلم يفعل الطبري شيئاً، قام من المجلس وبدأ في تصنيف كتاب في مناقشة مذهب داود الظاهري، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود قطع الطبري كتابه.
فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر، وتعسف عليه، وصنف مؤلفاً فيه سب للطبري، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزل، فلما عرف الطبري أن هذا الذي ألّف فيه كتاباً يذمه رحب به، وأخذ يثني عليه ويمدحه ويصفه بالصفات الكريمة، فماذا حصل؟ لما رجع محمد بن داود إلى منزله قطع الكتاب وأتلفه لحسن أخلاق ابن جرير -رحمه الله- امتص الموقف، وسجلت لـ ابن جرير ضمن حسناته، وهي مكتوبة في سيرة ابن جرير إلى الآن رحمه الله تعالى.
وجاء ذات مرة رجل معتوه إلى ابن حجر -رحمه الله- وهو في إحدى الحِلق في أحد الدروس، وبدأ يسب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بالألفاظ القبيحة، فقال الإمام: نقوم إلى أن يفرغ أو يروح، ونهض، هذا هو كل الذي فعله ابن حجر، ما قال لطلابه: خذوه وارموه في الشارع، بل قال: نقف حتى ينتهي هذا السفيه، وقام ودخل إلى الغرفة ورد بابها يسيراً، فترك المعتوه المكان وانصرف، فظن ابن حجر أن المعتوه لن يعود، ففتح باب الغرفة ووقف فإذا بالمعتوه قد أقبل من باب آخر، وزاد على ما كان عليه، فقال ابن حجر لتلاميذه: ما بقي إلا الانصراف، وأغلق الباب ولم يمكن أحداً من التعرض له، وسمع أن الوالي قد أخذ هذا وحبسه فتوسط له وأطلقه.
إن الموقف التربوي الذي حصل أهم من إكمال الدرس في نظره؛ لأن هذا الموقف لا يقل أهمية وفائدة عن إكمال الدرس.
واجتاز ابن جحر -رحمه الله- يوماً في طائفة من جماعته بباب جامع الغمري، فبدت من شخصٍ يوصف بالجذب -إنه مجذوب- كلمات يقول لـ ابن حجر وهو ماش: عمائم كالأبراج، وأكمام كالأخراج، والعلم عند الله.
فأراد بعض طلاب ابن حجر -رحمه الله- أن يعزروه، فامتنع وقال: دعوه، هذا مجذوب يترك له حاله.
المسألة تحتاج إلى حلم وامتصاص المواقف، وكثير من المواقف التي فيها مثل هذه الأشياء تحتاج إلى حلم.(37/16)
ربط النصوص بالواقع
من المواقف التي نتعلمها من أهل العلم: ربط النصوص بالواقع؛ فإنه يثمر موقعاً عظيماً في النفس، كان الحسن إذا حدث بحديث الجذع وحنين الجذع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وضمه إليه حتى سكن الجذع، يقول الحسن بعد هذا: يا عباد الله! الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
إنه الربط بين الموعظة وبين الناس الحاضرين، بين الحديث والكلام الذي يقال، بين الواقع وبين الناس، الربط هو الذي يجعل المسألة مؤثرة.
قال رجل قبل موت الحسن لـ ابن سيرين -وابن سيرين كان معروفاً بتأويل الرؤى-: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاةٍ في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن.
فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن رحمه الله، فإن أحسن حصاة في المسجد الحسن رحمه الله تعالى.
ومن الربط بين النصوص والواقع: حادثة وقعت للإمام شيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني -كما وصفه الذهبي في السير، وهو من أئمة أهل السنة، ألف عقيدة مهمة وعظيمة في بيان عقيدة أهل السنة، كان أبو عثمان الصابوني يعظ في المجلس، فدُفع إليه كتاب ورد من بخارى مشتملٌ على ذكر وباء عظيم بها، ليدعو لهم، ووصف في الكتاب أن رجلاً أعطى خبازاً درهماً، فكان يزن والصانع يخبز والمشتري واقف، فمات ثلاثتهم في ساعة من شدة الوباء، فلما قرأ الكتاب هاله ذلك قرأ الشيخ على الطلاب في الدرس الرسالة الواردة من بخارى بهذا الداء العظيم، فاستقرأ من أحد الطلاب قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ} [النحل:45] الآيات، ونظائرها من الآيات التي فيها ابتلاء الله وإنزال العقوبة، وبالغ بالتخويف والتحذير، وأثر ذلك فيه وتغير، وغلبه وجع البطن، وأنُزل من المنبر من الوجع، فحمل إلى بيته أسبوعاً كاملاً من الألم، فأوصى وودع أولاده ومات رحمه الله تعالى.
كم يا ترى سيتأثر الطلاب والناس من هذا الموقف؟ وعندما ربط لهم الشيخ بين الداء الذي صار وبين الواقع، وأدخل آيات في الموضوع، واستقاها من القارئ هذه مواقف تربوية تزيد الإيمان ولا شك.(37/17)
عفة العلماء وأثرها في التربية
ومما نتعلمه -أيها الإخوة- من سير علمائنا في مواقفهم العظيمة في الأخلاق: العفة والتعفف عما في أيدي الناس.
يقول عمر النسوي: كنت في جامع صور عند الخطيب البغدادي رحمه الله، فدخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، وقال للخطيب: فلان -وذكر بعض المحتشمين من أهل صور - يسلم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك -أعطاه مالاً- فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال: قل له يصرفه إلى من يريد.
فقال العلوي: كأنك تستقله، ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها، وقال: هذه ثلاثمائة دينار! فقام الخطيب محمر الوجه! وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
قال الفضل بن أبي ليلى: ما أنسى عز خروج الخطيب وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقق الحصر ويجمعها التعفف عما في أيدي الناس يؤدي إلى العزة، إنه موقف عظيم، وفيه تربية على التعفف والعزة.
وفي هذه المناسبة قصة المحاميد الأربعة المشهورة، لما جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني ومحمد بن إسحاق بن خزيمة بـ مصر، والمحدثون وعلماء الحديث فيها، فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلةً في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة، فاندفع في الصلاة، ماذا قال ابن خزيمة في صلاته؟ الله أعلم، كيف رغب إلى الله؟ الله أعلم، كيف لجوؤه إلى ربه؟ ربه يعلم، فإذا هم بالشموع وغلام من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو هذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا هو ذا، فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا فأخرج صرةً فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقالوا: هو ذا يصلي -في الصلاة- فلما فرغ دفع إليه الصرةً وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاًَ بالأمس -أي: نائماً في الظهيرة- فرأى في المنام خيالاً يقول: إن المحامد -المحمدون هؤلاء الأربعة- طووا كشحهم جياعاً وهم عندك، فسأل: من هم المحمدون؟ من هم رفقاء محمدون؟ قالوا: هم الأربعة، فأرسل إليكم، وأقسم عليكم إذا نفذت أن تبعثوا إليه يمدكم بغيرها.
إن العفة عما في أيدي الخلق جلب لهم الرزق من الله عز وجل، برؤيا أراها الله ذلك الرجل؛ فحركته لتفقد حالهم.(37/18)
مواقف تربوية مع آداب العلماء
بالإضافة إلى الأخلاق: الآداب العظيمة التي نتعلمها، وسير العلماء الصالحين -أيها الإخوة- هذه عبر وفوائد مليئة بالمواقف التربوية، فهذا شيخ عظيم من المحدثين، جالس في الحلقة في الدرس وكانت أمه كبيرة في السن، والدرس في بيته، فتقول له: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج.
الآن هذا صاحب الفضيلة العلامة الحافظ الشيخ في المجلس يدرس الطلاب، وأمه كبيرة في السن قد لا ترعى كثيراً من الانتباه لمثل ذلك، وعندها دجاج، ويحتاج إلى شعير، فقالت: يا فلان، قم ألقِ الشعير للدجاج، فترك الدرس وقام يلقي الشعير للدجاج ويرجع، براً بأمه، ولم يقل لها: عيب! الناس أمامنا، وسأفعل بعد الدرس، هذا الكلام الذي قد يقوله أي أحد، ولكن يقطع الدرس ويذهب.
وبعضهم ربما يصبر على أمر من هذا، قد يُبتلى بوالد فيه شيء في عقله، مثل واحد من كبار المحدثين كان له والد يجلس في المجلس في وسط الناس، فيرى الناس مجتمعين على ولده فينبسط ويقول: إن هذا خرج من هذا، ويشير إلى عورته؛ متباهياً بولده، وهذا من خفة عقله، فيصبر عليه براً به، وما نهره وما طرده وما قال: هذا يمنع عن المجلس، والناس يقدرون له، ويقدرون للعالِم موقفه براً بأبيه! ومما علمونا آداب الطعام، كيف كانوا يأكلون؟ من آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته، وكان له لحية كثة، فيضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمةً لقمةًً من جانبٍ واحدٍ من القصعة.
يقول محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً، وأظرفهم عِشرةً، وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يُسمع منه تنخم ولا تبصق - ليس مثل بعض الناس، يخرج البلغم من آخر شيء ومن أول شيء، وبأعلى صوت، والجشاء حدث ولا حرج- وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فمه هكذا بغاية الأدب في أكلهم، وما يخرج منهم شيء من الأصوات أو اللعاب، وهذا فيه غاية الأدب.
هل سمعتم رفسة تربوية؟! قال أحمد بن منصور الرمادي: خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين خادماً لهما؛ فلما عدنا إلى الكوفة، قال يحيى بن معين لـ أحمد بن حنبل: أريد أن أختبر أبا نعيم.
فقال له أحمد بن حنبل: لا تفعل الرجل ثقة، فقال يحيى بن معين: لابد لي، فأخذ ورقةً فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم، وجعل على رأس عشرة أحاديث حديثاً ليس من حديثه، ثم جاءوا إلى أبي نعيم، فدق عليه الباب، فجلس على دكان طينٍ مرتفع -حذاء بابه- وأخذ أحمد بن حنبل فأجلسه عن يمينه، وأخذ يحيى بن معين فأجلسه عن يساره، ثم جلست أسفل الدكان، فأخرج يحيى بن معين الطبق فقرأ عليه عشرةَ أحاديث وأبو نعيم ساكت، ثم قرأ الحادي عشر، فقال له أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثاني وأبو نعيم ساكت، فقرأ الحديث على رأسها الزائد، فقال أبو نعيم: ليس من حديثي فاضرب عليه، ثم قرأ العشر الثالث وقرأ الحديث الثالث على رأسها، فتغير أبو نعيم -عرف أن المسألة امتحان- وانقلبت عيناه، ثم أقبل على يحيى بن معين فقال: أما هذا -وذراع أحمد بن حنبل في يده- فأورع من أن يعمل مثل هذا، وأما هذا -يريدني- فأقل من أن يفعل مثل هذا، ولكن هذا من فعلك يا فاعل! ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين، فرمى به من الدكان وقام فدخل داره، فقال أحمد لـ يحيى: ألم أمنعك من الرجل! وأقل لك: إنه ثبت؟! قال: والله إن رفسته أحب إلي من سفري.
وماذا نقول -أيها الإخوة! - في قصص علمائنا ومواقفهم، ولقد لفت نظري مرةً خبر في سير أعلام النبلاء، فقلت: سبحان الله! هؤلاء العلماء من قديم يؤخذ منهم المواقف، ليس فقط منهم، بل من بعض العامة نأخذ مواقف، بل من بعض اللصوص، وهذا خبر طريف نختم به المجلس: يقول أحمد بن المعذل: كنت عند ابن الماجشون، فجاءه بعض جلسائه، فقال: يا أبا مروان أعجوبة! خرجت إلى حائطي بالغابة، -بستان- فعرض لي رجل -قاطع طريق في مكان مهجور- فقال: اخلع ثيابك، فقلت: لم؟ قال: لأني أخوك وأنا عريان، قلت: فالمواساة -نقسمها بيني وبينك- قال: لقد لبستها برهةً -بقي دوري أنا- قال: فتعريني: قال: قد روينا عن مالك أنه قال: لا بأس أن يغتسل الرجل عرياناً.
قلت: ترى عورتي! قال: لو كان أحد يلقاك هنا ما تعرضت لك -لو أعرف أن هنا أناساً سيكونون في هذا المكان لما خرجت عليك في هذا المكان أصلاً- قلت: دعني أدخل حائطي وأبعث بها إليك.
قال: كلا! أردت أن توجه عبيدك فأمسك.
قلت: أحلف لك.
قال: لا تلزم يمينك للص، فحلفت له بها طيبةً بها نفسي، فأطرق يفكر، ثم قال: تصفحت أمر اللصوص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا فلم أرَ لصاً أخذ بنسيئة -بالآجل لابد أن يكون نقداً- فأكره أن أبتدع، فخلعت له ثيابي.
أيها الإخوة: نحن بحاجة وبخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه العلم وقلَّت فيه التربية، وقد يوجد عند بعض الناس علم ولا يوجد تربية نحتاج حاجة ماسة للتربية، ونحتاج للمربين، والمربون الذين يحسنون التربية قلة، ولكن الذكي صاحب البصيرة لن يعدم أن يجد ولو من الأموات من يستفيد من سيرتهم ويتربى عليها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من الربانيين الذين يعلمون الناس، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع وحُسن الخلق وحُسن الأدب، والإخلاص في القول والعمل، إنه سميع مجيب قريب.(37/19)
الأسئلة(37/20)
العلماء المعاصرون وبعض مواقفهم في التربية
السؤال
إن التعرض حصل للعلماء الماضين، ولم يحصل شيء للعلماء المعاصرين، فهل من شيء حول هذا الموضوع؟
الجواب
سير العلماء في الغالب تكتب بعد وفاتهم، وأحياناً يُضيع العالِم طلابه، فلا يكتبون سيرته، ومن جهة أخرى في هذا الزمان العلماء قلة.
وثانياً: لا يوجد حرصٌ شديد على كتابة سيرهم، وجمع أخبارهم، ولذلك لا ترى كثيراً من الأخبار، ولكن الذي يتقصى ويستمع ويحرص أن يسمع من طلاب الشيخ ومعاصريه، ستجتمع عنده أخبار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله المفتي السابق كانت له ثلاثة مجالس، يدرس ثلاثة مستويات، للمتقدمين درس، وللمتوسطين درس، وللمبتدئين درس، ولو لاحظ أن أحد المبتدئين جاء إلى درس المتقدمين يطرده وينهره، ليس هذا مكانك، وليس من هنا تبتدئ، وهذا يورث العجب.
وكان -أيضاً- من الذين يزعِون بالقوة، خصوصاً أن السفاهة موجودة في كثير من الناس، فكان يستعمل الشدة في دين الله مع من يستحق الشدة، وفتاواه رحمه الله فيها أشياء من هذا، وقد حصل مرةً أن بعض أهل الحسبة صادروا من شخص كتاب تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، وفي هذا الكتاب تعرض لأئمة الدعوة، وسب لأئمة الدعوة، فالرجل هذا من عِوجه أرسل للشيخ يقول: أرجعوا لي الكتاب الذي صادرتموه أو عوضوني، وكان أخذ منه عدة نسخ، فقال الشيخ: أما نسخ الكتاب فقد جرى منا إحراقها، لما تشتمل عليه من الكذب والافتراء والبهتان بشأن أئمة الدعوة وتلاميذ إمام الدعوة رحمه الله تعالى وأحفاده وما فيها من الضلال، أما تعويضك عن قيمته فيكفيك أنك سلمت من العقوبة، هذا هو التعويض، ولولا أننا علمنا أن الذي دخلت معه غيرك لما تركناك هذا في فتاويه.
كذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله عليه، من المشايخ والعلماء الموحدين -نحسبهم والله حسيبهم- كان قد ترك بلده في ما يظن أنه هجرة، وجاء إلى بلد التوحيد، ولما توفي الشيخ محمد حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية؛ أرسلوا إليه يطلبونه لكي يترأس الجمعية، فذهب وألقى عندهم درساً ومحاضرة ورجع، ولم يمكث عندهم؛ لأن نيته في نفسه كانت الهجرة، هكذا كانت في ذلك الزمان.
ولذلك لم يشأ أن يضيع نيته، أو أن يخالف القصد الذي قصده، والذين كان يدرسهم في معهد القضاء يشهدون له بحسن تدريسه وتفصيله، وكان يأتي قبل الطلاب وينصرف بعدهم، وكذلك في الإفتاء يأتي أول الموظفين في دار الإفتاء ويخرج آخر الناس، وكانت طريقته في تقسيم الدرس وتسهيل المعلومات أمراً عجيباً يشهد له به تلاميذه، ويقولون: ما رأينا في التدريس مثله، وكذلك كان فيه من الرزانة وسعة الاطلاع وبُعد النظر ما تشهد به الفتاوى التي أصدرها مع سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمه الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نفع الله به، فقد لازمه منذ عام (1370) للهجرة، جاء إليه في ذي الحجة في الخَرْج، فرافق الشيخ أربعاً وأربعين سنة وأشهر، وفي الإفتاء رافق الشيخ عبد العزيز تسع عشر سنة في لجنة الفتوى، ولذلك الذي يتأسف على العالِم حقيقةً هم العلماء الذين كانوا معه وعرفوه، ولم يُعرف عنه ركضٌ وراء الدنيا، وكان يصون العلم ولم يتبذل.
والشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله من علماء هذا البلد، كان علامةً لم يعرف قيمته كثير من الناس، وكان يأمر أقرانه بالصلاة وهم يلعبون وعمره عشر سنوات أو أحد عشر سنة، كان يخرج بالعصا للصبيان وهم يلعبون وهو في مثل سنهم، يخرج إليهم بالعصا إلى الصلاة، ونحن الكبار نمر بجانب الصغار ولا نقول لهم كلمة، وكتب بيده ثلاثة مصاحف، ومن جميل خطه أن الناظر فيها يظنها مطبوعة، وكان يعمل بين رمضان والحج يكسب قوت سنته ليتفرغ في بقية السنة لطلب العلم، هو موسم واحد يعمل فيه، يشتري فيه شاحنة ويبيع ما فيها وهذه نفقة السنة، وقد تولى القضاء رحمه الله تعالى، وحصل له موقف أن اتهمه سبعة أشخاص بالغش وعدم الأمانة في القضاء، فلما صارت هذه الحادثة تأثر الشيخ ورفض الاستمرار في منصبه، وأغلق باب المحكمة، وأُلح عليه في العودة إلى القضاء فلم يفعل رحمه الله تعالى، ومات هؤلاء السبعة وبقي واحد منهم جاءه يستسمح منه، ويقول: سامحني على ذلك الموقف، فلعل الشيخ أراد موعظته، فقال: بيني وبينك رب العالمين، فشل الرجل وبقي مشلولاً على كرسي إلى أن مات، وكان رحمه الله يأخذ محبرته من رماد الحطب، يجعل معها خلطة ليكتب بها، وكان في الحرم يطوف بالبيت سبعة أشواط وراء سبعة أشواط، وهكذا، ويصلي ركعتين بعد كل سبعة، لقد كان عابداً من العُباد رحمه الله تعالى.
والشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله ونفع به- كم أخذ الناس من علمه! وكم نهلوا منه! حضرت معه في مجلس له موقفاً تربوياً، جاء رجل لعله جاء من بلد فيها اضطهاد للمسلمين، فقال: أنا مسكين ومحتاج وعندي أولاد أخي أيتام أريد مساعدة أريد حاجة، فيقول الشيخ: هات من يعرفك، فقال: أنا طالب علم، وأعطوني يا شيخ، فقال الشيخ: تقول: إنك طالب علم طالب العلم يعرف أن المدعي لابد أن يأتي ببينة، هات اثنين يشهدون لك.
فقال: يا شيخ، أنا مضطهد، وقد عُذبت، وضُربت، وسُجنت وفقال الشيخ: احمد الله، لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر، تريد أن تقول بأنك عُذبت كي تأخذ مالاً! فسكت، ومع ذلك ما أظن أنه انصرف إلا وقد أمر له الشيخ بشيء في النهاية.
والشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدث هذا العصر، الذي وقف على سلم المكتبة الظاهرية الساعات الطويلة، والله أعلم بحال قدميه، لكي يقلب المخطوطات، ويقلب الكتب، ويستخرج الأشياء، وربما بحث عن الورقة الضائعة فترة طويلة من الزمن، واستفاد في البحث عن هذه الورقة فوائد عديدة جداً حضرت له مجلساً فأراد أن يبصق -أخرج منديلاً فأراد أن يبصق- فسألني، فقال: أين القبلة؟ لأنه يعتمد حديث النهي عن البصاق جهة القبلة، وأنها خطيئة ولو في خارج الصلاة، ولذلك يتحرز ويتوقى منه، وهو الآن في وضع صحي حرج للغاية، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفيه ويعافيه وسائر مرضى المسلمين.
أيها الإخوة: إن العلماء -والحمد لله- يُوجد منهم بقية، لكن أين المستفيد من سيرهم؟! أين الذاهبون إليهم؟! أين الجالسون عندهم؟! أين الآخذون منهم؟! أين السائلون عن سيرتهم؟! أين المتخلقون بأخلاقهم وآدابهم؟! نسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على نبينا محمد.(37/21)
حديث الرؤية والصراط
إن حديث الرؤية والصراط من الأحاديث العظيمة التي ترقق القلوب فقد جاء فيه ذكر رؤية الله تعالى يوم القيامة وفي الجنة، وجاء فيه ذكر الصراط وصفته، والمرور عليه، وكذلك اتباع كلٍّ لما كان يعبده في الدنيا هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله.(38/1)
مسائل في حديث الرؤية والصراط
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله الذي بلغنا هذا الشهر الكريم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا فيه من عباده الأخيار، وأن يعيننا فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته، ونسأله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه سميع قريب مجيب.
أيها الإخوة: في هذا الشهر الكريم فرصة عظيمة لمن قسا قلبه أن يرق، ولمن أعرض عن ربه أن يعود، ولمن أذنب أن يتوب، ولا شك أن مرققات القلوب من أعظم ما يتعبد به المسلم ربه في التعرض له؛ فإن الله تعالى لا ينجي يوم القيامة إلا من أتى بقلب سليم؛ سليم من الشبهة، وسليم من الشهوة، ولعلنا -إن شاء الله- في هذه الليالي الفاضلة نتعرض لأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم نرقق بها قلوبنا، وننظفها مما علق بها من أوساخ الدنيا.
في هذه السلسلة من الأحاديث -أحاديث الرقائق- التي نستهلها بهذا الحديث العظيم الجليل الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة قال: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك؛ يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها إلى أن قال: فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه، ويضرب جسر جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس لأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد -أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله- أمر الملائكة أن يخرجوهم فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء يقال له: ماء الحياة، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل) الحديث.
وهذا الحديث العظيم الذي رواه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في مواضع، منها في باب قول الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، عن الزهري في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71].(38/2)
رؤية الله متعذرة في الدنيا
قوله: (قال أناس: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟) الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ إذاً: الصحابة يعرفون أن الله لا يرى في الدنيا، فسؤالهم الآن: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ إذاً: لا يرى الله تعالى في الدنيا، لم ير الله أحدٌ من العباد في الدنيا، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم لم يره بعيني رأسه، ولكن رؤيته يوم القيامة مؤكدة وثابتة، وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة، ويدل على أن الله لا يرى في الدنيا حديث الإمام مسلم رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) ولذلك من ادعى ممن يسمون أنفسهم بالأولياء أو الأقطاب والأوتاد أنه يرى الله في الدنيا فهو كاذب؛ فإن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا، وإنما يُرى سبحانه وتعالى يوم القيامة، وهذا الحديث ذكر فيه الحساب، فقال: (لتتبع كل أمة ما كانت تعبد).(38/3)
رؤية الله تعالى يوم القيامة
إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله يرى في أرض المحشر، يوم يحشر الله الأولين والآخرين، ولما سأل الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام عن رؤية ربهم؛ ضرب لهم مثلاً ليقرب لهم الأمر، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس في التعليم، ويستعمل أحسن الأساليب في التعليم، فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال: (إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر) سألهم: هل تضارون؟ هل تنازعون؟ هل تضايقون في رؤية هذا القمر الذي في السماء؟ لا تضايقون ولا تزاحمون، وفي رواية: لا تضامون، فلا يحجب بعضكم بعضاً عن الرؤية فيحصل له ضرر، فإذاً: لن تكون هناك مضارة بازدحام، ولن يحجب العباد بعضهم بعضاً عن رؤية الله تعالى، ولن يظلم أحد في رؤيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته عز وجل: ترونه كذلك كما لا تضارون الشمس في رؤية، وخص الشمس والقمر لأنهما الكوكبان المنيران في السماء في وقت ليس فيه سحاب، كيف تكون الشمس؟ وكيف يكون القمر في هذا النور وفي هذا الضياء وفي هذا الجمال والكمال؟ ولكن الله عز وجل جميل، أجمل من أي شيء من المخلوقات؛ جماله سبحانه وتعالى صفة له تليق بجلاله وعظمته، الله جميل إذا نظر إليه أهل الجنة نسوا كل النعيم الذي هم فيه، ولذلك لذة النظر إلى وجهه لا تعادلها لذة، ولذة النظر إلى وجهه الجميل الجليل لا تدانيها لذة، ولا تقارنها لذة، فهي تنِسي كل لذة، فما أعطوا نعيماً أحب إليهم من النظر إلى وجهه.
سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤية الشمس وعن رؤية القمر، والقمر الذي يرى في الليلة الصافية ولا يؤذى أحد في رؤيته، استدل به الخليل على الوحدانية، واستدل به الحبيب على إثبات الرؤية؛ فإن إبراهيم الخليل قال لقومه لما نظر إلى القمر ورآه بازغاً، قال لهم محاجاً لهم: {قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] فأراد إبراهيم أن يستدرجهم وأن يماشي عقولهم ويقول: أنتم تعبدون الكواكب، وهذا القمر قد أفل، فكيف يكون الإله حاضراً ثم يغيب آفلاً؟ لا يمكن أن يكون! فاستدل الخليل بالقمر، واستعمله في الوحدانية، والنبي عليه الصلاة والسلام استعمله في إثبات الرؤية حساً ويقيناً، بخلاف ما يقوله بعض أهل البدعة الذين ينكرون رؤية الله عز وجل، ولذلك يقال لهم: ما دمتم أنتم تقولون بعدم رؤيته، فلعلكم تحرمون رؤيته، إذا كنتم تنفون رؤية الله فربما تحرمون من رؤيته بسبب بدعتكم هذه، وهذا المذهب الذي ذهب إليه المعتزلة وغيرهم من الخوارج والأباضية في مسألة رؤية الله عز وجل، وقد أثبته الله سبحانه وتعالى بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فهي من النظر لوجه الله فيها نضرة ونعيم.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أن المؤمنين {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] إلى وجه الله {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيم} [المطففين:24] وأما الكفار فإنهم سيرونه -أولاً- ثم يحجبون عنه ليزدادوا حسرة وألماً، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فيتوارى الله عنهم؛ فيكون ذلك من عذابهم.(38/4)
حشر الناس في صعيد واحد
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يجمع الله الناس -وفي رواية: يحشر- في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر) والصعيد هي الأرض المستوية الواسعة، ومعنى ينفذهم البصر: يخترقهم حتى يجوزهم؛ يخترق العباد حتى يجوزهم، فهؤلاء العباد سيجمعون يوم القيامة جميعاً، إنساً وجناً، ذكوراً وإناثاً كباراً وصغاراً، مؤمنين وكفاراً سيجمعون يوم القيامة في صعيد واحد ليس فيهم علم لأحد، ولا فيهم مرتفع ولا منخفض، وليس فيه مكان يتوارى خلفه أحد، ينفذهم بصر الرحمن، ويسمعهم صوته سبحانه، ويناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، يخترقهم البصر حتى ينفذ من خلالهم {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاع} [القمر:6] يحشرون، فيطلع عليهم رب العالمين، فإذا حشر الناس قاموا شاخصة أبصارهم إلى السماء، والشمس على رءوسهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، وقد جاء في الحديث الحسن الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله: (أنه يخفف الوقوف عن المؤمنين حتى يكون كصلاة مكتوبة أو كما بين صلاة الظهر والعصر) كما جاء في حديث آخر، وهذا لأهل الإيمان، أما أهل الفسق والفجور وأهل الكفر والضلال والبدع؛ فشأنهم شأن آخر.(38/5)
اتباع الناس لمعبوداتهم
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر) الذي كان يعبد القمر يتبع القمر، والذي كان يعبد الشمس يتبع الشمس؛ هؤلاء عباد الكواكب يتبعون معبوداتهم إلى النار جاء في حديث ابن مسعود: (ثم ينادي منادٍ من السماء: أيها الناس! أليس عدل من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم ثم توليتم غيره أن يولي كل عبد منكم ما كان تولاه؟ فيقولون: بلى! ثم يقول: لتنطلق كل أمة لمن كانت تعبد) وفي رواية: (ألا ليتبع كل إنسان ما كان يعبد) وجاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فيلقى العبد -الله عز وجل يلقى العبد يوم القيامة- فيقول: ألم أكرمك وأزوجك وأسخر لك؟ فيقول: بلى! فيقول الله عز وجل: أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا.
فيقول: إني أنساك كما نسيتني، ويلقى الثالث فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت، فيقول: ألا نبعث عليك شاهداً؟ فيختم على فيه وتنطق جوارحه) من هذا من الأصناف؟ هذا هو المنافق: (وذلك المنافق، ثم يناي منادٍ: ألا لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، ومن كان يعبد الطواغيت يتبع الطواغيت).
والطاغوت: هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
إذاًَ: الطاغوت قد يكون جماداً وقد يكون إنساناً، كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع يكون طاغوتاً إذا كان راضياً، إذا كان ممن يعقل ورضي، يدخل في الطواغيت معبود أو متبوع تصرف له عبادة، أو يتبع على ضلالة في تحليل حرام أو تحريم حلال، فكل ما عبد من دون الله وهو راض فهو طاغوت، ولا يصح أبداً أن نقصر العبادة على السجود؛ فنقول: العبادة هي السجود لصنم أو شخص أو ما شابه ذلك، بل إن العبادة -أيها الإخوة- مفهومها واسع، ولذلك كل من أطاع شخصاً في تحليل حرام أو تحريم حلال فقد عبده.
كذلك فسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية لـ عدي بن حاتم وقال: (فتلك عبادتكم إياهم) هؤلاء الذين اتبعوه في تحريم الحلال وتحليل الحرام، هؤلاء الذين اتبعوه في الحكم بغير ما أنزل الله، هؤلاء الطواغيت كل من اتبعهم فهو معهم في نار جهنم وسيحشر معهم، ولذلك كما قال في الحديث: (فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم) والحديث الذي معنا قال فيه: (ومن كان يعبد الطواغيت يتبعهم) فهذا فيه إشارة إلى مبدأ المعاملة بالمثل؛ كما اتبعه في الدنيا يتبعه في الآخرة.
وما حال من عبد من دون الله وهو غير راضٍ كالملائكة وعيسى عليه السلام؟ فقد عبد بعض الناس الملائكة، كما عبدت النصارى عيسى، هؤلاء لا يكونون معهم في النار؛ لأنهم لم يرضوا بهذه العبادة، وجاء في رواية: (فيتمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره) هذه الأصنام والأوثان المعبودة، وهذا التمثيل لكي يزدادوا عذاباً، عندما يرى الشخص أن الشيء الذي كان يقدسه في الدنيا ويوقره ويعبده ويبذل له كل شيء، قد صار معه من حطب جهنم، هذا تذكير وتحزين وتعذيب وخذلان؛ لأنه هو ومن عبده في النار.(38/6)
بقاء الموحدين من هذه الأمة ومن غيرها
قال عليه الصلاة والسلام: (وتبقى هذه الأمة) يحتمل أن يكون المراد بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يراد ما هو أعم من ذلك؛ فيدخل فيهم من كان من بقية الأمم ممن كان في الدنيا -ولو ظاهراً- يعبد الله، فبعدما ذهب أهل المعبودات مع معبودات إلى النار يبقى من كان يعبد الله ولو ظاهراً؛ يبقون ليأتيهم الله عز وجل فيقودهم إلى الصراط (تبقى هذه الأمة فيها منافقوها) وفي رواية: (حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر) فلو كان هناك رجل موحد لكنه فاجر فاسق زاني شارب خمر سارق مرتشي، هؤلاء ما حالهم؟ قال: (حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر.
وفي رواية: وغبرات أهل الكتاب) الغبرات: جمع غابر، والمقصود بهم من كان يوحد الله من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب فيهم الموحد وفيهم المشرك، فيهم الموحد مثل ورقة بن نوفل رضي الله عنه، وغيره في بقايا أهل الكتاب، وفيهم المشرك.
يبقى في النهاية الموحدون من المسلمين والموحدون من أهل الكتاب، ويبقى الفجرة الموحدون أيضاً ويبقى المنافقون، فما هو شأن المنافقين؟ لما كانوا يتسترون للمؤمنين في الدنيا بقوا معهم، والذي يحصل أنهم يتميزون في ذلك المقام، ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين ينفعهم في الآخرة، كما كان ينفعهم في الدنيا، فيحشرون معهم، كما كانوا يظهرون الإسلام يحشرون مع أهل الإسلام، لكن سيحدث تمييز عندما يأتي الله تعالى في صورته الحقيقية، فيطلع عليهم رب العالمين، والمؤمنون يعرفونه بصفاته مع أنهم لم يروه من قبل في الدنيا، لكن إذا جاء الله إلى البقية الباقية في أرض المحشر -بعد ما ذهب اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، وعبدة بوذا، وعبدة الكواكب، وعبدة النار المجوس، وعبدة الطواغيت من البشر، كلهم ذهبوا إلى جهنم مع معبوداتهم حطباً- فماذا يحصل؟ يرون الله فيعرفونه، فكيف عرفوه وهم ما رأوه من قبل؟ يعرفونه بأسمائه وصفاته التي كانوا يعرفونها في الدنيا، وهذا ما يبين أهمية توحيد الأسماء والصفات، فإن معرفة صفات الله تعالى في الدنيا هو الذي يقود إلى معرفته عز وجل في الآخرة، فيقول لهم: (أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا) وفي رواية: (ثم يقال بعد ذلك للمؤمنين: هل بينكم وبينه علامة؟ أي: آية تعرفونها، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه سبحانه وتعالى)، وصفاته لا تشابه صفات البشر؛ فلا يده كأيديهم، ولا وجهه كوجوههم، وهكذا في سائر صفاته سبحانه.
فإذا رأوا الساق -العلامة- سجد المؤمنون سجوداً صحيحاً، وأما المنافق فينكشف في هذا الموقف بالعلامة، فالعلامة هي التي تميز وتكشف، قال عليه الصلاة والسلام: (ويبقى من كان يسجد رياءً وسمعة)، الذي كان منافقاً في الدنيا وكان يسجد رياءً وسمعة (فيصير ظهره طبقاً واحداً) يستوي فلا ينثني الظهر، يصبح متصلباً، وفي رواية مسلم: (فلا يبقى من كان يسجد من تلقاء نفسه إلا أذن له في السجود) أي: هون عليه وسهل له ومكن منه، (ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقاً واحداً كلما أراد أن يسجد خر لقفاه) وفي رواية ابن مسعود: (وتبقى أصلاب المنافقين كأنها صياصي البقر)، وفي رواية الحاكم: (وتبقى ظهور المنافقين طبقاً واحداً كأنما فيها السفافيد) والسفافيد: جمع سفود، والسفود هو السيخ العظيم الذي يدخل في الشاة عند شوائها؛ لكي تتماسك على السيخ فيجعل الله ظهور المنافقين طبقاً واحداً، كأنما السفافيد في هذه الفقرات، وهي مضمومة بها سيخ، فلا يمكن أن ينثني، فلذلك كلما أراد أن يسجد وقع.
في رواية علي بن عبد الرحمن قال: (ثم يطلع عز وجل عليهم فيعرفهم نفسه بالآية ثم يقول: أنا ربكم فاتبعوني فيتبعه المسلمون، يكونون في ذلك تابعين لربهم كما عبدوه يتبعونه) أولئك عبدوا الصليب اتبعوا الصليب، عبدوا البقر اتبعوا البقر، وهؤلاء عبدوا الله فيتبعون الله، فإلى أين يقودهم عز وجل؟ يقودهم إلى الصراط، وهذه الرؤية التي تحصل في أرض المحشر غير الرؤية التي تقع في الجنة فهذه رؤية الامتحان، وتلك لزيادة الإكرام، ورؤية الجنة هي المقصودة بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] الحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله عز وجل، هناك امتحانات في الموقف تابعة لامتحانات الدنيا، فالذي رسب هناك يرسب هنا، والذي نجح هناك ينجح هنا، ولا تنقطع الامتحانات إلا بالاستقرار في الجنة أو النار، والقبر أو منازل الآخرة وفيه ابتلاء وامتحان بفتنة السؤال وغير ذلك، وكما يكون في الدنيا تكاليف ففي الآخرة تكاليف قبل دخول الجنة وقبل دخول النار.(38/7)
تقسيم النور على حسب الأعمال
بعد ذلك يقال للمسلمين: (ارفعوا رءوسكم إلى نوركم بقدر أعمالكم) وفي لفظٍ: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل ودون ذلك، ومثل النخلة ودون ذلك، حتى يكون آخرهم من يعطى نوره على إبهام قدمه) وفي رواية مسلم: (ويعطى كل إنسان منهم نوراً إلى أن قال: ثم يطفأ نور المنافقين) وفي رواية ابن عباس عند ابن مردويه: (فيعطى كل إنسان منهم نوراً -هؤلاء المتجهون إلى الصراط- ثم يوجهون إلى الصراط، فما كان من منافق طفأ نوره)، وفي لفظ: (فإذا استوى على الصراط سلب الله نور المنافقين، فيقولون للمؤمنين: انظرونا -أي: انتظرونا- نقتبس من نوركم) وفي حديث أبي أمامة: (وإنكم يوم القيامة في مواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله؛ فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم ينتقلون إلى منزل آخر فتغشى الناس الظلمة فيقسم النور)، يقسم النور على حسب الأعمال، والصلوات، والصدقات، والصيام، والخشية، والحياء، ونحو ذلك (فيختص بذلك المؤمن ولا يعطى المنافق شيئاً؛ فيقول المنافقون للذين آمنوا: ((يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً)) [الحديد13]، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور) المنافقون لما فقدوا النور وأرادوا الذهاب مع المؤمنين لا يمكنون من ذلك، بل يقال لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً؛ فيرجعون إلى المكان الذي قسمت فيه الأنوار من قبل؛ فلا يجدون شيئاً، فيريدون العودة فيضرب بينهم وبين المؤمنين بسور: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13]، باطنة أي: من جهة المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره: من جهة المنافقين فيه العذاب، وهذه هي الخدعة العظيمة التي يخدع الله بها المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [النساء:142] وهذه الخدعة هي القاضية عليهم.(38/8)
المرور على الصراط
قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضرب جسر جهنم -جسر مضروب على متن جهنم- ثم يكلف الناس بالعبور) الآن المنافقون اختزلوا إلى النار، وبعد الخدعة إلى النار من بقي؟ بقي الموحدون، فيهم الفجرة، وفيهم أهل الطاعة والإيمان، فيهم فجرة من الموحدين لم يخرجهم فجورهم عن الإسلام، لا زالوا داخل دائرة الإسلام، لكنهم أصحاب معاصي وفسق، وبقي أهل الطاعة والحسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون: اللهم سلم سلم) من الذي يقول؟ الأنبياء فقط.
الناس في صمت مطبق من هول الموقف، لا يتكلم يومئذ إلا الرسل، وكلامهم: اللهم سلم سلم، فقط لا غير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجوز) أول من يجوز ويقطع المسافة على هذا الصراط النبي صلى الله عليه وسلم -أولاً- ثم تقطع الصراط أمته خلفه، فإذا جاز هو وأمته جاز الأنبياء بأقوامهم.
جاء في حديث عبد الله بن سلام عند الحاكم: (ثم ينادي منادٍ: أين محمد وأمته؟ فيقوم فتتبعه أمته برها وفاجرها، فيأخذون الجسر، فيطمس الله أبصار أعدائه العصاة الفجرة، فيتهافتون من يمين وشمال -يقعون في النار من يمين وشمال- وينجوا النبي والصالحون) وفي رواية: (فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمر غراً محجلين من آثار الوضوء، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، ولا يتكلم إلا الأنبياء، فيمر المؤمن كطرف العين وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب) وفي رواية: (فيمر أولهم كمر البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، وشد الرحال، تجري بهم أعمالهم) بحسب الأعمال يكون الجواز والمرور، والسرعة تتناسب تناسباً طردياً بحسب الأعمال الصالحة، كلما كانت الأعمال الصالحة أكثر كلما كان العبور أسرع، والناس يتفاوتون في السرعة بحسب أعمالهم؛ فمنهم من يمر كالبرق، وهؤلاء أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولياء الله يجوزون كالبرق، ثم أناس كطرف العين، ثم أناس بعدهم كالريح، وأناس كالطير، وأناس كشد الرحال، وأناس كالسحاب، وأناس كانقضاض الكواكب، وأناس كشد الفرس، حتى يمر الرجل الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، يجر بيد ويعلق يداً، ويجر برجل ويعلق رجلاً، وتضرب جوانبه النار، حتى يمر آخر واحد ويتعثر في المشي وتضرب جوانبه النار ويتكفأ به الصراط، يميل الصراط ويهتز به، وجاء في رواية: (كأسرع البهائم، حتى يمر الرجل سعياً ثم مشياً، ثم آخرهم يتلبط على بطنه فيقول: يا رب لِمَ أبطأت بي؟ فيقول: أبطأ بك عملك) الله عز وجل لم يبطئ به ولكن الذي أبطأ به عمله.(38/9)
صفة الصراط
قال في الحديث في وصف الصراط: (وبه كلاليب، وفي رواية: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به) والكلاليب جمع كلوب، والكلوب هو الخطاف الذي يخطف الناس، وهذا الخطاف عظيم جداً للغاية، تقف الأمانة والرحم على جنبتي الصراط لعظم شأنهما وفخامة أمرهما؛ لكي يؤدب ويعاقب الخائن وينجو الأمين، ويعاقب القاطع وينجو الواصل لرحمه الأمانة والرحم يشهدان للمحق ويشهدان على المبطل {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب:72] (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) [النساء:1]، فلما كانتا بهذه العظمة جعلتا على جنبتي الصراط.
قال صلى الله عليه وسلم في وصف الكلاب والخطاف الذي يخطف الناس: (مثل شوك السعدان) السعدان: جمع سعدانة، والسعدانة نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه، يقال: مرعى ولا كالسعدان (أما رأيتم شوك السعدان؟) شبه صورة الكلاليب بشوك السعدان، لكن عن عظم حجمها قال: (غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله) فهذه الكلاليب مثل الشوك تخطف الناس، قال: (فتخطف الناس بأعمالهم) فشبه الكلاليب بشوك السعدان لسرعة اختطافها وكثرة الانتشال فيها، عرفوها في الدنيا وألفوها مباشرة فعرض عليهم التشبيه بها، قال: (وبحافتيه -أي: الصراط- ملائكة معهم كلاليب من نار، يختطفون بها الناس).
وفي رواية أبي سعيد: (قلنا: وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة) أي: تزل فيه الأقدام، وفي رواية قال أبو سعيد: (بلغني أن الصراط أَحَدُّ من السيف، وأدق من الشعرة) رواه مسلم، وهذا له حكم الرفع؛ لأنه لا يقوله برأيه، لابد أن يكون الصحابي قد سمعه (أَحَدُّ من السيف، وأدق من الشعرة)، فمن الذي سينجو من عليه؟ قال الفضيل بن عياض رحمه الله: [[بلغنا أن الصراط أدق من الشعرة، وأحد من السيف على متن جهنم، لا يجوز عليه إلا ضامر مهزول من خشية الله].
قال صلى الله عليه وسلم في أصناف الناس على الصراط: (منهم الموبق بعمله)، وفي رواية: (الموثق بعمله، ومنهم المخردل)، الخردل من صفته أنه مقطع، فهذا المخردل تقطعه كلاليب النار؛ فيهوي فيها، وخراديل، أي: قطع تقطعهم، ويحتمل أن يكون المعنى: تقطعهم عن اللحوم لمن نجا ثم ينجو.
إذاً: هؤلاء الذين يعبرون الصراط ثلاثة أنواع جاء في حديث أبي سعيد: (فناجيٍ مسلََّم، ومخدوش، ومكدوس في جهنم، حتى يمر أحدهم فيسحب سحباً).
إذاً: المارون على الصراط ثلاثة أصناف: 1/ ناجٍ بلا خدوش، مسلَّم لم يصبه شيء.
2/ مخدوش ثم ينجو، فهو في النهاية يعبر لكن بعد خدوش تصيبه من هذه الكلاليب.
3/ وهناك هالك من أول وهلة.
فإذاً: هناك هالك من أول وهلة، مكردس، هذا يقع في النار، وهناك ناجٍ يعبر بعد أن يصيبه ما يصيبه، وهناك من ينجو بلا خدوش والمكردس أو المكدوس المنكفئ في قعر جهنم؛ نظراً لأن سيئاته كثيرة، فلابد من تطهير النار حتى يدخل الجنة طاهراً؛ لذلك يقع في النار، وكذلك الذي يصيبه على الصراط ما يصيبه؛ لكي يطهره ما أصابه من الآثام التي اقترفها ثم ينجو، وبعد ذلك يدخل الجنة نظيفاً، فلا يدخل الجنة شخص غير نظيف، لابد أن يطهر بما يصاب به، إن كان في الدنيا فبالمصائب والهم والغم والأمراض والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وإن كان في القبر فبفتنة القبر وما يصيبه، وإن كان في الآخرة فبدنو الشمس والعرق والحر والزحام وطول الموقف، وإن كان بقي عليه شيء فإنه إذا عبر الصراط يخدش بهذه الكلاليب، ما دام أن سيئاته أكثر من حسناته، حتى إذا كان ذلك كافياً عبر، وإذا لم يكن كافياً كفى به في النار.
وهنا نقف في شرح هذا الحديث؛ لنتحدث -إن شاء الله- بعد ذلك عن الشفاعة، وآخر من يخرج من النار متجهاً إلى الجنة، له قصة أخرى سنتحدث عنها -إن شاء الله- وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(38/10)
الأسئلة(38/11)
رؤية الله في المنام
السؤال
هل ورد أن الله تبارك وتعالى يرى في المنام؟
الجواب
نعم.
قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في أحسن صورة، وذكر العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن من رأى ربه في المنام يراه بحسب إيمانه؛ فإن كان إيمانه أكبر كانت الصورة التي يراها في المنام أجمل، لكن الله عز وجل لا تحيط به العقول، ولا تدركه الأبصار، ولا يُعلم كيف هو ولا يراه أحد في الدنيا، لكن الصورة التي في المنام على حسب العمل.(38/12)
الموحدون هم الذين يجوزون الصراط
السؤال
فهمت أن الذي يجوز الصراط جميع الخلائق، وفهمت مرة أن الذي يجوزه هم عصاة الموحدين، أرجو التوضيح؟
الجواب
سبق بوضوح أن الكفار لا يجوزون الصراط، لا النصارى، ولا اليهود، ولا المجوس، ولا غيرهم، والمنافقون أيضاً يقعون من أوله، لكن المؤمنين والموحدين -ولو كانوا عصاة- هم الذين يجوزون الصراط، إذاً: من الذي يجوز الصراط؟ الموحدون هم الذين يجوزون الصراط.(38/13)
حكم البيع المسمى (الإيجار والتمليك)
السؤال
انتشر في هذه الأيام البيع المسمى (الإيجار والتمليك) فما حكمه؟
الجواب
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن بيعتين في بيعة، فلا يجوز لإنسان أن يجمع في عقد واحد بين بيع وإجارة، أو بين زواج وبيع، أو بين قرض وإجارة، أو بين قرض وزواج، ونحو ذلك، لا يجوز أن يجعل عقدين في واحد، لابد أن يفصل هذا عن هذا؛ لئلا يقع الغرر، فإذا جعلوهما عقداً واحداً؛ فهذا غير جائز، لكن إذا فصل العقدين عن بعضهما جاز ذلك، فلو قالوا له: نؤجرك السيارة، فإذا أنهيت كذا سنة في الإيجار نعقد معك عقد بيع جديد مستقل منفصل، نتفق فيه على سعر نحن وإياك، فهذا لا بأس به، إذا كان العقدان منفصلين فلا بأس، هذا بالنسبة لمسألة الإيجار المنتهي بالتمليك.(38/14)
تغيير المكان للمعتكف في الحرم وطوافه
السؤال
هل المعتكف في الحرم له أن يغير موقعه داخل الحرم إذا احتاج إلى ذلك؟
الجواب
نعم.
ولا بأس.
السؤال: هل له أن يطوف يومياً؟ الجواب: كذلك يجوز له أن يطوف يومياً، هذه من العبادات التي يفعلها المعتكف في الحرم، ومن طاف أسبوعاً فأحصاه كان له كعتق رقبة كل أسبوع، أي: سبعة أشواط، إذا طاف سبعة أشواط وصلى ركعتين قِبل المقام، كأنه أعتق رقبة، ولذلك لا حرج مطلقاً أن يطوف سبعة أشواط ويصلي ركعتين، ثم يطوف سبعاً ويصلي ركعتين، ثم يطوف سبعاً ويصلي ركعتين هذه من العبادات العظيمة، فإذا فعله المعتكف فهو قربة إلى الله تعالى وطاعة يفعلها في اعتكافه وهو داخل الحرم بطبيعة الحال.(38/15)
الاعتكاف مع الغير
السؤال
هل الأفضل أن يعتكف وحده أو يكون معه آخر؟
الجواب
إذا كانا سيتعاونان على الطاعة فهذا طيب، أما إذا كانا سينشغلان بالحديث عن طاعة الله فهذا ليس في مصلحته(38/16)
الزكاة على من ينوي البيع
السؤال
شخص اشترى قطعة أرض وينوي بيعها في المستقبل، فهل عليها زكاة؟
الجواب
ما دام نوى البيع، إذاً: عليه زكاة، أما إذا اشتراها ليبني عليها مسكناً أو يقيم عليها مشروعاً استثمارياً، كمحطة أو عمارة أو مزرعة ونحو ذلك، فلا زكاة عليه، وكذلك إذا ترددت بيعته بين البيع وشيء آخر كالبناء، فما دامت النية مترددة فلا زكاة عليه، فإذا جزم بالبيع بدأ الحول.(38/17)
الإتيان بعد صعود الإمام المنبر
السؤال
جاء في حديث صلاة الجمعة: (من أتى في الساعة الأولى فكأنما قدم بدنة فإذا صعد الخطيب على المنبر دخلت الملائكة يستمعون الذكر)، فما الحكم فيمن يأتي بعد صعود الإمام المنبر، هل له جمعة؟
الجواب
نعم له جمعة، لكن فاته أجر التبكير؛ لأن عندنا أجر سماع الخطبة والصلاة، وعندنا أجر التبكير إلى الجمعة، فإذا صعد الإمام المنبر فاته أجر التبكير، وبقي أجر الخطبة وأجر الصلاة، وإذا تأخر عن الخطبة يفوته من أجرها، فإذا فاتته الخطبة فاته كل أجر الإنصات إلى الخطبة، ويبقى أجر الصلاة، وهكذا يعطون أجورهم على حسب أعمالهم.(38/18)
العمرة على أهل مكة
السؤال
أناس من أهل مكة يقولون: ليس على أهل مكة عمرة؟
الجواب
الصحيح أن لهم عمرة، ولكنهم يعتمرون من الحل خارج الحرم، أي: من التنعيم أو غيره.(38/19)
رؤية الكفار لله
السؤال
هل الكفار والمشركون يرون الله يوم القيامة؟
الجواب
يرونه في أول الأمر، ثم يحجبون عنه ليكون زيادة في تبكيتهم وتحزينهم وآلامهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15](38/20)
منع الأبناء من الذهاب إلى المساجد
السؤال
هل يجوز منع الأبناء من الذهاب إلى المسجد؟
الجواب
الأولاد على نوعين: مميزون وغير مميزين.
والتمييز في العادة سبع سنين، وهو يختلف ويتفاوت بحسب كل ولد، فمنهم من يميز قبل سبع، ومنهم من قد يتأخر تمييزه، ولكن في الغالب سبع، ولذلك ارتبطت العبادات كالصلاة -مثلاً- بالتمييز، ففي سبع يؤمرون بالصلاة؛ لأنه صار مميزاً مدركاً، وكذلك هناك عبادات أخرى ترتبط بالتمييز، كالأذان والإمامة إذا صار مميزاً على الصحيح، وإذا كان الصبي غير مميز، وكان الذهاب به إلى المسجد يسبب إزعاجاً للمصلين أو نجاسة للمسجد ونحو ذلك فلا يذهب به إلى المسجد، وأما إذا كان هناك من يصونه ويمنع أذاه فيذهب به، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع في الصلاة بكاء الصبي فيخففها، ولكن إذا تحول المسجد إلى حضانة، كل ولد يصرخ من جهة، ويصيح من جهة، حتى لا يكاد المصلون يستمعون قراءة الإمام؛ فهنا ينبغي أن يوجد حل لهذا، ولذلك بعض النساء وربما بعض أزواج النساء لا يدركون هذه القضية، فيأتي ويرمي الأولاد هكذا في المسجد، وقد يتعرض بعض الأولاد للأذى، فيكون قد آذى به وأهمله؛ فيأثم على إهماله، ولا شك أن صلاة المرأة في بيتها خيرٌ من صلاتها في المسجد حتى التراويح؛ لأن الحديث عام: (إني علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لكِ) فإذا كانت تأتي بصبي يزعج الناس ويصيح، وبين أن تصلي في بيتها؛ فتصلي في بيتها أحسن من الجهتين.(38/21)
حكم تأخر المأمومين في الصلاة عن الإمام
السؤال
إمام المسجد قام في الركعة الثالثة، ولم يجلس في التشهد الأول، والذين في ناحية المسجد جلسوا ولم يعرفوا أن الإمام قائم إلا عندما كبر للركوع فقاموا، ثم رفع من الركوع ولم يدركوا الركوع، ثم سجدوا، وبعضهم بعد انتهاء الصلاة أتى بركعة، وبعضهم سلم مع الإمام ولم يأتِ بركعة، حيث إن هؤلاء لم يأتوا بركعة، فاتهم الركوع ولم يلحقوا الإمام فيه ولم يقضوه ولم يأتوا به؛ فإن صلاتهم غير صحيحة؛ لأن الركوع ركن ولم يأتوا به، فما حكم صلاتهم؟
الجواب
نبدأ أولاً بالموقف الصحيح، ثم نقسم هؤلاء المصلين.
الموقف الصحيح: أن على الناس أن يتابعوا الإمام، فإذا حصل خطأ ولم ينتبهوا كأن انقطع مكبر الصوت فعلى المأمومين أن يتابعوا الإمام فوراً عندما يعلمون بالخطأ، فهؤلاء قالوا: الإمام بدل أن يجلس للتشهد قام، ونحن في طرف الصف ما رأيناه قام، ظنناه جلس للتشهد فجلسنا، فلما قال: الله أكبر للركوع، قمنا وظننا أنه قام للثالثة، فلما قال: سمع الله لمن حمده؛ تلخبطنا، فماذا يفعلون؟ هؤلاء إذا قاموا ثم سمعوا الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، يركعون ويرفعون ويتابعون الإمام، وصلاتهم صحيحة.
لكن حيث إنهم لم يفعلوا ذلك؛ فقد انقسموا إلى قسمين: قسم أتى بركعة بعد سلام الإمام، فهؤلاء جبروا الركعة التي فاتهم فيها الركوع، وهو ركن أتوا ببدل منه، فصلاتهم صحيحة، والذين سلموا وذهبوا بدون أن يأتوا بركوع مع الإمام ولا ركعة، فصلاتهم غير صحيحة؛ فعليهم إعادتها.(38/22)
أهوال القيامة والنجاة منها
السؤال
كيف يستطيع المرء أن ينقذ نفسه من أهوال يوم القيامة؟
الجواب
أولاً: كما قال الله عز وجل: {إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]، فلابد أن يأتي بقلب سليم من الشبهات ومن الشهوات.
ثانياً: لابد أن يعمل عملاً صالحاً، فإذا عمل عملاً صالحاً فقد فاز وزحزح عن النار وأدخل الجنة، ولا يفوز يومئذ إلا من لقي الله بإيمان وعمل صالح، إذاً: لابد من قلب سليم وعمل صالح، فهو الذي ينجي من أهوال القيامة.(38/23)
وسوسة الشيطان لآدم وحواء عليهما السلام
السؤال
هل الجنة التي أخرج منها آدم عليه السلام هي جنة المأوى؟ وكيف دخل الشيطان وقد أخرجه الله منها؟
الجواب
لا يلزم من الوسوسة أن يكون قد دخل، فيمكن أن يكون قد وسوس للأبوين من خارج.(38/24)
الزكاة على المال المدين
السؤال
أقرضت أخي مبلغاً من المال منذ ثلاث سنوات، وحالته المادية غير ميسورة، وأخبرني أنه سيرد المبلغ حين الميسرة، فهل على هذا المبلغ زكاة؟
الجواب
حيث إنه ليس بيدك، ولا يمكنك أن تطالب به، ولو قلت له: هات المال، لقال لك: ما عندي شيء، فإذاً ليس في هذا المبلغ زكاة.(38/25)
الصلاة بعد الوتر
السؤال
إذا أدى المسلم صلاة الوتر مع الإمام ثم أراد أن يصلي -مثلاً- سنة الوضوء، أو ذهب إلى مسجد آخر وأراد أن يصلي، فماذا يفعل؟
الجواب
يصلي ولا حرج عليه، وله أن يزيد ويصلي في الليل مثنى مثنى دون أن يوتر، لحديث: (لا وتران في ليلة)، فيكتفي بالوتر الأول، وإذا أراد الزيادة فيزيد مثنى مثنى.(38/26)
الحكمة من المسح على الجوارب
السؤال
هل الحكمة من المسح على الجوارب فقط للتخفيف في البرد الشديد؟
الجواب
ليس المسح على الجوارب مرتبطاً بالبرد الشديد؛ فيمكن أن يمسح حتى في فصل الصيف، فهي رخصة ما دام لبس الجورب على طهارة، والجورب ساتر للقدمين، وكان طاهراً؛ فإنه يمسح عليه.(38/27)
الاستمناء في نهار رمضان
السؤال
ما حكم الاستمناء في نهار رمضان؟
الجواب
هذا مفسد للصوم، ومبطل له، وفاعله آثم، وقد ارتكب كبيرة عظيمة من الكبائر، وعليه أن يمسك بقية اليوم، وأن يتوب إلى الله، وأن يقضي يوماً بدلاً من هذا اليوم.(38/28)
آداب الدرس والحلقة
طلب العلم عبادة عظيمة، وقد ميزت عن غيرها من العبادات، فجعل للعالم فضل على العابد يعادل فضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدنى فرد من أمته.
وفي هذه المادة حديث عن فضل العلم، وبعض ما يتعلق بحلقه من الضوابط والشروط والآداب، ونقاش علمي لواقع هذه الحلق اليوم، واسترشاد بواقع حلق العلم في عهد سلف هذه الأمة الصالحه.(39/1)
فضل العلم وحلقه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده.
أيها الإخوة: سنتحدث في هذه الليلة إن شاء الله عن عبادة عظيمة من العبادات، وموضوعٍ مهمٍ من المهمات وهو: حلق العلم، وشيء من فضلها وآدابها وشروطها، ونظرة نقدية لواقع حلق العلم التي يجلس فيها بعض الشباب، بل وبعض النساء أيضاً لنتعرف على شيءٍ من الآداب، وفي ذات الوقت الآفات التي تحيط بهذه القضية.
أما بالنسبة للعلم، فإن طلب العلم من أجل العبادات وأفضل القربات، وهو حياة القلوب ونور الأبصار، به يطاع الله عز وجل ويعبد، وبه يحمد الرب ويوحد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال من الحرام، فتعلمه حسنة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل في الظلمة، والسنان على الأعداء، وأهل العلم في المنارات العالية، قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11] وفضل العالم على العابد كفضل النبي صلى الله عليه وسلم على أدناكم كما خاطب بذلك أصحابه، ولم يأمر الله نبيه أن يطلب الزيادة من شيء إلا من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
وهو دليلٌ على توفيق الله للعبد، قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفي حكمه جاء حديثه عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ونافلة العلم أفضل من نافلة العبادة، كما ورد في الحديث الصحيح () فضل العلم أحب إلي من فضل العباد) والملائكة ترضى عن طالبه بقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىاً بما يصنع) وكل وسيلة مشروعة لتحصيله فهي طريقٌ مؤدية إلى الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) وحلق العلم من أعظم الوسائل الموصلة إلى العلم، ولذلك فإن هذا السبيل وهو حلق العلم من أعظم السبل المؤدية إلى الجنة.
ولذلك كان حرياً بنا أن نتفطن لهذه القضية؛ وهي الاهتمام بحلق العلم، لأنها السبيل العظيم الموصل إلى الجنة، وقد وردت أحاديث في فضل حلق العلم عظيمة، منها ما هو مقيدٌ بالمسجد، ومنها ما هو مطلق، فمن الأشياء المقيدة بالمسجد حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده) وفي إتيان المساجد لتعلم القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (أيكم يحب أن يغدو كل يومٍ إلى بطحان أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين زهراوين في غير إثمٍ ولا قطيعة رحم، فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خيرٌ له من ناقتين كوماوين، وثلاث خيرٌ له من ثلاث، وأربع خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) حديثٌ صحيح رواه الإمام أحمد وغيره، وهذا دليلٌ عظيمٌ على استحباب إتيان المساجد لحلق الذكر، أما غير المساجد، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده).(39/2)
هل يقتصر أجر حلق العلم على المسجد؟
وفي رواية لـ ابن حبان: (ما جلس قومٌ يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده) وبعض العلماء الذين شرحوا حديث (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله) ذكروا تنبيهاً، ومنهم المناوي الذي قال: التقييد بالمسجد غالبيٌ فلا يعمل بمفهومه، يعني: ليس الأجر الذي ورد في بيت من بيوت الله خاصاً بالمسجد، وإنما حتى الحلق التي تكون في البيوت والمجالس وأي مكان آخر غير المسجد فيها أجرٌ عظيمٌ أيضاً، لكن بيت الله تعالى مظنة الخشوع والبركة فيه أكثر، وإلا فليست حلق العلم المعقودة في البيوت خالية من الأجر الوارد في هذا الحديث، ولذلك قال: التقييد بالمسجد غالبيٌ فلا يعمل بمفهومه.
أما بالنسبة لذكر الله الوارد بالحديث، فقد قال ابن حجر رحمه الله: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما يدخل، قال: قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم والمناظرة فيه من جملة ما يدخل في مسمى ذكر الله عز وجل، وإن كان ذكر الله بالمعاني الأخرى أيضاً أقرب إلى مسمى ذكر الله من مدارسة أو ذكر الأسانيد ونحو ذلك.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه سهل بن الحنظلية: (ما اجتمع قومٌ على ذكرٍ فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم) وذكره الألباني رحمه الله في صحيح الجامع.(39/3)
معنى حلق الذكر وبيان دخول حلق العلم فيها
إذاً هذه الأحاديث الدالة على فضل حلق الذكر عموماً، وحلق العلم تدخل في حلق الذكر، وينبغي أن يوسع موضوع حلق الذكر حتى لا يُظن أنها فقه وحديث وتفسير ونحو ذلك، فيدخل فيها الطلب من الله عز وجل والدعاء، وكذلك ذكر نعمة الله، إذا جلسوا يذكرون نعمة الله عليهم، فهي من حلق الذكر التي فيها هذا الأجر العظيم (وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجلٍ حضر حلقة علمٍ رأى فرجة جلس فيها أن الله آواه، وثانٍ جلس خلفهم واستحيا أن الله قد استحيا منه) وهذا يدل على فضل من حضر حلق الذكر.
والصحابة جلسوا يذكرون الله ويحمدونه على ما هداهم للإسلام ومنَّ به عليهم، فإذاً تذكر الأشياء وتذكر نعمة الله تعالى، وتحديث البعض للبعض الآخر بنعمة الهداية مثلاً، يعتبر من مجالس الذكر، ولو لم يقرءوا فيه إسناداً ولا متناً، فلا يقتصر مفهومنا لحلق الذكر على قراءة المتون فقط، فالمسألة أعظم من ذلك.
لو جلس جماعة يتواصون بالصبر، يتكلمون في مسألة الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبل إعزاز الدين، ويناقشون كيفيات إعزاز الدين , والسبل الموصلة إلى تبليغ الدعوة، وكيف يحققون ذلك، لكان هذا من حلق الذكر.
ولو جلس جماعة حتى لو لم يكونوا من أهل العلم ولا من حفاظ العلم، جلسوا يذكرون نعم الله عليهم، وهذا قد يتكلم فيه بعض العامة كلاماً جميلاً، يذكر نعم الله عليه، ويقارن حال المهتدين بحال الزائغين، ويبين فضل الله عز وجل على المهتدين، فهذه حلقة ذكر فيها أجرٌ عظيم.
إذاً نحن نستطيع أن نحول كثيراً من مجالسنا، سواء كانت مجالس عائلية، مجالس كلام في العمل أحياناً، مجالس مع الأصدقاء ما قبل العشاء، ما بعد الغداء، في وليمة؛ يمكن أن نحولها إلى حلقة ذكر ونخرج منها بأجرٌ عظيم، فذكر الله كلمة عامة يدخل فيها مسائل العلم والحديث والتفسير والفقه والعقيدة، ويدخل فيها كل شيءٍ فيه ذكر فضل الله، ونعم الله، وهداية الله تعالى، وكذلك الدعوة إلى الله مثلاً.
إذاً مجالس العلم مفهومها كبير وواسع، وينبغي أن يحقق، وإن كانت الكتب التي تتحدث عن حلق العلم تقتصر على ما يفهم منه قضية المتون والأحاديث، والإملاء والأسانيد، وغير ذلك، لكن المسألة أوسع من هذا بكثير، والصحابة كان حالهم أن يذكرون منة الله تعالى عليهم.(39/4)
بعض ما يتعلق بحلق العلم من الآداب وغيرها
لا شك أن حلق العلم من الأمور التي ينبغي الاهتمام بها لقلة العلم في هذا الزمان وتفشي الجهل، فهي من ذكر الله تعالى، ولما كانت حلق العلم قد اعتورها ما اعتورها من التقصير والآفات، فلعلنا نتحدث عن بعض ما يتعلق بحلق العلم، من الشروط والآداب وما كان في عهد السلف، ونناقش بعض عيوبنا في حلق العلم أو حلق الذكر، لنتوصل إلى سبلٍ لتصحيح الواقع، ونحث أنفسنا على الاهتمام بهذه العبادة العظيمة، وهي حلق العلم والذكر.
كان السلف رحمهم الله عز وجل يهتمون بقضية الشيخ، ويتوسمون الخير في المشايخ، ويحرصون على حضور من يظهر لهم الخير فيه، فهذا أبو إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مجلس حمص فجلست في حلقة فيها اثنان وثلاثون رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الرجل منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، ثم يقول الآخر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحدث، وفيهم رجلٌ أدعج براق الثنايا، فإذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه، ورضوا بما قال، فلم أجلس قبله ولا بعده مجلساً مثله، فتفرق القوم وما أعرف اسم رجلٍ منهم، فبت بليلة لم أبت بمثلها، وقلت: أنا رجلٌ أطلب العلم، وجلست إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أعرف اسم رجلٍ منهم ولا منزله، فلما أصبحت غدوت إلى المسجد، فإذا أنا بالرجل الذي كانوا إذا شكوا في شيءٍ ردوه إليه يركع إلى بعض إسطوانات المسجد- يصلي- فجلست إلى جانبه، فلما انصرف قلت: يا عبد الله! والله إني لأحبك لله، فأخذ بحبوتي حتى أدناني منه، ثم قال: إنك لتحبني لله؟ قلت: إي والله إني لأحبك لله؛ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المتحابين بجلال الله في ظل الله وظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) فقمت من عنده الحديث، أو بقية القصة.
وقد حصل أيضاً في رواية أخرى من كلامه رحمه الله أنه سمع رجلاً من الصحابة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حقت محبتي للذين يتحابون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتباذلون فيَّ، وحقت محبتي للذين يتزاورون فيّ) قلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا عبادة بن الصامت، قلت: من الرجل؟ قال: معاذ بن جبل، ومعاذ بن جبل الذي أعجب ذلك الرجل هيأته وسمته رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي كان مرجعهم، وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، وأعلمهم بالفقه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يتقدم العلماء يوم القيامة برمية حجر، رأى أبو إدريس من سمته وهيأته ما حببه فيه وجلس إليه، ويمكن معرفة العالم الثقة أو المعلم الثقة، أو طالب العلم الثقة من خلال السؤال والتفرس، وكانوا يبحثون عن الحلق التي يظهر حسن السمت في طلابها، وهذه كانت ميزة من ميزات العلم والذكر في عهد السلف؛ فكان الإنسان يميز من الجالسين حالاً عجيبةً، يقول عبد الله بن محمد بن عبيد في مسعر بن كدام وهو من كبار علماء السلف:
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وعلية الأقوام
فتتميز حلقهم بالعفة، والمجلس نفسه فيه سكينة ووقار، ليس مجلس لغط ولا هرج ومرج، لكن مجلس خشوع وسكينة، ويقول أبو حازم رحمه الله وهو من جلساء زيد بن أسلم في حلقته، يقول: لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حضراً فقهاء، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، فما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما قط، إذاً كان الجالسون في الحلق من الذين يتخلقون بالأخلاق الحسنة، وليسوا حفاظاً فقط، وعندهم نبوغ في الفهم، فكانت قضية الأخلاق والآداب مهمة، يقول: أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، أي: يواسي بعضنا بعضاً، فالذي عنده سعة يعطي الذي ضاقت حاله، هذه أقل خصلة فما بالك بما هو أعظم؟ وفي نفس الوقت لا يوجد مراء في المجلس، لا يوجد نقاشات فارغة، ما رئي منا متماريان ولا متنازعان في حديثٍ لا ينفعهما، ولذلك حصلت الاستفادة والبركة، لكن لما يجلس بعض الناس في حلق، ويكون همهم الجدال والنقاش حتى لو لم يكن مفيداً، وأن يظهر كل واحد صحة رأيه وفساد رأي الآخر ونحو ذلك من الكلام، وينتصر كل إنسان لنفسه، ويريد إبراز مواهبه في النقاش، عندما تكون الأغراض مشبوهة، والنوايا مشوبة بمثل هذه الترهات لا تحصل البركة في المجلس ولا الفائدة، ولذلك قال: ما رئي منا متماريان ولا متنازعان، فكانوا يسمعون العلم، فيستفيدون، لا يوجد مراء، ولا شيء يضيع الأوقات.(39/5)
صورة بسيطة لحلقة علم
وقد روى أبو سعيد رضي الله عنه وأرضاه، قال: كنت في حلقة من الأنصار وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري وقارئ لنا يقرأ علينا، وفي هذا أنهم كانوا يلتمسون حلق الفقراء، وكانت طريقتهم في الحلق أن قارئاً يقرأ وهم يستمعون، فلو أن ناساً اجتمعوا في حلقة، وقالوا: يا فلان! أنت أندانا صوتاً، وأجودنا تجويداً، فافتح المصحف واقرأ علينا، ففتح المصحف وقرأ عليهم، فهذه حلقة ذكر كاملة، تحفها الملائكة، وتغشاها الرحمة والسكينة، ولو ما فعل فيها إلا قراءة القرآن.
قال: كنت في حلقة من الأنصار، وإن بعضنا ليستتر ببعض من العري، وقارئٌ لنا يقرأ علينا، فنحن نسمع إلى كتاب الله عز وجل، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أرادوا سماع القرآن، أمروا أحدهم أن يقرأ والبقية يستمعون، إذاً حلقة الذكر ليست صعبة، بل هي قضية سهلة جداً، والمسألة لا تحتاج أكثر من همة جلوس، وسماع لواحد من الناس الذين يجلسون ويقرءون القرآن، ويحصل بذلك الأجر العظيم، ولا يشترط أن يكون فيهم طالب علم أو عالم.
فإذا عرفنا أن المسألة سهلة، فلماذا لا نطبقها؟ هب أن بعضنا من الجالسين ليس عنده علم، ولا هو صاحب علم، ولا درس على مشايخ، ولا حفظ متوناً، ولا مسائل فقهية، ولا درس مذهباً فقهياً، جمع أهل بيته، فقرأ أو قرأت زوجته، أو قرأ أحد أولاده القرآن؛ فهذه حلقة ذكر، ونحن نريد إحياء هذا الأمر في البيوت والمجالس والمساجد وجميع المحلات، من مصلحتنا إحياء ذلك خاصة في زمن الجهل الذي نعيش فيه، عندك ربع ساعة في مصلى العمل، بنات عندهن وقت في مصلى الكلية، طلاب عندهم وقت في مصلى الجامعة، المسألة سهلة جداً، إنشاء حلقة ذكر سهلة جداً، وهذه قضية لها أثر كبير على النفوس، وهذا نوعٌ من التربية الإيمانية، وباب عظيم من أبواب الأجر ينبغي أن لا يفوت أبداً، لقد كان عند السلف خشوعٌ في حلقهم، ولم تكن مجالس مراء وكلام يقسي القلوب.(39/6)
من الآداب الخشوع والصمت
يقول نصر بن عاصم الليثي أتيت اليشكري في رهطٍ من بني ليث، فقال: قدمت الكوفة، فدخلت المسجد، فإذا فيه حلقة كأنما قطعت رءوسهم من خفض الرءوس والخشوع والصمت، يستمعون إلى حديث رجلٍ، فقمت عليهم، فقلت: من هذا؟ قيل حذيفة بن اليمان، فدنوت منه فسمعته يقول: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر في الحديث المعروف.
إذاً يلزم وجود سكينة في المجلس الذي يقرأ فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وعندما يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فإننا ونحن بعده ولم ندركه حياً عليه الصلاة والسلام نستطيع أن نطبق ذلك؛ بحيث نسمع حديثه يقرأ في مجلسٍ بدون أن يكون منا رفع صوت، فإذا لم يكن بين أظهرنا حياً بجسده فلنحترمه في عدم رفع صوتنا فوق صوته، فلا أقل من أن نسكت وننصت عندما يقرأ حديثه.
أهل الحديث هم أهل الرسول وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
فهذه أنفاسه التي بلغت إلينا، وحديثه ينبغي أن يسمع باحترام وتوقيرٍ وإجلال، لقد كانت الحلق تزيد الإيمان، ويحصل فيها من الخشوع ما يحصل، ويكون ذلك أحياناً بكلمة يسيرة، ولا يشترط أن تكون موعظة طويلة، يقول محمد بن واسع: كنت في حلقة فيها الحسن ومطرف وفلان وفلان، فتكلم سعيد بن أبي الحسن، حتى إذا قضى كلامه دعا، فقال في دعائه: اللهم ارض عنا ثلاثاً، فقال مطرف: اللهم إن لم ترض عنا، فاعف عنا، قال: فأبكاهم مطرف بهذه الكلمة.(39/7)
بعض ما ينبغي على الشيخ في الحلقة
ومن شروط الشيخ في الحلقة: التواضع، وكان بعض العلماء لا يرضى بأن يقام له إذا دخل المجلس، ولا يقبل رأسه ولا يده، وإنما إذا تكامل الحضور، جاء إلى مكانه في الحلقة والدرس وجلس يتحدث، وإذا انتهى قام ودخل بيته.(39/8)
تشجيع الطلاب المخلصين وتفقدهم
من الأشياء التي ينبغي عملها: تشجيع الطلاب المخلصين في الحلقة، مرَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حلقة فيها علقمة والأسود ومسروق وأصحابهم، وهؤلاء من أنجب تلاميذ عبد الله بن مسعود، فوقف عليهم، فقال: بأبي وأمي العلماء بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله وأحب من أحبكم.
وتفقد الطلاب في الحلقة أمرٌ مهم، فقد روى قرة بن إياس رضي الله عنه أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنٌ له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تحبه؟ قال: نعم يا رسول الله! ففقده النبي صلى الله عليه وسلم زمناً؛ لا يأتي للدرس والحلقة، فقال: ما فعل فلان ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله! ابنه ذاك الذي رأيته معه مات، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فعزاه، ثم قال: ألا تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته ينتظرك أو أن يكون عندك حياً، قال: لا بل لا آتي إلى باب من أبواب الجنة إلا وأجده، قد سبقني يفتحه لي، قال: فذلك لك، قالوا يا رسول الله: أله خاصة؟ قال: بل لكلكم) الحديث رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وكذلك النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز.(39/9)
كرم الشيخ مع أهل حلقته
وكرم الشيخ مع أهل حلقته كان من مزايا علماء السلف رحمهم الله، قال المزني: ما رأيت رجلاً أكرم من الشافعي، خرجت معه ليلة عيدٍ من المسجد وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره، فأتاه غلامٌ بكيس، فقال: مولاي يقرئك السلام، ويقول لك: خذ هذا الكيس، فأخذه منه وأدخله في كمه فأتاه رجلٌ من الحلقة من الطلاب، فقال: يا أبا عبد الله ولدت امرأتي الساعة ولا شيء عندي (نفقة الحلاق، وأجرة المولدة، والعقيقة، ونحو ذلك) فدفع إليه الكيس وصعد وليس معه شيء.
وكان من عادتهم الإنفاق على الطلاب المحتاجين، وخصوصاً من طلاب الدرس، قال أبو يوسف رحمه الله: كنت أطلب الحديث والفقه وأنا مقلٌ رث المنزل، فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني أنت محتاجٌ إلى المعاش، يعني: اعمل، فذهب ليعمل، قال: ففقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما أتيته بعد تأخيري عنه، قال: ما خلفك؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فلما أردت الانصراف أومأ إلي، فجلست، فلما قام الناس دفع إلي صرةً، وقال: استعن بهذه والزم الحلقة، وإذا فقدت هذه فأعلمني، فإذا فيها مائة درهم، فجلست مجلسه حتى بلغت حاجتي وفتح الله لي، فكان ما حصل من علم أبي يوسف رحمه الله تعالى.(39/10)
التنظيم والترتيب في حلق السلف
كانت الحلقات على عهد السلف فيها تنظيم حسن، وترتيب جيد، ومن ذلك توزيع الدروس على الأيام، ابن مسعود يحدث الناس كل خميس، وكان ابن عباس يأتيه أهل التفسير، فإذا قاموا أتاه أهل الحديث وهكذا، حتى يأتيه أهل الشعر ويذاكرونه أبيات العرب.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي الدرداء: وقيل الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، يعني: ألف رجل، لكن كانوا مجموعات عشرة عشرة، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائماً، فإذا أحكم الرجل منهم -ضبط التلاوة وقرأ القرآن على هذا الملقن وحفظ- تحول إلى أبي الدرداء يعرض عليه، فإذاً هذا الشيخ الكبير بعدما ينتهي الطلاب من الدورات؛ من ينتهي منهم يأتي الشيخ الكبير، فيعرض عليه ما تعلمه.
وقال الذهبي أيضاً في السير عن مكحول كانت حلقةٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدرسون جميعاً، فإذا بلغوا سجدة بعثوا إلى أبي إدريس الخولاني فيقرأها ثم يسجد، فيسجد أهل المدارس، وقال يزيد بن عبيدة: إنه رأى أبا إدريس في زمن عبد الملك بن مروان وإن حلق المسجد بـ دمشق يقرءون القرآن يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالسٌ إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة، بعثوا إليه يقرأ بها وأنصتوا له، ثم سجد بهم جميعاً.
من الآداب التي كانت موجودة في حلق السلف أن الصغار وأحداث السن لا يتكلمون قبل الكبار، فلا يوجد استعجال، ولا تعالم ولا تسرع ولا قلة أدب: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا) يقول واحدٌ منهم: كان إذا تكلم الحدث عندنا في الحلقة أيسنا من خيره، أي: عرفنا أنه لا خير فيه، إذ كيف يتكلم بحضرة الكبار والعلماء والشيوخ ومن سبقه؟ فإذاً يوجد أدب جم.(39/11)
التربية والمواعظ في حلق السلف
كانت التربية لطلاب الحلقة حاصلة، يقول عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: دخلت دمشق على كتبة الحديث، فمررت بحلقة قاسم الجوعي، فرأيت نفراً جلوساً حوله وهو يتكلم عليهم، فهالني منظره، فتقدمت إليه، فسمعته يقول: اغتنموا من زمانكم خمساً: إن حضرتم لم تعرفوا، وإن غبتم لم تفتقدوا، وإن شهدتم لم تشاوروا، وإن قلتم شيئاً لم يقبل قولكم، وإن عملتم شيئاً لم تعطوا به، وأوصيكم بخمسٍ أيضاً: إن ظلمتم لم تظلموا، وإن مُدحتم لم تفرحوا، وإن ذُممتم لم تجزعوا، وإن كُذبتم فلا تغضبوا، وإن خانوكم فلا تخونوا، فقلت: هذه فائدتي من دمشق، يكفي هذا عن كل الطرق والأسانيد، فكانت هناك تربية على الإخلاص، وتواص؛ فالشيخ يوصي التلاميذ بأن لا يبرزوا ليبتغوا حب الرئاسة، وأن يتطلع إليهم الناس، ويقول: أخملوا ذكركم، ولو حضرتم ولم تعرفوا فذلك أحسن.
وكان الطلاب يؤمرون بالإخلاص؛ وعظ الحسن يوماً في مجلسه، فتنفس رجل، فقال الحسن: إن كان لله شهرت نفسك، وإن كان لغير الله فقد هلكت، وقال عبد الكريم بن رشيد: كنت في حلقة الحسن، فجعل رجلٌ يبكي وارتفع صوته، فقال الحسن: إن الشيطان ليبكي هذا الآن، يعني: إذا خشعت وحضرك البكاء فاكتم بكاءك، ولا تجعله ظاهراً يلتفت إليك الناس بهذا الصوت المرتفع.
وكان من سماتهم وعظ أصحاب الحلقة، فعن الأعمش قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه جالساً بعد الصبح في حلقة، فقال: أنشدُ الله قاطع رحمٍ لما قام عنا فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة دون قاطع الرحم، فهو إذاً يعظ الجلوس يقول: من كان قاطع رحم فلا يجلس معنا، لأننا نريد دعاءً مستجاباً، والدعاء لا يجاب بقاطع الرحم، ومرتجة أي: مغلقة، وقد جاء ذلك أيضاً أو مثله عن أبي هريرة أنه قال: أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا، فلم يقم أحدٌ إلا شابٌ من أقصى الحلقة، فذهب إلى عمته لأنه كان قد صارمها منذ سنين فصالحها، فقالت له عمته: ما جاء بك يا ابن أخي؟ -ما هذا المجيء الغريب؟ - قال: إني جلست إلى أبي هريرة، فقال: أحرج على كل قاطع رحم إلا قام من عندنا، فقالت له عمته: ارجع إلى أبي هريرة واسأله لِمَ ذلك؟ فرجع فأخبره، فأخبره أبو هريرة بمثل ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
فقد كان في مجالس العلم مواعظ، كان فيها تذكير، الطلاب بالواجبات الشرعية، وليس مجرد حشو معلومات، لقد تغيرت الأمور كثيراً عما كان عليه الأمر في عهد السلف، فقد كان هناك تربية على الإخلاص، وتذكير بالواجبات، وتواصٍ بالحق، وصارت أجود الحلق اليوم ما فيه كثرة معلومات، والباقي فيه كثير من الهدر وضياع الوقت، وليست القضية -يا إخوان! - معلومات فقط، بل ينبغي أن يكون في هذه الحلق إيمانيات، ومواعظ، وذكر لله، وتواص، وتذكير، فهذه قضايا مهمة جداً ينبغي أن تكون في الحلقة، ولا يصلح أن تكون حلقاً جافة ليس فيها إلا عبارات تحتاج إلى تفكيك فقط.
إن المسألة التي تبتني عليها الأعمال وتصلح الأحوال، أن يكون ذلك مقترناً أيضاً بذكر الله والوعظ.
وكان كلام المشايخ من إخلاصهم لا يتأثر بمجيء فلانٍ من الناس كائناً من كان، وكانت أسرار الحلقة تحفظ، وإذا خولف ذلك حصل التذكير والتنبيه، وهذه قصة فيها عبرة، يقول سعيد بن أبي مروان: كنت جالساً إلى جنب الحسن، إذ دخل علينا الحجاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس، فدخل المسجد على برذونه، فجعل يلتفت في المسجد، فلم ير حلقة أحفل من حلقة الحسن، فتوجه نحوها حتى بلغ قريباً منها، ثم ثنى وركه، فنزل ومشى نحو الحسن، فلما رآه الحسن متوجهاً إليه تجافى له عن ناحية مجلسه، قال سعيد: وتجافيت له أيضاً عن ناحية مجلسي، حتى صار بيني وبين الحسن فرجة ومجلس للحجاج، فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه، والحسن يتكلم بكلامٍ له يتكلم به في كل يوم، فما قطع الحسن كلامه، قال سعيد: فقلت في نفسي: لأبلون الحسن اليوم ولأنظرنه؛ هل يحمل الحسنَ جلوسُ الحجاج إليه أن يزيد في كلامه ويتقرب إليه، أو يحمل الحسنَ هيبةُ الحجاج أن ينقص من كلامه؟ فتكلم الحسن كلاماً واحداً نحواً مما كان يتكلم به كل يوم، حتى انتهى إلى آخر كلامه، فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترثٍ به، رفع الحجاج يده فضرب على منكب الحسن، ثم قال: صدق الشيخ وبر، فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها حلقاً وعادة، هذا عبد الله بن أبي بعد صلاة الجمعة كان يقوم ويذكر الناس؛ فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة، ولولا ما حملناه من أمر الناس والمسئوليات العظام ما غلبتمونا على هذه المجالس، ثم افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته، فلما فرغ طفق فقام، فجاء رجلٌ من أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام الحجاج، فقال: عباد الله المسلمين، ألا تعجبون أني رجلٌ شيخٌ كبيرٌ وأغزو، فأكلف فرساً وبغلاً وفسطاطاً، وأن لي ثلاثمائة درهم من العطاء، ولي سبع بناتٍ من العيال، فشكا من حاله حتى رق الحسن له، ولما فرغ الرجل رفع الحسن رأسه، فقال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، وقتلوا الناس على الدينار والدرهم، فإذا غزا عدو الله غزا في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة، وإذاً أغزا أخاه أغزاه طاوياً راجلاً، فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده، فقام رجلٌ من أهل الشام كان جالساً إلى الحسن، فسعى به إلى الحجاج -وشاية- فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج، فقالوا: أجب الأمير، فقام الحسن، وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به، فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم -وقلما رأيته فاغراً فاه يضحك، إنما كان يتبسم- فأقبل في مجلسه، فعظم الأمانة، وقال: إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار، ثم قال الحسن: إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك من لسانك أتحرض علينا الناس قال: فدفعه الله عني.(39/12)
موت الشيخ وأثر ذلك على الحلقة
كان فقد الشيخ أمراً كبيراً، إذا مات الشيخ والعالم صاحب الحلقة أحدث فراغاً كبيراً، قال الربيع كنا جلوساً في حلقة الشافعي بعد موته بيسير، فوقف علينا أعرابيٌ فسلم، ثم قال لنا: أين قمر هذه الحلقة وشمسها؟ فقلنا: توفي رحمه الله، فبكى بكاءً شديداً، ثم قال: رحمه الله وغفر له، فقد كان يفتح ببيانه منغلق الحجة، ويسد على خصمه واضح المحجة، ويغسل من العار وجوهاً مسودة، ويوسع بالرأي أبواباً منسدة، ثم انصرف، وكان الشيخ يعين من طلابه من يلي الحلقة من بعده، وقد دخل على الشافعي في مرض موته الربيع والبويطي والمزني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: فنظر إلينا الشافعي ساعة، فأطال يتفرس في وجوههم، وكان الشافعي من أشهر الناس في الفراسة، ينظر إلى الشخص فيعرف أشياء من أحواله خفية بفراسته، قال: أما أنت يا أبا يعقوب، فستموت في حديد، يعني: البويطي، ستحدث قضية تقيد بالأصفاد وتموت بالأصفاد، وكان البويطي من الثابتين في فتنة خلق القرآن فربط وقيد ومات في القيد، وأما أنت يا مزني، فسيكون لك بـ مصر هناتٌ وهناتٌ، ولتدركن زماناً تكون أقيس أهل ذلك الزمان، وأما أنت يا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فسترجع إلى مذهب أبيك، يعني: إلى مذهب مالك، وكان قد تحول إلى الشافعية، ثم فعلاً بعد ما مات الشافعي حصلت له قضية واختلاف بينه وبين بعض الناس فرجع إلى مذهب مالك، وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لي في نشر الكتب، قم فتسلم الحلقة، قال الربيع: فكان كما قال، ما رأيت أفطن من الشافعي، سمى رجالاً ممن يصحبه، فوصف كل واحدٍ منهم بصفة ما أخطأ، فـ الشافعي عيَّن من يلي الحلقة من بعده، وكانت الحلقة أحياناً يتعاقب عليها العلماء وكأنها وراثة، فقال أحمد بن محمد الشافعي: كانت الفتوى بـ مكة في المسجد الحرام لـ ابن عباس، وبعد ابن عباس عطاء بن أبي رباح، وبعد عطاء؟ عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وبعد ابن جريج؟ مسلم بن خالد الزنجي، وبعد مسلم؟ سعيد بن سالم القداح، وبعد سعيد محمد بن ادريس الشافعي وهو شاب، حلقة مكانها معروف في المسجد يتتابع عليها العلماء، إذا مات خلفه آخر، والثاني، والثالث وهكذا، ولم يكونوا يغترون بكثرة الطلاب.(39/13)
تعامل علماء السلف مع طلابهم المنحرفين
من الأشياء المهمة: عدم الاغترار بكثرة الطلاب، فقد جاء في كتاب عجائب الآثار عن شيخٍ كان يتفقه، وكان متفنناً في المسائل، ولكنه كان شاعراً ماجناً خليعاً، ومع ذلك كانت حلقة درسه تزيد على الثلاثمائة، هذا الكلام في القرون المتأخرة عام ألف ومائة وشيء، لكن الشاهد منه أنه ينبغي أن ينتبه لحلق أهل السنة وتميز عن حلق أهل البدعة، وحلق أهل العلم تميز من حلق غيرهم، وحلق المبتدعة لا تغرنا ولو كان فيها من الأعداد ما فيها، وهذا واضح، فإنك لترى الآن بعض مشايخ الصوفية ربما حضرت مجالسهم الآلاف، وإذا كانت الحلقة الآن أكثر ما فيها آلاف، فإن هناك حلقاً تعقد في استديوهاتٍ يحضرها الملايين، فلا يغرنك الكثرة ولو كانت كاثرة، فالعبرة بسلامة دين ومنهج صاحب الدرس والحلقة، سواءً كان في مسجد أو في مؤتمر أو في قناة فضائية، ليست العبرة بكثرة السامعين له، والمتناقلين لأخباره، فهذا واحد يقول: كان شاعراً ماجناً خليعاً يحضر عنده ثلاثمائة واحد.
وكان من هدي السلف إفساد حلق المبتدعة والكذابين، ومن ضمن القصص الطريفة؛ قصة حدثت للأعمش رحمه الله؛ دخل الأعمش جامع البصرة، فرأى قاصاً يقص، وكان القصاص يكذبون لأجل تخويف الناس، ويفترون الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختلقونها على الرواة، وما سمعوها منهم، فدخل الأعمش جامع البصرة، فرأى قاصاً يقص، ويقول حدثنا الأعمش، وهذا القاص لا يدري من هو الأعمش، وأنه الجالس في الحلقة يقول: حدثنا الأعمش، فقام الأعمش فمشى إلى وسط الحلقة وجلس، وجعل ينتف شعر إبطه، فقال القاص: يا شيخ ألا تستحي، فقال: لم؟ أنا في سنة وأنت في كذب؛ أنا الأعمش وما حدثتك.
وكذلك كان شأنهم في طرد الضالين والمفسدين من الحلقة تعزيراً وفضحاً ودرءاً لفتنتهم، فقال الذهبي رحمه الله في السير: واصل بن عطاء البليغ الأفوه، وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال (مذهب المعتزلة) طرده الحسن من مجلسه لما قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن، فسموا بـ المعتزلة، إذاً الحسن طرد واصل بن عطاء لأنه مفسد، فأي واحد مفسد أو مبتدع في الحلقة يطرد، تعزيراً وتوبيخاً وردعاً لأمثاله، وتحذيراً للآخرين من شره، وإيقافاً لفساده، فلا بد أن يتعامل معه بالحزم.(39/14)
بعض آداب الحلق الظاهرة
كانت تلك لمحات عن وضع الحلق في عهد السلف، وقد ذكر العلماء آداباً للحلق، فقالوا: ينبغي لمن يأتي الحلقة أن يصلح هيأته ويأخذ أهبته، حتى أنهم قالوا: يتعاهد نفسه ويتجمل للحاضرين، فيغتسل، ويمشط شعره ولحيته، ويصلح عمامته وثوبه، ويتبخر، ويبتدئ بالسواك، ويلبس من الثياب البيض، ويستعمل الطيب، وينظر في المرآة قبل أن يأتي، ويهيئ نفسه للحاضرين وللدرس، ولمجلس الذكر الذي تحفه الملائكة، ويأتي مقتصداً في مشيته، ويبدأ من يلقاهم بالسلام، ويعم بالسلام كافة الحاضرين، لا يخص شخصاً بالسلام، وإذا كان في مسجد ودخله، فإنه يصلي ركعتين قبل جلوسه، ويجلس متربعاً متخشعاً، وقد جاء في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه شخصٌ قاعداً القرفصاء فقال: أرعدت من الفرق) يعني: من الهيبة لهيئة النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك يستعمل لطيف الخطاب في الكلام، ويحسن خلقه مع أصحابه وأهل حلقته، لأن النبي قال: (خالق الناس بخلقٍ حسن) وهؤلاء أولى الناس أن يحسن الإنسان خلقه معهم، ولذلك كانوا يحاولون كظم الغيظ، ومنع الغضب، والتلطف في الكلام، وتعيين الأيام للدروس؛ هذا مما ذكروه في آداب الحلق.
وإذا عين لهم يوماً ووعدهم فيه، فلا ينبغي إخلاف موعده إلا بأمرٍ يعذر فيه من مرضٍ ونحوه، وكذلك كانوا يفضلون عقد المجالس في المساجد، لكن لو لم يحصل عقدوها في البيوت، وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم للنساء مجلساً في بيتٍ، وقال: موعدكن بيت فلانة
لكل أناسٍ نحو سوقٍ مقاصد وسوق ذوي تقوى القلوب مساجدُ
مثابة ذكراهم عشياً وبكرة وللعابدين الله فيها معابدُ
فطوبى لهم يوم الجزاء إذا جزوا ونودوا بأن طبتم وطاب المُواعدُ
ويجعل اتجاهه إلى القبلة ما أمكن، لكن شكل المجلس يأخذ الحلقة المستديرة، ولذلك فإن أصحاب كتب اللغة قد قالوا في تعريف الحلقة: القوم مجتمعون مستديرون، وكذلك إذا مس شيئاً فيه ذكر الله، فإنه يكون على طهارة، وكان بعض المحدثين يستفتح بسورة من القرآن، ويرفع صوته -أي: الشيخ- ليسمع الناس، ولا يرفع أكثر مما يسمع الحاضرين، لأنه قد يشوش على أناس آخرين في المسجد يقرءون القرآن مثلاً، فصوته لأهل الحلقة فقط، ولا بأس أن يجلس على مكانٍ مرتفعٍ إذا كثر الناس، ويفتتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا ينسى الشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويترحم على شيخه ويدعو له.
وكذلك كانوا يبدءون أول شيء بالسند في الحديث باسم الشيخ، وإذا مر بذكر الصحابي قال: (رضي الله عنه) ثم يمر بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يروي ما لا تحتمله عقول العوام، وينتقي للحاضرين ما يفيدهم، من معرفة الأحكام الشرعية، والعبادات والمعاملات، وحق الله تعالى ونحو ذلك، ويفسر الألفاظ الغريبة الغامضة إذا مر بها، وما لا يعرفه يسكت عنه، وكذلك فإنه لا يُمل الحاضرين ولا يضجرهم، ولا بأس بأن يختم المجلس بالحكايات الطريفة والنوادر إذا لاحظ شيئاً من الملل، حتى أن بعضهم كان يقول: الحكايات حبوبٌ تصطاد بها القلوب، كما يصاد الطير برمي الحب له.
ولا بأس أن يجعل شيئاً من الأشعارِ في المجلس، وقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنه يجعل ذلك في مجلسه، وفيها فوائد وبالذات إذا كانت من أشعار العرب؛ لأن معاني الكلمات في القرآن والسنة على لسان العرب، فتعرف الكلمة من معناها في سياق بيت من الشعر قاله العرب الأوائل ونحو ذلك.
ولا ينسى كفارة المجلس إذا قام من المجلس، وهذا من الأشياء التي يفرط فيها الكثيرون.
كان هناك أدبٌ في الدخول من جهة الشيخ، ومن جهة التلاميذ تقدمت آداب ومن ذلك أنه يقدم الأكبر عند الدخول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالكبير، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: تقديم الأكابر في الدخول، فإذا اجتمع مجموعة عند الباب يقدم الأكبر سناً، وقال مرةً واحد منهم للكبير: تقدم، فقال: تقدم أنت فإنك أفقهنا وأعلمنا وأفضلنا، فإذا كان الأفقه والأعلم قدموه.
وإن كانوا متقاربين فمن الذي يدخل أولاً؟ الأكبر بالسن، وكذلك يمشي على البساط حافياً حتى لا يلوث المجلس، وكذلك يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يقيم أحداً من مجلسه ولا يجلس وسط الحلقة، ولا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، وإذا قام من مجلسه ورجع إليه، فهو أحق به، ويعظم المحدث أو العالم أو طالب العلم الذي يعلمه في هذه الحلقة ويكون له من الشاكرين.(39/15)
ملاحظات فيمن يقوم بالتدريس
من الأشياء التي نريد أن ننبه عليها ببعض الملاحظات، في موضوع الحلق والدروس بعد أن ذكرنا حال الحلق في عهد السلف، وذكرنا بعض الآداب المتعلقة بالحلق مما ذكره أهل العلم في كتب الآداب، هناك ملاحظات، من هذه الملاحظات ما يتعلق بالشيخ، ومنها ما يتعلق بالتلاميذ، ومنها ما يتعلق بمهنج الدرس، ومنها ما يتعلق بوقته وتنظيمه، ونقول هذا الكلام في وقتٍ قلَّ فيه العلماء، ومجالس العلم، فيصبح الواحد أحياناً محتاجاً لأن يقوم بالتعليم، ولكن ينبغي ألا يُعلّم ما لا يعلم أو ما لا يفقه، هب أن مدرساً للتربية الدينية أو التربية الإسلامية في فصل وحوله الطلاب فإنهم ينظرون إليه على أنه شيخ، والأولاد إذا عقد لهم أبوهم درساً في البيت، فإنهم ينظرون إليه كأنه شيخ ومعلم، بل إن كثيراً من الصغار يظنون أن بعض الذين يمسكون الدروس مشايخ، ويعاملونهم على أنهم مشايخ، ويعتقدون فيهم ذلك، فالإنسان إذا اضطر أن يتبوأ مكاناً مثل هذا فعليه أن يعلم ما يحسنه وليس ما لا يحسنه، فهو يعرف أحياناً أنه أقل من مستوى أن يدرس؛ لكن للحاجة قعد، ولولا الحاجة ما صح له أن يقعد، فإذا قلنا هذا مدرس يدرس طلابنا، أو هذا طالب في الجامعة عقد مجلس علم لطلابٍ، فإنه قد يكون عنده شيء من القراءة أو الإلمام أكثر منهم، فينبغي أن يعرف حق الآخرين ويعرف حجم نفسه حتى لا يتقمص شخصية لا يصح له أن يتقمصها، ثم يعامل الآخرين بناءً على ذلك، ولذلك في كثير من الأحيان نضطر بسبب عدم وجود العلماء وطلبة العلم بالقدر الكافي، خصوصاً في مناطق قد لا يكون فيها كليات شرعية، ونحن لا ننظر مثلاً إلى هذه الجزيرة التي فيها بالنسبة لغيرها علماء كثيرون، وحتى إذا قسمت على عدد الناس فسيكون لكل مفتي، يعني: لكل واحد يحسن الإفتاء كم شخصاً من الناس بالنسبة له كذا ألف، يعني: فوق طاقته، فكيف ببقية البلدان التي لو أن الإنسان أحياناً فيها- وخصوصاً الجاليات الذين يعيشون في الخارج- يبحث عن شيخٍ يفتيه وعالمٍ أو صاحب علم يسأله، فلا يجد إطلاقاً، فمن الفتنة أن يحتاج الإنسان إلى معرفة حكم شرعي أو مسألة فلا يجد من يسأله، وحتى في الأماكن التي يوجد فيها علماء قد يصعب الوصول إليهم، لأنه يقول: الهاتف مشغول، أو الشيخ لا يرد، أو أنه غير موجود في بيته، إذاً نحن لا بد أن نتعلم الدين.(39/16)
طرق مقترحة للطلب والتحصيل
أولى الطرق أن ندرس على العلماء وهذه لا نقاش فيها مطلقاً، وهي مفروضة، فإن لم يوجد فهل نعطل الدروس فلا ندرس شيئاً أبداً؟ طالب علم جيد يقوم هو بالتدريس، فإذا لم نجد طالب علم، فهناك طرق فردية مثل أن يمسك أشرطة العلماء ويمسك الكتاب أو المتن المشروح ويسمع كأنه في الدرس، ويلخص، ويكتب، وينقل على حاشية الكتاب، وهذه من أعظم طرق تعويض فقد العلماء أو قلة العلماء، الآن الحمد لله الله عز وجل لما قدر علينا أن نكون في آخر الزمان حيث يقبض العلم، وبدأ قبض العلم وموت العلماء، فإنه عوضنا بأمور من المخترعات الحديثة نستطيع بها أن ندرك شيئاً مما فات، ولو أن أجر دروس الحلقة لا يعدله أجر سماع الشريط بالتأكيد.
نحن بدأنا الحديث بفضل حلق الذكر حتى نؤكد أنه لا يعدلها شيء من الدراسات الفردية، أو سماع الأشرطة، لا زالت الحلقة في البركة والأجر أكبر، حتى فهم الإنسان إذا جلس عند العالم أكبر من فهمه عندما يسمع شريطاً لكن إذا ما وجد فقد وجدت طرق فردية ومن أعظمها كما قلت: سماع أشرطة العلماء، وتلخيص ذلك، أو كتابة شرح الشيخ على حاشية المتن أو الكتاب الذي يشرحه، مثل: الأربعون النووية، مثلاً متن الواسطية، متن كتاب في السيرة النبوية، متن فقهي، زاد المستقنع، عمدة الأحكام، كشف الشبهات، الأصول الثلاثة، البيقونية إلخ، أي متن من المتون غالباً تجد له شروحاً للعلماء موجودة مسجلة، فتأخذ الأشرطة وتفتح الكتاب، تسمي الله وتسمع وتركز، فيها ميزات أن تعيد الشريط، لو كنت مع الشيخ ما استطعت تقول أعد أعد، تعيد الشريط حتى تفهم وهكذا، يبقى إشكاليات تدون حتى ترحل في سبيل حلها إلى عالمٍ في مكة أو في المدينة أو الرياض أو في القصيم، أو إذا جاء إلى المنطقة التي أنت فيها تلقاه فتعرض عليه ما لقيت من الإشكاليات، فأنت تعوض كثيراً مما فات، لكن هذه الأشياء فردية والأشياء الفردية يعتريها أمور من قلة الهمة والضعف، ضعف الهمة وقلة الصبر.
وإن بعض الناس يقولون: إن الطريقة التي تذكرها من سماع الأشرطة والحواشي هذه بالنسبة لنا صعبة، ما عندنا صبر وطاقة، حيث أن هناك ما يعتور هذا، نقول: درب نفسك وعود نفسك، وجاهد نفسك، والصبر هذا هو الذي أوصل العلماء إلى ما وصلوا إليه، طيب وفي حالة وجود ضعف الهمة وعدم كفاية الأشرطة، والرغبة في الأجر، لأن الحلق لا يعوضها شيء، لا بد أن تعقد الحلق، ولأن فيها جوانب أخرى غير قضية الشرح الواضح، وفك المتن، وعبارات المتن، قضية حف الملائكة بأجنحتها، ونزول الرحمة والسكينة، هذا لا نريد أن نفوته، لأن في الحلق فوائد تربوية عظيمة، من قضية إحياء منهج السلف في طلب العلم، ولو لم نكن قادرين على إحيائه (100%) لأن أهل العلم قلة، فإن عقد الحلق مهم جداً جداً، لابد لكل واحد أن يكون له على الأقل حلقة أسبوعياً، وإلا فهو إنسان لا يعيش في عالم التربية الإسلامية على العلم كما ينبغي، إذا لم تكن عندك حلقة في الأسبوع على الأقل، فهذه مشكلة، كان عند الإمام النووي رحمه الله اثنا عشر درساً في اليوم، ونحن كل واحد منا له ما يشغله من الصباح إلى الليل، نقول نحن: درس في الأسبوع، لابد من درس في الأسبوع.
وقد يقول قائل: لم نجد علماء، عرضنا على طلبة العلم فاعتذروا بالانشغالات، ماذا نفعل؟ ثم نحن عندنا أيضاً أمور من الأجر نريدها، نريد حلقة لأجل الأجر، وكما قلت: حتى لو قرأ أحدهم القرآن وجلس الباقون يستمعون، حتى لو جلسوا يتذكرون نعم الله عليهم لأجل الأجر، إذاً لا بد من وجود حلق، لا نريد أحداً يعيش بدون حلق، لا بد من وجود حلق ولو مع واحد (تعال بنا نؤمن ساعة) فإذا ما وجدنا عالماً أو طالب علم، سنبحث عن أمثل الموجودين لعله يقوم بالشرح، فإذا لم يستطع، فنحن سنتعاون على دراسة كتاب أو قراءة كتاب مجتمعين، والخطأ في فهم الجماعة أقل منه في فهم الواحد، فقد أقرأ وحدي وأخطئ في الفهم، فسأعقد حلقة ودرساً مع أصحاب لي ونقرأ، وإذا حدث خطأ في الفهم سيكون أقل، وحصلنا بركة الاجتماع وبركة الحلقة وأجر الحلقة، وأحيينا منهج السلف على حسب استطاعتنا في قضية التدريس والحلق، قالوا: تدريس بالإنترنت، نقول: الحلق لا بد منها تربوياً، لا تفكر بتربية من غير حلق، هذه قاعدة ومسلمات لا يمكن التغاضي عنها.(39/17)
كتب مقترحة
سنقول إذاً نحن مجموعة من الشباب أو الشابات، أو الكبار، أو الصغار سنعقد، نستشير من أهل العلم من يدلنا على كتبٍ نقرأها، قالوا: كتاب الشيخ ابن سعدي في التفسير سهل، قالوا: مختصر المباركفوري لتفسير ابن كثير مطبوع حديثاً وهو جيد، وهذا تفسير أنا كنت مرة ذكرته وأخطأت في قصدي، كنت أريد أن أذكر تفسيراً فذكرت تفسيراً آخر، فأعيد التصحيح الآن: نصحت مرة بتفسير وهو تفسير جيد على أية حال، ذكرت تفسير البغوي، لكنني كنت أريد تفسيراً آخر وهو تفسير السمعاني رحمه الله، تفسير السمعاني مختصر وجيد وخال من الأسانيد تقريباً، والأقوال الكثيرة، وهو رجل من العلماء الكبار، وإن كان لا يعرف عند أكثر الناس، خدم الكتاب من ناحية أنه حقق، تحقيقاً طيباً تفسير السمعاني، نريد أن نقرأ تفسيراً، يا إخوان دلونا على تفسير سهل قالوا: خذوا تفسير ابن سعدي، خذوا مختصر المباركفوري لتفسير ابن كثير، خذوا تفسير السمعاني.
وماذا نقرأ في الحديث؟ قالوا: مثلاً خذوا الأربعين النووية بشرحها، خذوا بهجة قلوب الأبرار للشيخ ابن سعدي مثلاً في شرح مائة حديث، خذوا كذا.
ماذا نقرأ في الفقه؟ قالوا: خذوا كتاب الملخص الفقهي لـ صالح الفوزان مثلاً.
ماذا نقرأ في السيرة؟ قالوا: خذوا كتاب السيرة النبوية للعمري أو لغيره.
فعقدنا حلقة إذاً لنقرأ في هذه الكتب، وندون الإشكالات، وممنوع الإفتاء والتأليف كما يقولون، وأن الإنسان يقول من عنده كلاماً ويعلقه بأظن وربما، إذا كان عندك شيء مؤكد وإلا فاسكت، هذا العلم دين، بالإضافة إلى ذلك ينبغي أن يكون في المجلس إيمانيات ومواعظ وتذكير وتواص بالحق، وليس معلومات فقط، وهذه قضية أؤكد عليها كثيراً جداً، لا بد أن يكون فيها شئ من الوعظ ومطريات القلوب، أو مرققات القلوب؛ كالتذكير بتقوى الله، والصحابة الذين هم أعلم الأمة لم تكن مجالسهم معلومات ومتون فقط، بل فيها معلومات وأشياء أخرى ثمينة، قد تكون أثمن من بعض المعلومات وهي قضية الموعظة؛ تذكر نعم الله، سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار، وكل ما يتعلق بالأذكار، إلى آخره.(39/18)
مقترحات في تنظيم الحلق والدورس
لو أنا الآن عقدنا هذا المجلس من أناس متقاربين وأقران، وحتى لا تكون فوضى، قلنا: أنت يا فلان تدير هذه الحلقة، أو قام واحد من أمثلهم، قد يكون هناك فارق بسيط بينه وبين غيره في العلم، لكنه إمام مسجد، أو قارئ، أو أي شخص عنده اهتمام بالعلم، قد يكون تخصصه دنيوياً، لكن عنده اهتمام بالعلم أكثر من الآخرين لا يصلح أن يعامل الآخرين، كأنه شيخٌ كبير وهؤلاء طلاب صغار، فيحسن المعاملة، وقد يطلب من شخصٍ ما تحضير موضوعٍ قبل إلقائه، إن العلماء الكبار كانوا يُحضِّرون، الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان وهو يدرس في كلية الشريعة أو المعهد العالي، كان يحرص على التحضير، وإذا انشغل جداً يأتي ويعترف ويقول اليوم أنا ما حضرت، نقرأ.
من الأشياء التي تقلل جدوى بعض الدروس والحلق: ألا يُحضِّر هذا الشيخ أو هذا الشخص المسئول عن التحضير، أو يتخلف عن الحضور، ومن المساوئ: أنه يجد نفسه مضطراً للكلام في أشياء لا يحسنها فيتكلم لأنه وضع بمكانة شيخ، من المساوئ أن ينقد الحاضرين نقداً مستمراً أو يقسو عليهم مما يسبب النفور، أو يجامل البعض بالسكوت على أخطائه، ويمرر أشياء ويحابي ناساً دون ناس، أو تكون الأمور منفلتة في حلقته ودرسه، فلا يهتم بتحفيظهم، وإذا لم يحفظ أحدهم، يقول: حسناً! ثم لا يهتم الحاضرون بالحفظ ولا بالتحضير ولا بالقراءة المسبقة، ثم أحياناً قد لا يعدل بينهم في المحاسبة على التقصير أو الغياب؛ مما يوغر صدور بعضهم على بعض، وأحياناً لا يكون هناك توازن في مسألة العرض، فيتوسع في أشياء أقل أهمية على حساب أشياء أكثر أهمية، تأخذ فقرة أكثر من حقها، وتهضم الفقرة الأهم أو الفقرة الأخرى، عدم الالتزام بالوقت المخصص للفقرة مثلاً، ضعف جانب القدوة من هذا الإنسان في قضية الحفظ من المساوئ والعورات الكبيرة.
ثم إن الحاضرين في الغالب يريدون الاقتداء، ينظرون للشخص أحياناً على أنه شيخ، ولو لم يكن هكذا فيقلدون، فينبغي أن يحسب لهذا الأمر حسابه، وإذا كانت القضية مدارسة جماعية كما قلنا وليس أحد منهم بأفضل من الآخرين في العلم، فلا داعي بأن يتصدر إنسان علمياً المجلس، وليس هو بأهلٍ لذلك التصدر، نعم هو قد يُقال: لا بد أن يكون هناك مقرر للدرس، كما كانوا يسمونه، مقرر الدرس مثلاً، فيبدؤه ويختمه وينتقل من كتابٍ إلى آخر مثلاً، حتى لا تصير فوضى، لكن هذا لا يفتي ولا يتعدى، وكذلك فإنه لا بد من استثمار النصوص والقصص التي تمر استثماراً تربوياً مفيداً، وتضييع مثل هذه الفرص يفوت جانباً مهماً جداً ينبغي الاعتناء به، ولذلك كلما وجد الإنسان مدخلاً لموعظة في درس من الدروس العلمية، أو تذكير بأدب أو خلق، أو واجب اجتماعي قد قصر فيه الحاضرون أو انتشر بينهم، انتهز الفرصة للتأكيد عليه، ثم إن بعض المقدمات قد تأخذ وقتاً طويلاً تضر بالفائدة من بقية المواضيع، فينبغي أن لا يكون هذا ديدناً؛ أن تجعل المقدمات مضرة بالعلم الذي ينبغي أن يُدرس أو يؤخذ.(39/19)
بعض ما ينبغي على من يحضرون هذه الدروس
ثم إنه ينبغي على حاضري الدرس أن يهتموا به من عدة جوانب منها: أولاً: الإخلاص لله تعالى، وهذه قضية القضايا وأصل الأصول ومسألة المسائل.
ثانياً: احتساب الأجر في الحضور، وقد مر معنا أشياء استفتحنا بها عمداً لأجل بيان خطر وعظم ومكانة قضية حلق العلم والدروس.
ثالثاً: الانضباط في الحضور، وعدم الغياب والتأخر، ومما أفسد كثيراً من الدروس؛ يأتي كثيرٌ من الخيرين يقولون: لا بد أن نقيم درساً ونقرأ في كتاب، متى؟ يوم كذا في الوقت الفلاني، ثم هذا يغيب مرة، وهذا يتأخر مرة، حتى يفسد الدرس، فمما يفسد الدروس الغياب والتأخر، ولذلك يضطر بعض الناس أن يعمل غرامات، لماذا؟ هل نحن أطفال؟ أو نحن ناس إلى هذه الدرجة قضية غير مهمة عندنا؟ وبعض الناس يدفعون دفعاً إلى الحضور، واحد يقول: مروا علي وذكروني إذا لم أكن مشغولاً فسوف آتي، نحن الآن لماذا عقدنا الدرس أصلاً أليس للأجر والفائدة؟ ثم هذا يقول: عندي ظروف خاصة، هذا يقول: أهلي يحتاجوني في كذا، هذا يقول: دورة، هذا يقول: تأخرنا في الدوام وأنا اليوم متعب، ونحو ذلك من الأعذار، بعضها صحيح ولكن بعضها زائف، وقد بينت هذه القضية في درسٍ عن الأعذار المتهافتة أو السخيفة.
وكذلك لا بد من الالتزام بالأوقات واحترام المواعيد، وجود تجانس ما أمكن بين الحاضرين، تقارب مستوى الفهم، حتى لا يكون هذا يريد الإعادة كذا مرة وهذا فهمها من أول مرة، تفريغ النفس من الشواغل ذهنياً حتى تفهم، الاستعداد المسبق لا لكثرة التعليقات وبالذات غير المفيدة، وكثرة الأسئلة دون داعٍ، مع أن السؤال مهم إذا وجد من يعطي جوابه، لا لكثرة المقاطعة أثناء الإلقاء، تترك التعليقات إلى نهاية كلام المصنف أو العالم أو صاحب الكتاب أو شارح الموضوع، وجعل وقت معين لفقرات الدرس من الأمور المهمة، يُقدَّم عرض للموضوع على الإضافات والتعليقات، ولا يصح أن نجعل التعليقات من الأشياء العقلية المجردة عن العلم التي تسيء إلى توقيت القضية.
وكذلك من الآفات: أن يحضر الناس وفيهم نوم ونعاس، وقد ساءني وآلمني ما سمعت عن واقع حلقة علم لواحد من العلماء الكبار الموجودين، يقول: ذهبت بعد الفجر ووجدت درس الشيخ على شهرة الشيخ خمسة عشر رجلاً؛ اثنين نائمين، وواحد وراء العمود شخيره واصل إلى المجموعة، وواحد أتى له جوال فذهب يرد عليه، أي حلقة علم هذه؟!! ولذلك أول إجراء: إقفال جميع الأجهزة حتى يكون هناك فائدة من الدرس، على الأقل الأجراس، يا أخي إذا ما أردت أن تقفل الأجهزة، إذا ما احترمنا الدرس فلن يكون مفيداً إطلاقاً.
وكذلك أن يكون هناك حدٌ أدنى يطالب به الجميع، وتنويع وسائل المنفعة قراءة وسماعاً ومناقشة، وإذا كان ليس على مستوى الترجيح فلا يرجح بين الأقوال الفقهية، يعرض الأقوال فقط، أو يقول وفلان يفتي بكذا من العلماء، كثمرة عملية يقلد تقليداً، ولا يرجح وهو ليس بأهل للترجيح، ثم إن بعض الأشخاص مثلاً قد يقرأ الموضوع قراءة مملة، فلا يستوعب الحاضرون المقصود، ولذلك العلماء كانوا يهتمون بقضية المملي والمستملي والمبلغ؛ أن يكون صيتاً حسن القراءة جيداً في اللغة ونحو ذلك، يقرأ المتن ثم الشرح ويراعى الفقرات الموجودة أين بدايتها وأين نهايتها.
وكذلك لا بد من مراعاة عدد الناس الذين يمكن أن يستوعبوا هذا الموضوع، قد يحضر في درس المسجد آلاف، وقد يكون درساً في مجلس، لو حضره كثيرون ما وصل الصوت أصلاً، وكذلك فإن مراعاة شيء من الراحة أثناء فقرات الدرس طيب ومهم، وعندما قالوا في الدراسات الحديثة: إن حصة الجامعة لا تتعدى خمسين دقيقة مثلاً في الجامعات، ثم يأخذ راحة خمس دقائق، ثم حصة أخرى، هذه من مراعاة التركيز والذهن الذي يتشتت، وبعض الناس قد يسيئون للدرس بعمل ضيافات كبيرة قد تأخذ وقتاً طويلاً وتشتت الذهن، ولذلك إذا جعل الضيافة ففي الاستراحة، أما واحد يعظ أو يذكر شيئاً في كتاب الله، وهذا يقول: صب لي، وهذا يقول: لا أريد من هذا، ضع نعناعاً، وهذا يقول: أليس عندكم زنجبيل؟ فلذلك لا بد من مراعاة هذه القضايا، نعم لا بأس بشربة ماء، لكن أن يجعل الموضوع الأساسي هو العشاء والأكل والضيافة ثم هذا الدرس ربع ساعة، فهذه كارثة، ثم أن يعذر بعضهم بعضاً في الأعذار الصحيحة، ويتواصى بعضهم مع بعض في الأعذار الزائفة، ويحمس بعضهم بعضاً على الحضور وعلى الانضباط في هذه الدروس.
لعلنا نكتفي بهذا المقدار، وهناك تكملة للموضوع لعلها تكون إن شاء الله في الدرس القادم، هذا الدرس هو آخر الدروس قبل إجازة الحج، وسيكون هناك إن شاء الله ذكر لبعض الأحكام المتعلقة بالحج وأحكام الأضحية، وعشر ذي الحجة في خطبة الجمعة بمشيئة الله، ونعاود الدرس في الأربعاء بعد فتح المدارس، أول أربعاء إن شاء الله بعد فتح المدارس، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على نبينا محمد.(39/20)
إصلاح ذات البين
إصلاح ذات البين من العبادات الجليلة التي رغب عنها الكثير من الناس، مع ما فيها من الأجر الجزيل والخير العميم؛ فإن من مقاصد التشريع تحقيق المودة والألفة بين الناس، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن إصلاح ذات البين أعلى درجة من الصلاة والصيام والصدقة.
وقد كثرت النزاعات على مستوى المجتمع بين عامة الناس وعلى مستوى الزوجين، ومما يمكن أن يساعد في تقليل الخلاف ورأب الصدع إحياء هذه العبادة الجليلة.(40/1)
التآلف والاجتماع من مقاصد الشريعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله: إن الشريعة قد رغبت في جمع القلوب والإصلاح بين الناس وأن يكون أمر المسلمين مجتمعاً، ولذلك جعلت الأخوة أمراً مرغوباً فيه، مثاباً عليه لمن قام بحقه، وكذلك دعت إلى رفع ضده ومقاومة كل ما يشينه، ولذلك ترى الشريعة قد أمرت بإفشاء السلام، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وكل ما من شأنه أن يقرب بين المسلمين، ونهت عن الكذب والنميمة والغيبة، وعن الهمز واللمز والسخرية، وعن كل ما من شأنه أن يسيء العلاقة ويقطع المودة بين المسلمين، ومن الإجراءات التي جاءت الشريعة بها لأجل الحفاظ على العلاقات بين المسلمين إصلاح ذات البين.
إصلاح ذات البين -يا عباد الله- من الأمور العظيمة والعبادات الجليلة التي تركها كثيرٌ من الناس ورغبوا عنها، ونحن في مجتمعٍ مادي تغلب عليه المادة، وتكثر فيه المعاصي، ولذلك فإن الخلافات لابد أن تكثر تبعاً لذلك، والدعاة إلى الله عز وجل -بل وجميع المسلمين- عليهم واجب إصلاح ذات البين، ومحاولة إزالة ما في النفوس، وهذا من العبادات العظيمة ولا شك.(40/2)
الضغينة حرمان من المغفرة
إن الشريعة قد جعلت أمر مصارمة المسلم لأخيه أمراً خطيراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يومي الإثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مضطغنين، يقول الله: دعهما حتى يصطلحا) وذلك لما سأل صلى الله عليه وسلم عن سبب الإكثار من صيامه للإثنين والخميس، فيحرم المتصارمان من مغفرة الله تعالى بسبب الشقاق الذي قام بينهما وبسبب الهجران الذي حل بينهما.(40/3)
الإصلاح بين الناس
أما الإصلاح بين الناس فإنه واجب، قال الله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وهذا أمرٌ لابد منه، أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، أصلحوا بين النفوس، قربوا بينها، أزيلوا أسباب العداوة.
والصلح يكون بين متغاضبين كالزوجين، ويكون في الجراحات كالعفو على مال، ويكون لقطع الخصومة، كما إذا وقعت المزاحمة في الأملاك أو المشتركات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بذلك، وقد دلَّ الكتاب والسنة على فضل الإصلاح بين الناس.(40/4)
فضل الإصلاح بين الناس
قال الله تعالى في فضل الإصلاح: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
فإذاً كثيرٌ من الناس الذين يتسارون ويتناجون ليس في نجواهم خير إلا من قام بالتناجي في الخير وإصلاح ذات البين، فإن هذا مأجور ونجواه مأجورٌ عليها، وقد قال الله تعالى في أجر المصلح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر، ولكنها تحلق الدين) رواه الترمذي وأبو داود وإسناده على شرط الشيخين.
فلما كان نفع إصلاح ذات البين متعدياً، وخيره عميماً، وفائدته شاملة، صار أجره عظيماً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضله: (كل سلامى من الناس عليه صدقة) كل مفصل من مفاصل الإنسان من هذه العظام عليه حقٌ واجب يجب على العبد أن يؤديه لربه شكراً على إنعامه على العبدية: (كلُّ سلامى من الناس عليه صدقة كل يومٍ تطلع فيه الشمس؛ يعدل بين اثنين صدقة) فإذا أصلح بينهما وعدل بينهما، أتى بصدقة من هذه الصدقات، وأدى بعض ما عليه من الحق.
ولعظم هذه المسألة جعلت الشريعة إثم الكذب منتفياً عمن يصلح بين الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب من نمى بين اثنين ليصلح) وفي رواية: (ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيراً أو نمى خيراً).
ومن أوجه ذلك أن يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر، فلا ينقله ولا يبلغه، وذهبت طائفةٌ من العلماء إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، والأحوط أن يأتي بالتورية والتعريض.
إذا نقل خيراً أو سئل: هل قال فلانٌ فيّ كذا؟ فنفى ذلك لم يكن كاذباً، مع أن الكذب في الشريعة أمرٌ قبيحٌ جداً، لكن لما كانت مصلحة إصلاح ذات البين أعظم من مفسدة الكذب رخصت فيه الشريعة، ولم تجعل فيه إثماً على من فعله لأجل الإصلاح بين الناس.(40/5)
النبي صلى الله عليه وسلم يصلح بين الناس
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم الفعلية محاولاتٌ وعملٌ دائبٌ منه صلى الله عليه وسلم في الإصلاح بين الناس، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: (أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم) أمر أصحابه أن يذهبوا للإصلاح بينهم، وعنون عليه البخاري رحمه الله: باب قول الإمام لأصحابه اذهبوا بنا نصلح.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب في الإصلاح ولو بعدت المسافة وفاته شيءٌ من الجماعة لأجل الإصلاح بين الناس، كما روى البخاري رحمه الله: أن بني عمرو بن عوف بـ قباء كان بينهم شيء، فخرج يصلح بينهم صلى الله عليه وسلم في أناسٍ من أصحابه، فحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت الصلاة، فجاء بلال إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وقد حانت الصلاة، فهل لك أن تؤم الناس؟ قال: نعم إن شئت، فأقام بلال الصلاة، وتقدم أبو بكر رضي الله عنه، فكبر بالناس، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الصفوف يشقها شقاً حتى قام في الصف فأخذ الناس في التصفيح الحديث.
تأخر عليه الصلاة والسلام عن صلاة الجماعة وذهب إلى قباء للإصلاح بينهم، كان ممشى خير وأجراً عظيماً، وندب إلى ذلك أصحابه، وكان عليه الصلاة والسلام يشير على المتخاصمين بالصلح.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصومٍ بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء -يقول: دع لي من أصل المال- والآخر يقول: والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟ فقال: أنا يا رسول الله! فله أي ذلك أحب) وعظه عليه الصلاة والسلام فقال: أين الذي يحلف بالله ألا يفعل الخير؟ فاستحيا الرجل وقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب، أي: فما أراده من عفو عن بعض المال فأنا راضٍ به، فكان عليه الصلاة والسلام يعظ في أمر الصلح ويرغب فيه، ويعط من رفض الصلح، كما وعظ الذي الذي حلف بالله ألا يقبل بعرض خصمه عليه.
وكذلك جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى: (أن كعب بن مالك تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك، فقال: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر -أي: تنازل له عن النصف- فقال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للخصم الآخر: قم فاقضه).
فكان عليه الصلاة والسلام يشير بالصلح، وقد رأى هذا لا يستطيع الوفاء، والآخر يلح في الطلب، فطلب من أحدهما أن يتنازل عن شيء، وطلب من الآخر أن يقضيه الباقي، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل، وهذه سياسته في أصحابه.(40/6)
الصلح بين المسلمين المتقاتلين من أعظم الصلح
ومن أعظم الصلح الصلح بين المسلمين المتقاتلين، لأن إراقة الدماء بين المسلمين من أعظم الكبائر ومما يفرق الصفوف أشد تفريق، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] فهذا أمرٌ بالصلح.
وكذلك فإن الإصلاح بين طالبي الدية في الجراحات مما جاء في السنة، فإن أنساً رضي الله عنه حدث أن الربيِّع بنت النضر كسرت ثنية جارية، اعتدت عليها فكسرت ثنيتها، فطلبوا القصاص فقال أهل الربيِّع: نعطيكم مالاً بدلاً مما فعلته الربيِّع، أو اعفوا عنها وتنازلوا عن طلب القصاص، فأبوا إلا القصاص، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم بالقصاص لأنه كتاب الله، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيِّع يا رسول الله؟! -وكان رجلاً صالحاً من أولياء الله تعالى- لا والذي بعثك بالحق لاتكسر ثنيتها، فقال: يا أنس كتاب الله القصاص، فرضي القوم وعفوا، وفجأة تغير الموقف، فرضي القوم فعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).(40/7)
شرف الحسن بن علي بإصلاحه بين أهل العراق والشام
وكان من أعظم البركة والخير على المسلمين الحسن بن علي رضي الله عنه، فإن الله أصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، كما جاء في الصحيح أنه لما تواجه معاوية والحسن رضي الله تعالى عنهما، فقال عمرو: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال له معاوية -وكان والله خير الرجلين- أي عمرو! إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء، فمن لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إلى رجلين من قريش، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له، واطلبا إليه، فأتياه، فقبل رضي الله عنه الصلح، ورجع عن القتال، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإنه التفت إلى الحسن مرةً وإلى الناس، فقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).(40/8)
ثمرات الصلح بين المسلمين
أيها المسلمون: إن فوائد الصلح كثيرة، فإنه يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل، والحماية من شهادة الزور، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس، بل إن الشريعة جعلت للمصلح حقاً من الزكاة أو من بيت المال، لأداء ما تحمله من الديون بسبب الإصلاح، وإن كان قادراً على أدائها من ماله، فقال الله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] وهم من تحملوا الديات لأجل الإصلاح بين الناس، وكف بعضهم عن قتل بعض.
نسأل الله عز وجل أن يصلح ذات بيننا، وأن يهدينا سبل السلام، وأن يخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه رءوفٌ رحيم.(40/9)
الصلح بين الزوجين من أعظم أنواع الصلح
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله رب الأولين والآخرين، الحمد لله خالق السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وحده لا شريك له، هو الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: يا عباد الله! ومن أعظم أنواع الصلح الصلح بين الزوجين المتخاصمين، فإن الأسر تقوم على المحبة والألفة وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة والسعي في الإصلاح بين الأزواج، وقد قال الله عز وجل عند حصول الشقاق: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
إذا كانت النية طيبة جاءت النتيجة طيبة: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
وندب الله تعالى إلى المصالحة بين المرأة وزوجها، وقال الله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].
الصلح خيرٌ من الشقاق، الصلح خيرٌ من الفراق، الصلح خيرٌ من البغضاء التي تقوم في النفوس.
قالت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء: 128] قالت: [هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه -كبراً أو غيره- فيريد فراقها، فتقول: أمسكني، واقسم لي ما شئت، قالت: ولا بأس إذا تراضيا].
فإذا أراد أن يطلقها إيثاراً لزوجته الأخرى مثلاً، فقالت الأولى: أمسكني عند أولادي، وأبيحك من ليلتي، فهذا جائز، وقد جعلت ذلك سودة رضي الله عنها، أو تصطلح معه على أن تضع عنه شيئاً من النفقة، وتتنازل له عن شيءٍ منها من أجل أن تدوم الحياة الزوجية لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].(40/10)
التحكيم بين الزوجين من أجل الإصلاح
وقال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فماذا يفعل الحكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالالتقاء بوكيله أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفه الذي ينوب عنه -وإذا قلنا: إنه حاكم، فإن كلام الحكمين معتمد- ويسمع منه سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان فيعتمدان أموراً، ويتوصلان إلى صاحب الخطأ، من هو الطرف المخطئ لأجل وعظه ونصحه، أو وعظ الطرفين إذا كان كلاهما مخطئ، والسعي في تقريب وجهات النظر، ولذلك فإن من الحكمة أن يذكر الحكمان الزوج بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الوصية بالزوجة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) ويقولان له: إن منك يا أيها الزوج أن تعامل زوجتك بالفضل لا بالعدل؛ الواحدة بواحدة، وإذا فعلت ترد عليها، وإنما تتعامل معها بالفضل وبالمسامحة وبالزيادة منك والتغاضي، لأن أهلها استودعوها عندك، وائتمنوك عليها، ووثقوا أنك لن تسبب لهم المتاعب بسببها، وأنها أم أولادك، أو أنها ستكون كذلك مستقبلاً، والولد الصالح مما ينتفع به أبوه في الحياة وبالدعاء له بعد الممات، وأن الزوجة كالأسيرة بيد زوجها، وليس من الإسلام ولا من المروءة ولا من الشجاعة التي جاء بها الإسلام أن يسيء المسلم إلى أسيرته، أو أسيره، فكيف إذا كانت الأسيرة الزوجة؟ وأن الزوج الكريم هو الذي لا يستغل قوته وبطشه ولا يتعسف باستعمال سلطته على زوجته على نحوٍ يلحق بها الضرر، فهذه المعاني إذا قدمها الحكمان إلى الزوج بأسلوبٍ لطيف وقولٍ لين، فالغالب أنها ستؤثر في نفس الزوج، وسيقلع عما أدى إلى الشقاق.
وكذلك ينبغي للحكم من أهل الزوجة أن يكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تسمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته، وفيما يأمرها به زوجها من المباحات، وألا تثقل عليه بطلباتها الكثيرة، وأن تتحمل عبوسه وصدوده وإساءته وأن تقابل ذلك بابتسامتها وإحسانها وخدمتها، فإن الزوج إذا رأى ذلك منها، فسرعان ما يزول عنه العبوس والصدود ويكف عن الإساءة، وعليها ألا تستقصي في طلب الحقوق، وإذا أحست بكراهتها له، فلتطرد هذا الإحساس، ولتذكر نفسها بأنه قد يجعل الله لها فيما تكرهه الخير الكثير، فيرزقها الله منه ولداً تقر به عينها، ويزول عن قلبها ما تحسه من كراهة لزوجها.
فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما ليناً سهلاً، والصلح بينهما وشيكاً.(40/11)
المصلح بين الناس وآدابه
إذا كان المتدخل في الخصومة غير عاقل لا يحسن التصرف، فإن إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا أمرٌ مشاهد، فإن عدداً من الناس يتدخل في القضية لأجل الإصلاح بزعمه، فإذا به يبعد النجعة، ويباعد الشقة، ويتسبب في مزيدٍ من الفرقة، ويحصل الكثير من الخلاف بعد أن كان شيئاً محدوداً، فإذا به يستشري وينتشر.
فنذكر المصلحين الذين يريدون التدخل للإصلاح: أولاً: أن يبتغوا وجه الله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} [النساء:35] أي: إذا كانت النية صافية ومُخْلَصَةً لله كانت النتيجة طيبة {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
ثانياً: الحكمة في التعامل في الأمور، فإن في كثيرٍ من الأشياء بين المتخاصمين حساسيات.
ثالثاً: التكتم: (واستعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلكي تنجح القضية، لابد من التكتم وعدم نشر التفاصيل بين الناس.
رابعاً: أن يذكر كل واحد من المتخاصمين بالله عز وجل، وبحق الآخر عليه، إن كان أخاً في الله يذكر بحقوق الأخوة، وإن كان زوجاً يذكر بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة تذكر بحقوق الزوج.
وكذلك فإنه لا بأس أن تنقل إليه كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتكتم عنه أموراً من الشر جاءت على لسان الطرف الآخر، هذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين.
أيها المسلمون: إن إصلاح ذات البين والإصلاح بين المتخاصمين عبادة عظيمة جداً فرط فيها الكثير، ولذلك عمت الفرقة والشتات في كثيرٍ من طبقات المجتمع ونواحيه، وتفككت كثيرٌ من الأسر، لو أن المسلمين تدخلوا كما أمر الله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]-وهو أمرٌ واجب- لتفادينا كثيراً من الشر، ولكنك ترى هذا يخالف الشرع، وهذا يهمل ولا يهمه الأمر، ولذلك انتشرت الخلافات وعم الشقاق بين المسلمين، فلنبادر إلى الإصلاح على جميع المستويات؛ الإصلاح بين الدعاة إلى الله أنفسهم، والإصلاح بين كل متخاصمين من المسلمين.
أيها المسلمون: هذه عبادة أوصى بها الله، وأوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتدبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في القيام بها أجراً عظيماً لا يعلمه إلا الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك أن تجعل قلوبنا عامرةً بذكرك، وأن تطهر قلوبنا من الشرك والنفاق، وأن تطهر ألسنتنا من الكذب، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين بدينك، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم ارفع راية الدين، واقمع أهل النفاق والشرك يا رب العالمين!(40/12)
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
في بداية هذا الدرس تحدث الشيخ عن هجرة اليهود من بلاد الشام، وعن هجرة العرب من اليمن إلى المدينة، ثم عرض لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف واجه هو وأصحابه المشركين حيث حاولوا قتله عليه الصلاة والسلام، وحاولوا منع الصحابة من الهجرة، كما ذكر أهمية الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام.
ثم انتقل الشيخ إلى الحديث عن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وفوائدها.(41/1)
المدينة قبل الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فسنتحدث -أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن موضوع من موضوعات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض ما يستفاد منها، وهو: "المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار" التي حصلت في المجتمع المدني عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
أما المدينة وكان اسمها القديم يثرب فكانت واحة خصبة التربة تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع، وأهمها: حرة واق من الشرق، وحرة الوبرة في الغرب.
وكانت حرة واق أكثر خصوبة وعمراناً من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمال المدينة، وجبل عير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذيميم ومأزور والعقيق، وهي تنحدر من الجنوب إلى الشمال حيث تلتقي عند مجمع الأسيال من رومة.(41/2)
اليهود وهجرتهم إلى المدينة
استوطن اليهود يثرب، وجاءوا إلى الحجاز عامة نازحين من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، عندما هيمن الرومان على بلاد مصر والشام، فأدى ذلك باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب، ووصلوا إلى يثرب على مجموعات واستقروا بها، ومنهم يهود بني النضير وبني قريظة، واستقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واق وهي أخصب بقاع المدينة، وكذلك جاء بنو قينقاع الذين قال بعض المؤرخين: إنهم كانوا عرباً تهودوا، وقال بعضهم: إنهم كانوا يهوداً أصليين، وغير هؤلاء من اليهود، مثل بني عكرمة ومحمر وزعورة والشطيبة وجشم وبهدل وعوف وغيرهم.
وكان عدد هؤلاء بالمئات، حتى إن المؤرخين قد ذكروا أن المقاتلين من بني قينقاع كانوا سبعمائة، ومثلهم تقريباً من بني النضير، وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة، فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، وهناك غيرهم ممن يسكنون في أماكن متناثرة من يثرب.
وقد خضع ذلك المجتمع لسيطرتهم قبل أن يقوى كيان العرب في ذلك الوقت، ونقلوا من الشام أفكاراً مثل: بناء الآطام وهي الحصون، حيث بلغ عددها في يثرب تسعة وخمسين حصناً، وكذلك حملوا معهم بعض الخبرات الزراعية والصناعية من بلاد الشام مما أدى إلى ازدهار البساتين في المدينة، وكذلك تربية الدواجن والماشية، وبعض الصناعات الأولية كالنسيج والأواني، وكان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا الذي يتقنه اليهود في كل مكان.(41/3)
هجرة العرب إلى المدينة
بالنسبة للعرب فإنهم قد جاءوا من اليمن وسكنوا يثرب وهم الأوس والخزرج، وكانوا بعد اليهود؛ لأن اليهود قد سبقوهم إلى ذلك المكان، وتملكوا أخصب البقاع وأعذب المياه، ولذلك اضطر الأوس والخزرج إلى سكن الأراضي المهجورة، وهم ينتمون إلى قبيلة الأزد اليمنية التي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة، وبعض المؤرخين يقول: إن خروجهم كان بسبب انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم، وهي عقوبة ذكرها الله لـ سبأ بسبب إعراضهم عن الحق.
ولما هاجر هؤلاء الأزد واستقروا بـ يثرب إلى جانب اليهود، وكان هؤلاء قد أحكموا سيطرتهم عليها -كما قدمنا- ويمكن أن يقدر عدد الأوس والخزرج من المقاتلين الرجال بأربعة آلاف وهو ما قدموه لجيش الفتح الإسلامي الذي فتح مكة.(41/4)
اليهود والكيد بين الأوس والخزرج
وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من الأوس والخزرج، ولذلك أذكوا بينهم نار العداوة والحروب، وكان آخر معركة قامت بينهم هي يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات، حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل، ولجأت الأوس إلى محالفة بني النضير وبني قريظة.
لكن هؤلاء المتنافسون من قبائل العرب فطنوا إلى خطورة الإجهاز على بعضهم البعض، فسعوا إلى المصالحة، حتى يكون هناك شيء من التوازن مع اليهود الذين يسكنون يثرب، فاتفقوا على ترشيح رجل من اليهود، وهو عبد الله بن أبي بن سلول ليكون رجلاً متوجاً على الجميع في يثرب، ولاشك أن هذه الوقائع قد ولدت شعوراً بالمرارة عند الطرفين، وكان عبد الله بن أبي على وشك تولي هذا الملك على الجميع بعد وقعة بعاث الذي قتل فيها أعداد كبيرة من الأوس والخزرج، وكانت هذه الموقعة تهيئة هيأها الله تعالى للنبي عليه الصلاة السلام قبل أن يأتي المدينة، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجرحوا.
قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام، فجاء على قوم متفرقين يلملمون جراحاتهم، قد قتل معظم ساداتهم.
ولذلك كان هذا الحدث مما سهل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وبروز المسلمين واجتماع الكلمة عليهم، ولو كانوا قوماً أقوياء متحالفين من الأصل لربما كان دخول المسلمين بينهم صعباً، فكان يوم بعاث منة من الله قدمها لنبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه لمحة سريعة عن حال يثرب قبل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام، ولاشك أن الشائع عندهم عبادة الأصنام والأوثان، وكانت عندهم العادات الجاهلية السيئة، وكذلك كان عندهم الظلم والبطش والبغي، ولا يوجد عندهم انضباط في أخلاق أو في عادات تهيمن عليهم، ولذلك كان الغالب عليهم الفوضى.
وكان كذلك من الأمور المتفشية الربا وأكله، والخمر وشربه، وغير ذلك من العادات السيئة، ولما حصلت الهجرة، وهو الحدث العظيم الذي أرخ المسلمون به تاريخهم، حيث جعل عمر رضي الله عنه العام الهجري هو الأصل، فأرخ المسلمون من الهجرة؛ لأنها كانت فعلاً البداية الحقيقية لظهور الإسلام؛ لأن المسلمين في مكة كانوا مستضعفين مغلوبين مقهورين، وكانت الهجرة هي الحدث الذي كان الانطلاقة القوية الحقيقية لانتصار الإسلام وهيمنة المسلمين في ذلك الوقت.(41/5)
مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى المدينة، بعدما صارت بيعة العقبة الأولى والثانية، وصار هناك قاعدة من الأنصار من أهل المدينة تنصر النبي صلى الله عليه وسلم، فهب المسلمون متفانين بالهجرة، وضحوا بأوطانهم وأموالهم وأهليهم استجابة لنداء الله ورسوله، حتى إن قريشاً لما اعترضت صهيباً الرومي بحجة أنه جمع أمواله من العمل في مكة، ولم يكن له مال قبل قدومه إلى مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ربح البيع أبا يحيى).
ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وطفله في مكة، وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها، وهكذا كانت الهجرة في ظروف صعبة، وكانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين، واختباراً لقوة عقيدتهم واستعلاء إيمانهم، وقدم لنا أولئك المهاجرون درساً عظيماً في كيفية ترك المسلم أعز ما عنده من أجل الله ورسوله.
كيف يهجر المسلم بلده التي يحن إليها والمكان الذي تربى فيه وترعرع وشب لله ورسوله؟ بل تركوا الأموال والتجارات وتركوا بيوتهم التي كانت لديهم مهاجرين إلى الله ورسوله، ولذلك كان المهاجرون فعلاً أعظم المؤمنين على الإطلاق في ذلك الوقت، وصاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض بما جعلهم الله تعالى في الرتبة العالية.
اختار الله عز وجل لنبيه المدينة للهجرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين) فاللابتان هما الحرتان، الحرة الشرقية والحرة الغربية، وبينهما الأرض ذات نخل، وهاجر المسلمون وتأخر النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق، حتى أذن الله تعالى له بالهجرة.
وقد أحس المشركون بهجرة المسلمين، فغاظهم ذلك فتعاقدوا على قتل النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الله عز وجل أعمى أبصارهم فلم يروه، فخرج هو وصاحبه الصديق إلى المدينة يقطعان الصحراء، والنبي عليه الصلاة والسلام كان في الثالثة والخمسين من العمر، والصديق في الحادية والخمسين، ومع ذلك فإنهما خرجا إلى المدينة مهاجرين، ووصلا المدينة وقد جعل الله للمسلمين فرجاً ومخرجا، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
ولذلك نعى الله عز وجل ولام الذين قدروا على الهجرة فلم يهاجروا، بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97 - 99] وعسى من الله موجبة، فإذا قال الله: عسى الله، أي: فإن هذا هو ما سيحدث.(41/6)
أهمية الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام
والهجرة بطبيعة الحال أمر مهم جداً؛ لأن المسلم إذا بقي بين الكفار فإنه سيكون من المعينين لهم ويكثر سوادهم، وينتفع المشركون بطاقاته وإمكاناته، في الوقت الذي يحرم المسلمون من هذا الرجل المسلم ومن طاقاته وإمكاناته، من صناعة وزراعة وخبرة حربية ونحو ذلك، بالإضافة إلى أن المسلم إذا جلس بين الكفار فإنه يتعرض للفتنة، بالإضافة إلى أنهم قد يجبرونه على الخروج معهم في الحروب وتكثير سوادهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من جاء مع المشرك وسكن معه فإنه مثله) رواه أبو داود.
وهذا يدل على وجوب الخروج من بين المشركين إذا كان هناك مكان للمسلمين يأوي إليه الشخص آمناً مستقراً.
وفي حالة وجود بلد الإسلام الذي تطبق فيه شريعة الله تعالى، ويستقبل المسلمين لتكثير سوادهم وانتفاع البلد بهم، فإنه تجب الهجرة من بلاد الكفار إليه، وبعض المسلمين تأخروا عن الهجرة تحت ضغوط الأزواج والأولاد، فلما هاجروا بعد فترة ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين وقد تفقهوا في الدين، هموا بمعاقبة زوجاتهم وأولادهم، وكان ذلك سبب نزول الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ثم أمر الله تعالى بالصفح والعفو، وهذا يدل على أن الزوجة والأولاد قد يكونون من العوائق التي تعيق تقدم الشخص في الدين وتفقهه فيه، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (الولد مجبنة مبخلة مجهلة محزنة) مجبنة، أي: يريد الأب أن يجاهد في سبيل الله فيتذكر الولد وأنه يحتاج إليه ونحو ذلك فيقعد، يريد الأب أن ينفق في سبيل الله فيتذكر الأولاد، يقول: أولادي أحوج فلا ينفق، يريد أن يذهب لطلب العلم فيشغله أولاده عن طلب العلم فيبقى في جهل، محزنة: أي أن الولد يمرض -مثلاً- فيحزن الأب ويصيبه الكرب، وإذا كان الولد عاقاً فإن ذلك يكون الهم اللازم والمصيبة الكبيرة والحزن العظيم في نفس الأب.
ولذلك حذرنا الله من الركون إلى فتنة الزوجة والأولاد، وأمر بمجاهدتهم في الله عز وجل، وأن نحملهم على طاعة الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
واستمرت الهجرة من مكة ومن غير مكة إلى المدينة، حتى إن المدينة ضاقت بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت وخصوصاً بعد الخندق، فلما صارت وقعة الخندق وبانت قدرة المسلمين على الدفاع عن كيانهم أمام الأحزاب مجتمعين، ولم تعد المدينة بحاجة إلى مهاجرين جدد، نظراً لأنه قد صار فيها القوة الأساسية التي يمكن الدفاع بها عن البلد ككل، وحصل نوع من الازدحام في المدينة، وصار هناك شيء من الشح في القوت والمسكن - طلب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلاً لهم: (هجرتكم في رحالكم) لأنه لم تعد هناك ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة، بل صارت المصلحة أن يقيموا في أماكنهم وقبائلهم وأحيائهم، في الدعوة إلى الله خارج المدينة لتوسيع رقعة الإسلام.
ولكن ذلك لم يكن إيقافاً للهجرة؛ لأن الهجرة من مكة لم تتوقف إلا بعد الفتح، بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) أي: لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأن مكة صارت دار إسلام، فلأي شيء يهاجر منها؟! فانقطعت الهجرة وما عاد هناك أجر للهجرة من مكة إلى المدينة؛ وبذلك سقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية.(41/7)
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار سببها وأهميتها
وأدت الهجرة إلى تنوع سكان المدينة، حيث صار فيها من الأحياء المختلفين غير الأوس والخزرج من العرب، وضم ذلك كله وحدة المسلمين، وكان أعداؤهم المنافقين واليهود، فانقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: المؤمنين والمنافقين واليهود، لما اجتمع هذا العدد من المهاجرين في المدينة، كان لابد من إيجاد حل لهؤلاء الوافدين القادمين الذين كثيرٌ منهم ما عندهم أموال ولا بيوت ولا مأوى، فجاء الحل الشرعي وهو المؤاخاة، واعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم، والتناصر في الحق بينهم، وحصلت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.(41/8)
المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم
وذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد حصلت مؤاخاة في مكة بين بعض المكيين، وقد أخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن ابن عباس أنه قال: (آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود) ولكن ذهب ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بـ مكة، وأن المؤاخاة ما كانت إلا في المدينة، وكذلك هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي نفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين في مكة، وخصوصاً ما روج من بعض الأخبار في المؤاخاة بين النبي عليه الصلاة والسلام وعلي، ولأن المؤاخاة إنما كانت لإرفاق بعضهم بعضاً، وتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد، ولا لمؤاخاة مهاجري مع مهاجري.
وابن حجر رحمه الله ذهب إلى أن النص إذا جاء فإنه لابد من الأخذ به، وأن هناك حكمة أخرى للمؤاخاة وهي: أن بعض المهاجرين كان أفضل من بعض بالمال والعشيرة والقوة، فآخا بين الأعلى والأدنى من المهاجرين أنفسهم، حتى يرفق الأعلى بالأدنى، ويستعين الأدنى بالأعلى، فآخا بين حمزة وزيد بن حارثة؛ لأن زيداً مولاهم، وإن كان هناك مؤاخاة في مكة فهي شيء يسير، ولو كان هناك في المدينة مؤاخاة بين بعض المهاجرين، فهي حالات خاصة من مهاجر عنده إمكانات.(41/9)
المؤاخاة الأساسية بين المهاجرين والأنصار
المؤاخاة الأساسية كانت بين المهاجرين والأنصار، وكانت المدينة بطبيعة الحال فيها الزراعة والصناعة التي لم يكن المهاجرون قد تمرسوا بشيء منها؛ لأن وظيفة المهاجرين الأساسية في مكة كانت التجارة؛ لأن مكة لم تكن بلداً ذات زرع.
ثم إن هؤلاء المهاجرين لما قدموا إلى المدينة لم يستطيعوا ممارسة التجارة؛ لأن التجارة تحتاج إلى رأس مال، ولذلك لم يتمكنوا من شق طريقهم بأنفسهم في المجتمع الجديد، وكانت حياتهم في المدينة حياة صعبة، وكان الحنين إلى مكة شديداً، وأصابت المهاجرين حمى يثرب، وهي وباء كان فيها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دعا الله أن تنتقل الحمى إلى الجحفة، ورفعت الحمى من المدينة ونزلت في الجحفة، فهي المرأة السوداء التي رآها عليه الصلاة والسلام في المدينة في منامه.
ودعا النبي عليه الصلاة والسلام الله عز وجل أن يحبب المدينة إليهم كحبهم مكة أو أشد، وبالفعل صارت محبة المهاجرين للمدينة شديدة، حتى إنهم بعد فتح مكة ما جلسوا في مكة، وإنما رجعوا إلى المدينة، ورجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، مع أنها فتحت مكة ورجعت إليهم بيوتهم ودورهم وأموالهم، ولكن مع ذلك بقيت محبة المدينة هي الأساس، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه المهاجرون جميعاً إلى المدينة.(41/10)
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار تحقيق للتكافل الاجتماعي
الذي حصل أن العلاج السريع الذي كان يتطلبه الموقف في قضية الفقر الذي كان عند المهاجرين، ومشكلة النازحين إلى المدينة كانت تتطلب حلاً جذرياً وسريعاً، ولذلك شرعت المؤاخاة، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون، بل مدوا أيديهم لإخوانهم، وضربوا الأمثلة الرائعة في التضحية والإيثار، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً، حيث اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين، إلى هذه الدرجة؟! يعني يشاطره في ماله، نصفه لأخيه ونصفه يبقى له! ولكن المهاجرين ما كان عندهم علم بكيفية رعاية النخل؛ لأنهم ما كانوا أصحاب زرع في مكة، ولذلك خشي عليه الصلاة والسلام أن لو انتقل إليهم النخيل تموت عندهم، لا يعرفون إدارتها، ولذلك أبقى النخيل للأنصار، ولكنَّ المهاجرين يشاركونهم في الثمرة.
وبذلك صار هناك مورد طعام -لأن التمر طعام- للمهاجرين من خلال هذه المشاركة، وبدأ المهاجرون يتعلمون الزراعة والاهتمام بها، وجاء في الحديث أن عمر وصاحبه الأنصاري كانا يتعاونان في طلب العلم والقيام على الزرع، فـ عمر ينزل يوماً وصاحبه يعمل، واليوم الذي بعده ينزل صاحبه وعمر يعمل، وهكذا صار هناك بداية لاستيعاب القيام بالنخل وما تحتاج إليه، وصار للزبير وغيره نخل، تعلموا وتدرجوا في التدريب على رعايتها.
وابتنى النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه دوراً في أراضٍ وهبتها لهم الأنصار، وأراضٍ ليست ملكاً لأحد، ومع أن الأنصار قالوا: إن شئت فخذ منا منازلنا، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: خيراً، ولما جاء هؤلاء المهاجرون ووجدوا هذه الرعاية الكريمة، قالوا: (يا رسول الله! ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنة -أي: مؤنة النخل كفونا إياها، وأشركونا في المهنة: الثمرة والنتيجة- حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال عليه الصلاة والسلام: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم).
فإذاً لو أن إنساناً صنع لك معروفاً، فأنت أثنيت عليه ودعوت الله له، فإنه يبقى لك نصيب من الأجر، ولذلك من المحاسن في الدين الإسلامي أن الإنسان إذا صنع له أخوه المسلم معروفاً أن يقول له: جزاك الله خيراً، ويدعو له بخير.
ورغم بذل الأنصار وكرمهم، فإن الحاجة كانت لا تزال إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة، خاصة أن المهاجرين لا يريدون أن يشعروا أنهم عالة على الأنصار، فجاء نظام المؤاخاة في السنة الأولى الهجرية، قيل: بعد بناء المسجد أو أثناء بناء المسجد، أي: بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام بأشهر، حيث عقد النبي عليه الصلاة والسلام عقد المؤاخاة بين الطرفين: المهاجرين والأنصار، فآخا بين كل مهاجري وأنصاري، مع أن الأنصار تبرعوا وأعطوا، لكن الأعداد زيادة على التبرعات، فحلت القضية بما يلي: كل أنصاري معه مهاجري، لا يوجد مهاجري ما عنده مكان ما عنده بيت ما عنده مال، إلا ويوجد أنصاري يقوم بالتآخي معه، وشملت المؤاخاة تسعين رجلاً، خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال: إنه لم يبقَ مهاجري إلا وقد آخا النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أنصاري.
وترتب على هذا التشريع حقوق خاصة بين المتآخيين كالمواساة، والمواساة هي: تقديم جميع أوجه العون، سواء كان عوناً مادياً أو رعاية أو نصيحة أو تزاوراً أو محبة، وحتى التوارث، كان إذا مات الأنصاري يرثه المهاجري، وإذا مات المهاجري يرثه الأنصاري، يرثه بالتآخي، واستمر هذا فترة من الزمن حتى نسخ ذلك بقول الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] فنسخ التوارث بين المهاجرين والأنصار، وكان مشروعاً يرثه تماماً إذا مات.(41/11)
عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع والتآخي بينهما
لقد طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم من عون، ووصل الأمر لدرجة أن سعد بن الربيع الأنصاري يقول لـ عبد الرحمن بن عوف المهاجري: إن لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك، فأنا أطلقها، فإذا حلت -أي: بعد العدة- فتزوجها.
إننا يسهل علينا أن نتصور أن يتنازل الواحد عن نصف ماله للآخر، لكن لا يسهل علينا على الإطلاق أن نتصور أن رجلاً يتنازل عن زوجة لآخر، ويطلقها من أجل الآخر؛ لأن العلاقة الزوجية قوية، وليس من السهل على الإنسان أن يتنازل عن زوجته، لكن لما صار الإيمان قوياً في قلوبهم، قال: هاتان زوجتاي -قبل فرض الحجاب- انظر أيهما أحب إليك، ليس الزوج هو الذي ينتقي إحدى زوجاته، أو يترك أقلهما تعلقاً بها وأقلهما محبة، لا.
بل المهاجري هو الذي ينتقي، يقول: اختر أيهما تريد أطلقها لك.
ولاشك أن ذلك كان آية من الآيات الدالة على تعمق الإيمان، وترسخ قواعد الأخوة في نفوسهم؛ لأن مثل هذا العمل لا يمكن أن يقوم به الشخص في الأحوال العادية، إلا إذا صار عنده إيمان ودين فعلاً، فإذا قارنت الآن بين هذا وبين ما يحدث الآن بين عامة المسلمين من أنواع الإيذاء وأكل الحقوق الواضحة للغاية، وهضم الحقوق المالية والاستيلاء عليها، والإيذاء بين الجيران والإخوان، والأشياء التي توجد فيها الأنانية والحسد والبغض، وسطو هذا على مال هذا، وإذا وجد هذا فرصة لأكل حق الآخر أكله دون أن يقصر، والأذية الموجودة لنعلم ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة.
عبد الرحمن بن عوف لما عرض عليه هذا العرض المغري لم يكن بالذي يوافق عليه، ويقول: طلق فلانة أو هات نصف المال، وإنما كان عفيفاً، والعفة مهمة، عفة النفس: أي: أن الإنسان لا يقبل بأعطيات الآخرين إذا لم يكن هناك شيء ماس، ولذلك قال عبد الرحمن لـ سعد: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فلم يرجع إلا بسمن وأقط قد أفضله، ذهب إلى السوق وهو رجل يحسن التجارة، باع واشترى، وباع واشترى، ورجع بفائض من سمن وأقط، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أثر صفرة بعد فترة، فقال: (مهيم؟ -ما الخبر؟ - عليك أثر صفرة الزعفران -هذا ليس من شئون الرجال بل هو من شئون النساء- فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار -هذا من نتائج احتكاكه بزوجته- فقال عليه الصلاة والسلام: أولم ولو بشاة) أمره أن يولم ولو بشاة.
وتزوج عبد الرحمن بن عوف، وكان المهر نواة من ذهب أصدقها لتلك المرأة، ونمت ثروته بعد ذلك ليصبح من كبار أغنياء المسلمين، وهذا فيه درس، أن الإنسان إذا كان صاحب خبرة وقدرة فلا يصلح أن يكون عالة على الآخرين، حتى لو تبرع له الآخرون، وحتى لو أعطوه وعرضوا عليه، تبقى عزة النفس عند الإنسان، صاحب القدرة بالذات أما غير صاحب القدرة وغير المتمكن يُعذر، لكن المتمكن يبقى الأفضل له أن يكون عصامياً بنفسه، وأن يكسب كسبه بيده، وهذا الذي فعله عبد الرحمن بن عوف -وهو التاجر الماهر- من الذهاب إلى السوق والكسب الحلال، وما فتح الله عليه أفضل من أن يكون عالة أو عبئاً على أخيه الأنصاري.
بعد معركة بدر وزعت الغنائم وصار هناك شيء من الاكتفاء بالغنائم عند المهاجرين؛ لأن كثيراً من الذين خرجوا فيها من المهاجرين، وصار هناك شيء من الاكتفاء، فأُبطل نظام التوارث بين المتآخيين، بقوله تعالى: ((وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)) لكن نسخ هذه الآية ليس نسخاً للمؤاخاة، وإنما نسخ للتوارث فقط، فقد بقيت المؤاخاة بالنصرة والرفادة والنصيحة، وبقيت العلاقة موجودة بينهم.
ولذلك فإن التعاون والتناصح مستمر، ووردت أخبار تفيد التآخي بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي رضي الله عنهما، مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق، ومع ذلك المؤاخاة استمرت بدون توارث، وكان سلمان له ملاحظات على أبي الدرداء صائبة أسداها له، وكان فيها خير عظيم على أم الدرداء وعلى بيت أبي الدرداء وعلى أبي الدرداء، وهذه لما بين له حقوق الضيف وحقوق النفس وحقوق الزوجة، وكان هذا التآخي ينبع منه تقديم النصيحة، وهذه مسألة في غاية الأهمية، أن التآخي بين المسلمين ليس كلمة، وإنما هو شيء له واجبات ومتطلبات، ومنها بذل النصيحة، وتسديد وإصلاح شأن أخيه وحاله.(41/12)
عقيدة الولاء والبراء عند الصحابة
وكذلك فإن العقيدة هي الآصرة التي كانت تربط بين هؤلاء، وهذه القضية في غاية الأهمية، وهذا التآخي معبر عن اللحمة التي كانت هي نسيج المجتمع المسلم، وهي رابطة العقيدة، وأنها أقوى من رابطة القربى والدم والانتماء إلى أصل عرقي أو قبيلة من القبائل، ولذلك فإن المجتمع كله قد انصهر في هذه البوتقة -بوتقة العقيدة- وحصل نسيج واحد فيه تآلف وانسجام، وكان سبباً وعاملاً مهماً من عوامل النصر على الكفار.
أبو عبيدة لما رأى أباه يقاتل في صف المشركين في بدر قصده فقتله، ورأى أبو حذيفة أباه المشرك وهو يسحب ليرمى في القليب بـ بدر دون أن ينكر قلبه ذلك.
وأما مصعب بن عمير فإنه رأى أخاه أبا عزيز بن عمير، وكان أبو عزيز مشركاً خرج مع المشركين وأسر في المعركة، فـ مصعب يقول للأنصاري الذي أسر أبا عزيز بن عمير: اشدد يدك عليه، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك.
أي: إن له أماً تدفع، وهذا مع أنها أمه، وهذا المأسور أخوه، ولكنه مع ذلك يقول لأخيه الأنصاري المسلم: اشدد يدك عليه، واطلب الفدية العالية فإن له أماً تدفع.
وأبو عزيز كان صاحب لواء المشركين بـ بدر، فـ مصعب يقول هذا الكلام، فقال له أبو عزيز: يا أخي! أهذه وصايتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك.
الأنصاري أخي دونك، أنت ليس بيني وبينك صلة.
ولذلك فإن المنافقين حاولوا بشتى الوسائل أن يفصموا هذه العرى التي حصلت بين المهاجرين والأنصار، ولذلك كانت خطوة عبد الله بن أبي المنافق خبيثة للغاية جداً، حيث إنه لما سمع أن النزاع حصل بين المهاجرين والأنصار استغل الفرصة مباشرة، وقال: لقد كاثرونا في الأموال وفعلوا وفعلوا، إنما مثلنا ومثلهم كمثل القائل الأول لما قال: سمن كلبك يأكلك.
صرفنا عليهم فلما تقووا قاموا يتحدوننا، وأوشك بسببه أن تحدث فتنة بين المهاجرين والأنصار، ولكن الله سلَّم.
وولد عبد الله بن أبي اسمه عبد الله أيضاً، وهو الذي بلغت به العزة الإسلامية أن يقف على باب المدينة ويمنع أباه من الدخول، قائلاً له: [والله لا تنقلب حتى تقر أنك الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز]؛ لأن عبد الله بن أبي بن سلول هذا المنافق، قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وولده مسلم سمع الكلام فسبقه إلى المدينة، ووقف على الباب ومنع أباه من الدخول، حتى يعترف أنه هو الذليل والنبي عليه الصلاة والسلام هو العزيز، وهذا واضح جداً في الدلالة على قوة العقيدة، وأن الإنسان كان يفاصل أباه وأخاه وأهله وعشيرته في سبيل الدين، ما انتصروا إلا بذلك، لم يكن هناك مجاملات على حساب العقيدة.
نوح عليه السلام لما نادى ربه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، فقال الله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46] فالاعتبار برابطة العقيدة، وليس بالأبوة ولا بالقبيلة، ما انتصر المسلمون الأوائل إلا بعدما تخلصوا من هذه الأشياء، من الرواسب الجاهلية، أو التعصب للقبيلة، أو التعصب للبلد والعلاقة العائلية، فكان تعصبهم إنما هو لله ورسوله، وقطعت الوشائج والعلاقات ولم يبق إلا علاقة الدين، ورابطة العقيدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:23 - 24].
وقد فارق الصحابة الأهل والأموال والمساكن وهاجروا إلى الله ورسوله، فقام المجتمع قياماً صحيحاً مبنياً على العقيدة والولاء لله والرسول، والعلاقات أخوة بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وكانت المحبة هي أساس هذه الأخوة، وتمثل في ذلك المجتمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ولذلك لم يكن يبيت الواحد شبعان وأخوه المسلم جائع، لم يحصل ذلك، ولذلك كانوا يؤثرون على أنفسهم، ويعطي الواحد منهم أخاه عشاءه وعشاء أولاده، ويبقى هو وزوجته وأولاده جياعاً، بهذه الصورة قام المجتمع الإسلامي.(41/13)
إنفاق الصحابة أحب أموالهم في سبيل الله
وكان أبو طلحة الأنصاري أكثر أهل المدينة نخلاً، وأحب أمواله إليه بير حاء، وكانت أمام المسجد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدخلها ليشرب من ماء فيها طيب، فلما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] تفاعلت نفس الصحابي معها مباشرة، فجاء أبو طلحة إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا رسول الله! إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إليّ بير حاء -هذه أنفس شيء عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها -يا رسول الله- حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك مال رائح) أي: أجرها يروح ويغدو عليك، وفي رواية: (هذا مال رابح) ربح هذا الاستثمار.
وأشار عليه صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بين الأقربين.
وقام بعد ذلك المهاجرون الذين اغتنوا بتوزيع الصدقات وكفالة المحتاجين، وقام عثمان رضي الله عنه بالتصدق بقافلة ضخمة، كما جهز جيش العسرة، وفي عهد الصديق حصل شيء من الضائقة بـ المدينة، والناس ينتظرون المؤن، حتى التجار ليس عندهم سلع، فقدمت قافلة ضخمة لـ عثمان، توافق قدومها مع وقت الضائقة، وهي ألف بعير محملة بالبر والزيت والزبيب، فتوافد التجار على عثمان كل منهم يعرض عليه الواحد باثنين والواحد بثلاثة والواحد بخمسة، وهو يقول: أعطيت أكثر من ذلك، أعطيت أكثر من ذلك، أعطيت أكثر من ذلك، فقالوا: ومن الذي أعطاك، وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟ قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها، ثم قسمها بين فقراء المسلمين كلها، مع أنه كان مستطيعاً أن يبيعها في وقت الحاجة والسوق يتطلب، بأضعاف مضاعفة، ومع ذلك جاد بها لله جل وعلا.
عندما يحس الشخص في المجتمع أن عنده مسئولية تجاه جميع أفراد المجتمع، لدرجة أنه يمكن أن يفوته مكسب عظيم جداً من أجل إخوانه المسلمين في البلد، ويتصدق على كل الفقراء بقافلة هي ألف بعير، معناها أن مجتمعاً مثل هذا المجتمع لا يمكن أن ينهزم، ولذلك فتحوا الروم والفرس، وفتحوا أقوى بلاد العالم، وسقطت أقوى دولتين في العالم الفرس والروم بأيدي هؤلاء القوم، ولذلك نصرهم الله عز وجل.(41/14)
أهل الصفة في المدينة
كان من ضمن الأشياء التي حصلت في التكافل في المدينة أهل الصفة، فإن هؤلاء داخلون في عملية التكافل والأخوة، لكن دخولاً من نوع آخر، فقد قدم بعض المهاجرين وتكاثر قدومهم، وكثير منهم كانوا فقراء، مثل قوم أبي هريرة وغيرهم جاءوا فقراء محتاجين، كانوا يأتون أحياناً من قحط وشدة وجهد، وكان عليه الصلاة والسلام يرتب حلولاً لذلك، هذه هي الصعوبة، ترتيب الحلول لهؤلاء المحتاجين، ثم ليسوا واحداً أو اثنين، هم عشرات ومئات يأتون ولابد من إيجاد حلول، ولذلك خرجت فكرة الصفة.
لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعد ستة عشر شهراً من الهجرة، بقي حائط القبلة الأولى في مؤخرة المسجد النبوي، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام به فظلل، حائط القبلة القديمة كان جهة بيت المقدس، فظلل أو سقف وأطلق عليه الصفة أو الظلة.
وهذا الصُفة صارت مخصصة للضيوف القادمين الذين لا مأوى لهم، وكانت تتسع لعدد لا بأس به، حتى إنه حضرها مرة ثلاثمائة شخص في وليمة، وأول من نزل الصفة هم المهاجرون، ولذلك نسبت إليهم، فقيل: صفة المهاجرين، وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود الذين كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم معلنين إسلامهم وطاعتهم، وكان إذا جاء الواحد ولم يجد أحداً ينزل عنده ينزل مع أصحاب الصفة، وكان من ضمن أصحاب الصفة أبو هريرة رضي الله عنه.
فأولاً نزل المهاجرون والغرباء، وكان بعض الأنصار بالرغم من أن لهم بيوتاً -مثل كعب بن مالك الأنصاري- يتركون بيوتهم وأهليهم ويبيتون مع أهل الصفة من باب المشاركة الوجدانية والشعور والإحساس، فهو يترك بيته وينزل بينهم.
وكان يؤتى بالقنو من التمر يعلق على حبل في المسجد لأهل الصفة، كل واحد عنده طعام زائد يأتي به إلى أهل الصفة، وكل واحد عنده تمر أو رطب أو شيء يأتي به إلى أهل الصفة، كانوا أخلاطاً من القبائل، وكانوا يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة، وكان ربما يصل عددهم إلى سبعين أو ثمانين أكثر أو أقل وهكذا.
وكان هؤلاء عندهم فرصة للتفرغ للعلم والعبادة، حيث إن معيشتهم في المسجد، وكانوا في خلوتهم يصلون ويقرءون القرآن، ويتدارسون آيات الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة، واشتهر بعضهم بالعلم مثل أبي هريرة، فـ أبو هريرة هو ناتج من نتاج الصفة؛ لأنه ما كان عنده أهل أو أولاد أو بيت أو شغل أبداً، نازل في الصفة يصحب النبي عليه الصلاة والسلام على شبع بطنه فقط، ولكن همته ونهمته سماع الأحاديث، ولذلك صار هو أكثر صحابي روى أحاديث، مع أنه جاء في العام الثامن للهجرة، ومع ذلك له مرويات تقدر بخمسة آلاف حديث.(41/15)
أهل الصفة رهبان بالليل فرسان بالنهار
ومن أهل الصُفة من كانوا رءوس المجاهدين، ومنهم الشهداء مثل خريم بن فاتك الأسدي، وصفوان بن بيضاء، وحارثة بن النعمان الأنصاري، ومنهم من استشهد بـ أحد مثل حنظلة الغسيل، ومنهم من استشهد بـ الحديبية مثل: أبي سريحة الغفاري، ومنهم من استشهد بـ تبوك مثل: ذي البجادين، ومنهم من استشهد بـ اليمامة بعد ذلك مثل سالم مولى أبي حذيفة، وزيد بن الخطاب، فهؤلاء كانوا رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار، وهؤلاء كانوا فقراء، وليس عندهم أردية، وربما لا يكون لأحدهم ثوبٌ تام، فيربطون في أعناقهم الأكسية أو البرد ويأتزرون بالأزر أو الكساء، فمنهم من يبلغ إزاره نصف الساق، وأحياناً قد لا يبلغ الركبتين، ولذلك كانوا يخجلون الظهور بملابسهم أحياناً، وتتسخ ملابسهم، ويتعرضون للغبار، ومع ذلك يصبرون لله تعالى.(41/16)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الصفة
كان جل طعام أهل الصفة من التمر، حتى إنهم ربما اشتكوا أنه أحرق بطونهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليستطيع أن يوفر لهم أكثر من ذلك، فصبرهم وواساهم، وكان كثيراً ما يدعوهم إلى طعام في بيته، إذا جاءه طعام دعا أهل الصفة.
وقد جيء النبي صلى الله عليه وسلم مرة بإناء من لبن، فقال لـ أبي هريرة: ادع أهل الصفة.
فشربوا منه كلهم بمعجزة عجيبة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يطعمهم مما يأتيه، فمرة (حيس) وهو الطعام المطبوخ من التمر والدقيق والسمن، وجاءه مرة طعام مصنوع من شعير، وجاءه مرة شيء من اللحم، فكان يعطيهم ويقول لهم: (والذي نفس محمد بيده، ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئاً ترونه)، لا نخفي عنكم شيئاً.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه يصاب بالجوع الشديد، حتى إنه ربما كان يخر في الصلاة ويغشى عليه من الجوع، حتى يقول بعض الأعراب: إن هذا مجنون، وكان يصرع بين المنبر وحجرة عائشة لما به من الجوع، والناس يظنون أن به جناً، ولكن قلة الطعام هو السبب في خروره والغشيان عليه، وكان ربما لا يأكل الواحد منهم إلا التمرة أو التمرتين، ومع ذلك قنعوا بالقليل من الطعام والخشن من الثياب، وعافت نفوسهم النعيم، لأجل الزهد والعبادة وطلب العلم ونصرة الله ورسوله، والخروج في جيوش الفتوح، والجهاد في سبيل الله تعالى.
وكان صلى الله عليه وسلم يقدر لهم هذه المواقف، فكان يزورهم ويتفقد أحوالهم ويكثر من مجالستهم، ويرشدهم ويوجههم إلى قراءة القرآن ومدارسته، وإذا جاءته صدقة سارع بإرسالها إليهم، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام جاءته فاطمة فطلبته خادماً، فزار علياً وفاطمة في بيتهما، فوجدهما قد اضطجعا على فراشهما، فجلس بينهما وقال: (ألا أدلكما على شيء خير لكما من خادم؟ قالا: بلى يا رسول الله! فقال: إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين)، وقال لصهره وبنته: (لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوى بطونهم من الجوع).
وكان عليه الصلاة والسلام يحث الصحابة على الاعتناء بهم، فكان يقول: (من كان له طعام اثنين فليذهب بثالث -أي: من أهل الصفة- وإن أربعة فخامس أو سادس) فيمر أي صحابي عنده طعام فيأخذ واحداً من أهل الصفة يتعشى عنده، وآخر يمر ويأخذ واحداً آخر وهكذا، وكانوا يجيئون لهم بالماء ويضعونه بالمسجد، وبعض الصحابة من الأنصار ما عنده مال، فكان يذهب يحتطب ويبيع الحطب ويعطي ثمنه لأهل الصفة.(41/17)
اهتمام الصحابة بأهل الصفة
واقترح محمد بن مسلمة الأنصاري أن يخرج كل واحد من أصحاب البساتين حين ينضج التمر قنواً -العذق بما فيه من الرطب- ويضعه لهم في المسجد، وكان معاذ هو الذي يحرس هذه الأقناء، وقيل: إنه نزلت فيهم آيات مثل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] وهؤلاء هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.
فهذه صورة من الصور التي كانت في المجتمع المدني، تعبر لنا عن قضية التآخي الذي حصل بين المهاجرين والأنصار، واعتناء المجتمع بالفقراء من أهل الصفة، وهذه الصور هي درس بليغ جداً لكل مسلم يريد أن يطبق معاني الأخوة في نفسه، ويحس بإحساس إخوانه الآخرين، ويحرص على الجود بما يوجد عنده لإخوانه، وهذا من المعاني المفقودة أو النادرة مع الأسف بيننا، حتى إن الواحد لا يدري بحاجة الآخر، ولا يدري أصلاً أنه محتاج أو أنه جائع أو عليه ديون أو لا يجد مالاً ونحو ذلك، ولذلك ترى واقعنا من سيئ إلى أسوأ، وواقع الصحابة كان من نصر إلى فتح، وفتح مبين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما ذكر دافعاً لنا لمزيد من تقديم العون لإخواننا، والشعور بشعورهم، وتطبيق مبدأ الأخوة الحقيقية، وتقديم آصرة العقيدة على كل الأواصر، وأن يكون المسلم الحقيقي ولو كان فقيراً ووضيعاً في النسب، يكون هو من أقرب الناس إلينا، وأقرب من إخواننا وآبائنا إذا كانوا هم أبعد عن الدين منه.
والحمد لله رب العالمين.(41/18)
الأسئلة(41/19)
حكم إعطاء الزكاة بصورة هدية
السؤال
عندي زكاة مال، فهل يجوز أن تعطى للأخ أو لأحد الأقارب في صورة هدية؟
الجواب
يمكن أن تعطيها له ولا يشترط أن تقول له أنها زكاة، لكن لا تكذب، إنما أعطه إياها ولا يشترط أن تخبره أنها زكاة، فتستطيع أن تقول: هذه من الله خذها، أو هذه لك مثلاً.(41/20)
الذي يفقد التمييز يسقط عنه التكليف
السؤال
والدي أصيب بجلطة في الدماغ مؤخراً تسببت في عدم تحكمه في البول ونوع من التخريف، وقد صام الأيام السابقة من هذا الشهر بدون تعب أو مشقة لكن بدون صلاة، فهل يستمر أم نخرج عنه طعام مسكين؟
الجواب
إذا فقد التمييز ووصل حد الخرف، سقطت عنه الصلاة والصيام، وسقط عنه التكليف بالكلية، وعند ذلك لا قضاء عليه ولا كفارة، ولا شيء عليكم؛ لأنه ليس مكلفاً، أما لو كان يعقل فيؤمر بالصلاة وبالصيام ولابد.(41/21)
حكم صلة الأرحام غير المحارم
السؤال
هل تجب صلة الرحم عليّ لقريبة لي تعيش في مكان بعيد بزيارة زوجها والسلام عليه؟
الجواب
نعم.
على قدر المستطاع، وصلة المحارم غير صلة غير المحارم، فهي تختلف لأجل الحرية في الحديث والكلام معها، فكلما كانت أقرب كلما كانت الصلة أشد.(41/22)
حكم رفع الصوت عند القنوت بالدعاء
السؤال
ما حكم رفع الصوت عند القنوت بالدعاء؟
الجواب
لا ينبغي ذلك.(41/23)
حكم مراجعة المرأة للطبيب
السؤال
هل يجوز للمرأة مراجعة الطبيب في قسم النساء في وجود ممرضة؟
الجواب
إذا وجدت المرأة التي تفي بالحاجة فلا يجوز للمرأة المسلمة أن يكشف عليها الرجل، ولذلك ذكر العلماء الترتيب، أولاً: الطبيبة المسلمة، ثانياً: الطبيبة الكافرة، ثالثاً: الطبيب المسلم، رابعاً: الطبيب الكافر، فالطبيبة الكافرة تقدم على الطبيب المسلم، لأجل قضية الكشف على العورات.(41/24)
حكم الاستمتاع بالزوجة في نهار رمضان
السؤال
ما حكم استمتاع الرجل بزوجته في نهار رمضان؟
الجواب
إذا كان يملك نفسه فنعم، وإذا كان لا يملك نفسه فلا يجوز له ذلك؛ لأنه ذريعة إلى إفساد الصوم، وكل ما كان وسيلة إلى حرام فهو حرام، ولاشك أن إفساد الصوم حرام، فكل وسيلة تؤدي إليه فهي حرام، وأما المذي فإنه لا يفسد الصوم على الراجح، ولكن لا يجوز له أن يأتي بشيء يسبب خروجه.(41/25)
حكم التقبيل في الخد من غير الزوج
السؤال
أنا امرأة متزوجة، أذهب لزيارة أخوالي في جدة ويتم السلام عليّ، فما حكم التقبيل على الخد مع المصافحة، وهذا يغضب الزوج؟
الجواب
هذا يغضب الزوج إذاً لا تفعله، ثم إن هذا التقبيل منهي عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرجل منا يلقى أخاه أيقبله؟ قال: لا.
يعانقه؟ قال: لا.
يصافحه؟ قال: نعم)، فالمعانقة وردت في القدوم من السفر، أما التقبيل لا، إلا تقبيل الأب لابنته والبنت لأبيها مثلاً، أو الرجل لأمه وهي تقبله أو لجدته، ويمكن أن يكون التقبيل على الرأس مثلاً، وأما الفم فإنه للزوج خاصة.(41/26)
حكم الجمعية المعمولة بين عدة أشخاص يأخذها كل مرة شخص
السؤال
الجمعية المعمولة بين عدد من الأشخاص كل مرة يأخذها واحد، ما حكمها؟
الجواب
الراجح جوازها إن شاء الله.(41/27)
حكم تأخير قضاء أيام من رمضان
السؤال
أهملت بعض الأيام في خمس رمضانات، فما حكم ذلك؟
الجواب
عليك بالقضاء، وإطعام مسكين عن كل يوم كفارة للتأخير.(41/28)
الجمع بين قوله تعالى: (أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً) وبين قول رسول الله: (لا هجرة بعد الفتح)
السؤال
كيف يمكن الجمع بين قوله تعالى: {أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء:97] و (لا هجرة بعد الفتح)؟
الجواب
( لا هجرة بعد الفتح) من مكة إلى المدينة، ولكن الهجرة مستمرة إلى قيام الساعة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام عند القدرة.(41/29)
وقت التأمين للمأموم
السؤال
متى يشرع التأمين للمأموم؟
الجواب
إذا وصل الإمام إلى موضع التأمين وشرع يشرع المأموم.(41/30)
وجوب الزكاة في عروض التجارة
السؤال
أسقط بعض المصنفين في الزكاة كتاب عروض التجارة.
الجواب
هذا رأي ذهب إليه ابن حزم رحمه الله وتبعه بعض أهل العلم، ومن المعاصرين العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ولكن الراجح هو وجوب الزكاة في عروض التجارة ولاشك.(41/31)
حكم تعويد الطفل على الصيام إلى وقت الظهر أو العصر
السؤال
ما حكم تعويد الطفل على الصيام فيفطر وقت أذان الظهر أو أذان العصر؟
الجواب
إذا كان غير قادر على إتمام اليوم، فيؤمر بأن يصوم بين الصلوات.(41/32)
إخراج الزكاة من مدينة لأخرى
السؤال
هل يجوز إخراج الزكاة من مدينة إلى أخرى؟
الجواب
نعم.
إذا وجدت حاجة كفقر قريب أو شدة.(41/33)
حكم الزكاة على المنزل المعد للسكن
السؤال
هل هناك زكاة تجب على المنزل الذي أسكنه؟
الجواب
لا.(41/34)
بركة المرأة التي أسلمت
ذكر الشيخ المرأة التي أسلمت كما جاء في صحيح البخاري، كتاب التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء.
ثم ذكر الفوائد من هذا الحديث العظيم.
ثم ذكر الحكمة من نومه عليه الصلاة والسلام، واهتمام الصحابة بالصلاة وعظم مصيبة فواتها عليهم، وذكر سبب ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك المكان إلى مكان آخر، وغيرها من الفوائد العظيمة، وفي الأخير تكلم عن دور المرأة المسلمة في الإصلاح.(42/1)
نص حديث بركة المرأة التي أسلمت
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: في كتاب التيمم، باب: الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء.
في هذه القصة من الفوائد العديدة والأحكام الكثيرة ما تقر به عين المؤمن، وما ينتفع به طالب العلم، وما يكون فيه فائدة في حياة الإنسان المسلم، وفيها بيانُ بعض ما يحتاج إليه الناس في أمور العبادات.
وهذه القصة رواها أبو رجاء، عن عمران رضي الله عنه قال: (كنا في سفرٍ مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنا أسرينا -أي: سرنا في الليل- حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعةً -أي: نمنا نومة- ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حرُّ الشمس، وكان أول من استيقظ فلان وفي رواية: أبو بكر، ثم فلانٌ، ثم فلانٌ، يسميهم أبو رجاء، فنسي عوف -الراوي عن أبي رجاء -ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يوقظ حتى يكون هو يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه -لأن نوم الأنبياء وحي، فخاف الصحابة أن يوقظوه فينقطع الوحي، لأنه ربما يكون يرى وحياً- لأنا لا ندري ماذا يحدث له في نومه، فقعد أبو بكر عند رأسه، فجعل يكبر ويرفع صوته فلما استيقظ عمر، ورأى ما أصاب الناس -أي: أنه قد فاتت صلاة الفجر على الجيش بأكمله- وكان رجلاً جليداً -والجلادة هي القوة والصلابة- فكبر ورفع صوته بالتكبير، فما زال يكبرُ ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ بصوته النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ شكوا إليه الذي أصابهم، قال: لا ضير -أو: لا يضير- ارتحلوا.
فارتحل، فسار غير بعيدٍ، ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ، ونودي بالصلاة -الأذان- فصلى بالناس -صلاة الفجر بعد طلوع الشمس- فلما انفتل من صلاته إذا هو برجلٍ معتزلٍ لم يصلِّ مع القوم -قيل: هو خلاد بن رافع رضي الله عنه- قال: ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟! قال: أصابتني جنابةٌ ولا ماء.
قال: عليك بالصعيد -أي: الزم الصعيد وتيمم به، والصعيد هو التراب، أو سطح الأرض مطلقاً- فإنه يكفيك.
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوبٍ بين يديه فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً كان يسميه أبو رجاءٍ نسيه عوفٌ -وهو الرواي عن أبي رجاء - ودعا علياً فقال: اذهبا فابتغيا الماء.
فانطلقا، فتلقيا امرأةً سادلةً رجليها بين مزادتين أو سطيحتين من ماءٍ على بعيرٍ لها -ذهبا يبحثان عن الماء فوجدا امرأةً راكبة قد أسدلت رجليها وبينهما مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة، سميت مزادة لأنه يزاد فيها جلدٌ آخر من غيرها، وتسمى أيضاً سطيحة، وهي القربة الكبيرة.
فقالا لها: أين الماء؟ -أين موضع الماء من عينٍ أو بئرٍ؟ - قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة -تقول المرأة: تركتُ الماء منذُ أمس، وهو اليوم الذي قبل يومك تسميه العرب أمس، في مثل هذه الساعة، والمعنى أن الماء يبعد مسافة أربع وعشرين ساعة، وفي رواية: يومٌ وليلة، ونفرنا خلوفاً.
أي: رجالنا متخلفون لطلب الماء، وذهبوا وخلفوا نساءهم، وحدهن في الحي، تخبر عن حال قومها، أنهم نفروا في طلب الماء وتركوا أهلهم، وقومها من المشركين- قالا لها: انطلقي إذاً- مادام أنه لا يوجد ماء، وليس الماء إلا معها، فانطلقي إذاً- قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ والصابئ: هو الذي خرج من دينٍ إلى آخر، وكانت المرأة مشركة، فقالت لما قالوا لها: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: الذي يقال له الصابئ؟ - قالا: هو الذي تعنين -وهذه عبارة فيها حكمة بالغة، ما قالوا: نعم، ولكن قالوا: هو الذي تعنين- فانطلقي، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثاه الحديث، وفي رواية أنها قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئاً حتى استقبلنا بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثاه الحديث -قال: فاستنزلوها عن بعيرها- فحدثته بمثل الذي حدثتنا من قضية الماء ورجال الحي، غير أنها حدثته أنها مؤتمةٌ -أي: ذات أيتام، هذا التفصيل الجديد- فمسح في العزلاوين -أي: العجلاوان: مثنى عزلى، والعزلى: فم المزادة الأسفل- ودعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناءٍ ففرَّغ فيه من أفواهِ المزادتين أو السطيحتين، وأوكأ أفواههما -أي: ربطَ أفواههما- وأطلق العزالي -جمع عزلاء، وهي فم المزادة الأسفل الذي يخرج منه الماء بكثرة، فهو فرغ من أفواه المزادتين في إناء، ثم أغلق الأفواه- ونودي في الناس: اسقوا واستقوا -الذي يريد ماء يأخذ من هذا الإناء- فسقى من شاء واستقى من شاء- وفي رواية: فشربنا عطاشاً أربعين رجلاً حتى روينا، فملأنا كل قربةٍ معنا وإداوة، غير أنه لم نسقِ بعيراً -وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابه إناءً من ماء، وقال: اذهب فأفرغه عليك، وهي قائمةٌ تنظر إلى ما يفعل بمائها- والمرأة قائمة مذهولة تنظر إلى ما يفعل بمائها- وايم الله -يحلف الراوي- لقد أقلع عنها -أي: كف عنها وتركت- وإنه ليخيل إلينا أنها أشدُّ ملاةً منها حين ابتدأ فيها -يخيل إلينا أن هاتين المزادتين مع المرأة أشد امتلاءً مما كانت في البداية- وفي رواية: وهي تكاد تنض من الملء -أي: تنشق ويخرج منها الماء من شدة الامتلاء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لها -مقابل الماء الذي أخذوه- فجمعوا لها من بين عجوةٍ ودقيقٍ وسويقةٍ -وهو طحين الحنطة والشعير وغيرهما- حتى جمعوا لها طعاماً -من الذي مع أفراد الجيش- فجعلوها في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، ثم قال لها: تعلمين ما رزئنا من مائِك شيئاً -أنت ترين بعينك أننا ما أنقصنا من مائك شيئاً- ولكن الله هو الذي أسقانا، فأتت أهلها -الحي الذي خرجت منه- وقد احتبست عنهم -تأخرت عنهم- قالوا: ما حبسكِ يا فلانة؟ قالت: العجب! لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، فوالله إنه لأسحر الناس من بين هذه وهذه، وقالت بإصبعها الوسطى والسبابة فرفعتها إلى السماء تعني: السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقاً -الاحتمال الثاني: أنه رسول الله حقاً كما زعموا؛ لأنهم قالوا: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين -في الجهاد- ولا يصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه -والصرم: هي البيوت المجتمعة المنقطعة عن غيرها، يغيرون على ما حول قوم هذه المرأة ولا يصيبون قومها- فقالت يوماً لقومها: ما أرى إنَّ هؤلاء القوم يدعونكم عمداً -أي: ليسوا بغافلين عنكم- فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام، وفي الرواية الأخرى: فأسلمت وأسلموا).(42/2)
فوائد منتقاة من حديث بركة المرأة المسلمة التي أسلمت
هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- فيه فوائد كثيرةٌ جداً، وهو حديثٌ عظيم، من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من المعجزات العظيمة التي أجراها الله تعالى على يديه، وفيه فوائد متعددة، فلنشرع في ذكر بعض هذه الفوائد، وما يؤخذ من هذا الحديث من الأحكام.(42/3)
ترجمة راوي الحديث عمران بن حصين
راوي هذا الحديث هو عمران بن حصين الخزاعي قاضي البصرة، الذي كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، الذي ثبت أن الملائكة كانت تكلمه كرامةً له، والذي قال عنه أهل البصرة: إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى -أي: استعمل الكي- فلما استعمل الكي لم تكلمه الملائكة، وتوفي سنة (52هـ) وله في البخاري اثنا عشر حديثاً.(42/4)
الثقة بالنفس والثقة بالله
يقول رضي الله عنه: كنا في سفر -إما خيبر أو الحديبية - مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر قصة أنهم سروا بالليل، ثم وقعوا نياماً، وأن الوقعة كانت في آخر الليل، ولذلك قال الرواي: ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، وقد جاء في البخاري من حديث أبي قتادة ذكر سبب نزولهم في آخر الليل، وهي أن بعض القوم سألوا ذلك، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخافُ أن تناموا عن الصلاة) فقال بلال: أنا أوقظهم.
تكفل بلال بإيقاظهم، فهذه إذاً تتمة القصة: أن بعض القوم تعبوا في الطريق، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أخشى عليكم أن تناموا عن صلاة الفجر) ولم يرض بالنوم حتى تكفل بلال بإيقاظهم، وهذا قد جاء في حديث أبي قتادة، ولفظه: (سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً، فقال بعض القوم: لو عرست بنا يا رسول الله -أي: لو نزلنا آخر الليل نستريح- قال: أخاف أن تناموا عن الصلاة، فيخرج وقت صلاة الفجر ولم نستيقظ، فقال بلال متبرعاً، وهو مؤذن القوم: أنا أوقظكم) ظناً منه أنه سيكون على حسب المعتاد، فإن من عادته الاستيقاظ لأجل الأذان، وكان بلال متعوداً على الاستيقاظ قبل الأذان، فاضطجعوا وأسند بلال ظهره إلى راحلته، فغلبته عيناه فنام، ألقى الله عليه النوم لحكمة بالغة؛ لتتبين أحكام في قضاء الصلاة، وماذا يفعل إذا استيقظ بعد طلوع الشمس (فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: يا بلال! أين ما قلت؟؟) أين الوفاء بقولك: أنا أوقظكم وهذا فيه لفتةٌ تربويةٌ بالغة من النبي صلى الله عليه وسلم، ينبه بلالاً فيها على اجتناب الثقة بالنفس وحسن الظن بها أين الوفاء بالذي وعدت أنك توقظنا للصلاة؟ أنت وعدتنا ولم تفِ، كأنه يقول: أنت وثقت بنفسك أكثر مما ينبغي، لأن المظنة أنك لن تقوم، ما دمت مسافراً ومتعباً ونزلت في آخر الليل؛ فكان ينبغي أن تراعي أنك ربما لن تقوم لأجل هذه العوامل.
وفيه بيان فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان لا يصلح أن يثق بنفسه، ومن العبارات الشائعة عند بعض الناس: تجب الثقة بالنفس، وهذه العبارة غلط، ولذلك يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه، وقد سئل عن قولهم: تجب الثقة بالنفس؟ فقال: لا تجب، بل لا تجوز الثقة بالنفس، وإنما الثقة بالله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله أن يكله إلى نفسه طرفة عين؛ لأن الإنسان إذا توكل على نفسه ضاع، لكن إذا توكل على الله استقام أمره، ولذلك بعض الأحيان تجد الشخص يقول: أنا مستعد أفعل كذا، وأنا مستعد أنجز كذا، وأنا مستعد أتكفل بهذا الأمر، وأنا واثق من نفسي، فتراه في كثيرٍ من الأحيان يخذل، يخذله الله بسبب اتكاله على نفسه وثقته بها، أو نسيان الله وعدم الثقة به، نسي أن يتوكل على الله أو أن يفوض الأمر إليه، وإنما اعتمد على نفسه واتكل عليها، فوكل إليها؛ فضاع، ولذلك نبه عليه الصلاة والسلام إلى هذه المسألة: ألا يتكل الإنسان على نفسه، وأن الشخص إذا كانت العوامل لا تساعده على النتيجة المطلوبة فلا يتبرع بشيءٍ يغلب على الظن أنه لا ينجزه أو لا يفعله، وإنما يقدر الموقف.(42/5)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الفجر
وفيه كذلك: اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ بصلاة الفجر فإنه أبى في البداية أن ينزل الجيش، وأبى أن ينام في هذا الوقت، وقال لهم: (أخافُ أن تناموا عن الصلاة) ولم يرضَ إلا بعد أن تكفل بلال بأن يحرسهم لأجل الإيقاظ لصلاة الفجر.
وفيه: أن القوم إذا نزلوا منزلاً يجعلون لهم شخصاً إذا ظنوا ألا يستيقظوا، أو كان الوضع حرجاً، مثل أن يكونوا متعبين أو يناموا قبل الفجر بقليل، فلابد أن يجعل لهم من يوقظهم.
وفيه: أخذ الاحتياطات للاستيقاظ لصلاة الفجر، لا كما يفعل كثير من الناس اليوم من تضييع الصلاة، وتراهم -الآن- في رمضان ربما يسهرون إلى قرب الفجر، لأن الليل طويل، فيسهرون ثم ينعس فينام، فلا يصلي الفجر جماعةً ولا يصليها في وقتها، فتضيع عليه الصلاة، وبعضهم يهمل في وضع المنبه، وبعضهم يهمل في وصية أهله لإيقاظه، وبعضهم يهمل في النوم مبكراً، وبعضهم يهمل في الأذكار، وبعضهم يهمل في الوضوء قبل النوم، أسبابٌ مجتمعة تؤدي في النهاية إلى عدم الاستيقاظ للصلاة، وربما تعمد بعضهم ألا يضع شيئاً يوقظه، ونصح بعضهم أباً أن يوقظ ولده لصلاة الفجر، فقال: لا توقظه دعه يأخذ راحته، الجسم متى ما انتهت حاجته من النوم فإنه يقوم لوحده! إن كثيراً من الناس لا تنتهي حاجتهم من النوم، فإذاً: يجب أن يستيقظ الإنسان لصلاة الفجر ولو كان على حساب راحته ونومه، يجب الاستيقاظ للصلاة، ووضع بلال حارساً لأجل الاستيقاظ، مثل: وضع كافة الاحتياطات من شخصٍ يوقظك، أو هاتف، أو منبه، أو رش بالماء بأن يوصي زوجته أن ترشه بالماء لأجل الاستيقاظ وذلك لأهمية الصلاة، وكلما كان الإيمان قوياً كلما كانت الاحتياطات المتخذة للاستيقاظ للصلاة قوية، وكلما ضعف ضعفت، وربما أنها لا تكون موجودة أصلاً.(42/6)
نوم النبي صلى الله عليه وسلم والحكمة منه
قال: (فما أيقظنا إلا حر الشمس، واستيقظ أبو بكر، ثم استيقظ فلان وفلان، والرابع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه).
الصحابة كانوا لا يريدون إيقاظ النبي عليه الصلاة والسلام، لأجل أنه ربما يوحى إليه في منامه، فيخافون انقطاع الوحي وانقطاع الفائدة إذا أيقظوه، فتركوه حتى يكون هو الذي يقوم، فـ عمر قدَّر الموقف، رأى ما أصاب الناس من نومهم عن صلاة الصبح، ولا يوجد ماء، وكان عمر رجلاً جلداً جليداً قوياً، ولا شك أن المجتمع المسلم يحتاج إلى أمثال هؤلاء الرجال، وكان رفيع الصوت، يخرج صوته من جوفه بقوة، وهذا من معاني كلمات (جليداً) لأنه ورد في رواية مسلم: (رجلاً جليداً أجوف) أي: يخرج الصوت من جوفه بقوة، (فكبر ورفع صوته بالتكبير) قال العلماء: إن استعماله للتكبير سلك فيه طريق الأدب والجمع بين المصلحتين، إحداهما: الذكر، والأخرى: الاستيقاظ، لأنك يمكن أن توقظ الشخص بأي عبارة، فإذا أوقظته بذكرٍ من الأذكار، تكون قد جمعت بين إيقاظه وبين الذكر، فيكون لك أجران: أجر ذكر الله، وأجر إيقاظه للصلاة.
ولذلك كبر وعلا صوته بالتكبير، وخص التكبير لأنه الدعاء إلى الصلاة، لأن أول عبارة في الأذان (الله أكبر) فهو أفضل الدعاء إلى الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم استيقظ.
وهنا قد يقول قائل: إننا نعلم أن قلوب الأنبياء لا تنام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) فما باله هنا قد حصل أنه نام عن الصلاة المكتوبة؟ وقد أجاب العلماء بأجوبة، ومنها: أنه كما يعتري الإنسان السهو في اليقظة كما في الصلاة، فكذلك في النوم من باب أولى، قد يحصل له سهو قلبي وهو في المنام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سها في الصلاة وهو مستيقظ، والسهو سهو القلب، وسلم من ركعتين.
إذاً: من باب أولى أن يحدث له سهوٌ قلبيٌ في المنام، حتى لو كان قلبه لا ينام، لكنه ليس مبرأ من السهو، فهذا جواب مما قيل عن هذا الأمر.
وفي ذلك فائدة: لو استيقظ عليه الصلاة والسلام في الوقت وصلوا لما كان هناك بعض الفوائد التي حصلت، ولما عرفناها، فالمجتمع الأول أجرى الله سبحانه وتعالى فيه أحداثاً، وقدر فيه أقداراً؛ لتعرف أحكام ما كانت لتعرف لو لم تحصل هذه الأحداث.(42/7)
عظم وقع مصيبة فوات الصلاة على الصحابة
قوله: (فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه الذي أصابهم)، وهذا يبين عظم وقع مصيبة فوات وقت الصلاة على الصحابة، وشدة محافظة القوم عليها، وتحسسهم من فقدها، وتأذيهم من ذلك لدرجة أنهم اعتبروها مشكلة أذية شكوا إليه الذي أصابهم، اعتبروها مصيبة أصابتهم، فشكوا إليه مصيبتهم التي أصابتهم، وما هي المصيبة؟ خروج وقت الصلاة، لا كما هو حالنا اليوم، فربما تفوتنا الصلوات والصلوات ولا يعتري الإنسان وربما لا يحدث له شيئاً، يقوم يصلي وكأنه لم يصبه شيء، لا مصيبة ولا أقل من المصيبة، ولا شك أن فوات العبادة يؤذي النفس المستقيمة، ويجعل الحرج موجوداً فيها، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم من شدة ما رأى من وقع المصيبة عليهم وهي فوات صلاة الفجر؛ عزَّاهم وآنسهم، ولما عرض لهم من الأسف والحزن قال: (لا ضير أو لا يضير) قالها تأنيساً لقلوبهم، لا حرج عليكم لأنكم لم تتعمدوا، وهنا يكون الفرق بين من نام عن الصلاة وقد اتخذ الأسباب ففاتته، وبين من نام عن الصلاة مهملاً الأسباب، فالذي ينام عن الصلاة المكتوبة قد ورد عقابه في حديث البرزخ، رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يعذبون في البرزخ، وكان عذاب الذي ينام عن الصلاة المكتوبة أن يشدخ رأسه بالحجر، ويعود رأسه كما كان، ثم يشدخ بالحجر، ويعود رأسه كما كان، إلى أن تقوم الساعة، قيل: إلى أن يبعث الناس من قبورهم، وهو عذاب في البرزخ على الراجح، من هو هذا الرجل؟ قال: (الذي ينام عن الصلاة المكتوبة) يرفض كتاب الله وينام عن الصلاة المكتوبة، هذه عقوبته، ولو قيل لك: ما عقوبة النوم عن الصلاة عمداً؟ فقل: هذا هو عقابه، وهذا يبعث الإحساس بالمسئولية للصلاة، خصوصاً عند أصحاب الأعمال الذين يشتغلون في النوبات، فبعض الأعمال في الشركات والمستشفيات أو الطيران ونحو ذلك فيها نوبات، فربما تنتهي نوبة أحدهم قبيل الظهر وهو ساهر أكثر الليل والصباح، فربما ينام ولا يصحو إلا المغرب، ويضيع العصر والظهر، وربما انتهى أيضاً قبل الفجر بقليل وينام ويضيع الفجر، وهكذا وهؤلاء ليس لهم عذر في أخذ الاحتياط لأجل الصلاة.(42/8)
سبب ارتحال النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي ناموا فيه إلى مكان آخر
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا ضير، ارتحلوا) لماذا ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه؟ ولماذا لم يصلوا في نفس المكان؟ ولماذا أمر الجيش أن يرتحل؟ قيل: إن ذلك بسبب حضور الشيطان في ذلك الموضع الذي كانوا فيه، كما ورد ذلك في صحيح مسلم: (إن هذا مكان فيه الشيطان قوموا) فقاموا من ذلك المكان الذي حضرهم فيه الشيطان.
وجاء عند أبي داود من حديث ابن مسعود في هذه القصة: (تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة) هذا وقد فات وقت الصلاة، فأمرهم بالارتحال من مكان الغفلة، لكي ينشط النائم ويقوم ويلحق بالناس من كان لم يقم بعد، ويتكامل العدد ويجتمعون، فنزل في مكان غير بعيد، لم يذهب ويؤخر الصلاة.
بعض الناس يقول: ما دام فاتت فاتت! فإذا استيقظ الساعة السابعة، قال: ما دام فاتت فاتت، ويكمل النوم إلى الساعة العاشرة والحادية عشرة، ومع الظهر، وهذا من جهلهم؛ لأن الإنسان إذا نام عن الصلاة يجب عليه أن يؤديها حينما يستيقظ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) لابد إذا استيقظ من النوم أن يصلي مباشرةً، ويجوز أن يتأخر شيئاً يسيراً لمصلحة؛ كأن يكون هناك جماعة فاتتهم الصلاة، فيقوم بعضهم فيؤذنون ويصلون السنة، وينتظرون بقية أصحابهم لأن يأتوا، كأن يقوموا من النوم ويتوضئوا، فإن الناس في قيامهم من النوم وطهارتهم ليسوا سواء، فبعضهم يقوم بسرعة، وبعضهم نومه فيه بطء، وبعضهم يتوضأ بسرعة، وبعضهم يحتاج إلى قضاء حاجة، وبعضهم ربما يطيل في قضاء الحاجة، فليسوا سواء، فحتى يدرك الجميع الجماعة فلا بأس بالتأخر اليسير في مثل هذه الحالة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نزل غير بعيد وصلى، وقيل: إنه غيَّر المكان تحرزاً من العدو.
وقيل: انتظاراً لما ينزل عليه من الوحي.
وقيل: ليستيقظ من كان نائماً، وينشط من كان كسلاناً.
وفيه: فائدة التحول من مكان الغفلة، فإذا كان في وادٍ يخرج منه.
وقيل: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يُدرى أن الشيطان حضر إلا بوحي.
على أية حال: من حصل له غفلة عليه أن يغير مكانه، ولذلك ندبنا في خطبة الجمعة إذا نعس الواحد في مكانه؛ فعليه أن يغير مكانه مع من بجانبه من اليمين أو الشمال، يتحول إلى مكان صاحبه وليتحول صاحبه مكانه، كما جاء في الحديث، فإذا أشار لك من بجانبك في خطبة الجمعة بتغيير المحل فلا تقل: ماذا يريد؟ هو في وادٍ آخر.
لا، عليك أن تفهم وتفقه وتتفطن أنه يريد أن يغير مكان الغفلة، ويجوز له أن يشير لأجل هذه المصلحة ولا يتكلم ولا تتكلم، ولا تقل: ماذا تريد؟ وإنما تغير مكانك بمكانه.
إذاً: أُمر الناس في سماع الخطبة يوم الجمعة بالتحول من مكانٍ إلى مكان آخر، وأن من حصلت له الغفلة عن عبادةٍ يتحول من ذلك المكان، وأن التأخر اليسير عن الصلاة بعد خروج وقتها لأجل انتظار الجماعة -مثلاً- أو أن ينشط الكسلان ويقوم النائم النعسان وثقيل النوم، أنه لا حرج فيه.(42/9)
مشروعية الأذان للصلاة الفائتة
قوله: (ثم توضأ ونودي بالصلاة)، وهذا يدل على مشروعية الأذان للفوات، إذا فاتتك الصلاة فيشرع لك الأذان، ومنه يعلم أن الأذان ليس هو الإعلام بدخول الوقت فقط، بل فيه دعوة الناس للصلاة أيضاً.
وفيه فائدة طرد الشيطان؛ لأن الشيطان إذا سمع التأذين ولَّى وله ضراطٌ حتى لا يسمع صوت التأذين، فإذا انتهى الأذان رجع، فإذا أقيمت الصلاة ولىّ، لأن الشيطان لا يطيق سماع الأذان ولا الإقامة، فإذا انتهت الإقامة رجع يوسوس للمرء ويحول بينه وبين صلاته.
إذاً: الأذان للفائتة مشروع، وإذا كان هناك جماعة في سفر أو غيره، ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس، فإنهم يؤذنون، والأذان مشروع للفائتة.(42/10)
مشروعية الجماعة للصلاة الفائتة
كذلك في هذا الحديث قوله: (فصلّى بالناس) يؤخذ منه أيضاً: مشروعية الجماعة للفائتة، فلو كان هناك جماعة فاتتهم صلاة فإنهم يصلون جماعة وليس هناك مانع، ولا يقل أحد: يجب أن يصلي كل إنسان لمفرده! لا.
فهذا النبي عليه الصلاة والسلام عندما فاتتهم الصلاة قام وصلَّى بالناس جماعة وأذن.(42/11)
تفقد الإمام والمسئول أحوال الرعية
ووقع كذلك في هذا الحديث قصة الرجل الذي اعتزل القوم ولم يصلِّ معهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله، فينبغي على الإمام تفطن أحوال المأمومين، وينبغي للأمير في السفر أن يتفقد أحوال رعيته، ويتفطن لهم، ويسأل عنهم.(42/12)
التيمم للجنابة عند عدم وجود الماء
رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل معتزل القوم لم يصل معهم، فسأله: (ما منعك أن تصلي مع القوم) فالرجل بين ذلك بقوله: "أصابتني جنابةٌ ولا ماء" أي: لا يوجد معي ماء للاغتسال، فقال: (عليك بالصعيد) فهنا يتبين أن الإنسان إذا أصابته الجنابة ولا يوجد عنده ماء فإنه يتيمم، لأن التيمم يرفع الجنابة، ولذلك لو كان معه ماء يكفي للوضوء فقط وأصابته جنابه، والماء لا يكفي للاغتسال، فعليه أن يتوضأ ثم يتيمم، كما قال بعض أهل العلم، أو يتيمم فقط، لكن الوضوء وحده لا يكفي لرفع الجنابة عند عدم وجود الماء الكافي للغسل، ولا يرفعها إلا التيمم، فإنه يكفيك.
إذاً: من السنة أن الإنسان إذا عدم الماء ينتقل إلى البدل، وهذه السنة واجبة، ومشروعية التيمم للجنب واضحة في هذه القصة، والصحابي كان يجهل هذا الحكم، فبينه له النبي صلى الله عليه وسلم.(42/13)
الحث على صلاة الجماعة
وكذلك فيه الحث على صلاة الجماعة، لأنه قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) فهذا فيه الحث على صلاة الجماعة، وأن ترك الشخص الصلاة بحضرة الناس عيب، ولذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين في آخر المسجد لم يصليا مع القوم، سألهما عن السبب، فقالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا.
قال: (إذا أتيتما مسجد قومٍ فوجدتماهم يصلون فصليا معهم، ولو كنتم صليتم) فإذا حضر الإنسان مكاناً فيه أناس مجتمعون للصلاة فلا يعتزل ويدعهم يصلون، لأنه يكون في موضع تهمة، سيقول الناس: لماذا لم يصل؟ أهو مستهزئ أم أن الإمام لم يعجبه؟! فلذلك الإنسان لو صلى في مكان وجاء إلى مسجد آخر لدرس أو لحاجة، فإن وجدهم يصلون دخل معهم وصلى وهي له نافلة، ولو كان وقت نهي، لأن الحديث كان بعد الفجر، ولو كان بعد الفجر، أو بعد العصر، فيدخل ويصلي معهم وهي له نافلة.
وكذلك فيه اللطف في السؤال، فإنه قال: (ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟) أسلوب سؤال ولم يكن أسلوب توبيخ أو سخرية أو تأنيب أو قسوة، وإنما هو أسلوب سؤال لطيف لمعرفة سبب تخلف هذا الرجل عن الصلاة، وكذلك إنكار المنكر يكون بالأسلوب الحسن.(42/14)
مشروعية الأخذ بالأسباب
في هذا الحديث مشروعية الأخذ بالأسباب؛ فإنه طلب من الصحابيين أن يتلمسا الماء، وأن الأخذ بالأسباب لا يقدح في التوكل، ومن الناس من يغلو في السبب حتى يجعل السبب هو كل شيء، ويعتمد عليه ويتوكل، وهذا حرام وشرك.
ومن الناس في الجانب المقابل من يهمل الأسباب بالكلية، ويقول: إذا أراد الله أن تتيسر تيسرت، وإذا أراد الله أن تحصل حصلت، ولا يفعل شيئاً، فهذا إنسان غير عاقل، لأن العقل السليم يقتضي بذل الأسباب، وقد أمرت مريم أن تهز جذع النخلة مع أنها امرأة نفاس، في أضعف شيء، والنخلة قوية، وأمرت بهز النخلة، وكان يمكن أن ينزل عليها الرطب من غير هز، لكن الله تعالى يريد أن يعلم عباده الأخذ بما يستطيعون من الأسباب، فأنت خذ بالسبب والله تعالى يأتيك بالنتيجة.
إذاً: الاعتماد على الأسباب شرك، وإهمال الأسباب جنون، وكلاهما مصادم لمفهوم التوكل الصحيح، أما الغربيون فإنهم يجعلون الأسباب هي كل شيء، ولذلك تراهم يخططون للأمر غاية التخطيط ولا يتوكلون على الله، ولا شك أن عندهم عقولاً وذكاءً، عندما يتخذون الأسباب، لكن ليس عندهم توحيد، ولذلك تجد الواحد يصاب بالانهيار إذا لم تأت النتيجة كما يريد؛ لأنه ليس عنده توكل على الله، والإنسان مهما كانت قوته، ومهما كان تخطيطه، وذكاؤه وعقله، فإنه في بعض الحالات يصل إلى طريقٍ مسدود، وفي بعض الحالات يشعر بالضعف، وأنه ليس هناك أسباب يمكن أن تفعل، أو أن الأسباب ضعيفة في بعض الأحيان، فلا ينجيه إلا إذا كان موحداً متوكلاً على الله تعالى.
والطرف الآخر: هم بعض الصوفية ومن شابههم من الكسالى، فإن الكسالى مشابهون للصوفية في عدم الأخذ بالأسباب، فتجد الواحد منهم يقول: إذا أراد الله أن أنجح نجحت! وهو لا يريد أن يدرس، وبعض الناس يتركون الأسباب في مجال الأمور الدينية الشرعية، ويأخذون بالأسباب الدنيوية البحتة، فتراه إذا أراد تجارةً خطط ودبر وفعل ودرس وفكر وراقب وتابع وحضر وداوم، وفعل كل الأسباب! وفي الأمور الشرعية، يقول: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، وإذا أراد الله أن يعلمني تعلمت، وإذا أراد الله أن يفقهني تفقهت! ولا يأخذ سبباً.
ولو قلت له: أنت الذي تقول هذا الكلام: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، وهذه حجة كثير من الناس عند النقاش، إذا كانوا مقيمين على منكر، يقولون: إذا أراد ربنا أن يهدينا اهتدينا! نقول: إذاً: لماذا لا تترك الزواج وإذا أراد الله أن يأتيك بولد أتاك؟ لا تتزوج ولا تنكح فسوف يضحك منك، ولذلك فإنهم يأخذون بالأسباب في الأمور الدنيوية، ويتركون الأسباب في الأمور الدينية، ويحتجون بأن الله إذا أراد شيئاً كان، وهذا هو فعل كثيرٍ من عصاة عصرنا.(42/15)
صلاة المتيمم عند فقد الماء
وكذلك في الحديث: أن من تيمم وصلى فإنه لا يحتاج إلى إعادة الصلاة إذا وجد الماء، ولذلك عندما وجد الماء، ثم أتت المرأة بعد ذلك لم يقل: يا فلان! أعد الصلاة، وإنما أعطاه الماء ليغتسل به لأجل الصلاة التي بعدها ورفع الجنابة.
إذاً: الإنسان إذا اتخذ الأسباب، واتقى الله ما استطاع، وفعل ما تيسر، يكفيه، ولا يحتاج إلى إعادة العبادة.(42/16)
حسن التعامل مع المرأة الأجنبية
وكذلك في هذا الحديث: حسن التعامل مع المرأة الأجنبية ولذلك ما خلا واحدٌ منهما -أي من الصحابيين- بها، كانا جميعاً، وكان التوجيه بالكلام، وليس فيه أي ملامسةٍ ولا شبهةٍ، وهذا هو اللائق بالمسلم إذا وجد امرأةً وحيدةً منقطعة، وبعض من ركبه الشيطان واستحوذ عليه يعتبر الفرصة سانحة إذا رأى امرأة لوحدها، ويعتبرها غنيمة، ولذلك فإن الفسق يبلغ به أن ينتهز هذه الفرصة لتحقيق شهوةٍ في نفسه، أو انتهاك لحرمة الله تعالى، إذا وجد امرأة لوحدها، والعياذ بالله.(42/17)
حسن التخلص في المواقف
في هذا الموضع أيضاً: حسن التخلص، فالصحابيان عندما قالا للمرأة: انطلقي، قالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: الذي يقال له: الصابئ؟ التخلص الحسن أنهما قالا: "هو الذي تعنين".
لأنهما لو قالا: لا، ليس بالصابئ، وأنكرا عليها، لخافت وشردت ورفضت أن تأتي معهما، وفات المقصود، ولو قالا: نعم، لوافقاها على الباطل، والنبي عليه الصلاة والسلام ليس صابئاً، فتخلصا هذا التخلص الجميل بقولهما: هو الذي تعنين.(42/18)
جواز أخذ ماء الغير للضرورة
وكذلك فإن أخذ الماء من المرأة يقال فيه: إما أنه من باب الضرورة، فيجوز أخذ الماء عند الضرورة من الآخر، ولو بغير رضاه.
أو يقال: إنها من أهل الشرك كافرة حربية، فمالها حلالٌ لهم.
وعلى تقدير أنها من أهل العهد نقول: إن ضرورة العطش تبيح للمسلم الماء المملوك لغيره، ثم إنهم قد أعطوها العوض بعد ذلك.(42/19)
معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في مباركة الماء
كذلك في هذا الحديث: معجزةٌ ظاهرةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلمٌ من أعلام نبوته، عندما حصلت البركة بمشاركة ريقه الطاهر المبارك للماء، فصار الماء كثيراً، وشرب منه أربعين رجلاً وملئوا الأواني، والمرأة ما نقص من مائها شيء، بل إنه أكثر مما كان، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من نبي، ومهما حصل الآن من الاختراعات فلا يمكن أن يتوصلوا إلى أن يجعلوا قربة ماء تكفي أربعين رجلاً، ثم تملأ القرب وتكون أكثر مما كانت، فهذه معجزة لا يمكن أن تقع إلا لنبي، وهي من الآيات التي تقام بها الحجة على المشركين، ولذلك كانت المرأة مذهولة، وعرفت وقالت: أو إنه رسول الله.
إما ساحر، وإما رسول الله.(42/20)
مصلحة الشرب مقدمة على الطهارة
كذلك فيه: بيان أن شرب الآدمي والحيوان مصلحة مقدمة على الطهارة، فلو كان عند أحدٍ ماء قليل يكفيه إما للشرب وإما للطهارة، فإنه يقدم الشرب؛ لأن مصلحة بقائه على قيد الحياة أعلى من مصلحة الطهارة مع موته، فإنه إذا مات بعد ذلك فلا يتطهر ولا يتمكن من شيء.
فيؤخذ منه لو أن إنساناً في الصحراء أو في مكان منقطع ليس عنده إلا ماءٌ قليل لا يكفي إلا للشرب، فإنه يتيمم ويجعل هذا الماء للشرب.(42/21)
حسن معاملة من أُخذ منه شيء وتطييب خاطره
وكذلك في هذا الحديث: تطييب خاطر من أُخذ منه شيء، وحسن المعاملة مع الآخرين، وأن الإنسان لو أخذ شيئاً من غيره أو من صاحبه بغير رضاه لأجل الحاجة، فإنه يعوضه.
وفيه: أن حسن المعاملة تأتي بالنتائج الباهرة، ولذلك المرأة مع أنه لم ينقص من مائها شيء، أعطيت وجمع لها طعام كثير وضع في ثوب، ووضع الثوب على البعير بين يديها ثم انطلقت.
وكذلك فإن الحديث (ما رزئنا من مائك شيئاً) يدل على أن جميع الماء الذي أخذوه ليس من ملكها، لأنه مما زاده الله وأوجده.(42/22)
جواز استعمال أواني المشركين
كذلك استدلوا بالحديث على جواز استعمال أواني المشركين ما لم يتيقن منها نجاسة، فهذه مشركة ومعها إناء لا يبدو منه نجاسة، ولا رائحة نجاسة، ولا طعم نجاسة، ولا لون نجاسة.
إذاً: يجوز استعمال الأواني ما لم يظهر فيها نجاسة.(42/23)
دعوة المرأة لقومها إلى الإسلام ودور المرأة المسلمة
وفيه كذلك وهي فائدة عظيمة: دعوة المرأة لقومها.
وفيه: أن المسلمين كانوا يقصدون عدم الإغارة عليها لأجل المعروف الذي حصل منها، مع أنه حصل رغماً عنها، وأعطيت مقابلاً عليه، لكنهم ما كانوا يغيرون على قومها طمعاً في إسلامهم بسبب المرأة، أو رعاية للمعروف الذي أدته أو أُخِذَ منها.
وفيه: أن ترك الهجوم على قومٍ لمصلحة تؤدي إلى إسلامهم أمرٌ شرعي، وترك بعض الكفار والهجوم على آخرين لعلهم يسلمون وهناك بوادر أمر شرعي، فلذلك ينبغي أن يكون الجهاد في حكمة، والهجوم في حكمة، وهذه المرأة بركتها على قومها عظيمة عندما قامت بدعوتهم، وذكرتهم بكف المسلمين عنهم، عندما قالت: " ما أرى إن هؤلاء القوم يدَعونكم عمداً -لا جهلاً ولا نسياناً ولا خوفاً- فهل لكم في الإسلام؟ وهذه هي الدعوة؛ فأطاعوها فدخلوا في الدين، وهذا فيه دليل على أنه ربما يكون المرأة على ضعفها وعجزها أثر بالغ على الرجال وعلى القوم كلهم، وفي زماننا نجد حالات في الواقع من هذا القبيل؛ أن بعض النساء يرزقها الله تعالى ديناً وإخلاصاً، فتقوم بدعوة أهل البيت، فيتدين أهل البيت على يديها، وتكون بركة عليهم امرأة واحدة ربما تكون سبباً في إسلام أو تدين جماعة من الناس، مثل هذه المرأة، فقد أسلم بسببها قومها كلهم.
إذاً: المرأة إذا أحسنت تربيتها، وأحسن إعدادها، جاءت بالنتائج الباهرة، وكذلك يمكن أن تحمل هم الدعوة ومسئولية الدعوة، وتأتي بنتائج عظيمة قد لا يأتي بها بعض الرجال، وكم من زوجٍ صلح حاله بسبب زوجته، وكم من أبٍ اهتدى بسبب ابنته، وكم من أخٍ تدين بسبب أخته، وهذه أشياء مشاهدة في الواقع تدل على أهمية توجيه الدعوة للنساء، إذ بسبب هدايتهن ربما يحصل هداية البيت بأكمله، ونحن نرى في الواقع دخول الهداية والعلم والدين في بعض البيوت عن طريق النساء، وأن بعض البيوت ربما يفشل الرجال في إدخال شيءٍ إليها عن طريق رجل، فيأتي من طريق امرأة، وأن الضعيف ولو كان ضعيفاً لكن ربما يجري الله على يديه، أو يبارك في جهده بما لا يحصل لمن هو أقوى منه، فلا يصلح أبداً أن نستهين بدور المرأة في البيت، أو أن نهين المرأة، أو كما يفعل بعض الناس إذا قال: الحذاء عزك الله، يقول: المرأة أجلك الله! لماذا يقرنون في العبارة بين المرأة والحذاء أو النجاسة؟ هل هي شيءٌ يتقذر منه أو في ذكره عيب؟ ليس في ذكره عيب، فلذلك ليس من تكريم المرأة أن الإنسان يذكر عبارة يبين فيها أنها نجسه، أو أنها مستقذرة، أو أنها شيءٌ يستحيا من ذكره، كلا والله! فإن فضل بعض النساء على الرجال كبير، كما هو فضل عائشة وخديجة ومريم، وغيرهن من النساء، ثم إنه حتى على المستوى الدنيوي يوجد بعض النساء يتحملن بيوتاً، فربما يكون الذي في البيت عاجز عن الكسب من الرجال، أو أنه مهمل في القيام بشئون البيت، ثم هي تعمل وتحمل البيت بأكمله، وربما يدرس الأولاد ويكبر الذكور ويدرسوا وهي التي تنفق عليهم، وتنفق على أبيها وأمها، فلذلك إعداد النساء والقيام بالدعوة في صفوفهن ومراعاتهن يكون فيه خيرٌ بالغٌ، وأثرٌ كبيرٌ في داخل البيوت، بل على مستوى القوم أجمعين كما في هذه القصة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(42/24)
الصاحب ساحب
لقد جاءت الآيات والأحاديث الدالة على الأمر بصحبة الأخيار والصالحين الذين يعينون على الخير ويحثون عليه.
فمن أراد صحبة الصالحين فليبحث عنهم في المساجد، فهي أكثر الأماكن التي يتواجدون فيها، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يفاضلون بين الأشخاص بالعلم والسنة وخدمة الدين والخلق، وأما صحبة الأشرار فأقل ما فيها ضياع الأوقات وإهدارها فيما لا نفع فيه.(43/1)
الأمر بصحبة الأخيار
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أوصانا بوصايا، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم حثنا على أمور، ولا يأمر الرب بشيء ولا نبيه صلى الله عليه وسلم إلا وفيه مصلحة عظيمة لنا، وهذا الفرق بين أوامر الرب ورسوله وبين أوامر البشر.
ومِن أوامر الرب وأوامر رسوله: الأمر بصحبة الأخيار: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] فأمر بصحبة الأخيار وملازمتهم، ونهى عن صحبة الأشرار: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28].
وهذه مسألة عظيمة من مسائل هذه الحياة؛ فإن الإنسان لا بد له من صديق وصاحب، ولا بد له من قوم يأوي إليهم، ويكون معهم.
ولعل هذا الوقت (في بداية العام الدراسي) بل وعودة كثير من العمال والموظفين إلى أعمالهم، يكون وقتاً مناسباً للتذكير بهذا الموضوع (إنشاء العلاقات الجديدة) وتنقية العلاقات القديمة وتمحيصها.
قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب إلا مؤمناً).
وقال: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يخالل).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع مَن أَحَب).
قال بعض السلف: لقد عظُمت منزلة الصَدِيق عند أهل النار، قال الله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].
وقال بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله): انظروا إلى فرعون مع هامان، أضل هذا بهذا، وأخذ هذا من عزة هذا، وأعان بعضهم بعضاً على الكفر واستعباد البشر.
وجليس الخير مفيد دائماً وأبداً، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح كمثل العَطَّار، إن لم يعطِك من عطره أصابك من ريحه) وهذا هو الفرق بينه وبين نافخ الكير، الذي يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحاً سيئة.(43/2)
مميزات الجليس الصالح
جليسك الصالح: يأمرك بالخير، وينهاك عن الشر، ويُسمِعك العلم النافع، والقول الصادق، والحكمة البليغة، ويبصِّرك آلاء الله، ويعرِّفك عيوب نفسك، ويشغلك عما لا يعنيك.
وإن كان قادراً: سَدَّ خَلَّتك، وقضى حاجتك، ثم لا تحتاج بعد الله إلى سواه، إن ذكَّرته بالله طمع في ثوابه، وإن خوَّفته من عذاب الله ترك الإساءة، يُجْهِد نفسه في تعليمك وإصلاحك إذا غفلتَ عن ذكر الله، وإذا أهملت بشَّرك وأنذرك، يعتني بك حاضراً وغائباً.
وإن كان مثلك أو دونك فهو: يسُدُّ خَلَّتك، ويغفِرُ زَلَّتك، ويُقيل عثرتك، ويستر عورتك، وإذا اتجهت إلى الخير حثك عليه، وكان لك عوناً عليه، وإذا عملت سوء أو توجهت إلى سوء حال بينك وبين ما تريد، وقال: أعرض عن هذا، واستغفر لذنبك إنك كنت من الخاطئين.
وصالح إخوانك: لا يمل قُرْبَك، ولا ينساك على البعد، تُسَر بحديثه إذا حضر، إنه يشهد بك مجالس العلم، وحِلَق الذكر، وبيوت العبادة، ويزين لك الطاعة، ويقبح لك المعصية، ولا يزال ينفعك حتى يكون كبائع المسك وأنت المشتري.
ولِصَلاحِه: لا يبيع عليك إلا طيباً، ولا يغشك، ولا يعطيك إلا جيداً، وإن أبيت الشراء فلا تمر بشارعٍ إلا وجدت منه ريح الطيب الذي يملأ المعاطس والأنوف؛ أولئك القوم لا يشقى بهم جليسهم تنزل عليهم الرحمة، فيشاركهم فيها، ويهم بالسوء فلا يقوله ولا يستطيع فعله، إذا لم يكن مخافةً من الله فحياءً من عباد الله الصالحين.
أوصى بعض الصالحين ولده لما حضرته الوفاة، فقال: يا بني! إذا أردت صحبة إنسان فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، واصحب من إذا مددت يدك للخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدَّها، وإن رأى منك سيئة سدَّها.
وقال بعض السلف: عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعصمة في البلاء.
فالأخيار الأبرار الأتقياء إذا وُجدوا في مجتمع جذبوا أشباههم أو انجذبوا إليهم وسرى تيار المحبة بينهم.
والصاحب ساحب.
لو أن مؤمناً دخل إلى مجلسٍ فيه مائة منافق ومؤمنٌ واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل إلى مجلسٍ فيه مائة مؤمن ومنافقٌ واحد لا زال يمشي حتى يجلس إليه، وإن أجناس الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان في الطيران إلا وبينهما مناسبة.
أيها الإخوة: ينبغي على الواحد منا أن يفتش نفسه.
اعلم يا عبد الله! أن قلبك إن نفر من أهل الدين فأنت مريضٌ، فداو نفسك حتى تميل إلى أهل الخير، وإذا رأيت نفسك تميل إلى أهل الشر والفجور فاتهم نفسك واستدرك عمرك قبل الفوت.
وإذا رأيت نفسك تميل إلى الأخيار، وتحب مُجالستهم مع علمك بسوء سيرتك، واعوجاج طريقتك، وقبح ما تُخفي وأنت بينهم؛ فاعلم أن فيك بقية خير، فاجتهد في اقتلاع الشر من نفسك لتكون مثلهم، وإذا رأيت نفسك تحب الذهاب مع المجرمين، وأنت من أهل الخير، ففيك شعبة من النفاق.
إن الإخوان الصالحين نعمة عظيمة من الله.
وقد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: [لولا ثلاثٌ ما أحببت البقاء ساعة: ظمأ الهواجر -الصيام في النهار الحار- والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر].
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لولا القيام بالأسحار، وصحبة الأخيار؛ ما اخترت البقاء في هذه الدار.
وكانوا إذا فقدوا أخاً عزيزاً عرف ذلك فيهم.
قال أيوب السختياني رحمه الله: [إذا بلغني موت أخٍ لي فكأنما سقط عضوٌ مني].
أخاك أخاك فإن من لا أخاً له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ
ولذلك كان التفريط في الصالحين وتضييع الأخ الصالح من أعظم البؤس، وأشد البأس على النفس، وأعجز الناس من فرط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع مَن ظَفَر به منهم، فربما يلقاهم ثم يضيعهم؛ فهذا أعجز مِن الذي فرط في ملاقاتهم والتعرف عليهم أصلاً؛ لأنه عرف النعمة ثم كفرها، فهم يعرفون نعمة الله ثم يجحدونها ويتخلون عنها.
والرجل بلا إخوان كاليمين بلا شمال والشمال بلا يمين.
وقال الأصمعي رحمه الله: إذا أردت أن تعرف وفاء الرجل ووفاء عهده، فانظر إلى حنينه إلى إخوانه، وتشوُّقه إليهم.(43/3)
فوائد صحبة الصالحين
أيها الإخوة: إن مصاحبة الصالحين فيها فوائد كثيرة: 1 - النجاة يوم القيامة: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).
2 - النجاة من فزع ذلك اليوم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:67 - 68].
فإذا كان معهم في الدنيا نَجَى مِن الفزعِ، ولعْنِ بعضِ الناس بعضاً يوم القيامة.
3 - الانتفاع بدعائهم بظهر الغيب.
4 - الانتفاع بمحبة الله لمحبتهم: لأن الله قال: (وجبت محبتي للمتحابين فِيَّ، والمتجالسين فِيَّ، والمتزاورين فِيَّ، والمتباذلين فِيَّ) كما جاء في الحديث الصحيح القدسي.
5 - بركة المجالس والخير الذي يعم: (فتقول الملائكة: يا رب! إن فيهم فلاناً ليس منهم، إنما جاء لحاجة، فيقول الله للملائكة: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) لا يحرم من الفضل وإن جاء لحاجة، ما دام جلس مع الأخيار فلا بد أن يناله نصيب.
قومٌ يذكرون الله فيناديهم المنادي من السماء: (قوموا مغفوراً لكم) فما أعظم النعمة بالجلوس معهم إذا كانوا سيقومون وقد غُفِر لهم؟! 6 - جلساء الخير يعرفونك على إخوان الخير فتزداد المعرفة؛ فصاحب الخير يدلك على صاحب الخير، وهكذا تزيد الاستفادة.
7 - التشبه بهم ثمرة من ثمرات مصاحبتهم: وإذا كانوا على خيرٍ صرت على خير.
8 - يحفظون الوقت والعمر من الإهدار.
9 - ذكر الله تعالى: قال عليه الصلاة والسلام: (أولياء الله تعالى الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله عز وجل).
وكان القعنبي رحمه الله إذا خرج على الناس قالوا: لا إله إلا الله.
وكان من أهل الحديث.
10 - هم الزينة في الرخاء، والعدة في البلاء: هذه العدة التي يحتاجها الإنسان.
11 - وخير معينٍ على تخفيف الهموم والغموم: وكم في حياتنا هذه من غموم وهموم؟! وكم فيها من شدائد يحتاج الواحد إلى شخص يستمع إلى شكواه فلا يجد، ولو كان لا يريد منه شيئاً إلا مجرد السماع؛ لأن في بث الشكوى راحة، فبعض الناس من النعم التي حرموها أنهم لا يجدون أحداً يسمع شكواهم؛ لفَقْد صديق الخير، وصاحب الخير، لو ما سمع إلا الشكوى لكان في ذلك تنفيس وراحة، فكيف إذا كان سيعين ويساعد بعقله ومشورته، أو بماله وجاهه ومساعدته؟! خرج ابن مسعود مرةً على أصحابه فقال: [أنتم جلاء أحزاني].
وهكذا فعلاً يكون الإخوان تسليةً وتسريةً، يكون لقاء الأحبة مُصَفِّياً ومُنَقِّياً، ويكون طارداً للهم والغم.
12 - وكذلك فإن من أعظم النعم بمصاحبة الصالحين إن أُحْسِن الاختيار: تعلم العلم الشرعي.
13 - الإقبال على الدين.
14 - تكميل الشخصية.
15 - العون على العبادة.
16 - الحماس للطاعة.
17 - النصرة في الحق.
18 - الإعانة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
19 - السمو فوق عالم المادة.
20 - النجاة من اليأس.
21 - الرأي السديد.
22 - التخلص من العادات السيئة.
23 - البركة: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البركة في ثلاث: الجماعة، والثريد، والسحور).
فإن قال قائل: أين أجد الصالحين؟ فنقول: من مظان وجود الصالحين، أعظم المظان على الإطلاق بيوت الله تعالى.
عن الحسن بن علي قال: [من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثمان خصال: آية مُحكمة، وأخاً مُستفاداً، وعلماً مُستطرَفاً، ورحمةً منتظَره، وكلمةً تدله على هدى، أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياءً، أو خشية].
المنطَلََق من المسجد، وهكذا يعرف الإنسان الإخوان وينتقيهم.(43/4)
اختيار الصاحب
إذا قال قائل: إنني وجدت منهم عدداً، فأيهم الذي أصاحب؟
و
الجواب
نرجع إلى ما قاله السلف، فإنهم كانوا يفاضلون بين الأشخاص بأي شيء؟ بالعلم، والسنة، والعبادة، وخدمة الدين، والخلق.
ولذلك فإن الإنسان لا يعْدِم مِن الموازنةِ التي تقوده إلى صاحبه الذي يخالطه، ويتابعه، ويعاشره، ويأوي إليه.
فانظر فيهم: مَن أزكى علماً، وأشد اتباعاً للسنة، وأحسن خلقاً، وأكثر حرصاً على خدمة الدين والدعوة إلى الله؟ فعند ذلك تعرف من تخالط.
ولذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: "فالعجب ممن يترخص في المخالطة وهو يعلم أن الطبع يسرق، وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل ليُستفاد منه، فأما مخالطة الدون فإنها تؤذي، إلا إذا كانت للتذكير والتأديب" وهذه كلمةٌ عظيمة.
إن كنت أنت الذي تدعوه وهو دونك فنَعَم، وتعلمه وهو دونك فنَعَم، وإلا فإن الإنسان يحرص دائماً على صحبة الأرفع والأعلى والأكثر فائدة.
وتأمل في علاقة الإمام أحمد رحمه الله بـ محمد بن نوح كيف كانت متبادلة من الأعلى إلى الأدنى ومن الأدنى إلى الأعلى.
قال الإمام أحمد رحمه الله عن محمد بن نوح الشاب: ما رأيت أحداً على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد خُتِم له بخير.
وذلك لأنه لما أخذا معاً إلى المأمون في فتنة خلق القرآن مقيدَين فمات محمد بن نوح في الطريق، فغسله الإمام أحمد رحمه الله وكفنه وصلى عليه، وقال هذا الكلام في شأنه: إني لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير.
قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله! الله الله إنك لست مثلي! أنت رجلٌ يُقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لِمَا يكون منك، فاتقِ الله، واثبت لأمر الله.
قال: فمات، وفُكَّ قيدُه، وصليت عليه، ودفنته يرحمه الله.
اللهم ارحم موتانا، اللهم إنا نسألك صحبة الأخيار، وعيشة السعداء، وميتة الشهداء، وحياة الأتقياء، ومرافقة الأنبياء، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(43/5)
صحبة الأشرار وأضرارها
الحمد لله، وسبحان الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً رسول الله؛ الرحمة المهداة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله تعالى حذَّّرنا من أهل السوء، قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
يا من تُعاشِر صاحب سوء وأهل السوء! {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] لا تقعد بعد الذكرى مع أهل السوء؛ فإن الله نهاك عن ذلك: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] هؤلاء الذين يتبرأ بعضُهم من بعض، ويقول الواحد منهم يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28].
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ في دعائه من صاحب السوء كما قال: (اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء، ومن ساعة السوء، ومن صاحب السوء، ومن جار السوء في دار المقامة) لأنه ملازم؛ فإذا كان صاحب سوء فكيف يسلم من شره.
(أعوذ بالله من صاحب السوء) قرين السوء الذي لا يمكن أن تأمنه على شيء؛ لا على عرض، ولا على مال، ولا على سر، لا يعينك على خير، ويزين المعصية، ويحث على الخبث.
لا خير في صحبة من إذا حدثك كذبك، وإذا ائتمنته خانك، وإذا ائتمنك اتهمك، وإذا أنعمت عليه كفَرك، وإذا أنعم عليك مَنَّ عليك.
ينبغي أن يُخْتَبَر الناسُ قبل مؤاخاتهم وذلك عند الهوى إذا هوى، وعند الغضب إذا غضِب، وعند الطمع إذا طمِع، ليُنْظر ما حاله في هذه المواقف الثلاثة! قال شيخ الإسلام رحمه الله: الناس كأسراب القَطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض.
ولا تقل: إنه لا يضرني، فالصاحب ساحب، والتشبه حاصل.
واختر قرينك واصطفيه تفاخراً فكلُّ قرين بالمقارَن يَقتدي
مَن الذي علم أصحاب المخدرات المخدرات؟! ومَن الذي جر الفحش إلى كثير من أهل الفحش؟! ومَن الذي أعطى القصص الخليعة وروايات السوء إلى من تأثر بها؟! َمَن الذي جلب إليهم الأفلام؟! مَن الذي سافر معهم إلى بلدان الشر والفساد؟! مَن الذي ضيعهم عن أهليهم؟! مَن الذي جعلهم يضيعون أماناتهم، وزوجاتهم، وأولادهم؟! إنهم قرناء السوء، أثرهم واضح في الواقع، يضيِّعون العمر، إنهم مَرَضٌ وهَمٌّ، وغَمٌّ وعجز.
أيها المسلم! يا عبد الله! قد تكون أنت من أهل الخير، ولكن في نفسك شيء من الهوى إلى الجلوس إلى بعض أهل السوء، فإياك إياك أن يأخذك إلى أي مكان؟! إن صاحب الخير يأخذك إلى مسجد، أو حلقة علم، أو زيارة نافعة، أو عبادة وطاعة، أو قربة، أو يصحبك في حجٍ أو عمرة.
أما ذلك فيأخذك إلى مكان دمَّر حياةَ كثير من الناس! فهل من توبة؟! وهل من عودة؟! وأقل ما في صحبتهم: ضياعُ الأوقات.
حدثني واحدٌ قال: ذهبنا ووقفنا على أرجلنا إلى الساعة الواحدة ليلاً، ننتظر عملية القمار والميسر، ماذا ستكون نتيجتُها؟! ومَن الذي سيفوز بالسحب؟! ضاع الوقت، وضاع العمر، ومشاهدة المعصية، وهكذا الفكر الخالي، والعقل الخالي، والقلب الخالي؛ يسهُل جَرُّ صاحبِه.
والناس إذا كانوا أصحاب تفاهات لو قيل لهم: إن في فَتِّ البعر سراً لأقبلوا على فَتِّه؛ لأن كثيراً منهم ليسوا بأصحاب عقولٍ راجحة، فيسهل الضحك عليهم، ويسهل خداعهم، وهذا حال كثير من الناس.
فإذا لم يُوَفَّق الإنسان بصاحب عقلٍ راجح فكيف يكون العيش؟! وإذا كان الإنسان في مكان لم يجد فيه قريناً صالحاً، قد يعيش في مَجْمَع سكني، أو مكانٍ ناءٍ لا يجد فيه صحبة صالحة، يُبْتلى العامل بعمال حوله من النصارى والهندوس، أو غير ذلك ممن يكونون معه، فربما لا يجد أحداً من أهل الخير، فماذا يفعل عند ذلك؟ قال العلماء: فالأَولى للرجل في هذه الحالة ألا يزور إلا المقابر، ولا يفاوض إلا الكتب، وليستعن بالله على التوفيق، ويجعل خلوته أنساً بالله تعالى.
إذا لم تجد أصحاباً فخالط كتب العلماء، وإذا لم تجد صالحاً تزوره فزر القبور.
أيها الإخوة: كثيرٌ من الناس لا يغيرون العلاقات السيئة؛ لِقِدَم العهد وجريان العادة، فهو لَمَّا تعود على هذه الشلة لا يريد أن يفارقها؛ إن هناك جاذبيةً، إن سريان الوقت قد جعله متعلقاً بهم، فانتشال النفس من بينهم يحتاج إلى دينٍ، ومجاهدة، وإرادة قوية لا يُرْزَقُها إلا من أخلص النية لله من أجل الخلاص.
يا أيها الأب: ساهم في توجيه ولدك إلى أهل الخير في الوقت المبكر؛ فإن الولد إذا كَبُر فَبَنَى علاقاته بنفسه، فإنه يصعب عليك جداً أن تغيرها أنت، اختَر له قبل أن يختار هو، فإذا رأيته مال إلى أهل الخير فشجِّعه، وأيِّده، وانصره، ووافقه على ما مال إليه؛ لأنه فيه صلاح دينه ودنياه.
وبعضهم يقول للأخيار: أدفع لكم نقوداً وخذوا ابني.
وبعضهم اعتَبَر بضياع الولد الأول، فلا يريد أن يضيع الثاني، والذي رأى تجارب غيره لا يحتاج أن يجربها.
وهذه من مسئوليات الآباء في اختيار الأولاد الصالحين لمرافقة أبنائهم منذ السن المبكرة، وأن يتعاون الجميع على أن يوجدوا بيئات صالحة؛ وإيجاد البيئات الصالحة مسئولية عظيمة، وصدقة جارية، والله إن الذي يوجِد مجموعةً صالحة يعيش فيها ولده وولد غيره وولد جاره صدقةً جارية، تكون له في كل علم اكتسبوه، وخلق انتفعوا به.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذين ينشغلون بذكرك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اجعلنا ممن يصاحب الأخيار يا رب العالمين! اللهم لا تجعلنا من النادمين، اللهم لا تجعلنا من النادمين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين.
اللهم انصرنا على أعداء الدين، اللهم عجِّل فرج المسلمين.
اللهم إنا نسألك أن تهلك الكفرة الذين يعادون رسلك ويكذبون وحيك يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك وعذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، ونجنا برحمتك يا أرحم الراحمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(43/6)
حقها عليه
إن من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعلهما زوجين، ذكراً وأنثى، وجعل كلاً منهما يألف الآخر ويحن إليه، وقد جعل الشارع كذلك أسباباً وحقوقاً على كل من الزوجين تزيد في المودة والمحبة والألفة إن هم عملوا بها، ومن هذه الأسباب: حقوق الزوجة، وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذه المادة بعض حقوق المرأة على الرجل كالعشرة والنفقة وأحوالها، وما يصلح وما لا يصلح فيهما.(44/1)
من حقوق الزوجة: المعاشرة بالمعروف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: سنتحدث -يا أيها الإخوة- وما زلنا في الحقوق الزوجية، التي هي من الأمور الأساسية التي جاءت بها الشريعة في العلاقة بين الزوجين، وأن معرفة هذه الحقوق مما يدرأ المشكلات، ويجعل الحياة الزوجية حياة سعيدة, وأن كثيراً من أسباب الشقاء بين الزوجين يعود إلى الجهل بالحقوق الزوجية.
ولا شك أن هناك حقوقاً تعود إلى الزوجة، مثل: المهر.
والنفقة.
والمعاشرة بالمعروف.
وعدم الإضرار بالزوجة.
والوطء وما يتعلق به.
وأن هناك حقوقاً للزوج، مثل: طاعته.
وقرارها في بيته.
وألا تأذن لأحد بغير إذنه.
وأن تحفظ مال الزوج.
وأن تخدمه في بيته.
وله عليها حق التأديب إذا احتاج الأمر إلى ذلك.
وقد تكلمنا في المرة الماضية عن مسألة واحدة فقط من حقوق الزوج وهي: طاعتها له، ونتكلم اليوم عن حق من حقوق الزوجة، لنعود بعد ذلك إلى حقوق الزوج مرة أخرى، ونجعل هناك مناوبة بين الحقين.
فمن حقوق الزوجة على زوجها: المعاشرة بالمعروف: أما بالنسبة للمعاشرة بالمعروف، فإن من حقوق الزوجة على زوجها: معاشرته لها بالمعروف، قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ولا بد أن نعرف ما معنى المعاشرة بالمعروف، وما هي مستلزمات هذه المعاشرة.(44/2)
معنى المعاشرة والمعروف في الآية
ما المقصود بالمعاشرة؟ المقصود بالمعاشرة: المخالطة، والمصاحبة، وينبغي أن تكون هذه المعاشرة بالمعروف.
فما هو المعروف، بعد أن عرفنا معنى المعاشرة؟ قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحبون ذلك منهن، فافعلوا أنتم بهن مثله.
وقال بعض المفسرين: النَّصَفَة في المبيت، والنفقة، والإجمال في القول.
وقال الجصاص رحمه الله في هذه الآية: أمر الله تعالى الأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف، ومن المعروف: أن يوفيها حقها من المهر، والنفقة، والقَسْم -أي: القسم بين الزوجات إذا كان له أكثر من زوجة- وترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض عنها، والميل إلى غيرها، وترك العبوس والتقطيب في وجهها بغير ذنب، وما جرى مجرى ذلك.
إذاً: فَسَّر قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أن يوفيها حقها من المهر، والنققة، إذا كان له أكثر من زوجة، وأن يترك أذاها بالكلام الغليظ، والإعراض، والميل إلى غيرها، وأن يترك العبوس والتقطيب في وجهها بغير ذنب منها.
وقال القرطبي رحمه الله في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أي: عاشروهن على ما أمر الله به من حسن المعاشرة، وذلك بتوفية حقها من المهر، والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول؛ لا فظاً، ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها -لا يظهر الميل إلى غيرها- فأمر الله تعالى بحسن صحبة النساء، إذا عقدوا عليهن، لتكون أُدْمَة ما بينهم -أي: خلطة ما بينهم- وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش.
وقال الشيخ: محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]: أي: يجب عليكم -أيها المؤمنون- أن تحسنوا عشرة نسائكم بأن تكون مصاحبتكم ومخالطتكم لهن بالمعروف، الذي تعرفه وتألفه طباعهن، ولا يُسْتَنْكر شرعاً، ولا عرفاً، ولا مروءة، فالتضييق في النفقة، والإيذاء بالقول أو الفعل، وكثرة العبوس -عبوس الوجه وتقطيبه عند اللقاء- كل ذلك ينافي العشرة بالمعروف، والغرض أن يكون كل منهما مدعاة سرور الآخر، وسبب هنائه في معيشته.
وبالجملة: فإن قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] أن يجري مع زوجته بما جرى من عرف الناس، مما يعتبرونه من حسن المعاشرة، وتألُّف طباع النساء، وما يليق بكل زوجة بحسب حالها، بشرط ألا يُسْتَنْكَر ذلك شرعاً.
فإذاًَ مراعاة العرف -أيضاً- من الأشياء المهمة ما لم يخالف الشرع.(44/3)
حكم المعاشرة بالمعروف والأدلة عليها
ومعاشرة الأزواج للزوجات بالمعروف واجب، ليس مستحباً فقط، وإنما هو واجب؛ لأن الله أمر به، فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب؛ إلا إذا قام الدليل على صرفه إلى الاستحباب، ولا صارف، هناك أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولا يوجد صارف، إذاً ما حكم المعاشرة بالمعروف؟ واجب، إذا أخلَّ بها الزوج يأثم.
بل إن الأدلة متضافرة على وجوب المعاشرة بالمعروف، وتأكيد هذا الوجوب، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً) رواه الإمام مسلم.
وهذه الوصية من النبي عليه الصلاة والسلام، أن نستوصي بالنساء خيراً؛ لأنهن عَوان عندنا، وأسيرات، فلا بد من إحسان العشرة معهن، والمخالِف لذلك كثير، ولذلك إذا طغى الزوج، أو بغى، أو كان فظاً، أو غليظاً، أو سيئ المعاملة، أو نابي الألفاظ، أو مقصراً في النفقة، أو مقطباً في وجه زوجته، أو لا يكلمها، ولا يعطيها اهتماماً، ولا عطفاً، ولا حناناً، فإنه بالتالي يكون مخالفاً لهذه الآية، والمخالفة خطيرة، ولذلك ينبغي الرجوع إلى الكتاب والسنة.
وقد حث الإسلام على الالتزام بهذا الأمر، وجعل أكثر الرجال خيرية خيرهم لنسائهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم).
وجاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
فإذاً جعل الخيرية في طبقات الرجال مَن كان خيراً لأهله؛ لأنه إذا كان معاشراً بالمعروف لأقرب الناس إليه، ومن كانت خلطته دائماً معها وهي زوجته وهو معها بشر وحسن خلق وحسن معاشرة فمن باب أولى أن تكون علاقته مع الناس البعيدين حسنة، ومع الناس الذين يجدهم بين الفينة والفينة حسنة، ولذلك تجد القاعدة فعلاً مُطَّرِدَة، إذا كانت معاشرة الرجل مع زوجته حسنة، في الغالب تجد أن معاشرته مع جميع الناس حسنة.
ومما يؤكد وجوب المعاشرة بالمعروف للزوجة: التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم مع نسائه؟ كان جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف معهم، ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان إذا صلى العشاء، يدخل منزله يسمُر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم، ولذلك كَرِه السمر بعد العشاء إلا مع الأهل أو الضيف وما شابه ذلك من الحاجة، ولذلك فإن مسامرة الرجل لأهله من السنة، وسَمَرُه مع زوجته من السنة.
ولعلنا نفرد فصلاً خاصاً لمعاشرة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه في معاشرة زوجاته.(44/4)
ضوابط معاشرة الزوج لزوجته
ومع أن الإسلام أمر الزوج بمعاشرة زوجته بالمعروف، وجعل ذلك واجباً عليه، فإن هناك أموراً تعين الزوج على القيام بالواجب، ومنها:(44/5)
معرفة طبيعة المرأة
أولاً: معرفته لطبيعة المرأة: ولذلك إذا عرف طبيعة المرأة سهل عليه أن يعاشرها بحسب ما يحتاج الأمر، فمثلاً بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة خُلقت من ضِلَع أعوج، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضِلَع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها).
فإذا عرف الرجل أن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج، آدم لما خلقه الله أخذ ضلعاً من أضلاع صدره، والضلع معروف، ضلع الصدر لا بد أن يكون معوَجَّاً محنياً من جهة رأسه، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه) معنى ذلك: أن العوج موجود هنا أيضاً (إن أعوج ما في الضِّلَع أعلاه).
فمعرفة أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، يعني: أن الاعوجاج موجود في طبيعتها، ولذلك لا تستنكر إذا حصلت أشياء لا تستقيم عندك، لأنك تعرف طبيعة المرأة سلفاً، صحيحٌ أن هناك عاقلات من النساء أكثر من بعض الرجال، لا شك، وكَمُل من النساء أعداد، كَمُل من النساء أربع، وهناك غيرهن قريبات من الكمال، وبعض النساء أعقل من بعض الرجال، لكن الغالب أن كمال العقل عند الرجل أكثر، كَمُل من الرجال كثير.
والفساد يؤثر على الرجل، ربما يكون من شقائه: شربه للخمر، ومعاشرته، ومقارفة المنكرات، والكبائر، والفواحش، والأسفار، تكون المرأة هي العاقلة وهو الديوث، صاحب الفواحش الذي ليس فيه ولا يكاد يوجد فيه عقل، وتكون زوجته أعقل منه، وأربط للبيت منه، وأحفظ للبيت، ونحو ذلك؛ لكن الأصل أن الرجل هو الأعقل.
فالآن تأمل معي أن أصل الخِلْقة، لما خلقت المرأة من ضِلَع، والضِّلَع مُعْوَجٌّ من الأعلى، كان هذا الشيء الذي هو أصل الخِلْقة مؤثراً على النتيجة التي هي المرأة المخلوقة (وإن أعوج شيء في الضِّلَع أعلاه، إن ذهبت تقيمه كسرته) الآن هذا الضِّلَع معوجٌّ، اخلع ضلعاً من ذبيحة، وحاول أن تقيم هذا الضلع من الأعلى وتجعله مستقيماً، إن جئت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوجاً (استوصوا بالنساء خيراً) معناه: هذا شيء أصلي موجود، وإصلاحه الجذري يجب أن تستبعده.
ولكن لا شك أن الاعوجاج في النساء يختلف: فمنهن عاقلة موفورة العقل.
ومنهن من لا يكاد يوجد فيها عقل.
ولذلك لما قال: (استوصوا بالنساء خيراً) أي: اقبلوا وصيتي فيهن، واعملوا بها، وارفقوا بهن، وأحسنوا عشرتهن، (فإن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج) فلا يُنْكر اعوجاجها، وليست مفاجأة يعني: إذا تصرفت تصرفاً طائشاً ليست مفاجأة؛ لأنك تعرف سلفاً طبيعة الخلقة.(44/6)
أن الأصل في المرأة النقص وعدم الكمال
كذلك المرأة إن أردت إقامتها على الجادة تامة مرضية لا تَعْوَجَّ أبداً، لا يمكن؛ لأنك إذا أردت أن تستقيم المرأة (100%) ما يمكن، إلا بكسرها، وكسرها طلاقها، ولذلك إذا أردتها سليمة (100%) فإنه لا بد أن يؤدي ذلك إلى الشقاق والفراق وهو كسرها؛ لأنه لا يمكن، ليس من وسعها واستعدادها أن تكون (100%) مستقيمة، وإن صبرتَ على سوء حالها، وعدم قيامها بحق زوجها دام الأمر لك، ما دمتَ متوقعاً سلفاً، ومستعداً لما يصدر، ودام استمتاعك بها، وحصل بها الإعفاف وطلب الذرية الصالحة.
ولذلك قال في رواية الترمذي: (إن المرأة كالضِّلَع، إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عوج).
وقد جاء في شرح الحديث: إن المرأة كالضِّلَع، يعني: أن النساء في خلقهن اعوجاج في الأصل، فلا يستطيع أحد أن يغيرهن عما جُبِلْن عليه، ولذلك ما معنى هذا؟ يجب على الزوج ألا يقسو عليها إذا صدر منها بعض التقصير في حقه، ولا يحمله تقصيرها على التقصير بواجب المعاشرة لها بالمعروف، فإن التقصير منها لا يقابَل بالتقصير منه، يجب أن يعرف الرجل أن زوجته ليست مثله في القوة والعقل والتحمل، وأنها إذا قصَّرت فإنه يعلم سلفاً أن تقصيرها بسبب أصل خلقتها، ولذلك لا يقابِل هو هذا التقصير بتقصير فتتسع الهوة، أو أنه يريد منها ألا تخطئ في شيء، فلذلك بعض الرجال إذا رأى شيئاً بسيطاً من التقصير، تأخر الغداء خمس دقائق، فوجئ أن الثوب غير مكوي، حصل أيُّ تقصير، زيادة الملح في الطعام، أقام الدنيا ولم يقعدها، فهذا النوع من الأزواج لا يفهم طبيعة المرأة أبداً، ما يعرف حديث: (إن المرأة خلقت من ضِلَع أعوج) أبداً، ثم إن الخطأ البشري ممكن؛ لأن المرأة بشر، والرجل قد يخطئ في أشياء كثيرة في عمله، ربما ينسخ على ورقة ليست مما يُكتب فيه، ويأخذ نموذجاً غلطاً يعبئه، واستمارة ليست هي المطلوبة، الخطأ يقع من الرجل أيضاً في أشياء كثيرة، فليتوقع أنه إذا حصل خطأ من المرأة أنه يعفو ويسامح، ومن سامح فهو كريم.(44/7)
اعوجاج المرأة لا يعني عدم تقييمها
وكذلك فإن اعوجاج المرأة على النحو الذي بيَّنه الحديث لا يعني أن الزوج ما يقوم شيئاً في المرأة، هذه مسألة مهمة، ليس معنى الحديث تيئيس الرجل من تقويم زوجته، لا، لكن معنى الحديث: أن الرجل لو حاول كثيراً جداً، ثم لم تأتِ النتيجة على ما يريد، أنه لا يُحْبَط؛ لأن المسألة فيها طاقة وقدرة إلى هذا الحد، وأن هناك شيئاً جِبِلِّياً في الموضوع، وشيئاً خَلْقياً في الموضوع، وشيئاً فِطْرياً وغريزياً في القضية، وشيئاً أصلياً؛ ولكن لا يعني أن هناك أشياء لا تتحسن، بل إن هناك أشياء كثيرة تتحسن، لكن المقصود أنك لن تصل إلى الكمال؛ لكن يمكن أن تكون المرأة عندها اعوجاج كبير فيخف بالمتابعة، والمعاهدة، والتربية، والتعليم، والتوجيه، والملازمة، والتقويم، تتغير أشياء كثيرة في المرأة، ودلالة الحديث على ما في المرأة من الاعوجاج يعني: فقط أن الوصول إلى الكمال التام غير ممكن؛ لكن لا يعني أن التحسن غير ممكن، وهذا أمر يجب أن يفهم.
فطبيعتها تستعصي على التقويم الكامل؛ لكنها لا تستعصي على التقويم إلى درجة مهمة، وليس من المتعذر تقويمها على نحو مهم وكبير بحيث يحسِّن من حالها، وخدمة زوجها، وطاعتها له، ونحو ذلك.(44/8)
أن الرفق واللطف مطلوب في إصلاح الزوجة
ومن الأمور المهمة: أن يعلم الزوج أن إصلاح الاعوجاج يتطلب رفقاً ولطفاً، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله، ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نُزع منه إلا شانه).
وإذا لم تستقم الزوجة لزوجها، ولم تقم بحقوقه على النحو الذي هو يتمناه ويرجوه، وبقيت بقية من النشوز والاعوجاج، فعليه ألا يستغرب؛ لأن المسألة أصلية، ولا يحمله ذلك على كسرها وهو طلاقها، بل يتحملها ويحتسب تحملها عند الله، ويؤدي حق الله عليه فيها بحسن معاشرته لها، فهذا كَرَمُ الرجال ومروءة الأزواج، والرجل لا بد أن يكون عنده شهامة، ومروءة، وكرم.(44/9)
تذكر حسنات الزوجة
وكذلك من الضوابط الشرعية المهمة التي وردت في معاشرة الرجل لزوجه، مما يساعد على معاشرة الزوجة بالمعروف: أن يتذكر حسنات زوجته: وهذا الأصل وضحه عليه الصلاة والسلام بقوله في الحديث الصحيح: (لا يفْرِك مؤمنٌ مؤمنة -يعني: أي لا يكره- إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر، أو رضي منها غيره).
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: أي: ينبغي ألا يبغضها؛ لأنه إن وجد منها خُلُقاً يكرهه، وجد فيها خُلُقاً مرضياً يقبله، كأن تكون شرسة في الخُلُق لكنها ديِّنة -يعني: ذات دين جيد-.
وربما يكون فيها تقصير في الخدمة، لكن فيها جمال وعفة، وربما يكون عندها شيء من عدم الفطنة؛ لكنها رفيقة ومتحببة.
إذاً: من الأشياء المهمة أن يتذكر الرجل حسنات زوجته؛ لأن تذكر الحسنات يطغى على السيئات، ويغطي التقصير، فلا يصح للزوج أن يركز نظره على الجانب الكريه من الزوجة، وينسى الجانب المضيء منها، لا يركز على الجانب المظلم، وينسى الجانب الطيب، عليه أن يستحضر حسناتها معه، وهو ينظر إلى سيئاتها معه أيضاً.
إن هذا الاستحضار المزدوج يمكن أن يُسْتَشَف من قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
والله تعالى قال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1].
وقال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85].
فإذاً: العدل يقتضي ألا نغمض أعيننا نحن الأزواج عن حسنات المرأة إذا صدر منها أمر سيئ؛ لأننا إذا كرهنا منها خُلُقاً وجدنا منها خُلُقاً آخر مرضياً، وأن نعلم أنها امرأة غير معصومة من الخطأ، وأن الله عفو يحب من عباده أن يتشبهوا بما يجوز لهم التشبه فيه من صفاته، مثل: العفو، والكرم.
المخلوق عليه أن يقتبس من صفات الخالق التي يجوز له أن يقتبس منها لنفسه؛ ولذلك يكون الزوج عفواً كريماً.
وقال القرطبي رحمه الله: يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب.(44/10)
أن الخير قد يكون في المرأة التي يكرهها
ثم أيضاً من الأشياء التي تساعد على معاشرة الزوجة بالمعروف: ما قال الله تعالى في الآية: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19]: على الزوج أن يتذكر بأن الخير قد يكون في زوجته التي يكرهها، ويأتي عن طريقها، كأن يرزقه الله منها ولداً صالحاً تقر به عينه، وينتفع به المسلمون، فضلاً عن انتفاعه به هو في الدنيا، وانتفاعه به في الآخرة، كأن يكون ولداً صالحاً يدعو له، وربما ينفع الأب استغفار ولده له فترفع المنزلة في الجنة (فيقول: مِن أين لي هذا؟ فيقولون: باستغفار ولدك لك).
والآن هذه الآية يجب أن تؤخذ بتمامها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
إذاًَ: إذا كرهتم شيئاًَ، يمكن أن يكون فيه خير من وجه آخر.
ولذلك قال المفسرون {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19]: قال القرطبي: أي: لدمامة -إن كرهتموهن لقبح في الشكل، عدم وجود جمال- أي: لدمامة، أو سوء خلق، مِن غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، فإذا ما وصلت المسألة إلى الفاحشة والنشوز فوجود شيء من الدمامة أو شيء من سوء الخلق يُنْدَب الزوج إلى تحمله؛ لأنه عسى أن يئول الأمر إلى أن يرزقه الله منها أولاداً صالحين، ويجعل الله منها خيراً كثيراً.
وقال ابن كثير رحمه الله في هذا الآية: أي: فعسى أن يكون في إمساكهن مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة.
كما قال ابن عباس في هذه الآية: [هو أن يعطف عليها فيُرزَق منها ولداً أو يكون في ذلك الولد خير كثير].
وقال ابن العربي رحمه الله: المعنى: إن وجد الرجل في زوجته كراهيةً، وعنها رغبةً -يعني: رغب عنها، وليس فيها- ومنها نفرة، من غير فاحشة ولا نشوز، فليصبر على أذاها، وقلة إنصافها، فربما كان ذلك خيراً له.
وكذلك قال بعضهم: إنكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف، فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير، مثل ولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة، والنفرة رغبة، أو حصول الثواب الجزيل من الله؛ لتحمُّلِه إياها، والإحسان إليها، مع كراهيته لها.
فإذاً: لاحظ أنهم قيدوا المسألة بما إذا لم يكن هناك فاحشة أو نشوز، إذا وجدت فاحشة فالمسألة انتهت، ليس هذا مما يُتَحَمَّل.
{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] قال الشيخ: محمد رشيد رضا رحمه الله: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] أي: لعيب في الخَلْق أو الخُلُق مما لا يعد ذنباً لهن، أو لتقصير في العمل الواجب عليهن في خدمة البيت والقيام بشئونه، مما لا يخلو عن مثله النساء -يعني: الخلق هذا أو الاعوجاج أو التقصير موجود عند عامة النساء، إذا كان شيئاً موجوداً عند عامة النساء اصبر عليه، فالذي عند غيرك مثل الذي عندك، والتقصير الذي تشعر به يعاني منه كثيرون، فإذاً: المسالة في حدود العموم الموجود المنتشر الذي لا يخلو منه بيت، ولا تخلو منه امرأة- فلا تعجل بالمضارة والمفارقة {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ومن الخير الكثير، بل أهمه وأعلاه: الأولاد النجباء، فرب امرأة يملها زوجها، ويكرهها، ثم يجيئه منها ما تقر به عينه من الأولاد النجباء، فيعلو قدرها عنده، ومن الخير الكثير أن يصلح حالها بصبره وحسن معاشرته، فتكون من أعظم أسباب هنائه.
ولذلك بعض الناس يقول: أنا أول خمس سنوات من زواجي تعبت جداً، ولكن بعد ذلك ارتحت إلى الغاية، بسبب أنه صبر على اعوجاج الزوجة، ومن صبر ظفر.
والحاصل أن الدين يسر، والإسلام يوصِي المسلمين بحسن معاشرة في النساء والصبر عليهن إذا كرههن الأزواج، رجاء أن يكون فيهن خير كثير.(44/11)
أن يعرف الرجل مركزه في البيت وقوامته
ثم من أسباب المعاشرة بالمعروف، ومما يعين على المعاشرة بالمعروف: أن يعرف الزوج مركزه في البيت: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] أن يتذكر ذلك دائماً، ولا ينساه، أن له القوامة على زوجته، والرياسة على عموم العائلة، وأن أمره نافذ، وطاعته واجبة في غير معصية الله، وزوجته كالرعية بالنسبة إليه، وكالأسيرة بين يديه، والشأن في المسلم الذي يخاف الله، ويتذكر نعمه، وفضله عليه، أن جعله بمركز الراعي لزوجته، وهي كالأسيرة بين يديه، الشأن به أن يترفق بزوجته، ويحسن إليها، وألا يكون فظاً غليظاً معها.
ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]: [الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخُلُق] يعني: يتحامل الإنسان على نفسه.
فالمأمول والمرجو من الزوج المسلم أن ينأى بنفسه عن التعسف في استعمال سلطته الزوجية، وألا يسيء استعمال هذه السلطة ولا يستغل مركزه في البيت على نحو يضر بالزوجة، وليعلم أنه إذا ازداد تسامحاً مع زوجته وعفواً عندما يتكرر التقصير فإنه في هذه الحالة يصل إلى مبتغاه، من جهة أنه يجذبها إلى أن تتراجع عما هي متعنتة فيه عندما ترى عفوه ومسامحته.
ولا شك أن القوي يستحي من إظهار عضلاته على مخلوقة ضعيفة.
والرسول صلى الله عليه وسلم لَمَّا شبه المرأة بأنها عانية عند زوجها، أي: أسيرة، ومعنى أسيرة: أنها مغلوبة على أمرها، وأنه هو المتحكم فيها، فينبغي أن يحسن إلى الأسيرة الموجودة عنده، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم) وعوان: جمع عانٍ، والعاني هو: الأسير، وقوله: (فكوا العاني) العاني هو: الأسير.
فالمعاشرة بالمعروف: واجب على الزوج نحو زوجته كما هي واجب عليها نحو زوجها، وهذا ما أكده الإسلام وحث عليه، ولذلك رخص الكذب لأحد الزوجين فيما يُسْتَجْلَب به المودة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (لا أعده كذباً، الرجل يصلح بين الناس، الرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها) ومعنى هذا: أن الإنسان لو قال لزوجته مثلاً: إن هذا أحسن طبخ رأيته وطعمته في حياتي، وإن هذا أفضل أكلة أكلتها، ونحو ذلك، وهذا الكلام فيه مبالغة؛ لكن الرجل يتوسع فيه من أجل تأليف قلب زوجته، ولو أنها قالت له: أنت أكرم رجل في الدنيا ممن رأيت أو ممن عرفت ونحو ذلك، ولو كان هناك أكرم منه ممن تعرفهم من أقربائها مثلاً، فإن هذا الكلام لتأليف قلب زوجها لا بأس به ولا حرج، ولا يُعتبر كذباً.
فالكذب من أجل إصلاح ما بين الزوجين، أو تأليف كل واحد منهم للآخر لا بأس به.(44/12)
ذكر الزوجة بالخير والثناء عليها
ومن المعاشرة بالمعروف: أن الرجل لا يزال يذكر زوجته بخير، ولو بعد وفاتها: وقد كان صلى الله عليه وسلم حسن العهد وفياً، وكان كثيراً ما يحسن إلى خديجة بعد وفاتها، رضي الله عنها، فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غِرْتُ على امرأة ما غِرْتُ على خديجة، ولقد هَلَكَتْ قبل أن يتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، لِمَا كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة، ثم يهدي في خَلَّتها منها) يعني: في صُوَيْحِباتِها منها، وهن خلائلها وصديقاتها.
وورد في البخاري في الأدب المفرد: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتِي بالشيء يقول: اذهبوا به إلى فلانة، فإنها كانت صديقة لـ خديجة).
وأخرج الحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت عجوز إلى النبي صلى الله وعليه وسلم، فارتاع لها وخرج، فقال: كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلما خَرَجَت قلت: -يعني عائشة غارت- يا رسول الله! تُقْبِل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: يا عائشة! إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان).
(وجاءت هالة أخت خديجة، فقام وارتاع لها، ويسأل عن حالهم، وعن أخبارهم، فكانت عائشة تقول: ما تريد من امرأة حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيراً منها؟! -يعني: يعني: ماذا تريد بعجوز قد أبدلك الله خيراً منها- قال: إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) فهو لا يزال يذكر زوجته الأولى خديجة، ولا شك فهي التي أعانته لما نزل الوحي، وهي التي هدَّأت من روعه، وهي التي آزرته ونصرته، وهي التي دعمته بمالها وساعدته، وكانت نعم الزوجة لزوجها، ولذلك بُشِّرت خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
فهذا من المعاشرة بالمعروف، والمعاشرة بالمعروف من الحقوق المشتركة.
فإننا قلنا: إن هناك حقوقاً على الزوج وحقوقاً على الزوجة، وهذا الحق وهو المعاشرة بالمعروف من الحقوق المشتركة، ولذلك فإن حسن المعاشرة مذكورة في الآية في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] لاحظ بلاغة القرآن في بيان الحق المشترك: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فلكل من الزوجين حق المعاشرة بالمعروف على الآخر؛ ولكن يختلفان في المعروف في الحق في بعض المواضع.
ولذلك قال العلماء، ويسن لكل من الزوجين تحسين خُلُقه لصاحبه، والرفق به، واحتمال أذاه.
ولذلك جاءت الشريعة بالحرص على دوام حسن المعاشرة بين الزوجين، وأن تكون الروابط قوية ومتينة، وإزالة ما يكدر هذا الصفو، إذا حصل شقاق فهناك علاجات، لعلنا نذكر تفصيلها كما في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} [النساء:35].
فهنا يتبين مسألة حق الزوجة على زوجها في المعاشرة بالمعروف.
وهناك أشياء أخرى تفصيلية سنذكرها في النفقة، والوطء، والمبيت، والعدل بين الزوجات، مما يجب على الزوج، وأشياء أخرى تفصيلية في القرار في البيت، والاستئذان، وحفظ المال، ونحو ذلك مما سنذكره في حقوق الزوج على زوجته.
والحمد لله رب العالمين.(44/13)
حق النفقة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد سبق الكلام -أيها الإخوة- في الحقوق الزوجية في أمور شتى.
وسنتكلم في هذه الليلة إن شاء الله عن مسألة مهمة، ذكرها الفقهاء، وتعرضوا لها، ألا وهي: موضوع نفقة الزوجة.(44/14)
أدلة وجوب النفقة على الزوج
من حقوق المرأة التي جاءت بها الشريعة: وجوب نفقة المرأة على زوجها، وعلى هذا دلت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وأجمع عليه العلماء، ولوجوب النفقة للزوجة على زوجها شروط معينة، وهي مقدرة شرعاً، لكفايتها من الطعام واللباس، والسكن، على قدر حال الزوج يساراً وإعساراً.
وهذا النفقة فرض على الزوج لا بد أن يقوم به، ولا تسقط عنه، بل تصبح ديناً في ذمته إذا عجز عنها.
وهناك أمور كثيرة تتعلق بالنفقة، مثل: وجوبها، وكيفيتها، وأنواعها، ومقدارها، واستيفائها، والاختلاف فيها، ومسقطات النفقة.
أما وجوب نفقة الزوجة: فإنه واضح من الكتاب العزيز كما ذكر أهل العلم، واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على الزوج النفقة والكسوة؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة:233]: عليه، فيفيد الوجوب {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
وثبت من قوله عليه الصلاة والسلام: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هند زوجة أبي سفيان: (خذي -يعني: من مال زوجك أبي سفيان - ما يكفيك وولدك بالمعروف).
قال ابن قدامة رحمه الله: نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع، واحتج بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ} [الطلاق:7] هذا أمر {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] وبقوله صلى الله وعليه وسلم: (اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن، وكسوتهن بالمعروف).
وقد دل الكتاب العزيز على وجوب إسكان الزوجة في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6].
يعني: على قدر ما يجد أحدكم من السعة والمقدرة، والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق أيضاً؛ لأنها لا تصل إلى النفقة إلا بالخروج للاكتساب، وهي ممنوعة من الخروج بحق الزوج، إذاً وجب عليه أن يكفيها الخروج، وأن ينفق عليها.
وقال الله تعالى: {تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق:6] أي: لا تضارُّوهن في الإنفاق، فتضيقوا عليهن النفقة، فيخرجن لطلبها.
وقال الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].(44/15)
سبب وجوب النفقة على الزوجة
وما هو سبب النفقة على الزوجة؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن سبب وجوب النفقة على الزوجة، أنها محبوسة عند زوجها بحبس النكاح، ممنوعة من الخروج للاكتساب؛ لأنها إذا كانت محبوسة عنده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإنهن عوان عندكم) ولا يجوز لها أن تخرج إلا بإذنه، فمعنى ذلك أنها لا تستطيع أن تخرج لتكتسب إلا بإذنه، وهي محبوسة لحقه، متفرغة لشأنه وأولاده وبيته.
فإذاً لا بد أن تنال كفايتها، وكل من كان محبوساً على أمر من الأمور بحيث يشغله هذا الأمر عن النفقة على نفسه، فإنه يُفرض له من بيت المال، كالقاضي والمفتي ونحوهم، إذا فُرِّغوا لأجل مصالح المسلمين، وجب أن يعطوا من بيت المال النفقة عليهم.
وكذلك المرأة محبوسة عن النفقة، أسيرة في بيت زوجها، فكان لا بد له أن ينفق عليها.
وذهب بعض أهل العلم -أيضاً- إلى أن سبب نفقة الزوجة على زوجها التي يجب أن يسلمها إياها هو تسليم نفسها إليه، وتمكينه تمكيناً تاماً من الاستمتاع بها، فإذا كانت الزوجة قد سلمت نفسها لزوجها وجب على زوجها أن ينفق عليها.
وقال العلماء: إذا بذلت الزوجة تسليم نفسها البذل التام، بألا تسلم في مكان دون آخر، أو بلد دون آخر، بل بذلت نفسها لزوجها، وخلَّت بينها وبينه؛ بحيث يستمتع بها متى شاء، فإنه يجب عليه أن ينفق عليها.
إذاً: إذا سلَّمت نفسها للزوج وجب الإنفاق.
فلو قال قائل: أنا عقدت على امرأة وهي عند أبيها، ولم تسلِّم نفسها بعد، هل يجب علي أي نفقة؟
الجواب
لا.
لأن النفقة لا تجب إلا عند تسليم الزوجة لنفسها، فإذا سلمت نفسها، فإنه يجب على الزوج أن ينفق عليها.
وكذلك فإن العقد الصحيح سبب لوجوب النفقة، لأن العقد الفاسد ليس فيه نفقة، ولا يجب على الزوج أن ينفق عليها، ولذلك بعض الذين يسافرون إلى الخارج، ويقترفون المحرمات، ويفعلون الفواحش، ثم ترسل له الزانية بصورة البنت أو الولد قائلة: أرسل النفقة! هل عليه نفقة؟ ليس عليه نفقة؛ لأن هذا زنا وليس بزواج، وهذه البنت ليست ابنته، بل هي بنت الزانية تُنسب إليها، ولذلك لا نفقة لها، ولا لمن يأتي من الزنا، فالنفقة من النكاح الصحيح، وليس من النكاح الفاسد.
وكذلك فإن الزوجة إذا نشزت وامتنعت عن تسليم نفسها لا نفقة لها، فتسليم الزوجة نفسها للزوج في نكاح صحيح، وحبسِها لنفسها في بيته هو سبب النفقة.
فإذاً: لا يجوز للزوجة أن تمتنع عن تسليم نفسها لزوجها بدون سبب شرعي، وعليها أن تخلي بين نفسها وبين زوجها، وفي هذه الحالة تستحق النفقة، وإذا امتنعت عن الذهاب معه إلى بيته، فليس لها نفقة.
وينبغي أن يكون تسليمها لنفسها حقيقياً بأن تأتي إلى بيته، فإذا زفت إليه -مثلاً- تم التسليم، كما يُعتبر التسليم حاصلاً حكماً إذا كانت مستعدة للانتقال إلى بيته في أي وقت شاء؛ لكنه هو الذي أخر هذا الانتقال، فهي إذاً جاهزة من أجله، فهنا يجب عليه النفقة.(44/16)
حالات يحق للزوجة فيها الامتناع عن تسليم نفسها
وللزوجة أن تمتنع عن تسليم نفسها بسبب شرعي، من أمثلة ذلك:(44/17)
الامتناع عن إعطائها مهرها المعجل
ألا يعطيها مهرها وحقها: فإذا امتنع عن إعطائها المهر، جاز لها أن تمتنع عن الحضور إلى بيته، المهر المعجَّل الذي اتفقوا على تعجيله، سواءً أكان المهر كاملاً معجلاً أو جزءاً منه معجلاً، لا بد أن يسلَّمَ المهر كاملاً، وإذا لم يسلِّم المهر جاز للمرأة أن تمتنع عن تسليم نفسها، ويكون امتناعها مشروعاً؛ لأنه هو الذي امتنع عن تسليم الحق.(44/18)
عدم تهيئة البيت الشرعي لها
وكذلك عدم تهيئة البيت الشرعي: كأن يسكنها في بيت ضرتها، أو في بيت فيه بعض أهله، أو في بيت لا تتوفر فيه شروط البيت الشرعي، فإن لها أن تمتنع عن تسليم نفسها إليه.
ولذلك فإن من حقها أن يسكنها في دار مفردة لها؛ لأن السكن من كفايتها.(44/19)
إذا سافر بها إلى بلاد الكفار أو بلد غير مأمون
وكذلك إذا أراد أن يسافر بها سفراً غير مأمون: أو أن يسافر بها إلى بلاد الكفار، ويجلسها هناك في مكان الفتنة، لغير حاجة ولا ضرورة فإن لها أن تمتنع، ويكون امتناعها امتناعاً شرعياً.(44/20)
حالات نشوز المرأة
أما إذا نشزت المرأة، وعصت الزوج، وامتنعت عما أوجبه الشارع عليها، كما لو امتنعت عن فراشه، أو خرجت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مناسب لها، أو امتنعت من السفر معه سفراً مباحاً، فإنها في هذه الحالة لا نفقة لها؛ لأنها ناشز وعاصية، وخروج المرأة من بيت زوجها بدون إذنه يعتبر نشوزاً يسقط حقها في النفقة؛ لأنها بهذا الخروج قد خرجت عن طاعته، وفوتت عليه حق الاستمتاع بها، وخدمتها له.
فمتى امتنعت من فراشه، أو خرجت من منزله بغير إذنه، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن لائق بها وشرعي متوفر فيه كل الشروط، ليس بمسكن ضرة ولا ضرار، أو امتنعت من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى.
فلو قال: تأتين معي إلى هذا البيت، أو إلى هذا البلد، الذي صار فيه رزقي وعملي، فامتنعت بدون سبب شرعي، ولا شرطت شيئاً في العقد، فإنها ناشز وعاصية، ولا نفقة لها.
ولو قالت له: أرسلني يجوز له أن يمتنع عن الإرسال؛ لأنها عاصية وناشزاً.
أما إذا شرطت في العقد ألا تسافر من بلد أهلها -مثلاً- ووافق الزوج، فإن شرطها ملزم للزوج، وملزم للإنفاق عليها، ولو غادر هو البلد.
نقول أيضاً: إن امتناع المرأة ونشوز المرأة يعتبر مسقطاً للنفقة.
وكذلك إذا خرجت من بيته بدون إذنه، فإنها تعتبر ناشزاً إذا كان خروجها لغير سبب مشروع.
وكذلك فإنها إذا امتنعت عن الزفاف والقدوم إلى بيت زوجها، وقد أعطاها مهرها المعجل، وقالت: لا آتي إلى بيتك، ولا أريد الدخول، ولا أريد الزفاف، فإنها في هذه الحال تعتبر ناشزاً، ولا نفقة لها.
وكذلك إذا امتنعت عن الوطء، وعن إعطاء الزوج حقه بالاستمتاع، فإنها تعتبر ناشزاً إذا امتنعت عن الوطء أو مقدماته بدون سبب شرعي، بحيث كان ممكناً لها حصول الوطء والاستمتاع من قبل الزوج؛ ولكنها تأبَّت وتمنعت وخرجت عن فراشه، فإنها لا نفقة لها، وتعتبر ناشزاً عاصية لله تعالى.
وأما خروج المرأة للحج، فإن كان الحج فريضة أو العمرة واجبة فإن خروجها صحيح، ولها النفقة؛ لأنها فعلت ما أوجب الشرع عليها.
وكذلك صيام رمضان، فإنها تمتنع عن زوجها بالاستمتاع لأجل حق الله.
ولذلك لا يعتبر امتناعها في نهار رمضان عن زوجها نشوزاً، ولا يعتبر خروجها لحج الفريضة أو العمرة الواجبة خروجاً ولا نشوزاً عن طاعة زوجها، وبالتالي النفقة تكون سائرة ومستمرة لها، ولا تعتبر ناشزاً في هذه الحالة، بخلاف خروجها في حج النافلة بغير إذن الزوج؛ فإنها تعتبر ناشزاً.
وأما خروج الزوجة الموظفة أو ذات الحرفة إلى العمل: هل يعتبر نشوزاً أم لا؟ إذا كانت شرطت على زوجها ذلك في العقد ووافق، وكان العمل حلالاً، أو سمح لها الزوج بالخروج، فإن خروجها صحيح إذا كان بالشروط الشرعية، ولها النفقة حتى لو كانت موظفة، لها النفقة، أما إذا لم يسمح لها الزوج بالخروج، وأمرها بالقرار في البيت، فخرجت بدون إذنه إلى وظيفتها -مثلاً- فإن خروجها يعتبر نشوزاً، فهي لم تحتبس في بيت زوجها، ولم تجلس فيه، وفوتت عليه مقاصده، وما يريد منها من القرار في البيت، فإن استمتاعه يكون به ناقصاً إذا كانت في النهار تعمل وتكدح، فتكون في الليل عنده متعبة.
فإذاً إذا لم يحصل منها اشتراط، ولم يسمح لها الزوج، فإن خروجها للوظيفة نشوز يُسقِط النفقة، وعليها أن تتوب إلى الله، وترجع عن هذا النشوز؛ لأنها تكون عاصية لله تعالى، فإذا تابت إلى الله، وأطاعت برجوعها إلى بيته، عادت النفقة لها لعودها إلى الطاعة.(44/21)
حكم النفقة حال الإعسار والغيبة
وكذلك فإن المرأة إذا كانت ذات زوج معسِر، فما هو حقها في النفقة؟ إذا كان معسراً فإن حقها في النفقة ثابت، ويكون ديناً على زوجها، يجب عليه الوفاء به إلا إذا سامحته، ولا شك أن أمور الزواج مبنية على التسامح والمحبة، ولكن الحقوق لا بد من ذكرها حتى يُعرف الحد، وأما بالنسبة لقضية التسامح فإنها لا بد أن تكون هي الطاغية والحاصلة؛ ولا يكون شأن الزوجين التحاكم إلى القاضي في كل صغيرة وكبيرة، ولكن إذا علم كل واحد منهم ما أوجبه الله عليه فإنه يسارع إلى بذله، وكذلك ينفع هذا العلم عند حصول الخلاف، فيعرف كل من الزوجين ماذا يجب عليه.
ثم إن بعض انتهاكات الحقوق الشرعية هي من مسببات الخلاف في الغالب، فتقصير الزوج في النفقة من مسببات الخلاف، خروج الزوجة للعمل من مسببات الخلاف.
انظر إلى مسببات الخلافات الزوجية تَجِد أن أكثرها يعود إلى مُخالَفة هذه الحقوق التي تذكر.
والزوجة إذا غاب زوجها عنها، فإن عليه أن ينفق عليها أثناء غيابه، وأن يرسل لها بالنفقة في غيبته؛ لأنها سلمت نفسها، لكن هو الذي سافر.
وبالتالي فإن زوجة الغائب نفقتها على زوجها، إذا كانت قد سلمت نفسها إليه؛ ولكنه هو الذي سافر عنها.
والنفقة تصير ديناً في ذمة الزوج إذا امتنع عن أدائها، وإذا كان معسراً فإنها تبقى ديناً عليه، وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] وكلمة (على) تفيد الإيجاب، فأخبر سبحانه عن وجوب النفقة والكسوة، وأطلق ذلك عن الزمان، أي: أنه دائماًَ عليه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فإذا وجبت فإنها لا تسقط، لأنها مثل الحقوق، فإنها ما دامت عنده مسلِّمة نفسها يستمتع بها، فالنفقة عليه.(44/22)
أنواع النفقة على الزوجة
وكذلك فإن النفقة على الزوجة أنواع: الله تعالى يقول: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] هذا المطلقة الرجعية، لها النفقة والسكنى، فمن باب أولى الزوجة التي ليست بمطلقة.
وقد قال حكيم بن معاوية القشيري: (يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تقبح الوجه، ولا تهجر إلا في البيت).
وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هن عوان عندكم، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا لهن في كسوتهن وطعامهن).
فدلت الآيات والأحاديث على أن الزوج ملزم بالنفقة على زوجته في هذه الأنواع الثلاثة، ما هي الأنواع الثلاثة؟ أولاً: السكن.
ثانياً: الطعام.
وثالثاً: الكسوة.
ثلاثة أشياء واجبة على الزوج، يلزمه كل ما تحتاج إليه المرأة من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن، وتوابع هذه الأشياء، كما قلنا، مثل: الخادم إذا كانت من أهل بلد هذا عُرْفُهُم، لا يمكن أن تعيش بدلاً منه، وهذا قضية تختلف باختلاف الأحوال.(44/23)
أدوات الزينة والتنظيف والأدوية
وكذلك تكلم الفقهاء رحمهم الله تعالى في مسألة أدوات الزينة، والتنظيف، والطيب، والأدوية، وأجرة الطبيب.
بالنسبة لهذه الأشياء، فإنه إذا لم يكن عليه واجباً، فإنه لا بد أن يكون من مكارم الأخلاق، وحسن العشرة، أن يداويها إذا احتاجت، وأن ينفق عليها بأجرة الطبيب؛ لأن علاجها من مصلحته هو، ومرضها يفوت عليه الاستمتاع، وإنجاب الولد ونحو ذلك، وكثيراً ما تكون المرأة ليست ذات مال، وإنما معتمدة بعد الله على زوجها اعتماداً كلياً، فمن المعاشرة بالمعروف وهي شريكة العمر أن ينفق عليها فيما تحتاجه من الأشياء الأخرى، مثل: الأدوية، ونفقة الطبيب، وأدوات الزينة، والطيب، ونحو ذلك.
ولو أن جمهور الفقهاء قد قالوا بأنه: لا يجب على الزوج الزينة، وأدواتها؛ ولكنه إذا طلب التزين لزمه أن يأتي بأدوات الزينة.
قال الفقهاء: وعلى الزوج لزوجته مئونة نظافتها من دهن وسدر مثل: الصابون الآن، والشامبو، وغيره، وثمن ماء، ومشط، ويلزم الزوج ما يراد لقطع رائحة كريهة من جسمها.
أما الحناء والخضاب ونحو ذلك من الأصباغ، مثل: ما يُحَمَّر به وجه، أو يُسَوَّد به شعر، فلا يُلْزَم الزوجُ بذلك؛ لأن ذلك من الزينة فلا يجب عليه.
كما لا يجب عليه شراء الحلي، ولكن لو طلب الزوج من زوجته ما تتزين به له فهو عليه.
وهو إذا أرادها للاستمتاع فإنه لا بد أن يعطيها ما يحصل به الاستمتاع من الطيب، وأدوات التنظيف، والحلي، ونحوه، إذا طلب منها لبسه وجب عليه أن يشتريه هو.
ثم إن من مكارم الأخلاق أن يهديها في الأعياد وغيرها من الحلي على قدر ما أعطاه الله تعالى.
فلو راجع الإنسان كتب بعض الفقهاء، ووجد فيها كلاماً عن عدم وجوب شراء الحلي، فهذا لا يعني أنه لا يكون من المستحب، ومن المعاشرة الطيبة، فالهدية إذا كانت مطلوبة بين الإخوان فالزوجة من باب أولى؛ لأنها أقرب الناس إلى زوجها، ولكن المرأة في المقابل لا تكلِّف زوجها ما لا يطيق، فتشترط أنواعاً من المكياجات، وأشياء من الحلي لا قِبَل للزوج بشرائها، وربما امتنعت عن فراشه إذا امتنع عن الإتيان بها، وعجز عن الإتيان، وربما خرجت من بيته، وبهذا تكون ناشزة.
فإذا علمت المرأة أن هذه الأشياء الزينة والحلي في الأصل أنها ليست واجبة على الزوج، وإنما يفعل ذلك منه تكرماً وتلطفاً، فإنها لابد ألا تثقل عليه بطلب هذه الأشياء والمغالاة فيها، وإنما تطلب بما هو متعارف عليه، ومعتاد، وما هو -وهذا هو الأهم- في طاقة الزوج وحدوده التي لا يستطيع أن يتعداها.
ولذلك فإن هذه المسألة من القضايا المهمة، ولا بد من معرفتها؛ لأنها تكون مثار خلافات زوجية كثيرة.(44/24)
الطعام
أما بالنسبة للنفقة، فإن نفقة الطعام تختلف باختلاف قوت البلد، وما كان غالباً على قوت البلد يجب على الزوج أن يأتيها به، في ما يسد كفايتها, وهذا الواجب ينبغي أن يكون معلوماً، خصوصاً عند حدوث الخلاف أو الشقاق، فيما يجب عليه في قضية النفقة.
ونحن في الأحوال العادية ربما لا نَسأل عن ذلك، ولا نحتاج إلى أن نعرف أن على الزوج الموسر مُدَّان من الطعام كل يوم لزوجته، لا داعي لهذا، فهو يشتري الطعام، ويأتي به للعائلة كلها، وهي تطبخ له ولها وللأولاد؛ ولكن إذا علمنا أن هناك بعض الأزواج بخلاء للغاية، حتى الطعام لا يأتون به إلى البيت، وربما تجلس المرأة ما عندها خبز في البيت، ولا ترى اللحم، وربما مِن بُخله يقول لها: اذهبي واستعيري من الجيران، خذي من هؤلاء خبزاً، ومن هؤلاء لحماً، ومن هؤلاء خضاراً، ومن هؤلاء فاكهةً.
ولذلك ترى المسكينة إلى أي شيء تحتاج وتُدفع! تطرق الأبواب وزوجها مِن بُخله لا ينفق عليها، لو كان فقيراً لقلنا: مسكين، يُعطَى من الصدقات ومن الزكاة ومن الجيران ومن غيره، لكن بعض الناس عنده البخل والعياذ بالله مرض مستحكم، ولذلك الجيران يقولون: طبخة هؤلاء الجماعة علينا مقسطة، يأخذون الخبز من هؤلاء، والطماطم من هؤلاء، والخضار من هؤلاء، واللحم من هؤلاء، ويستلفون حتى الملح، أعطونا ملحاً، أعطونا كبريتاً، أعطونا، ما عندكم حفائظ أطفال؟ ما عندكم؟ ويستعيرون فعلاً أشياء يخجل الإنسان من ذكرها، بسبب بخل الرجل.
ولذلك عندما نفتح ونقرأ في كتب أهل العلم، وأنهم أوجبوا على الزوج وماذا يجب عليه في النفقة بالتحديد، ماذا يجب عليه من الطعام، وماذا يجب عليه من الإدام، وماذا يجب عليه في اللحم، وماذا يجب عليه في الماء، وماذا يجب عليه في الملابس، وقضية النفقة في الشتاء والصيف، فهذه المعلومات مهمة في مسألة إلزام الزوج البخيل بإخراج النفقة، وبإعطائها إياها، فإن بعض الناس والعياذ بالله ربما لا يدفع إلا تحت تهديد القاضي.
فالشاهد: أن ما غلب على البلد من الإدام والطعام، ما هو مستعمل فيه من زيته وسمنه وجبنه وتمره وخله وملحه ونحو ذلك، فإن عليه أن يأتيها بكفايتها.
وهذا أيضاً متعلق بيسار الزوج وإعساره وتوسطه، فإذا كانت عادة أهل البلد تناول اللحم في كل يوم، كان لها ذلك، ولا يتقدر بوزن، وينبغي عليه أن يأتيها به، وللزوجة كذلك على زوجها ماء الشرب، ذكر ذلك الفقهاء، وربما يستغرب البعض هذا، ولكن في بعض الأماكن لا يكون الماء واصلاً إلى البيوت، فعليه أن يأتي بالماء إلى البيت ولا يتركهم بغير ماء، وربما ينقطع الماء في بعض البيوت، وربما ينقطع يوماً أو يومين متواليين أو أكثر، فمن النفقة أن يأتي لها بالماء، ينبغي أن يَعْلَم ذلك.
وهذه النفقة مقدرة بالكفاية: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] أوجب الله النفقة مطلقاً غير مقيدة بتقدير وسمَّاها رزقاً: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة:233] يجب أن يرزق زوجته، ورزق الإنسان كفايته في العرف والعادة.
ولما جاءت هند امرأة أبي سفيان، قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف).
فإذاً: يجوز للمرأة أن تأخذ كفايتها، فإذا ما أتى لها بالطعام تأخذ مالاً من جيبه وتشتري به طعاماً، وتأتي بالحاجة إلى البيت.
فإذاً: نفقة الزوجة مقدرة بكفايتها، وبعض العلماء قالوا: يقدر بمُدَّين من طعام في اليوم، ويقدر بكذا من اللحم، ولكن الراجح أنه بحسب الحاجة، بدليل الحديث: (خذي من مال أبي سفيان -وهو زوجها- ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف).
فإذاً: هذا هو الصواب في المسألة، ويترتب على كون نفقة الطعام للزوجة مقدرة بكفايتها، أنه يجب على الزوج لزوجته من نفقة الإطعام قدر ما يكفيها من الطعام، كالخبز والإدام والدهن ونحو ذلك مما يؤكل مأدوماً، والله تعالى قال في كفارة إطعام المسكين: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89] يعطِي المسكين في كفارة اليمين من أوسط ما يطعم أهله، {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89].
إذاً ينبغي أن يكون هذا هو ما يعطَى للزوجة، ما يكفيها ويسد حاجتها، ولا يقول: كُلِي خبزاً طيلة الشهر، أو طيلة السنة، ما هنا إلا الخبز، يكفيك الخبز، ولن تموتي من الجوع، نقول: لكنه ليس بالمعروف! أين المعروف؟ فينبغي أن يكون طعاماً بالمعروف.(44/25)
الكسوة
أما بالنسبة للكسوة، فإن بعض العلماء قال: الكسوة مقدرة بنفسها.
وقال الآخرون: هي مقدرة بكفاية الزوجة، مثل ما قالوا في الطعام.
والذين قالوا: إنها تعطَى ما يكفيها، أو تعطَى الكسوة، قالوا: إنها تعطَى كفايتها، بطولها وقصرها، وسمنها ونحفها، وباختلاف البلاد في الحر والبرد، فماذا تحتاج؟ لو كان البلد برداً: إذاً تحتاج إلى كسوة من نوع خاص.
إذا كان البلد حاراً: تحتاج إلى كسوة تناسب الحرارة.
لو كانت المرأة طويلة أو سمينة، هزيلة أو قصيرة: كل امرأة تحتاج إلى كسوة بحسبها.
ولذلك قال بعض أهل العلم: يجب للزوجة على زوجها كسوة في كل سنة مرتين، كسوة صيفية في الصيف، وكسوة شتوية في الشتاء؛ لأنها كما تحتاج إلى الطعام والشراب، تحتاج أيضاً إلى اللباس لستر العورة، ولدفع الحر والبرد، وكذلك يجب لها عليه ما يستر عورتها من الخمار إذا أرادت الخروج، والغطاء، ونحو ذلك.
وعلى الزوج أن يتجمل لزوجته، وأن يعاشرها بالمعروف في مسألة اللباس، ويعطيها من أنواع الثياب التي تحتاج إليها، داخلية وخارجية، وداخل البيت وخارج البيت بالمعروف بما يكفيها، وألا يضيق عليها حتى ربما صارت رثة الثياب، مخرقة الأكسية، وهو لا يعطيها حقها.
فإذاً: الإنفاق عليها في اللباس بحسب حاجتها، وفي المقابل المرأة لا تغالي وتطلب الغالي، ولا تقول: اشترِ من المحل الفلاني بشيء قيمته نصف راتب الزوج أو ربعه، فإنه لا يطيقه، وفي المقابل يكسوها بما يكفيها من اللباس الداخلي والخارجي، وما تظهر به خارج البيت من الخمار، والدرع، والغطاء، والجوارب، وقفازات، فعليه أن يسترها في داخل البيت وخارجه، وعندما تكون في الحر أو البرد وبحسب طولها وقصرها وسمنها ونحفها، فإنها تراعَى في كل هذا، وحراً وصيفاً وبرداً وشتاءً، فإنها بالمقابل لا تغالي في طلب الكسوة، فتقول: اشترِ هذا، واشترِ هذا، ولا يكفيني، وتريد أن تجدد في كل شهر لباساً، وفي كل حفلة فستاناً، وفي كل عرس كذا وكذا، هذا مما لم يأتِ في الشرع، فإن طلبات المرأة من هذا النوع يعتبر إرهاقاً وظلماً للزوج، ولا يجوز لها أن تكلفه ما لا يطيق.
ثم هذه المغالاة وهذه الألبسة الكثيرة جداً التي ربما لا تلبسها في السنة ولا مرة، فبعض النساء عندهن ألبسة لا تلبسها في السنة حتى مرة، وإذا لبست فستاناً لا تريد أن يراها النساء وهو عليها مرة أخرى، وإذا رأينها عليها الفستان مرة ثانية صار عيباً عندها، ولذلك فإنها تكون في هذه الحالة مسرفة، والله يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31].(44/26)
السكن
وأما بالنسبة للسكن فإن العلماء قالوا: ليس للرجل أن يجمع بين امرأتين في مسكن واحد بغير رضاهما، صغيراً كان أو كبيراً؛ لأن عليهما ضرراً لما بينهما من الغيرة، واجتماعهما في بيت واحد يثير الخصومة، وتسمع كل واحدة منهما حسه إذا أتى الأخرى، أو ترى ذلك، لكن إذا رضيتا جاز؛ لأن الحق لهما، فلهما المسامحة.
فإذاً: يجب على الزوج أن يسكنها في دار تصلح لمثلها، فيها مقومات البيت التي لا بد منها، ولا يسكن زوجتين في بيت واحد إلا بإذنهما، وإلا فالأصل أن كل واحدة لها بيت مستقل، إلا إذا رضيتا بأن تكونا معه في بيت واحد؛ فإن الحق لهما.
ومن كفاية المسكن: أن يكون بين جيران صالحين؛ لتأمن أذاهم، ولهذا فإن البيت إذا كان فيه جيران سوء، لا تأمن المرأة على نفسها منهم، وربما تسوروا عليها سور البيت، وربما حاولوا إيذاءها، أو النظر من خلال النوافذ، ونحو ذلك، فإن هذه الدار لا تصلح سكناً لها في هذه الحالة.
وأما بالنسبة لأثاث المسكن، فإن البيت لا بد أن يحتوي ما تتهيأ به حاجة المرأة من أثاث لنومها وجلوسها، وما تحتاج من أدوات الطبخ والطعام، ونحو ذلك؛ لأن المرأة ليس عليها إلا تسليم نفسها في بيته، وعليه أن يهيئ لها جميع ما يكفيها بحسب حالها، من أكل، وشرب، ولبس، وفرش، وأثاث، وأدوات منزلية، ولذلك نص الفقهاء على أنه يهيئ لها آلة الطحن، والخَبز، وآنية الشرب، والطبخ، وسائر أدوات البيت، والأثاث، كحُصُر وطنفِسَة -التي يجلس عليها- لكن هذا كان في السابق، حيث كان عندهم هذه الأشياء.
وقال صاحب كشاف القناع رحمه الله: وللنوم: فراش، ولحاف، ومخدة، وملحفة؛ لأنه معتاد، وللجلوس بساط من صوف.
لأن هذا هو المعتاد عندهم، والآن يوفر لها سريراً، ويوفر لها ما تجلس عليه في البيت، ويوفر لها ما تطبخ به من قدور، وسكاكين، وملاعق، وما تحتاجه، والآن صارت الثلاجة من الأساسيات، ولم تكن عند العلماء من قبل؛ فلا بد من أن يوفر لها هذا، فإذا كان من المعروف أن يشتري لها غسالة اشترى، ولا يقول: اغسلي على يديك، وافعلي على يديك، مادام هذا صار عرف البلد مما يؤتَى به للزوجة لا شيء في مغالاة، ولا هو خارج عن العادة، ولا هو خارج عن الحد، مثل الغسالة، والثلاجة، فقد أصبحت هذه أشياء لا بد منها وهي من توابع السكن.
كذلك مثلاً: البيت اليوم في مثل هذا البلد، لا يمكن أن يُعاش فيه في الصيف من غير تكييف وشيء يلطف الحرارة؛ لأن الجدران الإسمنتية والمسلح بالحديد من الداخل يكنز الحرارة، ولا يمكن أن يطيق الإنسان العيش فيه، ولذلك بيت بلا تكييف لا يُعتبر مسكناً يسد الحاجة.
والإنسان مطالَب أيضاً على قدر حاجته، وعلى الزوجة ألا تقول: اشترِ لي آخر ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا من العصارات والفرامات، وهات، وهات لا بد أن تجدد الأثاث كل ستة أشهر، مللنا من الكنب، ومللنا من غرفة النوم، ومللنا من كذا، ولا بد أن تجدد، هذا إسراف وتكليف للزوج وخروج عن المألوف، وهو غير مكلف بإعطائها ذلك، ولا بالاستجابة لها.
قال ابن قدامة رحمه الله: يكون المسكن على قدر يساره وإعساره، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] فإذا كان يستطيع بيتاً مستقلاً فيسكنها بيتاً مستقلاً، وإذا لم يستطع فيسكنها شقة، ثم الشقق تختلف، هناك شيء بغرفة ومجلس وصالة ومطبخ وحمام، وهناك شيء بغرفتين، وشيء بثلاث، وشيء بأربع، وشيء بأكثر، فهو يسكنها على قدر ما تحتاج، على قدر ضيوفها، وحاجتها، وأولادها.
فإذاً: السكنى على حسب حال الزوج، الله يقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] من وجدكم: بحسب ما يتيسر لك فعليك أن تسكِن.
ثم إن الزوج إذا امتنع عن أداء النفقة فإنه يجوز للزوجة أن تأخذ مما تصل إليه يدها من ماله، بقدر ما يكفيها ويكفي ولدها إن كان لها ولد، ولو كان بغير إذنه، تأخذ بالمعروف وبالقدر الذي عُرِف بالعادة بالكفاية، هذا أباحه النبي صلى الله وعليه وسلم.
وإن امتنع وأخفى المال وما أبقى فلساً في البيت، فيجوز لها أن تذهب إلى القاضي تطالب بالنفقة، ويرتب القاضي لها نفقة، ويجبره على الدفع والإنفاق عليها ولها أن تطالب؛ لأن هذا حقها، لا بد أن يسلِّم لها حقها.
وكذلك فإن على المرأة أن تحفظ مال زوجها في البيت، وسنأتي على ذلك في الحلقة الأخيرة من حقوق الزوج على زوجته.
وقلنا: هذه النفقة تسقط بأشياء كثيرة، وذكرنا بعض هذه الأشياء، ومنها: سقوط النفقة بالطلاق: إذا انتهت العدة ما لها نفقة، إذا مات الزوج ليس لها نفقة بعد وفاته وانتهاء عدة الوفاة، وإنما تأخذ إرثها، ويكون هذا هو الذي انتهى إليها من حقها مما جاء من قِبَله.
والمسألة على وجه العموم -أيها الإخوة- كما قلنا: بالمعروف، ينبغي أن يكون كل شيء بالمعروف، والزوج لا يحتاج أن يقول: أمشي على ما ذكر الفقهاء من الواجب، وما لي إلا واجب، نقول: لا، إذا أعطاك الله ويسَّر عليك وسِّع عليها، وأنت مأجور في كل ما تنفقه عليها، وكل ما توسِّع به على أهلك، وخصوصاً في الأعياد، لِمَا هو في معنى العيد من التوسعة على الأولاد، والأهل، والزوجة، التوسعة عليهم بالهدايا، بالطعام، بالكسوة، بالذهب، والحلي، يوسع عليها.
ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن مَن جعل يوماً معيناً يوسع فيه على أهله، يعود ويتكرر، يوسع فيه ويعطيهم نفقات وأشياء، فإنه في معنى العيد، ويكون هذا التعيين محرماً، مثل ما يحدث في بعض الاحتفالات التي يسمونها الآن بـ (القِرْقِيْعان)، والتي سنأتي عليها في هذه الأيام، ترى بعض الآباء يشترون للأولاد هدايا وتوسيعات، حقوقاً وأشياء، ويفرحونهم بهذا اليوم المعين، وهو الخامس عشر من رمضان أو الرابع عشر أو قبله أو كذا، ويُجعل احتفالاً ويُجعل فرحةً للأولاد في يوم معين، ويُشترى فيه أشياء وأكسية معينة للـ (قِرْقِيْعان)، وحلويات معينة، ومكسرات معينة لأجله، وقد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء، برئاسة سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز فتوى بتحريم الاحتفال بهذا، وقطع الطريق على من يريد إضافة أعياد أخرى حتى على مستوى الأطفال، بل إن فرحة الأطفال بـ (القِرْقِيْعان) هذا أشد من فرحتهم بعيد الفطر والأضحى في بعض الحالات، ثم إنه طبعاً صار وسيلة للرقص، وعرض المحرمات، ومشاركة البنات الكبيرات، وصارت مؤخراً -يا جماعة- احتفالات في الفنادق، حفلة (قِرْقِيْعان) في الفندق الفلاني، ونساء وبنات كبيرات.
فانظروا ما يجر إليه الشر، يجر بعضُه بعضاً! وتنمو هذه الأشياء وتكثر! وتأسَّسَ عيدٌ عند الناس، وهكذا تكون البِدَع، وتستشري، وتستفحل.
نسأل الله السلامة والعافية.
ومن تأمل في الواقع عَرَف كيف يؤتى المسلمون من إحياء هذه الأمور التي يجب أن تمر كأي يوم آخر، ولا يكون التوسعة والفرحة والعيد الذي يعود ويتكرر إلا الفطر والأضحى.
هذا نهاية الكلام عن موضوع نفقة الزوجة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الكرماء الأوفياء القائمين بحقوق الزوجات والأولاد.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.(44/27)
وصايا من الله في العشرة الزوجية
إن المتأمل في آيات كتاب الله يجد فيها توجيهات كثيرة تتجلى فوائدها في معالجة الواقع، من هذه الآيات آيتان في سورة النساء يبين الله فيهما قوامة الرجل والحكمة من جعل القوامة والسيادة للرجل، ويبين صفات المرأة المسلمة، ثم يتطرق إلى قضية من القضايا الزوجية وهي النشوز، واضعاً الأساليب والطرق لعلاجها.(45/1)
الرجال قوامون على النساء (الحكم والأسباب)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ الآية) [النساء:34] ومعنى قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] أن الرجل هو القائم على المرأة، ويجب على المرأة أن تطيعه فيما يأمرها به بالمعروف، فإن طاعة المرأة للرجل ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بحديثه صلى الله عليه وسلم (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وطاعة المرأة للرجل واجبة إذا كانت بالمعروف، فإذا أمرها بأمر ليس فيه إثمٌ، وجب عليها أن تطيعه.(45/2)
الحكمة من جعل الرجل هو السيد
ولا يصلح حال البيوت إلا إذا صار الرجل هو السيد، ولذلك يخطئ كثير من الناس الذين يقولون: السيدات والسادة، فإن سيد المرأة هو الرجل وهو سيد البيت، أما المرأة فإنها لا تكون سيدةً؛ لأن السيد هو الذي يسود، والمرأة لا تكون سيدة على زوجها، ولكنها قد تملك عبداً، فتكون هي سيدة ذلك العبد، وإما إطلاق السيدة على المرأة، فهو من الإطلاقات البدعية المخالفة للكتاب والسنة.
وقول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] يعطي معنى السيادة للرجل بالمعروف، إذ أن الله تعالى جعل فيه من المزايا ما يكون به أهلاً للسيادة في الغالب، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، فإذا جعل الرجال أمرهم إلى امرأة، فإن أمرهم إلى زوال وتباب، ولن يفلحوا.
وقد يكون في بعض النساء رجاحة في العقل وفطنة وذكاء، ولكنها لا تزال تحيض ويقع لها في النفاس، وتكون معرضة لأنواع الضعف النفسي والعاطفي والجسمي بما لا تصلح معه أن تكون هي القائمة بالأمر مهما كان ذكاؤها وفطنتها.
ولأن المرأة مطمعٌ للطامعين، ومجالٌ لعبث العابثين، وهدفٌ لأصحاب الشهوات من أولياء الشياطين، جعل الله تعالى الرجل حامياً لها وحافظاً، فجعل الأب ولياً، والزوج سيداً، ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم يقوم عليها ويحفظها؛ لأن سفرها بغير محرم يجعلها عرضةً للطامعين وأهل الشهوات، وتكون هي أيضاً معرضة للانحراف، فإذا أمن منها لم يؤمن عليها، ولذلك أحاطت الشريعة المرأة بحماية الرجل فقال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34].(45/3)
فضل الله الرجل على المرأة بمزايا هي من أسباب القوامة
لقد بين الله سبحانه وتعالى السبب الذي من أجله جعل الرجل قائماً على المرأة، فقال: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] استحقوا هذه المزية بتفضيل الله للرجال على النساء بما فضلهم به من الصفات في العقول والأجسام، فأما من جهة العقل فإن الرجل غالباً هو الأعقل -مع وجود نساء أعقل من بعض الرجال، ولكن الحكم للأعم الأغلب، والشريعة لا تأتي بالحكم للنادر والقليل- بما جعل الله للرجل من العقل الراجح على المرأة، وكذلك الجسم، ولذلك كان الغزاة وقواد الجيوش، والحكّام، والأمراء، والخلفاء في الشريعة الإسلامية جميعاً من الرجال، فلا يجوز في الإسلام أن تكون المرأة هي الخليفة، أو الحاكم، أو الأمير، أو القاضي، فلابد أن يكون الرجل هو الذي يتولى هذه الأمور، والجهاد في الإسلام على الرجال، والمرأة تؤدي أدواراً جانبية في الجهاد كمداواة الجرحى، والسقي إذا أمنت الفتنة، وربما تضطر المرأة أحياناً لحمل السلاح في الحالات الاضطرارية، لكن أن نجعل هناك جيشاً من النساء، فهذا ليس من شريعة الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج جهاد كل ضعيف) وفي الرواية الأخرى الصحيحة (جهادكن الحج) لأن المرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن الله فضل الرجال بكذا وكذا، ويجاهدون معك، فماذا لنا نحن من الجهاد؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (جهادكن الحج) فجعل الحج هو جهاد النساء.
إن المرأة مكفية محمية، والعتب على الرجال الذين يضيعون نساءهم، فلا يقومون بأمرهن، وربما تركها الواحد تسافر بغير محرم، أو يهجر البيت ويسافر فترة طويلة، وربما تكون المرأة معرضة لمن يسطو على البيت، أو يقتحم البيت ونحو ذلك، فنقول: لا يجوز ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) فالعتب على بعض الذين يخرجون بحجة الدعوة ويتركون نساءهم في البيوت مضطرات إلى الأجانب، فتركب سيارة أجرة بمفردها، أو تذهب لشراء الأغراض بمفردها، وقد تكون وحيدة في البيت، أو معها أولاد صغار لا تأمن على نفسها، فهذا من التضييع المحرم ولا شك، ولذلك كان عمر رضي الله عنه وأرضاه لا يؤخر الزوج عن زوجته في الجهاد أكثر من أربعة أشهر أو ستة؛ على خلاف بين أهل العلم في المدة القصوى في ابتعاد الرجل عن زوجته، وكم تتحمل المرأة من فراق الزوج، ولذلك كان الذين يهجرون زوجاتهم فترات طويلة من الزمن متسببين في وقوع الزوجات في الفاحشة والحرام، وهذا واضحٌ في زمننا أشد الوضوح، فإنك لا تزال تسمع عن القصص الكثيرة المؤلمة والمأساوية التي وقع فيها عدد من النساء في الحرام، نتيجة هجر الزوج لزوجته، أو ترك البيت، أو السفر الطويل، فكان لابد من المحافظة على الزوجة.
ويوجد بعض العمال الذين يذهبون للعمل والوظائف في البلدان الأخرى ملزمين في الشريعة باستئذان زوجاتهم إذا أرادوا الغياب عنهن أكثر من أربعة أشهر أو ستة، فإذا كان عقده سنوياً، ولا يأخذ إجازة إلا شهراً في السنة، وأحياناً لا يأخذها إلا كل سنتين مرة، فما حكم غيابه عن زوجته؟
الجواب
حرام لا يجوز إلا إذا وافقت الزوجة، ولم يكن عليها ضرر، ولا فتنة، ويجب عليه أن يستأذنها، فيقول: إني أريد الغياب في طلب الرزق أكثر من ستة أشهر، فهل تسمحين لي بذلك؟ فإن سمحت بهذا الغياب الطويل، وكانت في مكان آمن وليس عليها خوف من فتنة، جاز له هذا السفر الطويل، وإلا لم يجز، ولزمه أن يعود إليها.(45/4)
النفقة على الزوجة من أسباب القوامة
قال الله تعالى في سبب تفضيل الرجال على النساء: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فالله تعالى جعل الرجل هو الذي يعمل وينفق ويكسب، وأوجب النفقة عليه، ولذلك يلزم القاضي الرجل البخيل، أو الذي لا يعطي زوجته النفقة بإخراج النفقة، وتعتبر النفقة ديناً إذا عجز عنها، ويمكن أن تطالب به المرأة.
والنفقة لا حد لها في الشريعة بمبلغ معين، ولكنها داخلة في عموم قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فينفق عليها بالمعروف، فيشتري لها طعامها الذي تحتاجه، ولباسها الذي تحتاجه، ويهيئ لها سكنها الذي تحتاجه، وبالجملة فحاجات النساء متعددة، فيجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وأن يكسوها بالمعروف، وأن يطعمها بالمعروف.
فإذا بخل ومنع النفقة الواجبة وتركها وأولادها دون مال وطعام، أو دون كسوة بالمعروف، فإن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه، وقد رخص لها الشارع في الأخذ من ماله بغير إذنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمرأة الصحابية: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: من وراء الرجل إذا كان بخيلاً، أما إذا كان يعطيها، فلا يجوز لها أن تأخذ من ماله شيئاً، ولا أن تتصدق بطعامه الذي يشتريه للبيت إلا بعد إذنه، فإذا علمت أنه يسمح بالتصدق بالطعام -والنبي صلى الله عليه وسلم قال (ذلكم أفضل أموالنا) - فيجوز لها أن تتصدق به، وإلا فلا بد من استئذانه.
فتبين أنه يجب على المرأة أن تطيع الرجل؛ لأنه ينفق عليها، ولأنه قوامٌ عليها، وهو سيدها وبيده عصمتها وطلاقها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان) يعني: أسيرات، جمع عانٍ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (فكوا العاني) والعاني هو: الأسير.
فلما أوجب عليه النفقة أوجب له الطاعة، ولذلك كانت المرأة التي لا تطيع زوجها محرومة من النفقة في الشريعة، فلو أنها خرجت من بيته بغير إذنه وذهبت إلى بيت أهلها وعصته ولم ترجع، فليس لها قرش واحد، ولا يجب عليه النفقة عليها، ولا أن يرسل لها بالمصروف إلى بيت أهلها، لأنها نشزت أي: خرجت عن الطاعة، إذ خرجت من بيت الزوجية بغير إذنه، فإذا هجرته وتركته وخرجت، فليس لها مصروف ولا نفقة، ويختلف الأمر فيما لو كان هو الذي طردها فقد يرسل لها لإصلاح الأوضاع، أو لإزالة حنقها، أو لتأليف قلبها، لكن لا يجب عليه ذلك، ولذلك فإن موضوع النفقة في الإسلام موضوع مهم، يجب معرفة حدوده وضوابطه، وقد تكلم العلماء في موضوع النفقة في تفصيلات كثيرة، ولا يزال موضوع النفقة من الأشياء التي يحصل فيها الخلاف بين الرجال والنساء، والتي هي مثار لكثير من الخلافات الزوجية، فإنك لو تتبعت أسباب الخلافات الزوجية، لوجدت أن من أسباب الخلافات الزوجية الخلاف على النفقة، فقد تقول هي: أنت لا تعطيني إلا القليل، ويقول هو: أعطيك ما يكفيك وزيادة، فيختلفان في النفقة.(45/5)
معاشرة النساء وحكم توظيفهن والأخذ من رواتبهن
ونلاحظ أيضاً أن المرأة عندما تكون موظفة، فإنها تدخل في شيء من حق الرجل، أو من ميزة الرجل، الرجل مكلف بالنفقة، فعندما تكون موظفة ولها راتب، فكأنها تزاحمه في موضوع النفقات، ولذلك تحصل الاحتكاكات والمشاكل، ويقول لها: ادفعي راتب الخدامة عليك إيجار البيت فواتير الهاتف عليك، ادفعي معي نصف الإيجار، ملابسك تشتريها من نفسك، فيحصل التنازع والخصام.(45/6)
أصل النفقة على الزوج وإن كانت المرأة موسرة
فإذا قال الإنسان: ما حكم الإنفاق في هذه الحالة أي: لو كانت الزوجة موظفة، وربما تأخذ راتباً أكثر من زوجها، فهي مدرسة لها في الخدمة كذا سنة، وهي تستلم ثمانية آلاف ريال، وهو موظف على المرتبة الرابعة، أو الخامسة لا يقارب راتبه خمسة آلاف، فراتبها ضعف راتبه أو حول ذلك، فما حكم الإنفاق في هذه الحالة؟
الجواب
لا يزال الإنفاق على الرجل، ولم يجعل الله على الزوجة نفقة ولو كانت غنية، هب أنه تزوج ابنة رجل غني فمات، فورثت عن أبيها عشرات الملايين، وهو يأخذ بضعة آلاف لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، فلا زالت النفقة على الزوج ولو كانت الزوجة غنية، ولذلك يقول الله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ولا يجب على الزوجة لو قال لها: ادفعي الإيجار الفواتير أو راتب الخدامة ونحوها من مصاريف البيت، فتقول: لست ملزمة بذلك، ولها الحق في ذلك، لكنها تخرج من البيت للعمل، ويجوز للزوج أن يمنعها من الخروج، صحيح أنها غير ملزمة بالنفقة، ولا الاشتراك في النفقة، لكنها تخرج من البيت للعمل، فيجوز للزوج أن يمنعها منه إلا إذا كان شرطاً في العقد، فلو اصطلحا فقال لها: أتركك تخرجين للعمل مقابل المشاركة في النفقة، جاز هذا الصلح، بما أنه يحق له أن يمنعها من العمل والخروج إلى العمل، وبما أنها لا يجب عليها النفقة، فلو قال لها: أنت تخرجين من البيت وهذا يلحق بي ضرراً، فأنا أعود قبلك أحياناً من العمل، وأعود ولا أجد طعاماً جاهزاً، وأعود فأجدك متعبة منهكة، والأولاد ليسوا في رعايتك في الفترة الصباحية، وهذا لا شك أن فيه ضرراً.(45/7)
الأصل ألا تعمل المرأة إلا لحاجة والبيت أفضل
ولا ينصح بعمل المرأة إلا للحاجة، فما خرجت بنتا الرجل الصالح إلا للحاجة قال الله: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لولا أنه كبير لا يستطيع الرعي ما خرجنا، أي: نحن خرجنا اضطرارً للعمل، ولذلك فكثير من النساء في الحقيقة مخطئات أشد الخطأ عندما يخرجن للعمل للتسلية، أو لتبوء المكانة الاجتماعية التي تظن الواحدة منهن أن هذه المكانة المرموقة هي إثبات للجدارة، وإثبات للوجود في الوظيفة وهذا كلام فارغ وغير شرعي، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولذلك لا تخرج إلا للحاجة، كأن تساعد زوجها كما كانت تخرج بعض النساء للزرع والرعي مساعدة للزوج، وابنتما الرجل الصالح خرجتا لمساعدة الأب غير القادر على الإنفاق، أو أباها، فقد يكون الأب مريضاً، قد يكون طاعناً في السن، قد يكون مشلولاً وليس عنده ذكور، أو عنده ذكور، لكنهم عاقون لأبيهم، فالأب والأم، والأولاد الصغار، بل البيت قائم على هذه البنت الموظفة، هذه امرأة مأجورة في الحقيقة إذا خرجت تعمل لأنها تقوم بأمر بيت هي التي تنفق عليه، لأن البقية الذين في البيت لا يستطيعون النفقة، فيكون خروجها محموداً شرعياً وهي مأجورة عليه، لكن إذا خرجت للتسلية، أو لإثبات الجدارة، أو لتبوء المكانة كما يقولون فهي مخطئة، وقد أتت الأمر على غير وجهه الشرعي، لأنه ليس للمرأة الخروج من البيت للتسلية في العمل، أو لإثبات الجدارة، ولذلك تجد بعض النساء تريد أن تعمل بأي طريقة ولو بخمسمائة ريال المهم أنها تعمل، ويصير اسمها موظفة، وأصبح جلوس المرأة في بيتها عيباً، وجلوسها بعد خروجها من الكلية يعتبر سلبية وطاقة معطلة.
وسبحان الله العظيم! جعل الله البنت عند الأب -لو حصل انفصال بين الزوج وزوجته- قبل البلوغ لأجل أن تستعد للخاطب إذا جاء، فالله جعل البنت عند البلوغ لا هم لها إلا انتظار الزوج القادم، لا وظيفة، ولا شيء، والعمل الأساسي للمرأة أنها تقوم بالبيت، زوجة، وأم وحارسة للقلعة، وليست مسئولة عن الوظائف والإنفاقات والماديات أبداً.
ثم إن كثيراً من النساء اللاتي يخرجن للوظائف إنما ينفقن جزءاً كبيراً من الراتب في الموضات والأزياء، وأدوات الزينة والتجميل، فتخرج بما كره لها الشرع الخروج فيه لتضع المال فيما كره لها الشرع أن تضعه فيه، تخرج بطريقة لا تحمد شرعاً، وتضع المال في شيء لا يحمد شرعاً، ولذلك تجد العاقلات من النساء في الإنفاق من الموظفات قليلات، ومن هنا جعلت الشريعة الإنفاق على الرجل، وهو الذي يعرف أوجه الإنفاق أكثر من المرأة.
والحاصل أن خروج المرأة له ضوابط، ويجوز أن يصطلح الرجل وزوجته الموظفة على قدر من المال تنفقه؛ كأن يكون عليها نصف إيجار البيت، أو نصف المصروف، أو ربع المصروف، أو تعطي زوجها نصف الراتب، أو ربع الراتب بحيث يسمح لها بالعمل، وهذا جائز شرعاً، فيجوز الاتفاق على مثل هذا مقابل خروجها من البيت، وما يتسبب من ذلك من تعطيل حق الزوج.(45/8)
صفات المرأة المسلمة
قال الله عز وجل: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] قانتات أي: مطيعات لله، ثم مطيعات للأزواج، قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله عز وجل وحقوق الأزواج.
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] وهو الشيء المخفي، أي: عند غيبة الزوج، فإذا غاب عنها الرقيب حفظت نفسها وفرجها وولدها وبيتها ومال زوجها، قال الله في ذكر صفات المرأة الصالحة: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] يعني: بحفظ الله ومعونته، فإنها لا تستطيع أن تحفظ عفتها ونفسها ومال زوجها وأولاده إلا إذا أعانها الله على ذلك فالحفظ الحقيقي من الله {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً} [يوسف:64].
والعبد يقوم بما عليه من الحفظ ضمن حفظ الله تعالى، فهذه صفات المرأة الصالحة: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] فلو وجدت لك امرأة قانتة، مطيعة لله، قائمة بأمر الله، محافظة على الصلوات وما طلب الله منها من الحجاب، قانتة لله، عندها أمانة في دينها، وفي حفظ عفتها ومال زوجها وولده، فارج خيراً منها، فلخص الله صفات الزوجة الصالحة بقوله: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34].(45/9)
من أحكام النشوز
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] انتقل بعد ذلك لبيان حال غير الصالحة إذا طرأ خلل في صلاحها، أو نقصٌ في حالها من جهة الزوج، فتمردت عليه وعصته.
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] والنشوز هو العصيان، وقالوا: نشزت المرأة إذا استعصت على بعلها بأن تعصيه ولا تطيع أمره، أو تخرج من بيته بغير إذنه، أو تمنعه نفسها بلا عذر.
وللنشوز صور كثيرة: فخروجها من بيت زوجها بغير إذنه نشوز، ومنعه نفسها بدون عذر شرعي نشوز، وإنفاق ماله في غير ما أمرها به نشوز، أمرها بأن تعمل بالمعروف فرفضت إذا قلنا أن الخدمة واجبة عليها، فقالت: لا أطبخ طعامك، ولا أنظف بيتك، ولا أغسل ثيابك، ولا أقوم بأطفالك، دبر نفسك، اشتر لك غسالة وخدّامة، واشتر الأكل من المطعم، وهذا نشوز، هذه صور واضحة من صور النشوز، فإذا حصل هذا، فما هو موقف الزوج شرعاً؟ وهل يلجأ مباشرة إلى الطلاق بالثلاث مثلاً؟
الجواب
لا.
فقد جعل له الشارع طرقاً وأساليب منها:(45/10)
وعظ المرأة الناشز أولاً
أولاً: يقول الله عز وجل: {فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34].
الإجراء الأول تذكيرها بما أوجب الله عليها من الطاعة وحسن العشرة والترغيب والترهيب، فيقول لها مثلاً: اتقي الله يا امرأة! إن الله وعد المؤمنات اللاتي يطعن أزواجهن، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهن من أهل الجنة بأن قال: (من عبدت ربها، وأطاعت زوجها، وحفظت فرجها، قيل لها: ادخلي الجنة) (خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش، أحناهن على ولد في صغره، وأرعاهن للزوج بما في ذات يده) فحنو المرأة على الطفل، ورعايتها لمال الزوج من الخصائص العظيمة التي تميزت بها نساء قريش الصالحات، واشترك معهن من اشترك بتفاوت من بقية الصالحات من غير قريش.
فتذكر ميزة المرأة إذا أطاعت زوجها، وتُذكر أيضاً بعقابها إذا لم تطعه، وأنها إذا تخلفت عن فراشه وقد دعاها لغير عذر، فإن ربها يغضب عليها ويسخط عليها وتلعنها الملائكة، فتوعظ هذا الوعظ ترغيباً وترهيباً، ترغيباً فيما لها إذا أطاعت، وترهيباً فيما لها إذا عصت، فإذا لم ينفع ذلك، فينتقل إلى إجراء أشد، لكن ليس هو الإجراء النهائي.(45/11)
هجر الناشز شرعاً إن لم تتعظ
ثانياً: يقول الله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] أي: تباعدوا عن مضاجعتهن، قيل: أن يوليها ظهره في الفراش، وقيل: أن يغادر الفراش وينام في غرفة أخرى مثلاً، وقيل: ألا يكلمها: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] وإذا لم يفد هذا الهجر مع أنه يؤثر في المرأة أن يتركها زوجها، طبعاً الترك المعروف، أما الهجر بغير معروف، فحرام، فبعض الرجال ظالماٌ في الهجر؛ يهجر زوجته فترة طويلة جداً مما يتسبب في وقوعها في الفاحشة، أو تعريضها للأذى النفسي البالغ، فالذي يهجر لأتفه الأسباب، أو يهجر وهو المخطئ المعتدي، ثم يقول: اعتذري! أو يفارق البيت ويتركها وحدها في البيت فهو ظالم، لكن إذا كانت هي الظالمة بعد الوعظ فيهجرها في المضجع.(45/12)
ضرب الناشز للتأديب ضرباً غير مبرح
ثالثاً: فإن لم يفد الهجران في المضجع، ينتقل بعد ذلك إلى الضرب، قال عز وجل: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] وهذا الضرب ليس ضرب انتقام وطغيان، وإنما هو ضرب تأديب وإصلاح، وإذا كان ضرب تأديب وإصلاح وليس ضرب تخريب وعدوان، فمعنى ذلك أنه لن يكون فيه كسر عظم، ولا إراقة دم، ولا ضرب على الوجه -ولا يجوز الضرب على الوجه أبداً- فقد يسبب عاهة، قد يذهب بسمعٍ أو بصرٍ، وبعض الرجال كثيراً ما يخطئون في الضرب، فيتعدى في الضرب، وقد يضرب بسلك، أو حديدة، أو قطعة من الخشب، وقد يكون عنده حزام أسود في الكاراتيه، أو في غيرها من الألعاب، فيمارس بعض ما تدربه على زوجته، فهذا الرجل ظالم ولا شك؛ لأن الضرب بهذه الكيفية ليس هو المقصود، فليس مقصود الشارع الضرب بالعنف، وإنما هو ضرب تأديب وإصلاح.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34] أي: فإذا سلمت المرأة وأطاعت بعد هذه الإجراءات سواءً بعد الوعظ، أو بعد الهجر، أو بعد الضرب {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فإذا تركن النشوز فلا يجوز البغي عليهن، ولا يجوز الهجر ولا الضرب ما دامت قد أطاعت ورجعت إلى رشدها، ثم ختم الله الآية باسمين كريمين مناسبين للواقع، قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فإذا أنت أعلى من المرأة فالله أعلى منك، وإذا أنت أكبر من المرأة، فالله أكبر، فانظر كيف انتهت الآية، قال: {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فانتهاء الآيات مناسبة للموضوع، وما فيها من المعاني وهذه حكمة بالغة وبلاغة قرآنية عالية؛ فيا أيها الزوج لا تبغ؛ فإن هناك من هو أقوى منك، ولا تستعلِ فهناك من هو أعلى منك، ولا تستكبر فهناك من هو أكبر منك: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34].(45/13)
بعث حكمين للإصلاح من أهل الزوجين
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء:35] يعني: تفاقم الخلاف، ولم تؤد المسألة إلى نتيجة إيجابية، وازدادت الهوة يبنهما واتسعت الشقة، فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، أي: ابعثوا إلى الزوجين حكماً من أهلها وحكماً من أهله، حكماً يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلاً وإنصافاً، فلا تبعث أحمق لا يحسن التصرف، أو متهور لا يصلح أن يكون حكماً، فإن الحكم لا بد أن يكون منصفاً عاقلاً صاحب دين: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ولم يقل: حكماً خارجياً كإمام المسجد؛ لأن الحكم الذي من أهله والحكم الذي من أهلها سيكونان قريبين من موقع المشكلة ومعرفة الخلاف، لأن القضايا الداخلية لا يطلع عليها من في الخارج، ولأنه في الغالب يكون متابعاً لتطورات المشكلة، فمثلاً: لو كان عمها يسمع أخبارها مع زوجها؛ أخوه أو أبوه يسمع عن أخباره مع زوجته، لكن الأجنبي الخارجي قد لا يسمع شيئاً ولم يعايش المشكلة، ولا يعرف تفاصيلها، ولا يعرف الأطوار التي مرت بها المشكلة، ومعرفة الأطوار والخلفية التاريخية مهم في أي مشكلة، فلذلك قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] لأنهما أعرف بأحوال الزوجين.
ثانياً: أنهما أحفظ لأسرار الزوجين، لأن الغريب لو جيء به لربما يخطب بهما خطبة الجمعة، أو يدلي بالتصريح في المجالس عما حصل بين فلان وفلانة، وأما إن كان من داخل العائلة، فإنه يكون في الغالب حافظاً للأسرار، لأنه لا يريد أن يمس سمعة العائلة بسوء، ولا يريد أن تنتشر الأخبار السيئة عن العائلة، فهذه هي الحكمة في أن يكون الحكمان من أهله وأهلها والله أعلم.
قال الله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] يسعيان في الإصلاح، ويبذلان جهدهما في ذلك، فمثلاً: إذا كان الخلاف عن النفقة، يقول: يعطيها خمسمائة، وتقول: أريد ألفاً، فيجتمع الحكمان، فينظران في احتياجات الزوجة، وكم هو الإنفاق بالمعروف حسب حاله ومرتبه ودخله مثلاً، وحسب أسعار السوق وتكاليف المعيشة، فيحكمان بنفقةٍ متوسطةٍ، إن كان ما قاله الزوج حق، يقولان لها: ليس لك إلا ما يعطيك الزوج، ولو كان الزوج يعطيها قليلاً، يقولان له: زد قليلاً، فاجعل لها كذا وكذا، ويكتبان ذلك ويشهدان عليه إن رأياً كتابته والإشهاد عليه.
لكن متى يحصل التوفيق بينهما؟ بشرط مهم جداً ذكره الله تعالى وهو: حسن نية الحكمين، فقال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] إذا كانت نيتهما طيبة، يريدان إصلاحاً بين الزوجين يوفق الله بينهما، فتعود الألفة وحسن العشرة إليهما، لكن إذا لم يريدا الإصلاح، اختلف الحكمان قبل أن يوفقا بين الزوجين، وستتسع دائرة الخلاف، وينظم كل واحد منهما إلى صاحبه أو إلى قريبه، وتتسع دائرة المشكلة، وسنحتاج إلى من يصلح بين الحكمين، ولذلك قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] فانعكست النية الطيبة للحكمين على الزوجين، لأن الخلاف بين الزوجين.
هذا مثال على أن النية الحسنة يكون لها أثر حسن في إزالة المشكلات، ولا شك أن الحكمين لهما أجرٌ عظيمٌ إذا أرادا إصلاحاً، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فلا شك أن المصلح بين المتخاصمين له أجرٌ عظيمٌ، وهو من الذين يسعون بالخير، ولا شك أن الساعي بالخير مأجورٌ أجراً عظيماً عند الله، وهذا نفعه متعد وليس نفعه على نفسه فقط، وقد يكون إنقاذ البيت على يديهما، وتعود الألفة بسببهما، ويأخذان الأجر العظيم من الله تعالى، ويجوز لهما حتى الكذب، لو اضطرا إليه واحتاجاه للإصلاح، لأنه لا يعتبر كاذباً الذي يصلح بين متخاصمين.
فهذه بعض من توجيهات الله تعالى الحكيمة التي تتجلى فوائدها في الواقع لمن تأملها في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة النساء، في هاتين الآيتين بيَّن قوامة الرجل، ولماذا صار هو السيد عليها، وصفات الزوجة الصالحة، وما هي الإجراءات التي يفعلها الرجل إذا نشزت زوجته، ثم الكلام عن الإصلاح بين الزوجين، والتوسع فيه مجال كبير في الكلام عن قضية القوامة، وقضية النفقة، وقضية النشوز، وقضية الإصلاح بين الزوجين، وهذه من الموضوعات التي ينبغي أن تطرق، لأن المجتمع فيه كثير من هذه الخلافات، ثم إذا حصل التفكك الأسري، يتبعه حصول الفواحش وانتشارها، ووقوع الخراب والدمار، وتفرق العائلة، وتشتت الأولاد، ولا شك أن ذلك سيترك مخلفات نفسية سيئة جداً على الجميع.
نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(45/14)
ماذا ينقصنا؟
في هذا الدرس تحدث الشيخ عن بعض الأشياء التي تنقص المسلمين في واقعهم، وركز على أهمية توافرها في حياة الأمة والفرد، ومن تلك: الإخلاص القدوات الثبات العلم الشرعي الأخلاق وحسن المعاملة التربية الاعتزاز بالإسلام الرجولة وغيرها.(46/1)
الإخلاص
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحياكم الله ومرحباً وأهلاً في هذا البيت من بيوت الله، ونسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:193] {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126].
أيها الإخوة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان درسنا إن شاء الله "ماذا ينقصنا؟ " ولقد تأملت في النواقص التي تنقصنا نحن المسلمين، وفكرت في هذا العنوان، فرأيت أن الذي ينقصنا من كثرته لا يحصى، وأنه لعل الأجدى أن نفكر فيما يوجد عندنا، فهو أسهل في الحصر، وأما ما ينقص، فيصعب حصره من كثرته، ولكن من باب المحاسبة لأنفسنا؛ تعالوا نفكر في شيء مما ينقصنا؛ لنحاول الاستدراك وتحصيل بعض المطلوب، وقد قال الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] ماذا ينقصنا؟ أول ما يخطر في البال مما ينقصنا تحقيق الإخلاص لله عز وجل، الإخلاص مسألة المسائل وأصل الأصول، الإخلاص الذي إذا حصله الإنسان المسلم؛ صلح حاله في كل شيء.(46/2)
أقوال السلف في الإخلاص
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: يتعين على أهل العلم من المتعلمين والمعلمين، أن يجعلوا أساس أمرهم الذي يبنون عليه حركاتهم وسكناتهم الإخلاص التام، والتقرب إلى الله تعالى بهذه العبادة التي هي أجل العبادات وأكملها وأنفعها وأعمها نفعاً، ويتفقد هذا الأصل النافع في كل دقيق وجليل من أمورهم، فإن درسوا، أو دارسوا، أو بحثوا، أو ناظروا، أو أسمعوا، أو استمعوا، أو كتبوا، أو حفظوا، أو كرروا دروسهم الخاصة، أو راجعوا عليها أو على غيرها الكتب الأخرى، أو جلسوا مجلس علم، أو نقلوا أقدامهم في مجالس العلم، أو اشتروا كتباً، أو ما يعين على العلم، كان الإخلاص لله واحتساب أجره وثوابه ملازماً لهم؛ ليصير اشتغالهم كله قوةً وطاعةً، وسيراً إلى الله وإلى كرامته، وليتحققوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له طريقاً إلى الجنة) أخرجه مسلم؛ فكل طريق حسيٍ أو معنويٍ يسلكه أهل العلم يعين على العلم أو يحصله؛ فإنه داخل في هذا.
وقال البخاري رحمه الله تعالى: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، وقال ابن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل] ويُذكر عن الحسن: [ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق].
ما خاف عذاب الله إلا مؤمن، ولا أمن عذاب الله إلا منافق، هذا بعض ما ورد عن السلف مما يدفعنا إلى الحرص على الإخلاص، ومجاهدة النفس في سبيل الوصول إليه.(46/3)
الطريق إلى الإخلاص
وهنا يأتي السؤال المهم: ما الطريق إلى الإخلاص؟ كيف نحصل الإخلاص؟ هذا السؤال يجيبنا عليه العلامة ابن القيم رحمه الله، فيقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، الضب والحوت -فالضب يسكن في الصحراء والحوت يكون في الماء- فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً، فاذبحه بسكين اليأس، عليك بالإياس مما في أيدي الناس، ولا ترجو على عملك الصالح شيئاً دنيوياً، اقطع الطمع من الدنيا بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء، فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؛ سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل عليَّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وهو بيد الله وحده، لا يملكه غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً، ولا يؤتي العبد منها إلا ما أراد.
وأما الزهد في الثناء والمدح، فيسهله عليك علمك أنه ليس أحدٌ ينفع مدحه ويضر ذمه إلا الله وحده.
كما ذكر ذلك الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام: إن مدحي زينٌ، وإن ذمي شينٌ، فقال: (ذلك الله عز وجل، الذي مدحه زين، وذمه شين).
إذا مدح الله عز وجل أحداً، كان زيناً، وإذا ذم أحداً؛ كان شيناً على هذا المذموم.
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين؛ كنت كمن أراد السفر في البحر بغير مركب، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(46/4)
علامات الإخلاص
ما هي العلامات التي يعرف بها العبد أنه مخلص؟ إذا كان يراقب الله في أعماله، ويحتسب الأجر في أفعاله وأقواله، ويعمل بعلمه، وينصر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويقمع البدعة، ويحلي باطنه، ويزكي نفسه، ويحس بقربه من الله، وأن قلبه منير، فعند ذلك هو إذاً من المخلصين.
كان الصالحون يدخرون أعمالاً معينة عظيمة لآخرتهم، يقول ابن كثير رحمه الله عن السلطان عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب ملك دمشق والشام، يقول: لما توفي أبوه كان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، هذا الرجل تولى بعد أبيه، وكان شجاعاً باسلاً عالماً فاضلاً، اشتغل بالفقه على مذهب أبي حنيفة، وفي اللغة والنحو على التاج الكندي، وكان قد أمر أن يُجمع له كتاب في اللغة يشمل الصحاح للجوهري والجمهرة لـ ابن جريج والتهذيب للأزهري، وأمر أن يرتب له مسند الإمام أحمد، وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير، ويقول: أنا على عقيدة الطحاوي، وأوصى عند وفاته ألا يكفن إلا في البياض، وأن يلحد له، ولا يبنى عليه، وكان يقول: واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى، وأرجو أن يرحمني بها، يعني: أنه أبلى بها بلاءً حسناً رحمه الله تعالى، وقد جُمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله.
فالإنسان وكل واحد منا يحاول أن يعمل أعمالاً صالحةً يدخرها عند الله، هذه لآخرتي، هذه ليوم العطش الأكبر، هذه ليوم الخوف الأعظم، يعمل الصالحات ويدخرها للآخرة، اعمل وخبئ وادخر لذلك اليوم.(46/5)
القدوات
أي شيء ينقصنا أيضاً بعد الإخلاص؟ ينقصنا -أيها الإخوة- القدوات، نحن في قحط في القدوات إلا من رحم الله فوفقه للقدوات: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] يؤتم به، قال الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
ما طلبوا ذلك للشهرة، وإنما طلبوه ليحصل لهم أجر الاقتداء، لماذا يريدون أن يكونوا أئمة يُقتدى بهم؟ {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]؟ لكي يحصل لهم الأجر بالاقتداء: (من دل على هدى، كان له من الأجور مثل أجر من تبعه).(46/6)
أهمية القدوة
وموقع القدوة خطيرٌ ومهمٌ، ولذلك فإن الإنسان إذا صار يُقتدى به؛ لا بد أن يلاحظ أعماله، ويحاسب نفسه على تصرفاته أكثر من أن يكون شخصاً عادياً، ولذلك أهل القدوة الحقيقيون لا يكاد يوجد عليهم مقال، [عن مسروق أن امرأة جاءت إلى ابن مسعود، فقالت: أنبئت أنك تنهى عن الواصلة -التي تصل الشعر- فقال: نعم، فقالت: أشيء تجده في كتاب الله، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أجده في كتاب الله وسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف، فما وجدت فيه الذي تقول، فقال: فهل وجدت فيه، أي: في القرآن: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قالت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النامصة والواشرة، والواصلة والواشمة، إلا من داء) قالت المرأة: فلعله في بعض نسائك، سمعنا أن زوجتك تفعل شيئاً من هذا، فقال لها: ادخلي البيت وانظري إلى نسائي في البيت، فدخلت، ثم خرجت فلم تجد فيه شيئاً مما ذُكر] أي: من المنكرات في الأعراس، أو في غيره، فإن ذلك قدحٌ في خيره وصلاحه وعلمه، لأنه يجب عليه تغيير ذلك، وإن كان هذا في حق الناس كلهم ممنوعاً في النكاح وغيره، لكن في حق العدل آكد، لأنه إذا حضر شيئاً من هذا وما شاكله، ترتب عليه مفسدتان عظيمتان: إحداهما وهي أشدها: سقوط عدالته، ولا تقبل شهادته، لأن الإنسان إذا جاء إلى منكر وجلس، وجلوسه حرام، فهو مجاهر بجلوسه في المنكر، وجلوسه منكر.
والثانية: أنه قدوة، فيقع العوام بسبب تعاطيه ذلك في اعتقاد جوازه في الشرع، فيكون ذلك سبباً للإحداث في الدين.
إذاً موقع القدوة مهم، إذا جعلك الله يا أخي قدوةً إماماً أو مدرساً، أو في أي مكان أنت فيه قدوة، حتى لو كنت أباً لأولادك أنت قدوة في البيت، فاحرص كل الحرص أن تعطي القدوة حقها، فلا تفعل منكراً، ولا تأته، ولا تجلس في مكانه، لماذا قيل في الصلاة على المجاهر بالمعصية المصر عليها أن أهل العلم والفضل لا يصلون عليه؟ لو جيء برجل معروف بشرب الخمر، أو مات منتحراً، أو مات بالمخدرات، جيء به إلى شيخ إمام معروف، أو عالم، أو داعية مشهور، فينبغي ألا يصلي عليه، ويقول: صلوا على صاحبكم، لماذا؟ لأنه موقع القدوة.(46/7)
السلف في موقع القدوة
نحن أيها الإخوة! ينقصنا قدوات، وينقصنا تحقيق موقع القدوة، قال الليث بن سعد: كنت في المدينة مع الحجاج وهي كثيرة السرجين، أي: الزِّبل من كثرة دواب الحجاج، فكنت ألبس خفين خفاً على خف، فإذا بلغت باب المسجد، نزعت أحدهما ودخلت، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا تفعل هذا، فإنك إمام منظور إليه، يريد لبس خف على خف، على مسألة بسيطة، قال: انتبه يا ليث أنت إمام ينظر إليك.
وفي مجلس البخاري رحمه الله رفع إنسان قذاة من لحيته وطرحها في الأرض في المسجد، قال الراوي: فرأيت محمد بن إسماعيل ينظر إليها وإلى الناس، فلما غفل الناس، رأيته مد يده ورفع القذاة من الأرض، فأدخلها في كمه، فلما خرج من المسجد، أخرجها وطرحها في الأرض، فكأنه صان المسجد عما تصان عنه اللحية، فكان أبو عبد الله محط الأنظار، قدوة.
ولذلك نقلت القصة، وكان هناك من يراقب ويشاهد، لأن هؤلاء أئمة، والإنسان إذا خالط القدوات يتعلم ويستفيد، ولذلك يقول أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: زرت أحمد بن حنبل، فلما دخلت عليه بيته قام فاعتنقي، وأجلسني في صدر المجلس، فقلت: يا أبا عبد الله أليس يقال صاحب البيت، أو المجلس أحق بصدر بيته، أو مجلسه؟ قال: نعم، نعم هو أحق، لكن يقعد ويقعد من يريد، وأنا أردت أن أوثرك، فأقعدتك.
فقلت في نفسي: خذ إليك أبا عبيد فائدة، ثم قلت: يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على حق ما تستحق، لأتيتك كل يوم، فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً لا ألقاهم في كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم، مع أني ما أراهم في السنة إلا مرة لبعد البلدان والانشغالات ونحو ذلك، لكني أحبهم أكثر من بعض الناس الذين أراهم يومياً، ذلك الغائب أحب إلي، قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد، أي: لا يلزم أن يكون من لا يرى باستمرار مكروهاً، أو أقل محبة.
فلما أردت القيام، قام معي، قلت: لا تفعل يا أبا عبد الله، قال: قال الشعبي: من تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، ويؤخذ بركابه، قلت: يا أبا عبد الله من عن الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي، قلت: يا أبا عبيد هذه الثالثة.
نحن يا إخوان! ينقصنا الآن نقصاً حاداً جداً وجود القدوات، وجود القدوات في المدرسين والمدرسات، فهناك مدرس خلف سور المدرسة يدخن والطلاب في الطابور، وأخلاقه شرسة، ومدرسة تقول: الكعب العالي ممنوع يا بنات، واللباس لا بد أن يكون محتشماً، وهي كعب حذائها ارتفاعه كبير، والفتحة في تنورتها طويلة، وهناك أبٌ مقصرٌ في الصلاة ويريد من أولاده أن يصلوا، ويشاهد التلفزيون ويريد من الأولاد الامتناع، كيف سيحدث هذا؟!!(46/8)
نقص في وجود الدعاة وأهل العلم
عندنا نقصٌ حادٌ في وجود الدعاة، وأهل العلم، ومفاتيح الخير في الناس، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) رواه ابن ماجة رحمه الله وصححه الألباني نفس الله عنه وشفاه) إن من الناس مفاتيح للخير) المفتاح: آلة فتح الباب المعروفة، والمقصود: أن الله أجرى على أيدي هؤلاء العباد مفاتيح للخير، أجرى على أيديهم فتح أبواب الخير للناس، يفتحون للناس باب علم، أو باب صلاح، أو باب هداية، حتى كأنهم صاروا مفاتيح كأن المفاتيح وضعت في أيديهم، فيقال: هذا جعل الله مفاتيح الخير على يديه.
أثنى النبي عليه الصلاة والسلام عليهم قال: (طوبى) طوبى لذلك، فمن الناس من يشتغلون بالخير ويشغلون غيرهم للخير، فيعمل حلقةً، فيأتي أصحابه إليها يستفيدون، أو يعمل مشروعاً خيرياً، فيشترك فيه الناس، فينتفع آخرون، وينتفعون هم، وينتفع هو في الدرجة الأولى، وهكذا يمشي في إصلاح بين الخلق، فيحصل الصلح وترجع المياه إلى مجاريها، ويرجع الوئام ويتصل حبل المودة، وتنصلح أحوال الأسرة، أو أحوال الشركاء المختلفين، فهذا الإنسان من مفاتيح الخير.
ونحن في وضعنا الذي نعيش فيه نحتاج حاجةً ماسةً إلى مفاتيح الخير هؤلاء، لو قلّ أهل الخير في المجتمع؛ فإننا على خطر عظيم، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن بشر، قال: لقد سمعت حديثاً منذ زمان، يقول: (إذا كنت في قوم عشرين رجلاً، أو أقل، أو أكثر، فتصفحت في وجوههم، فلم تر فيهم رجلاً يُهاب في الله، فاعلم أن الأمر قد رق) إذا صرت في مكان، في شركة، أو مكتب، أو مدرسة، فنظرت في عشرين رجلاً حولك لم تر فيهم واحداً من يُهاب لله، فاعلم أن الأمر قد رق، وأن أمر الدين صار رقيقاً ليس متيناً.
ينقصنا دعاة، لأننا في حال بئيس، الناس يعيشون أزمة في العقيدة، وأزمة في الأخلاق، وأزمة علاقات اجتماعية، فيهم شرك، وفيهم بدعة، وفيهم معاصٍ، وفيهم موبقات، وتفكك أسري، وتناحر، وعصبية، وكيد، وسحر، وعين، من كل الجهات، إذا جئت تنظر؛ وجدت شراً كبيراً، ما الذي يصلح الأمر؟ وجود الدعاة إلى الله عز وجل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ونحن نعلم أن مهمة التغيير مهمة شاقة وصعبة.
إن عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما تولى المهمة العظيمة وشعر بحجم المسئولية، والخلافة تولاها على المسلمين، قال: "إني أعالج أمراً -أكافح وأناضل وأصارع، وأبذل الجهد- لا يعين عليه إلا الله، قد شب عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وهاجر عليه الأعرابي، وفصح عليه الأعجمي حتى حسبه الناس ديناً لا يرون الحق غيره".
تعودوا على منكرات وأخطاء، شبوا عليها ونشئوا حتى صاروا يرونها حقاً، وأنا جئت أريد أن أغير "إني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله" ابتداءً من الشرك الموجود في عصرنا بين المسلمين الذين يسألون غير الله، ويطلبون من أصحاب القبور قضاء الحوائج.
ذهب موحدٌ فاضلٌ إلى أحد شيوخ الصوفية، فقال له: دعاء غير الله حرام وشرك، إذا سألت فاسأل الله، بدلاً من أن تقول: يا عبد الله وتنادي الميت، قل: يا ألله! قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] قال: يا ابني هذه آية وهابية ما لك فيها!! وذهب أحد الأفاضل إلى شيخ من هؤلاء، فقال له: إن الاستغاثة بالأموات حرام وشرك، والأدلة من القرآن والسنة كذا كذا، فقال ذلك الضال: فقط أنت عندك أدلة، أنا عندي أدلة، قال: وما هو دليلك؟ قال: عمتي تقول: يا شيخ سعد، أي: تنادي الولي سعد تستغيث به، فهذا دليل.(46/9)
واقع الأمة المزري
فإذا ذهبت تنظر يا أخي في واقع الأمة فيما أصابها من الشرك الأكبر فضلاً عن الشرك الأصغر، لوجدت ذلك منتشراً معشعشاً.
وإذا نظرت في قضية البدع، لوجدت أموراً لا يحصيها إلا الله.
وعلى مستوى التفكك الأسري طلاق، ومهاجرات، وخصومات، وقضايا، وتشرد أولاد، وعدد كبير من حالات الانحراف في الفتيات وفي الأولاد في البيوت المفككة.
فلانة أبوها طلق أمها ثم انتقلت إلى بيت جدتها، الرقيب ضعيف، فانحرفت البنت.
وأخرى أبوها طلق أمها، ثم عاشت في بيت زوج أمها، لم تجد الرعاية، فانحرفت البنت، وانتقلت إلى بيت خالها، فحصل السوء، وهكذا التفكك يولد الفجور.
وعلى مستوى الانحطاط الأخلاقي هناك أفلام وقنوات، وفحش في الأطباق الفضائية وأناس تستأجر شقة مفروشة بخمسين ريالاً في الليلة إلى الصباح ليسهروا على القنوات التافهة التي تأتي بها أجهزة مركبة على الصحون الفضائية، واشتراكات في القنوات ومواقع على شبكة نسيج العنكبوت الإنترنت، ودسكات كمبيوتر متداولة بأيدي المراهقين في المدارس المحملة بالأشياء القذرة حتى في شهر رمضان، والبريد الإلكتروني يرسل الفحش، وأشياء منتشرة كانتشار النار في الهشيم.
ما الذي يصلح هذا الحال؟ قيام دعوة إلى الله بقوة لإصلاح الخلق ودعوتهم إلى الله بترقيق قلوبهم، وتذكيرهم ووعظهم.
وترى التشبه بالكفار أمراً منتشراً متفشياً قد يصيب البعض باليأس، فقد دخلت داعية من الداعيات إلى مسرح مدرسة لإلقاء كلمة في الطالبات، فهالها وأصابها الإحباط أن كل ما رأت بعينها كان أحمر اللون، الطالبة التي ليست معها وردة حمراء معها شال أحمر، أو قفاز أحمر، أو حقيبة حمراء، أو منديل أحمر، لماذا هذا؟ عيد الحب، انتهت الورود الحمراء من المحلات في ليلة، إنها مصيبة وكارثة، البنات في المتوسطة يقلدنَ الكفار في عيد الحب.
إن انتشال هؤلاء وإصلاح الأوضاع بحاجة ماسة إلى دعاة، الوضع يحتاج إلى حركة في الدعوة إلى الله، وإصلاح المجتمع، وإصلاح الخلق، وبذل الجهد في هذا، ما أسهل الهدم! وما أصعب البناء! والإنسان الداعية يأخذ أجر من اتبعه على الهدى الذي يدعو إليه إلى يوم القيامة، ولو تسلسل الناس الذين تعلم كل واحد من الآخر.
ثم الداعية من فضله قد ينتج شخصاً أفضل منه، قد يكون داعية يدعو أحد الناس، وهذا الشخص يتفوق على الداعية مستقبلاً في العلم والقدرات والإمكانات ونصرة الدين، ولكن ذلك الأول مع أنه أقل في الإمكانات، لكنه لما أنتج هذا وهذا وهذا، سيكون له شيءٌ عظيمٌ من الأجر.
ويقول أبو سليمان الداراني: اختلفت إلى مجلس قاص، واعظ، فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت، لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانيةً، فأثر كلامه في قلبي بعدما قمت وفكرت، ثم عدت إليه الثالثة، فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات، عود، وطنبور، وربابة، ومزمار، وطبل، والآن الشاشات والأفلام.
أحد الشباب حضر جنازة عظيمة لامرأة نحسبها من الصالحات، فلما رأى كثرة الناس اتعظ من منظر الجنازة وهو ذاهب إلى المقبرة أخذ أشرطة الغناء من السيارة كلها وألقاها في الشارع.
فالإنسان قد يتأثر فعلاً ويتعظ في لحظات، يقول أبو سليمان: أول مرة كان التأثير ضعيفاً، وفي المرة الثانية حصل التأثير في الشارع، وفي المرة الثالثة رجعت إلى منزلي فكسرت آلات المخالفات، ولزمت الطريق المستقيم، فحكيت هذه الحكاية لـ يحيى بن معاذ بعد سنين أي عندما صار أبو سليمان رجلاً مشهوراً ومعروفاً بالزهد والورع والعبادة والذكر، قال يحيى: عصفورٌ اصطاد كركياً -يبدو أن الكركي هذا نوع نادر ونفيس من الطيور- فقال: عصفورٌ اصطاد كركياً، أي: يقول: انظر سبحان الله! هذا القاص مثل: العصفور، لكن اصطاد لنا هذا الشخص العظيم.
فالداعية له أجر وفضل، فليحرص الدعاة على دعوة الخلق وإنتاج الصالحين؛ لأنهم إذا بثوا في المجتمع، حصل نفعٌ كبيرٌ.(46/10)
الثبات
وينقصنا فيما ينقصنا الثبات، لأن الإنسان قد يهتدي من داعية، وقد يهتدي من شريط يسمعه، أو محاضرة، وقد يهتدي من موت قريب، أو من منامٍ يراه، أو من مرض يمرض به، أو من حادث أو يرى الموت بعينه، ويقول: نجوت الآن وفي المرة القادمة لعلي لا أنجو، فيهتدي، لكن يحتاج إلى الثبات على الهداية.
ولذلك نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ونكررها في الصلاة مراراً، زدنا هداية وثبتنا على الصراط المستقيم، ومعنى التكرار هنا طلب المزيد وطلب الثبات والدوام، والثبات مهم؛ لأن وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وفيها من أنواع الفتن والمغريات التي نكتوي بنارها يومياً، وشبهات وشهوات تبث بسببها صار الدين غريباً، وانطبق المثل العجيب: القابض على الدين كالقابض على الجمر.(46/11)
الثبات في زماننا هذا
وحاجتنا اليوم إلى الثبات على الدين أشد من حاجة الناس المسلمين في العصور الأولى، لما كان المجتمع نظيفاً، وكانت الدنيا عامرة بذكر الله، ويندر أن ترى منكراً عامراً في الشوارع لقلة من يرتكب المنكر وكثرة من يُنكر، فلما انعكست الأمور في ندرة الإخوان وضعف المعين، وقلة الناصر، وفساد الزمان، صرنا نرى كثرة حوادث ردة وانتكاس ونكوص على الأعقاب حتى من بعض الذين كانوا ممن يشار إليهم، مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس الثبات.
فالثبات مسألة متعلقة بالقلب، وإنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة تقلبها الريح ظهراً لبطن وبطناً لظهر، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يدعو: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) الداعي هو الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الأمة إيماناً وثباتاً على الدين، فما بالنا نحن؟!!(46/12)
من أسباب الثبات
ثم إن الثبات هذا له أسباب منها: أناس يوفقهم الله أن يكونوا عناصر مثبتة لغيرهم، خذوا هذا المثل من أهل جواثى من أهل الأحساء، لما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وأسلم على يديه قومه، وأقام فيهم الإسلام والعدل، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام تُوفي المنذر بعده بقليل، فلما مات المنذر، ارتد أهل البحرين، وقال قائلهم: لو كان محمد نبياً، ما مات، ولم يبق بـ الأحساء كلها على الثبات -هذا كلام ابن كثير - ولم يبق منها بلدة على الثبات سوى قرية يقال لها جواثى، وكانت أول قرية أقامت الجمعة ونجت من أهل الردة، كما ثبت ذلك في البخاري عن ابن عباس.
أهل جواثى حاصرهم المرتدون، وضيقوا عليهم حتى منعوا عنهم الأقوات، فجاعوا جوعاً شديداً حتى فرج الله عنهم، وقال رجلٌ منهم، من أهل جواثى المسلمين الثابتين المحاصرين، وقد اشتد عليه الجوع:
ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكمُ إلى قومٍ كرامٍ قعودٌ في جواثى محصرينا
كأن دماءهم في كل فجٍ شُعاع الشمس يعشي الناظرينا
توكلنا على الرحمن إنا وجدنا الصبر للمتوكلينا
ما لنا إلا الصبر، والقتل فينا والجوع والحصار، يقول ابن كثير رحمه الله: وقد قام فيهم رجلٌ من أشرافهم وهو الجارود بن المعلى، وكان ممن هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً وقد جمعهم، فقال: يا معشر عبد القيس إني سائلكم عن أمرٍ، فأخبروني إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموه، فقالوا: سل، قال: أتعلمون أنه كان لله أنبياء قبل محمد؟ -صلى الله عليه وسلم- قالوا: نعم، هناك أنبياء قبل محمد، قال: تعلمونهم، أو رأيتموهم؟ الشيء هذا علمتموه، أو رأيتم الأنبياء؟ قالوا: نعلمهم علماً، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم مات كما ماتوا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: ونحن أيضاً نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنت أفضلنا وسيدنا، وثبتوا على إسلامهم، وتركوا بقية الناس فيما هم فيه، وبعث الصديق رضي الله عنه وأرضاه العلاء بن الحضرمي، وحصل بعد ذلك ما حصل من رجوع الناس إلى الإسلام.
إذاً في موقف الشدة، أحدهم ينقذ الموقف، ويثبت الناس، قال هؤلاء: لو كان محمدٌ نبياً ما مات، فقام وقال هذه الكلمة، فثبت الله به الناس.(46/13)
التربية
ومما ينقصنا أيها الإخوة! في تحصيل الثبات: التربية، فقد يوجد شيء من العلم والإيمان، والهداية، لكن المعدن ليس مصقولاً كما ينبغي، فينا نواقص، وفينا خروق، وعيوب، وضعف، فالمسألة لا بد فيها من بناء، فلا يصمد في وجه هذه القلوب القاسية إلا البنيان الثابت، والبنيان الثابت لا يمكن أن يتم إلا بالتربية العلمية الواعية المتدرجة الإيمانية التي تحيي الضمير بالخوف من الله والرجاء في ثوابه والمحبة له المنافية للجفاء والقسوة.
التربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والتبعية الذميمة، التربية الواعية التي تعرف سبيل المجرمين وخطط أعداء الإسلام، وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً وهي التربية المتدرجة التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً إلى كماله.(46/14)
تربية الرسول للصحابة
كان الصحابة يتلقون ألوان التربية والتثبيت من النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك ثبتوا حتى في الظروف الصعبة القاسية في مكة مع الشدة والحصار، كان أحدهم يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من الضرب، وحتى يأكل الجعلان.
عن خباب بن الأرت، قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ألا ترى ما نحن فيه من الشدة؟ فجلس محمراً وجهه، فقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ، أو عصبٍ، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة، قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجرٍ حجرٍ) كل واحد مربوط على بطنه حجر من الجوع (جئنا نشتكي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فرفعنا عن بطوننا، كل واحد في بطنه حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين) وهكذا كان الثبات والتربية، كان يُوضع في وقت الجوع والمخمصة ألواح من الحجارة يشد على البطن حتى يعتدل الظهر وتبرد حرارة الجوع فتضغط على المعدة حتى لا يحس الإنسان بخلوها، يستعينون بها على مواجهة المجاعة.(46/15)
العلم الشرعي
ومما ينقصنا العلم الشرعي، سألني شخص أن أمه تصلي المغرب أربع ركعات، ولا تقرأ الفاتحة إلا في الركعة الأولى، وهذا يقول: إنه مسح على جوربيه سنوات طويلة بغير طهارة، أي: لو نقض الوضوء، يمسح على الجوربين ولو لبسها بغير طهارة، يقول: ما كنت أدري أنه لا بد من طهارة للبس الجورب، وهذا الذي تجلس بجانبه فيقرأ لك الصابرين والصادقين والقانتين والمنافقين والمستغفرين بالأسحار، أي: ذلك الرجل الذي قرأ من زمان ذلك الكتاب ولا زيف فيه، أي: تقول: ما كان هناك نقط في المصحف، أما الآن فهو منقط ومشكول، وانظر الأخطاء.
ويقول لك بعض من يطلب العلم: هذا قرأناه في كتاب المحْلِي والمُغَنِي، سبحان الله! المحلى لـ ابن حزم، والمغني، ليس المغَني، والمربع صار، المربَّع، وهذا يقول: من هو الإمام (مقيده) الذي يكثر كان الشنقيطي النقل عنه؟ الإمام مقيده من هو؟ الشنقيطي يقول: قال مقيده عفا الله عنه، مقيده أي: الذي كتب الكتاب، يقول: هذا مقيده الشنقيطي يكثر النقل عنه، من هو الإمام (الباقون)؟ كل لحظة: قرأ الباقون، قرأ الباقون، الباقون أي: باقي القراء السبعة.
وهناك باحث في رسالة ماجستير وتحقيق مخطوطة، يقول في التعريف: ويبدو أن أباه كان عالماً بالقراءات، أي: أبو المصنف كان عالماً بالقراءات، فإنه كثيراً ما يقول في كتابه: وقرأ أبي وقرأ أبي، وهي: قرأ أُبيّ، وهذا استنبط أن أبا المصنف كان عالماً بالقراءات، هذا باحث ماجستير.
فيا إخواني! الجهل صار في هذه الأمة متفشياً عجيباً مؤلماً وحالات مضحكة، وهناك أمور من الأساسيات تختفي، تمارس علينا القنوات الفضائية غزواً فكرياً شريراً جداً جداً يهز الثوابت في نفوس العامة.
مثلاً: استقر في نفوس العامة أن الربا حرام، ألف بألف ومائة حرام.
فصار الكلام يدور الآن، وبدأ بعض العامة فعلاً تتخلخل عندهم قضية أن الربا حرام.
مثلاً: تعدد الزوجات، نتيجة الهجوم على هذا المبدأ؛ بدأ بعض العامة يقولون: النساء وبعض النساء، وغير ذلك.
إذاً: الثوابت تهتز ومعنى ذلك أن هناك خللاً كبيراً بسبب ضياع العلم عند بعض الناس.(46/16)
العمل بالعلم الشرعي
ثم نحتاج بعد قضية التعلم العمل بالعلم، فقد يوجد عند كثير من الملتزمين بالدين أطراف من العلم، لكن بكم يعملون منها؟ (مثل علم لا يعمل به كمثل كنزٍ لا ينفق منه في سبيل الله) موقوف على أبي هريرة.
قال حفص بن حميد: دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة أشكلت، وكان كريماً، فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب، أليس يجمع آلته؟ قال: نعم، قال: فإذا أفنى عمره في الآلة، فمتى يحارب؟ شخص يجمع ويجمع، ثم لا يستعمل.
والعلم ليس بنافعٍ أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ
سيان عندي من لم يستفد عملاً به وصلاة من لم يطهرِ
صلاة بلا طهارة مثلها مثل هذا العلم الذي لا يعمل به، علمٌ بلا عمل كشجرة بلا ثمرة.
يقول عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن أنهم كانوا يستقرئون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: وجدت رأي النفس في العلم حسناً، أي: النفس مقبلة على التعلم، فهي تقدمه على كل شيء، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، غير أني رأيت كثيراً ممن شغلتهم النوافل عن العلم قد ضلوا، ولكن في المقابل علم بدون تطبيق ولا ممارسة، قال: رأيت نفسي واقفةً مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها، فما الذي أفادك العلم؟ أين الخوف؟ أين التعلق؟ أين الحذر؟ أما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟! أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الكل؟! ثم أنه قام حتى ورمت قدماه؟! أما كان أبو بكر شديد النشيج كثير البكاء؟! أما كان في خد عمر خطان من آثار الدموع؟! أما كان عثمان يختم القرآن في ليلة؟! أما كان علي يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: [يا دنيا غري غيري]؟! أما كان الحسن يحيا على قوة التعلق بالله؟! أما كان سعيد بن المسيب ملازماً للمسجد، فلم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة؟! أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر؟! أما قالت بنت الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! قال: إن أباكِ يخاف عذاب البيات، أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة وهو يقول: وا لهفاه سبقني العابدون وقطع بي؟! أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟! أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟! أما تعلمون أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، احذري من الإخلاد إلى صورة العلم وترك العمل به.
كان الأولون إذا نقلوا المعلومة؛ تجد الجدية في النقل، إذا سمع شيئاً أثر فيه، يقول سعد بن عبيدة: جلست أنا ومحمد الكندي إلى عبد الله بن عمر، ثم قمت من عنده، فجلست إلى سعيد بن المسيب، فجاء صاحبي وقد اصفر لونه، وتغير وجهه، فقال: قم إليَّ، قلت: ألم أكن جالساً معك الساعة؟ فقال سعيد: قم إلى صاحبك، فقمت إليه، فقال: ألم تسمع إلى ما قال ابن عمر؟ قلت: وما قال؟ قال: أتاه رجلٌ، فقال: يا أبا عبد الرحمن أعليَّ جناحٌ أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة، فاحلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلف بأبيك، ولا بغير الله، فإنه من حلف بغير الله، فقد أشرك) رواه الإمام أحمد.
حديث سمعه رجل فقام مصفراً وجهه متغيراً لونه مما سمع من القصة، ولذلك ينبغي أن يكون عندنا تدقيق، وجدية في طلب العلم، وينبغي أن يكون عندنا عمل بالعلم، وأن يكون هناك أدب في الطلب، فإن بعض الشباب قد يتحمس في الطلب، لكنه لا يرزق أدباً، فيسيء مع الشيخ، ويسيء في السؤال، أو في الأسلوب، أو في الجلسة، أو في الاعتراض.
عن عميرة قال: إن رجلاً قال لابنه: اذهب فاطلب العلم، فخرج فغاب عنه ما غاب، ثم جاءه فحدثه بأحاديث، فقال له أبوه: يا بني اذهب، فاطلب العلم، فغاب عنه أيضاً زماناً، ثم جاءه بقراطيس فيها كتبٌ فقرأها عليه، فقال له: هذا سوادٌ في بياض، اذهب فاطلب العلم، فخرج، ثم غاب عنه ما غاب، ثم جاءه، فقال لأبيه: سلني عما بدا لك، فقال له أبوه: أرأيت لو أنك مررت برجلٍ يمدحك ومررت بآخر يعيبك، ماذا تفعل؟ قال: إذاً لم ألُم الذي يعيبني، ولم أحمد الذي يمدحني، قال: أرأيت لو مررت بصفيحة ذهبٍ؟ قال: إذاً لم أهيجها، ولم أقربها، فقال: اذهب، فقد علمتَ.
الآن جاء العلم، لما حصل الزهد في كلام الناس، والزهد في الدنيا، وقد شابهه ابن القيم في كلامه الذي قلناه في أول الدرس، قطع الطمع بالدنيا وقطع الطمع بكلام الناس هذا علامة الإخلاص.
ينبغي أن يكون عندنا اشتغال بالطاعات، وقيام بالحقوق الشرعية عند حدوث المهمات والمُلِمَّات واستنفار عند حضور مواسم العبادة.
لما تولى عمر بن عبد العزيز، أتى بزوجته فاطمة، فخيرها بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت، وبكت جواريها من بكائها، فسمعت ضجةٌ في دارهم، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله، وقال له رجل: تقرب إلينا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول:
قد جاء شغلٌ شاغلٌ وعدلت عن طرق السلامة
ذهب الفراغ فلا فراغ لنا إلى يوم القيامة
هذه المهمة العظيمة ليست لطلب الفراغ، فقد انتهى الفراغ، وهكذا ينبغي أن يشغل الوقت بطاعة الله عز وجل.(46/17)
اغتنام الأوقات في طاعة الله
ينقصنا اغتنام الأوقات بطاعة رب البريات، قعد أحد السلف إلى رجل يقص له شاربه، فصار يذكر الله أي حرك الشفتين، فتضايق الحلاق، قال: اقفل حتى تقص، قال: أنت تعمل وأنا أعمل.
ومرة جاء ابن حجر رحمه الله إلى المدرسة المحمودية ليخرج المفتاح، فاتضح له أنه نسي المفتاح في البيت، فأمر بنجار يأتي ليعمل مفتاحاً، وقام يصلي -فوراً قام يصلي- فجاء النجار وعمل المفتاح، فقال أحد الطلاب: لو أمرتني، لذهبت إلى بيتك وأتيتك بالمفتاح، فقال: نعمل في الوقت والمفتاح الثاني يفيدنا.
وكان بعض العلماء يقلل الأكل؛ لأنه يحتاج إلى شغل ودخول الخلاء زيادة، والبخاري قال:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتة
وكان بعض العلماء إذا قرأ عليه التلميذ من كتاب، والتلميذ عنده خطأ، أو عنده في الكتاب خطأ، فالتلميذ سيسكت عن القراءة ليصلح الخطأ، فكان الشيخ إذا توقف التلميذ، يذكر الله بصوت خفي حتى يفرغ الطالب من تصحيح الخطأ ويعاود القراءة، ولذلك من تأمل السلف في اغتنامهم لأوقاتهم، يقول أحدهم: لا يحل لي أن يذهب عني وقت بدون طاعة، تدريس، أو دراسة، أو قراءة، أو تلاوة، وحتى إذا استلقى ليرتاح وغمض عينيه، فهو يذكر الله، وحتى لو ما ذكر الله، فهو يتأمل في المسائل ويتأمل في عظمة الله تعالى، هكذا كانوا يفعلون، ونحن ينقصنا هذا المبدأ نقصاً شديداً.(46/18)
الاهتمام بالسنن
ينقصنا فيما ينقصنا الاهتمام بالسنن، والحرص عليها، بعض الناس يرى أن هذه أشياء تافهة، وأشياء جانبية وقشور، ابن عمر رضي الله عنهما لما رأى رجلاً قد أناخ راحلته لينحرها، قال له: [ابعثها قياماً مقيدةً سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم] فالسنة أن تنحر الناقة قائمة معقولة الرجل اليسرى، تنحر في لبتها، فعند ذلك تطيح، فإذا وجبت، أي: طاحت: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] لقد كانوا يهتمون بالسنن.
يقول أبو غالب: صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل، فقام حيال رأسه -وضع الجنازة وقام مقامه خلف رأس الميت مباشرة- ثم جاءوا بجنازة امرأة من قريش، فقالوا: يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، أي: الجنازة، فقال له العلاء بن زياد: أهكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم، فلما فرغ، قال العلاء: احفظوا هذه السنة.
واستأجر أبو داود قارباً ليقطع النهر ويرد على رجل عطس وحمد الله ويقول له: يرحمك الله، وهذا الحديث: (فليقل له: يرحمك الله) أي: يُسْمِعه، فمن السنة أنك تشمته إذا سمعته قال الحمد لله، ولا تقل في سرك: يرحمك الله، بل تُسْمِعه: (فليقل له: يرحمك الله).
وكان أبو بكر الحديدي شديد الحرص على السنة، لا يسامح أحداً في شيء من أدائها، وكان معه مقراض -مقص- فمن رأى شاربه طويلاً قصه، أي: أنه يحمل مقصاً في يده فإذا رأى شخصاً شاربه طويل يقص له شاربه، فإن امتنع، تبعه يقول: وا ديناه، وا سنة نبياه، وويجلس ويقص له شاربه.
فالشاهد هو الحرص في إنشاء هذا الدين كله مهما كانت المسائل كبيرة أو صغيرة، يجب أن يقام به ويحرص عليه.(46/19)
الرجولة
لو تأملنا يا إخوان في حال هذه الأجيال التي نراها، لوجدنا عندنا نقصاً كبيراً في اتضاح معاني الرجولة، الرجولة التي أثنى الله عليها: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28] {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
تمنى كل واحد من أصحاب عمر أمنيتين، فلما جاء دور عمر، قال: [لكني أتمنى ملء هذه الحجرة رجالاً أمثال أبي عبيدة].
فتأمل في هذا الجيل، ماذا ترى؟ إنه ضعف وخور وميوعة، وانحلال، وتأنُّث، وكسل، ودنو همة، وعدم تحمل مسئولية، وبطالة، نريد رواحل ونريد رجالاً، يعتمد عليهم في حمل الدين والعلم والدعوة، وحمل المشاق، ومواجهة الأعداء، والرد على الشبهات، وإفحام خصوم الإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري.
قال الشراح: المقصود في الحديث أقوالاً منها: لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه، وقيل المراد: إن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليلٌ جداً، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل، وقيل المعنى: إن الزاهد في الدنيا الكامل في صفاتها، الراغب في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل، قال النووي: هذا أجود، وأجود منه قول آخرين: إن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل.
وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة، فتَحمُل المسئوليات ما يطيقه أي أحد، ولا بد أن يتربى الجيل على تحمل المسئوليات.
الآن حتى الخطوط والكتابة سيئة، الإملاء سيئ، القراءة سيئة، يصل إلى رابع ابتدائي وأخطاؤه في القراءة والكتابة عجيبة جداً، لا يتحمل الواحد أن يعمل شيئاً اطلع إلى فوق هات الحقيبة، انزل إلى تحت هات كذا، وشغل الأطفال مشغلة الخدم.
يقول ابن كثير عن الوليد بن عبد الملك: كان أبواه يطرفانه، فشب بلا أدب، وكان لا يحسن العربية، وكان إذا مشى يتوكف في المشية، أي: يتبختر، وقد روي أن عبد الملك أراد أن يعهد إليه، أي: في الخلافة بعده، ثم توقف؛ لأن ولده لا يحسن العربية! فجمع الوليد جماعةً من أهل اللهو عنده -الآن لما اقترب الموت، أراد أن يصحح خطأ كذا سنة- فجمع له أهل اللهو، فأقاموا سنةً عند الوليد، وقيل ستة أشهر، فخرج يوم خرج أجهل مما كان.
وسنعود إلى مسألة التربية، ثم الأولاد والزوجات بعد قليل إن شاء الله.
كنا نتكلم أيها الإخوة! عن قضية الرجولة وحمل المسئوليات والجدية، الجدية المنافية للهزل، والآن تجد هزلاً كثيراً، وكثرة ضحك، وميوعة، لقد كان السلف يقاومون هذه الحركات، قال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري: قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم.
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قال: هل أتاك أنك صادرٌ عنها؟ هل عندك إثبات أنك تنجو؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟! وتحت قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية:27] أورد ابن كثير رحمه الله القصة التالية: قدم سفيان الثوري المدينة، فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يُضحك به الناس، فقال له: يا شيخ! أما علمت أن لله تعالى يوماً يخسر فيه المبطلون؟ قال: فما زالت تُعرف في وجهه حتى لحق بالله تعالى، أي: حتى مات وموعظة سفيان تعرف في وجهه وفي سمته، قلّ الهزل والضحك، صار الجد والإقبال والعمل، والآن كثر الضحك وقل العمل، وكثر الهزل وقل الجد، وهذه مصيبة أن تكون في الجيل، لا بد من جدية، إنهم لا يصبرون على ساعة علم، ويسمعون أشرطة الأناشيد بالساعات.
قال لي أحد الشباب: دخلت على محل تسجيلات.
نظرت (بيانو) عند الميكرفون، وهو آلة موسيقى والآن يقول لك: مؤثرات صوتية، إذاً ما هي النتيجة، إذا كانت النتيجة هي نفس آلات الغناء، إذاً ذهب الناس في الألحان وتركوا القرآن والله المستعان!!(46/20)
حسن التصرف والتضحية
ينقصنا فيما ينقصنا حسن التصرف والتضحية وهذه المرة سنأخذها من النساء، يقول الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت: [لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله] ترك البنات في البيت عائشة وأسماء صغاراً، وحمل ماله كله، خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم [قالت: فانطلق بها، فدخل علينا جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه].
أظن أن أباكم هذا هاجر وفجعكم بنفسه وماله، [قالت: قلت: كلا يا أبتِ إنه قد ترك خيراً كثيراً، قالت: فأخذت أحجاراً، فتركتها، فوضعتها في كوة البيت كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوباً، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبتِ، أي: يا جدي، ضع يدك على هذا المال، فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني قد أردت أن أسكن الشيخ بذلك] هذه أسماء هي البنت التي رباها أبوها.
ينقصنا في حسن التصرف التدبير في المعيشة، والاقتصاد في المعيشة، اليوم إسراف كثير، مصروفات لا داعي لها، ثم ينتهي المرتب قبل نهاية الشهر، ثم استلاف بسبب قلة التدبير.(46/21)
الاعتزاز بالإسلام
ينقصنا فيما ينقصنا: أن نعتز بإسلامنا، وأن نكون في غاية النباهة لمؤامرات أعدائنا خصوصاً وقد كثرت جداً في شتى أنحاء العالم في كلامهم وحركاتهم ومؤامراتهم وحروبهم، يعملون لنا شتى المؤامرات، ولا بد أن يكون لنا عزة واستبانة لسبيل المجرمين، والواحد قد يفوت على الأعداء شيئاً عظيماً بنباهته.
والمسلم لا يستذل، ولا يرضى بالهوان، يقول ابن عباس: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء من المشركين -ليس عندهم أموال يفتدون بها أنفسهم- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، يعلموا أولاد المسلمين، فإذا أتقن الكتابة، أطلقنا سراحه، فجاء يوماً غلام يبكي إلى أبيه، غلام مسلم جاء إلى أبيه يبكي، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بزحل، والزحل: هو الثأر والانتقام.
قال: الخبيث يطلب بزحل بدر والله لا تأتيه أبداً، هذا الضرب لأنه كافر مأخوذ أسير يريد أن ينتقم، فأفرغها في هذا الولد ضرباً.
ما كان مسلماً.(46/22)
الأخلاق وحسن المعاملة
فينبغي أيها الإخوة! أن يكون عندنا ومتوافر لدينا وهو مما ينقصنا أيضاً: الأخلاق: حسن المعاملة مع زوجاتنا وأولادنا وإخواننا وزملاء العمل، وبين البائع والمشتري.
اشترى قوم من الليث بن سعد سلعة على أساس أن يستغلوها فندموا وما حصلوا الشيء المطلوب، فجاءوا إليه وقالوا: أقل البيع، قال: قد أقلتكم، مع أن الإقالة قد يكون فيها خسارة.
ثم أرسل لهم مالاً إضافياً، فقال له ولده: ما الأمر؟ الآن أقلتهم، ثم أرسلت إليهم مالاً، قال: اللهم غفراً، إنهم كانوا قد أملوا فيه أملاً، فأحببت أن أعوضهم عن أملهم، فالسلعة أرجعناها ونزلنا على رغبتهم وعوضناهم الأمل الذي كانوا يؤملونه وفات عليهم.
وأعطى منصور بن عمار ألف دينار، وقال: لا تُسمع بهذا ابني، فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن الليث هذا تربية أبيه، فأعطى منصور بن عمار تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً، الابن لما سمع أن أباه أعطى ألف دينار فأعطى تسعمائة وتسعة وتسعين ديناراً، فقال: إنما نقصتك هذا الدينار لئلا أساوي الشيخ في عطيته، حتى لا أساوي أبي، احتراماً لأبي، هذا الولد تعلم الكرم من شيخه محمد بن شهاب الزهري، قال: ما رأيت أسخى منه قط، كان يعطي كل من جاء وسأله، حتى يستلف من أصحابه ويعطي الناس.
ومرة جاءه أعرابي والزهري ليس عنده شيء، قال: يا عقيل أعطني عمامتك وسأعطيك خيراً منها، فأخذ العمامة وأعطاه إياها، فأعطاه الأكل بعد ذلك.
وعاش الإمام أحمد مع زوجته عشرات السنين، قال: عشت أنا وأم صالح، فلم نختلف يوماً قط، والآن تهديد بالطرد من البيت هذا إذا لم يطردها فعلاً، أو هي تغلق عليه الباب، أو تخنقه بعقاله، أو تقول: يا بخيل ما فيك خير، ما تجود لنا ولا تنفق علينا، والصياح يصل للجيران، وهذه أهل زوجها عملوا سحراً!! وهذه سحرت زوجها احتياطاً حتى لا يتزوج عليها!!(46/23)
تربية الأولاد
أما مسألة تربية الأولاد التي أشرنا إليها قبل قليل، فيا إخواني مما ينقصنا جداً -والله- ضياع الجيل، لا توجد اهتمامات ولا متابعة للصلوات، ولا توجد متابعة في حفظ القرآن، في إنقاذهم من الأخلاق السيئة: كالكذب وغيره.
ونأخذ عبرة من حياة امرأة، إنها فاطمة بنت أحمد حمدون الشقيلي كانت من الزاهدات العابدات، لما توفي بعلها ترك لها ثلاثة أولاد: الأول: نحو سبع سنين، والثاني: نحو أربع سنين، وأختهما ولها سنتان، فألزمت ولديها قراءة القرآن وحفظه، وكان الزمان إذ ذلك شديد الأهوال والجوع والقحط والغلاء الذي أفضى ببعض الناس والعياذ بالله إلى قتل أولادهم؛ لأنهم لا يجدون طعاماً يعطونهم إياه، وقد أُكِلَ الأموات جهاراً في شوارع فاس - المغرب - فكانت تجتهد في الكسب، وفي العمل بيديها بما يحصل قوتها وقوتهم، وكان خالها محمد بن خلف الأنصاري يشتري لها كتاناً تغزله ويبيعه لها، ويشتري لها بما زاد قمحاً وشعيراً تصنع منه خبزةً واحدةً تجعلها في قربة زيت كانت عندها فقط في البيت حتى تروى ثم تخرجها فتقسمها أرباعاً لكل ولد ربع وتأكل هي ربعاً، وعلى ذلك عاشوا تلك المجاعة، وكانت تستيقظ من آخر الليل، فتغزل غزلاً آخر غير الغزل الذي في النهار وهي تذكر الله, وتتركه حتى تجمع منه ما تنسج به حلةً أجرة معلم الأولاد، لأنها تريد أبناءها يحفظون القرآن، وهي مشتغلة في تعليمهما، ومجتهدة في إرشادهما، وراغبة في إصلاحهما، فوفى الله تعالى بقصدها وبحسن نيتها وأجابها إلى مرغوبها وأتم أولادها حفظ القرآن.
من الأهمية بمكان الاعتناء بتربية البنات، فالفتاة التي لا علم لديها، لا يتمكن الإيمان في قلبها، ولا تستطيع أن تربي أولادها كما يجب، وقد اجتهد بعض الدعاة في بعض القرى على وضع منهج لتعليم النساء والفتيات، فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالقراءات والتعليم، وصرن يحفزن الرجال على أعمال الخير، وطالما عيرنهم على المظالم، وعلى ما يرتكبون منها.(46/24)
تربية الزوجة
أما تربية الزوجة، فقد كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته، فبكى فبكت، ثم قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني تذكرت قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فلا أدري أنجو منها أم لا.
هذه طائفة من الأشياء التي تنقصنا وما ينقصنا كثير، ولكن أكتفي بما تقدم وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً هداةً مهتدين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ويسدد خللنا إنه سميعٌ مجيبٌ قريبٌ، والحمد لله رب العالمين.(46/25)
الأسئلة
كنت أريد أن أذكر في آخر كل درس بعض الفتاوى التي استفدتها من الشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمه الله نشراً لعلمه وفضله، وإفادة فيما كان قد أفتى به رحمه الله.(46/26)
دفع العربون ثم غاب
السؤال
سألته رحمه الله عن رجلٍ اشترى سلعة من رجل، فدفع المشتري إليه عربوناً، وبقيت السلعة لدى البائع، وغاب المشتري سنة ولا ندري أين هو؟ فماذا يفعل؟
الجواب
فأجابني: بأنه إذا لم يتمكن من العثور عليه، باع السلعة، وأخذ بقية حسابه، وتصدق بالباقي عن المشتري.(46/27)
حكم الأسنان الزائدة
السؤال
وسألته عن فتاة كسرت سنها، ولو بردته لإصلاحه لصار أقصر من الذي بجانبه، فيحتاج الثاني إلى بردٍ أيضاً، فهل يجوز لها الأخذ منهما؟
الجواب
فقال لي: الظاهر أنه لا بأس به، ليس من التفليج، وهذا شين وعيب مثل: السن الزائدة والإصبع الزائدة، وما شابه ذلك.(46/28)
حكم إزالة شعر الجبهة إذا كثر في المرأة
السؤال
سألته رحمه الله هل يجوز للمرأة أن تزيل شعر الجبهة إذا كثر؟
الجواب
فقال: هذا يكون تشويهاً، وأخذه ليس من النمص.(46/29)
اشتراط المؤجر على المستأجرين عدم وضع دش
وأيضاً نكمل بعض الأسئلة من فتاوى الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين حفظه الله.
السؤال
قلت له: هل يجب على صاحب العمارة في هذه الأيام أن يشترط على المستأجرين عدم وضع دش؟
الجواب
قال: نعم، إذا غلب على ظنه أنهم يركبونه، فيجب أن يشترط عليهم.(46/30)
حكم هدايا الطلاب والطالبات لمدرسيهم
السؤال
وسألته حفظه الله أيضاً عن هدايا الطالبات للمدرسات، وهدايا الطلاب للمدرسين، فسألته عن ثلاث حالات: المدرس الذي يدرس الطالب الآن، والثاني: المدرس الذي يُحتمل أن يدرسه في المستقبل، وإن كان لا يدرسه الآن، والثالث: المدرس الذي لا يدرسه الآن، ولن يدرسه في المستقبل المنظور مثل: الطالب الذي يتخرج من الجامعة، والمدرس في المدرسة باقٍ.
الجواب
فقال الشيخ/ محمد: لا يجوز أن يقبل هدايا طلاب الموضوع الأول، أو الثاني، وأما النوع الثالث فإذا انقطعت الصلة ولا يدرسه وأعلنت النتائج، فقال: لا بأس بها.(46/31)
حكم هدايا المدرسات للمديرة
السؤال
وسألته سؤالاً عن هدايا المدرسات للمديرة إذا كانت المديرة تهديهن في المناسبات، في الولادة، وفي القيام من مرض، أو القدوم من سفر، وهكذا؟
الجواب
فقال: إذا كانت الهدايا متبادلة أصلاً، فلا بأس بذلك، وإلا تكون رشوة.(46/32)
الدراسة في الطب وطلب العلم الشرعي
نأتي الآن إلى بعض ما جاء من أسئلة الإخوان:
السؤال
أنا طالب في كلية الطب أرغب في طلب العلم الشرعي وليس لدي وقت؟
الجواب
يا أخي! لا يوجد شيء اسمه ليس لديك وقت، لابد من إيجاد وقت، أي: أما عندك ربع ساعة في الليل؟ أما عندك خميس وجمعة؟ أما عندك إجازة سنوية؟ إذاً يوجد، لأن الطالب يدرس في السنة سبعة أشهر أو ثمانية، فإذا أزلت الخميس والجمعة هذا الوقت يجب أن يغتنم.(46/33)
تعريف القدوة
السؤال
من هو القدوة؟
الجواب
الذي يتمثل الإسلام في واقعه ويطبق الأحكام هذا هو القدوة.(46/34)
حكم تحديد اللحية
السؤال
ما حكم تحديد اللحية؟
الجواب
اللحية هي الشعر النابت على العارضين والذقن، فلا يجوز الأخذ من أي شعر نابت على العارضين والذقن، لأنه من اللحية لا تقصيراً، ولا تحديداً، ولا غير ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعفو اللحى) (أرخوا اللحى) (وفروا اللحى) (وخالفوا المشركين) ورخص بعض العلماء بالأخذ ما زاد عن القبضة.(46/35)
حال التشهد مع الإمام للمتأخر في الصلاة
السؤال
دخلت المسجد والإمام في الركعة الثالثة عند قراءة الفاتحة، وعندما يجلس الإمام للجلوس الأخير هل أقرأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو التحيات فقط؟
الجواب
اقرأ التحيات والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلها.(46/36)
التلحيد في الأرض الرملية الرخوة
السؤال
التلحيد عندنا إذا كانت الأرض رخوة رملية وعمل اللحد صعب؟
الجواب
إذاً يكون الشق هو المعمول به ما دام أن هذه طبيعة الأرض.(46/37)
مثبطات في طلب العلم
السؤال
كلما أردت أن أتوجه لطلب العلم تأتيني بعض المثبطات من الوساوس؟
الجواب
خذ معك رفيقاً يطلب معك العلم ويشجعك ويحمسك.(46/38)
بدائل عن الأجهزة التي يشاهدها الأولاد
السؤال
البدائل عن الأجهزة التي تعود الأولاد على مشاهدتها؟
الجواب
نحن إذا لم نحبب إليهم القراءة، فلن تكون القراءة بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم الطيبين ومرافقة الأخيار، فلن تكون مكتبات المساجد بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم حفظ القرآن، فلن تكون حلق التحفيظ بديلاً، وإذا لم نحبب إليهم الرياضات المفيدة، فلن تكون بديلاً، فنحن إذا اتبعنا الطريقة النافعة والجيدة والمجدية في تحبيب أطفالنا بهذه الأشياء، فستكون بديلاً، ولكن لا بد أن نعرف ما ذكرت عائشة رضي الله عنها أن البنت الحديثة السن الحريصة على اللهو، قالت: [اقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على الوقت] لماذا لما حرمت الشريعة التماثيل وصور ذوات الأرواح والمجسمات، أباحت استثناءً ألعاب البنات: هيكلاً، ورأساً ويدين ورجلين، هيكل جسم، بدون تفاصيل دقيقة، لماذا؟ لأجل إشباع رغبة البنت في اللهو، وتعويد البنات على الأمومة، لأن تعويد البنات على الأمومة مصلحة كبيرة أكبر من هذه المفسدة، فإذاً لا بد أن نحرص على لعب الأطفال، نأخذهم إلى البحر ليسبحوا وإلى البر ليلعبوا، وإلى أماكن طيبة، تعمل لك أنت مع إخوانك وقت، أي: درس أسبوعي للأولاد فيه جزءٌ لعبٌ وجزءٌ جدٌ.
اجتمع مجموعة من الطيبين واستأجروا مدينة ألعاب لا يدخلها غيرهم، قالوا: تعال كم تأخذ في اليوم؟ كم دخل الأسبوع؟ مثلاً كم تحصل من العصر إلى العشاء؟ لو أخذنا منك ثلاثة آلاف، ألفين، ألف وخمسمائة، وجمعوا ثلاثين، أربعين، أولاد هؤلاء جاءوا وجعلوا يلعبون بهذه الألعاب بدون موسيقى بدون انحراف، انتقوا مكاناً مناسباً، إما استراحة، أو مزرعة، فنحن ينبغي أن نحرص على اللهو المباح للأولاد مع إفادتهم.(46/39)
نصيحة للمبتدئين في الالتزام
السؤال
النصيحة للمبتدئين بالالتزام؟
الجواب
أنا أنصح بالاتجاه إلى الله بالتعبد، وممارسة العبادات، ففي ممارسة العبادات فائدة عظيمة: صيام، وقيام، وذكر، وتلاوة القرآن، وأدعية إلى الله، ومناجاة.(46/40)
التربية بالمحفزات
السؤال
يحدث من بعض أوساط الشباب أن بعض الشباب يُربى تحت تأثير المحفزات التربوية حتى يصبح لا يكاد يقوم بعمل إلا بوجود محفز؟
الجواب
ليس هناك مانع، لكن بشرط أن يكون المحفز صحيحاً، فلو كان المحفز دائماً كلمات، فأسلوب التربية خطأ، لكن لو كان المحفز الأجر والثواب من الله؛ فهذا صحيح طيب، فالمحفز ليس بشرط أن يكون ثناءً وهديةً وجائزةً، لا، لا بد أن تكون محفزات أخروية تدخل في التربية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(46/41)
ظاهرة الفحش والبذاءة
إن ظاهرة السب والشتم واللعن ظاهرة اجتماعية سيئة تفشت بين أوساط المجتمع الإسلامي، ولقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام صاحب المنزلة العالية في الآداب الحميدة والكلام الحسن والابتعاد التام عن فحش القول وزوره، وقد حذر من هذه الظاهرة القرآن العظيم والسنة المطهرة في مواضع كثيرة، فواجبنا تجاه هذه الظاهرة بترها وقطع دابرها حتى يعيش الناس على ألفاظ القرآن والسنة، ومجانبة الألفاظ التي تؤذي المسلمين.(47/1)
آداب النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! حديثنا في هذه الخطبة عن ظاهرة اجتماعية سيئة عمت كثيراً من الخلق، وهي متعلقة باللسان الذي هو أسهل الأعضاء حركة (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم) وهذه الظاهرة هي ما نراه من انتشار السب واللعن والشتم في أوساط المسلمين، واستعمال الألفاظ البذيئة، فلا تكاد تدخل في سوق، أو محل، أو تجلس في مجلس إلا سمعت أشياء كثيرة، فضلاً عن الطرقات، والمدارس وغيرها من مجتمعات الناس.
وهذه الظاهرة ظاهرة السب والشتم واللعن والبذاءة في الكلام قضية خطيرة، لا ينبغي التساهل فيها أبداً [لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً] رواه البخاري ومسلم.
والفحش هو ما قبح من القول والفعل، وشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشة، فترى هؤلاء ينطقون بالأقوال الأثيمة، وأحدهم عينه غمازة، ولسانه لمازة، ونفسه همازة، وحديثه البذاءة، لا يذكر أحداً إلا شتمه، ولا يرى كريماً إلا سبه وتعرض له بالسوء.
والسب والشتم والطعن: التكلم في عرض الإنسان بما يعيبه، وهو فسوق وخروج عن طاعة الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بالغ في المعاتبة قال: (ما له ترب جبينه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء) وقال: (إن الله لا يحب كل فاحش متفحش) وقال: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ، صخاب بالأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بالدنيا، جاهل بالآخرة) والجعظري هو: الغليظ المتكبر، والجواظ هو: الجموع المنوع، والصخاب هو: كثير الصياح.
وهذه أوصاف تنطبق على كثير من الناس غالب أحاديثهم ألفاظ شنيعة مستبشعة، يأتون بها من الأماكن القذرة، وحديثهم من المراحيض، وفي العورات، وأسماء الدواب والبهائم على ألسنتهم، واللعن جارٍ عليها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق) أي: يخرج عن طاعة الله تعالى، وقال: (ساب مؤمن كالمشرف على الهلكة) وقال: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أربى الربا شتم الأعراض) (أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا الحديث) وفي آخره: (فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
إذاً: عقوبة السب والشتم، والطعن واللعن، والفحش في القول يكون يوم القيامة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم موصياً أحد الصحابة: (اتق الله! ثم قال له: وإن امرؤٌ شتمك وعيرك بأمر ليس هو فيك، فلا تعيره بأمر هو فيه، ودعه يكون وباله عليه، وأجره لك، ولا تسبن أحداً).
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرضَ من عائشة فعلاً معيناً كان في أعداء الدين، فقد استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم- وكانوا يعنون بذلك الموت- أو يقولون: السِّلام عليكم- أي: الحجارة- فقالت عائشة رضي الله عنها- وقد فطنت لما قالوا وكانت نبيهة ذكية- قالت: وعليكم السام واللعنة، وفي رواية: عليكم السام ولعنة الله، وغضب الله عليكم، وفي رواية: عليكم السام والذام- أي: الموت والذم- هذه الكلمات التي تلفظت بها في حق هؤلاء اليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المربي لزوجته: (يا عائشة! لا تكوني فاحشة) وفي رواية: (مه يا عائشة! فإن الله عز وجل لا يحب الفحش والتفحش، قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت: وعليكم) رد بكلمة واحدة ليس فيها فحش ولا تفحش، وقال: (أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟) هذا كلامها رضي الله عنها في هؤلاء.(47/2)
استخدام ألفاظ الكناية في الكتاب والسنة
إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قد نهيا عن الفحش، ولا يريد الشارع أن يتعود لسان المسلم على السب والشتيمة واللعن مطلقاً، وتأمل طريقة القرآن في الكناية عما يستبشع ذكره ويستحيا منه.
ألم تر أن الله كنّى عن الجماع بالملامسة، والمباشرة، والإفضاء، والرفث، والسِّر، قال ابن عباس: [المباشرة الجماع، ولكن الله يكني، أو يُكنِّي] وقد قال أيضاً: [إن الله كريم يكنِّي ما شاء، وإن الرفث هو الجماع].(47/3)
ألفاظ الكناية في القرآن
قال العلماء: من أسباب الكناية في القرآن: أن يذكر بالكناية ما يفحش ذكره في السمع، فيكني عنه بما لا ينبو عنه الطبع، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] ومما قيل في تفسيرها: أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته، وقد قال تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة:235] فكنى عن الجماع بالسر، وقال: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] فكنى عن الجماع بالمباشرة لما فيها من التقاء البشرتين، وقال: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] بدلاً من الجماع، إذ لا يخلو الجماع من ملامسة، وكنى كذلك بقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] واللباس من الملابسة وهي الاختلاط الحاصل عند الجماع.
وكذلك قال في آية أخرى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] فكنى عنها بالحرث، وقال تعالى في قصة امرأة العزيز: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] فطلبت منه ما تطلب المرأة من الرجل، فعبر عن ذلك بالمراودة.
وقال كذلك في الجماع: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف:189].
وكنى عما يخرج من الإنسان من الفضلة في قصة مريم وابنها {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] قال بعض أهل العلم بالتفسير: "أراد أيضاً مع الأكل البول والغائط، فأخبر بالمسبب إذ لابد للإنسان من البول والغائط، لكن لما كان مما يستقبح كنى عنه بذلك، وأراد أن يقول: إن مريم وابنها يأكلان الطعام ويخرجان الفضلات، ولا يمكن لأحدهما أن يكون إلهاً، فإن الله تعالى منزه عن ذلك".
وقال عز وجل: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6] والمقصود بالغائط قسيم البول، ما يخرج من الإنسان من الفضلة، ولكن قال: الغائط، وهو المكان المنخفض من الأرض، لأن العرب كانوا إذا أرادوا قضاء حاجاتهم أبعدوا عن العيون إلى مكان منخفض من الأرض، حتى إذا نزل أحدهم فيه ليقضي حاجته لا يرى، فكنى عنه بالغائط، فانظر إلى لطيف اللفظ، وكيف يعلمنا الله الأدب في كتابه.
وقال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} [الممتحنة:12] ومعلوم ماذا يوجد بين أرجلهن، فالكناية عن الزنا، وكنى عن الاست بالدبر، فقال: {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال:50].(47/4)
ألفاظ الكناية في السنة النبوية
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان في غاية الأدب وهو يتحدث بتلك الأحاديث مما يعلم منه سلامة لسانه صلى الله عليه وسلم، وعفته.
روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: (خذي فرصة من مسك، فتطهري بها) ومعنى فرصة: أي قطعة من القطن أو الصوف قد أصابها المسك لتطييب المكان بالرائحة الطيبة، فقالت المرأة: (كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله! تطهري) وفي رواية قالت أم المؤمنين: فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمت ما أراد، قالت: فاجتبذتها إليّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم، طهري واغسلي ونظفي مكان الدم من الداخل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله! تطهري بها) ولم يزد على ذلك.
وكان عليه الصلاة والسلام حيياً أشد حياءً من العذراء في خدرها، ولما أراد أن يعلم الأمة متى يجب الغسل، قال: (إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل)، وفي رواية: (إذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل) وقال صلى الله عليه وسلم لما سألته امرأة عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها من غسل؟ فقال: (نعم إذا رأت الماء) وقال: (الماء من الماء) فسمى ما يخرج من الرجل عند الجنابة ماء، وقال باللفظ اللطيف: (الماء من الماء)، فغسل الجنابة ماؤه واجب من الماء الذي يخرج، وكذلك إذا مس الختان الختان.
هل تراه ذكر أسماء العورات كما يذكرها الناس اليوم والتي يعبرون عنها بأبشع الألفاظ، وأسوأ العبارات، وهذا نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذا العفاف والطهر، ولكنهم لا يتعلمون منه، وترى المجالس يذكر فيها من أبشع الألفاظ وأسوأ العبارات، مما يخدش الحياء، ويذهب المروءة، والناس ساكتون، ومنهم من يضحك ويشارك، والنكات القذرة لا تخفى عليكم مما يذكر فيه كثير من هذا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح.
قال ابن الأثير رحمه الله: الاستطابة: الاستنجاء؛ لأن الرجل يطيب نفسه بالاستنجاء من الخبث، والاستنجاء أثر النجوة وهو الغائط، وهكذا إذاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وحتى الرواة لما نقلوا الكلام والفعل والحركة كانوا في غاية العفاف.
ففي رواية أبي داود في الحديث الصحيح، قال: (فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى)، يقول أبو قتادة واصفاً صلاته صلى الله عليه وسلم: (فإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، وجلس على مقعدته) فكنى واستخدم لفظ المقعدة فيما هو معلوم.
وروى ابن ماجة في سننه في كتاب الطهارة -وهو حديث صحيح- عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل مقعدته ثلاثاً في التطهر من الغائط) وكذلك عندما كانت الاستفتاءات تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغاية الأدب، يقول: وقعت على أهلي، أو وقعت على امرأتي في رمضان أو نحو ذلك، ولا يفحشون، ولا يقولون فحش القول أبداً، كيف وهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم؟! وهذه امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة جالسة عنده، وعنده أبو بكر فقالت: يا رسول الله! إني كنت تحت رفاعة، فطلقني فبت طلاقي- أي: بالثلاث- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، تريد أنه ضعيف، لا يستطيع الوقاع والجماع، فكنّت بهذه الكناية اللطيفة، ما معه إلا مثل هذه الهدبة، فما تسمي شيئاً من العورة، أو تذكر شيئاً قبيحاً، ومع ذلك كان خالد بن سعيد بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر! ألا تنه هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على التبسم، لأن من حق المرأة أن تستفتي وتشتكي، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لعلكِ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة- أي: الزوج الأول- لا، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته) وهي: كلمة فيها معنى اللذة، وهي إشارة إلى وجوب الوطء بالنكاح الثاني، حتى إذا طلقها عادت إلى الأول.
فانظر إلى عفافه صلى الله عليه وسلم، وقارن بينه وبين ما يتلفظ به كثير من الناس في هذه الأيام، [وقد جاء رجل إلى عائشة -رضي الله عنها- وهو عبد الله بن شهاب الخولاني كما في صحيح مسلم، فقال: فنزلت عندها- نام ضيفاً- فقال: احتلمت في ثوبي فغمستهما بالماء، فرأتني جارية لـ عائشة فأخبرتها، فبعثت إلي عائشة، فقالت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه- لاحظ الأدب في العبارة والنائم يرى أشياء كثيرة، لكن فيها إشارة إلى شيء معين- قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري].
لقد عبر الصحابة عن التبول بإراقة أو إهراق الماء، وكان أحدهم يقول: أصابتني جنابة، وكان يقال في الحديث: حصل بعض ما يكون بين الرجل وامرأته، ومعلوم ماذا يكون، ومع ذلك فإنهم كانوا يستخدمون الألفاظ المؤدبة النظيفة في الكلام والخطاب.
وكذلك ما يحدث بين الرجل وامرأته لا يجوز الحديث به مع أنها امرأته وحلال له، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعل رجل يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها، فأرمَّ القوم- أي: سكتوا- قال عليه الصلاة والسلام: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون) هذا إذا حدث بالحلال الذي بينه وبين زوجته، فانظر -الآن- ماذا فعلوا في الإجازة الماضية من المنكرات والكبائر، وهم يتفوهون بها.
فإذاً هذه الألفاظ المستبشعة المستشنعة، وما يكون بين الرجل وزوجته لا يجوز الحديث به أمام الناس من باب الأدب، والعفاف.(47/5)
خطورة انتشار ظاهرة اللعن والسب بين الناس
كذلك من المصائب المنتشرة اليوم فيما يتعلق بهذا: انتشار اللعن، واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وهو منتشر كثيراً على ألسنة الناس، وقد أخرج البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن المؤمن كقتله) وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً) قال العلماء: "يحرم لعن إنسان بعينه أو دابة".
وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبواب الأرض دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً، فإن لم تجد مساغاً- أي: مسلكاً- رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) إذا كان الملعون يستحق اللعن وقعت اللعنة، أو كان ممن لعنه الله تعالى أو رسوله، أو كان لعن الجنس كلعن اليهود والنصارى، أو لعن الفاسقين والمتبرجات، أو لعن النامصات والمتنمصات ونحو ذلك مما يجوز لعنه على وجه العموم، وإلا رجعت على صاحبها.
حتى الدواب والبهائم والجمادات لا يجوز لعنها، فقد أخرج مسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فضجرت امرأة من الناقة، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: خذوا ما عليها من المتاع، ودعوها، فإنها ملعونة) لا يمكن أن يصحبنا ملعون في السفر، قال عمران: فإني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد، الدابة مهملة ولا أحد اقترب منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها) فتركوها، فإذاً هكذا عقوبة تعزيرية للاعن (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) حديث صحيح.
إذاً: أيها المسلمون هذا اللعن المنتشر بين الناس حرامٌ في حرام، ويرجع على قائله في العموم والغالب، وحتى قضية السباب والشتام إذا جاوز الإنسان المسبوب والمشتوم، فإنه يأثم {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن إثم السب والشتم على البادئ إلا أن يتعدى المظلوم، فيسب ويشتم بأكثر مما حصل، وإن ترك السب والشتم حتى لو كان مظلوماً، فهو أحسن وأطيب.
فعن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، وأبو بكر ساكت، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت! قال: (إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله، وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر! ثلاثٌ كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره الحديث) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ولهذا ينبغي الامتناع والكف عن ذلك، وقد ضرب الصحابة المثل الرائع في هذا، فعن جابر بن سليم قال: (قلت: اعهد إليّ يا رسول الله- أوصني- قال: لا تسبن أحداً، قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً، ولا بعيراً ولا شاة) أخرجه أبو داود بإسناد حسن.
كم بين هذا وبين ما يحدث الآن من السب والشتم واللعن في المجالس والهواتف، والدكاكين والمحلات، ومجتمعات الناس ظاهرة سيئة، ويسب الرجل زوجته، ويلعن أولاده، وحتى أقرب الناس إليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهر ألسنتنا وقلوبنا، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا يا رب العالمين.
أقول قولي لهذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(47/6)
أسباب نهي الشارع عن اللعن والسب
الحمد لله رب العالمين، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه وأنصاره والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! إن التعود على السب والشتم عادة قبيحة جداً، وقد توقع -والعياذ بالله- في الكفر، كما إذا سب الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الملائكة، ومن السب ما يحكم بكفر صاحبه، ومنه ما يوجب الحد كما إذا قذف بالزنا، ولو قال: أنت أزنى من فلان فعليه حدان، لأنه قذف رجلين، وبعض ذلك يقتضي التعزير، وقد اتفق الفقهاء على أن من سب ملة الإسلام أو دين المسلمين يكون كافراً.
وكذلك نهى الشارع عن سب الدهر، فقال: (لا تسبوا الدهر) لأن سب الدهر يعود على خالق الدهر، وهو الله تعالى، إذ أن الدهر لا ذنب له، وتأمل في سب الناس اليوم للساعة والأيام والسنين.
وأما سب الأموات بغير مصلحة شرعية، فمنهيٌ عنه، وهو يفضي إلى إيذاء الأحياء، وأما أقوال العلماء في السب في هذه الألفاظ المنتشرة، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا أنه إذا سبه سباً لا يصل إلى القذف بالزنا، فإنه يعزر بالجلدات المناسبة، أو ما يراه القاضي لدرء ذلك.
وذكر العلماء -رحمهم الله- في كتبهم أمثله لمن سب شخصاً بألفاظ مقذعة، أو قال: يا فاسق، أو يا فاجر، أو يا ديوث ونحو ذلك، فإنه يعزر تعزيراً رادعاً ينهاه وينهى أمثاله.
وكذلك إذا شتمه ببعض أسماء البهائم، فإن بعض أهل العلم قد ذكروا -أيضاً- أنه يعزر في ذلك، وأما النطق بألفاظ الخنا على الملأ مما يستبشع، فإنه يسقط مروءة الإنسان، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادته، قال ابن الهمام رحمه الله: "إظهار الشتيمة مجون وسفه، ولا يأتي به إلا أوضاع وأسقاط".(47/7)
حالات جواز الجهر بالسب والشتم
وهناك بعض الحالات التي يجوز فيها الجهر بالسب والشتم: كما إذا سب آلهة الكفار لإغاظتهم دون أن يكون هناك منكر أكبر من ذلك يترتب عليه، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه للمشرك: [امصص بضر اللات]، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية- أي: تعصب العصيبة الجاهلية- فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) أي: قولوها بصراحة اللفظ، من باب زجره، والمراد بهن أبيه، أي: ذكر أبيه، يقال له ذلك: اعضضه، إذا تعزى بعزاء الجاهلية.
وكذلك في استنطاق القاضي للمعترف بالزنا، كما قال الصحابي في كلمة النبي صلى الله عليه وسلم لـ ماعز، ثم قال الصحابي، ولا يكني لأجل الحاجة، لأن المسألة فيها إزهاق روحه وقتله، فلا بد من استنطاقه باللفظ الصريح.
وكذلك قال النووي رحمه الله تعالى: "يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وكل مؤدب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر ممن فعل شيئاً سيئاً: ويلك! أو يا ضعيف الحال! أو يا قليل النظر لنفسه! أو يا ظالم نفسه! وما أشبه ذلك، بحيث يؤدبه بمثل هذا، وهذه حاجة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
والحاصل أيها الإخوة! أن الباعث على الفحش إما أن يكون قصد إيذاء الناس، أو العادة التي جرت بمخالطة أهل الفسق واللؤم والخبث، فإن الاعتياد في مخالطة الفساق يسبب تكرار مجالستهم، والاستماع إليهم، والتعود على ألفاظهم، وزوال شناعتها من النفس، والتلفظ بها في تقليدهم والاقتداء بهم.
وما فعلته الأقلام الهابطة في القصص السيئة الماجنة، والأفلام المنحطة، ما فعلته في نشر السباب والشتائم والألفاظ الشنيعة، وإزالة الحياء والكلام في العورات، والكلام في الرفث والجماع ونحو ذلك، أمر عظيم جداً، وأثره في الأجيال واضح للغاية، وأصحاب السوء، والناس في الشوارع الذين يتعلم منهم بقية الأولاد الصغار السباب والشتائم أمر واضح جداً.
لقد أقيمت في بعض الأماكن مسابقة بعنوان: أبو عيون جريئة، يكون الفائز فيها أوقح الشبان وأقلهم حياءً وأدباً، فتصور ذلك في مجتمع من مجتمعات المسلمين إلى هذه الدرجة، من أوقح وأشد شناعة في لفظه هو الذي ينال الجائزة.(47/8)
واجبنا تجاه انتشار ظاهرة اللعن والسب
فهذه الأشياء التي تنشر الفحش ينبغي بترها وقطع دابرها، وينبغي على الآباء أن يصونوا أولادهم عن مرافقة أهل السوء، ونحن الآن في بداية عام دراسي جديد، هل ذهبت يأيها الأب إلى المدرسة، وتفرست في وجوه الطلاب الذين يدرسون مع ولدك في الفصل الدراسي الذي هو فيه، فانتقيت له عدداً من الأخيار ولو قلوا، وقلت له: الزم هؤلاء ولا تتعداهم، وتسمح له بأن يزورهم ويزوروه؟ هذه مسئوليتك، ليست المسئولية شراء الأقلام والدفاتر، والمسارعة لتلبية احتياجات المدرسة، إنما الأهم من ذلك مراقبة الولد من هم أصحابه؟ من هم الذين يماشيهم ويحتك بهم؟ فإنهم مصدر أخلاقه، ومنبع عاداته.
ولذلك فإن مسئولية الأب مسئولية عظيمة، وكل واحدٍ من الراشدين البالغين مسئولٌ عن نفسه في أصحابه الذين يماشيهم ويصادقهم، فإن صاحب الفحاشين صار فحاشاً، وإن صاحب النمامين المغتابين صار كذلك وهكذا أيها الإخوة.
ولنذكر إخواننا في مطلع هذا العام الدراسي، بالاعتناء بتربية أبنائهم، وعدم الاكتفاء بذهابهم إلى المدرسة، ونذكر المدرسين بمسئوليتهم في التربية قبل التعليم، إذ أن هناك فرقاً بين التربية والتعليم، فليست القضية نقل المعلومات، وإنما تأديب الطلاب وتربيتهم على المنهج الإسلامي.
وكذلك نذكر بالفقراء والضعفاء ممن يحتاجون إلى الصدقات حتى في شراء لوازم المدرسة، وقد أفتى أهل العلم بجواز دفع الزكاة لنفقة الدراسة للطالب الفقير؛ لأنها صارت حاجة في هذه الأيام، لا تنال شهادة أو وظيفة في الغالب إلا بها، بل حتى الزواج، ولذلك يجوز دفع الزكاة فيها، ما لم يكن فيها شرٌّ أو إثمٌ أو معصية.
وكذلك أيها الإخوة! الشفاعة لمن يحتاج الشفاعة في قبول ولده في المدرسة ونحو ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) ونحو ذلك ممن يستحق من المسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا في طاعته، وأن يوفقنا إلى مرضاته.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الطهر والصدق يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين، وافتح لهم بلاد الكفار والمشركين، اللهم عجل بنصرهم، اللهم رد إلينا القدس الشريف وأخرج اليهود منه أذلة صاغرين، اللهم عليك بهم يا رب العالمين وبسائر أعداء الدين أرغم أنوفهم، وأفشل خططهم، واجعل مكرهم تدميراً عليهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والصلاح للعباد.
اللهم إنا نسألك الأمن في الأوطان والدور آمنا في أوطاننا، وارشد الأئمة وولاة الأمور، وارحمنا يا رحيم يا غفور.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمة يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(47/9)
الصاحب في الهجرة
أيها الإخوة: في هذا الدرس تعيشون مع أحد صحابة رسول الله، مع رفيقه وأنيسه ووزيره وأبي زوجته، تعيشون مع حادثة الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه في أحداث الهجرة ومسائلها وما يستفاد منها.(48/1)
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبارها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: أيها الإخوة: حديثنا في هذه الليلة عن أحد أصحاب رسول الله، عن صاحبه ورفيق هجرته، وأنيسه في دربه، ووزيره ومواسيه في نفسه وماله، وأبي زوجته، وخليفته من بعده، {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] في رحلته معه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وانتقاله ونقلة الدعوة معه من مرحلة إلى مرحلة، وصاحبه في ذلك الحدث الذي غير وجه الأرض في ذلك الوقت؛ وهو الحدث الذي أرّخ به المسلمون؛ إعلاماً للناس بأهمية هذه اللحظة وهذا الحدث وهو حدث الهجرة.(48/2)
الروايات في حادثة الهجرة
روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها؛ ذكرت الحديث الطويل وفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (إني أُريت دار هجرتكم ذات نخلٍ بين لابتين وهما الحرتان) فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي.
فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم) فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانت عنده ورق السَمُر -وهو الخبط- أربعة أشهر.
قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: (فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها.
فقال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر).
قالت: (فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: أخرج من عندك؟ فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله.
قال: فإني قد أُذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بالثمن).
قالت عائشة: (فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب؛ فبذلك سميت ذات النطاقين).
قالت عائشة رضي الله عنها: (ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في غارٍ في جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليالٍ يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر؛ وهو غلامٌ شابٌ ثقفٌ لقنٌ فيُدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بـ مكة كبائتٍ فلا يسمع أمراً يُكتادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسلٍ، وهو لبن منحتهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِيل؛ وهو من بني عبد عدي هادياً خريتاً -والخريت الماهر بالهداية- قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ براحلتيهما صُبح ثلاثٍ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل؛ فأخذ بهم طريق السواحل).
قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي؛ وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم أن أباه أخبره: أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: (جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحدٍ منهما من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلسٍ من مجالس قومي -بني مُدلج- أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جُلوس، فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل -أشخاص- أُراها محمداً وأصحابه) قال سراقة: (فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعةً، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت برمحي الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تُقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره.
-أي: لا يمضي ويرجع- فركبت فرسي وعصيت الأزلام تُقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت، وأبو بكر يُكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمةً إذا بأثر يديها عثانٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية.
وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني -لم يأخذا مني شيئاً- ولم يسألاني إلا أن قالا: أخفِ عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمنٍ، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية: عن البراء قال: (اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رحلاً بثلاثة عشر درهماً، فقال أبو بكر لـ عازب: مر البراء فليحمل إليَّ رحلي.
فقال عازب: لا.
حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة والمشركون يطلبونكم؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل فآوي إليه؟ فإذا صخرة أتيتها فنظرت بقية ظل لها فسويته، ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله، فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي، هل أرى من الطلب أحداً؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ قال: لرجل من قريش، سماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: فهل أنت حالب لنا؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاةً من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال: هكذا؛ ضرب أحد كفيه بالأخرى، فحلب لنا كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوةً على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى.
فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحدٌ منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرسٍ له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]).
حصل بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم التقى بـ الزبير في الطريق، وكسا النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر ثياباً بيضاً حتى ينطبق الوصف الموجود عند اليهود في التوراة كيف سيدخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مع الصديق، وسمع المسلمون في المدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداةٍ إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم ورجعوا إلى بيوتهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطمٍ من آطامهم -على حصن قلعة لليهود، أشرف عليها اليهودي بعدما انصرف المسلمون الذين كانوا ينتظرون النبي- لأمر ينظر إليه، فبَصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب هذا جَدكم الذي تنتظرون -جَدكم أي: حظكم- فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة.
فاليهودي عرفه بصفاته المكتوبة عندهم في كتابهم، ولم يملك اليهودي نفسه أن صاح من هول المفاجأة والتطابق بين الواقع وبين الوصف المكتوب، وإلا فإن اليهودي لا يدل على الخير، ولكن من هول المفاجأة لم يملك اليهودي أن صاح: يا معاشر العرب: هذا جدكم -أي: حظكم، (وتعالى جدك) هذا شأنكم وهذا شرفكم- الذي تنتظرون.
هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله عن البراء ورواه أيضاً عن عائشة في هذه القصة المجموعة التي تبين قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُوحي إليه بمكان الهجرة وأخبر الصحابة؛ فبدأ الصحابة يتسربون إلى المدينة، وأراد الله تعالى للصديق أن يؤاخي نبي الله صلى الله عليه وسلم في هجرته، وأن يكون معه، هو رفيقه في حياته رضي الله عنه، ولذلك كان يرجو عليه الصلاة والسلام أن يُؤذن له لينطلقا معاً، وهذا ما حصل.
وكان أبو بكر قد حبس نفسه لعله يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فينطلق معه، واستعد براحلتين يطعمهما ورق السمر؛ وهو ورق الطلح يخبط بالعصا فيسقط وتُعلف به الدواب.
واستغرقت فترة الإعداد التي كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُعد فيهما هاتين الراحلتين أربعة أشهر، وهذه التي كانت بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم.(48/3)
إجراءات النبي صلى الله عليه وسلم لكتمان الهجرة
جاء النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الظهيرة وفيه: أن التخطيط للهجرة كان دقيقاً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على قمة الأخذ بالأسباب.
ولذلك فإنه من بداية الأمر اختار الوقت الذي يأتي فيه لـ أبي بكر الصديق يكون الناس نياماً في شدة الحر في الظهيرة (القيلولة).
جاء في نحر الظهيرة في أول الزوال، وأشد ما يكون من حرارة النهار، ويقيل الناس فيها، أتاه ظهراً، فاستغرب آل أبي بكر الصديق قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً، وهذا من الأسباب في إخفاء القضية أيضاً فإنه عليه الصلاة والسلام جاء متقنعاً مغطياً رأسه في وقت يندر أن يوجد أحد يمشي في الطريق.
عرف الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء لأمر مهم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم -إجراء ثالث- قال: (أخرج من عندك؟) لأن النساء والصبيان يتكلمون، وكم أوتي من أوتي من الحذرين من جهة النساء والصبيان، فقد لا يأبه لهم فيتحدث أمامهم بسره، ثم يتسرب السر عن طريق طفل، أو امرأة.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ الأسباب في هذا الأمر الخطير الذي يريد إخفاءه، قال: (أخرج من عندك؟) ولكن الصديق رضي الله عنه يعرف من ربى وكيف رباهم؟ قال: (إنما هما ابنتاي، إنما هم أهلك يا رسول الله) كل من في البيت عائشة وأسماء رباهم الصديق على عينه، يعرف من عنده ويثق وهو على مستوى كلمته التي قالها وأكثر.
(الصحبة يا رسول الله قال: نعم) في رواية قالت عائشة: (فرأيت أبا بكر يبكي وما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح) وهذا من إخلاصه رضي الله عنه؛ لأن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة شرف لا يعادله شرف؛ ولذلك بكى الصديق من الفرحة.
فالبكاء: منه: بكاء حزن، وبكاء فرحة، وبكاء دهشة، وبكاء ألم، فالبكاء أنواع، وهذا كان بكاء فرحة.
وعرض الصديق -من كرمه وبذله في سبيل الله- إحدى راحلتيه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا أركب بعيراً ليس لي.
قال: هو لك.
قال: لا.
ولكن بالثمن).
قيل: لماذا لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم عطية صاحبه؟ قالوا: لأنه أراد أن يهاجر من ماله، ويكسب أجر الإنفاق على الهجرة من ماله؛ لأن الهجرة هنا سفر طاعة عظيم كلما أنفق الإنسان فيه كان أكثر أجراً، فأحب ألا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
قيل: إن هذه الناقة التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر الصديق بالثمن هي القصواء؛ وقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم ماتت في خلافة أبي بكر الصديق.
وجهزت عائشة وأسماء -الفتاتان المؤمنتان- راحلتي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه -أبيهما- أحث الجهاز وأفضل الجهاز وكُل ما يحتاج إليه في السفر.
(وصنعنا لهما سفرة في جراب) إذاً: الآن تجهيز جيد، والأخذ بالأسباب، حتى نعرف أن قضية الهجرة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد رتب لها ترتيباً عجيباً، واتخذ فيها أسباباً مدهشة لتنجح، ليُعلم الأمة كيف يُحكمون أمورهم ولا يتركون مجالاً واحداً للفشل.
(وصنعنا لهما سفرةً في جراب) وعاء للزاد يوضع فيه الزاد من الماء والطعام، قيل: إنه كان في السفرة شاةً مطبوخة.
بقي الآن قضيت الربط؛ بأي شيء يُربط؟ بحثتا عن شيء تربطان به فلم تجدا شيئاً، فشقت أسماء نطاقها؛ والنطاق: حزام تلبسه المرأة على وسطها.
(شقت) جعلته جزأين.
(وربطتا بهما الزاد) شدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر.
فسميت أسماء، ذات النطاقين من هذا الفعل.
شقت نطاقها فأوكأن بقطعة منه الجراب، وشدت فم القربة بالباقي على رواية أخرى فسُميت بـ ذات النطاقين.
التخطيط: كان الاتجاه إلى غار في جبل ثور، عكس الجهة، ليس الجهة التي يَتبادر إلى ذهن الكفار أنه هرب منها، قيل: إن خروجهما كان من خوخة في ظهر بيت أبي بكر.
وخروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين.
(ركبا حتى أتيا الغار وهو غار ثور فتواريا فيه) ومن إتمام الخطة أنه جاء: (أنه أمر علياً رضي الله عنه أن يبيت على فراشه).
جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بإسناد حسن كما قال الحافظ رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] قال ابن عباس رضي الله عنه: (تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، نقيده ونربطه ونسجنه -يريدون النبي صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه).
(فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم) أي: ينتظرونه حتى يقوم فيفعلون به ما اتفقوا عليه.
فلما أصبحوا ورأوا علياً رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بـ الغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ، وخرجت قريش في كل وجهٍ، أي: في كل جهة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعثوا في أثرهما قائفين -القافة: قصاصي الأثر- اشتركوا في التتبع، ورأى كرز بن علقمة أحد القائفين نسج العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر، وكمنا في الغار ثلاث ليالٍ.
وهذا سبب آخر من الأخذ بالأسباب المؤدية للنجاح، وبلوغ المطلوب.
والصديق رضي الله عنه بلغ من خشيته وخوفه على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمشي بين يديه ساعة، وخلفه ساعة، ومرة أمامه ومرة خلفه، فسأله عليه الصلاة والسلام؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب -أذكر الناس الذين يطلبونك- فأمشي خلفك حماية لظهرك، وأذكر الرصد -الذين يترصدون- فأمشي أمامك، فقال: (لو كان شيئاً أحببت أن تُقتل دوني؟ قال: إي والذي بعثك بالحق، فلما انتهيا إلى الغار قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار).
حتى لا يكون فيه دابة، أو شيء مؤذٍ، فاستبرأه ليطمئن إلى أنه مكان آمن؛ لكي يأوي إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل انتهت الأسباب؟ كلا.
لقد كان من الخطة أن عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (وكان شاباً ثقفاً لقناً) ثقف أي: حاذق، لقن أي: سريع الفهم.
كان يبيت مع كفار قريش في مكة في الصباح يستمع لكل الأخبار، ويلتقط الأخبار، ويحفظ كل شيء، (يصبح مع قريش بـ مكة كبائت) لماذا؟ لأنه يرجع قبل الفجر بغلس.
(ثم يأتيهما بعد ذلك بالأخبار لا يسمع خبراً يُكتادان به) أي: من الكيد، لا يسمع خبراً فيه كيدٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق إلا جاءهم به أولاً بأول.
إذاً: الأخبار تصل أولاً بأول، المراسلات والأخبار، وكالة الأخبار تأتي بالأخبار أولاً بأول.
هل انتهت الإجراءات والأسباب؟ لا.
هناك رجل من شخصيات القصة اسمه: عامر بن فهيرة؛ هذا الرجل كان معهما، قام بأدوار: من هذه الأدوار: آثار الأقدام بقاؤها خطير؛ لأن العرب كانوا مشهورين بقص الأثر، ويمكن عن طريق قص الأثر معرفة المكان الذي توجه إليه، إذاً: كان لا بد من إخفاء آثار الأقدام، وكانت الطريقة الطبيعية التي لا تلفت النظر في إخفاء آثار الأقدام أن يؤتى بقطيع غنم تمشي فوق آثار الأقدام لتختلط الآثار وتنطمس، وهذا الذي فعله عامر بن فهيرة، ثم إن الغنم هذه فيها فائدة أخرى، وهي قضية السقاية من لبنها للنبي صلى الله عليه وسلم والصديق، تطمس آثارهما ويستقيان بلبنها، فكان يأتي باللبن الطازج أولاً بأول -من الغنم التي تطمس الآثار- إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يروح عليهما بالغنم كل ليلة فيحلبان، ثم تسرح بكرةً في الصباح فيُصبح عامر بن فهيرة وغنمه في رعيان الناس فلا يُفطن لها، فالتوقيت كان سليماً؛ للذهاب بالغنم وعودتها، حتى الغنم والدواب الذهاب بها والإتيان بها كان توقيتاً سليماً.
ويوضع لهما في رسلٍ اللبن الطري وكذلك الرضيف، وهو اللبن المرضوف الذي وضعت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد ويشتد وتزول رخاوته، طعام وشراب حتى ينعق عامر بغنمه وهو صوت الراعي إذا زجر الغنم، ثم يسرح بها في رعيان الناس فيذهب في وقت صحيح لا يُتفطن له، هذا كان من بني الدِيل، من بني عبد بن عدي.
لم تنته القضية بل هناك شخصية أخرى مهمة لها دور أيضاً: وهو عبد الله بن أريقط؛ هذا رجل مشرك، لكنه كان رجلاً مأموناً موثوقاً به، ولماذا اختير عبد الله بن أريقط رغم أنه مشرك؟ لأنه كان هادياً خريتاً، خبيراً بالطرق، والمسارات، ودروب الصحراء، والخريت: هو الماهر بالهداية مثل: خرت الإبرة أي: ثقب الإبرة، لأنه يهتدي لأخرات المفازة وهي طرقها الخفية، وهذا الرجل كان قد غمس حِلفاً تحالف؛ وكانوا بالجاهلية إذا تحالفوا يغمسون أيديهم في دم أو عطر يكون فيه صبغ لليد وتأكيد للحلف الذي تحالفوا عليه.
هذا الرجل كان أميناً ثقةً بالرغم من أنه مشر(48/4)
سراقة بن مالك يدرك النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه
ثم اتجها عبر طريق الساحل؛ أيضاً تغيير الطريق المتوقع من الأسباب: (فأخذ بهما طريق الساحل) من أسفل مكة إلى الساحل حتى رجع مرة أخرى على طريق المدينة، على طريق الساحل فأبصر أحد الأشخاص بهم يمشون، والله عزوجل يقدر الأحداث حدثاً تلو الآخر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
فأخبر هذا الرجل شخصاً من قريش اسمه: سراقة بن مالك بن جعشم، يقول له: إنني شاهدت أشخاصاً على طريق الساحل؛ وأنا أظن أن هؤلاء الأشخاص محمد وصاحبه، ومعهما الخادم.
وسراقة بن مالك يعلم بأن قريش قد جعلت على كل رأس مائة من الإبل؛ الدية كاملة لمن يأتي بمحمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه أمواتاً، أو مأسورين.
وسراقة بن مالك طمع في المائة؛ طمع في الدية، فكذّب الرجل الذي شاهد الأشخاص، قال: ليس ذاك ومستبعد أن يكونوا هم، هؤلاء فلان وفلان أشخاص آخرون قاموا من عندنا قبل قليل وذهبوا في ذلك الاتجاه أمام أعيننا، فطمع أن يكون له كل المال وهو مائة من الإبل.
ثم استعد سراقة بن مالك للغنيمة، فأمر جاريته أن تُجهز له أمره، وعلى عادة المشركين الاستقسام بالأزلام قبل المضي في الأمر الخطير؛ فالاستقسام بالأزلام وهو نوع من الشرك: يضع الأزلام؛ وهي مثل السهام التي لا نصل لها ولا ريش؛ واحد مكتوب عليه: نعم، وواحد مكتوب عليه: لا، وواحد فارغ، يجعلها في مكان يسحب منه، ثم يسحب؛ فإذا طلع نعم مضى، وإذا خرج لا رجع، وإذا خرج الفارغ أعاد القرعة أو أعاد السحب.
سراقة بن مالك لما أراد أن يُغادر استقسم بالأزلام؛ والاستقسام بالأزلام: هو تشاؤم، أو شيء لا علاقة له بالواقع، ولذلك هذا من سخافة العقل؛ لأنه ما العلاقة بين السحب نعم أو لا، وبين قضية أنه يذهب في السفر؟ أم لا يذهب في السفر؟ لكن يظنون أن الصنم يختار لهم الخير.
استقسم؛ فلما سحب فإذا بالسهم المكتوب عليه: لا، فكره هذا لأنه يريد المائة من الإبل، يكره أن يخرج له السهم مكتوب عليه: لا.
ولكنه بالرغم من ذلك مضى لأمره، جهز سلاحه ولبس لأمته -الدرع- وخفض رمحه لئلا يضرب عليها بريق الشمس فينعكس فيرى من بعد، فيتبعه أحد يشترك معه في الغنيمة، ولذلك جعل رمحه على الأرض ومضى.
ثم أسرع بفرسه في تلك الجهة التي أخبره الرجل أنه رأى فيها الأشخاص، وفي الطريق أعاد مرة أخرى الاستقسام بالأزلام وأخرج الخريطة المستطيلة التي تُوضع فيها الأزلام ويسحب منها وسحب، وقلنا: الأزلام هي الأقداح وهي السهام التي لا ريش لها ولا نصل، فخرج الذي يكره، أي: لا يمضي، لا تضرهم، ولكنه استمر حتى بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من بعيد فرآه أبو بكر رضي الله عنه.
فقال للنبي عليه الصلاة والسلام أدركنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلا.
فنذكر في هذا الموقف يقين الأنبياء بالله عزوجل، وثقتهم بنصر الله سبحانه وتعالى، وحفظ الله سبحانه وتعالى، وتمام التوكل على الله.
هذا التوكل الصحيح، الأخذ بالسبب وتفويض الأمر إلى الله أن يكلأ ويحفظ ويأتي بالنجاح، ويحقق المطلوب، فقد أخذوا بكل الأسباب، ثم كون سراقة لحقهم بعد ذلك بالرغم من كل هذه الأسباب، فهذا شيءٌ ليس بأيديهم منعه ولا عدم حصوله، إذاً.
ماذا بقي؟ التوكل على الله عز وجل من قبل ومن بعد، فقال: (اللهم اصرعه) وفي رواية: (اللهم اكفناه بما شئت) هذه العبارة التي قالها غلام أصحاب الأخدود لما كان ذاهباً مع حرس الملك فوق الجبل وفي القارب فقال: (اللهم اكفنيهم بما شئت) فرجف الجبل فسقطوا وصرعوا، وانقلب القارب فغرقوا وبقي هو على قيد الحياة سليماً حتى أتى الملك.
هذه العبارة التي كل إنسان إذا وقع في ورطة أو أراد أحد أن يعمل به شراً يقول: اللهم اكفنيه بما شئت.
لما قال: (اللهم اكفناه بما شئت، اللهم اصرعه) فصرعه فرسه وساخت يدا الفرس، ووقعت على منخريها، دخلت يدا الفرس في الأرض وساخت حتى بلغت بطنها في الأرض، فارتطمت فرسه إلى بطنها، ودخلت يدا الفرس، أي: مقدمة الفرس، وهذا يدل على أن ركبتي البعير أو الفرس في يديه وليس في رجله، فساخت يدا الفرس حتى بلغتا الركبتين، والفرس صارت بطنها ملتصقة بالأرض.
فوثب عنها سراقة، فقلت: ما هذا؟ ثم زجرتها فنهضت، وقامت تحمحم؛ والحمحمة صوت الفرس، ما كادت ترتفع الفرس إلا وثار عثانٌ؛ دخان من غير نار أو غبار، ثار الغبار، فعلمت أنه منع مني، أي: علمت أن المسألة الآن مسألة إلهيه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن الوصول إليه، لا يمكن إيذاؤه، ولا القبض عليه، ولا الوصول إليه، عند ذلك أُسقط في يدي سراقة ونادى بالأمان.
الآن هذا رجل مُطارِد مُسلح تكون النهاية أنه يطلب الأمان، وهو لابس الدرع ومعه الرمح ومعه الجهاز ويطلب الأمان مستسلماً قائلاً: قد علمت يا محمد أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه والله لأُعمّين عليك من ورائي، أي شخص يطلبك ويطاردك أنا سأكفيكهُ، ورجع سراقة وقد تعهد بأن يُحافظ عليهما ويقول: وأنا لكم نافع غير ضار، وأنا راجع ورادهم عنكم، يقول سراقة في تلك اللحظة: وقع في نفسي حينما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرف أنه منصور وأنه ظاهر، وأنه سيستعلي على من حوله.
بالإضافة إلى ذلك فإن سراقة أتى ببقية الأخبار؛ كانت الأخبار إلى حد مغادرة الغار، وبقية الأخبار أتى بها سراقة إليهم، فأخبر بما حصل أثناء غيابهما في هذه الفترة، قال: إن قريشاً جعلت جائزة لمن يأتي بكما كذا وكذا وكذا.
وسراقة بالإضافة إلى ذلك عرض عليهما الزاد والمتاع، وقال لهما: إن إبلي على طريقكم فاحتلبوا من اللبن وخذوا سهماً من كنانتي أمارةً إلى الراعي، حتى يُصدق الراعي أنكما من طرفي -هذه علامة سهم من كنانتي أي أن له علامة خاصة يعرفها الراعي- فالنبي عليه الصلاة والسلام رفض، فلم يأخذا منه شيئاً.
قال: (لم ينقصاني مما معي شيئاً).
قال: فإنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك، فقال: (لا حاجة لنا في إبلك، ودعا له).
طلب منه شيئاً واحداً فقط، قال: (أخفِ عنا).
فقال: قد كفيتم ما هاهنا.
وجعل سراقة لا يلقى أحداً -بعدما رجع- من كفار قريش، ذاهباً في نفس الاتجاه إلا قال: قد كفيتم ما هاهنا، كفيتكم ما هاهنا، أنا فتشت من هذه الجهة فلا يحتاج أنكم تبحثون، لا يلقى أحداً إلا رده، ووفىّ لهما.
وفي رواية أنه قال: (يا نبي الله مرني بما شئت.
قال: قف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا، فكان أول النهار جاهداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مسلحة له) أي: حارساً له بسلاحه.
والله على كل شيء قدير، وهذا يثبت قدرة الله على كل شيء، فقد كان هذا الرجل ذاهباً للقبض عليهما مسلحاً في أول النهار فيرجع في آخره حارساً عليهما، عكس الذي كان ذاهباً من أجله تماماً، يُضلل الباحثين ويحرس الجهات؛ يحرس الجهة والطريق التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجد أحداً إلا رده، يقول: قد فتشت قبلك ارجع لا يوجد لهما أثر.
وقد طلب سراقة قبل أن يرجع حاجة: كتاب أمن بيني وبينك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم) كتب له في جلد، أو في ورقة، أو في خرقة جعله سراقة في كنانته، كتب له كتاب أمان، سبحان الله! الآن المتوقع أن الخوف مع المُطارَدين، وإذا بالمطارِد المسلح يطلب كتاب أمان، يقول: اكتب لي كتاب أمان، فأمر عامر بن فهيرة فكتب له كتاب أمان.(48/5)
انكشاف أمر سراقة بعد فتح مكة وإسلامه
فلما كانت معركة حنين بعد فتح مكة خرج سراقة ليلقى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الكتاب، بعد سنوات، قرابة ثمان سنين لقيه بـ الجعرانة، فلما دنا منه رفع يده بالكتاب قالوا: يا رسول الله هذا كتابك، قال: يوم وفاء وبر، ادن فأسلمت، هكذا حصل لـ سراقة.
وكان عليه الصلاة والسلام قد أراد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قوم سراقة، بعث جيشاً يُغير عليهم ويغزوهم، وكانوا مشركين، فأتاه سراقة وقال: أحب أن توادع قومي، ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:90].
قيل: لما انكشفت القضية وصل النبي صلى الله عليه وسلم وانكشف أمر سراقة بعد ذلك لقريش، فجعل أبو جهل يلوم سراقة كيف تركهم؟!! أي: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر؟! فقال أبا حكم! -وأبو حكم هي كنية أبو جهل -: أبا حكم واللات؛ يقسم باللات لأنه كان مشركاً في ذلك الوقت.
أبا حكم واللات لو كُنت شاهداً لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمداً نبيٌ وبرهانٌ فمن ذا يكاتمه؟!
يقول: لو أنت كنت مقامي ورأيت الفرس تسيخ في الأرض ما قلت هذا الكلام.
وحصل بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي عبد الله بن الزبير في الطريق مصادفة عجيبة من قدر الله عز وجل، فهذه الصحراء المترامية التقاء بقدر الله النبي صلى الله عليه وسلم والصديق بـ الزبير؛ كان راجعاً بثياب من الشام، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وكساهما ثوبين أبيضين.
فلما مشى أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع النبي عليه الصلاة والسلام حتى قام قائم الظهيرة -نصف النهار- رفعت لنا صخرة يقول أبو بكر، أي: ظهرت، ولها ظل، وهنا يظهر حرص الصديق على النبي صلى الله عليه وسلم وسعيه في راحته.
فبسط فروة في الظل لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، ونفض ما حولها من الغبار حتى لا تثيره الريح فتؤذي النائم، وجهز المكان ثم ذهب حوله ينظر الطلب يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك شاهد راعياً فقال له: (أفي غنمك لبن؟ قال: نعم.
قال: أفتحلب؟ قال: نعم) وهذا الراعي كان لرجلٍ من قريش، فسأل أبو بكر الصديق الراعي عن اسم صاحب الغنم فعرفه أبو بكر الصديق؛ وكان أبو بكر نسابة يعرف العرب وأنسابها وبطونها، فعرف الرجل صاحب الغنم، وطلب من الراعي أن يحلب، فلعل الصديق قد علم أن صاحب الغنم لا يمانع ولذلك طلب من الراعي أن يحلب، فقد يكون بينهما صداقة، والصديق يعرف أن صاحب اللبن يرضى، أو على عادة العرب كانوا يوصون الرعيان بأن يحلبوا للمسافرين من الكرم.
فإما أن يكون هناك إذن عام أو أن أبا بكر الصديق يعرف الرجل هذا، فلذلك طلب اللبن، وهذا أحسن من أن يقال: إنه مال حربي يجوز أخذه لأنه مال مشرك محارب؛ لأنه لم يكن قد فُرض الجهاد ولا شُرعت الغنائم في ذلك الوقت، فمرده إلى هذا السبب، ولما كان الصديق حريصاً على صحة النبي صلى الله عليه وسلم قال للراعي: (انفض يديك، انفض الضرع، اعتقل الشاة) فاعتقل الشاة أي: وضع رجلها بين فخذيه أو ساقيه يمنعها من الحركة من أجل الحلب (فأخذت قدحاً فحلبته) أو أمر الراعي فحلب كثبةً -قدر قدح- حلبة خفيفة من اللبن، وشرب النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الرواية رواية البراء: أن سراقة جاء بعد هذه القصة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (اشرب، قال: فشرب حتى رضيت) من الذي شرب؟ هو النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذي رضي؟ هو أبو بكر الصديق.
(فشرب حتى رضيت) أي: أمعن في الشرب على غير عادته المألوفة صلى الله عليه وسلم حتى رضي الصديق؛ واطمأنت نفسه بأنه عليه الصلاة والسلام قد شبع وروي وأنه قد استراح.
والنبي صلى الله عليه وسلم نام وأبو بكر يحرسه، ثم لما استيقظ عليه الصلاة والسلام قال: (قد آن الرحيل يا رسول الله؟!).
وافق عليه الصلاة والسلام وانطلقا.
هذا ما حصل حتى وصلا المدينة، وخرج ذلك اليهودي لينظر فرآهما مبيضين؛ بالثياب البيض قد جاءا وعليهما الثياب البيض التي كساهما إياها الزبير: (يزول بهما السراب) أي: يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له، أو ظهرت حركتهم للعين، مطابقاً للوصف المذكور في الكتاب عند اليهودي، فدهش وصرخ: يا معاشر العرب! يا بني قيلة! وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج اسمها: قيلة.
يا بني قيلة! هذا جدكم، هذا حظكم، وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه قد جاء، فاستقبلوا النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة التي حدثت بعد ذلك من المجيء إلى مكان المسجد وبقية التفاصيل.(48/6)
دروس مستفادة من القصة
تلك كانت قصة الهجرة التي سافر فيها النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه، ومن أعظم الدروس التي فيها قضية الأخذ بالأسباب إذ كانت أمراً واضحاً جداً.
وكذلك يُؤخذ من الحديث: تَطلب النظافة في الشرب، كما هو واضح من فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وحرصه على صحة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى سلامة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك جواز التعامل مع المشرك إذا كان مأموناً؛ وهذه مسألة قد ينخدع فيها الكثيرون، ولكن أصحاب الدين والقلوب الحية يعرفون ويميزون الخائن من غيره.
كذلك فيه ثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم وثقته بالله لما قال له: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وفيه عجائب أقدار الله، تظهر من القصة عجائب أقدار الله عزوجل؛ كيف تتم هذه الأشياء بكل هذه الدقة، ثم بعد ذلك يكتشف سراقة المكان.
ثم بعد ذلك يتخلص النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه من سراقة، ثم بعد ذلك يجدان الراعي، وكذلك يجدان الزبير في الطريق رضي الله عنه فيكرمهما حتى وصلا إلى المدينة.
وكذلك في هذا الحديث استعمال ما كان مأذوناً فيه من مال الآخرين مثل: الشراب هذا، أو الحلب، إذا كان مأذوناً به، وخدمة الصاحب لصاحبه، وشدة محبة الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام وإيثاره إياه على نفسه.
وكذلك تنظيف المأكل والمشرب، لو قيل: الإسلام دين النظافة فكيف ذلك؟ نقول: خذ هذا ما حصل، انظر كيف أمره أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمره أن ينفض كفيه، ثم حلب؛ حتى لا يقع شيءٌ مزعج في هذا الإناء.
وكذلك فيه: استصحاب ما يحتاج إليه المسافر في السفر وأن ذلك لا يقدح في التوكل خلافاً لبعض الصوفية الذين يقولون: لا نتجهز ونتوكل، ولا نأخذ معنا شيئاً ونتوكل، فهذا ليس بتوكل مطلقاً.
وكذلك فيه: كيف نصر الله الدين بهذه الهجرة؟ وكيف أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين ظهراني المشركين؟: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
وفي القصة فوائد أخرى نكتفي بهذا منها ونسأل الله عزوجل أن يجعلنا من المحبين لنبيه عليه الصلاة والسلام والمتبعين لسنته إنه ولي ذلك والقادر عليه.(48/7)
الأسئلة(48/8)
طرق تحديد القبلة في السفر
السؤال
ما هي طريقة تحديد القبلة في الصلوات الخمس في السفر الطويل؟
الجواب
قد يوجد مع الإنسان مثلاً بوصلة يحدد بها الاتجاه، فإن لم يوجد ففي النهار يعرف الشرق والغرب من خلال الظل، وكذلك في الليل يعرفه بالنجوم، مجموعة النجوم التي تظهر في الليل على شكل علامة الاستفهام، أو الملعقة، فأول نجمين من رأسها يمد خطاً مستقيماً بينهما إلى الجهة الأخرى ليكون بعد ستة أمثاله في القطب الشمالي؛ والنجم الذي يشير إلى جهة الشمال وهو نجم خلقه الله وجعله في ذلك المكان لا يُغير اتجاهه، دائماً يشير إلى جهة الشمال، أو كذلك المثلثان المتجاوران إذاً: ثلث الزاوية التي تكون في أول أحدهما المثلث الأول إلى جهة اليمين فأخذ هذا مستقيماً ثلث الزاوية فإنه سيكون في النهاية يمشي الخط إلى القطب الشمالي أو النجم القطب الشمالي، فيعرف منه جهة الشمال، إذا عرف جهة الشمال تحددت بقية الجهات وبناء عليه يعرف القبلة، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16].
ثم إن الإنسان إذا خفي عليه الوقت وليس عنده ساعة بالعقارب والشمس، ولا عصا يعرف بها الظل، ولا نجوم في الليل، ولا بوصلة، ولا شيء، يسأل فإذا لم يجد أحداً يسأله اجتهد وصلى وصلاته صحيحة.(48/9)
حكم الضمادات للحاج
السؤال
هل يمكن لف الشاش على يد وكتف المصاب بالصدفية عند ذهابه للحج؟
الجواب
نعم.
لا بأس بذلك، هذه الضمادات وهذه اللاصقات التي توضع لا بأس بها إذا وضعها للحاجة ولا حرج عليه.(48/10)
الأرضين السبع
السؤال
أين توجد الأرضون السبع؟
الجواب
قال بعض العلماء: هي الطبقات بعضها فوق بعض.(48/11)
حكم ما يتجاوز القبضة من اللحية
السؤال
ما هو آخر ما يتجاوز القبضة من اللحية؟
الجواب
هذا رأي عبد الله بن عمر رضي الله عنه؛ كان إذا حج واعتمر قبض على لحيته فأخذ ما تجاوز من القبضة، والرأي الآخر: أن يعفيها ولا يأخذ منها شيئاً، وكلام العلماء في هذا معروف وهذه المسائل اجتهاديه فلا يكون فيها إنكار وخصومات، وإنما يتبع الإنسان السنة حيث ما تبينت له.(48/12)
عود الضمير في (أعوذ بك)
السؤال
( أعوذ بك من شر ما صنعت) إلى أين يعود الضمير؟
الجواب
أعوذ بالله من شر ما صنعتُ أنا، من شر ما اقترفت يداي وأثمتُ وأذنبتُ ونحو ذلك، لأن شر الذنب هو العذاب وسخط الله ومحق البركة وغير هذا.(48/13)
تجديد الوضوء لكل صلاة
السؤال
أتوضأ عند الخروج للعمل ثم أصلي ركعتي الضحى وفي نفس الوقت نية الوضوء بصلاة الظهر أيضاً.
هل يلزم تجديد الوضوء؟
الجواب
لا.
الأحوال العادية لا يلزم تجديد الوضوء، لكن لصاحب السلس والمستحاضة فيجدد الوضوء بعد دخول وقت الفرض.(48/14)
حكم من اقترب من زوجته في نهار رمضان
السؤال
اقترب من زوجته في رمضان بعد صلاة الفجر؟
الجواب
إذا لم يحصل إنزال ولا جماع فليس هناك شيء تفعله من جهة القضاء، أو الكفارة، فإذا حصل إنزال فيكمل اليوم، وعليه التوبة والقضاء، وإذا حصل الجماع فالكفارة المغلظة وإكمال اليوم والتوبة.(48/15)
حكم الإسبال
السؤال
ما حكم الإسبال لعدم القدرة على تقصير الثوب؟
الجواب
كيف؟ ليس هناك أسهل من تقصير الثوب، فلا يجاب على هذا السؤال أصلاً.(48/16)
الزكاة في أموال الدين
السؤال
هل تجب الزكاة في أموال الدين؟
الجواب
إذا كان مفقوداً معدوماً لا يُرجى تحصيله كأن يكون عند مماطل أو فقير؛ فلا زكاة فيه حتى تقبضه وتزكيه مرة واحدة.(48/17)
من عرض أرضاً للبيع
السؤال
من عرض أرضاً للبيع.
فهل عليه الزكاة؟
الجواب
نعم.
من عرض أرضاً للبيع فعليه الزكاة.(48/18)
صحة قصة الحمامة
السؤال
صحة قصة الحمامة؟
الجواب
قصة الحمامة فيها ضعفٌ، والعنكبوت ذكر الحافظ رحمه الله كما قال عن ابن عباس، أي: موقوفاً بسند حسن وذكر القصة، فيمكن أن يُرجع إليها، وأيضاً هناك من حقق روايات الهجرة لـ ابن مسعود وهناك كتاب في تحقيق أحاديث الهجرة جيد أيضاً، وهناك من جمع قصصاً لا تثبت أيضاً ذكر تحقيقاً على الموضوع.(48/19)
تقويم التاريخ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
هل كان حساب عدد السنوات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالتقويم الميلادي لأن التقويم الهجري كان على عهد عمر؟
الجواب
لا.
هذا كلام غير صحيح، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل بالتقويم القمري، لكن بداية السنة الهجرية جعلها من محرم هو الذي كان على عهد عمر بن الخطاب، قال: يرجع الناس من الحج ومحرم أول السنة نجعله أول السنة نسميها السنة الهجرية أو من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أرخوا، فجعلوا السنة رقم واحد هي السنة التي هاجر فيها؛ لأن الحدث هذا كان قد غير وجه الأرض، بداية الانتصارات وبداية قيام الإسلام حقيقةً كان بعد الهجرة.
فلذلك قالوا: نجعل السنة رقم واحد هي السنة التي هاجر فيها، وشهر محرم نجعله أولها وهو شهر رقم واحد بعد رجوع الحجاج وبداية أعمال الناس نجعل شهر محرم رقم واحد، هذا الذي صار في عهد عمر رضي الله عنه، جعل السنة رقم واحدة سنة الهجرة، وشهر محرم رقم واحد، لكن على عهد النبي صلى الله عليه السلام كان يؤرخ بالسنة القمرية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة:36].
قال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189].
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد التقويم القمري أول الشهر وآخر الشهر، أشهر قمرية هي اثنا عشر شهراً ليس فيها كلام، الأشهر الحرم كل الأحكام، الأشهر التقويم القمري بالسنة القمرية وليست الشمسية ولا الميلادية، وموافقة هؤلاء الكفار لا تنبغي، فلا ينبغي أن نجعل مدار حياتنا كلها على التقويم الميلادي الموافق لما عند الكفار، فقد يضطر الإنسان أحياناً أن يقول: الموافق لكذا، لكن لا يصح أن ننسى التقويم القمري الهجري، أو نجعل حياتنا تسير على التقويم الميلادي وهذه مشابهة للكفرة وإن كانت مشابهة مكروهة كما ذكر العلماء، وجعل الرواتب بالميلادي مكروهة، هو لأنه أربح، لا لأن المشي على منوالهم وعلى طريقتهم ليس مستحباً لنا ولا صحيحاً ويُنسى التقويم القمري، الآن لو تسأل بعض المسلمين في بعض البلدان التي تمشي على تقويم الميلادي هذا، قد تسأله: عن ربيع الأول وعن رجب وعن شعبان؟ لا يدري، لا يدرون إلا إذا جاء رمضان، استعملوا رمضان لأجل العبادة وإلا ففي بقية الأشهر الولد في المدرسة لا يدري ما هي الأشهر الهجرية ومتى دخلت؟ ومتى خرجت؟(48/20)
زكاة ما يبقى من الراتب
السؤال
كيف تكون الزكاة فيما يبقى من الراتب؟
الجواب
من أول استلامه مالاً بالغاً النصاب بعده يأخذ سنة قمرية هجرية ثم يخرج الزكاة على الموجود عنده.(48/21)
حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني
السؤال
ما حكم البيع والشراء بعد الأذان الثاني للجمعة؟
الجواب
البيع والشراء في أذان الخطبة الذي يكون الإمام على المنبر يحرم ولا يجوز.(48/22)
الصوم في السفر
السؤال
أفطر الصائم في مدينة الدمام، وركب طائرة حربية ووصل إلى تبوك ولم يحن أذان المغرب.
هل يمسك أم لا؟
الجواب
العبرة بالإفطار والصيام في الطائرة، فإذا كان يريد أن يصوم؛ لأن المسافر يمكن أن يُفطر، لكن إذا قال: أريد أن أتم يوماً كاملاً صحيحاً فنقول: إذاً: تكون على الغروب، والفجر والمغرب في الطائرة في المكان الذي أنت فيه فوق تحت في أي مكان أنت فيه إذا غربت الشمس تُفطر.
وإذا طلع الفجر تمسك، وهكذا، فإذا غادر هنا الدمام أو الظهران غادرها بعد المغرب اكتمل صومه ولا يضره إن رأى الشمس بعد أن أقلع إذا غادرها قبل المغرب وأراد أن يتم اليوم لا يُفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه.(48/23)
بطاقات المعايدة
السؤال
بطاقات تهنئة في العيد نستخدمها في أعيادنا؟
الجواب
لا بأس إذا لم يكن عليها شعار خاص بعيد الكفار.
أي: إذا أرسل لك شخص مثلاً بمناسبة عيد الفطر بطاقة مكتوب عليها (مري كرسمس)!!(48/24)
معنى (التقاء الختانين)
السؤال
ما معنى: (التقاء الختانين)؟
الجواب
الختان: هو موضع القطع من الذكر في الغلام والفرج في الجارية؛ فهذا الختان، إذا مس الختان الختان، أي: حصل إيلاج، والحشفة غابت ودخلت فمس الختان الختان وبدون غياب الحشفة لا يمكن أن يمس الختان الختان وإنما بعد إيلاج الحشفة، إذاً: هو غياب وولوج مقدمة الذكر في الفرج، فذلك التقاء الختان بالختان فعند ذلك يجب الغسل، أما مجرد المس من خارج دون ولوج الحشفة فلا يُوجب الغسل.(48/25)
لعن النساء المتبرجات
السؤال
هل يجوز لعن النساء المتبرجات؟
الجواب
نعم من جهة العموم، تقول: لعنة الله على المتبرجات، لكن لا تقول: لعنة الله على فلانة بعينها؛ لأن لعن المعين لا يجوز؛ قد يتوب، قد يُسلم، أما لعن الجنس فنعم، تقول: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، لَعْنة اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، ألا لعنة الله على النامصات، لعنة الله على المتنمصات، لعنة الله على المتفلجات، لعنة الله على المتبرجات، نعم.
لكن لا تلعن المعين.(48/26)
حكم الصيام بغير صلاة
السؤال
احتلم قبل صلاة الفجر، وقام متأخراً وذهب إلى عمله دون اغتسال؛ وبالتالي لم يُصلِ هذا اليوم كله.
هل صيامه صحيح؟
الجواب
الصيام صحيح، لكن الآن ما حكم إسلامه وقد ترك هذه الصلوات متعمداً؟ فيخشى على دينه، يُخشى على أصل القضية قبل الصيام، ولذلك عليه أن يتوب توبة عظيمة إلى الله، ويغتسل ويصلي كلما فات، ويقدم الصلاة على العمل، يحتاج الوضع إلى اغتسال يغتسل، الصلاة أهم تُتُرك لأجلها كل الأعمال، ويتحمل لأجلها كل العقوبات، ويُتحمل لأجلها كل الخصومات والخصميات.(48/27)
أسباب دخول الجنة بغير حساب
السؤال
ما هي الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة بغير حساب؟
الجواب
بينها النبي صلى الله عليه وسلم؛ إن رأسها التوكل على الله: (يدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة من غير حساب ولا عذاب) وأخبر أنهم: (لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) فالتوكل على الله السبب الأساسي والرئيسي لدخول الجنة بغير حساب.(48/28)
حكم صلاة التراويح فرداً
السؤال
ما حكم صلاة التراويح والقيام فرداً؟
الجواب
لا بأس.(48/29)
تعظيم آيات القرآن
السؤال
وجدت آيات من القرآن ممزقة في الأرض وقمت بجمعها وحرقها بنية أنها لا تُهان حيث أنها كانت ممزقة أو متسخة؟
الجواب
قد فعلت خيراً وأنت مأجور إن شاء الله.
والحرق أو الدفن يكون في أرض نظيفة وإذا جمع بينهما فهو أحسن وأفضل.(48/30)
(حكم قول القائل: (عملت الذي عليّ والباقي على الله
السؤال
عملت الذي عليَّ والباقي على الله.
هذه العبارة كثيراً ما تقال، فهل فيها شيء؟
الجواب
ما هو مقصود الذي يتكلم بمثل هذا كأن يقول مثلاً: أنا بذلت الأسباب والباقي على الله، لكن ينبغي ألا ينسى أن الذي بذل فيه الأسباب ينبغي أن يتوكل فيه على الله، أي: لا يقول: هذا توكلت فيه على نفسي، إلى هنا والباقي على الله، لا.
التوكل على الله في كل شيء، الجزء الذي اتخذت فيه الأسباب والجزء الذي لم تتخذ فيه الأسباب كله تتوكل فيه على الله؛ لأن السبب قد يتعطل، وقد تبذل السبب ويصبح بالعكس.
كان رجل كلما قاد السيارة ربط الحزام، وفي مرة من المرات نسي أن يربط الحزام، وسار في طريق الأحساء فصدم جملاً فمع الصدمة طار الرجل من الشباك، ولو كان رابطاً للحزام يقول: كان دهسه الجمل؛ لأن الجمل ركب فوق السيارة وصار سقف السيارة في بطن السيارة، فلو كان رابطاً للحزام لصار عجينه بداخل السيارة، لكن هذا لا يعني أننا لا نربط الأحزمة لأنه قد لا تصدم في جمل فقد تصدم في شيء آخر يجعلك تضرب بالمقود وتضرب بالزجاج وتحدث الكارثة، فلذلك الواحد يبذل الأسباب؛ لأن ربط الحزام من أسباب السلامة، لكن قد يربط الحزام فتحترق السيارة ولا يستطيع الخروج من السيارة بسبب الحزام فيكون الحزام سبباً في هلاكه.
أي: أريد أن أقول من هذا الكلام وهذا المثال: أنه ليس على كل حال الأخذ بالأسباب في المنظور البشري يُؤدي إلى نتيجة سليمة، فقد تكون النتيجة غير ما تحسبه، من حيث لا تتوقع، ولذلك حتى لو أخذت بالأسباب يلزمك أن تتوكل على الله، في كل أجزاء العمل الذي تستطيعه وتأخذ بأسبابه والذي لا تستطيعه كذلك تأخذ بأسبابه وتتوكل فيه على الله.(48/31)
(حكم قول: (ذاكرنا والباقي على الله
السؤال
هناك طالب مهمل يقول: ذاكرنا الذي ذاكرنا والباقي على الله؛ فما حكم ذلك؟
الجواب
نقول: يجب أن يتوكل على الله في كل شيء حتى الطالب قد يذاكر ويحفظ وفي لحظة الاختبار يأتي السؤال من المكان الذي ذاكره وتخونه ذاكرته ولا يعرف من الجواب شيئاً.
فإذاً: الاعتماد على الأخذ بالأسباب، وعدم التوكل على الله شرك؛ اسمه: شرك الأسباب؛ وهذا يؤدي إلى الانهيار إذا طلعت النتيجة غير المتوقعة، فلابد من التوكل على الله والأخذ بما يمكن أخذه من الأسباب الشرعية، أي: قد يأخذ الطالب بالأسباب غير الشرعية ويكتب (البراشيم) ويقول: نحن أخذنا بالأسباب.
قالوا: إن واحداً أعمى قبض عليه في قاعة الاختبار، كلما سأله الممتحن سؤالاً أدخل يده في شنطة، فإذا به يغش على طريقة إبرايل، يمشي بأصابعه على الخروم المخرمة في الأوراق التي في الشنطة، وهو أعمى، فيجب أن تكون الأسباب شرعية وهذا شرط في عملية التوكل على الله والأخذ بالأسباب.(48/32)
حكم المسابقات
السؤال
ما حكم السحب على الكوبونات في المسابقات التي فيها دفع مال؟
الجواب
هي نوع من الميسر وهذا معروف.(48/33)
ما يقول الإمام عند الرفع من الركوع
السؤال
قول: سمع الله لمن حمده للإمام؟
الجواب
صحيحه، يجمع بين سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد.(48/34)
حكم ستر العورة في سجود الشكر
السؤال
هل يشترط ستر العورة في سجود الشكر؟
الجواب
لا.
لكن في سجود التلاوة يُشترط.(48/35)
لبس (الشراب) للمحرم
السؤال
ما حكم لبس المحرم للشراب؟
الجواب
لا يجوز لأنه من محظورات الإحرام، إلا إذا احتاج إليه فيخرج الفدية.(48/36)
كلمة الجارية
السؤال
كلمة (الجارية) تطلق على من؟
الجواب
تطلق الجارية على الأمة الأنثى من العبيد، وتطلق الجارية على البنت الصغيرة.(48/37)
صحة حديث سواري كسرى
السؤال
حديث سواري كسرى؟
الجواب
ورد بسند مقطوع طرفاه، وأن عمر ألبسه سوارين لما جيء بهما لكن السند فيه مشكلة.(48/38)
أخذ مقابل من الزوجة مقابل السماح لها بالتدريس
السؤال
استقطاع جزء من راتب الزوجة الموظفة مقابل السماح لها بالتدريس؟
الجواب
لا بأس إذا اصطلحت أنت وإياها على هذا فلا بأس.
أقول: أنتِ تفوتي عليَّ جزءاً من الاستمتاع والخدمة فعوضيني بشيء مقابل أن تخرجي، فلا بأس بذلك.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(48/39)
العقوبات المعجلة للمعصية
إن الرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعات، والمسرة والسعادة، وحلاوة العبادة ولذتها، والاستغناء عن الخلق واتباع الحق لهي الحياة الطيبة التي هي بغية كل إنسان.
ولأجل الدعوة إلى ذلك جاءت هذه المادة موضحة نقيض ما سبق: الحياة الضنك، التي هي نتاج معجل للذنوب والمعاصي في تسعة آثار تلحق العاصي في الدنيا.(49/1)
آثار السيئات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يعطي الحياة الطيبة للمستقيمين على شرعه كما قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] كما أنه يعطي المعيشة الضنك لمن يعصي الله تعالى، كما أخبر عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] قال السلف في الحياة الطيبة: الرزق الحلال، وقيل: القناعة، وقيل: التوفيق إلى الطاعات، وقيل: المسرة والسعادة، وقيل: حلاوة العبادة ولذتها، وقيل: الاستغناء عن الخلق واتباع الحق، والحياة الطيبة تشمل جميع أنواع الراحة الدنيوية أياً كانت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه) رواه مسلم(49/2)
العيش الضنك
وأما المعيشة الضنك: فإنها تكون بأمورٍ كثيرة يحس بها العاصي، قال ابن القيم رحمه الله: وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال أمرٌ مشهودٌ في العالم، لا ينكره ذو عقلٍ سليم، بل يعرفه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وكما أن للحسنة نوراً في القلب وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق؛ فإن للسيئة في المقابل سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق، وكذلك فإن المعاصي تورث قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وخمول الذكر، وإضاعة الأوقات، ونفرة الخلق، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، وحرمان العلم، ولباس الذل، وضيق الصدر، والهم والغم، وهكذا تتوالد هذه الآفات بسبب المعاصي(49/3)
الحرمان من السعة في الرزق
والحرمان من السعة في الرزق بسبب الذنوب أمرٌ واضح [فإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه].
وقال الحسن رحمه الله لما شكا إليه رجلٌ الجدب: استغفر الله.
وشكا إليه آخر الفقر فقال: استغفر الله.
وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال: استغفر الله.
وشكا إليه آخر عدم الولد فقال: استغفر الله.
ثم تلا عليهم قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] ولذلك فلا تعجب إذا كانت المعاصي سبباً للطرد من وظيفة، أو تحصيل إنذارٍ في العمل، ومتعاطو المخدرات من أشد الناس فقداً لوظائفهم بسبب معاصيهم، وقد يترتب على المعاصي إتلاف عين المال، كما وقع لأصحاب الجنة الذين أتلف الله جنتهم وبستانهم بآفة سماوية أهلكت بستانهم وثمارهم، وأحرقتها، وجعلتها هشيماً يابساً، كما قال عز وجل: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19 - 20](49/4)
هلاك مال العاصي
ولا تعجب يا عبد الله! من هلاك مال العاصي؛ لأن هناك ملائكة تدعو عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يومٍ يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) رواه البخاري، قال ابن حجر رحمه الله: وأما الدعاء بالتلف فيحتمل تلف ذلك المال بعينه، وقد يكون بمحق بركة المال، كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، تذهبه النفقات والفواتير والأمراض وغير ذلك؛ من وجوهٍ تنفتح على صاحب الربا، تمتص ماله وتذهبه، وهذا ذهاب عين المال، وأما ذهاب البركة فلا يحس له بفائدة، ولا يطعم منه خيراً، إن هذا المعنى موجودٌ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قِلة أو إلى قُلٍ) رواه ابن ماجة وهو حديثٌ حسن، ولذلك فإن هؤلاء الباعة الذين يغشون ويدلسون ويخفون عيوب السلع، وينزعون الملصقات المكتوب عليها بلدان التصنيع الحقيقية، ويضعون ملصقاتٍ أخرى لبلدان تصنيع وهمية، ونحو ذلك من أنواع الغش الذي يمارسونه في السوق، حتى قلما تجد صندوق خضرة أو فاكهة إلا ووجدت الرديء في أسلفه مغطىً بطبقةٍ جيدة فوقها، غش متكاثر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الباعة: (البيَّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).
ولذلك تجد كثيراً من هؤلاء الباعة بركة كسبهم ممحوقة، لا يستمتعون بمال، فإذا حلفوا على الكذب (فإن الحلف منفقةٌ للسلعة ممحقةٌ للبركة) كما روى البخاري رضي الله عنه في صحيحه(49/5)
الحرمان من الرزق
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن آثار المعاصي في الحرمان من الرزق في قوله: (ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين -أي القحط- وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا) وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الحرمان أمراً داخلياً في نفس العاصي، فلو ملك كنوز الدنيا فهو لا يزال يحس بالجوع والحرمان؛ لأنه لا قناعة لديه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يؤته من الدنيا إلا ما قُدِّر له) فتأمل قوله عليه الصلاة والسلام: (جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله) فمهما كان عنده من الأموال فلا قناعة تريحه، ويحس دائماً بأنه منقوصٌ مبخوس ولو كان عنده ملايين، فالشره سيعذبه، والحرص والجشع سيحطمه، وهكذا لا يستمتع بمال(49/6)
الإصابة بالمسخ والأسقام والأوجاع والأمراض
ثم إن للمعاصي -أيها الإخوة! - آثاراً سيئة على مرتكبيها في أنفسهم وأبدانهم، بما يصابون من المسخ والأوجاع والأسقام والأمراض، إن هذه المصائب قد تكون أوجاعاً ظاهرة، وقد تكون أوجاعاً نفسية، فأما الظاهرة فقد تكون بسبب عقوبةٍ شرعيةٍ حديةٍ، أي بالحدود والتعزيرات؛ كقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، ورجم الزاني ونحو ذلك، وقد تكون عقوبة قدرية في بدنه، فقد تكون على شكل مسخٍ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر هذه الأمة -ونحن في آخر الأمة نترقب حدوثه- خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ) رواه الترمذي وهو حديثٌ صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوامٌ يستحلون الحر -أي الزنا- والحرير - ثم قال: ويمسخ منهم آخرين قردةً وخنازير إلى يوم القيامة) فهذا مسخٌ حقيقي سيحدث بسبب المعاصي، فيصبح هؤلاء وقد مسخهم الله قردةً وخنازير، فيراهم الناس في صباح ذات يوم قردةً وخنازير، فهذه عقوبة حسية جسدية بالمسخ.
وقد تكون بتسليط جنود الله الكونية، مثل هذه الميكروبات والفيروسات؛ فيصيبهم من الآفات ما الله به عليم، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) ومن تأمل ما حصل في هذا الزمان من الأمراض العجيبة التي ليس لها علاجٌ كمرض الإيدز وغيره؛ عرف أن هذه الإصابات عقوبة إلهية؛ لأنه مرضٌ لم يكن في أسلافنا الذين مضوا، فتنتشر هذه الآفات وتفتك بالملايين، ويقف الأطباء حيرى أمام هذه الأقدار الإلهية والعقوبات الربانية، لا يستطيعون بالرغم من تقدم علومهم، وتطور آلاتهم وأجهزتهم، ودقة مختبراتهم أن يقضوا على هذا المرض، بل لا زال ينتشر ويتفاقم ويودي كل يومٍ بالآلاف، وينتشر بالملايين، وهكذا يعاقب الله على المعاصي في الدنيا، ناهيك عن غير ذلك من الأمراض الجنسية وغيرها التي تصيب الناس بسبب وقوعهم في الزنا واللواط، وهذه القاذورات التي حرمها الله تعالى.
وقد يكون المرض والألم مرضاً نفسياً، وأوجاعاً داخليةً ربما تفاقمت وزادت على بعض الأمراض الحسية، فالعبد قد يصيبه ألمٌ حسيٌ، فيطرحه عن قلبه ويقطع التفاته عنه، ويجعله في شقاء دائم، وهذه الآلام النفسية قد تكون عند بعض المسلمين بسبب تأنيب الضمير من جراء المعاصي التي وقعوا فيها، وقد تكون عند متبلدي الإحساس كآبة ووسوسة وهواجس، وحزن وخوف، وإقدام على الانتحار، وإصابة بالجنون، ومن تأمل الازدياد المريع في الحالات النفسية، والأمراض التي انتشرت، وعدد رواد عياداتها ومستشفياتها؛ علم قدر ما تؤدي إليه المعاصي من الفتك الذريع في نفوس هؤلاء: رعبٌ داخلي، وسوسة مستمرة، خوفٌ وهلع، قلقٌ وأرق، لا يأتيه النوم بسبب المعاصي.
ويطلق زوجته، ويشرد أولاده، ويهجر أقرباءه، وهكذا يعيش العصاة مطاردون والبلاء داخل نفوسهم، فكيف يهربون والله يعاقبهم من الداخل والخارج(49/7)
فقدان الأمن
وكذلك فقدان الأمن من آثار المعاصي، فتحدث المشكلات الكثيرة بسبب انتشارها، ويخاف الناس من بعضهم، وعلى أولادهم وممتلكاتهم بكثرة المعاصي(49/8)
تسليط الأعداء
وتسليط الأعداء من آثار المعاصي أيضاً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم) فإذا نزعت المهابة من صدور أعدائنا فإنهم سيتسلطون علينا بأنواع التسلط، فلا عجب في ذلك، وإذا صار بأسنا بيننا بسبب المعاصي والانحرافات العقائدية والعملية؛ فلا غرابة في ذلك، وإذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما عصوه في أحد، وابتدروا الغنائم وتركوا المكان عوقبوا بتلك المصيبة العظيمة، كما جاء في الرواية: فلما أبوا صَرْفَ وجوههم أصيب سبعون قتيلاً، فما بالك بنا نحن ونحن أقل إيماناً وأضعف؟ ولذلك كان تسليط الأعداء علينا في هذا الزمان سبباً مباشراً وطبيعياً لما حدث عندنا من الانحرافات والمعاصي، ثم إن لله جنوداً يسلطهم؛ من ريحٍ مدمرة، أو زلازل مهلكة، أو براكين وهزاتٍ أرضية وصواعق وخسف وغير ذلك، وحتى عامة المسلمين يحسون بهذا.
ولذلك وقعت مشاجراتٌ في تركيا بين بعضٍ عامة المسلمين وأصحاب الملاهي والخمارات، وقالوا لهم عيانا: أنتم سبب نكبتنا، وقام بعض العامة بالهجوم على شابٍ يُقَبِّلُ فتاة في الشارع بعد الزلزال بوقت، لا زالت الكارثة في أذهانهم ونفوسهم! ليقولوا وهم يهجمون: هذا سبب البلاء الذي نزل بنا، ولكن أصحاب الغفلة لا زالوا يصرون على تعليل هذه المصائب بأمورٍ دنيوية، وأنه لا علاقة للمعاصي بالقضية، ولا لترك الإسلام، وإذاً فقد كان المكان الذي ضربه الزلزال هو الذي اتخذ فيه قرار مواجهة المسلمين، وكذلك الإصرار على تنحية شرع الله، وليتهم يتعظون، فها هم يسنون القوانين لأجل تغيير أحكام قوامة الرجل على المرأة بحيث تخرج وقتما تشاء، وتكون حرةً في حياتها، وتشاركه في المقابل في النفقة، وهذا عين الفساد الذي أصاب الأسر الغربية، ولكن الله إذا طمس البصائر فلن تملك لهؤلاء هادياً ولا نوراً يدخل إلى قلوبهم.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الحي القيوم أن ترزقنا التوبة من المعاصي، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، إنك سميعٌ مجيب قريب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم(49/9)
الحرمان من نور العلم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، أشهد أنه لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن من أشد العقوبات على المعاصي: الحرمان من نور العلم، فقد قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فجعل التقوى سبب تعلم العلم، ولذلك تكون المعصية في المقابل وهي ترك التقوى سبب الخذلان والحرمان من العلم [إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها] وقال بعض السلف لآخر من أهل العلم يوصيه: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية، وصية عظيمة من مالك للشافعي لِمَا رأى من فطنته وذكائه، يوصي بها كل مدرسٍ كل طالبٍ يرى عليه مخايل الذكاء والنجابة، والفهم العميق، فيقول: لا تطفئ ذلك بظلمة المعصية، وكم من نجباء وأذكياء ضاعوا في خضم المعاصي، فلم ينفعهم ذكاؤهم، ولم يوجه إلى خيرهم ونفعهم، ولا نفع غيرهم من المسلمين، وقد يكون للطائع من التوفيق في اتخاذ القرارات في الطاعات في بعض المسائل التي لا يعلم حكمها، ويقع فيما لا بد من اتخاذ قرارٍ فيه، فيصيب الحق بنور الطاعة، بينما يخسر آخرون كثيرون فلا يهديهم الله تعالى لإصابة الحق، إن من أساسيات طالب العلم البعد عن المعاصي حتى يوفقه الله للفهم، ويمكنه من التعلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].(49/10)
النفور الاجتماعي
ومن الآثار الفضيعة للمعاصي والذنوب: النفور الاجتماعي الذي يصاحب العاصي، فالمعاصي تُلحق بصاحبها بغضاً ومعاداة ونبذاً اجتماعياً رهيباً، والله تعالى لما أمر بإقامة حد الزنا قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] فأراد الله إلحاق الأذى والذل بهؤلاء، وعدم الشفقة عليهم، وأن تكون الفضيحة بحضرة مجمعٍ من الناس ليكون أبلغ في الزجر والإهانة، ويحدث النفور الاجتماعي، والبغض في قلوب الخلق، وكذلك تغريب الزاني عاماً، فتحصل الوحشة في قلبه، وهكذا تكون الحدود من أسباب إهانة هؤلاء.
ثم إن الشهادة عند القاضي المردودة بالمعصية من آثار هذا، وقد قال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] فالله تعالى حكم عليهم بالفسق وأمر ألا تقبل شهادتهم، وسلب اسم الإيمان عنهم، وألحقهم بأسماء الفسق، فقال: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} [الحجرات:11].
والإنسان العاصي يُسلب أسماء المدح والشرف؛ كالمؤمن والبر، والتقي والمنيب، والولي والأواب، والعابد والخائف، ويبدل بدلاً بذلك أسماء الفجور والمعصية؛ كالمفسد والخبيث، والزاني، والسارق، والقاتل، والكاذب، والقاطع، والغادر، ونحو ذلك، هذه الأسماء التي تجعل له وحشةً في قلوب الخلق فينفرون منه.
وإن من الشؤم أن ينبذ الإخوان في الله صاحبهم العاصي من جراء معصيته، وهو يحس بأنه لا مكان له بينهم بسبب معاصيه، ويحس بأن قلوبهم قد تغيرت عليه، وأن هناك نفرةً، حتى ولو لم يؤذهم فإنه يحس بأن العلاقات متغيرة، وأن الوحشة حالة، وأن هناك تغيراً دون سببٍ ظاهرٍ، ولكن الله يوحش قلوب المؤمنين على العاصي؛ فلا يستقبلونه كما كانوا يستقبلونه، ولا يرحبون به كما كانوا يرحبون، ولا يكرمونه كما كانوا يكرمونه بسبب المعصية التي فعلها، وهكذا تتراكم المعاصي على قلب العاصي؛ فتهجره زوجته، ويستوحش منه أولاده وجيرانه، وهذه العلامة يحس بها العاصي إذا كان من حوله من عباد الله الصالحين، أما إذا كانوا من الفاسقين من مثله، فإنه قد لا يحس بشيء، بل هو في غفلته مع من يعمهون، ولذلك كان الانتظام في أهل الخير من أسباب سرعة الرد إلى الحق، عندما يحس العاصي بالوحشة فيسارع إلى التوبة والأوبة، والعودة إلى زمرة الصالحين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التقوى، وأن يجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.(49/11)
المسلمون في الشيشان
عباد الله! إن إخواننا في الشيشان يعيشون اليوم محنةً عصيبة بما حشد هؤلاء الكفرة عليهم، ومن يؤيدهم من النصارى واليهود في العالم، من هذه القروض التي تتوالى، والسكوت الذي يتعاظم، وعندما يريد أهل تيمور النصارى الاستقلال يفزع إخوانهم في الغي إليهم، وعندما يريد المسلمون في الشيشان أن يكون لهم كيانٌ مستقل فالخذلان، بل والتأييد على حرمانهم من حقوقهم، ولا عجب في ذلك، فإن الله قد أخبرنا أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ولا يُنتظر من كافرٍ حماية لمسلمٍ أصلاً، ولو فعلوا ذلك نادراً فإنما هو لمصالحهم، لا من أجل سواد عيون المسلمين، إن هؤلاء النصارى الروس يتقدمون نحو نهر تيريك الكبير ليشكلوا حاجزاً بينهم وبين بقية بلاد الشيشان والداغستان، وتكون حينئذٍ المنافذ الوحيدة للسيارات والشاحنات والأفراد هي الجسور المعلقة التي يسيطرون عليها، ثم ينقلون العملاء إلى هذا المكان الذي احتلوه ويقيمون فيه كياناً يدفعون إليه اللاجئين، ويغدقون عليهم من أنواع الأموال، والمزايا الدنيوية ما يجعل الشطر الآخر فقيراً معدماً، ويجعل هذا الشطر الذي صار تحت حمايتهم غنياً تقوم فيه أنواع الخدمات المختلفة، ولا شك أن هذه الخطة الخبيثة التي ستقطع جزءاً كبيراً من أراضي المسلمين إنما هي نتيجة طبيعية لمكر هؤلاء الكفرة، نسأل الله عز وجل أن يرد كيدهم في نحورهم، وأن يجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، وأن يرزق إخواننا القيام بالجهاد الحق في ذلك المكان، لنشر الإسلام وإقامة الدين، وطرد أعداء الله النصارى الحاقدين.
اللهم دمر الروس ومن والاهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، فجر بلادهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم، الله أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً.
اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، الله اجمع كلمة المسلمين على جهادهم، وأيقظ في قلوب المؤمنين الحمية لقتالهم، اللهم اجعلنا ممن يشد أزرهم، ويعينهم على مصابهم، اللهم اجعلنا إخوةً في سبيلك متكاتفين، واغفر لنا ذنوبنا يا رب العالمين، اللهم آمنا في بلداننا يا أرحم الرحمين، واجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، آمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور، واحفظنا بحفظك، واغفر لنا يا عزيز يا غفور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالم(49/12)
حاملة الأمانة
إن الله سبحانه وتعالى عرض حمل الأمانة على السماوات والأرض فأبين حملها، ثم حملها الإنسان لظلمه وجهله.
والمرأة شريكة الرجل في حمل الأمانة وأعبائها، وعليها أمانات كثيرة، وقد بين الشيخ حفظه الله أموراً كثيرة من الأمانات التي يجب على المرأة تحملها.(50/1)
أهمية الأمانة وعظمها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيتها النساء الحاضرات: أيتها الفتيات المستمعات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فهذه فرصة أخرى من الفرص الطيبة التي نلتقي فيها من وراء حجاب كما أمر الله سبحانه وتعالى، في هذا المبنى وفي هذه الكلية، أسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً.
أيتها الفتيات المسلمات: أيتها النساء! موضوعنا في هذا اليوم بعنوان: حاملة الأمانة، وهو موضوع خطير وحساس؛ لأنه ينبع من الأمانة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى لأدائها، قال الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] هذه الأمانة التي أشفقت السماوات باتساعها والأرض بامتدادها والجبال بشموخها وثقلها أشفقن من حملها، وحملها الإنسان.
والإنسان فيه ظلم وجهل، ولذلك كان حمله لهذه الأمانة يحتاج إلى إعانة من الله وتعليم وعون من الله ليقوم بهذه الأمانة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
فيجب عليك -أيتها المسلمة- أداء الأمانة التي كلفت بها إلى أهلها، وأنت تعلمين أن من أشراط الساعة تضييع الأمانة كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة).
ما هي الأمانات المرتبطة بك أيتها المرأة المسلمة؟ إن هذه الأمانات متعددة، فمنها: أمانة الجوارح، وأمانة العبادة، وأمانة العلم، وأمانة الزوج، وأمانة الأولاد، وأمانة المال، وأمانة الدعوة، وأمانة المشاعر والأحاسيس.
هذه بعض أنواع الأمانة المناطة بك والتي أنت مكلفة بالقيام بها وإعطائها حقها.
إذاً -أنت أيتها المسلمة- تحملين أموراً ثقيلة، وأنت مكلفة بأداء مهمات صعبة، فاسألي الله العون والثبات لتحمل هذه الأمانة وأداء هذه المسئولية، والله قد وعدكِ بأنه سيعينك ويثيبك ويجزيك الجزاء الأوفى إذا كنت قمتِ بهذه الأمانات وتحملت التبعة: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء:124] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40] فالله قد وعدكِ أنه سيعطيك ويضاعف لك ويكون معك؛ إذا أنتِ آمنتِ وإذا حييتِ الحياة الطيبة وقمتِ بأداء الأمانة إلى أهلها وحملتِ هذه الأمانة فأعطيتها حقها، والويل كل الويل لمن تضيع أو تقصر في حمل هذه الأمانة بأنواعها.
فلنأت أيتها المسلمات على بعض أنواع الأمانة، ولنذكر -يا حاملة الأمانة- لكِ شيئاً من هذه الأمانات علَّ الله تعالى أن يبصر بها، وأن يذكر المقصرات وأن يدفع المخلصات ويعينهن على حمل هذه الأمانات.(50/2)
أمانة الجوارح
أولاً: أمانة الجوارح: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فأنتِ محاسبة -أيتها المسلمة- على هذه الأعضاء والجوارح، أنتِ محاسبة على اللسان والسمع والبصر والتذوق والشم واللمس واليد والرجل وسائر الحواس والأعضاء والجوارح.
فأنت أُعطيتِ هذه لتعبدي الله بها، فهذه أمانة ينبغي القيام بحقها، هذه الجوارح وسائل ينبغي أن توجه وتستعمل في طاعة الله سبحانه وتعالى.(50/3)
أمانة اللسان
اللسان يستعمل في طاعة الله: تلاوة القرآن الأذكار الشرعية أذكار الصلاة من التكبير والتسبيح والتشهد والدعاء أذكار الصباح والمساء أذكار النوم الاستيقاظ العطاس السلام دخول الخلاء كفارة المجلس الاستخارة، الأذكار كلها بأنواعها، هذه من عبودية اللسان استخدام اللسان في السلام، إلقاء ورداً والأمر بالمعروف باللسان والنهي عن المنكر باللسان تعليم الجاهل أداء الشهادة الصدق في الحديث مذاكرة العلم.
وينبغي أن تكفي اللسان عن استعماله فيما حرم الله، كالنطق بالكفر والاستهزاء بالدين، ككثير من هذه النكت أو الطرائف الموجودة التي فيها استهزاء بالجنة أو النار، أو يوم المحشر والحساب والجزاء، أو صفات الله سبحانه وتعالى، أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو صحابته، أو شيء من شعائر الدين والعبادات، وأن تكفي اللسان عن النطق بالبدع المخرجة عن الملة وغير المخرجة عن الملة، البدع التي هي شر ما عمل العباد، وتحسينها وتقويتها، فعليك الكف عن ذلك كله، والكف عن الدعوة إليها واتباع السنة، الكف عن القذف، كاتهام بريئة بأنها زانية، أو سارقة، أو أنها بنت حرام، أو سب وشتم ولعن، وما أكثر اللعن في أوساط النساء، عدي هذه الصفة الذميمة -اللعن- كما قال صلى الله عليه وسلم: من أسباب دخول النساء النار: (يكثرن اللعن) الكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم، ما أكثر اللاتي يفتين بغير علم وينقلن فتوى لا أساس لها، ما أكثر اللاتي يعطين الآراء المجردة عن الأدلة، يعطين الأدلة من عقولهن القاصرة مجردة عن العلم، فيقلن على الله بلا علم، ما أخطر القول على الله بلا علم! وما أعظمه! وما أشد إثمه! وما أكثر المتساهلات بالإفتاء! أو الكلام بأحكام الدين بغير دليل ولا بصيرة ولا نقل لأقوال أهل العلم، ظناً وتخرصاً، أو تقول: هكذا هو بالعقل.
هذه الآفات من آفات اللسان خيانة للأمانة، أكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم -يا فتاة الإسلام- هو حصائد ألسنتهم، كم أودى اللسان بمسكينات إلى النار، وكم أدخلهن جهنم من أبواب عدة، هذه المكالمات الهاتفية المحرمة مع الرجال الأجانب تجري في النهار والليل معصية لرب العالمين، خيانة للأمانة، استخدام اللسان فيما حرم الله، كلمات فاحشة، أنواع من الخنا والفجور يقال بالهاتف يتكلم بها مع من حرم الله الكلام معه، وبطريقة حرم الله الكلام بها هذه الخيانة من نماذج الخيانة للأمانة.(50/4)
أمانة النظر
ثم أعطاك الله نظراً وبصراً، فكيف تقومين بأداء الأمانة والوفاء بحقها؟ النظر في المصحف عبادة قراءة القرآن ومتابعة هذه الأحرف والكلمات بالبصر والنظر في كتب أهل العلم لزيادة الإيمان ومعرفة الأحكام النظر في السلع والأغذية لتمييز الحلال من الحرام، فهذا فيه صورة ذات روح لا يؤخذ، وهذا فيه صليب لا يؤخذ، وهذا فيه أشياء من الأمور المحرمة والدهون المحرمة فلا يؤخذ ولا يشترى، النظر في أمانات الناس لردها إليهم، وتمييز بعضها عن بعض هذه أمانة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] النظر في آيات الله في المصاحف أو النظر في آيات الله المنثورة في الكون والآفاق، في الجبال والشجر والمياه والأمطار والنجوم والسماء وغيرها من الشواهد الدالة على وحدانية الله.
إن من الخيانة لجارحة العين، والإخلال بحقها استعمالها في معصية الله من أنواع النظر المحرم، كالنظر إلى صور الرجال بالفتنة والشهوة، والنظر إلى العورات -حتى عورات النساء- بأنواعها سواء العورات من وراء الثياب أو عورات من وراء الأبواب، والنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وما أكثر اللاتي يخن الأمانة بالنظر إلى ما حرم الله من هذه الأفلام، التي تعلم الفحش وتعلم إقامة العلاقات المحرمة، والتي تنزع الحياء نزعاً من نفس المرأة المسلمة، والنظر إلى المجلات التي تلقي الشبه في الدين والعقيدة، المجلات التي تجرئ الفتاة المسلمة على الخروج وقول: لا، لتعاليم الشريعة، المجلات التي تجرئ الفتاة على إقامة العلاقات مع الجنس الآخر دون حياء ودون حواجز شرعية.(50/5)
أمانة السمع
أعطاك الله سمعاً، وأراد الله منك أن تستخدمي السمع فيما يحب، فمن القيام بالأمانة الإنصات بهذا السمع إلى ما يحبه الله ورسوله، استماع الإسلام وفروض الإيمان وقراءة الإمام في الصلاة الجهرية، واستماع العلم والفتاوى وذكر الله سبحانه وتعالى، والمواعظ، واستماع ما يحمي القلوب.
وتجنب السماع المحرم، كاستماع الكفر والبدع إلا لمن يرد عليها، والتجسس على خلق الله، والتي تستمع إلى حديث امرأة وهي كارهة لاستماعها يصب في أذنها الآنك -الرصاص المذاب- يوم القيامة استماع أصوات المغنين والمغنيات، بل حتى المنشدات التي يفتن النساء بأصواتهن حرام لا يجوز استماع المعازف وآلات اللهو والطرب، وما أكثر النساء اللاتي لا يبالين بسماع صوت وتر أو عود أو آلة موسيقية أو فرقة بأكملها قرآن الشيطان يصب في آذان المسلمات صباً تقبل عليه اللاتي لا يرجين الله ولا الدار الآخرة استماع الغيبة والنميمة والفحش، ثم استماع الصوت الفاجر عبر جهاز الهاتف في هذه الاتصالات المحرمة، هذا الاستعمال خيانة للسمع، وستحاسب هذه الفتاة على انتهاك حدود الله بهذا السماع المحرم.(50/6)
أمانة الذوق
حاسة التذوق نعمة من الله، تذوق الحلال وأكل الطعام لكي تحافظ على حياتها تذوق الدواء للعلاج تذوق الزوجة طعام الزوج أو طعام ضيوفه ومؤاكلة المرأة المسلمة لضيفتها وأكلها من طعام الوليمة -وبعض أهل العلم يرى وجوبه- كما إن إجابة الوليمة واجبة إذا كانت خالية من المنكرات.
وأما التذوق المحرم فأنواع لا تعد ولا تحصى، كتذوق الخمور والمخدرات والسموم والتدخين، أو الأكل والشرب حال الصيام دون عذر شرعي، وتذوق الأمور المشتبهة، كالأكل من بيوت الذين كسبهم من الحرام كموظفي البنوك الربوية، والأكل فوق الحاجة والتخمة، وتذوق طعام الفجأة -أو الفجاءة- وهي المرأة المتطفلة على القوم التي تأتي بغير دعوة، أو تدخل على امرأة أخرى في بيتها دون أذن، فتذوقك لطعام من يطعمك حياء منك من غير طيب نفس لا يجوز، ومن أنواع التذوق أيضاً المنهي عنه: أكل طعام المرائين في الولائم والدعوات، الذين يعقدون الولائم والحفلات رياء ومفاخرة، فلا تتذوقي طعامهم.(50/7)
أمانة الشم
أعطاك الله حاسة الشم، تميزين بها بين الطيب والخبيث، والنافع والضار، وتشمين الروائح الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الطيب ولا يرد الريحان.
ثم طالبك الشارع بأن تمتنعي عن شم المحرمات وشم ما يحرم شمه في حالة معينة، كشم الطيب في الإحرام، أو شم الطيب المغصوب والمسلوب واستعماله، أو شم طيب الرجل الأجنبي والافتتان به، أو شم طيب الظلمة والتبخر ببخور أصحاب المحرمات.(50/8)
أمانة اللمس
أعطاك الله حاسة اللمس تمسين بها ما يجب مسه ويستحب مسه، كمس الأرض في السجود، ومس الحجر الأسود والركن اليماني في الطواف، ومس المصحف عند القراءة فيه وتقليب صفحاته، وكتب العلم، ومس ما تميزين به بين الحلال والحرام والطيب والخبيث، ومس الزوج بالحلال، ومس الأطفال بالحنان، ومصافحة الأخت المسلمة، وتقبيل الأبوين، ومصافحة المحارم بلا فتنة، ومس أجهزة التسجيل المفيدة لسماع مفيد.
وحرم الله عليك لمس أمور ومحرمات كمس جسد الأجنبي ولو من وراء حائل كمصافحة الأجنبي مثلاً، ويحرم عليك لمس كل ما لا يجوز النظر إليه ولو عورة المرأة، فلا يجوز مس عورة امرأة بغير ضرورة شرعية، لا بحائل ولا من وراء حائل، وكذلك مس الزوج في الصيام مساً يؤدي إلى إفساد الصيام، أو مس الزوج بشهوة في الإحرام وقبل طواف الإفاضة، ومس الأمور الضارة، ومس صفحات المجلات وأزرار مذياع الموسيقى وفديو الأفلام الخليعة، ومس سماعة الهاتف بالإثم والعدوان.(50/9)
أمانة اليد
وأعطاك الله يداً -يا فتاة الإسلام- أمانة من الأمانات، ماذا تفعلين بها؟ وكيف تقومين بأداء الأمانة بها؟ إعانة المسكينة إغاثة الملهوفة مساعدة الضعيفة رمي الجمار استلام الركن اليماني والحجر الأسود الوضوء وغسل الأعضاء، والتيمم عند عدم الوضوء وبالعذر الشرعي تكسير أدوات المنكر وإتلافها استعمال أنامل اليدين لكتابة ما فيه دفاع عن الدين ومصلحة للإسلام والدعوة إلى الله تعينين صانعة أو تصنعين لمرأة خرقاء لا تحسن أن تصنع، وإفراغك من دلوك في دلو أختك لك صدقة.
وحرم الله استخدام اليد، فمن خيانة اليد قتل النفس التي حرم الله، وضرب من لا يحل ضربه، ولعب الألعاب المحرمة، مثل ما كان فيه نرد، أو ورق اللعب المعروف، وكتابة الكفر والإلحاد، وقد سمعنا عن بعض النساء اللاتي يكتبن المقالات ويدبجنها وفيها خروج عن ملة الإسلام، وتشكيك في أهل الدين واتباع لمنهج أهل الكفر والعلمنة، ويكتبن المقالات لدعم تيار العلمنة والفسق في المجتمع، وتيار البدع والحداثة: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] كذلك كتابة الزور والظلم والافتراء، وعمل السحر باليد ووضعه في البيت أو في الطعام كتابة خطابات الحب والغرام والفسق، يوم تشهد عليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء إمساك سماعة الهاتف لسماع الكلام المحرم، يوم تنادي عليهم جوارحهم بالويل والثبور يوم القيامة: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182] فهل تريدين أن تشهد عليك يداك بالخير أو بالشر يوم القيامة؟ يوم يتبرأ الإنسان من هذه الحواس التي استخدمها في المعصية، وتقول المرأة لحواسها: تباً لكن فعنكن كنت أناضل، يوم يختم على فيها فتشهد عليها رجلها ويدها وعينها وسمعها ولسانها بما عملت: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].(50/10)
أمانة الرجل
أعطاك الله الرجل فكيف تقومين بأداء الأمانة فيها؟ المشي إلى الصلاة الطواف بالبيت والسعي بين الصفاء والمروة السعي لطلب العلم المشي لحضور الحلقات والمواعظ المشي لإجابة الدعوة المشي لصلة الرحم وزيارة أخت في الله.
وتخان أمانة الرجل عندما يمشى بها إلى المعاصي، وكل ماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس موعد محرم لحفلة بدعية، كعيد ميلاد أو مولد أو حفلة محرمات، زفاف موسيقى وتصوير، ومناسبة اختلاط وحضور مجالس غيبة.
فهذه أمانة الجوارح وشيء منها، فهل ستقوم المرأة المسلمة بالوفاء بهذه الأمانة واستخدام هذه الجوارح فيما يرضي الله أم أنها ستندم ندماً يوم القيامة؟ {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].(50/11)
أمانة العلم
ثانياً: أمانة العلم.
أمانة العلم أمانة عظيمة.
فالمرأة الجاهلة أسهل شيء على إبليس وأهونه وأحقره، والمرأة العالمة بشريعة الله المتفقهة بدين الله ما أصعبها على إبليس وما أشد مراسها، بل إنه ربما يئس منها يأساً شديداً، حتى لا يكاد يستطيع أن يضرها بشيء.
وهذا دين ليس بلهو ولا لعب، فلابد من القيام بأمانته: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقد أمرك الله بالقيام بهذه الأمانة وهي أمانة طلب العلم الشرعي، فقال الله لك وللنساء من قبلك: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) لما أحست النساء المسلمات بهذه الأمانة قمن مجاهدات جاهدات في حقها، وفي سبيل تحصيل العلم أحست المرأة أنها أمانة فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا، فاجتمعن، فأتاهن، فعلمهن مما علمه الله).
كان استشعار أمانة التعلم يدفع المرأة للاستجابة للأمر النبوي، للخروج لصلاة العيد حائضاً وغير حائض، وتقول إحداهن: (يا رسول الله! إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها).
الأمانة يا أيتها الفتاة المسلمة! يا أيتها الأخت في الدين والعقيدة! الأمانة هي التي دفعت النساء إلى التفقه في الدين وعدم الحياء في هذا الأمر، كما قالت عائشة: [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين] جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -هذه مقدمة جميلة- فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة وكانت تسمع: يا رسول الله! أوتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك! فبم يشبهها ولدها؟!) إذاً هي لها ماء كماء الرجل، فإذا احتلمت وخرج منها الماء فإن عليها الاغتسال.
فما منعها الحياء أن تسأل وتتفقه لأنها تعلم أن هذه أمانة، وأمانة طلب العلم لابد أن تقوم بها.
الأمانة هي التي دفعت النساء الصالحات من أوائل هذه الأمة لحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعلت حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم الفقيهة الربانية المبرأة من فوق سبع سماوات، أفقه نساء هذه الأمة على الإطلاق، تزوجها وهي بنت تسع سنوات وأقام معها تسع سنوات، وفي هذه التسع السنوات تعلمت علماً جماً؛ لأنها أحست بالأمانة، وأنها لابد أن تحمل الأمانة، توفي عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعمرها ثماني عشرة سنة، إنها أصغر منكن -يا أيتها المستمعات- إنها في السن أقل منكن -يا أيتها الحاضرات- في تسع سنين حفظت آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وروتها، فلما مات عليه الصلاة والسلام ملأت أرجاء الأرض علماً، فروت علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، عن زوجها وعن أبيها وعن غيرهم.
أمانة العلم هي التي دفعت نساء الصحابة إلى التعليم بعد أن حفظن العلم، رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألون عائشة عن الفرائض، ولو جمع علم الناس كلهم وأمهات المؤمنين لكانت عائشة أوسعهم علماً، كانت يتعجب من فقهها وعلمها ويقول الرجل: ما ظنكم بأدب النبوة.
يقول عروة ابن أختها: لقد صحبت عائشة فما رأيت أحداً قط كان أعلم منها بآية نزلت، ولا بفريضة ولا بسنة ولا بشعر ولا أروى له ولا بيوم من أيام العرب ولا بنسب ولا بكذا ولا بفضائل، فقلت لها: يا خالة! الطب من أين علمتيه؟ فقالت: كنت أمرض فينعت الشيء ويمرض المريض فينعت له -يعني: يوصف الدواء- وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه.
هذه الأمانة في طلب العلم هي التي دفعت النساء المسلمات بعد ذلك للحفظ وأداء الأحاديث، وجعلت من النساء عالمات فقيهات بلّغن الأمانة، كانت بنت الإمام مالك تسمع من وراء الباب قراءة طلابه عليه، فإذا غفل أبوها ولحن القارئ وأخطأ؛ دقت الباب، فيعلم أبوها أن القارئ قد أخطأ فيقول: ارجع فالغلط معك.
حتى جارية الإمام مالك اشترى خضرة وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتينا نعطك الثمن، قالت: ذلك لا يجوز، فقال لها: ولماذا؟ قالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية فقيل له: إنها جارية مالك بن أنس فهذا أشهب تعلم من جارية مالك بن أنس.
وهذه بنت سعيد بن المسيب رحمها الله ورحم أباها، هذه المرأة التي حفظت عن أبيها علماً جليلاً، هذه المرأة لما تزوجت وأراد زوجها أن يخرج للقاء أبيها العالم، قالت له: إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، قالت: اجلس أعلمك علم سعيد، اجلس أعلمك علم أبي.
لما استشعرت النساء المسئولية قمن لله سبحانه وتعالى لتعلم أحكام الدين والشريعة، وحفظ القرآن والأحاديث.
كيف تقومين بأداء أمانة العلم الشرعي أيتها المرأة المسلمة؟ لابد أن تتعلمي كيف تقرئين القرآن، وكيف تحفظينه، وكيف تسمعينه، وكيف تتدبرين معاني القرآن؟ لابد على الأقل أن يكون عندك تفسير بسيط لمعاني القرآن، فتتعلمين معاني ما أنزل الله بدلاً من أن يكون طلاسم ومبهمات، وهو كلام ربك، وأنتِ تفهمين في الموضات والأزياء وفن الطبخ أكثر مما تفهمين من كلام الله، هذا لعمر الله من أعظم ما يسبب الخجل من النفس، مصيبة وطامة، بل هل تفهم سائر نسائنا معاني مفردات بسيطة في سور قصيرة يقرأنها دائماً، وهل يعرفن معنى الصمد والفلق والخناس والغاسق ووقب فضلاً عن معنى {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} [العاديات:1 - 2] أليس أمراً مؤسفاً ألا تعلم كثير من النساء معاني الآيات.
ثم لابد أن تتعلمي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه، وتميزي بين الصحيح والضعيف، وما اشتمل عليه الحديث من الأحكام.
لابد أن تتعلمي العقيدة، فأركان الإيمان الستة مهمة جدا، ً والسيرة النبوية والفقه وأركان الإسلام، وأحكام النكاح، خصوصاً إذا أردت الزواج.
معرفة مخططات الأعداء، من حمل أمانة العلم -أيتها الفتاة المسلمة -الاستفتاء بالطريقة الشرعية سؤال الثقات من أهل العلم الصدق في السؤال وعدم التلاعب في صياغته كما يحدث من بعض النساء عدم تتبع الرخص والتنقل من شخص إلى آخر بحثاً عن منفذ اتباعاً للهوى، ولابد لك من القراءة في الكتب والبحث والاطلاع.(50/12)
أمانة المال
ثالثاً: أمانة المال.
لقد أعطانا الله سبحانه وتعالى هذا المال واستخلفنا فيه؛ لينظر سبحانه وتعالى كيف نعمل بالمال، أنتِ تأخذين مكافأة من الكلية، وإذا توظفتِ تأخذين راتباً، وكثير من النساء عندهن أموال من عطايا الآباء أو الأزواج، وربما يكون عندها إرث؛ فتكون ذات مال، فماذا تفعل بهذا المال؟ والمال أمانة يجب القيام بها.
هل تؤدين زكاته؟ بعض النساء لديهن أسهم في الشركات، وأموال وأرصدة في المصارف، ومَن مِن النساء ليس لديها حلي؟ هذا كله من أنواع المال، وقد يكون لها أرض باسمها مسجلة، هل تعلم المرأة أحكام الزكاة لتؤدي حق المال؟ وأمانة المال أن تأخذه من حله فتصرفه في حقه، فهل تكسبه من حلال؟ بعض النساء يسرقن، والله! سمعنا عن حوادث مخجلة من دخول بعضهن إلى محلات وأسواق فيأخذن خلسة، فيخفين في الثياب، ويضعن في هذه المحافظ الموجودة والشنط اللاتي يحملنها، وربما سرقت المرأة من بيت امرأة أخرى، وربما أتت بعد سنوات تتوب وتقول: ماذا أفعل الآن هذه الأسورة التي سرقتها من بيت فلانة محرجة في ردها؟ بعض النساء يعملن في أعمال راتبها حرام؛ كأن تعمل في بنك ربوي أو تعمل في مكان فيه اختلاط وتبرج وفتنة، فكيف يجوز لها أن تعمل وما حكم الراتب التي تأخذه؟ وأعداء الإسلام يخططون لكي يفتحون مجالات عمل محرمة للنساء، فتعمل النساء فيها.
كثير من النساء في البلاد الإسلامية والعربية يعملن في مجالات عمل إما أن تكون محرمة أصلاً كالبنوك الربوية، أو محرمة لما يقترن بها من الاختلاط والسفور والتبرج واحتكاك الرجال بالنساء، ولمس المرأة للرجل ونحو ذلك، فهل هذا المال حلال عليها أم أنها ستسأل عنه يوم القيامة من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ أين تنفقين أموالك يا فتاة الإسلام؟ هل تنفق لشراء أفلام وقصص حب وغرام، أو لشراء مجلات تافهة تحطم العقيدة في النفوس وتزلزل كيان الدين، وتلقي الشبه عن النكاح وعن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وعن تعدد الزوجات وعن أمور كثيرة جداً في عدل الشريعة، وأن الشريعة ما عدلت، وأن الشريعة ظلمت المرأة؟ المجلات المحرمة الموجودة الآن المنتشرة ابتداء من فتاة الغلاف وحتى دعاية التدخين الموجودة على الغلاف الآخر، وما بينهما طامات كثيرة تشترينها بأموالكِ أنتِ.
تشترين ثياباً محرمة، تلبس إلى ما فوق الركبة، وعليها صور ذوات الأرواح، أو صور مغنيين.
هذه الصورة الرعناء القبيحة، حيث تجد شعره كالمكنسة ويكتبون عليها سيدو ديدو، لا يكاد يوجد في محل من محلات السوق فنيلة أو قميص أو بنطلون أو فستان إلا وعليه شعار اللامبالاة والقباحة في الشكل والوساخة، يريدون أن يجعلوا من أجيال المسلمين نماذج من سيدو ديدو، وهذا مطبوع على كثير من هذه الملابس، فتشتريها النساء ويلبسنها.
تنفقين أموالك على هذه الملابس المحرمة، على ثياب شهرة، تنفقين أموالاً كثيرة في تفصيل ثوب عند خياطة لا يساوي المال الذي تصرفينه وتنفقينه؛ لأن الذي تنفقينه إسراف في الحقيقة؛ لأن سعره غير معقول وفوق العادة، يحمل عليه المباهاة والفخر على خلق الله، ولكي تمشين به متبخترة في الحفلات والمناسبات، ويشار إليك بالبنان: صاحبة الفستان الـ، تشترين حجاباً غير شرعي، وتشترين خماراً عليه تطريزات وزخارف ونقوشات وألوان، وتشترين الكاب أو تلبسينه فوق الكتفين ليظهر حجم الجسد والكتفين.
تنفقين الأموال في تصفيف الشعر والموضات وفي التسريحات والنمص المحرم، لو كان تجملاً بطريقة شرعية؛ لقلنا نعم قبلنا ذلك، لكن قصات تشبه الرجال، وقصات تشبه قصات الكافرات فتشبه من جميع الأنواع.
تنفقين المال في توافه الكماليات، أنت تعلمين أن من خطط أعداء الله إلهاء النساء بهذه الأشياء والركض وراء السراب، وتقذف دور الموضة وأدوات التجميل بأشياء كثيرة جداً، وأنواع من العطورات غالية الثمن لا تحتاج إليها المرأة في الحقيقة؛ لأنها في الغالب تستخدم في الحرام، ووضعها عند الخروج بين الرجال، لو وضعتها لزوج ولو وضعتها في مجتمع نساء بشكل معقول بحيث لا تصل الرائحة للرجال، لا هي داخلة ولا خارجة ولا أثناء جلوسها لقلنا: نعم، أليس من الإسفاف والسخف أن تشتري بعض النساء صوراً لمطربين يعلقنها في الثياب أو يضعنها في الشنط.
تشترين ملصقات فيها عبارات إما تدعو إلى قومية أو حزبية أو عصبية جاهلية، فما هو مصير هذه الأموال؟ المرأة تدفع أموالها إلى بيوت الأزياء التي يديرها اليهود، وتتنافس مع زميلاتها في اقتناء الثياب الأوروبية بالأثمان الغالية، فتجدها تدخل إلى محل تطلب قماشاً يكون من النوع الذي لا بأس به بكم المتر؟ يقول: بكذا، تقول: هذا رخيص، ليس بجيد أما عندك أحسن؟ والبائع يجد فرصة للعب بالعقول والضحك والخداع، فيأتي لها بقماش مثله في النوعية، ولكنه يزيد في السعر لكي يرضي غرورها وجهلها، فتأخذه فرحة مسرورة، وتخرج إلى المحل ترقص على جبينها جهلاً وغروراً، وثمن الفستان يساوي راتب مدرس في شهر كامل، وفستان العرس يعادل راتب مدرس مدة سنة كاملة، رحمة الله على عائشة لم تكن تستجد ثوباً حتى ترقع ثوبها الأول، وقد جاءها يوماً من عند معاوية رضي الله عنه -وقد كان يصل أمهات المؤمنين- ثمانون ألفاً فما أمسى درهم واحد عندها، قالت لها جاريتها: هلا اشتريت منه لنا لحماً بدرهم، قالت: لو ذكرتني لفعلت.
قالت عائشة لـ عروة: [والله! يا بن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ناراً قط، قلت: يا خالة! ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح -شياه- فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا].(50/13)
أمانة العبادة
أمانة أخرى من الأمانات ألا وهي: أمانة العبادة، عبادة الله سبحانه وتعالى الصلاة الزكاة الصيام الحج قراءة القرآن النوافل قيام الليل ذكر الله الدعاء تذكر الموت: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] أمانة معرفة كيفية الصلاة لكي تصلين، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه نابعة من أمانة العلم، صفة ما هي الأموال التي يجب فيها الزكاة وكم نسبة الزكاة، ومازالت زكاة الحلي قضية غير واضحة في أذهان كثير من النساء حتى الآن، فضلاً عن زكاة بعض الأموال التي أسلفناها قبل قليل.
تعبدين الله بالصلاة والصيام، فلابد لك من معرفة أحكام الحيض والنفاس والاستحاضة الصفرة الكدرة الطهر تقطع الحيض اتصاله زيادته نقصانه آثار استخدام الحبوب واللولب أشياء متعلقة بالعبادات، فهذه أمانة.
وكثير من النساء تفرط في هذه الأحكام، ولا تدري أين هي موجودة وموضوعة، وحتى بعض النساء اللاتي فيهن نوع من الدين والخير.
والآن نحن في صيام الست من شوال، ما حكم صيام الست بغير إذن الزوج؟ إذا طهرت الحائض في النهار ماذا يلزمها في الليل؟ عندها مال للحج ويوجد محرم فما حكم الإنابة في الحج؟ إذا حاضت المرأة وهي تريد الإحرام ماذا تفعل؟ هل جدة ميقات للمرأة التي تذهب من هنا؟ وكيف تلبي المرأة؟ ما هي محظورات الإحرام؟ كيف تقصر شعرها في الحج والعمرة؟ العبادات أمانة ومسئولية، فمن من النساء اللاتي تعلم كيف تعبد الله؟ نسأل الله أن يكثرهن، ونحن على يقين أنه يوجد من الصالحات العابدات القانتات العالمات من تعرف كيف تعبد الله، لكننا نسأل الله أن يكثر هذا العدد وأن يزيل الجهل، ونسأل الله أن يفقه نساءنا في أمور الدين، وأن يصرفهن إلى العبادة، ويحبب العبادة إليهن.
قال عبد الله بن الزبير: [ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، أما عائشة فكانت تجمع الشيء، حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد، وكانت تسرد الصيام سرداً].
قال عروة: [كنت إذا عدوت أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي].
ولما بُعث إلى عائشة بمائة ألف درهم قسمتها، قالت بريرة: أنت صائمة، فهلا ابتعت لنا بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت.
قالت: يا جارية! هاتي فطوراً -لما جاء وقت الإفطار- فجاءتها بخبز وزيت.
أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تصنع وتعمل بيدها وتتصدق في سبيل الله (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يد) كانت زينب تعمل وتتصدق، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود -اجتهاد من زينب - فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) زينب أم المساكين، صالحة صوامة قوامة بارة زاهدة حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل.
هؤلاء النساء الصالحات اللاتي يتواضعن لله فيذكرن ذنوبهن وما أقل ذنوبهن! ونساؤنا اليوم مع كثرة الذنوب يتذكرن الأعمال الصالحة فقط.
هنا عندنا نساء ولله الحمد فيهن خير كثير في المجتمع، يصلحن قدوات، يجمعن صدقات، ويرتبن مرتبات للعوائل، يتفقدن الأرامل والأيتام والأسر الفقيرة، يتصدقن من حليهن.
الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا النساء إلى الصدقة صرن يلقين من الحلي والأقراط، ويوجد -ولله الحمد- نساء لو قلنا في المسجد: ألقوا ما أنتم ملقون، لألقوا من الحلي والأقراط اقتداء بالنساء الأول.
كان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباع جاريته لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا.
يا أهل الدار! صلوا.
فقالوا لها: نحن لا نقوم إلا الفجر، فجاءت إلى الحسن فقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، أخاف أن أكسل من نومهم، فردها الحسن إليه رحمه الله.
كانت عجردة العمِّية تغشانا فتضل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت ثم قامت إلى المحراب، فلا زالت تصلي إلى السحر، يقول لها أهل الدار: لو نمت من الليل شيئاً؟ فتبكي وتقول: ذكر الموت لا يدعني أنام.
قال الهيثم بن جماز: كانت لي امرأة لا تنام الليل وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها وتقول: أما تستحي من الله؟ إلى كم هذا الغطيط؟ فوالله إني لأستحي مما تصنع.
نحن الآن لا نطالب النساء أن يقمن كل الليل، لا والله! ولا أن يقمن كل النهار، لكن تضييع قراءة القرآن، والصيام، والسنن والنوافل فلا يعبدن الله إلا في رمضان وغيره من الأيام، منصرفات عن العبادات، أين أمانة العبادة في القيام بها أو بفقهها ومعرفة ما تنطوي عليه من الأحكام؟(50/14)
أمانة حق الزوج
نوع آخر من الأمانة الآن: أمانة الزوج، المرأة إذا تزوجت دخل في رقبتها نوع آخر من الأمانة أمانة الزوج، اسمعي هذه الأحاديث -يا أمة الله- لكي تعلمي شيئاً عن عظم أمانة الزوج، قال صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا تجاوز صلاتهما فوق رءوسهم عبد آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عقت زوجها حتى ترجع) وفي رواية: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط) وقال: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ) (لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، قيل: ولا الطعام يا رسول الله؟ قال: ذلك أفضل أموالنا) (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) (ثلاثة لا تسل عنهم: رجل فارق الجماعة وعصى إمامه ومات عاصياً، وعبد أبق من سيده فمات، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤونة الدنيا فتبرجت بعده فلا تسأل عنها) (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه) فلو كانت على التنور ما تمنعه وتلبي طلبه، وقال في الحداد: (المتوفى عنها زوجها: لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل) فالمرأة المحدة من حق الزوج أربعة أشهر وعشرة أيام لا تمس طيباً، ولا كحلاً، ولا حناء، ولا أصباغاً، ولا مكياجات، ولا تلبس ثياباً جميلة، ولا تخرج من البيت، ولا تلبس ذهباً ولا حلياً.
(لا تأذن المرأة في بيت زوجها إلا بإذنه) (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله! إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا) (لا يحل لامرأةٍ أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) ما عدا الصيام الواجب.
فإذاً ستة من شوال يجب استئذان الزوج فيها (لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) (والذي نفسي بيده! لو أن من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم أقبلت تلحسه ما أدت حقه) حديث صحيح.
استشعرت المرأة المسلمة الأولى حق الزوج، فقعدت عنده، وسمعت كلامه، وأطاعت أمره، ولبت طلبه، وقامت بخدمته، وكنست بيته، وطبخت طعامه، وهيأت ثيابه، وربت أولاده، وحفظت بيته أثناء غيابه، هل تعلمين كيف كانت المرأة تحمل أمانة الزوج؟ أخرج الشيخان عن أسماء قالت: [تزوجني الزبير بن العوام وماله في الأرض مالٌ ولا مملوك ولا شيء غير ناضح -جمل يسقي به- وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مئونته وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، فأعلفه وأسقيه الماء، وأغرز غربه -حتى الدلو ترقعه- وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي اقتطعه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثلثي فرسخ -تنقل النوى من أرض الزبير - قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه، فدعاني وقال: إخ إخ -يعني: ينيخ راحلته ليركبها- ليحملني خلفه، فاستحييت وعرفت غيرته -أي غيرة الزوج- فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لي أركب فاستحييت منه، وعرفت غيرتك، قال الزوج مشفقاً: والله لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه، حتى أرسل إلي أبو بكر بخادمة، فكفتني سياسة الفرس -فقط- فكأنما أعتقني] هذا رد على كل من يقول: إن خدمة الزوجة لزوجها غير واجبة، بل يروح يأتي بخادمة.
بعضهم من دعاة تحرير المرأة، وبعضهم من الذين يرجمون بالغيب، أو الذين لا يحسنون نقل أقوال الفقهاء يشيعون ذلك، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم جرت الرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، تطلب خادماً يقول لها صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك) رواه مسلم، هذا دليل على أن ذكر الله -يا فتاة الإسلام- يقوي الجسد.
إذاً أمانة الزوج طاعته دوام الحياء منه السكوت عند كلامه الابتعاد عما يسخطه طيب الرائحة له وغض الطرف أمامه، حفظ ماله لا إسراف ولا تبذير، وحفظ سمعته، فكيف تمشي المرأة متبرجة؟ أو كيف تمشي المرأة أو تذهب مع السائق وحدها؟ ماذا يقال عنه؟ يتهم بين الناس لا تدخل أحداً البيت إلا بإذنه تكليم الأجنبي من وراء الباب وبالهاتف بحذر وقيود وحدود وإيجاز على قدر الحاجة، دون لين ولا تكسر.
أمانة الزوج القيام بها في تربية أولادها، التجمل له، إذا نظر إليها سرته، الاعتناء بهندامها عند قدومه من سفره الابتسامة الطيب التجمل تحين الفرصة الملائمة لإخباره بالأشياء المؤلمة والمؤذية، قالت أم سليم لزوجها عن طفلها الميت: (هو الآن أسكن ما يكون) ثم أخبرته في الوقت المناسب.
إذاً ما حال المرأة التي إذا غاب عنها زوجها تلعب من ورائه، وتخرج وتسلم من ورائه، إذا غاب في العمل أو غاب في السفر، إن ذلك خيانة للأمانة -أمانة الزوج وأمانة الزوجية.
أما بالنسبة للفتاة المسلمة التقية النقية الزوجة الصالحة ما الذي يضمن ألا تلعب من وراء زوجها، ولا تكلم أجنبياً ولا تدخله إلى بيت زوجها، أو تخرج هي للفواحش؟
الجواب
حمل الأمانة التي هي موجودة في آية من كتاب الله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] حافظات بمعنى إذا غاب الأزواج حفظن أنفسهن، وحفظت فرجها ونفسها.
ثم من قيام حق الزوج الأمانة أن تأمريه بالمعروف، فتأمريه بالصلاة وتوقظينه لصلاة الفجر وصلاة العصر، ولو كان راجعاً من الدوام ومتعب، فإن الرحمة به إيقاظه للصلاة وليس تركه نائماً.
وإذا كان الزوج من أهل السوء والعياذ بالله، إذا كان من أهل الأفلام والمحرمات ومن أهل المسلسلات والصحف الفاسدة والمجلات، إذا كان من أهل رفقاء السوء والألعاب المحرمة، ما موقف الزوجة؟ تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وإذا كان زوجها قاسقاً، صاحب خمور ومخدرات، فتجاهد زوجها حتى يترك الخمور والمخدرات، ويجوز لها طلب الطلاق طبعاً؛ لأن هذه العيشة لا يصبر عليها، فالزوج الفاسق الذي يسافر إلى الخارج يزني ويتباهى بالصور أمام أصحابه، وربما تواقح وقال لها بعضاً ما يفعل ليؤذيها، هي تجاهد في الله وتدعوه إلى الله وتنصحه وترغبه وترهبه، فإذا كان كافراً بالله يستهزئ بالدين وبالحجاب وبالصلاة ويترك الصلاة بالكلية وهو يعلم حكمها ما هو الحل؟ فارقته ولا تقعد عنده لحظة، فالمسألة الآن مفاصلة وتبري من الزوج الكافر.(50/15)
أمانة تربية الأولاد
من أنواع الأمانة -يا أيتها المرأة المؤمنة- أمانة الأولاد.
ليس عبثاً أن يقول عليه الصلاة والسلام لرجل لما سأله: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ليس عبثاً أن تجعل الشريعة للأم ثلاثة أمثال ما للأب، إن هذا لم يأت من فراغ، ومعنى ذلك أن الأم قائمة بأمانة عظيمة تستحق أن تبر ثلاثة أمثال الأب، ليس عبثاً أن تجعل الجنة تحت قدم الأم، وهذا ليس مجاناً، معناه: أنها قامت بفضل عظيم، يخرج من حناياها الولد، وتحت جناحها يشب، إنها قوام البيت ومحوره، منه بدأ وإليه يعود.
المرأة المسلمة التي تنجب الأطفال تقرباً إلى الله لزيادة عدد المسلمين ولتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم للأمم يوم القيامة، المرأة تموت في النفاس فهي شهيدة، المرأة هي حاملة تربية الأولاد، فلا تتخلى عن وظيفة التربية للخادمة، وتتفرغ هي للفساتين وصاحباتها وزياراتها وخروجاتها، كيف هذه المرأة تكون تحت قدمها الجنة؟ هذه المرأة دعاؤها لولدها أو على ولدها مستجاب.
إذاً أنت تربين النشء، فعليك متابعة الأولاد في الصلاة، وتذكيرهم بأوقاتها، وأمرهم بها في السابعة.
وكذلك تعليمهم الصوم والترغيب في الوضوء ومتابعتهم عليه، وحثهم على التلاوة وسماع وحفظ القرآن الكريم وملازمة حلق حفظ القرآن، ومعالجة مشكلات الشباب والميوعة والدلع الزائد عند الأطفال، ومحاربة قرناء السوء وأثر الشارع والمدرسة السلبي أحياناً، إزالة عقد الخوف الجبن الخجل الشعور بالنقص الأخلاق السيئة الحسد العناد الغضب، مسئولية من باب القيام بأمانة الولد.
تعليم الأطفال الأخلاق الحسنة الرحمة الإيثار العفو، تعليمه آداب الطعام والشراب المجلس الحديث زيارة المريض السلام العطاس الأذكار هذه من القيام بأمانة الأطفال، عمل المسابقات للأطفال، قصص إسلامية تقرأ أسئلة عنها، أشرطة مسجلة طيبة.
بناتك أمانة في عنقك، أمرهن بالحجاب الترديد مع المؤذن الصلاة قبل النوم الفجر في وقته الرحمة الحقيقية في حمل الأطفال على الصلاة، نساء الصحابة يصومن أولادهن ويعطونهم اللعب من العهن والصوف لتسكيت ألم الجوع إذا كان الصوم لا يضره التشجيع على الصدقة، مع تحفيظهم أذكار الصباح والمساء وأذكار دخول الخلاء والعطاس والسلام والنوم والاستيقاظ وأذكار الصلاة، إذا صاح الديك ونهق الحمار ونبح الكلب بالليل والأحلام المفزعة.
تعليمه الاستئذان على الأبوين خصوصاً في دخول غرفة النوم، التفريق بينهم في المضاجع ومراقبة الذكور والإناث، وتحدث الطامات في البيوت بسبب غياب الوعي وموت الضمير محاربة الأخلاق السيئة كالكذب اصطحاب الأطفال في الحج والعمرة إذا تيسر تهيئة الألعاب المباحة وعرائس القطن والصوف والدمى المصنوعة من القماش للبنات، وتربيتهن على أعمال المنزل ورعاية الصغار وتحمل المسئولية، حتى ضرب الطفل ينبع من الأمانة الملقاة على عاتقك، أيتها الأم! فضربه فيه قيام بالأمانة الشرعية، وله حدود، فلا يجوز أن يتعدى عشر ضربات، ولا يجوز أن يكون بآلة قاسية، ويجب أن يباعد بين زمن الضربات ويفرقها ولا يجمعها في مكان واحد، ويجب أن يتجنب ضرب الرأس والوجه والعورة، ولا يجوز أن يضرب حال الغضب، ورفع اليد عن الضرب إذا توسل الطفل بالله تعالى، إعظاماً لله وإجلالاً له، ويجب أن يسبق الضرب ويتبعه شرح لسببه؛ لماذا حصل؟ قالوا لنا: المرأة اليابانية أفضل الأمهات في متابعة الأولاد، فهي تصطحب ولدها إلى الجامعة إذا أراد الاختبار في جامعة طوكيو، قالوا لنا: إحدى دور الحضانة التي تعذر فيها إجراء قبول للأطفال؛ لأن أعمارهم في حدود العامين، اختبرت أمهات الأطفال بالنيابة عن أطفالهن.
قلنا نحن: دعوة الأم المسلمة لابنها عند خروجه من البيت تساوي هذا كله: وفقك الله يا ولدي! وقاك الشر يا ولدي! كان الله معك يا ولدي! لو صارت الأم مربية حقيقة تربي النشء والله تفوق كل الأمهات في العالم، عندها أمومة الأم قبل العطش والجوع، الرضيع يتعرف على أمه من رائحتها ثم من صوتها، لغة الأم أول لغة يقلدها الطفل.
أثر غياب الأم أكثر سلبية على الأطفال بكثير من أثر غياب الأب؛ وهذا من أسباب قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لأجل ذلك جعلت الحضانة للأم وكلف الرجل بالإنفاق عليها؛ لتقعد في بيتها وتتفرغ لصناعة الأجيال.
ما هو الفرق بين الأم والخادمة؟ فهناك أمهات يقصرن في أمانة الأطفال فيلقينها على الخادمات.
الفرق أن الأم تعتني بولدها بدافع الحب، والخادمة تعتني بدافع الواجب، في الوقت الذي تشعر الخادمة بالتعب والملل في خدمة الرضيع، تشعر الأم بالحب والحنان واللذة والسعادة في خدمة الرضيع، مساكين الأطفال الذين يعيشون أزمة حنان؛ لأن الأمهات انشغلن، وألقين بالأولاد على الخادمات، أزمة حنان تؤثر على مستقبلهم وتمزق نفسياتهم.(50/16)
أمانة التزام الحجاب
أمانة الحجاب التي ضيعت من كثير من النساء، قالت عائشة في البخاري: [يرحم الله نساء المهاجرين الأول، لما أنزل الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن مروطهن فاختمرن بها] لم ينتظرن حتى تحصل كل منهن على خمار، وإنما تنفيذ فوري، شعرن بالأمانة -أمانة الحجاب- فبادرت كل امرأة إلى شق مرطها، فتحصلت على خمار غطت رأسها وأسدلت على جيبها كما أمر الله.
الأمانة هي التي دفعت حاملة الأمانة عائشة لما جاء صفوان بن معطل السلمي وهو رجل أجنبي قريباً منها، فاسترجع فسمعت صوته فاستيقظت وقالت: [فخمرت وجهي].
الأمانة هي التي دفعت حاملة الأمانة لما مر بها رجال أجانب في الحج وهي محرمة أن تغطي وجهها، فلما تجاوزوا كشفته، إحرام المرأة في وجهها، أين القيام بأمانة الحجاب الآن؟ أين أين؟ هذه أنواع وأصناف الحجاب المزري تباع في الأسواق وتشتريها النساء، وثوب قصير، وثوب شفاف، وثوب ضيق، وثوب زينة في نفسه وشيء فيه مشابهة للرجال، وأنواع من الملابس فيها مشابهة للكفار، أين أمانة الحجاب يا أمة الله؟
الجواب
=6000287> وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].(50/17)
أمانة الدعوة إلى الله
وأخيراً: أمانة الدعوة إلى الله، أنت أيتها المرأة! حاملة رسالة وأمانة، النساء داخلات مع الذكور في وجوب تبليغ الدعوة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران:104] رجالاً ونساءً فالخطاب عام: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71] مريم بنت عمران قامت بالأمانة، صدقت بكلمات ربها وكتبه، آسية امرأة فرعون قامت بأمانة الدعوة، دعت زوجها إلى الله وصبرت على الأذى حتى الموت.
المرأة المسلمة داخلة ومخاطبة بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
المرأة لها نصيب من قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه) المرأة داخلة في حديثه صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) كم حديث حفظت وأديت إلى الناس؟ يقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها) كم حديث يا أيتها المرأة حفظت؟ فأنت عليك تكليف: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) كم أديتِ؟ قلن قولاً معروفاً، الدعوة في صفوف النساء من القيام بالأمانة، بيان الأحكام التي تختص بالنساء كأحكام الدماء الطبيعية مثلاً، دعوة الرجال من الأزواج والمحارم عليك أمانة، تعليم بنات جنسك أمانة، خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: (والله ما مثلك -يا أبا طلحة - يرد، ولكنك رجل كافر -انظري إلى القيام بأمانة الدعوة- لكنك رجل كافر وأنا مسلمة ولا يحل لي أن أتزوجك حتى تسلم، فذلك مهري وما أسألك غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها، قال ثابت: فما سمعت بامرأةٍ قط كانت أكرم مهراً من أم سليم، مهرها الإسلام) ما طلبت أساور ولا خواتم ولا أحزمة ذهب ولا معضدة فلان، ودمعة فلان وخزام فلان، عن معاذة قالت: [سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية ولكني أسأل.
قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة].
عليك بأمانة في الدعوة إلى الله؛ لأن المرأة أقدر من الرجل على البيان والتبليغ في المجتمعات النسائية، المرأة قدوة متنقلة بين النساء، والرجل لا يمكن أن يتنقل بين النساء، المرأة إذا أمرت أختها بشيء فإنها تراعي حال المرأة لأنها امرأة مثلها.
المرأة التي تعيش في مجتمع النساء تعرف الأولويات ومع توجيه الرجال يتم النجاح.
المرأة تلاحظ الأخطار في واقع النساء، ولا يستطيع الرجل أن يلاحظ.
المرأة قادرة على التنبيه المباشر والرجل لا يستطيع أن يمسك المرأة ويكلمها مباشرة إلا إذا كانت من المحارم أو شيئاً بسيطاً.
المرأة عندها قدرة لإنكار المنكر، ونحن الرجال لا ندري عما يحصل في واقع النساء من المنكرات إلا إذا وصلنا من النساء، أنا إمام في المسجد لا أدري ما يحدث في مصلى النساء، لولا امرأة تخبرني أن بعض النساء يضعن عطورات، وبعضهن لا يكملن الصف، وتقف واحدة بينها وبين الأخرى متر، وهذه تأتي برائحة الطبيخ، وحفائظ الأطفال في المسجد، وبخور وطيب، والله ما أدري حتى يأتي الخبر من النساء فيتولى الرجل التنبيه، أنا المحاضر من وراء حجاب وجدران لا أعلم عن منكرات بنات الكلية، وما يدريني ما يفعلن حتى تأتي رسالة أو سؤال تقول: إن النساء بدأن في وضع علامة كرستيان ديور ( HRISTI
الجواب
N DU
الجواب
R) ويخيطنها على الملابس، CHRISTI
الجواب
N تعني: نصراني.
المرأة يمكن أن تخلو بالمرأة فتنصحها، لكن الرجل لا يمكن أن يخلو بالمرأة فينصحها.
صد تيارات العلمنة من النساء بشكل جماعي فصد تيار نزع الحجاب وقيادة السيارات وحرية الصداقات إلخ له معنى معين إذا جاء من النساء.
فإذاً عليك أمانة في الدعوة إلى الله، كلمة تعدينها فتلقينها، تأني وتذكير واختيار ألفاظ ونقل كلام العلماء والدقة في النقل وصحة الأحاديث وجودة الإلقاء هذه أمانة.
الكتابة والنصيحة والمراسلة هذه أمانة، إذا صرت مُدرِّسة فذلك مجال عظيم في الدعوة إلى الله هذه أمانة، تحفيظ القرآن ومشاركتك في تعليم النساء كيفية التلاوة أمانة، عقد الندوات أمانة.
فإذاً المرأة المسلمة عليها أمانة عظيمة في مجال الدعوة إلى الله بين بنات جنسها بالذات: (({فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72] الرجال والنساء: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
أيتها المرأة المسلمة: هذه طائفة من الأمانات الملقاة على عاتقك فهل قمت بالأمانة؟ وإذا أردتِ أن أقول لك ختاماً شيئاً عن أمانة المشاعر والأحاسيس فأقول لك كلمة مختصرة؛ لأن هناك أسئلة عن الموضوع: أمانة المشاعر والأحاسيس هذه أمانة، الحب في الله أمانة البغض في الله أمانة بغض أهل الكفر والإلحاد والعلمنة وبغض الفاسق على حسب فسقه أمانة بغض أهل البدع على حسب بدعهم إن كانت مكفرة أو مفسقة أمانة بغض الراقصات والممثلات والمغنيات والفاجرات هذه أمانة محبة العلماء وأولياء الله والصالحات الداعيات القانتات العالمات أمانة، ثم الأخوة في الله والحب في الله أمانة، فلا تعبثي بها ولا تخلطي الحب في الله بالعواطف الجياشة والتعلق المذموم والعشق الإجرامي الذي يوصل إلى الشرك بالله، وإلى اتباع قولها دون الله، وإلى التفكير بها كل وقت وحين، وإلى كتابة الخطابات التي أشبه ما تكون بألفاظها الغرامية، هذه كلها من العبث بأمانة المشاعر والأحاسيس التي صانها الإسلام، أن تعكف واحدة على واحدة فقط دون باقي أخواتها في الله هذا شيء مشبوه، وأن تكون الحركات مريبة هذا أمر مشبوه، وأن تكون الألفاظ مشبوهة هذه خيانة للأمانة.
إذاً أمانة المشاعر والأحاسيس لا تخلطيها وتشوبيها بما يريب، وبما يغضب الله وبما يوصل إلى التعلق المذموم، وإلى عشق يفسد القلب ويزيل محبة الله.
هذا ما أردت أن أقوله لكِ، وأسأل الله لي ولك التوفيق والسداد والإخلاص وحسن النية وحسن الختام، أسأل الله أن يجعلنا في قبورنا آمنين مطمئنين، ويوم الفزع ويوم الحسرة والندامة يجعلنا من الفائزين السعداء، وإذا افترق الناس إلى أهل الجنة وأهل النار أن يجعلنا في صف أهل الجنة بحوله وقوته إنه أكرم الأكرمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولا تنسين الدعاء لنا وللجميع بالفلاح والنجاح، وأستودعك الله.(50/18)
الزوجة الوفية
لو نظرنا إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته لوجدنا أن الرجال لم ينفردوا بنصرة هذا الدين ومؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وجد من النساء من فاقت كثيراً من الصحابة بفهمها ونصرتها لرسول الله، ومؤازرتها له، ورجاحة عقلها وحنكتها وحكمتها في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم في بدء دعوته للناس، مما جعل في قلب رسول الله أشد الحب لها.(51/1)
فضائل خديجة كما في الأحاديث النبوية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فإن من القصص العظيمة التي تُذكر لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام قصة تلك الزوجة الوفية المخلصة النقية التي دافعت عن زوجها، وكانت تقية: خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها التي يجهل سيرتها الكثيرون، ولا يقدرها حق قدرها إلا من عرف حياتها واطلع على سيرتها، وهاكم -أيها الإخوة- بعض الأحاديث الصحيحة في فضل هذه المرأة وشأنها؛ لتكون نبراساً للنساء والرجال.
عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها -في أصدقاء خديجة- فيرسل قطعة من الشاة لهذه وقطعة لهذه، يرسل إليهن ما يسعهن).
وعنها رضي الله عنها قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه عز وجل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب).
وعنها رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحدٍ من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها ولم أدركها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها إلى صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد).
وعن إسماعيل، قال: قلت لـ عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: (هل بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم، ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد -أخت خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة، قالت: فغرت، فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيراً منها).(51/2)
نسب خديجة وشرفها
أما خديجة فهي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وبه تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم، زوجه إياها أبوها خويلد، وقيل: غيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة قد سافر في مالها مقارضاً إلى الشام، فرأى منه ميسرة -غلامها- ما رغبها في تزوجه، قال الزبير: وكانت خديجة تُدعى في الجاهلية الطاهرة، وماتت بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وكذلك فإنها ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين.(51/3)
أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة(51/4)
قوة يقين خديجة عند نزول الوحي
ومن ثباتها في الأمر ما يدل على قوة يقينها، ووفور عقلها، وصحة عزمها، ما حدث عندما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحادثة المشهورة لما جاءه الوحي أول ما جاءه، ضمه جبريل مرة ومرتين وثلاث، حتى بلغ منه الجهد وهو يقول له: اقرأ، والنبي عليه الصلاة والسلام يخبره أنه لا يقرأ: ما أنا بقارئ حتى علمه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3] فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: (زملوني زملوني، فزملوه، فقال لـ خديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله) هذه هي الكلمات المهمة التي تقال في الوقت العصيب، قالتها المرأة الصالحة رضي الله عنها لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فثبتت بها فؤاده، قالت خديجة: (كلا والله، لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم -تعرف زوجها- وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها، فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له: يا بن أخي! ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -ليتني عندما تقوم بالدعوة أكون قوياً حتى أنصرك- ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال: نعم.
لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
فهذه خديجة رضي الله عنها التي كان لها الفضل العظيم في تثبيت زوجها محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها قالت له: (كلا والله، لا يخزيك الله أبداً) ثم استدلت من سيرته عليه الصلاة والسلام ومن خبره وحاله وما تراه من شأنه في الاستدلال على أنه على صراط مستقيم.(51/5)
مؤانسة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم حال المواقف الحرجة
كذلك فإنها آنسته بذكر ما ييسر عليه الأمر ويهونه عليه، وأنَّ من نزل به أمر يستحب له أن يطلع من يثق بنصيحته وصحة رأيه، وهكذا لجأ إليها صلى الله عليه وسلم، أول ما لجأ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك الموضوع المخيف الذي حصل له عليه الصلاة والسلام لجأ إلى زوجته الأمينة وهو يقول: (لقد خشيت على نفسي) ثم قامت بواجبها خير قيام في إلقاء الطمأنينة في نفسه وإشاعة الأمن في قلبه رضي الله تعالى عنها، وهذا مما يدل على قوة قلبها، ويقينها، ورزانة عقلها، وثبات أمرها، فلا جرم أنها كانت أفضل نسائه صلى الله عليه وسلم على الراجح، وهي التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها خديجة) والمقصود بالضمير في نسائها -أي: الدنيا- أي: خير نساء الدنيا خديجة رضي الله تعالى عنها، وجاء في رواية عنه عليه الصلاة والسلام أنه أشار - وكيع - في الرواية إلى السماء والأرض، والمراد: أن يبين أنها خير نساء الدنيا تحت السماء وفوق الأرض من النساء خيرهن خديجة رضي الله تعالى عنها.
وكذلك فإنها كانت في الأرض معه صلى الله عليه وسلم حتى صُعد بروحها إلى السماء.(51/6)
منزلة خديجة ومريم ابنة عمران في الأفضلية
كذلك فإنها قد ساوت مريم بنت عمران لما ذكرهما معاً في هذا الحديث، وإذا كانت مريم خير نساء زمانها، فإن خديجة رضي الله تعالى عنها خير نساء زمانها، وقد جاء في رواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين) وهذا حديث حسن الإسناد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، واستدل به من استدل على أن خديجة أفضل من عائشة، ونسائها يشمل كل امرأة على الأرض ممن كانت موجودة في زمن خديجة وممن ستوجد بعد ذلك.
وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس مرفوعاً: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية) فهؤلاء خير نساء الجنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (سيدة نساء العالمين مريم، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية)، وقيل: إن مريم نبية، وقال بعضهم إنها ليست بنبية، لأنه لا يبعث من الأنبياء إلا رجال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} [يوسف:109].
وهذا الحديث تقول عائشة رضي الله عنها فيه: (ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة) وهذا يدل على أن الغيرة تقع من النساء الفاضلات فضلاً عمن دونهن، وأن عائشة كانت عندها غيرة عظيمة، فكانت تغار من خديجة مع أنها لم تجتمع هي وإياها في مكان واحد، أو تشترك هي وإياها في زوج، ومع ذلك غارت منها لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها، ولذلك قالت في السبب: (من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها) وغيرة المرأة ناشئة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، فإذا تخيلت أن زوجها يحب غيرها أكثر منها فهذا مبعث ومنشأ الغيرة.
ولا شك أن كثرة ذكر الرجل للمرأة يدل على كثرة المحبة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر خديجة لكثرة محبته لها؛ يمدحها ويثني عليها، ويذكر أياديها البيضاء، وسالف أيامه الجميلة مع تلك الزوجة الوفية، تقول عائشة رضي الله عنها: (هلكت قبل أن يتزوجني) مع أنها ماتت قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، ومع ذلك كانت الغيرة موجودة، كيف لو كانت خديجة حية؟ إذاً لكانت الغيرة أشد.
تقول في الحديث: (وأمره الله أن يبشرها) وهذا دال على محبة الله لها، قالت: (وإن كان ليذبح الشاة، ثم يقسمها في خلائلها في أصدقاء خديجة -أي: صويحبات خديجة، يذبح الشاة وفاء لذكرى زوجته- فيرسل قطعة من الشاة لهذه وقطعة لهذه، يرسل إليهن ما يسعهن) أي: ما يكفيهن وما يتسع لهن وما يشبعهن.
تقول عائشة رضي الله عنها: (وتزوجني بعدها بثلاث سنين) أرادت بذلك زمن الدخول، وأما العقد فكان بعد ذلك بسنة ونصف، (وأمره ربه عز وجل أن يبشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب).
تقول عائشة: (وما رأيتها ولم أدركها) كما في راوية لـ مسلم.
أما إدراكها لها فلا نزاع فيه؛ لأن عائشة كان عمرها عند موت خديجة ست سنوات، لكنها لعلها أرادت أنها ما اجتمعت بها عند النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً عليه ما أدركتها في تلك الحال، ولقد ماتت قبل أن يتزوجها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يذكر خديجة رضي الله عنها يكثر من ذكرها، تقول عائشة: (كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة) فكان عليه الصلاة والسلام يرد، ويقول: (إنها كانت وكانت) يذكر صفاتها كانت عاقلة كانت فاضلة كانت وفية، إنها رعتني، إنها دافعت عني، إنها أنفقت علي من مالها، وفي رواية: (آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء).(51/7)
جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة إلا إبراهيم
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وكان لي منها ولد) لأن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة إلا إبراهيم، فإنه كان من جاريته مارية، وأولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة: القاسم وبه يكنى عليه الصلاة والسلام، مات صغيراً قبل البعثة أو بعدها، وكذلك بناته الأربع: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وقيل: إن أم كلثوم كانت أصغر من فاطمة، وعبد الله ولد بعد المبعث، فكان له الطيب أو الطاهر، ويقال: هما أخوان له، فإذاً القاسم وعبد الله، ويقال: إن لقب عبد الله الطاهر أو الطيب، ويقال: هما أخوان مستقلان، وكل الذكور ماتوا صغاراً، فهو عليه الصلاة والسلام له أجر فقد الولد، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن أجر فقد الولد الذي لم يبلغ الحلم (وأنه يأتي إلى باب الجنة يفتحه لأبيه) تقول عائشة رضي الله عنها: (فأغضبته يوماً، فقلت: خديجة! فقال: إني رزقت حبها) وكان حبه صلى الله عليه وسلم لـ خديجة لما تقدم ذكره من الأسباب، وهي كثيرة، كل واحد يكفي ليكون سبباً مستقلاً لوجود المحبة.(51/8)
خصائص خديجة رضي الله عنها(51/9)
لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة أحداً
ومما كافأ به النبي عليه الصلاة والسلام خديجة في الدنيا أنه لم يتزوج في حياته غيرها، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: [لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت] فمن عظم قدرها عنده ومزيد فضلها، لأنها أغنته إلى غيرها؛ ليس بحاجة إلى أن يتزوج امرأة أخرى.(51/10)
مكثت خديجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي الحياة الزوجية
واختصت بقدر لم يشترك فيه غيرها، لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً، انفردت خديجة بخمس وعشرين عاماً منها، أي: ثلثي المدة، ومع طول المدة التي قضاها معها، فصان قلبها من الغيرة ومن نكد الضرائر، لأن الضرة تسمى ضرة لأنها تضر بصاحبتها، وهي: الزوجة الأخرى، وما يكون بينهما من النكد والحسد والتنافس والخصومات ونحو ذلك، فـ خديجة استأثرت بثلثي الحياة الزوجية للنبي عليه الصلاة والسلام، وأغنته عن غيرها من النساء، وواسته بمالها، ودافعت عنه، وكانت هي التي تحميه وتثبته وتصبره، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم ما نسي لها ذلك الفضل، فلم يتزوج عليها في حياتها ألبتة.(51/11)
سبق خديجة نساء الأمة إلى الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام
ومما اختصت به خديجة رضي الله عنها: أنها سبقت نساء الأمة كلها في الإيمان، وهذا يمكن أن يكون من أفضل ما حصل من الخير لهذه المرأة، ولذلك سنت لكل من آمنت بعدها من النساء سنة حسنة، فيكون لها مثل أجورهن؛ لأن من سنَّ سنةً حسنة، كان له أجرها وأجر من استن بها إلى يوم القيامة، وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة للرجال، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب إلا الله عز وجل، لأن الصديق فتح الباب، فسنَّ السنة للرجال، وخديجة فتحت الباب فسنت السنة للنساء، فكل امرأة بعد خديجة تكون مقتدية بـ خديجة، فلـ خديجة مثل أجرها، وكونه عليه الصلاة والسلام عاش معها في هذا الوفاء فإنه يدل على حسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، لأن حسن العهد من الإيمان، كون الإنسان يكون وفياً لصاحبه الذي عاش معه السنوات الطويلة هذا من الإيمان.
وكذلك في هذا الحديث إكرام وإعانة الصديق والصاحب؛ لو مات لك صاحب عزيز، فإكرام أصدقائه من السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ماتت زوجته خديجة، أكرم صويحباتها؛ لأجل خديجة، وكان يهديهن ويذبح لهن الشاة ولا ينساهن.(51/12)
تبشير النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة ببيت من قصب
بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ببيت من قصب، والمراد به: اللؤلؤة المجوفة الواسعة كالقصر المنيف، كأنه قصد قصب اللؤلؤ، وليس من هذا القصب الذي في الدنيا، إنه قصب منظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت، فلماذا اختير لفظ القصب؟ لعله كما قال السهيلي شارح السيرة: أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها، ولذلك قال: بيت من قصب، ثم إن القصب من طبيعته وصفته أنَّ أكثر أنابيبه مستوية، فلـ خديجة من الاستواء ما ليس لغيرها؛ إذ كانت حريصة على إرضائه بكل ما يمكن عليه الصلاة والسلام، ولم يصدر منها قط ما يغضبه كما وقع من غيرها، فغيرها أغضبنه أما هي فلم تغضبه، ولا نقل: أنها في شيء أغضبته صلى الله عليه وسلم، ولذلك أعدَّ الله لها بيتاً من قصب لا نصب فيه ولا صخب مثل ما أنها لم تتعب زوجها أبداً، ولم تكدر خاطره، وما شقت عليه، كذلك كان الجزاء من جنس العمل، فكان بيتها لا نصب فيه، لأنها لم تتعب زوجها.
كذلك البيت الذي لها في الجنة لا نصب فيه، مع أن الجنة كلها ما فيها نصب، لكن بيت خديجة خص بهذا مزيداً من العناية ومزيداً من الراحة في الجنة لهذه المرأة.
ولماذا قال: بيت، ولم يقل: قصب؟(51/13)
خديجة أول ربة بيت في الإسلام
أيضاً من المناسبات أنها كانت أول ربة بيت في الإسلام، لم يكن على وجه الأرض عندما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيت هذه المرأة، وهذه فضيلة لم يشاركها فيها غيرها، وجزاء الفعل يذكر غالبًا من جنسه.(51/14)
أن مرجع أهل البيت إلى خديجة
وكذلك فإن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، أيضاً قال: "في الجنة بيت"، لأن مرجع البيت إلى خديجة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] قالت أم سلمة رضي الله عنها لما نزلت: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين، فجللهم بكساء، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي) مرجع أهل البيت إلى خديجة؛ لأن الحسنين من فاطمة وهي من خديجة، وعلي رضي الله عنه نشأ في بيت خديجة، ثم تزوج ابنتها بعد ذلك، فمرجع أهل البيت النبوي في النهاية إلى خديجة دون غيرها.(51/15)
خديجة لم تزعج زوجها ولم تلجئه إلى صخب وصياح
حيث أن خديجة رضي الله عنها لم تزعج زوجها في شيء، ولم تتعبه بشيء، ولم تحوجه إلى صياح ولا خصام ولا شيء، ولا بينها وبينه أي تكدر في العلاقات، فكان بيتها لا صخب فيه ولا نصب، والصخب هو: الصياح والمنازعة برفع الصوت، فلأنها لم تحوج زوجها إلى صراخ ولا منازعة، ولذلك كوفئت ببيت لا صخب فيه، كما أن بيتها في الدنيا لا صخب فيه، فكذلك بيتها في الآخرة لا صخب فيه، وكما أنها وفرت الراحة للنبي عليه الصلاة والسلام في بيتها في الدنيا، فالله يوفر لها الراحة في الآخرة في هذا البيت العظيم (لا صخب فيه ولا نصب)، لا عيب ولا صياح ولا تعب في هذا البيت، لم تحوجه إلى رفع صوته ولا إلى منازعة ولا إلى تعبٍ، بل على الضد من ذلك؛ أزالت عنه كل نصب وتعب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه، فناسب أن يكون منزلها الذي بشرت به من ربها بهذه الصفة، بل إنها كانت عوناً له على دعوته، وما أحوج نساء الدعاة إلى الاقتداء بسيرة خديجة رضي الله تعالى عنها! هؤلاء نساء الدعاة ليسن كبقية النساء، لأن الداعي إلى الله سبحانه وتعالى من طبيعته الانشغال والكد والتعب في الدعوة، فإذا لم يكن له زوجة موفقة تزيح عنه الهموم والغموم، ولا تكدر خاطره، ولا تجلب له مشكلات، بل إنها تفرج عنه همومه، وتسكن خاطره، وتهدئ من روعه، وتزيل مخاوفه، وتثبت جنانه بكلماتها التي تعلمتها وأخذتها من الكتاب والسنة، لا شك أنها هي الخط الخلفي، وهي عامل النجاح وصمام الأمان في حياة هذا الداعية.(51/16)
أن الله عز وجل أقرأ على خديجة السلام وجبريل
لقد جاءت خديجة بإدام أو طعام أو شراب، جبريل كان عند النبي عليه الصلاة والسلام وخديجة آتية بهذا الإناء، فقال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام، والملك يرى ما لا يرى النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (هذه خديجة قد أتت بإناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، فقالت خديجة جواباً على ذلك لما أخبرها صلى الله عليه وسلم: هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام)، وقد قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، فقالت جواباً: إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله! السلام ورحمة الله وبركاته) ماذا يعني ذلك؟ أي شرف أعظم أن امرأة أو شخصاً يقال له: إن ربك يقرأ عليك السلام! ولذلك لا يوازي فضل هذه المرأة العظيمة من بقية النساء بعدها شيء، فإن السلام حصل من الله ومن جبريل كلاهما لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، كما أن هذا دليل على فقه خديجة، لأنها لم تقل لما قال رسول الله: (إن الله يقرأ عليك السلام) ما قالت: وعليه السلام؛ لأن الله هو السلام، كيف تقول: وعليه السلام وهو السلام؟ ولذلك قالت: (إن الله هو السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته) هذه النقطة فاتت رجالاً حصلت لهم قصة بعد ذلك، كان الصحابة يقولون في التشهد: السلام على الله من عباده، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (إن الله هو السلام قولوا: التحيات لله) فـ خديجة اكتشفت هذا الأمر وفقهته وعرفته منذ سنوات قبل هؤلاء الصحابة، أول ما جاء إليها، قال: (إن الله يقرأ عليك السلام، قالت: إن الله هو السلام) من أسمائه سبحانه: السلام، الذي سلم عباده المتقون من عقوبته.
السلام: السالم من كل نقص وعيب سبحانه وتعالى.
وأي سلامة مصدرها من الله، فلا يقال: السلام على الله، الله هو السلام، فعرفت خديجة بصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين؛ لأن السلام اسم من أسمائه، ثم إذا قلت: السلام عليك أنت تدعو له بالسلامة من كل شر، أو السلام عليك، أي: أن الله فوقك يراقبك، السلام اسم من أسمائه فوقك يراقبك.
وأيضاً: السلام عليك: دعاء للشخص بالسلامة من الشرور والآثام، فلا يقال: السلام على الله، ولذلك ردت بالرد الذي يليق لله عز وجل، وقالت بعد ذلك: (وعلى جبريل السلام، وعليك السلام يا نبي الله ورحمة الله وبركاته).
وهذا فيه أيضاً من الفقه الذي تعلمناه من خديجة: رد السلام على من أرسل السلام وعلى من بلغ السلام، فعندما يأتي شخص يقول لك: فلان يقرأ عليك السلام ورحمة الله وبركاته، ماذا تقول له؟ تقول: وعليك وعليه السلام، فترد السلام على المسلم والمبلغ، والذي يظهر أن جبريل كان حاضراً عند جوابها، فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها كانت لا تراه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغها.
كذلك عائشة حصل لها موقف مشابه أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغها سلام جبريل، لكن خديجة أفضل، لأن خديجة بلغها النبي صلى الله عليه وسلم سلام الله وسلام جبريل، وعائشة بلغت بالسلام من جبريل فقط، ولـ عائشة بطبيعة الحال من الفضائل مالا يحصى، ولكن لعل الذي يترجح -والله أعلم- هو تفضيل خديجة رضي الله تعالى عنها.(51/17)
المفاضلة بين خديجة وفاطمة وعائشة
أما المفاضلة بين خديجة وبين فاطمة رضي الله عنها من جهة، وبين عائشة وفاطمة من جهة أخرى، لأنه لا شك أن من جهة الأزواج فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب خديجة ثم عائشة، وهناك من العلماء من فضل خديجة مع عائشة، وبقية نساء النبي صلى الله عليه وسلم سواء في الفضل.
ومن كرامة خديجة عند زوجها عليه الصلاة والسلام أن هالة بنت خويلد أخت خديجة استأذنت مرة على النبي عليه الصلاة والسلام وهي قادمة إلى المدينة، وكانت من المهاجرات، فجاءت إليه عليه الصلاة والسلام وكان في قيلولة، فلما سمع صوتها وهو في القيلولة، ارتاع -فزع- وقال: (هالة! هالة) وفي رواية قال: (اللهم هالة) اللهم اجعلها هالة، هذه التي أتت لتكن هالة، كان راقداً فاستيقظ مرتاعاً، لماذا؟ لأنه بعد هذه السنين الطويلة تذكَّر فجأة صوت زوجته الأولى، لأن الصوت يشبه الصوت، عرف استئذان خديجة من استئذان هالة، لأنها ذكرته باستئذان خديجة لشبه صوتها بصوت أختها، فتذكر خديجة فارتاع وقام من القيلولة فزعاً متغيراً من السرور الذي حصل له من هذه المفاجأة السارة، ومن أحب شيئاً أحب ما يشبهه وما يتعلق به، وهذه معروفة، وقاعدة في نفوس الناس: أن الذي يحب شيئاً يحب كل شيء يشبهه، بل ربما إذا أحب شخصاً أحب كل من اسمه نفس اسم هذا الشخص، وإذا ذكر اسم شخص مشابه للشخص الذي يحبه، نبض قلبه وتسارعت خفقاته مما سمع، فالنبي عليه الصلاة والسلام من شدة حبه لـ خديجة لما استأذنت هالة عرف صوتها، وارتاع، كل ذلك يوقظ في نفس عائشة الغيرة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (ما تريد من عجوز حمراء الشدقين هلكت في الزمن الغابر) حمراء الشدقين: لعل المقصود بذلك أن المرأة أو الشخص إذا سقط أسنانه من الشيخوخة، فإنه لا يبقى داخل فمه إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها، فتقول: (ما تريد من عجوز حمراء الشقين) وهنا لا بد أن نتذكر أن المرأة أو الزوجة تسامح فيما لا يسامح فيه غيرها من شدة الغيرة، فقالت: (ما تريد من عجوز حمراء) لا زلت تذكر خديجة وهي عجوز حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيراً منها، وإن سلمنا أنها خير منها، ففي حسن الصورة وصغر السن ممكن، ولكن في الفضل لا، بل إنه قد ورد في بعض الطرق أنه عليه الصلاة والسلام رد، فجاء عند أحمد والطبراني، قالت عائشة: (أبدلك الله بكبيرة السن حديثة السن، فغضب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير) غضب عليه الصلاة والسلام من هذا الفعل، والروايات تفسر بعضها بعضاً، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر بي الناس) ولكن هذا يدل على أن الغيرة تسامح فيها الزوجة ولا تعاقب لما جبلت عليه النساء، ولذلك لم يعاقب عليه الصلاة والسلام عائشة على هذا الكلام، ولعلها كانت في صغر سنها وأول شبيبتها، فصفح عنها عليه الصلاة والسلام، وكان يدللها كثيراً، وحملتها الغيرة على ذلك، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم تجاوز عنها.
هذا طرف من سيرة هذه المرأة رضي الله عنها، ولكن أعظم ما فيها الشيء الذي نتذكره كثيراً الفائدة التي حصلت للإسلام من وراء خديجة: نصرة الدين، أي: أهم شيء فعلته خديجة رضي الله عنها نصرة الدين، وعندما يكون الدين في أوله، ويكون المسلمون في خطر عظيم، هم قلة وحولهم أوباش قريش ومن يترصد للمسلمين في أول الأمر، والخشية على الإسلام، يكون الأمر شديداً جداً، فتكون التضحية في هذه المدة بالنفس والمال وتقديم النصرة لله ورسوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] كيف إذا كان في أول نزول الوحي؟! وكيف إذا كانت المسألة لما ساموه عليه الصلاة والسلام سوء العذاب وضيقوا عليه؟! وواسته خديجة وما كان معه شيء واسته خديجة وكانت امرأة غنية فأنفقت مالها عليه وعلى الدعوة وعلى أصحابه أول بيت في الإسلام.
إذاً: أعظم مآثر هذه المرأة حقيقة: نصرتها لدين الله من ذلك القلب المعمور بالإيمان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرضى عنها، وأن يجزل مثوبتها، وأن يرفع درجتها، وأن يجعلنا ممن يقتفي أثر هذه السيدة الكريمة رضي الله تعالى عنها، وأن يجعل نساءنا ممن يسرن على خطاها، غفر الله لها ورحمها، وصلى الله على نبينا محمد.(51/18)
الأسئلة(51/19)
معنى قول العلماء: بالاتفاق
السؤال
ما معنى قول الفقهاء: بالاتفاق؟
الجواب
معناه: أن أكثر العلماء على ذلك، حتى أن بعض المصنفين يقول: اتفقوا، ويقصد ثلاثة من الأئمة الأربعة، أما الإجماع: فكل من يعتد به من أهل العلم أجمعوا على كلام واحد لم يخالف أحد منهم.(51/20)
أم زوجة الأب ليست بمحرم
السؤال
هل يجوز لإنسان أن يتزوج امرأة وابنه يتزوج أمها؟
الجواب
نعم يجوز للإنسان أن يتزوج امرأة وابنه يتزوج بأمها، لأنها ليست من محارمه.(51/21)
حكم من جاوز الميقات بدون إحرام
السؤال
سافرت إلى جدة وكنت أنوي أداء العمرة قبل سفري، فلما وصلت إلى جدة قضيت فيها أسبوعاً ثم أحرمت منها؟
الجواب
كيف تحرم من جدة وأنت نويت العمرة قبل مجاوزة الميقات؟ إذاً يجب عليك ذبح دم يوزع على فقراء الحرم.(51/22)
كيفية زكاة الذهب
السؤال
لدى زوجتي ذهب، بعضه اشتريناه قبل سنة، وبعضه اشتريناه قبل ستة أشهر؟
الجواب
تزكي عما مضى عليه سنة، والباقي تزكي عنه بعد ستة أشهر إذا بلغ النصاب، حيث يكون قد مضى عليه سنة.(51/23)
عدة المطلقة وأنواعها
السؤال
ما هي عدة المطلقة؟
الجواب
المطلقة أنواع: إذا كانت حاملاً فعدتها وضع الحمل.
وإذا كانت تحيض فعدتها ثلاث حيضات.
وإذا كانت يائسة كبيرة، أو صغيرة لم تبلغ سن الحيض فعدتها ثلاثة أشهر.
هذه عدة المطلقة، وهذا بعد الدخول.
أما قبل الدخول؛ أي: عقد على امرأة فطلقها قبل الدخول فلا عدة لها، لقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49].(51/24)
مكالمة الزوجة المطلقة بالهاتف
السؤال
هل يجوز مكالمة الزوجة المطلقة بالهاتف؟
الجواب
إذا دخل بالمرأة وطلقها، فالعدة تكون في بيته: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] فهي لا تزال في عصمته، وهذه تعتبر فترة مراجعة نفس، وتمكين للزوج من مراجعة الزوجة، ويعيد النظر في القرار، وهذا في الطلاق الرجعي، أما الطلاق البائن فتذهب من عنده.
فالمطلقة طلاقاً غير بائن تكون عنده في بيته، وهي زوجته؛ فيجب عليها أن تستأذن منه إذا أرادت الخروج، ويستطيع أن يخلو بها ويكشف عليها فهي ما زالت زوجته، لكنها دخلت في عدة الطلاق.(51/25)
حكم أداء العمرة عن الغير
السؤال
بعض الناس إذا ذهب للعمرة يأخذ عمرة ثانية عن أبيه؟
الجواب
السنة عمرة واحدة في السفرة الواحدة.(51/26)
علامات رؤية ليلة القدر
السؤال
علامات رؤية ليلة القدر؟
الجواب
ليلة القدر ليلة طلقة بلجة، -أي: منيرة- لا حارة ولا باردة، ولا يرمى فيها بنجم، وتكون الشمس صافية، وتطلع الشمس صبيحتها لا شعاع لها مثل الطست، ليس لها شعاع يبهر العيون، مستديرة صافية حمراء ضعيفة أي: لا شعاع لها، لكن هذه العلامات تكون في صبيحتها وتعرف بعد انقضائها.
وعلى أية حال، إجهاد النفس في العبادة أولى من إجهادها في معرفة هل هذه الليلة ليلة القدر، وهل هي صافية فيها غيم، أو ليس فيها غيم هل هي باردة أم حارة أم معتدلة؟ هل هي منيرة أو غير منيرة؟ هل فيها نور أم لا؟ ليس هذا هو المقصد الأساسي، بل إنها أخفيت حتى يجتهد العباد في العبادة.(51/27)
وجود الجنة والنار
السؤال
هل الجنة والنار موجودتان الآن؟
الجواب
نعم.
لا شك في ذلك، فإن الله خلق الجنة والنار، وقال لجبريل: اذهب وانظر إليهما، فذهب ونظر إليهما، فحفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره، فهي قطعاً موجودة، والنبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الكسوف تقدم ليأخذ قطفاً من عنب عرض له، وتأخر -أيضاً- لأنه خشي من لهب النار، فالجنة والنار موجودتان الآن، فـ المعتزلة والمبتدعة والضالون يقولون: إنهما غير موجودتان وغير مخلوقتان الآن، وهذا من ضلالهم وإفكهم.
ومن الأدلة على أنهما موجودتان: أن الإنسان عندما يموت إذا كان من أهل الجنة تفتح له طاقة إلى الجنة ويأتيه من ريحها وريحانها ويرى مقعده وزوجاته وقصره من هذه النافذة، وأما الذي في النار، فتفتح له طاقة إلى النار، فيأتيه من سمومها وحميمها.
وقال عز وجل لما قبض آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] وهم في البرزخ يعرضون على النار غدواً وعشياً.
إذاً: لا شك في وجودهما -الآن- قطعاً.(51/28)
القزع كيفيته وحرمته
السؤال
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلق القزع، ما هي كيفيته؟
الجواب
القزع: هو حلق بعض الرأس من أي جانب، فإذا حلق من الخلف، أو من اليمين، أو من الشمال، أو من الوسط، أو من المقدمة، فإنه يكون قزعاً منهياً عنه، فيدخل في التشبه بالكفار تخفيفه جداً من الجوانب وترك الوسط كالطاقية مثلما يفعل بعض المقلدين للكفرة، والآن الابتداعات والبدع في الشعر كثيرة جداً، ولذلك ينبغي التنبيه على أحكام الشعر، لأن كثيراً من الناس يقعون في مشابهة الكفار ويقعون في أشياء محظورة، فالشعر أصبح مجالاً للمحرمات، فمثلاً: بعض النساء تقصره جداً حتى يكون مثل الرجل وهذا حرام، وبعضهن تصبغ كل خصلة بلون؛ مشابهة لبعض فرق الخنافس والبنكس، وكذلك من العبث به حلق بعضه وترك بعضه، أو تقصير بعضه من الجوانب وتوفيره في الوسط، كذلك مشطة المائلات المميلات للنساء، المشطة المائلة التي هي من منكرات الكوافير في الشعر.
كذلك بعضهم عندهم الآن رسم على الرأس، فيحلقون القفا ويرسمون عليه وجهاً لا تميز وجهه من قفاه، واخترع الكفرة أشياء وقلدهم كثير من المسلمين في هذا الأمر، فالمهم أن الشعر مجال واسع في التلاعب بالخلقة، وتغيير خلق الله؛ مشابهة للكفار، وارتكاباً للمحذورات، وبعض النساء يحلقن الشعر بالكلية حلاقة، وحلاقة المرأة لشعرها حرام، اللهم إلا إذا كان لعلاج أو شيء اضطراري، فالمهم أنه ينبغي معرفة أحكام الشعر في الشريعة حتى لا يقع الإنسان في المحظورات.(51/29)
معنى: لا يفد إليّ لمحروم
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول: إن عبداً أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) ما المراد بقوله: لا يفد إلي لمحروم؟
الجواب
أي: في الحج لا يأتي البيت العتيق، والحديث حسن أو صحيح.(51/30)
حكم من طاف للقدوم بدون وضوء ولم يذكر إلا بعد الحج
السؤال
ذهبت إلى مكة لأداء مناسك الحج، ودخلت في النسك بنية التمتع بعد الانتهاء من طواف القدوم، ثم تذكرت أني لم أكن على طهارة، وأنهيت جميع المناسك؟
الجواب
إذا كان المقصود من أنه أنهى جميع المناسك، يعني: ذهب إلى عرفة ومزدلفة ومنى ورمى الجمرات، فهذا يكون حجه قد انقلب من تمتع إلى قران، لأن طواف العمرة قد فسد، إذاً ماذا فعل هذا عندما أحرم بالحج في اليوم الثامن؟ أدخل العمرة على الحج وصار قارناً، لكن لو كان ذكر ذلك أنه على غير وضوء بعدما سعى، أو قبل أن يسعى فماذا يفعل؟ يعيد طواف القدوم.(51/31)
نصيحة مقدمة للزوجات الضرائر
السؤال
يقول: في تناولك لموضوع الضرة حيث أن زوجتي معي، فهل من كلمة عن صبر المرأة على الضرة ولو من كلمات قليلة جداً حتى لا يحدث هذه الليلة طرد من المنزل، والله أعلم أين أنام؟
الجواب
على أية حال: هو لم يقل: لا تقرأ الرسالة، فلعل قراءتها لوحدها موعظة، إن كان يمزح، فالحمد لله، وإن كان جاداً فهذه المصيبة، أن الرجل يخشى ما سيحدث له، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) إذا كان الذي لا يأمن جاره يبقى في خوف، الليلة لا يدري ماذا يحدث له من جاره يا ترى! أي مصيبة ستنزل علي من جاري؟ فإذا كان الزوج لا يأمن على نفسه هذه الليلة ماذا سيحدث له من زوجته وأي مصيبة ستفعلها له، فهذه من الطوام! والحديث السابق دلَّ على غيرة عائشة رضي الله عنها، وكيف تحمل النبي صلى الله عليه وسلم غيرتها، وأنه لما غضب لم يخرج من عند عائشة إلا وقد تعهدت بعدم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: [لا أذكرها إلا بخير] وأن عائشة رضي الله عنها كل الذي حصل منها كلام في قضية ما تذكر من خديجة، أما التمرد على الزوج فهذا شيء خطير، الآن بعض النساء تقول: هذه عائشة ونحن نفعل أكثر، نقول: لا.
أولاً: عائشة إذا كان الذي صدر كلام، فبعض الزوجات تمتنع من الخدمة، ومن المبيت مع الزوج، ولا تطبخ طعامه، ولا تكوي ثيابه ولا تغسله، ولا تنظف بيته، وهذا تمرداً ونشوز.
ثانياً: عند عائشة من الفضائل ما يغطي على كل ما فعلت، فماذا عند النساء هؤلاء من الفضائل حتى يغطين كل ما يفعلن؟ فلا تقول هي: إذا فعلت عائشة كذا نحن نفعل أكثر، لا، لأن عائشة عندها من الفضائل ما إذا انغمرت فيها هذه الكلمات ذهبت، لكن ماذا عند المرأة من الفضائل حتى تغمر إيذاءها لزوجها فيه، يعني: هذا كلامنا كله في خديجة، وكيف أنها هيأت لزوجها السكن المريح والجو الهادئ وخدمته ونحو ذلك، هذا الذي ينبغي أن تقوم به المرأة تجاه زوجها، ونحن بلينا بالأفلام والمسلسلات التي تصور أن الشقاء لازم لكل من تزوج اثنتين، وأنه لابد أن تحدث كوارث، ولابد أن ينتهي بطلاق إحداهما، وأنه إذا انكشف أنه تزوج الثانية معناه أنه سوف يحصل شر عظيم ونحو ذلك، كل هذا جاء من أعداء الإسلام لأجل أن يقع الناس في الحرام ولا يتزوجوا الزوجة الثانية والثالثة، وتكون هناك عوائق كبيرة جداً أمام من يريد أن يعف نفسه، فهذا الكلام هذا طويل في موضوع تعدد الزوجات، وليس الآن مجال الطرح، ولكن نوصي الزوج إذا أراد التعدد فعليه بالعدل، ويجب على الزوجات أن يتقين الله في الزوج، والعدل أساس كل شيء بالتجربة، كل المجربين يقولون: إن المرتاح هو الذي يعدل، لأنه إذا عدل، لم يبق لامرأة أي كلام عليه.(51/32)
حكم لبس القفازين في الصلاة
السؤال
ما حكم من تصلي وهي لابسة القفازين؟
الجواب
جائز، ولكن تركه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب لنا مباشرة الأرض، فتخلع القفازين وتصلي، إلا إذا كان هناك رجال أجانب مثلاً فلا تخلعها.(51/33)
وجوب الإحرام من الميقات
السؤال
شخص يريد أن يذهب إلى أهله في الإجازة إلى مكة والمدينة وعنده نية أن يعتمر فماذا يفعل؟
الجواب
إذا مر بالميقات أحرم ما دام عنده نية.(51/34)
سجود السهو بعد السلام للزيادة في الصلاة
السؤال
إمام أراد أن يقوم في صلاة المغرب من الرابعة ظناً منه أنها الثالثة، ثم تيقن أنها الرابعة، فرجع؟
الجواب
إذا كان قد قام، فإنه يسجد للسهو بعد السلام.(51/35)
الهدية بمقابل تعتبر رشوة
السؤال
ما الحكم في أحد أعطى موظفاً هدية نظير خدمة أسداها له؟
الجواب
لا يجوز إعطاء الموظف هدية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول) إذاً لا يجوز أن يعطيه، وهذه تعتبر رشوة.(51/36)
بقاء المرأة مع زوجها في الجنة
السؤال
هل المرأة تبقى مع زوجها في الجنة أم تستطيع أن تختار من تشاء من أهل الدنيا؟
الجواب
قال عليه الصلاة والسلام: (المرأة لآخر أزواجها) فإذا كانت هي وإياه من المؤمنين، فإنها ستتغير وهو سيتغير قلباً وقالباً، ولذلك لن يكون شعورها نحوه في الجنة مثل شعورها الآن، فإنه يختلف تماماً.(51/37)
حكم من حلف أكثر من مرة
السؤال
من حلف اليمين أكثر من مرة لا يتذكر عددها فكيف يخرج الكفارة؟
الجواب
يقدرها تقديراً بما يغلب على ظنه، ويخرج الكفارة.(51/38)
بيان النقاب الشرعي ووجوبه
السؤال
ماذا أفعل في النقاب الشرعي لزوجتي؟
الجواب
إذا كنت تقصد أنها تلبس نقاباً واسعاً فيه فتحتين، فهذا يعني: أنك تحتاج إلى إصلاح وضع النقاب بأن تكن فيه فتحة صغيرة على قدر العين أو لا تكن فيه فتحة إذا كانت تحسن الرؤية من وراء الغطاء، وأما إن كانت لا تضع شيئاً على وجهها أصلاً، فعند ذلك لا بد أن تستر الوجه الذي فيه معالم الجمال عند المرأة.
فينبغي إذاً التركيز على قضية تبيان الحجاب ووجوب ستر المرأة وجهها، وهذا قد ذكر العلماء فيه رسائل، مثل: رسالة الحجاب للشيخ/ محمد بن صالح العثيمين وهي رسالة جيدة فيها ردود على الشبهات، فلعلها تكون محل إقناع أو حجة.(51/39)
مصيبتنا سمعنا وعصينا
أفرد الله المنافقين بآيات كثيرة، بل سمى سورة باسمهم؛ وما ذاك إلا لعظم خطرهم على المجتمع؛ ولكي يفضحهم أمام الملأ.
وقد بين سبحانه أن من أبرز علاماتهم مبدأ: (سمعنا وعصينا) الذي قد ينزلق الكثير فيه وهم لا يشعرون، وذلك من خلال شبهات يردون بها حكم الله وحكم رسوله، وقد ذكر الشيخ بعض ذلك في هذه الخطبة.(52/1)
أظهر علامات النفاق
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فيا عباد الله! لقد أُفرد ذكر المنافقين في القرآن الكريم في آيات كثيرة تنبيهاً من الله تعالى على خطرهم، وعلى سوء مبدئهم وعملهم، كما جاء ذلك في مطلع سورة البقرة في آيات فاقت في عددها ذكر المتقين والكافرين، وذلك لخفاء أمر المنافقين، وأيضاً في سور النساء، والتوبة، والنور، والأحزاب، وسورة محمد صلى الله عليه وسلم، كما أُفردت سورة لهم سميت بسورة المنافقين؛ لأجل بيان حال هؤلاء.
وخطر النفاق عظيم، ويكفي أن المنافق في الدرك الأسفل من النار تحت الكافر الصريح.
عباد الله! لقد امتاز المنافقون بعلامات وسمات كانت لهم، ومن ذلك سمتان فظيعتان: الأولى: الإعراض عن الحكم الشرعي، وعدم تحكيمه وقبوله والصد عنه.
الثانية: العصيان والامتناع عن التنفيذ، والتلكؤ والتباطؤ في العمل بحكم الله ورسوله، وعدم التسليم له والقناعة به، ومن جهة أخرى مبدأ: (سمعنا وعصينا).
فهاتان الصفتان الفظيعتان للمنافقين كانتا من أعظم أسباب الخطر.(52/2)
عدم التسليم لحكم الله
المسألة الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60 - 61].
فإذاً: لا يوجد إقرار بحكم الله ورسوله، ولا قناعة به، ولا تسليم له، بل يوجد صد وإعراض عنه، وتحاكم إلى غير شرع الله ورسوله، ولذلك قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: من الخصومات {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] فليس فقط أن يحكموك في ما شجر، وإنما أيضاً لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضيته، وليس هذا فقط بل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] منقادين مذعنين طائعين، مذللين أنفسهم وقلوبهم لحكم الله ورسوله.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48 - 49] إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم تولوا وأعرضوا؛ لأنهم لا يسلِِّّمون بحكم الله ورسوله، لكن إذا كان الحكم لهم في الخصومة وكان الشرع سيحكم لهم، قالوا: لا نريد إلا الشريعة، ثم جاءوا منقادين لأن الحق لهم، ولأنه وافق هواهم، ولأنه في مصلحتهم: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:49 - 50] أي: فيظلمهم ويجور عليهم: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50].
فإذاً: لقد ناقض المنافقون قاعدة الإسلام العظيمة في التسليم لله ورسوله بالحكم، وعدم الاعتراض عليه بعدم قناعتهم به، بل واستبدلوا الشريعة بقوانين الكفر واللجوء إلى الكافر واليهودي والكاهن للحكم بينهم.
والمسألة الثانية أيها الإخوة: (مبدأ سمعنا وعصينا) عدم التنفيذ وعدم العمل، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء:81] يظهرون الطاعة، وأبطنوا المخالفة والمعصية: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] أي: في الجهاد، ويطيعوا أمرك وينفذوا: {قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] فقد جربناكم من قبل، وبلوناكم وعرفنا أمركم من التجارب السابقة: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] طاعة معروفة في الظاهر أما في الباطن فلا.
ولذلك لما وقعت غزوة تبوك تخلفوا وما خرجوا، فقال الله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} [التوبة:42] أي: غنيمة سهلة {وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة:42] أي: قريباً ليس ببعيد {لَاتَّبَعُوكَ} [التوبة:42] لكن عصوا.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] لقد برروا عدم خروجهم واعتذروا عن الخروج بالأعذار السخيفة، وقال قائلهم: إني أخاف على نفسي من نساء بني الأصفر (الروم): {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] أي: سقطوا في الفتنة بعدم خروجهم وتنفيذهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].(52/3)
ذرائع المخالفين لحكم الله
عباد الله! إذا نقلنا المسألة إلى واقعنا، ووقفنا مع أنفسنا وقفة صريحة وصادقة للنناقش: هل نحن ننفذ حكم الله ورسوله فينا أم لا، فماذا سنجد؟ نحن نتعلم أشياء كثيرة: فنسمع في الخطب والأشرطة، ونقرأ في الكتب، ونُوعَظ في المجالس، ونسمع كلاماًَ كثيراً عن الأحكام الشرعية وعن الحلال والحرام، فما هو الموقف إزاء ذلك؟ وهل ننفذ ونسمع ونطيع، أم أننا نسمع ولا نطيع؟ وما هي أسباب عدم التنفيذ؟(52/4)
التذرع بالجهل وعدم العلم
قد يقول قائل: إننا لا نعلم، لكن بعد انتشار شيء من التوعية يصعب أن نصدق أن واحداً من هؤلاء لا يعلم، أي: أو ليست لديه أية فكرة عن الحلال والحرام، إنهم من خلال الخطب والدروس وما سمعوه ووعظوا به ونصحوا يعلمون، والأشياء التي لا يعلمون بها إما أنهم معذورون بالجهل فيها، أو أنهم على معصية بعدم تعلمها لإمكانهم تعلمها، فندع هذه المسألة جانباً ولنأخذ ما نعلمه وما اطلعنا على حكمه، وما تبين لنا ونُصحنا به.
المعلومات كثرت، لكن أين التطبيق وأين التنفيذ؟ مما يفاجئك به بعض الناس في هذه المسألة أن يقول لك: ليس عندي قناعة بالحكم.
فمثل هذا الكلام كيف يزول؟ إنه يزول ببيان الدليل والحكم الشرعي، فإذا بينت المسألة، وقامت الحجة، وذكر الدليل، وسوق كلام أهل العلم، وأورد شبهة ورددت على شبهته؛ فعند ذلك إذا قال لك: غير مقتنعٍ، فإن كلامه بعدم القناعة نفاق واضح لا لبس فيه؛ لأنه يكون حينئذٍ عدم تسليمٍ بحكم الله ورسوله، أوردت له الحكم، وبينته له، وأعطيته كتاباً حول الموضوع، وشرحاً وافياً، وجواباً عن شبهة، ماذا بقي؟ بقيت قضية واحدة لا غير، ليس هناك إلا شيء واحد: نفاق عدم تسليم بالحكم الشرعي مشاغبة على الحكم الشرعي.
وهذه مسألة يجب أن يصارح فيها الشخص نفسه إذا وقع فيها، إذا تبين له الحكم بالدليل وكلام أهل العلم ثم لم يقتنع؛ فإنه لا يكون إلا منافقاً، وليس هناك احتمال ثانٍ ألبتة، ليس إلا النفاق: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أي: أنه لو أقره ولكن على مضض وعن كره للحكم فهو منافق، فكيف إذا ما أقر بذلك؟(52/5)
التذرع بعدم وجود البديل المباح
وقد يتذرع بعض الناس في تلكئهم بعدم تنفيذ الحكم بعدم وجود البديل، ويقولون: هات البديل؟ والحمد لله أن الله عز وجل ما حرم شيئاً إلا وجعل من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه، فعندما حرمت الشريعة الخمر أباحت من المشروبات ما لا عد له ولا حصر، وعندما حرمت لبس الحرير على الرجال ولبس الذهب، أباحت لهم من الملابس ما لا حصر له ولا عد، وأباحت خاتم الفضة للرجل مقابل خاتم الذهب المحرم؛ لأن الشارع يعلم حاجة الناس إلى التزين، وعندما حرمت الشريعة الربا أباحت البيوع بأنواعها مما لا حصر له ولا عد من وجوه المكاسب المختلفة، فبدل أن تكسب من الربا جعل لك البيع بأنواعه: المعجل والمؤجل بشروطه، وبيع السلم بشروطه، والمعاوضة، والمعاطاة، والمزاد، والأمانة، ثم من المكاسب: الإجارة، والجعالة، والوكالة بالمقابل وغير ذلك مما تأخذ عليه أجراً.
فلما حرمت الشريعة وحرمت وحرمت؛ جعلت هناك من الحلال من جنسه ما هو أكثر منه ويفوقه.
ثم إن البدائل عن سائر الأشياء قد تتوفر في الواقع، وقد لا تتوفر من تقصير المسلمين وليس من قصور الشريعة، وفي مسألة البديل يشاغب بعض الناس فيقولون في مسألة الموسيقى والألحان مثلاً: ما هو البديل؟ فإذا قلنا: بديل سماع الألحان هو سماع القرآن، فيقول: لا.
سماع القرآن ثقيل على النفس، أما سماع الألحان خفيف ولذيذ ومطرب، فليس هذا من هذا، فنقول: ما هو إلا الهوى والله، وإلا فقل أيضاً: إن الزنا له لذة، وعندما يزني بعشرات النسوة ليس كهذه الزوجة التي قد صارت مملةً.
فنقول: قد لبت الشريعة ذلك بالتعدد والتسري وملك اليمين، وكون الحرام له لذة من تزيين إبليس لا يعني أن الزواج ليس بديلاً؛ لكن يعني أن الفطرة قد أصبحت منتكسة، فالبديل الذي يلبي حاجة النفس موجود في الشريعة، لكن البديل الذي يلبي هوى النفس دائماً هذا الذي يريده هؤلاء العصاة.
فنقول: هذا البديل موجود في الجنة، سماع غناء الحور العين، سماع غناء النساء في الجنة، ولبس الحرير والذهب لك في الجنة، فإن العوض سيأتي بعد قليل، اصبر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وعندما يقول بعض الناس: نريد أن نُؤَمِّن؛ لأن التأمين قد صار حاجة، والحوادث قد كثرت، فنحن مضطرون للتأمين ولا يوجد له بديل.
نقول: إن التأمين التعاوني هو البديل، وهو أن يدفع هؤلاء المشتركون مبالغ توضع في صندوق يستثمر أو لا يستثمر، ويتراضون بينهم على أن يعوض من أصيب من هذا الصندوق التعاوني، ولا يكون هذا المال في الصندوق ملكاً لشركة أو لطرف ثالثٍ يأخذه لنفسه ثم يعطيك إذا حصل لك، ويضيع مالك إذا لم يحصل لك كما هو التأمين المحرم، وهذا هو الميسر والقمار بعينه.
فإذا وجد التأمين التعاوني بتعاون المسلمين فالحمد لله، وإذا لم يوجد البديل بسبب تقصير المسلمين فما هو الحل وما هو المخرج؟
الجواب
لا بد من الصبر حينئذٍ على هذا البلاء، ووفر نقودك واشتراكاتك في شركة التأمين حتى إذا حصل لك شيء تأخذ من الرصيد، وربما تكتشف أنك كنت على ربح عظيم، فإذا لم يوجد بديل من جراء تقصير المسلمين، فلا بد أن نصبر ولا نقول: نحن مضطرون لارتكاب الحرام.
إن الاضطرار موضعه عندما يكره الشخص على الشيء، ولا بد له منه ولا مخرج له إلا به، ولا مندوحة عنه لديه، ولا يستطيع أن يترك القضية ولا أن يتلافاها، ويجبر عليها من الخارج، فهذه المسألة مسألة اضطرار، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عليها، كما لو كان في بلد يمنع من القيادة فيه إلا بالتأمين ويكره على ذلك، فهذه مسألة اضطرار، أما أن يختار التأمين اختياراً فليس باضطرار، ولابد أن يصبر ويؤمن بقضاء الله وقدره، ويتوكل على الله عز وجل، وإذا حصل شيء كان الرضا بالمكتوب هو المفروض أن يقع، أما أن يقال: نحتاط بالتأمين المحرم، فلا وألف لا أيها الإخوة، إن وجد الحلال أخذنا به والحمد لله، وإن لم يوجد صبرنا.(52/6)
التذرع بالمشقة والتعب
بعض الناس يقولون في سبب عدم التنفيذ: إن الحكم فيه مشقة وتعب، سواء كان فعل واجب أو ترك محرم.
وهل يظن هذا أن الجنة رخيصة، وأن طريقها مفروش ومعبد وميسور لا مشقة فيه ولا عوائق؟ إذاَ: ً كيف ستحصل المجاهدة، والجهاد إنما هو جهاد النفس أولاً؟ كيف سيحصل جهاد النفس المؤدي إلى الجنة والذي يتفاوت الناس فيه، فيتفاوتون في مراتب الجنة؟ كيف سيحصل الجهاد إذا لم توجد مشقات في الأحكام؟ كيف ستحصل المجاهدة إذا لم توجد مشقة في صلاة الفجر تُبيِّن الطائع من العاصي، والمجاهد من غير المجاهد؟ أليست هي حجة المنافقين بعينها: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً} [التوبة:42] لو كانت القضية مريحة، وغنيمة سهلة، وسفراً قصيراً {لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42] المسافة من المدينة إلى تبوك طويلة، والعدو الروم وليست قبيلة من قبائل العرب؛ ولكن الروم! {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42] ولذلك تخلفوا عن الذهاب لأجل المشقة، وكانت غزوة تبوك في حر شديد لذا تناصحوا بقولهم: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] فبماذا أجابهم الله؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
إذاً: لابد أن يكون في التكاليف مشقة، ولكن من رحمة الله أنه جعل المشقة محتملة في التكاليف، فلا تقول: أنا لا أستطيع أن أقوم لصلاة الفجر، لا.
بل تستطيع، فأنت عندما لا تستطيع تنفيذ الحكم يسقطه عنك الشارع ولا يطالبك به، ولا يقول للمريض الذي لا يستطيع القيام: صلِّ قائماً، وإنما يقول له: فإن لم تستطع فصل قاعداً، هذه شريعة من الله وليست دساتير وضعية من البشر.
وبعض الناس يتعللون بعدم تنفيذ الأحكام الشرعية بأن الجو الاجتماعي والوظيفي المحيط بالشخص لا يساعد، وهذه حجة سخيفة؛ لأن معنى ذلك: أنه يُقَدم الناس على الله، وأنه يطيع الناس ويعصي الله، وأنه يرضي الناس بسخط الله، هذا معنى كلمة: الجو الاجتماعي المحيط لا يساعد على ترك هذا المنكر، والناس من حولي لا يعينونني على أداء الواجب، هذا معناه: أنه أرضى الناس بسخط الله، هذا معناه نوع من النفاق، وضعف في الإيمان، وتخاذل ومحبة للناس فوق محبة الله.(52/7)
التذرع بالصعوبات والمشكلات
وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى هي: أن بعض الناس مستعد لتنفيذ الأحكام الشرعية ما دام لا يتعرض للمشكلات، فإذا تعرض للصعوبات والمشكلات امتنع عن التنفيذ؛ لأنه غير مستعد للتضحية في سبيل الله، وغير مستعد أن يواجه صعوبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: حافة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] قال: هذه شريعة حسنة وهذا دين عظيم، وهذه أحكام بليغة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] ماذا يفعل إن أصابته مصيبة وشدة؟ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} [الحج:11] ارتد وانتكس وتولى وأعرض، ولم ينفذ الحكم، وعصى الله ورسوله: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
ومما يتعلق بهذا السبب أيضاً: خوف الاضطهاد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وهذه الآية العظيمة تبين لنا مبدأً عظيماً، وهو: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] ما مسه في الدنيا من سخرية، أو كلمات جارحة، أو شيء من المقاطعة أو الهجر، جعلها كعذاب الله في الآخرة، ورضخ، وأعطاهم ما يريدون، ووافقهم على معصيتهم، أما الاضطهاد الذي يكره الإنسان فإن الله لا يؤاخذ على ترك الحكم فيمن هذا حاله.
وهذا الذي حصل للمسلمين بـ مكة، كان الرجل يضرب حتى لا يستطيع أن يستوي قاعداً من شدة ألم الضرب، ولا بد أن يستلقي طيلة الوقت، حتى يقولوا له: هذا الجعل إلهك، وهذا الخنفس إلهك فيقول: نعم! من شدة الضر الذي نزل به، لكن هؤلاء أكرهوا وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولذلك عذرهم الله تعالى واستثناهم، وقال في شأنهم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] ولكن المصيبة: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] أي: قَبِل الكفر ورضي به، فعندما تصل المسألة إلى أذىً لا يطيقه البشر، ولا يطيقه الشخص كالضرب الشديد، والسجن الطويل، والتعذيب المؤلم، عند ذلك إذا ترك الحكم في الظاهر وقلبه مطمئن بالإيمان فعند ذلك لا حرج عليه لو تكلم بما يريدون، أما أن يترك الإنسان حكماً شرعياً لكلمة أو سخرية أو استهزاء فهذه سخافة؛ لأن هذا طريق الأنبياء، وبماذا كان الأنبياء يقابلون الاستهزاء والسخرية؟ إذاً لا يجوز مطلقاً أن نترك الأحكام لمثل هذه الأسباب الواهية التي يضخمها الشيطان ليقنعنا بأننا معذورون في ترك الحكم الشرعي.
ونحن في زمن فتنة، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، اللهم ارزقنا اليقين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم لا تؤاخذنا بما فعلنا واغفر لنا أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(52/8)
التذرع بضغط الزوجة والأولاد
الحمد لله رب العالمين؛ ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من اتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: ومما يتعلل به كثير من الناس في مسألة عدم تنفيذ الأحكام الشرعية، وبالذات في قضية إخراج المنكرات من البيوت: عدم الصبر على ضغط الزوجة والأولاد.
فهم يتذرعون في عدم إخراج آلات اللهو، وصحون الاستقبال التي تسمم البيت، وتدخل الدياثة فيها؛ بأنهم لا يقوون على احتمال ضغط الزوجة والأولاد، وهذه ذريعة سخيفة أيضاً.
وقدر يا عبد الله! ماذا ستجيب الله يوم القيامة عندما يسألك عما استرعاك، وعن هذا المنكر الذي أدخلته بيتك، فهل ستقول له يوم القيامة: ضغط الزوجة والأولاد؟ وهل يقبل الله مثل هذا العذر؟ ألم يقل لك في كتابه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] هل قال لك: طاوعوهم؟ هل قال: وافقوهم؟ هل قال: أعطوهم مطلبهم؟ هل قال: أعطوهم ما يشتهون، وأدخلوا لهم ما يريدون أم قال: فاحذروهم؟ هذا هو الوقت الذي يجب عليك أن تطبق فيه قول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] الناس هم شعلة النار، هم حطبها، هم وقودها وجمرها: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم:6] {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
هذه حيلة، وهذا عذر غير مقبول، والواجب الآن دعوة الزوجة والأولاد وتربيتهم والاهتمام بهم؛ فإذا وجدت مجالات مباحة للترفيه -وهذه عبارة صارت في عصرنا خطيرة جداً، ولها أبعاد كثيرة (صناعة الترفيه في العالم) - وألعاب وتسليات مباحة فعند ذلك يكون البديل لهذه الأشياء المحرمة، وهناك أشياء كثيرة مباحة والحمد لله.(52/9)
التذرع باختلاف المفتين
وبعض الناس يعتذرون عن عدم الالتزام بالحكم الشرعي بتضارب الفتاوى واختلاف المفتين، ويقولون: لكن فلاناً يقول: هي حلال، لقد احترنا، نسمع من هنا أنه حرام، ومن هنا أنه حلال، ونحن في سعة ما دام هناك من يقول بالإباحة.
نعم.
إذا كان إبليس يقول بالإباحة؛ فهناك دائماً من يقول بالإباحة في أي محرم، وهناك من هو متساهل ومفرط، وهناك من يفتي بشبهة في الفتوى، يقول: نوسع على الناس ليدخلوا في الدين، وما هو إلا إدخالهم من باب وإخراجهم من الباب الآخر، هذا معنى التساهل في الفتوى، هؤلاء يحملون أوزارهم يوم القيامة كاملة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31] {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] أي: يفترون على الله عز وجل.
والإنسان إذا عرف شخصاً أنه مفرط ومتساهل في الفتوى فبأي حجة عند الله يتبعه.
ثم أليس لك عقل؟ أليس عندك ميزان؟ ألا يوجد تفكير في الأمور؟ عندما يأتي مثلاً من يحلل الربا، ويقول: هو حلال، وأنت تعلم لو فكرت بعقلك أن هذا المال الذي تضعه عند المرابي، لو كان مجرد وديعة وأمانة هل يجوز التصرف فيها؟ هل يجوز للمرابي الذي يأخذ المال الذي عنده أو يتصرف في الوديعة والأمانة، هو يتصرف ويستثمر فيها ويعمل إذاً فهو قرض، وليس أمانة ولا وديعة، وكلامه هذا كذب وحيلة واحتيال، والمال إنما هو قرض بدليل أن الأمانة لا يجوز التصرف فيها، وهذا يتصرف في المال.
ثم الوديعة لو تلفت بغير تفريط من المستأمن فإنه لا يضمن في الشريعة، ويقول: احترقت مع بيتي، لكن هذا المرابي يضمن المال لو سرق ولو احترق مكانه؛ لأنه أخذه قرضاً لا وديعة، فأنت تعلم أنه قرض، ثم تأخذ عليه زيادة فماذا يكون؟ لا يكون إلا ربا.
فلو جاء مائة وألف من المفتين وأصحاب العمائم، وأقسموا بالله جهد أيمانهم، وأنهم يتحملون المسئولية أمام الله عن هذه الفتوى وقالوا: إنه حلال، فماذا تفعل وقد عرفت الحكم؟ لو جاء من هؤلاء الأئمة المضلين من قال: إن الغناء مباح، والموسيقى إذا كانت ليست بصاخبة وكانت هادئة فهي حلال، وأنت تعلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي سمعته مراراً وتكراراً عن أناس أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يستحلون -أي: يأخذون الحرام فيجعلونه حلالاً- الحر يعني: الزنا، والحرير: المحرم على الرجال، والمعازف، وما هي المعازف؟ أليست الأورج والبيانو، والقانون والكمنجا، والعود والطبل، أليست هي المعازف؟ فلماذا نلف وندور؟ أليس الشارع قد حرمها بالكلية، وما استثنى منها إلا الدف فقط للنساء في الأعراس والأعياد؟ ثم ألم تسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح: (صوتان ملعونان: وذكر منهما مزمار عند نعمة) والملعون هل يكون مكروهاً أو مباحاً؟ الملعون لا يكون إلا محرماً، فهل تقول بعد ذلك إن المزمار مباح؟ وعندما يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن الكوبة) والكوبة هي: الطبل، فعندما نعلم يقيناً أيها الإخوة الحكم الشرعي والأدلة فهل بعد ذلك إذا قال فلان وفلان من الناس؛ مهما كان ارتفاع عمامته؛ وطول لحيته، وشهرته؛ إذا قال إنها مباحة فهل نسمع له ونطيع؟ وهل نقول: إن المسألة فيها اختلاف، وإنه يسعنا أن نأخذ بما نريد من أقوال المفتين وكلٌ على خير؟ ما هذا اللعب؟! {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13 - 14] هذا دين ليس بلعب.
ولذلك أيها الإخوة! لو تعارض عندك أقوال المفتين، فإذا علمت بالدليل الصحيح والحكم الشرعي فلا يسعك أن تتركه ولا أن تخالفه إلى قول أحد كائناً من كان، لأنك تطيع الله ورسوله؛ لا فلان وفلان، فإذا جاء الحكم عن الله ورسوله فعلى الرأس والعين، لابد أن نقبل به ولو قال من قال بذلك، قد يكون مجرماً منافقاً مضلاً، وقد يكون مسكيناً فمن قلة عمله والشبهة التي عنده قال بذلك.
أيها الإخوة! إن التذرع باختلاف المفتين في أن ننتقي ما نريد بأهوائنا مدخل شيطاني، لكن عندما تسمع أقوالاً ولا تعرف أدلة ولا تعرف حكم الله ورسوله، وليس عندك حجة ولا بينة، ماذا تفعل؟ تقلد الأعلم، هذا هو المطلوب منك كعامي من عامة الناس أن تقلد الأعلم، إذا لم تكن طالب علم تحسن البحث وتنظر في الأدلة فتقلد الأعلم من العلماء، وقلنا تقلد الأعلم ولم نقل تقلد الأشهر، لأن هذه مصيبة في هذا العصر، أن الناس يقلدون المشهور بسبب شهرته ولا يقلدون الأعلم، وهذه فضيحة جديدة في عالم الإفتاء؛ أن يتجه الناس إلى الأشهر وليس إلى الأعلم، فكم من مشهور أقل علماً ممن هو أقل منه شهرةً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الهوى والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إذا أردت فتنةً بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل كلمة الدين، وأقم لواء الجهاد في الأرض يا رب العالمين، اللهم اقمع أهل البدعة والمشركين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كوسوفا وكشمير وفلسطين، اللهم أنقذ المسلمين من الفيضانات في السودان وبنجلادش إنك على كل شيء قدير، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وإنهم عراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.(52/10)
جسر الأهوال
جهنم مصير الكافرين والفاجرين نعوذ بالله منها، يضرب بين ظهرانيها جسر وهو الصراط، سيمره جميع الخلق، وهذا الصراط له صفات تشيب لها رءوس الولدان، فمن صفات هذا الصراط، أنه يضرب في ظلمة جهنم، وأن له كلاليب وخطاطيف تخطف الناس، وحده ودقته كحد السيف.
والناس على الصراط بين ناجٍ وهالك، أما الناجون فبين ناج مسلم وبين ناج مخدوش، وأما الهالكون فبين هالك مكردس، وهالك منكوس في نار جهنم، فالعدة العدة لذلك الأمر الجلل.(53/1)
الصراط حقيقة لا مرية فيها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن يوم القيامة يوم عظيم يوم كان شره مستطيراً، وكان يوماً عبوساً قمطريراً، وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، ذكره الله لنا في كتابه لنحذر شره، وذكَّر عباده به ليستعدوا لذلك اليوم لئلا يقول أحد: يا رب! لم تخبرني بما يكون فيه، فقد أخبرنا الله بالتفصيل في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن ذكرنا في خطبة ماضية الحشر وبعض ما يكون فيه، وسنذكر في هذه الخطبة -إن شاء الله- أمراً واحداً من الأمور التي تكون في ذلك اليوم، وهو الصراط ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس وتغيير الحال إلى الأفضل.
العظة باليوم الآخر هي التي تغير سلوك الناس توقظ الغافلين، وتنبه السادرين في غيهم.
عباد الله: إذا جمع الله الأولين والآخرين، وحُشِرَ الناس، وأخذ بالكفار إلى النار، يبقى من ينتسب إلى الإسلام ينتظرون الله تعالى، فيأتيهم الله عزَّ وجلَّ في صورة غير صورته -كما جاء في صحيح البخاري - يمتحنهم، والمؤمنون يعرفون ربهم، فإذا جاء في صورته سجد المسلمون الذين كانوا يسجدون لله في الدنيا؛ لأنهم عرفوا ربهم، وأما المنافقون الذين كانوا يسجدون رياءً يجعل الله ظهر الواحد منهم طبقاً واحداً فلا يستطيع السجود، وهذا الامتحان لكشف المنافقين من المؤمنين، ثم إن الله تعالى يدعوهم فيتبعونه، فيأخذهم الله عزَّ وجل إلى شفير جهنم، ويستشفع النبي صلى الله عليه وسلم، فيأُذن بضرب الجسر على متن جهنم، وهو الصراط.
فالصراط: هو الجسر الممدود على متن جهنم، وهو الطريق الذي سيعبر عليه الناس، والصراط حتم واجب الإيمان به، قامت الأدلة عليه من الكتاب والسنة، قال الطحاوي رحمه الله في عقيدة أهل السنة والجماعة: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان، فالميزان من عقيدة أهل السنة والجماعة لا بد من الإيمان به.(53/2)
عبور الصراط أمر لا خيار فيه
إذا صار الناس عند الجسر، تقول عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر)، قال مجاهد: قال ابن عباس: (أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا.
قال: أجل والله ما تدري؛ إن بين شحمة أذن أحدهم وبين عاتقه - أي: الواحد من أهل النار- مسيرة سبعين خريفاً -أي: سبعين سنة- تجري فيها أودية القيح والدم.
قلت: أنهاراً؟! قال: لا.
بل أودية.
ثم قال: أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا.
قال: أجل والله ما تدري، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: ((وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)) [الزمر:67]، فأين الناس يومئذٍ يا رسول الله -إذا طوى الله الأرضين والسماوات، أين يكون الناس واقفين؟ - قال صلى الله عليه وسلم: هم على جسر جهنم) أخرجه الإمام أحمد، وإسناده صحيح.
فالصراط: هو جسر جهنم الذي سيعبر عليه الناس، وتكليفهم بعبوره هو اضطرارهم إليه حيث لا خيار لهم فيه، بل لا بد لهم من عبوره، فالأوامر يوم القيامة ملزمة للجميع لا يستطيع أحدٌ أن يتخلف عن تنفيذ أمر الله أبداً، فإذا شق عن قبورهم دعاهم الداعي إلى أرض المحشر مرغمين، يجب عليهم أن يجتمعوا إلى ذلك الموقف، وإذا ناداهم الله إلى الجسر اتبعوا ذلك مرغمين لا خيار لهم، وإذا أمروا بعبور الصراط فهم مرغمون على ذلك لا خيار لهم الأوامر يوم القيامة لا مجال للنكوص عنها أو التلكؤ عن تنفيذها.(53/3)
أوصاف الصراط
وصف النبي صلى الله عليه وسلم الصراط بعدة أوصاف: أولاً: أنه زلقٌ؛ فقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قلنا: (ما الجسر يا رسول الله؟ قال: مدحضة مزلة) ومعنى مدحضة: أي: تزلق فيه الأقدام.
ومزلة أي: تسقط فيه الأجساد والأرجل.
إذاً: أول صفة للصراط أنه مضروب على متن جهنم من الطرف إلى الطرف.
أتدرون -يا عباد الله- ما سعة جهنم؟ يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وعمقها إذا رمي الحجر من شفيرها لا يصل إلى القعر إلا بعد سبعين عاماً وإذا كان الواحد من أهل النار ضرسه كالجبل، وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعين سنة من الدم والقيح، فكيف سيكون سعة جهنم؟ يانياً: أ، هـ دحض مزلة.
ثالثاً: أن له جنبتين وحافتين كما جاء في حديث أبي بكرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحمل الناس على الصراط يوم القيامة، فتتقادع بهم جنبتا الصراط تقادع الفراش في النار)، وهذا حديث حسن، أخرجه ابن أبي عاصم رحمه الله تعالى وغيره.
ومعنى: تتقادع بهم جنبتا الصراط: أي: يسقط بعضهم فوق بعض.
وإذا جاء في بعض صفات هذا الصراط أنه أدق من الشعر فهل يكون لبعض الناس دون بعض؟ أو يكون في مرحلة دون مرحلة؟ أو هو من علم الله بالغيب الذي لا يمكن أن ندركه؟ كيف يكون له جنبتان وهو أدق من الشعرة؟ نقول: إن الله على كل شيءٍ قدير، فتتقادع جنبتا الصراط بالناس تقادع الفراش في النار، تسقطهم فيها بعضهم فوق بعض؛ تتلاعب بالناس تلاعباً.
رابعاً: أن له كلاليب على حافتيه؛ فقد روى مسلم -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به)، وفي حديث أبي سعيد: (قلنا: يا رسول الله! ما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء، تكون بـ نجد يقال لها: السعدان) رواه مسلم.
وفي البخاري عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الصراط: (وبه كلاليب مثل شوك السعدان أما رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير ألا يعلم قدر عظمها إلا الله).
قال الشراح: الكلاليب: جمع كلوب، وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم.
والخطاف: الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء.
والحسكة: شوكةٌ صلبةٌ معروفة؛ وقيل: نبات له ثمر خشن يتعلق بأصواف الغنم.
والمفلطحة: العريضة.
والعقيفاء: المعوجة.
وشوك السعدان: نبات ذو شوك يَرعى البدو إبلهم عنده، وهو مشهور بـ نجد، يقال: مرعى ولا كالسعدان.
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب لهم كيف تعلق هذه الكلاليب بأجساد الناس، وكيف تتخطف هذه الخطاطيف الناس، وتعلق بأجسادهم مثل شوك السعدان الذي يعلق، وإذا نشب لا يخرج.
خامساً: أن حده مثل حد الموسى أو حد السيف؛ كما جاء في حديث سلمان رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من يجيز على هذا؟ فيقول الرب عزَّ وجلَّ: من شئت من خلقي.
فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك) أخرجه الحاكم وإسناده صحيح.
وفي حديث ابن مسعود الطويل:) والصراط كحد السيف دحض مزلة).
إذاً: هو حاد جداً مثل حد السيف أو الموس، وبه خطاطيف وكلاليب تنهش الناس يميناً وشمالاً، ومن أسفل حدٌ كحد السيف يقطع من يمر عليه، وهو يروغ بالناس تتقاذفهم جنبتاه، فيتساقطون في جهنم إلا من شاء الله.(53/4)
كيفية مرور الناس على الصراط
المرور على الصراط إجباري لجميع الخلق، فلا بد أن يمر عليه الذين نجوا من غير الكفار، فإن الكفار لا يمرون على الصراط؛ لأنه قد أُخِذَ بهم إلى جهنم من قبل، أما الذين يمرون على الصراط فهم المسلمون منهم الطائع ومنهم العاصي منهم البر ومنهم الفاجر منهم المؤمن ومنهم الفاسق.
أما المرتدون والكفرة فقد أُخذ بهم إلى جهنم من قبل، فلا مرور لهم على الصراط.(53/5)
مرور المنافقين
يتفاوت الناس في المرور على الصراط تفاوتاً عظيماً، وذلك لأن المرور عليه يكون بقدر الأعمال الصالحة؛ فيعطي الله كل إنسان نوراً على قدر عمله يتبعه على الصراط؛ لأن من صفة الصراط أنه مظلم إظلاما تاماً فتأمل الآن يروغ بهم وتتقاذفهم جنبتاه، وعليه كلاليب وخطاطيف وحسك، وهو كحد السيف؛ فتكون الأنوار على قدر الأعمال قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نوره، ثم يتبعونه) قبل المرور على الجسر يعطى كل واحد نوراً حتى المنافقون الذين دخلوا مع المؤمنين في الدنيا، ثم يبدأ المرور على الجسر، فيطفئ الله أنوار المنافقين، فتكون الخدعة الكبيرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فإذا اطفئت أنوار المنافقين سقطوا في جهنم.(53/6)
النور في الصراط على قدر الأعمال
بقي المسلمون البر والفاجر الطائع والعاصي، فيعطون أنواراً على قدر أعمالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يتبعونه وعلى جسر جهنم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله) رواه مسلم.
وفي حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فيعطون نورهم على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه يضيئ كل ما أمامه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه؛ يضيء مرة ويطفئ مرة، إذا أضاء قدَّم قدمه وإذا أطفئ قام) لا يستطيع أن يمشي لأنه نور في تلك الظلمة، فإذا أضاء له مشى، وإذا أظلم قام واقفاً؛ لأنه إذا غامر بالمشي ربما يسقط؛ فيقوم على حد السيف والكلاليب من حوله، يطفأ نوره مرة ويوقد مرة بحسب العمل، أما أولياء الله فنورهم فوق الجبل، وفي ذلك الموقف الرهيب ينطفئ نور المنافقين فيسقطون -كما تقدم- وينجو المؤمنون.(53/7)
سرعة المرور على الصراط
الناس لهم سرعات تختلف بحسب أعمالهم في المرور على الصراط؛ لأن جهنم في الأسفل، واللهب يشتد، والنار لها زفير وشهيق، والمنظر من الأسفل في غاية الرعب؛ فإن جهنم من الأسفل توقد {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6]، وتختلف سرعة الناس في المرور على الصراط باختلاف قوة النور الذي يُعطى لهم؛ فالنور تابع للسرعة.
جاء في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويمرون على الصراط؛ والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب) هناك أناس يمرون على الصراط من الجهة إلى الجهة الأخرى كانقضاض الكوكب هل رأيت النجم عندما يرمى به في السماء بغاية السرعة مع المسافة الشاسعة؟ كذلك هم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومنهم من يمر كالريح -كالإعصار في السرعة- ومنهم من يمر كالطرف -كطْرف العين- ومنهم من يمر كشد الرِّجِل أو الرَّجِل -أي: الراجل غير الراكب الذي يجري جرياً- يرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تخر يدٌ وتعلق يدٌ، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فيخلصون بعد العنا الشديد إلى الطرف الآخر، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً).
وجاء في صحيح مسلم في صفة سرعة هؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيمر أولكم كالبرق)، ولذلك لا يتأثر هؤلاء بجهنم مطلقاً؛ لا بخطاطيف، ولا بكلاليب، ولا بحسك، ولا بحد السيف، ولا بلهب النار، وهؤلاء هم أولياء الله، وكبار الصالحين، والعلماء العاملون (قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً) زحف على حد الموسى، أو حد السيف، مع الخطاطيف من أول جهنم إلى آخرها، هكذا جزاء الله تعالى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ويقول الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، يكفي هذا الموقف موقف الصراط حتى نغير كل الطريقة التي نسير عليها، ومن كان يراوغ في الدنيا فليعتدل، ومن كان يعصي الله فليتب، والله لو عقلنا الصراط فقط من دون عذاب جهنم لاعتدل سلوكنا وتغير.
ثم يمر آخر واحد ويزحف زحفاً، جاء في حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون منها بأعمالهم، فأولهم كلمع البرق، ثم كمر الريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب، ثم كشد الرجال، ثم كمشيهم) وهذا على حسب الأعمال، فكلما كانت حسناتك أكثر كلما كان مرورك أسرع، وكلما كانت حسناتك أقل كلما كان مرورك أبطأ.
وهكذا تكون السرعة على متن جهنم حسب أعمال العباد، حتى يكون آخر الناس مروراً على الصراط بعد الزاحف رجل آخر هو المسحوب؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً) رواه البخاري، يسحب على حد السيف سحباً حتى يجاز به إلى الطرف الآخر على متن جهنم.
وجاء في وصف آخر رجل في حديث ابن مسعود، قال: (ثم يكون آخرهم رجلاً يتلبط على بطنه، يقول: يا رب! لم أبطأت بي؟ فيقول: إنما أبطأ بك عملك) وهو صحيح عن ابن مسعود، وهذا لا يقال: إنه من جهة الرأي، فله حكم الرفع.
وهذا الأخير مع ما لقي من العذاب الأليم إذا جاز الصراط عدَّها نعمة ما بعدها نعمة، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي على الصراط، فينكب مرةً ويمشي مرةً، تسفعه النار مرةً، فإذا جاوز الصراط التفت إليها -إلى جهنم- فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله -انتبهوا لعبارة الرجل؛ عبارة آخر واحد يجوز جهنم مع ما لاقاه من العذاب الأليم ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين)، إلى هذه الدرجة يستشعر الرجل النعمة، ويظن أنه ما أحد أعطي نعمة مثله من الأولين والآخرين من الأهوال التي رآها، فكيف بالذين يسقطون في النار؟!(53/8)
الأمانة والرحم على جنبي الصراط
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة الصراط -أيضاً- وما يحدث عنده، فلما ذكر ذهاب الناس إلى آدم وإبراهيم وموسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً) الأمانة عن يمين الصراط والرحم عن شماله؛ يبعث الله الأمانة -والله يخلق ما يشاء- عن يمين الصراط، والرحم عن شماله.
قال العلماء: لعظم شأنهما عند الله، وضخامة أمرهما، وعظم حقهما، يوقفان هناك عن يمين الصراط وعن شماله؛ لأجل أن تكونا شاهدتين للأمين وعلى الخائن، وللواصل وعلى القاطع يحاجان عن المحق فينجو، ويشهدان على المبطل فيهلك؛ فكل من خان في أمانة فليحذر، وكل من هو قاطع للرحم فلينتبه.(53/9)
أول من يجتاز الصراط
أول من يجيز الصراط هو النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمته قال عليه الصلاة والسلام: (يضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها) أول من يخترق ويمر هو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وفي رواية: (فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل في أمته)، حتى جاء في رواية: (أنهم يفسحون الطريق يميناً وشمالاً لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمته)، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يتكلم يومئذٍ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم) لا يتكلم أحد مطلقاً من هول الموقف، ولا يتلفظ أحد بكلمة ما عدا الرسل، فإن عندهم قدرة على الكلام، لكن كلامهم محدود بعبارة من ثلاث كلمات فقط، وهي: اللهم سلِّم سلِّم، يدعون بالسلام للناس لهول الموقف.
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: (إلى أن تمر أمتي كلها، ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم)، وهذا من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته، وكذلك الأنبياء كما جاء في رواية أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والأنبياء بجنبتي الصراط، وأكثر قولهم: اللهم سلِّم سلِّم).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا في ذلك اليوم من الناجين، اللهم ثبت أقدامنا يوم تزل الأقدام، اللهم ثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل الأقدام، وعافنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(53/10)
الناس على الصراط بين ناج وهالك
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وأشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: أما حال الناس على الصراط فهم بين ناجٍ وهالك.
ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في نتيجة مرور الناس، فقال: (فناجٍ مسلم، ومخدوش مكلَم، ومكردس في النار)، وجاء في حديث أبي سعيد عند ابن ماجة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في تصنيف العابرين على الصراط: (فناجٍ مسلم، ومخدوجٌ به ثم ناجٍ، ومحتبسٌ به ومنكوس فيها)، وفي رواية البخاري (فناجٍ مسلم، وناجٍ مخدوش، ومكدوس في نار جهنم)، فاتضح أن الذين يمرون على الصراط ينقسمون إلى أقسام: أولاً: ناجٍ بلا خدش؛ لا تمس منه الكلالبيب والخطاطيف شيئاً، ولا تصيبه النار مطلقا؛ قال الله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]، وذلك من سرعة المرور {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء:102 - 103]، وأي فزعٍ أكبر من فزع ذلك اليوم؟!! أولاً: ناج بلا خدش.
ثانياً: هالكٌ من أول وهلة، ساقط في النار.
ثالثاً: متوسط بينهما، يصاب ثم ينجو، وكذلك جاء في رواية ابن ماجة: المحتبس به؛ أي: يحبس على الصراط حتى يطلق سراحه.
وأما الناجي بلا خدشٍ، فقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ناجٍ مسلَّم) وهؤلاء الذين يعطون نوراً عظيماً لأجل أعمالهم، فينجون ويجوزون، قال صلى الله عليه وسلم في حديث جابر: (ثم ينجوا المؤمنون، فتنجو أول زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون)، وهؤلاء هم أولياء الله الذين تعبوا في الدنيا قاموا الليالي، وصاموا الأيام، وعفوا عن الحرام، وعملوا لله، وجاهدوا في سبيل الله، بوارق السيوف على رءوسهم، فهؤلاء لا يفوت أجرهم عند الله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13].
قال (ثم الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء)، وأما الهالك من أول وهلة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم بأوصاف، فقال: (مكردس في النار)، وقال: (منكوس فيها)، وقال:) مكدوس في نار جهنم)، ومن هؤلاء المنافقون، والناس الذين زادت سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء يسقطون في النار ويعذبون حتى يأتي فرج الله، أما المنافقون فهم في الدرك الأسفل من جهنم.
قال العلماء: المكردس الذي جمعت يداه ورجلاه وألقي إلى موضع.
والمنكوس: المقلوب على رأسه؛ فرأسه إلى أسفل، ورجلاه إلى أعلى في نار جهنم.
والمكدوس هو من تكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فيسقط.
والمكدوش: الذي يساق سوقاً شديداً حتى يوقع فيها.
هؤلاء الذين أوبقتهم أعمالهم.
أما الصنف الثالث؛ الذي يصاب ثم ينجو: فهؤلاء وصفهم بقوله: (مخدوش مكلم)، وفي رواية: (مخدوج به)، وفي رواية: (ومنهم المجازى حتى ينجى) رواه مسلم.
ومعنى ذلك: أن هذا الصنف الثالث تتخطفهم الكلاليب، فتجرح أجسادهم، ثم ينجون بعد ذلك.
ومعنى مخدوشٌ مكلم: خدش الجلد قشره.
ومعنى مخموش: ممزوق، والمخدوش هو المخمش الممزق، والخمش تمزيق الوجه بالأظافير، والمكلم أي: المجروح.
ومخدوجٌ به: من الخداج وهو النقصان؛ ومعنى ذلك: أن كلاليب الصراط والخطاطيف تجرحه وتنهشه يميناً وشمالاً، فتنقص من جسده، ويجرح طيلة الطريق وهو يعبر من أول جهنم إلى آخرها، جراحٌ وخدشٌ وخدج، أي: نقصان ينقص من جسده بحسب ما يسحب الخطاطيف والكلاليب من أجسادهم، فإذا نجوا بعد ذلك يقولون كما مر في الرواية: (الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) هذا كلامهم إذا نجوا.(53/11)
تذكروا الصراط وأعدوا له حسنات
وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال
ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي
يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبال
قال القرطبي رحمه الله: فتفكر الآن فيما يحل بك من الفزع بفؤادك، إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها، وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك، واضطراب قلبك، وتزلزل قدمك، وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك من المشي على بساط الأرض فضلاً عن حدة الصراط، فكيف بك إذا وضعت عليك إحدى رجليك فأحسست بحدته، واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني، والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم الخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظر إليهم كيف ينكسون فتسفل إلى جهة النار رءوسهم، وتعلوا أرجلهم، فياله من منظرٍ ما أفظعه! ومرتقىً ما أصعبه! ومجازٍ ما أضيقه! {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
عباد الله: إن الورود على الصراط هو المقصود بقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72] فما من أحدٍ منا إلا وهو سيمر على جهنم؛ فإن نجا عرف نعمة الله عليه، وإن هلك ففي النار، فليس لأحدٍ -حتى الأنبياء- إلا وهم يمرون على جهنم ولا بد؛ لأن الله قال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فلا بد من الورود على جهنم؛ وقد فسر كثيرٌ من العلماء الورود بالمرور على الصراط، وقال بعضهم: بالدخول ولكنها لا تؤذي المؤمنين فينجيهم الله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72].
عباد الله: من أراد النجاة فلينجُ من الآن قبل أن يندم حين فوات الأوان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا في ذلك الموقف من الناجين، وأن يرزقنا شفاعته عند الصراط؛ فإن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ -هؤلاء الأولون والآخرون أين أجدك وسط هؤلاء؟ - قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط.
قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان.
قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض فإني لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
فمن وفقه الله بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام، ومتابعته لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وإيمانه بما جاء به صلى الله عليه وسلم، فإن الله يرزقه شفاعة نبيه في تلك المواطن العظيمة.
فهانحن قد عرفنا حال الصراط فقط، ولا نتكلم الآن عن عذاب جهنم بل عن الصراط فقط، فماذا أعددنا لذلك اليوم يا عباد الله؟ ماذا أعددنا للجواز على الصراط؟ نسأل الله تعالى أن يردنا إلى الدين رداً جميلاً، اللهم عافنا واعف عنا، نحن عبادك المقصرون المحتاجون إلى رحمتك فلا تحرمنا من رحمتك يا رب العالمين، وأنقذنا على الصراط يا أرحم الراحمين، وارزقنا الفوز بجنات النعيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(53/12)
ثغرات تسدها المرأة المسلمة
إن الله عز وجل حمَّل بني الإنسان قاطبة ذكرهم وأنثاهم الأمانة والمسئولية، فدور المرأة لا يقل عن دور الرجل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكما أن للرجال ثغرات يجب عليهم سدها فكذلك للنساء ثغرات يجب عليهن سدها، ومن هذه الثغرات: ثغرة تعلم العلم وتعليمه، وثغرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثغرة الأولاد، وثغرة الزوجية وحقوق الزوج، وغير ذلك من الثغرات التي يجب على المرأة سدها والقيام بها.(54/1)
المرأة المسلمة ودورها في سد ثغرات الإسلام
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيتها النسوة! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فهذه مناسبةٌ طيبة للقاء هنا من وراء الحجاب كما أمر الله سبحانه وتعالى، ونكرر هذا دائماً تنبيهاً على هذا الأمر المهم، وهو قول الله سبحانه وتعالى وأمره بالحجاب، وبمخاطبة النساء من وراء الحجاب.
يا معشر النساء! إنكن في هذه الحياة الدنيا مسئولات أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عما تعملن في هذه الحياة الدنيا، والمسئولية كبيرة وكبيرةٌ جداً وخصوصاً إذا عرفت المرأة دورها، فإن كثيراً من النساء لا يعرفن أدوارهن إلا القليل، وقلةٌ من النسوة اللاتي يقمن لإنقاذ الموقف المتردي الذي وصل إليه المجتمع، والذي تقهقر إليه كثيرٌ من طبقاته وأسره وأفراده، قلةٌ من النسوة اللاتي يدركن ما أمر الله سبحانه وتعالى به وما نهى عنه، وقلةٌ منهن اللاتي يعين ما هو الدور المطلوب الذي ينبغي على المرأة أن تقوم به.
أيتها الأخت المسلمة! (كلكم راع وكلكم مسئولٌ عن رعيته) وأنت وكل واحدةٍ منكن على ثغرةٍ من ثغرات الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، كل واحدة على ثغرة في بيتها في مدرستها في مجتمعها، أو مكان عملها، وحتى في ساحات الجهاد كلكن على ثغرة، ومع الهجمة الشرسة التي يتعرض لها المجتمع المسلم من قبل أعداء الله اليوم سواءً كان هجوماً فكرياً، أو هجوماً عسكرياً ونحو ذلك، فإن هذا الهجوم يتطلب دفاعاً وهجوماً مضاداً، ينبغي عليك يا أيتها المرأة القيام به.
مفهوم سد الثغرة في حياة المرأة المسلمة اليوم يكاد أن يكون مفقوداً؛ نظراً لأن كثيراً من النساء وقعن في اللهو، وانصرفن عما أمر الله به، فبدلاً من أن تعيش لهذا الدين، وتبذل لهذا الدين، وتقوم بما أمرها الله سبحانه وتعالى به من عبادته، والدعوة إليه، وتربية الأولاد، وإنكار المنكر، والدعوة إلى الله، وتعليم الأخريات العلم الشرعي، نجد بدلاً من هذا كله انصرافاً إلى مباهج الحياة الدنيا وملذاتها إلى الثياب الحفلات السهرات الأسواق السفريات ونحو ذلك، بحيث أنه قد صار هناك خللٌ كبير في هذه الحياة التي نعيشها اليوم بسبب انصراف المرأة عن المهمة والواجب المطلوب.
المرأة في ثغرة الأمومة لها دورٌ عظيم المرأة في ثغرة الحياة الزوجية عليها واجب كبير المرأة في ثغرة التعليم والدعوة عليها مسئوليات جسام المرأة في العمل طباً وتمريضاً وتدريساً ونحو ذلك تواجه مشكلاتٍ متعددة، والمرأة في الأعمال الخيرية أدوار مفقودة، وأدوار عليها ملاحظات، وأدوار تحتاج إلى تكميل المرأة في التبليغ عن المنكرات ومحاربة الفساد ثغرة عظيمة تحتاج إلى القيام بالمسئولية.
أنت تعلمين يا أيتها المرأة المسلمة أن المسئولية ستسألين عنها أمام الله سبحانه وتعالى {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] وأقول لك: إن المرأة التي تلقي بالمسئولية على الأخريات، وتقول: يوجد هناك من الداعيات من يقوم بالمسئولية، فتريد أن تنصرف هي لملذات الحياة الدنيا والعبث واللهو؛ امرأة ما عرفت الله ولا حق الله، وكثيرٌ من الثغرات الموجودة في المجتمع مهمة عظيمة تقوم بها امرأة واحدة، لقد قامت النسوة من الصحابيات رضوان الله عليهن بأمورٍ كثيرة في الحياة التي سُطِّرت ونقلت إلينا، وكذلك فإن النساء الكافرات اللاتي يعملن بجد لقضاياهن المنحرفة، وعالم التيه والضلال الذي يسعين إلى نشره وإقراره في المجتمع، أحياناً تكون المرأة التي نشرت لواء الفساد ورفعته في مكانٍ ما في زمن ما، ولعل المرأة المسلمة إذا عرفت الدور السيئ الذي قامت به امرأة واحدة ربما تتشجع هي أن تقوم بدورٍ طيب، أنت تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات مسموماً مقتولاً، لم تكن ميتته ميتةً طبيعية وإنما كان موته بالسم؛ أثر السم بقي في جسده عليه الصلاة والسلام ويعاوده كل فترة حتى كانت النهاية، وقضاء الله محتوم، وأجله اللازم المكتوب.
إن الذي تسبب في موت النبي عليه الصلاة والسلام ليس جيشاً عرمرماً، ولم يكن رجلاً أو رجالاً، لكن المتسبب في قتل النبي عليه الصلاة والسلام بالسم هي امرأة من اليهود، جاء النبي عليه الصلاة والسلام إليهم عندما دعوه إلى طعام، فسألت امرأة من اليهود ماذا يحب النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة ومن اللحم؟ فلما علمت أنه يحب الكتف أكثرت من السم في الكتف، فحضر النبي صلى الله عليه وسلم وأكل من الطعام وأكل معه عددٌ من الصحابة، ثم أخبرته الشاة المطبوخة بالسم الموجود؛ فكف عليه الصلاة والسلام عن الطعام ولم يفعل شيئاً للمرأة، ولكن بعد أن مات أحد الصحابة بالسم اقتص منها فقتلت، وصار هذا السم الذي أكله صلى الله عليه وسلم يعاوده بين فترةٍ وأخرى، نوبات من الحمى، حتى كانت النوبة التي مات فيها صلى الله عليه وسلم، وقال لـ عائشة: (لا زالت أكلة خيبر تعاودني)، وقال () يا عائشة! لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت في خيبر)، وقال أيضاً: (فهذا أوان انقطاع أبهري) وهو عرقٌ بين القلب والظهر إذا انقطع مات الإنسان.
وكما قامت في مطلع هذا القرن عدد من النسوة المعدودات المشهورات بأدوار عظيمة من الفساد؛ كما فعلت هدى شعراوي، وكما تفعل عابدة حسين وغيرهن من النسوة في قضية تحرير المرأة، ونشر الفساد، وتتابع على ذلك أهل الفساد نساءً ورجالاً، وهدى شعراوي هي التي قادت المظاهرة التي انتهت بإلقاء الحجاب على الأرض وإشعال النار فيه، والزعم بأنه قد آن الأوان لتحرير المرأة العربية، فامرأة واحدة تدمر جيلاً، وهكذا قمن هؤلاء النسوة السيئات بأدوارٍ من الفساد معلومة، والذي يقرأ كتاب: تحرير المرأة للأستاذ الشيخ: محمد قطب وغيره يدرك حجم الكارثة، وخطورة الدور الذي قام به بعض النسوة.
امرأة واحدة أحياناً تكون سبباً في تدمير جيل، أو محاربة حكم شرعي كحكم الحجاب مثلاً، فماذا تفعلين أنت أيتها المرأة الواحدة من أجل نشر الإسلام والعقيدة؟ ومن أجل إعادة النسوة إلى حياض الدين، وإلى الواقع الإسلامي الصحيح؟ إن الطريق الذي يؤدي إلى تحقيق مطلوب منك هو استشعارك بالثغرة التي ينبغي أن تكوني عليها، والمسئولية الملقاة على عاتقك، والشعور بأن الله سبحانه سيحاسبك عن كل صغيرةٍ وكبيرة.
نحن اليوم -على سبيل المثال- يا معشر النساء نعاني من جهل كبير في الأحكام الشرعية على مستوى النساء الموجودات في المجتمع، فماذا فعلتِ أنت في مسألة تعلم هذا الدين وتعليمه؟(54/2)
ثغرة تعلم الدين وتعليمه النساء
هناك ثغرة كبيرة في قضية الأحكام الشرعية وجهل النسوة بها، ودائماً إذا طرقنا مثل هذه المواضيع نحب أن نعود إلى الماضي لنتلمس ماذا كان يحصل في عالم الصحابيات الأول من هذه الأمة، وكان النسوة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسألن ويتعلمن ويعلمن وينقلن العلم، بل كن يساعدن النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم النساء.
عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، عن جدته أم سليم قالت: كانت مجاورة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت تدخل عليه، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سليم: (يا رسول الله! أرأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟ فقالت أم سلمة: تربت يداك يا أم سليم! فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سليم: إن الله لا يستحيي من الحق، وإنا إن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما أشكل علينا خيرٌ من أن نكون منه على عمياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة: بل أنت تربت يداك -أي: أنت أخطأت يا أم سلمة بطلبك منها أن تفعل الكلام واعتبارك السؤال الفقهي فضيحة- ثم قال: نعم يا أم سليم، عليها الغسل إذا رأت الماء، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وهل للمرأة ماءٌ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى يشبهها ولدها؟ هن شقائق الرجال) والحديث حسن بمجموع طرقه، وله ألفاظ متعددة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع لإجابات النساء ويبادر إلى تعليم النسوة حتى ولو لم يطلبن ذلك كما حصل في خطبة العيد، لكن المرأة أيضاً هي التي تحمس النبي عليه الصلاة والسلام وتطلب منه درساً خاصاً، ويأتي وفد النسوة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليقولن: ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا يوماً تأتينا فيه، فواعدهن يوماً معيناً في بيت فلانة؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن.
إذاً النسوة هن اللاتي يطلبن العلم ويردن العلم، وكذلك فإنهن إذا سمعن شيئاً استأصلن واستفسرن كما جاء في حديث مسلم رحمه الله، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة -أي: ذات عقلٍ ورأي، لم تكن سفيهة، ولم تكن سليطة، ولا متمردة، لا بصياحٍ ولا اعتراض على النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سؤالٌ متأدب- وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقلٍ ودين أذهب لذي لب -أي: صاحب العقل- منكن، قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ -استفسرت المرأة مرةً أخرى- قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل -فهذا نقصان العقل، وهذا شيء من خلقة الله للمرأة، المرأة ليس لها ذنب في هذا، الله سبحانه وتعالى خلقها هكذا، فيها هذه العاطفة التي قد تغلب عقلها كثيراً، فلأجل ذلك جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل، فإذا أدت الشهادة كما أمر الله فليس عليها شيء أبداً- وتمكث الليالي لا تصلي، وتفطر في رمضان، فهذا نقصان الدين) وهذا خبر وليس بوعيد؛ ما توعدهن على أنهن ناقصات عقلٍ ودين، إنما هو خبر يخبر عن شيء من أمر الله في خلقه في النساء، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم بيَّن لهن وبيَّن للمرأة أنها: (إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت).
إذاً: عليها مسئوليات معينة ينبغي القيام بها.
المرأة أيضاً كانت تساعد النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم، وهذا واضح من قصة عائشة رضي الله عنها لما جاءت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض، فأمرها كيف تغتسل، قال: (خذي فرصةً ممسَّكةً؛ -وهي قطعة من الصوف أو القطن فيها شيء من الطيب- فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر؟).
إذاً: هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أسماء عن غسل المحيض؟ قال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً حتى تبلغ شئون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصةً ممسكةً فتطهر بها، فقالت أسماء: فكيف تطهر بها؟ فقال: سبحان الله! تطهرين بها، وفي رواية: تطهري بها، قالت: كيف أتطهر؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري) النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يقول أكثر من ذلك.
هنا يأتي دور المرأة؛ المرأة مع المرأة، الرجل ليس من المناسب أن يشرح هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أشد حياءً من العذراء في خدرها؛ العذراء التي ليس لها عهد بالرجال، إذا كانت في مخدعها فدخل عليها رجلٌ أجنبي فجأة فماذا يكون حالها من الاستحياء؟ هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فهنا تدخلت عائشة هذا التدخل الحكيم، قالت عائشة: (فاجتذبتها وقلت: تتبعي بها أثر الدم) فأرشدتها عائشة إلى غسل مكان خروج دم الحيض بهذه الفرصة الممسكة أو المطيبة.
وهذا الحديث يدل على استعمال الكنايات فيما يتعلق بالعورات، والاكتفاء بالإشارة في الأمور المستهجنة.
ويدل كذلك على سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يحتشم منها، وعدم ترك المسألة بغير سؤال، وتبقى المرأة على جهلها وهذه مصيبة.
وكذلك على المرأة أن تستر عيوبها حتى عن زوجها، ولو كانت هذه العيوب مما جبلت عليها، وهي هذه الرائحة الكريهة، فإنها تتخلص منها حتى لا يتأذى الزوج.
وكذلك فيه تعليم النساء بعضهن بعضاً فيما يستحيا من ذكره في حضرة الرجال، فالمرأة لما راجعت النبي عليه الصلاة والسلام تدخلت عائشة بالشرح إنقاذاً للموقف، وصيانة للنبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: يا أيتها المرأة! الآن نحن في عالم يسود فيه الجهل، ووجد نساء لا يعرفن أن صلاة الفجر ركعتين فتصلي أربعاً، وعدد من النساء يصلين صلاة الظهر يوم الجمعة ركعتين تظن أن صلاة الظهر يوم الجمعة ركعتين مثل الرجال وهي تصلي في بيتها، وهذا ضلال مبين؛ فإن صلاة الظهر أربع ركعات في بيتها، وبعض النساء تقتدي بالإمام في بيتها وتقتدي بإمام الحرم من الشاشة، والجهل كثير، ولو انتقلنا إلى الزكاة وأحكام زكاة الذهب وما يتعلق به، ولو انتقلنا إلى بدع الحداد الكثيرة جداً المنتشرة في البلاد الإسلامية لوجدنا جهلاً كثيراً يبدأ من إنكار قضية الحداد بالكلية، وحتى اختلاط هذا الحكم بكثيرٍ من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان؛ كمسألة تحريم النظر في المرآة، ووجوب قلب السجاد، وتحريم النظر من الشباك، وتحريم النظر إلى القمر، وتحريم التحرك في سطح البيت وفي ساحته، وتحريم المشي بالحذاء، وتحريم مصافحة المرأة المتزوجة، وتحريم الهاتف، ونحو ذلك من الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان.
على أية حال نقول: هذه ثغرة، وهذا بعض ما ينبغي.(54/3)
ثغرة التعليم والتدريس
ننتقل الآن إلى ثغرة أخرى من الثغرات التي تسدها المرأة المسلمة: وهي قضية التعليم والتدريس.
لا يصلح أن يشتغل الرجال بتعليم النساء على نطاق واسع، ولا يتمكن الرجال من هذا، وليست هناك طاقات كافية لفعل هذا أصلاً، وحال الفتن الموجودة في المجتمع لا تسمح بالتوسع في تعليم الرجال للنساء، بل إن المصيبة الكبيرة في بلدان المسلمين مسألة الاختلاط في التعليم في المدارس والجامعات، وينشأ عن ذلك من العلاقات المحرمة والفتن ما لا يعلمه إلا الله.
وهنا المرأة التي تشتغل في التعليم والتدريس على ثغرة، إذا وجدت في تلك الثغرة فإن عليها مسئولية؛ وهذه مسئولية شائكة ومعقدة؛ نظراً للمستوى المتدني في الدين والخلق الذي صارت عليه الفتيات والطالبات اليوم في المدارس، والمرأة في التدريس لا شك أنها بادئة ذي بدء يجب عليها أن تتأكد من سلامة الموقع والموقف، وأن تتأكد أن عملها في هذا المجال لا يفوت عليها واجباتٍ أهم كالزوج والأولاد والبيت، فإذا لم تكن بذات زوج، أو كان لا يتعارض عملها مع المصالح العظيمة التي أمر بها الشارع في الاهتمام بالزوج والأولاد والبيت، فعملت في قطاع التدريس مثلاً؛ فإن عملها في هذا القطاع هو محاولة بالقيام بسد شيء من الثغرة الكبيرة الموجودة في عالم تدريس البنات، لأن تدريس البنات في هذا الزمان قد انتشر، وصار الإيمان عند الجميع بأن البنت يجب أن تدخل المدرسة وتتعلم، وتدرس المواد المختلفة ولو كانت تشابه المواد التي يدرسها الرجل، ولو كانت لا تحتاج إليها في حياتها؛ كالمعادلات، والرياضيات، والكيمياء، والفيزياء ونحو ذلك من الأشياء، والمرأة قد لا تستطيع أن تغير نظام التعليم ولكن ينبغي عليها تكثيف المطالبة بما يناسب البنات من المناهج الدراسية، وكتابة الملاحظات الملخصة على المناهج الموجودة، والمطالبة بالتعديل، والنصح في الله سبحانه وتعالى من أجل الوصول إلى مستوى أفضل في قضية نوعية المناهج التي تقدم إلى البنات والفتيات في المدارس، والمعلمة في المدرسة لا شك أنها على ثغرة من عدة جهات: فمنها: وجوب أن تكون قدوة؛ وكثير من المعلمات في المدارس يلبسن الكعب العالي، ويضعن العطورات، ويجعدن الشعر، ويلبسن ما يحسر عن القدمين، وغطاء شفاف، ومكياج، ثم يأمرن الطالبات بالالتزام بالحجاب الشرعي وتعليمات إدارة تعليم البنات ونحو ذلك!! ونتساءل ونقول: من أين ستنفذ الطالبات هذه التعليمات؟ وكيف ستكون الطاعة والالتزام إذا كانت الآمرة الناهية لا تأتمر بأوامر الشريعة ولا تنتهي عما نهى الله عنه؟ ولا شك أن انحدار مستوى البنات في المدارس من أسبابه: عدم وجود القدوات من المعلمات الصالحات بالشكل الكافي في المدارس، ولو استعرضت في عدد المدرسات في المدارس عن المتمسكات بالدين منهن لما زلنا نحس بالقصور الكبير في هذا الجانب.
وكذلك فإن عدداً من هؤلاء المدرسات لا يتعدين المنهج من جهة تقديمه، وأحياناً بغير إخلاص في التدريس، ولكن المقصود: أن تقديم المواد الجامدة من غير توجيه شرعي ومتابعة إسلامية هو قصور في وظيفة المعلمة في المدرسة، فإن كثيراً من البنات يحتجن إلى رعاية وتوجيه، أشد من الحاجة لشرح المادة ذاتها، والمعلمة يجب أن تعطي من وقتها ما تقدم به لدينها، أما أنها تأتي وتلقي الدرس وتأخذ راتباً في آخر الشهر فلا أظن أن هذا إخلاص وقيام بواجب الدين في المدرسة، ستلاحظ أن فلانة من الطالبات تصرح بأنها لا تصلي، وإذا سئلت تقول: لماذا أصلي وأنا الأولى دائماً في الفصل؟ وعلى النقيض من ذلك؛ قالت بنت ذات مرةٍ بعد خروج النتائج النهائية وعرفت أنها رسبت: لماذا أصلي وقد رسبت؟ فسأترك الصلاة، وبعض الطالبات ربما يصرحن بالشك في دين عقيدة المسلمين، ويقلن: ما يدرينا أن الإسلام هو الحق، وقد يكون الحق مع اليهود أو النصارى، فلا بد أن نعرف عقيدة أولئك القوم ونحو ذلك، وكثير من الأشياء التشكيكية تأتي عبر قراءة المجلات المنحرفة الموجودة بين أيديهن مما يصل إليهن من خلال ما تقذفه المطابع المختلفة في أنحاء العالم شرقاً وغرباً من أنواع الفساد المسطر والمصور في هذه المجلات والمنشورات، وهذا بالنسبة للفساد العقدي أو الفساد من جهة الأركان.
وأما الفساد من جهة الخلق والعلاقات المحرمة مما يحدث في الهواتف، والخروج مع الأجانب، والحجاب، أو الثياب اللاتي يرتدينها، أو تعاطي المواد المحرمة، فهذا أمرٌ كثيرٌ جداً، ولذلك فإن المرأة المعلمة المسلمة تشعر فعلاً بأن هناك مسئولية كبيرة، وأن مواجهة هذا الفساد لا يعين عليه إلا الله، والمنكرات الموجودة في أوساط الطالبات، منها: الإعجاب بالممثلات والمغنيات، بل عشق صور اللاعبين وتشجيع الفرق، ونحو ذلك، لا شك أنه شيء سيئ جداً يحتاج إلى مقاومة كبيرة تغرسها هذه المعلمة في نفوس الطالبات، وتقرير مبدأ الولاء والبراء في نفوس الطالبات، فتكره الطالبة كل كافرٍ وكافرة، وتحب كل مسلم ومسلمة، وتشعر بالولاء لدين الله ولمن سار على هذا النهج، وتشعر بالعداء والكره والبغضاء لكل من يعادي هذا الدين ولو كان جميل الصوت أو جميل الخلقة ونحو ذلك.
وتمشي هذه المعلمة بالعدل بين الطالبات، فلا تعامل واحدة معاملة خاصة بدون سبب شرعي، وكذلك فإنها تعدل في الدرجات والامتحانات ونحو ذلك.
ومن الأمور المهمة التي تفشت بين الطالبات والتي ينبغي على المعلمات الانتباه لها والقيام بمعالجتها: مسألة العشق والتعلق الحاصل عند بعض البنات في المدارس، ومسألة الإعجاب الذي يبدأ بالإعجاب وينتهي بالعشق.
إعجاب فتعلق فعشق يضاد التوحيد، وقد يوقع في الشرك والكفر والعياذ بالله، عندما تصرح مثلاً بأن علاقتها محبة فلانة حب عبادة، ونظرات حارة وخطابات ومكاتبات وكلام ونحو ذلك، وتصريح أحياناً يصل إلى درجة الوقاحة لقضية التعلق بالمعلمة وأنها وراءها ووراءها لن تتركها ونحو ذلك، فهنا يجب أن يكون العلاج حاسماً، وأن تكون المعلمة على مستوى فهم المشكلة، تفهم المشكلة ويكون عندها خبرة من خلال القراءة والممارسة والتفكير والسؤال بكيفية العلاج، وإيقاف هذه القضية عند حدها؛ لأن هذه المسألة لها علاقة بالعقيدة، وتؤدي إلى أن تصبح في محبتها لغير الله أشد من محبتها لله.
وكذلك فإننا نغادر هذه النقطة لننتقل إلى نقطة أخرى، وهي: المرأة في ثغرة الأمومة والأولاد.(54/4)
ثغرة الأمومة والأولاد
لا شك أن الله سبحانه وتعالى قد جعل المرأة سكناً للزوج، وقص سبحانه وتعالى علينا أن من نعمه أنه خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليهن وجعل بيننا وبينهن مودة ورحمة، وأنه {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189] ولفت النظر إلى أن المرأة والحمل في بطنها قد بدأ وقبل ذلك أن تبتغي بهذا النكاح وجه الله، وإنجاب الأولاد لتربيتهم على الدين، وليست قضية الولد مجرد شهوة دنيوية تعير بها المرأة العاقر التي لا تنجب، ويستهزأ بها من بعض الفاسقات، ولا قضية الولد مجرد أرحام تدفع وأرض تبلع، المسألة أعظم من ذلك.
إن قضية الإنجاب لها ضوابط شرعية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حثَّ على التكاثر، فلا ينبغي معاكسة رغبته صلى الله عليه وسلم بالتكاثر في هذه الأمة عبر استخدام هذه الوسائل من حبوب منع الحمل ونحوه التي تمنع الإنجاب مؤقتاً، أو استخدام الوسائل التي تمنع الإنجاب بالكلية؛ مثل ربط المبايض، وبعض العمليات التي تجرى لإيقاف الولادة، أو إيقاف الحمل بالكلية، وهذا يكون من عدم تقدير النعمة وإعطائها حقها لما أنعم الله بها وشكر النعمة، ولذلك فإن العلماء قالوا مثلاً في موضوع الموانع: على المرأة ألا تتعاطى مانعاً يمنع الحمل بالكلية فهذا حرام، وإذا تعاطت مانعاً فإنها لا تتعاطاه أكثر من سنتين من أجل تحصين مصلحة الولد الأول وإرضاعه، وألا يكون ضاراً بها، وأن تكون الموافقة من الزوجين على ذلك، فالمسألة من أول الإنجاب فيها أحكام شرعية من بداية الحمل قضية الحمل وعدم الحمل فيها أحكام شرعية، ثم إنه صار في بطنها فإنها تسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله من الصالحين سواءً كان صالحاً في بدنه أو صالحاً في دينه فكلاهما مراد، فهي تسأله أن يكون تام الخلقة تام الجسد ليس فيه عاهة ولا تشويه ولا عيب، وكذلك فإنها تسأل ربها أن يكون صالحاً في دينه، فإذا وضعته بعد العناء فإنها تحتسب الأجر والله يعلم كم من السيئات تكفر بسبب الألم الذي تجده الحامل عند وضع الحمل، وهذا أمرٌ لا تفقهه كثير من النساء، ولذلك فإنهن يعمدن إلى التقليل من الأولاد، ويردن ألا يشعرن بالألم، وألا يحصل لهن مشقة، وهذا غير ممكن.
أقول: أيتها النسوة! إن المجيء بالولد والإتيان به لا شك أنه يترتب عليه مسئولية كبيرة، وغرس مبادئ العقيدة في الطفل أمر مهم في غاية الأهمية، وكلما تدرج الولد ينبغي أن تقوم بحقه في التعليم، خصوصاً في غمرة انشغال بعض الآباء وإهمالهم فإنه لا يبقى من صمامات الأمان إلا المرأة التي تراقب وتربي الولد، وكثير من الانحرافات التي حصلت عند الأولاد بسبب إهمال المرأة لهذه التربية، ثم بعد ذلك نحصد ونجني الثمار المرة المترتبة في كثير من الانحرافات.
نقول: إن المرأة ينبغي عليها أن تعلم ماذا تعلم الولد، وماذا يناسب عقله، وأن تتحلى بالصبر وعدم العجلة، وكذلك تغرس في نفس هذا الطفل الأمور الكثيرة المتعلقة بمحبة الله ورسوله ودينه، وهذه الأمور ينبغي أن تركز عليها المرأة في تعليمها لولدها، وتذكيره بالله، أو تعليمه الأذكار، أو تحفيظه القرآن، أو تشجيعه على الصيام، أو تهيئه للنوم المبكر حتى لا يسهر ويستطيع يقوم لصلاة الفجر، وأن يعود على الأذكار الشرعية؛ كآداب النوم وأذكاره، والطعام وأذكاره، وآداب الخلاء وأذكاره، وآداب العطاس وأذكاره، وآداب السلام ونحو ذلك من الأمور، وتقديم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة القصص المبسطة الجذابة من مسئولية الأم التي ينبغي عليها أن تغرسه في نفس طفلها، وأن تعلمه سرعة الاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، كيف استجاب له علي وهو صبي؟ وكذلك فإن قصص التضحية في سبيل نصرة النبي عليه الصلاة والسلام والدفاع عنه كثيرة، قصي عليه قصة ابني عفراء، وأخبريه بأحداث أنس بن مالك الذي كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي صغير، وأخبريه ببعض مغازيه عليه الصلاة والسلام وجهاده، وكيف لو أنه صلى الله عليه وسلم كان حياً وكان هناك شخص يهجم عليه وكان هناك إنسانٌ مسلم موجود بجانبه لوجب أن يتلقى القتل دونه؛ لأن حمايته صلى الله عليه وسلم وتقديمه على النفس واجب، لو انطلق سهم باتجاه النبي عليه الصلاة والسلام وهناك مسلم بجانبه لوجب عليه أن يتلقى السهم ويقوم يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله! أي: تفديته بالنفس واجب.
هذه أمور ينبغي أن تغرس في الأطفال مع مسألة تحفيظهم بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المناسبة لهم.
أيتها المرأة المسلمة! الكلام طويل وليس هذا موضعه، لكن المسألة الآن شحذ الهمم للقيام بهذه المسئولية، لأننا الآن لو نظرنا في هذه المآسي التي ترتبت -كما قلت لك قبل قليل- عن موضوع غياب التربية الإسلامية من قبل الأم والأب كذلك مشارك في طبيعة الحال لوجدنا هذه المسألة مسألة شنيعة جداً، حوادث سرقات الأطفال التي يقومون بها، الاعتداء على البيوت، ومحاولة الاعتداء على الخادمات، وتسلق جدران مدارس البنات، وكتابة الكلام البذيء، وتخريب المرافق العامة، وكتابة الكلمات البذيئة على حمامات المساجد، بل وتخريب بعض المساجد ومكبرات الصوت، وإيذاء المصلين من الخلف، والقيام بالفواحش بأنواعها، بل تصل إلى القتل، والتجسس على النساء، والنظر إلى نساء الجار من خلال الشقوق والنوافذ وشبابيك الحمامات، وغير ذلك من الأمور المأساوية التي تعج بها مجتمعاتنا، وإطالة الشعور والأظفار، بل حتى القذارة في الجسد، وعدم الاكتراث لنظافته هذا نابع من طبيعة بيئته، عندما تعوده على القذارة فيخرج قذراً، ولا تهتم بنظافته يخرج وسخاً، بل وصل الأمر ببعض الأمهات لما عوتبت على القمل في رأس ابنتها أنها قالت: نحن نفتخر به، سبحان الله! كيف تصل الأمور إلى هذه الدرجة، هؤلاء الشباب الآن الذين يشتغلون بالمعاكسة في الهواتف والأسواق، ويغرون بنات المسلمين بالذهاب معهم، وتحدث بعد ذلك الكوارث، بل إنهم يخونون الجار في زوجته وينتهزون فرصة خروجه للدوام والمناوبة ونحو ذلك، هذه الأشياء نتيجة أي شيء؟ فساد البنات الصغيرات لا يتوقع من بنت أن يكون عندها هذا المستوى في الفساد في خامسة أو سادسة ابتدائي والمرحلة المتوسطة أدهى وأمر، التدخين عند الأولاد، كما أن المكياج والسفور عند البنات، والملابس غير المحتشمة ولا الشرعية، هذه نتيجة أي شيء؟! ما يحدث من هذه المآسي، وانتشار الأغاني، والأشرطة الإباحية والخلاعية، وإلقاء الأرقام، وأخذ الأرقام؛ هذه أشياء كلها نتيجة لأمر واحد وهو: إهمال الأولاد، والله سبحانه وتعالى يحاسب: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فأنت ستقفين أمام الله سبحانه وتعالى لكي يحاسبك عما قدمت وعما اقترفت يداك، ويحاسب سبحانه وتعالى عن التقصير والإهمال، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته، ويسأل المرأة عن بيت زوجها.
وكثير من العقد النفسية عن الأطفال نتيجة فقدان الحنان، المفروض أن يكون من المرأة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم (صالح نساء قريش أحناهن على ولد في صغره).
وكذلك هي تحافظ على مال زوجها وهو عندها، كما أنها تحفظ فرجها في غياب زوجها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(54/5)
ثغرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيتها النسوة! إن هناك عدداً من الثغرات الأخرى، مثل: قضية دورك أنت في مقاومة المنكرات، كما قلنا: المجتمع فيه منكرات كثيرة في مستويات مختلفة، فمثلاً: هناك منكرات في العقيدة، كم عدد النساء اللاتي يذهبن إلى السحرة والساحرات؟ كم عدد النساء اللاتي يذهبن إلى العرافين والكهان؟ كم عدد النسوة اللاتي يذهبن إلى الدجالين والمشعوذين؟ أعداد كبيرة جداً هذه تذهب لتعمل السحر للأخرى، وهذه تذهب لفك السحر عند الساحر، وهذه تذهب لتستشير الدجال والكاهن في قضية زواج أو نقل بيت ونحو ذلك، والأخرى مستعدة أن تسافر، أو تتصل بالهاتف وتدفع خمسمائة ريال رسمي لأجل السؤال ويأتيها الجواب من الدجال، وهذه تذهب وهي تعلم أنه دجالٌ مشعوذ لكن تقول بعضهن: نجرب، وبعضهن تقول: ما عندنا طريقة نجلس نتألم طيلة الوقت! نقول لك: إن الصبر على ألم الجسد خيرٌ من ذهاب العقيدة ولو شفي الجسد، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن أمر يهودي كان يرقي ويفيد، أخبر أن هذا بسبب الشيطان يعينه وينخس ذلك العرق فيسكن، فالشيطان يتدخل في قضية العروق فينخس العرق ليسكن، فيتوهم المسلم أن اليهودي هو السبب في هذه الخفة التي أحس بها، هذه نافذة للشر كبيرة جداً موجودة في المجتمع، ماذا فعلت أنت من أجل محاربة هذه القضية؟ ولك قريبات وجارات وصديقات يقعن في هذا المنكر العظيم، والذي يأتي دجالاً أو كاهناً فإن آمن به فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، والسحر كفر ونحو ذلك، والتي تأتيه تجرب لا تُقبل لها صلاة أربعين يوماً، ويجب عليها أن تصلي وإلا كفرت، لكن ليس لها أجر على الصلاة إلا إذا تابت إلى الله توبة عظيمة.
وتأملي في الأجر المترتب على إنكارك، وفي الأجر المترتب على تعليمك الخير، ومنعك لهؤلاء من الذهاب إلى المشعوذين وتذكيرهم بالله، كم أم امتنعت نتيجة تحذير ابنتها الصالحة، وكم جارة امتنعت نتيجة نصيحة جارتها الملتزمة المتدينة التي تفقه هذه المسائل الجسام من أمور العقيدة، وهذه المرأة التي إذا رأت النساء اللاتي يتسلين بقراءة الفنجان، قامت لله متجردة تذكر وتنصح، أو رأت إحداهن تعبث بقراءة كف ولو كان بالمزاح تقوم وتخبر أنه لا مزاح في هذه الأمور وأنها أمور خطيرة جداً لا يجوز المزاح فيها.
من الأشياء الأخرى: انتشار قضية الدعارة في المجتمع، وانتشار مسألة الفساد، وقضية دخول بيوت النساء وذهاب النساء مع الأجانب، وشيوع الفاحشة التي تبدأ من الاغراءات والمعاكسات تغذيها الأفلام والمجلات لتنتهي بالفواحش والوقوع في الكبائر الموبقات، هذه مسألة كثير من الأحيان ما يدري عنها إلا امرأة امرأة أخرى تدري عن حال امرأة، ما يدريني أنا الرجل أن هذا أمر واقع في بعض البيوت أو بعض النساء بينما قد تدري المرأة عن هذا، كثير من هذه الثغرات لا يستطيع الرجال سدها؛ لأن الذي يدري عنها امرأة، في الغالب يدري عن منكرات النساء المرأة.
قضية التشبه بالكافرة، ماذا يدريني أنا الرجل عن الموضات التي تظهر عند النساء، والقصات، والملابس، والعادات السيئة التي نأخذها يومياً من الغرب والشرق، لكن المرأة هي التي تحضر الأعراس والحفلات، وتذهب إلى مدارس البنات، وتحضر المناسبات، فهي التي ترى أثر تقليد الكفار على هذه وهذه وهذه، وهي التي ترى العادات السيئة وتلاحظ الظواهر، ولذلك فإن من مهمات المرأة المسلمة رصد الظواهر السيئة في المجتمع النسائي، قد يكون هناك إلحاديات تتسلل وأشياء من المنشورات والكتب السيئة والمجلات والمقالات قد يكون هناك تجمعات مشبوهة، أو جمعيات مشبوهة تذهب إليها بعض النساء تكون تحت عنوان خيري، أو عنوان اجتماعي ونحو ذلك، فماذا يدري الرجال عما يحدث في هذه الجمعيات النسائية المشبوهة إذا لم تتكلمي أنت، ولم ترصدي أنت، ولم تنقلي الخبر أنت، ولم تقومي لله بالنصح أنت فمن سيقوم؟! فإذاً عالم المرأة مملوء بالثغرات التي ينبغي القيام لسدها.
وأيضاً من الأشياء الموجودة: العصبية القبلية المتفشية والمفاخرة، هؤلاء الذين يفاخرون بالعصبيات القبلية إما أن يتركونها أو ليكونون أهون عند الله من الجعلان؛ هذا الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ستكون العاقبة وخيمة يوم القيامة، ينبغي عليك مكافحة العصبيات القبلية، ونصح النسوة بترك المفاخرة بالأنساب والأحساب، والطعن في أحساب الآخرين وأنسابهم؛ وهذه تقول: أنت مالك أصل، وهذه تقول كذا، ونحو ذلك، وهذه مسألة متفشية مع الأسف كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من أمور الجاهلية لا تدعها هذه الأمة).
أنت التي تشعرين بالظلم الذي يقع على بعض البنات في بعض البيوت، هذه أبوها ربما يربطها ويضربها ويحبسها، وهذه عضلها أبوها فلا يزوجها وجعلها قصراً على ابن عمها ونحو ذلك من الرجال، وهذا لا يجوز له شرعاً أن يفعل ذلك، وأنت التي تحسين بالظلم الواقع على الزوجة من أم زوجها أو بسوء الأدب من الزوجة لأم زوجها.
وأنت التي تحسين بمنكرات الأعراس، وتحسين بالمحرمات وتعرفينها وهي تستشري وتنتشر في المجتمع.
وأنت التي تتعرضين لأنواع من الأذى التي تستوجب تنبيه ونصح بنيات جنسك من عدم الوقوع فيها.
هناك عدد من النسوة التائبات مررن بتجارب سيئة في الحياة الجاهلية التي كُنَّ يعشن فيها، وخرجت بخلاصة دفعت ثمنها من دموعها ودمها شيئاً.
إذاً: هل تترك هذه القضية لتمشي هكذا دون تنبيه ودون تحذير لبنات جنسها؟ كلا والله، لا يمكن أن تكون المرأة المسلمة بهذه السلبية أبداً، لا يمكن أن ترى المرأة منكراً في عرس أو مناسبة ثم لا تنكر، وأقل شيء أنها تقوم من المجلس خارجة منه مفاصلة لأصحابه لتعلن براءتها مما يدور من المنكرات، هذه مسألة واجبة لا بد أن تحدث.(54/6)
ثغرة أعمال البر المطلقة
وكذلك فإن هناك أنواعاً من أعمال البر عبارة عن ثغرات في عالم النساء، فمثلاً: كثير من البيوت التي فيها فقراء لا يدري عنهن إلا النساء عن طريق النساء تصل الأخبار فيما لا يدري عنه كثير من الرجال؛ فلانة أرملة فلانة عندها أيتام فلانة فقيرة، فمسألة جمع التبرعات للعوائل الفقيرة وإيصالها ورصد العوائل هذه النساء فيها أحسن من الرجال بمراحل، ولا إنكار في ذلك ولا مجادلة، وهذا معلوم ومشاهد ومجرب، وهناك عدد من النساء الخيرات اللاتي يقمن بالسعي على الأرملة واليتيم: (الساعي على الأرملة كالمجاهد في سبيل الله) (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى صلى الله عليه وسلم).
بعض النساء يذهبن إلى المسجد لحضور المحاضرات، ولكنهن لا يكلفن أنفسهن حتى حفظ الأولاد من الصياح ولا المسجد من الوساخة، فإذا غادرت النساء مع الأولاد المصلى يتركنه في غاية الاتساخ وفي غاية القذارة، بل وربما تركت حفائظ الأطفال في المصليات والمساجد، وترك الطفل يبول على سجادة ستصلي عليها امرأة أخرى، أو يصلي عليها الرجال في صلاة الجمعة، ومن الذي يتحمل المسئولية والإثم؟ هذه المرأة المهملة التي جاءت إلى المسجد.
وما يحدث من النساء من اللغط وارتفاع الأصوات في المحاضرات والدروس وصلاة التراويح، وجعل المسجد مثل المقهى أو الحضانة التي تأتي إليه؛ لكي تنفس عن نفسها وعن مشكلاتها بالأحاديث مع أن هذا مكان عبادة، أو مكان تعليم ودرس ومناسبة محاضرة، أو إلقاء لأمورٍ من الأمور الشرعية، لكن كثيراً من النساء لا يقمن بهذا.
كانت هناك ثغرة تسدها امرأة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاسمعي حتى تعلمي ما هي المسافة بيننا؛ بين المرأة الآن ودروها في المسجد التي تأتي إلى المسجد، وبين المرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى: عن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فأخبروه أنها ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني بها دلوني على قبرها، فأتى قبرها، فصلى عليها صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث استدل به العلماء على فضل تنظيف المسجد، وأن هذه المرأة السوداء سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها لأنه افتقدها، كانت تقوم بمهمة تنظيف المسجد، ونحن الآن نقول: المسجد قد يكون فيه منظفين أو عمال، لكن على الأقل تنظف ما خلفت من الأشياء وما خلف غيرها لا بأس أن تقوم هي بسد خلل غيرها إذا جاءت إلى المسجد في محاضرة أو في درس.
من الأمور ومن أعمال البر والخير مثلاً: مساعدة من يريد الزواج في البحث عن امرأة، فهي تسأل، وهي التي تأتي بالعناوين والأسماء والمعلومات من العمر والدراسة ونحو ذلك، هذه مسألة تنجح فيها المرأة نجاحاً كبيراً، لا يستطيع رجل أن يذهب ويقول: من عندكن من النساء وهاتين معلومات، لكن المرأة يمكن أن تقوم بهذا، وكانت النسوة من السلف يقمن بدور الخاطبات، وتتوصل إحداهن لتسعى في مشروع زواج فتكون من الدالات على الخير، والدال على الخير كفاعله، في موضوع الخطبة -أيضاً- يوجد هناك مجال متسع وهي ثغرة تقوم عليها النساء، حتى في تغسيل الميتة تغسيل الميتة هذه الآن ثغرة من الثغرات، ومعلوم أن المرأة تغسلها المرأة إلا إذا كانت ذات زوج أو محرم غسلها زوجها.
والمرأة تغسل المرأة، وإذا غسلتها احتساباً فإن الله سبحانه وتعالى يأجرها أجراً عظيماً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المسلم الذي يغسل المسلم فيستره ولا يخبر بالسوء عنه، أن الله سبحانه وتعالى يستره ويثيبه بأجر عظيم يوم القيامة، وأن المرأة التي تلي أختها فتحسن كفنها، فإن الله سبحانه وتعالى يعوضها ويعطيها أجراً عظيماً يوم القيامة كما أنها أحسنت إلى أختها الميتة فغسلتها حسب السنة، وليس بالجهل والبدعة، لا بد في المسألة من علم؛ عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إذا ماتت المرأة ولم يجدوا امرأة تغسلها غسلها زوجها أو ابنها، وإن وجدوا يهودية أو نصرانية غسلتها، أي: كأن المرأة اليهودية والنصرانية مقدمة على الرجل المسلم؛ لأنه كما هو الحال في الطب؛ وهو أيضاً ثغرة أخرى من الثغرات، فإن المرأة التي تعمل في مجال الطب وتمريض النساء تسد ثغرة، وتقدم أشياء كثيرة، الطبيبة المسلمة أولاً: تعلم المريضة أن الشفاء بيد الله، وتعطيها من الإرشادات الدينية ما ينفعها، وليس فقط تعطيها من الأدوية والنصائح الطبية ما يفيد جسدها، وإنما تعطيها من الأشياء الدينية ما يفيد دينها وعقيدتها، فالطبيبة إذاً هي من الداعيات إلى الله سبحانه وتعالى، بل هي في ثغرة عظيمة جداً وتمثل القيام بدور كبير، وهذا الكلام نؤكد عليه كثيراً، يشترط ألا يكون مجال العمل فيه منكرات تقع فيها المرأة، أما إذا كان مجال العمل فيه منكرات تقع فيها المرأة فإنها لا تشتغل فيه؛ لأنها تقدم دينها على أن تنفع الآخرين، لابد أن تنجو بنفسها هي ما طلب الله منها أن تقدم وتنفع الأخريات في مكان تضر فيه نفسها، هذه قضية مهمة، ولستِ مسئولة ما يحاسبك الله على ثغرة لماذا لم تسديها؟! إذا كان يترتب على سدها مضرة عليك في دينك وفتنة لك، ووقوع في أمور من المنكرات أو فوران الشهوات، فلا شك أن هذا حرام، وليس بعذر أن تقولي: أعمل فيه وهي تكشف على عورات الرجال، أو ممرضة تمد يدها لتفحص الرجل، أو تأخذ حرارته وتقيس الضغط، ويترتب على ذلك أن تمسه، هذا حرام، لا يجوز لها هذا، ولا يجوز أن تعمل في هذا المجال ولا تسد هذه الثغرة، فإننا نقول في موضوع الثغرات: إن هناك عدداً من النساء يقعن في فخ الشيطان؛ يأتي إليها الشيطان يقول لها: هذه ثغرة وينبغي أن تسديها، وأن تشتغلي بها، وأن تدخلي في هذا المجال، وهذا فيه خير، ووسيلة دعوة، ومكان إلخ، وفي النهاية نلاحظ إهمال الزوج والأولاد والوقوع في المنكرات اختلاط ونحو ذلك، وكم حصل من القصص المأساوية في هذا الأمر.
إذاً نقول: المرأة إذا وجدت مجالاً للخدمة ترقي النساء تغسل الميتة، فإذاً الثغرات التي لا يترتب عليها وقوع في منكر يجب على المرأة أن تتقدم لسدها، والتي يترتب عليها وقوع في منكر ومحرم فليست مسئولة عن سدها.(54/7)
ثغرة الزوجية والبيت
أقول أيضاً: أيتها الأخت المسلمة! في ثغرة الزوجية وبيت الدعوة بيتك يجب ألا يعرف الخراب؛ لأنه يتكون معه أسباب الحماية من الحب والرضا بينك وبين الزوج، وهذه ثغرة كل زوجة في القيام بحق زوجها، وينبغي أن يكون الزوج أحب الناس إلى زوجته، وأن يكون البيت قائماً على الالتزام بالإسلام، وتربية الأولاد التربية الصالحة، والدعوة إلى الله، ودعوة الجيران، والقيام بالحقوق الشرعية، والمرأة تحتسب -وهذا أمر مهم- تحتسب في الطبخ والتنظيف وكي الملابس وغسلها تحتسب المرأة في خدمة الزوج، وطبخ الطعام للضيوف تحتسب في تنظيف الولد من النجاسات، وتحتسب المرأة في آلام الحمل وما يحدث في الولادة؛ لأن عدداً من النساء يجعلن هذه القضايا عادة فلا تنوي فيها وجه الله فيفوت أجراً عظيماً، ولذلك صحيح أن المرأة مفطورة على هذه الأشياء، لكن احتسابك الأجر يجعل لك حسنات كثيرة لا تحصل لك دون احتساب، فإذاً الاحتساب: أن تتذكري لحظة القيام بالعمل، أنك تقومين به لوجه الله، ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، ولا تدمري البيت للخروج للعمل ويصبح العمل قضية موضة وتقليد للآخرين وفخر، وأنه يسعى إليه سعياً حثيثاً ولو أدى إلى ما يؤدي إليه من الفساد، هذه تقول: نفسيتها مرهقة جداً، وهذه تقول: كثرت المشاجرات بيني وبين زوجي؛ لأن فلاناً يأتي من العمل متعباً فأي مشكلة بسيطة تثير الأعصاب، وهذه تقول: أولادي يفتقدون حناني، ولا يشعرون نحوي بما يجب من الشعور من الأم لولدها، وقد تعلقوا بالخادمة أكثر مني، هذا عيب كبير جداً أن يحدث.
وعليك -أيتها المرأة المسلمة- بتقوى الله سبحانه وتعالى، وإرشاد الأخريات، علميهن أن القراءة في كتب العلم الشرعي أهم من القراءة في زاوية طبق الشهر وطبق الأسبوع.
لا تكوني سلبية! استغلي مناسبات الأعياد والزيارات لإلقاء النصائح والتوجيه وكسب القلوب في مشوار الالتزام بالإسلام انصحي في ذات الله، الجارات الجيران مصدر للشر أو الخير، فإذا قمت على هذه الثغرة -وهي نصح الجارات- تكونين قد أديت حقاً عظيماً من حقوق الجيران، واحذري فالمؤمن ليس خباً ولا لئيماً لكن لا يسمح للئيم أن يخدعه، حذريهم من النزول إلى الأسواق نزولاً محرماً، أو الخلوة بالسائق الأجنبي، أو تضييع الأموال في الإكسسوارات والمكياجات والعطورات والملابس والأقمشة والأحذية والشنط، علميهن الاعتدال في هذه الأمور، وعلميهن الحشمة في الكلام مع البائع، ولتكوني أنت قدوة أمام الأخريات في هذا الجانب.
أنكري المنكرات مما يحدث في الأعراس من الأغاني الهابطة، والكلمات التي تخدش الحياء وتفسد الفطرة، وتكوني أنت أيضاً قائمة بثغرة إذا كنت تستطيعين المشاركة في استبدال هؤلاء المفسدات في الأعراس بنساء أنت معهن أو تأتين بهن من الطيبات اللاتي يقمن ببرامج نافعة وطيبة في تلك الليلة، وحاربي هذه المشاهد العفنة من الملابس القصيرة، أو الشفافة، أو شبه العارية، أو المليئة بالصور، والكتابات الأجنبية السيئة الموجودة على صدور المسلمات.
وحاربي الإسراف في الولائم والتبذير فيها، ولا يجوز لك السكوت عن منكر كرمي الطعام مع القاذورات، وكذلك حاربي الإسراف في جميع مظاهره، سواء في فستان العرس، أو ما شاكل ذلك من الأمور، وحاربي العادات التي تأتي من الكفار من الأمور المختلفة التي وقع فيها نساؤنا اليوم، وحاربي السخف الموجود في المجتمع عند النساء؛ من الآراء السخيفة، أو الأمور السخيفة، التي أضرب لها مثلاً بهذه الأشياء التي تأتي إلينا من دور الأزياء الغربية ولو كانت سخيفة، فهذا عطر برائحة البطيخ خرج وانتشر مع أنه لا ذوق فيه، ولا رائحة طيبة، لكن هكذا يحصل.
وكذلك -أيتها المرأة المسلمة- ينبغي أن يكون هناك مشاعر فياضة منك تجاه أخواتك، وحفظ الود، وعدم إفساد العلاقات بالغيبة أو النميمة أو الحقد، والحسد والنظرات العابسة والجبين المقطب الذي يؤدي إلى حصول القطيعة والشقاق، وتجلسين شهوراً لا تكلمين فلانة، وسنين لا تدخلين بيت فلانة لأتفه الأسباب التي لا ترضي الله سبحانه وتعالى، ليست سبباً شرعياً للهجر، وأنت تعلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرئٍ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث).
وكذلك فإنني أقول لك أيضاً: إنه ينبغي محاربة الفساد في البيوت مما يكون عند الأخت أو القريبة في صور أو مجلات وأفلام تكون موجودة في البيوت وأنت شاهدة عليها، ولو قلت: ما استمعت لي، وما انتصحت وما تأثرت، فأقول لك: إن المهم أن تقومي بما عليك من واجب الدعوة، وإقامة الحجة والنصح والبيان، انصحيهم بين حين وآخر.
وكذلك أقول لك: إن زيارتك لأخواتك في الله هذه من الطاعات والعبادات المهمة التي إذا تسنت الفرصة فيها بإذن الزوج أو ولي أمرك؛ الأب مثلاً فإنك تخرجين بالحشمة والملابس الشرعية، وتختارين الوقت المناسب واليوم المناسب للزيارة، وتجتنبين الزيارات المفاجئة دون موعد مسبق ولا استئذان كما يحدث لبعض النساء اللاتي يحرجن أخواتهن، ولا تطيلي مدة الزيارة لأنها تكون ثقيلة على أختك التي يكون لها مسئولية وهي زوجة وأم وربة بيت، وكذلك فإن عليك أن تتحفظي وقت الزيارة في الأقوال والأفعال، وعدم إيذاء الأخريات، وأن تحفظي أولادك من العبث بممتلكات الآخرين، وعدم توسيخ وتقذير بيوتهم، وكذلك أظهري الرضا والسرور بما يقدم إليك من الضيافة، وتجنبي كثرة المزاح الذي يؤدي إلى الحقد والاحتقار، وقومي بشكر صديقاتك عند نهاية الزيارة والدعاء لهن بالخير والصلاح والأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى.
هذا ما أردت أن أقوله في موضوع الثغرات التي تسدها المرأة المسلمة.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(54/8)
الأسئلة(54/9)
الفرق بين المحبة والتعلق بالأشخاص
السؤال
ما هو الفرق بين المحبة في الله وبين التعلق بالأشخاص؟
الجواب
المحبة في الله لها علامات، فمن ذلك: أن تحب المرأة صاحبتها وأختها في الله؛ لا لشكلها، ولا لمظهرها، ولا لملابسها، ولا لظرافتها، أو خفة دمها، ولا لحسبها ونسبها، ولا لمالها وغناها، وإنما تحبها لله، ومعني: تحبها لله أي: أنها كلما كانت أتقى لله كلما ارتبطت بها، ولو كانت امرأة مشلولة، ولو كانت امرأة مشوهة، ولو كانت امرأة فقيرة، فإنها تحبها لله وفي الله، كلما كانت أقرب إلى الله كلما كانت المحبة أكبر، أما التعلق والإعجاب والعشق، فلا يتوقف أبداً على الدين، فإنها تحب هذه وتتعلق بها لشكلها ومظهرها ونحو ذلك من الأمور، وهذه علاقات مدمرة، ثم إن المحبة لا تقتصر على امرأة معينة، فإنها تحب هذه وهذه، وتكلم هذه وهذه، وتزور هذه وهذه، وتقف مع هذه وهذه، أما التعلق والعشق فإنه يكون مقتصراً على امرأة معينة في الغالب؛ لا تمشي إلا معها، ولا تقف إلا معها، ولا تتكلم إلا معها، وتنكفئ عليها، وتصبح كل واحدة منهما حكراً على الأخرى، وهذا خطير جداً كما قلت، ويؤدي إلى إفساد العلاقة بين المسلم وبين ربه، ويؤدي إلى صرف بعض أنواع العبادة لغير الله سبحانه وتعالى.(54/10)
جواز رؤية المطلقة طلاقاً رجعياً
السؤال
إذا كانت المرأة مطلقة من زوجها من غير ورقة طلاق، هل يجوز لها رؤيته؟
الجواب
الطلاق الشرعي إذا حصل فإن الورقة لا تقدم ولا تؤخر من جهة الحكم، وإنما تؤخذ الورقة لضبط الشيء، أما الطلاق إذا كان قد حصل بشكل شرعي فقد حصل، وبناءً على ذلك فإنها إذا كانت في العدة وهي ثلاث حيض من وقوع الطلقة يجوز لها أن تجلس مع زوجها، وأن تكون معه في البيت، بل إنه لا يجوز للزوج أن يخرجها من البيت: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] أما ما يفعله بعض الفاسقات اليوم، وأقول: الفاسقات؛ لأنهن مخالفات لأمر الله، وكل من خالف أمر الله فهو فاسق، مجرد ما يطلقها زوجها تخرج من البيت، لا يجوز لها ذلك: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق:1] لأن الله سبحانه وتعالى جعل البقاء في البيت وقت العدة؛ لأن وراءه حِكَمْ لا تجوز مخالفته، لكن إذا طردها فهذا شيء آخر يتحمل الإثم، لكنها لا تخرج من تلقاء نفسها، إذا كانت الطلقة رجعية بعد الأولى والثانية.
أما الطلقة الثالثة فهذه لا تجلس عنده في البيت؛ لأنه لا فائدة من الجلوس، حيث أنه لا يجوز له أن يرجع إليها بعد الطلقة الثالثة، فلأي شيء تجلس؟(54/11)
حكم لبس العباءة المزخرفة
السؤال
ما حكم لبس العباءة على الكتف ولبس العباءة المزخرفة؟
الجواب
هذا من المنكرات التي انتشرت في المجتمع، الآن أنواع الملابس الغير الشرعية كثيرة جداً؛ هذا شفاف، وهذا قصير، وهذا ضيق، وهذا مطيب ومبخر، وهذا مزخرف، وهذا عليه ورود وألوان وحاشية، وفي أطرافه زينة تخرج به المرأة من أنواع الكشاكش والزينة وغيرها التي تكون موجودة على الثياب، وهذا حرام، هذه متبرجة بزينة فهي عاصية لله؛ مخالفة لما أمر الله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] وهذه تتبرج بزينة.
وأما لبس العباءة على الكتف فإنه يجسم الكتفين، لو رفعت العباءة على الرأس فلا يجسم الكتفين، وكذلك إذا لبستها على الكتفين فإن الخمار المشدود على الرأس يظهر حجمه، لو رفعت العباءة فوق رأسها ما أظهر حجم الرأس، ثم إن رفع العباءة فوق الرأس مطابق لما أمر الله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وإدناء الجلباب يعني: أن تلبس من الأعلى إلى الأسفل.(54/12)
حكم ركوب المرأة مع سائق الأجرة
السؤال
ما رأيك في النساء اللاتي يأتين إلى المركز والمستشفى بسيارة أجرة مع رجل أجنبي؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) فإذا كانت معها امرأة أخرى وكان السائق مأموناً جاز لها أن تنتقل، وإذا لم يكن معه إلا هي فلا يجوز لها أن تنتقل بهذه الطريقة، وجلوسها في بيتها خير لها من الذهاب ولو إلى مركز تحفيظ القرآن؛ لأن الذهاب صار معصية، ولا يجوز أن نتوصل إلى طاعة بالمعصية، لا يمكن أن نجعل طريقنا إلى طاعة بمعصية الله.(54/13)
نصيحة لتاركة الصلاة
السؤال
هل من نصيحة لتاركة الصلاة؟
الجواب
تاركة الصلاة يصبح عملها وكل ما ذكرناه الآن هباءً منثوراً بجانب ترك الصلاة، كل هذه التوصيات مبنية على أنها للمرأة المسلمة، فإذا كانت تاركة للصلاة صارت امرأة والعياذ بالله كافرة؛ إذا تركت الصلاة بالكلية خرجت من الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) امرأة أو رجل إذا تركتها كفرت، ويجب عليها أن تأتي بالشهادتين، وتغتسل، وتدخل في الدين، وتعاود الصلاة، وتتوب إلى الله سبحانه وتعالى، واعلمي أن الراجح من أقوال العلماء: أنه لا سبيل إلى قضاء الصلاة الفائتة عمداً أبداً، ولذلك عليك بالإكثار من النوافل علَّ الله أن يتجاوز عنك، ويكمل نقص فريضتك من النوافل والسنن.(54/14)
نصيحة لامرأة تدرس في مكان فيه اختلاط
السؤال
ما نصيحتك لفتاة أجبرتها الظروف على الدراسة في جامعة مختلطة، وحاولت بشتى الوسائل لكن لم تتمكن، ووالدتها ومعظم أفراد عائلتها منعوها من إكمال تعليمها في كلية البنات؟
الجواب
إذا وجدت أنها تتعرض لفتن فلا يجوز لها أن تجلس في المكان أبداً، يجب عليها أن تتركه وتغادره وترفض الذهاب إليه، فإذا غصبوها بالقوة وضربوها فالإثم عليهم، وعليها أن تحتشم قدر الإمكان، أما أنها تذهب طائعة مختارة وهي تملك ألا تذهب فلا يجوز لها ذلك.(54/15)
حكم الغش في الامتحانات
السؤال
هل الذي يغش في الامتحانات النهائية وامتحان الشهر فإن الأموال التي يكسبها حرام؟
الجواب
ليس ببعيد إذا كان يعمل بهذه الشهادة، ثم إن الغش حرام، وهو آثم حتى لو لم يعمل بالشهادة فالغش حرام.(54/16)
نصيحة لأولياء الأمور تجاه بناتهم
السؤال
بعض أولياء الأمور من الرجال أو النساء الملتزمات والملتزمين لا يعلمون عما يحصل في بيوتهم من المنكرات، حيث تقوم البنت باستخدام الهاتف استخداماً سيئاً للمغازلات، وقد يكون لها علاقة بالشباب، وهذا يرجع إلى عدم عناية الأب بأبنائه والتزامه لا يتعدى نفسه؟
الجواب
إذا علمت بذلك ماذا تفعلين؟ أقل شيء تنبهي أمها، وتقولي: ابنتك عليها ملاحظات في قضية استخدام الهاتف نعم، قد لا تخبريها بجميع التفاصيل وخصوصاً الأشياء التي لست متأكدة منها، أما الأشياء التي أنت متأكدة منها فإنك تبلغين عنها وليها أو أمها على الأقل جدتها خالتها عمتها وبعد استفراغ النصح من البنت إذا كنت تستطيعين نصحها، وهناك عدد من الفتيات أنقذهن الله من براثن المعاكسين والمعاكسة بفضله سبحانه، ثم بفضل بعض الداعيات الملتزمات، والنسوة اللاتي أحسسن بهذه الثغرة فقمن بسدها والقيام بنصح هذه الفتاة.(54/17)
ما يجوز للمرأة عند الحيض وما لا يجوز
السؤال
المرأة الحائض عندما تلبس ثوباً ثم تتركه ثم تلبسه مرة ثانية دون أن تغسله هل يصبح نجساً؟
الجواب
لا يصبح نجساً ما دام أنه ما أصابه دم الحيض فهو باقٍ على طهارته، وكذلك المرأة الحائض يجوز لها عقد النكاح في حال الحيض، كما يجوز للمرأة الحائض عقد الإحرام عند العمرة والحج، وهذا أمر يجهله كثير من النسوة، يعتقدن أن الإحرام في الحج من الميقات والعمرة لا يشمل الحائض، وتتجاوز الحائض الميقات من غير إحرام، وهذا عليه دم يلزمها، ولا يجوز لها أن تحرم بعد الميقات، تحرم من الميقات حتى لو كانت حائضاً، الحيض لا يمنع الإحرام يمنع الطواف بالبيت، كما أن الملكة للحائض جائزة يعقد عليها وهي حائض، لا مانع من ذلك، والمحرم هو وطؤها وليس عقد النكاح.(54/18)
حكم لبس المرأة الملابس الخليعة أمام النساء
السؤال
ما حكم لبس المرأة الملابس الخليعة أمام النساء؟
الجواب
حرام لا يجوز حتى ولو أمام النساء.(54/19)
حكم من وجد ورقة سحر
السؤال
وجدت عند الشغالة ورقة سحر؟
الجواب
أحرقيها، أو ألقيها في الماء والملح فإنه يفسدها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا أجمعين.
والحمد لله رب العالمين، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(54/20)
رسالة عاجلة في المشكلات الزوجية
في بداية هذا الدرس ذكر الشيخ أسباب حدوث المشكلات بين الزوجين.
كما بيَّن حل المشكلات التي تحدث بين زوجين أحدهما كافر، وكذلك المشكلات التي تحدث بين زوجين أحدهما فاجر.
ثم تحدث عن المشكلات الزوجية بين المستقيمين، ومن هذه المشكلات ضرب المرأة الاستيلاء على راتبها البخل وعدم الإنفاق على الزوجة إخضاع الزوج تأخر الزوج عن البيت شدة خوف المرأة من أشياء وهمية بحيث تعطل الزوج عن قضاء حوائجه الشرعية الدنيوية إلخ مع بيان الحلول والنصائح في ذلك كله.(55/1)
العمل على حل المشكلات لا تناسيها
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، الحمد لله الذي أنعم علينا بإباحة النكاح ليكون ذلك وسيلة مهمة جداً لبناء المجتمع المسلم الذي يتكون من الأسر المسلمة؛ ولذلك كان الحديث عن مشكلات الأسر المسلمة وإلقاء الضوء الشرعي على تكوينها وتركيبها وحل مشكلاتها ومعضلاتها من لوازم الأمور.
أيها الأخوة: يأتي الكلام على هذا الموضوع، في هذه المرحلة الحساسة وهذا الوقت العصيب، وأقول: إن الصحيح أن تحل المشكلات فوراً، مادمنا نعيش هذا الخطر، ومادمنا نعيش هذه الأيام التي لا ندري ما يكون وراءها وماذا ستلد والأيام حبالى؟ ولا أقول تناسي المشكلات، وإنما أقول: حل المشكلات؛ لأن بعض الناس قد يتناسون خلافاتهم أيام الخطر، فإذا زالت أيام الخطر، رجعوا إلى ما كانوا فيه، ولذلك نقول: حل الإشكالات وفض النزاعات حتى نستطيع أن نواجه الخطر بخلايا محكمة من الأسر المسلمة، وأن يكون هناك علاقة مودة ووئام وتراحم بين الزوج والزوجة.
أيها الأخوة: لقد هالني ما سمعته ووصل إلي شفوياً وتحريرياً من المشكلات الكثيرة من العدد الكبير الهائل من المشكلات التي تعاني منها الأسر والبيوت المسلمة في المجتمع، والحقيقة أنني كنت أفاجأ بين فترة وأخرى بكثرة هذه النزاعات والمشكلات، وهذا مما اطلعت عليه يمثل جزءاً قليلاً من الحجم الحقيقي الموجود في المجتمع، ولذلك فإن أهمية هذا الكلام تكون عالية؛ نظراً لكثرة المشكلات وشيوعها، حتى أنه لا يكاد يسلم بيت منها، وأنتم ترون جدراناً ونوافذ ولا تدرون ماذا وراءها! ولكن كثيراً ما يكون وراء هذه الحيطان وتلك الجدران مشكلات عويصة، وأمور خطيرة، لا يعلمها إلا الله عز وجل.
أيها الأخوة: لن نتكلم في هذا الدرس عن حقوق الرجل على المرأة في الإسلام، أو حقوق المرأة على الرجل في الإسلام، فهذا له موطن آخر، والكلام على قضية النفقة والكسوة والسكن والطاعة إلى آخره له مكان آخر، لكن نريد أن نلقي الضوء على بعض المشكلات التي تحصل، وأقول: إن الكلام سيكون عن أكثر من جانب، فالعلاقة والتعامل من أكثر القضايا الشرعية والأحكام الدينية المتعلقة بالرجل وزوجته، ولن نتكلم عن مشكلة الطلاق وأسبابها وعلاجها، ولن نتكلم عن تعدد الزوجات والعدل بينهن، فإن ذلك سيكون له مجال آخر وإن كنت أعدكم بأنني سأتكلم عن القضيتين الأخيرتين، الطلاق وتعدد الزوجات في مناسبات قادمة إن شاء الله تعالى.
أيها الأخوة: إن من أهم الطرق لحل المشكلات والخلافات الزوجية: النظرة الواقعية للأمور، فبعض الخطباء والوعاظ والمتحدثين إذا تكلموا عن هذه الأمور، أعطوا نظرة مثالية جداً لما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وقالوا للزوج: يجب أن تكون كذا وكذا، وللزوجة: يجب أن تكوني في الصفات الآتية، كيت وكيت، حتى أنه يندر أو يكاد ينعدم وجود هذه الصفات في أي زوج أو زوجة.
مسألة عدم وجود مشكلات زوجية على الإطلاق هذه قضية شبه مستحيلة، لا يكاد يوجد بيت إلا وفيه مشكلات، ولذلك الكلام عن بيت مثالي لا توجد فيه أي مشكلة بعد نوعاً من المستحيل تقريباً، ولذلك فإننا لا بد أن ننظر إلى الأمور بواقعية، ونحن نعلم من واقعية الأمور أن المشاكل لا بد أن تحدث.
ولكن القضية ليست الكثرة والقلة في هذه المشكلة؟ ولا بد أن نستعد نفسياً لمواجهة المشكلات.(55/2)
أسباب المشكلات الزوجية
عندما تأملت في الشكاوي الواردة في هذا الموضوع ظهر لي أن الشكاوى من جانب النساء أكثر منها بكثير من جانب الرجال، وهذا يعود لعدة أسباب في نظري: الأمر الأول: إن مبنى المشكلات والزوجية في كثير من الأحوال على الظلم، والظلم يتأتى من الرجل أكثر من المرأة، نظراً لأنه الجانب الأقوى.
ثانياً: أن الشكاية من النساء كثيرة -هذا الشيء مقابل تماماً للمسألة السابقة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في التعليل لسوء حال كثير من النساء: (تكثرن الشكايا).
ثالثاً: أن المرأة ضعيفة، فهي تشتكي، والرجل قد يكون عنده من المشكلات شيء كثير جداً، لكنه يحجم عن الشكوى؛ لأن الشكوى بالنسبة له عبارة عن نقطة ضعف، وهو لا يريد أن يظهر بمظهر الضعف، ولا يريد أن يقول للشيخ أو للواعظ أو للمحدث أو للصديق: إنني أعاني من مشكلات لا أستطيع حلها، وإنني ضعيف أمام زوجتي ونحو ذلك، ولذلك يحجم كثير من الرجال عن الشكوى بينما تكثر من النساء.
وأقول كذلك أيها الأخوة: إن الشرع يأمر الجميع بالإحسان، يأمر الرجل بالإحسان ويأمر الزوجة بالإحسان، ولكن حق الرجل على زوجته أكبر؛ من ناحية أن الشرع ندبها إلى إرضائه أكثر، وتجد الآيات والأحاديث في تبيان حق الزوج أكثر؛ لأنه هو القوام وهو الذي يقود السفينة، ولذلك يحتاج إلى طاعة ويحتاج إلى إعانة ومساعدة، ولكن في نفس الوقت لم يهمل الإسلام المرأة ولا حقها، وجاءت النصوص المتكاثرة بحقوق المرأة على زوجها.
ومن الأسباب التي تتحصل بسببها المشكلات الزوجية -بالإضافة للظلم- قضية العناد الذي يكون مترسباً في نفس الزوجة والزوج عند التعامل، بل إن صغر العقل -إن صحت التسمية- أو تعامل الأطفال -إن صحت العبارة كذلك- هو سبب مباشر لأخطاء التعاملات الزوجية كما ظهر لي.
وكذلك مسألة أن كل واحد منهما يريد إثبات شخصيته، وإزاحة الشخص الآخر عن موقع التأثير نهائياً، وإثبات الكيان وإثبات الموقف هو من الأسباب الرئيسية للمشكلات الزوجية.
وكذلك فإن الحساسية المفرطة عند المرأة -وهي مسألة مقابلة لظلم الرجل تقريباً- الحساسية المفرطة عند المرأة من أكبر أسباب المشكلات الزوجية كذلك.
ومن الأمور أيضاً: أن الواقع الحاضر في مسألة تعليم المرأة وعملها ووظيفتها، جعل هناك تفريطاً كبيراً في جانب النساء تجاه حقوق الأزواج، جعل الأمور تسير وكأنها طبيعية في قلة، أو تدني مستوى خدمة الزوجة للزوج، وكأن تقول له: هذه الحياة وماذا نفعل؟ لا بد أن نذهب إلى المدرسة، ولا بد أن نذهب إلى الكلية، ولا بد أن نذهب إلى الوظيفة، وأنت عليك أن تتحمل! وكأن هذا صار شيئاً واقعاً مفروضاً، مع أن الخلل قد يكون في أساس هذه المسائل.
وسيكون الحديث عن المشكلات -أيها الأخوة- على شقين: عندنا مشكلة تبدأ من الزوج أو الزوجة -والعياذ بالله- الكافرين المرتدين عن دين الله، وتنتهي بالمشكلات الطفيفة الموجودة في بعض البيوت، ولعل الكلام عن المشكلات المتعلقة بالزوج المرتد أو المرأة الكافرة، الأمر فيها يكون أوضح؛ لأن الحل في كثير من الأحيان قد يكون حلاً تغييرياً شاملاً، تغير الطرف الآخر وتنتهي القضية، ولا يمكن الاستمرار على تلك الحالة، ولكن الكلام الأكثر تعقيداً من جهة الحل وليس من جهة صعوبة الحالة هو في المشكلات التي تكون بين الأزواج الزوجات المسلمين، ولا بد أن نشير كثيراً إلى قضايا تتعلق بمشاكل الدعاة مع زوجاتهم، والمستقيمين مع زوجاتهم، إذ أن القضية تفاقمت كثيراً في الآونة الأخيرة حتى أن نسبة الطلاق ازدادت حتى بين كثير ممن يطلق عليهن ملتزمين وملتزمات.(55/3)
مشاكل زوجية بين زوجين أحدهما كافر
ونبدأ الكلام بذكر بعض الحالات من المشكلات الموجودة في البيوت ذات الطرف المرتد أو الكافر.
أيها الإخوة: عندنا مشكلات مستعصية جداً وحالات سيئة جداً، موجودة في المجتمع، تتمثل في أزواج وزوجات مجانبين لشريعة الله تماماً، وفي غاية الانحراف، وهاكم بعض الأمثلة الواقعية وأصارحكم بأني قد قضيت في تحضير هذا الدرس شهوراً عديدة، حتى توصلت إلى جمع كثيرٍ من النقاط المتعلقة بحال الأسر الآن من الواقع ومن الأخبار، ومن الأسئلة التي تأتي بعد الدروس في المساجد، حتى أن البعض سيظن من الكلام أنني أتكلم عن مشكلته هو شخصياً، أو عن مشكلة زوجته شخصياً مع أن الكلام أعم من ذلك؛ لأن الحالات تتكرر وتتشابه، فقد يظن البعض عند السماع أن هذا الكلام هو مسألته شخصياً فلان بن فلان الفلاني، وليس الأمر كذلك، فإن المسألة أعم وإن الحالات تتشابه والأمور متكاثرة، وإن الطيور على أشكالها تقع.
عندنا زوجات مكتويات بنار أزواج مرتدين عن دين الله، وقد يكون الزوج علمانياً، أو حداثياً، أو على أي ملة من ملل الكفر ومرتداً عن دين الله، تتمثل ردته عن دين الله باستهزائه بالدين وبالشرع وبالسنن المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، أو ترك أمور تخرج من الإسلام بالكلية كترك الصلاة نهائياً.
ماذا يكون حال امرأة زوجها يرفض الصلاة ولا يصوم ويريد أن يأتي زوجته في نهار رمضان في دبرها، وهو مع ذلك يهينها وإذا دعته للإسلام والشريعة قال: ما لك دخل ربي يحاسبني! وهو يطلقها في كل حين، وهي تظن أنها الآن تعيش معه بالحرام، ليس فقط من جهة حكمه الشرعي بأن الله يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] ولكن من جهة هذه الطلقات الكثيرة المتتابعة؟ ما هي حال امرأة تحت رجل إذا صلت أمامه ورفعت كفيها تدعو قال: أنتِ شحاذة، ما أنتِ إلا شحاذة، تشحذين من ربك، فيستهزئ بها في صلاتها، ودعائها؟ ما حال زوجةٍ تحت رجل لا يصلي ولا يصوم ويسكر، ويضربها ضرباً شديداً مما أدى إلى إسقاط جنينها؟ ما حال امرأة تحت رجل يدخل البيت مخموراً، ويضرب أولاده، وطلقها مرات كثيرةٍ جداً وهو يسب الدين ويلعن الرب ويحرم زوجته من المصروف يقول لها: اذهبي واشتكي؟ ما حال امرأة قد لعب عليها رجل باطني من ملة منحرفة عن دين الإسلام، فضحك عليها، وعقد عليها وتزوج بها وعندما رأى أن عندها بعض الأحاديث عن أبي هريرة رضي الله عنه مزقها وألقاها في القمامة ولما سألته قال: هذا كذاب هذا خبيث، هذا منافق وهكذا؟ ما حال امرأة إذا تحجبت قال لها زوجها: أنت مثل القرد، وأهله قد يمالئونه على الإثم والعدوان، يقول لزوجته: أنت عجوز، أنت قبيحة، أنت كبرت استهزاءً بالحجاب؟ ما حال زوجة قد أمهلها زوجها ثلاثة أيام لتكشف وجهها أمام إخوانه وإلا فإنه سيطلقها إذا رفضت، وهو لا يدخل بيته ولا ينام معها حتى تنتهي المهلة وسنتدرج معكم من الزوج الكافر المرتد إلى الزوج العاصي الفاسق الفاجر وهكذا.
ماذا يكون حال هذا النوع الذي ذكرناه قبل هذا المثال الأخير، الزوج المرتد، الزوج الكافر؟ وفي المقابل يوجد زوجات كافرات، ربما تسب الدين وتستهزئ بأهل الدين، وهي تاركة للصلاة بالكلية، وربما أنها متمردة على شرع الله، وتقول: الحجاب لا أعترف به، وهذه تعقيدات، الأوامر التي تقولون عنها في القرآن والسنة لا تناسب العصر، وتنادي بتحرير المرأة ونحو ذلك، ما هو حال مثل هذا الوضع الموجود؟(55/4)
العشرة لا تجوز بين زوجين أحدهما كافر أو مرتد
نقول: قال الله عز وجل: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فبين الله عز وجل أن الرجل المسلم لا يجوز له أبداً أن يتزوج من امرأة كافرة، إلا ما كان من المحصنات من أهل الكتاب، وبين الله عز وجل في هذه الآية أن المرأة المسلمة لا يجوز أن يعقد عليها رجل كافر لا يصلي أبداً، ويستهزئ بالدين ويفعل ويفعل من الأمثلة التي ذكرناها.
فإذاً الحل: أن العقد باطل ويجب التفريق بينهما، وأن المرأة ترجع إلى أهلها، إذا كان زوجها على الحال التي ذكرناها، وأن المرأة إذا كانت كافرة وزوجها مسلم فإن العقد باطل، وهو ينفصل عنها، ولا تجوز العشرة بينهما، وإذا استمر على العشرة معها، أو استمرت على العشرة معه إذا كان كافراً أو كانت كافرة، فإن الحال هو زنا وفاحشة -والعياذ بالله.(55/5)
المجتمع والدعاة يتحملون المسئولية
وإنني أتساءل كما تتساءل بعض النساء المظلومات التي تقول: كيف أخرج من البيت وعندي أولاد؟ زوجي كافر، وأنا أعلم أنه كافر، وقد أقمت عليه الحجة ونصحته بلا فائدة، كلمت الأقارب، استعنت بالأهل والأصدقاء، ليس هناك فائدة إذا ذهبت إلى بيت أهلي ماذا يحدث للأولاد؟ ثم إنها قد تقول: أكثر من ذلك إن أهلي يرفضون عودتي إليهم، ولو رجعت لردوني إليه، وقالوا: اذهبي إلى بيت زوجك، وليس لك عندنا مكان، أو تقول: لا أخ ولا أب ولا عائل، وليس لي أهل وأهلي في بلد بعيد، أو ليس لي أهل يؤونني إليهم، فماذا أفعل؟ أجلس في بيت أختي، وأضايق زوج أختي أم ماذا أفعل؟ إن هناك كثيراً من المشكلات المستعصية من هذا النوع، هذا نتيجة انحراف المجتمع عن شرع الله، ونتيجة شيوع التيارات الإلحادية الكافرة في المجتمع؛ نتيجة تخلف الدعوة وتخلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخلف التزام الناس بشعائر الدين، هذه واحدة من الآثار السيئة التي نعاني منها في المجتمع نتيجة الانحراف عن شرع الله عز وجل، إذاً المسئولية لا تتحملها المرأة فقط، يتحملها المجتمع كله بسبب حصول هذا التقصير، وإلا لو كانت الشريعة مطبقة تماماً لكانت هذه الحالات نادرة جداً.
ولكن مادامت تسمع يميناً وشمالاً ودائماً فمعناها أن هذه الانحرافات موجودة متكاثرة، وتعني بأن الحال لا زال من السوء بحيث يفرض علينا الإسلام أن نتحرك لمواجهة هذه الانحرافات، حتى يعود الناس إلى دين الله، وعند ذلك لا يكون هناك من الحلول إلا أن تجتنب إذا تعذر عليها الخروج من البيت، أن تجتنب الزوج وأن لا تكشف عليه، وأن تبتعد عنه، ولا تجعله يقترب منها؛ لأنه كافر وهي مكرهة، ثم أنه لو اضطرها للجماع وهو كافر بالقوة فهي مكرهة والإثم عليه، علماً بأنه يجب عليها أن تسعى بكل طريق من المحكمة إلى أي إنسان آخر، أو مصدر من مصادر القوة والسلطة من الابتعاد عن هذا الرجل الكافر، فلا خير مطلقاً في البقاء عنده، ولو كانت أخلاقه عسلاً مصفى.(55/6)
مشاكل زوجية بين زوجين أحدهما فاجر
رجل فاجر يقول لزوجته: يجب أن تكشفي وجهك عند إخواني، وإن لم تكشفي فسأطلقك، ويعطيها مهلة، أو يكون الزوج فاجراً يقيم علاقة محرمة مع الخادمة وتعلم الزوجة بأن ذلك الرجل زانٍ وأنه يفعل الفواحش، هذه ثلاثة خادمات رفضن الإقامة في البيت؛ لأن هذا الرجل يحاول أن يفجر بهن، وإذا كان الرجل أيضاً يفعل أموراً أخرى من الفواحش كأن يصر على وطء الزوجة في الدبر، ويقول: يكفينا العيال وأنا أريد أن آتيك من الخلف ونحو ذلك، فماذا يمكن أن تفعل؟ أو أنه يبلغ به السوء من أول ليلة الزفاف أن يضربها ويعطيها حبوباً مخدرة وأن يربطها ويأتيها بالقوة في المكان الذي حرمه الله عز وجل في الوقت الذي حرمه الله عز وجل مثلاً: في زمن الحيض.
فإذاً هناك نوعية أخرى من المشكلات، وبلغ من فجور بعضهم أنه ربما قطع الكتب الإسلامية لزوجته وأتلف الأشرطة التي عندها، ومنعها من طلب العلم، وماذا نفعل في زوجٍ فاسق؟ قد يكون مصلياً مسلماً، لكنه يشرب الخمر، وهي تأمره وتنهاه وهو يضربها، وهي تدفعه بقوة للصلاة فرضاً وراء فرض، حتى صارت الحياة مملة؛ لأنها سئمت هذا الرجل المتقاعس عن الصلاة الذي يصلي مرة ويترك مرة، وقد أخذ مصاغها ونقودها وهو يبقى ثلاثة أيام جنباً لا يغتسل؟ ما نفعل في زوج آخر قد يستهزئ من التزام زوجته بالدين، أي في بعض الشعائر واعتبر ذلك تزمتاً وتنطعاً؟ وقد يصلي ويفعل أشياء من الإسلام، لكن عنده هذه النظرة القاتمة النقدية إلى شيء من أمور الدين التي لا يمكن أن يتنازل عنها الشخص المسلم المتمسك بالسنة؟ هذه امرأة تقول: إذا دخلت السوق وقلت ذكر السوق وهو: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير إلى آخره، قال: بعدين يكفي، خلاص باسم الله يكفي، أنت تريدين إلقاء خطبة لماذا؟ لأنه حتى ذكر السوق لا يريد من زوجته أن تتلفظ به، أو أنه يريد أن يرغمها بالقوة على أن ما تفعله من العبادة رياء ونفاق، وهذه مسألة موجودة.
رجل آخر بلغ من فجوره أنه إذا رأى زوجته تتسنن وتصلي وتقوم الليل، وتقرأ القرآن وتدعو ربها، قال: هذا نفاق ورياء، وأنتِ تظنين نفسك مأجورة على هذا، كلا.
أنتِ لا تريدين وجه الله، وأنت تفعلين ذلك أمام الضيوف، وأنت وأنتِ، حتى بدأت المسكينة -فعلاً- تشك في نفسها أنها منافقة، وأنها مرائية من جراء هذه الألفاظ وهذه الحيل التي يأتي بها.
مسألة تكاسل بعض الأزواج عن صلاة الفجر نوع من الفسوق؛ حتى أنهم لا يصلون الفجر إلا بعد طلوع الشمس، ومنع النساء من حِلق الذكر ومن القراءة والاطلاع في المسائل الشرعية، إذاً هذه حالة أخرى من الفجور أدنى من الحالة السابقة، ماذا تفعل المرأة في مثل هذه الحالات؟(55/7)
حل المشاكل الزوجية بين زوجين أحدهما فاجر
بالنسبة للزوج المسلم الفاجر الفاسق، يجوز شرعاً للمرأة أن تبقى عنده، من ناحية الجواز يجوز، لا يمكن أن نقول لها: إن بقاءك مع الزوج المسلم شارب الخمر هو زنى أبداً، لكن ينبغي عليها أن تواصل في دعوته إلى الله عل الله أن يهديه، وبما أن الواقع قد أثبت أنه قد أمكن هداية كثير من الأزواج على يد زوجاتهم الصالحات، فإن الحالة الاستمرارية في الوعظ لا بد أن تستمر، لكن المرأة إذا لم تتحمل فجور زوجها، فإنه يحل لها شرعاً أن تطلب الطلاق، لأن بعض الرجال من فجورهم لا يمكن العيش معهم أبداً.
وكذلك في الجانب المقابل، فإنه يوجد زوجات فاجرات -كما وصفن- قد لا ترد يد لامس، وقد تقبل أن تعاكس بالهاتف، وتتكلم مع الأجانب، وتخرج من البيت بغير إذن زوجها، أو تذهب إلى محلات مريبة، أو ترفض لبس الحجاب، تقول: مقتنعة أن الحجاب صحيح لكن أنا لا أستطيع أن أغطي وجهي وأن أخنق نفسي، وترفض لبس الحجاب، وربما أنها وقفت في السوق معها ولدها الرضيع فأخرجت ثديها أمام الناس لترضعه.
ماذا يكون الحل إذاً في مثل ذلك؟ على الزوج أن يدعوها إلى الله، وأن يفعل كما أمر الله في التدرج في معاملة الزوجة العاصية الناشز، وخصوصاً عندما يكون النشوز ليس في مسألة عصيانه في بعض الأشياء الدنيوية، وإنما في قضايا شرعية، فيجب عليه أن يقوم بالوعظ والتذكير والتنبيه وأن يعمل من الإجراءات الشرعية المذكورة التي ستمر معنا ما يحمل به زوجته على شريعة الله، فإن أصرت وبقيت على فجورها فلا يمكن أن يستمر البيت على هذا، ولا يمكن أن يطمئن الرجل لأولاده وهم يعيشون مع مثل هذه المرأة الفاجرة السافرة، فعند ذلك لابد من الكي وهو آخر الدواء، ومفارقة تلك المرأة والاستغناء عنها؛ لأنها امرأة سوء، وامرأة مخربة، وسيبدله الله خيراً منها، ولو كانت جميلة وكان متعلقاً بها، ولو كانت غنية: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) وكان من الأسباب المانعة لرفع الدعاء، أن يبقى الرجل عند امرأته السيئة الخلق دون أن يطلقها.
والعجيب -أيها الأخوة- أن بعض الناس يتهاونون في علاج الوضع المتردي لزوجاتهم من ناحية الالتزام، فقد تتهاون في الالتزام شيئاً فشيئاً، أول ما يتزوجها تكون ملتزمة بالدين ثم تتراخى وتتهاون، وبالعكس قد يكون الزوج ملتزماً بالدين ثم يتراخى ويتهاون، وحصلت أمثلة كثيرة لهذا.
فإذاً: الدعوة والنصح، للوصول إلى إصلاح الأوضاع مطلوب، لكن إذا استحال الأمر ومضت فترة زمنية كافية للحكم على أنه لا يمكن الرجوع في هذا المنظور القريب، فعند ذلك يكون الفراق هو النهاية، لذلك فإنني أنصح كل رجل مستقيم إذا رأى نوعاً من التهاون في زوجته بأن وصل إلى مراحل فجور وفسوق عندها ألا يتهاون مطلقاً في العلاج؛ لأن بعض الأزواج قد ينشغل بعمله أو وظيفته -ربما أحياناً بالدعوة إلى الله- والمرأة تتردى في الالتزام وتتردى في مستواها الإيماني حتى أنها تصل في النهاية إلى حالة سيئة جداً، ويمكن أن أقول لكم عن قصة رجل تنازل عن كشف زوجته، قالت: أما الحجاب لا.
أنا لا يمكن أن أغطي وجهي، كل شيء إلا تغطية الوجه، وأصرت وألحت، وصممت، ورضخ الرجل وقال: حسناً! سكت عن كشف وجهها، وبعد ذلك صارت تحسر عن شعرها، وأكثر وأكثر حتى وصل الأمر أنه صارت تغازل الشباب بالهاتف، وتخرج مع فلان وعلان، فإذاً مسألة ترك الأمور حتى تستفحل دون أن تعالج علاجاً حاسماً من البداية هو أمر خطير جداً.
ومن العجيب أن بعض الأزواج يسافر ويشرب وزوجته متدينة، يقول: أنا الآن مبسوط جداً لماذا؟ يا جماعة أنا أنصحكم أن تتزوجوا نساء متدينات، لماذا؟ قال: لأني أخرج من البيت وأنا مطمئن، انظر هو فاجر، لكن يريد أن تكون مستقيمة، وهذه نوعية من الرجال موجودة، هو فاجر يعمل الفسوق، لكن يقول: لا.
هذه أم الأولاد، لا يشاركني فيها أحد، هذه متدينة، وقد يمجدها وهو إنسان فاسق، ولكنه متمسك بها، وعند ذلك ينبغي على الزوجة أن تستغل هذه العلاقة وهذا التمسك في جعل زوجها يستقيم على طريق الحق.
وإني أقول: إن كثيراً من النساء يملكن المفتاح والزمام، وإن المرأة قد تستغل أوضاعاً نفسية معينة في جعل زوجها يمشي على الطريق المستقيم، وهناك زوجات فاضلات إذا رأت عند زوجها صوراً أو أفلاماً أتلفتها، أو أشياء من المشروبات المحرمة ونحو ذلك كسرتها وأراقتها، ومنعت زوجها من السفر وضغطت عليه، وهناك كثيرٌ من الأزواج قد يستجيبون لنسائهم في هذه القضية، فينبغي على الزوجة ألا تتهاون أيضاً في العلاج الحاسم لمثل هذه الأمور.(55/8)
ستر عيوب الزوج أو الزوجة بعد التوبة أمر مطلوب
وأنبه هنا إلى أنه قد يقع شيء من الذنوب من الزوج أو من الزوجة، قد تقع -والعياذ بالله- فواحش من الطرفين، فماذا يفعل كل طرف؟ يعتمد على الحال التي تكون عليها القضية مثلاً: بالنسبة للزوجة، إذا تابت إلى الله توبة نصوحاً فستر عليها فالحمد لله، وإذا لم تتب إلى الله عز وجل فينبغي أن يفارقها، ولا يمكن لإنسان أن يعيش مع امرأة فاجرة، وكذلك هي لها الحق أن تطلب الطلاق منه إذا عرفت أنه إنسان فاجر زان مصر على الفجور والفواحش، فإذا حصلت التوبة فلا بد من الستر ولا يجوز فضح الطرف الآخر بأمور كان يفعلها في جاهليته الخاصة به، وهذه مسألة مهمة.
فإنني أعلم من الواقع أنه هناك كثيراً من الأزواج قد يعير زوجته بأمور باحت له بها في بعض المناسبات، وقالت له عن أشياء معينة وهي قد تابت إلى الله، وهو كل ما حصل مشكلة أو شيء قال: أنت كنت تفعلين، وكنت تفعلين، وبالعكس أيضاً يمكن أن يحدث ذلك لأشياء كان يفعلها الرجل في الماضي، لذلك -أيها الإخوة- عليكم بالستر الذي أمرنا الله به، ونحن لا بد أن نستتر بستر الله عز وجل، ولا داعي لأن تخبرها ولا لأن تعيرها بأشياء حدثت مادام تابت فيما بينها وبين الله عز وجل، ونبقى على الستر، ونبقى على ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الطهر والعفاف.
أما بالنسبة لبقية المشاكل التي هي أقل من هذا، بمعنى: أنك قد لا تصل إلى فواحش أو كبائر، لكن هي قد تكون معاصي كظلم أو أخطاء في التعامل ومخالفات واضحة جداً لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وحقوق المرأة على الزوج، كحقوق الزوج على زوجته.(55/9)
مشاكل زوجية بين زوجين ملتزمين وحلولها
فالآن دعونا نتكلم في هذا القسم الثالث -إن صح التقسيم- في هذه المشكلات التي تقع حتى بين بعض المستقيمين وبين زوجاتهم الملتزمات بشرع الله.(55/10)
(وعاشروهن بالمعروف)
أولاً: أيها الأخوة! كل المشاكل يمكن أن تعالجها بكلمتين من كتاب الله سبحانه وتعالى، ونحن لا ينقصنا العلم في بعض الأحيان إنما ينقصنا التطبيق، قال الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] لو كل رجل طبق هاتين الكلمتين فقط: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] لانتهت قضايا كثيرة جداً لا يعلم بها إلا الله، لكن لأننا نغفل ونهمل ونعصي الله عز وجل في المعاشرة بالمعروف؛ يقع الظلم في العلاقات الزوجية، وتقع الإشكالات.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أحرج عليكم حق الضعيفين، استوصوا بالنساء خيراً) تكفي هذه المقاطع يا أخي: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] (استوصوا بالنساء خيراً) (خيركم خيركم لأهله) تكفي هذه النصوص الشرعية في حملنا على العلاج، لكن القضية في الإرادة وفي مجاهدة النفس، هذا بالنسبة للرجل.(55/11)
أحاديث في وجوب طاعة الزوج
بالنسبة للمرأة يكفي أنها تلتزم بما أمر الله سبحانه وتعالى به من معاملة البعل بالإحسان وطاعته، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34].
(إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) حديث صحيح.
(أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة).
(لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) من عظم حقه عليها.
(والذي نفسي بيده، لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تجري بالقيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه) حديث حسن، رواه الإمام أحمد في المسند.
فالمرأة يكفيها هذه الأحاديث لتحل الإشكالات التي بينها وبين زوجها، ينقصنا تطبيق الشريعة، نحن نتكلم عن تطبيق الشريعة في قضايا الاقتصاد والسياسة، ونغفل عن تطبيق الشريعة على مستوى أدنى من ذلك في البيوت والأسر، ولو طبقنا الشريعة في البيوت لحُلت جميع المشكلات.
وانظر إلى الخطبة الرائعة التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع! الناس مجتمعون -مائة وأربعة وعشرون ألف شخص- مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ينتهز هذه الفرصة ليتكلم إلا إذا كان الكلام مهم جداً، وإلا لانتقى ما هو أهم منه، لكن ركز على أشياء في خطبته حجة الوداع، فقال: (إلا واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم، -أسيرات- ليس تملكون شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن ذلك فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلاً).
ثم الطرف المقابل، فلا ننسى الرجل ولا المرأة، بعض الناس يتكلم عن الرجال كأنهم هم المخطئون فقط، وينسى النساء، وبعض الناس يتكلم عن النساء كأن النساء هن المخطئات فقط، وينسى الرجال، وأنت ترى طريقة الشريعة والنصوص تعالج الجانبين معاً: (ألا وإن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) الحديث.(55/12)
العلاقة الزوجية تتطور من مرحلة إلى أخرى
وأريد أن أقول -أيها الأخوة- في مطلع الكلام عن المشكلات التي ذكرناها من قبل، نقطة من النقاط التي تحدث في الحياة الزوجية.
البداية أول ما يدخل الإنسان بزوجته أو يعقد عليها، من العقد إلى وقت نشوء المشكلات تمر الحياة الزوجية بمراحل بعد العقد في فترة أحاديث ودية جداً، وتبادل الأحاسيس والمشاعر، والإنسان يدخل حياة الزوجية ويحس أن له طرفاً آخر مرتبطاً به، وأنه مقبل على شيء جديد، وأن هذه لذة أباحها الله عز وجل، وأنه سيقيم الآن علاقات أسرية، ولذلك يبدأ كثير من الشباب يكلمون زوجاتهم التي عقد عليها، ماذا سنقرأ؟ وماذا سنسمع من الأشرطة؟ وكيف سنقوم الليل في المستقبل؟ وكيف سنربي الأولاد؟ ويتكلمون عن أحلام كثيرة وعن قضايا شرعية، ونسأل المشايخ وإلى آخره، ويتواصى معها، قرأت كتاب كذا، وسمعت شريط كذا، وهي تقول له: حفظت سورة كذا، وحضرت محاضرة كذا، وهكذا بالهاتف قبل الدخلة، بعد الدخلة فترة مجاملة.
فترة المجاملة هذه عبارة عن مدارات وكلام طيب وأشياء من العسل، ولكن فترة المجاملات هذه بعد حين من الزمن تبدأ في الانحسار، وإذا انتهت المجاملات ظهرت المشكلات؛ لأن بعد فترة المجاملات بعد الدخلة سواء كانت أسبوعاً أو أسبوعين، شهراً أو شهرين، المهم في فترة مجاملات كل واحد يحاول أن يغطي عيوبه عن الآخر، ويحاول أن يراعي نفسية الآخر ومشاعر الآخر، والآن هما مقدمان على حياة جديدة وعلاقة جديدة، ويريد أن يكسب ودها وتكسب وده وهكذا.
بعد فترة المجاملات تظهر الشخصيتان على حقيقتهما، تبدأ المجاملات تنحسر وتبدأ المشكلات تظهر، وتبدأ عيوب الزوج وعيوب الزوجة في الظهور، مثلاً: قضية العناد كانت مخفية فالآن ظهرت، قضية عيوب في التعامل وأشياء في الاحتكاك قوي كان غير موجود في فترة المجاملات والآن ظهر، وتبدأ المشكلات والاحتكاك والمصادمة، وقد تكون الطبائع فيها اختلاف لكن في فترة المجاملات كان في تغطية من الطرفين، فإذا انحسرت المجاملات تبدأ قضية المصادمة والمشكلات والعناد، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والضرب إلى آخره من الأشياء الموجودة في الحياة الزوجية.
بعد فترة المصادمة هنا البيوت تختلف والأزواج يختلفون والزوجات يختلفن، فبعد انتهاء فترة المجاملات تأتي فترة المصادمات، ظهور العيوب والمشاكل، بعد فترة العيوب والمشاكل يبدأ كل طرف بالتعود على عيوب الطرف الآخر، ويبدأ كل منهما في استيعاب مشكلات الطرف الآخر، ويبدأ كل منهما أو أحدهما بمحاولة تضييق فجوة الخلاف، ومحاولة التكيف مع هذه العيوب، وهذه الأخطاء الموجودة، ومحاولة مداراة كل واحد للآخر خصوصاً إذا صارت المسألة فيها أولاد، وتبدأ الحياة تسير سيرها الطبيعي، فالمشاكل موجودة لكن وجد الاعتبار، وربما أعقبه وئام إذا وفق الله وحصل التقاء بعد ذلك، ولكن هذه الفترة الأخيرة، المرحلة الأخيرة ربما لا تحدث، وربما تستمر المصادمات والمشاكل إلى أن تنتهي القضية بالطلاق أو الموت.
وهذه المراحل التي ذكرتها تحدث في الأحيان العادية، ولكن ليس كل الزواجات تنتهي بالمواءمة في النهاية، وليس كل الزواجات فيها مشاكل في البداية فربما يكون الزواج سلساً جداً، ولذلك لا يغفل المرء لحظة واحدة عن الإقبال على الله عز وجل في أن يختار له الخير، ويختار له الأحسن والأفضل، ونحن الآن نتكلم بعد فترة المجاملات، وقد سبق أن تكلمنا في محاضرة (المرأة المسلمة على عتبة الزواج) وكانت موجهة للمرأة قبل الزواج إلى العقد، نحن الآن نتكلم في هذه اللحظات، وما سيليها من كلام، ليس بعد فترة العقد، ولا ما بعد العقد من الملاطفات، ولا ما بعد الدخلة من المجاملات، نحن نتكلم الآن عن تلك المرحلة عندما تبدأ العيوب في الظهور، وهي الفترة التي يعيشها ربما كثير من الأزواج والزوجات.(55/13)
مشكلة السب والشتم عند الزوجين
من المشاكل الزوجية: قضية تعيير أحد الطرفين للآخر وأضرب لكم أمثلة: بعض الرجال يعيرون زوجاتهم بعيوب خلقية، يا عرجاء يا حولاء، يا قصيرة، يا ذميمة، وهي تقول له مثلاً: أنت يا بدين، يا سمين ونحو ذلك من الألفاظ، قضية التعيير مشكلة من المشكلات، وربما يكون إنساناً عنده سوء بحيث أنه قد يعيرها بحادث أصابها، العيوب الخلقية ليست ذماً للشخص ولا للمرأة بل هي من الله، كيف إذا كان هذا العيب نتيجة حادث معين قدره الله على الرجل أو المرأة؟ فإذاً هذا إثم كبير أن يقول لها: أنت فيك وفيك، واذهبي عالجي نفسك، سبحان الله! كأنه لا علاقة له أبداً في القضية أي: علاج زوجته.
وقد يكون السب والشتم بكلمات نابية، قضية العقم، إذا كان الزوج لا ينجب أو الزوجة لا تنجب، أثناء المصادمات يعيرها يقول: أنتِ يا عقيم، أو تقول له: أنت يا عقيم، وأنت الذي أنا صابر عليك وصابر على عدم إنجابك، وصابرة على أن السبب منك، وتنزل عليه، أو ينزل عليها في المقابل، قضية العقم هذه من الله عز وجل: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49 - 50] وسبحانه وتعالى على كل شيءٍ قدير، حكيم عليم.
ومن قضايا الشتائم والسباب التي تحدث: مسألة اللعن، مع الأسف قطاع لا بأس به من الأزواج والزوجات بينهم لعن متبادل، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، فإذا قلت لها: لعنة الله عليك، معناه: أنك تدعو الله ألا يدخلها في رحمته، وإذا كانت هي بريئة، وإذا كنت ظالماً ومتعدياً في اللعن، فاللعن يرجع عليك، تصعد اللعنة إلى السماء وترجع إلى الأرض فإن كان الملعون يستحقها أصابته، وإن كان الملعون لا يستحقها رجعت على اللاعن، وكم من لعنٍ في اليوم يحدث من كثير من الأزواج والزوجات في البيوت؟! الذي يقول: لعنة الله عليك، ولعن الله وجهك وقفاك وإلى آخره من ألفاظ اللعن وهي قد تبادله الشيء الآخر.
ومسألة الألفاظ الجارحة: اقلبي وجهك، الله يقطع هذا الوجه، أنت عقدة في نفسي وحياتي، وإذا لم أذهب بك إلى مستشفى المجانين ما يكون اسمي فلان، ولا أريد أنظر رقعة وجهك، أكلك سيئ وأكل المطاعم أحسن منه، أنا سوف أحطم حياتك وحياتي مع بعض أو أنت لا تفهمي، أنتِ هندية، أنتِ بقرة أو يا غبية، أو يتفل عليها أمام أولادها، المشكلة أمام الأولاد، وكم يكون لذلك من أثر سيئ على نفسية الأولاد، وعقد لا يعلم بها إلا الله تتركز وتترسب في نفسيات الأطفال، ثم بعد ذلك تكون عندنا العقد، ويصير الأطفال انطوائيين، أو فيهم عيوب قد تكون في الكلام واللسان، أو غير مبدعين وغير منتجين، أو أطفال يكون عندهم قصور في جوانب حتى في وظائفهم الجسدية، وأطفال عندهم عقد نفسية، ولا يجرءون على مواجهة المجتمع، ولا يحل مسألة ولا يتكلم في الفصل أمام أستاذ ولا أمام الطلاب إلى آخره، والسبب هو ما يرى هذا الولد يومياً من المشكلات والسباب والشتائم التي تحصل بين أبيه وأمه.
من الأشياء الموجودة: قضية الإهانة، قد تكون الإهانة باللفظ، مثلاً أن يقول: أنا أخذتك من الشارع، انظر أنا أخذتك من الشارع! نقول: أيها الأخوة: إن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] وقال الله عز وجل: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].(55/14)
ضرب الزوجة
ومشكلة أخرى من المشكلات في الحياة الزوجية: قضية الضرب؛ الضرب يحصل في الغالب من الرجل، أي من النادر أن تسمع أن زوجة ضربت زوجها، لكن الغالب أن الظلم في هذا يقع من الرجل، فهو الذي يحمل العصا أو الأنبوب البلاستيكي أو الحذاء ويضرب زوجته، ويد الرجل غير جلد المرأة وجسمها، فهذا الضرب إذا كان في غير مشروع فهو حرام وهو ظلم وتعدٍ يأثم الرجل عليه، وإذا كان نزل منها دماء، فأول ما يقتص يوم القيامة في الدماء، والجرح الذي يجرحه به الزوج زوجته لن يضيع عند الله، حقوق العباد لا تضيع، وكم من ظلمة في البيوت؛ بعضهم كسر عظم زوجته، أو جرحها وأسال دمها، أو كسر سنها، وربما عطل شيئاً من حواسها، أو أسقط جنينها، ونحو ذلك في قضية الضرب، وربما لا تستطيع أن تمشي، ثم إن هذا الضرب إذا علم في جسدها وصار علامة خضراء أو حمراء أو سوداء في الجسد، كيف تقابل الناس؟ وعندما يكون هذا في الوجه، كيف تقابل أهلها، وكيف تقابل الجيران بالضرب؟ ثم إن الضرب في الوجه أصلاً حرام، غير أن الضرب إذا كان غير مشروع فهو ظلم، كما إذا كان الضرب في الوجه فإنه يكون حراماً، ولذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه، فأما بالنسبة لقضية الضرب فإليك هذه الأحاديث المبينة: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ذأرن النساء على أزواجهن) أي: تمردن، أنت منعت الضرب، فبعض النساء العاصيات الناشزات أخذن راحتهن لما عرفن أن الضرب ممنوع، فرخص عليه الصلاة والسلام في ضربهن، ولكن ضرب من؟ ضرب الناشز -العاصية- فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يشتكين للنساء، جاءت نساء المدينة إلى نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجاته تشتكي كل واحدة إلى امرأة من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأطاف بآل بيت محمد نساء يشتكين أزواجهن، ليس أولئك بخياركم) الرجال هؤلاء الذين يضربون ظلماً ليسوا بخياركم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ائت حرثك أنى شئت، وأطعمها إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ولا تضرب) لا تقول: قبح الله وجهك، ولا تضرب في الوجه، والآن الضرب الذي يحصل في كثير من البيوت هو تعدٍ لحدود الله؛ لأنه ليس عقاباً تعزيرياً مشروعاً للناشز؛ لأنه قد تكون المرأة مطيعة، وإنما تضرب لأتفه الأسباب، أو تضرب ظلماً، هناك أناس عندهم نزعة سادية -كما يقولون في مذاهب علم النفس- يتلذذ بالتعذيب، عنده تعذيب الزوجة مسألة فيها لذة لنفسه، ولذلك فهو يشفي غليله ويريح نفسه إذا ضرب، فإن لم يضرب فلا يستريح، فهذه النوعية السيئة يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً: (يعمد أحدكم فيجلدها جلد البعير، ولعله يضاجعها في آخر النهار!) أي: يلفت نظرنا، يقول: يا جماعة! يعمد أحدكم إلى امرأته فيجلد امرأته جلد البعير، ضرب مبرح جداً يعلم في الجسد، وفي آخر النهار يقول: تعالي للفراش، أي: كيف تتوافق القضية، كيف تتناسب هذه مع بعضها، كيف ينتقل من مرحلة الضرب الشديد إلى مرحلة الملاطفة؟! فهذا التناقض الذي يعيشه بعض الرجال مع زوجاتهم يعبر عن نفسية سيئة.
على الأقل لابد للإنسان قبل أن يضرب بأن ينصح إذا أخطأت ونشزت ولم تنتصح، إذا وعظت وهجرت في الفراش، فلم تجد فائدة فعند ذلك يُلجَأُ إلى الضرب، بعد أن يستنفذ جميع الحلول يلجأ للضرب، أما الضرب من أول شيء فخطأ ولو كانت المرأة مخطئة: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] هنا ترتيب كما سنتكلم بعد قليل.(55/15)
منع الرجل امرأته من الخروج معه إلى السوق
هنا مشكلة: بعض النساء تقول: زوجي لا يذهب بنا إلى السوق أبداً، ويقول: أنا أشتري لكم جميع الأشياء حتى ملابس النساء، وحتى ملابس الأولاد هو يشتريها.
السوق لا شك أنه شر البقاع عند الله، وليس من المحمود أبداً التجوال في الأسواق لكثرة ما فيها من منكرات -على الرجل وعلى المرأة- لكن من أين يشتري الإنسان حاجته؟ لا بد أن يكون عندنا نظرة واقعية في السوق، ينبغي على الإنسان أن يتحين الأوقات التي يذهب بها إلى الأسواق، في أوقات لا يكون فيها ازدحام.
قضية ثانية: هناك بعض الأشياء في السوق لا تحسن شراءها إلا المرأة، وقليل من الرجال الذين يعرفون النوعيات الجيدة أو المناسبة للأطفال أو الأشياء المناسبة، المرأة التي هي ستلبس، على الأقل يكون عندها حرية في الاختيار والأشياء التي ستلبسها، أقل شيء يجعلها ترى بعض الأشياء، مثلاً: ألوان الأقمشة، إذا كنت مصمماً على الأقل تقول لك: أريد من هذا النوع بدلاً من أن تقول لها: أن الذي سأتحكم فيك وفي لبس الأولاد، أنا الذي سأشتري وأنت عليك أن تلبسي كما أريد وكما أنتقي، وربما هو لا يفهم شيئاً في ملابس النساء والأطفال، ويشتري أشياء غير مناسبة، حتى الأشياء التي فيها تشبه بالكفار من أنواع الملابس والأشياء المحرمة قد لا تدركها إلا الزوجة، فإذاً ليس من الصحيح القذف بالزوجات في الأسواق وترك الزوجة في السوق بدون رجل، فتكون عرضة للأذى من الغادي والرائح وتحصل المنكرات العظيمة، وربما تؤدي إلى فواحش -والعياذ بالله- هذا حرام لا يجوز، وفي نفس الوقت لا بد من مراعاة حس المرأة في مسألة شراء الأشياء المناسبة لها ولأولادها من السوق، بعض الناس لا يستطيع أن يفرق بين الملابس الرجالية والنسائية، فيذهب يشتري لبنته شيئاً يصلح للذكور، وقد يشتري لولده شيئاً لا يصلح إلا للبنات.
ولكن أول شيء إذا أنزلت زوجتك إلى السوق أنزلها في وقت لا يكون فيه السوق مزدحماً بالمنكرات، وثاني شيء لا تكثر التنزيل للسوق، وثالث شيء أن تلبي لها رغبتها في أن تشتري ما يناسبها بنفسها.(55/16)
إهانة الزوج أو الزوجة بالفعل
وقضية أخرى من القضايا: وهي مسألة الإهانة، نحن تكلمنا سابقاً في الإهانة بالقول، فلا يفوتنا أن نتكلم عن الإهانة بالفعل.
هناك رجالٌ يهينون زوجاتهم، كيف تكون الإهانة؟ كأن المسألة أنه يريد أن يكسر رأسها وأن يكسر أنفها، طبعاً أقصد الكسر المعنوي، وليس الكسر الحسي، الكسر المعنوي بأن يرغمها لأن تكون خاضعة ذليلة عنده، وأن تكون مثل العبد عند سيده تماماً، بحيث أنه لا رأي لها ولا شخصية ولا كلمة، وأن تكون حقيرة مهينة أمامه، فمثلاً: بعض الرجال يعتمدون سياسات خاطئة في معاملات الزوجات من جهة الإذلال وتحطيم الشخصية ومسحها تماما، ً فهو يريد ألا يرى أمامه أي رأي وأي كلام وأي نقاش، فهو يريد أن تسكت وتخرس ولا تقول أي كلمة، وهذا دائماً شأنه في كلامه، دائماً هذه كلمة: اسكتي هي عنوان الحديث، وربما أن بعضهم إذا دخل البيت يمد رجله وهو واقف حتى تنزل هي وتخلع الجورب ولا بد، وينبغي كذلك أن تخلع له حذاءه، وإذا جاءت له بكوب الماء أن تكون واقفة عند رأسه حتى يشرب، ولو ظل يشرب كأس الماء على نصف ساعة، لا بد أن تكون واقفة مثل الصنم عند رأسه، ولا تتكلم ولا تتحرك ولو صاح الولد ولو حصل ما حصل من الطبخ على النار، وأقول لكم: إنه عليه الصلاة والسلام كان يراعي زوجاته ويراعي مشاعرهن جداً، اسمع إلى هذا الحديث: إن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً -المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لضرورة، عيادة مريض أو تشييع جنازة أو لقضاء حاجة، كغسل، وطعام لا يستطيع أكله في المسجد- قالت صفية: فأتيته أزوره ليلاً في المسجد -وهو معتكف- فحدثته ثم قمت لأنقلب إلى البيت، فقام معي ليقلبني -محافظته على زوجته، ومن حمايته لها ومراعاته مشاعرها، قام معها ليرجعها إلى البيت بنفسه عليه الصلاة والسلام، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنها صفية، على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، إني خشيت أن يقذف في قلوبكم شراً، أو قال شيئاً) الحديث رواه البخاري وغيره.
تأمل كيف قام معها من المعتكف ليرجعها إلى البيت، المرأة بدلاً من أن تذلها ينبغي أن تحيطها وتحميها، خذ لك هذا المثال الآخر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل قال: (لما أولم الرسول صلى الله عليه وسلم بـ صفية قال: ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحوي لها من ورائها بعباءة -أي: يحيطها ويشملها بها- ثم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته فتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب) هذا هو التواضع وهذه هي الرحمة والشفقة والإحسان ومعاملة الزوجة! رواه البخاري وغيره.
ينبغي أن نشير في المقابل إلى أن بعض النساء عندهن قضية إذلال الزوج وعدم تلبية رغباته، فبعض الزوجات من إهمالها لزوجها إذا أمرها أن تضع الطعام، كأنه يشحذ منها شيئاً، أرجو أن تضعي الطعام، وإذا دعاها إلى الفراش كذلك كأنه يشحذ منها شحاذة، ويتوسل إليها توسلاً، وبعض النساء عندهن من قضايا الإهمال وقضايا حب تركيع الزوج -إن صح التعبير- في هذه المسائل أمور سيئة جداً، وهذا مما يسبب على المدى الطويل كره الزوج، فيقول الزوج: أتحمل إلى متى؟ إلى متى أذل نفسي؟ كلما أردت أن أدعوها إلى الفراش، لا بد أن أذل نفسي حتى تأتي وأتوسل إليها، وآتي بعبارات كثيرة جداً؟ ولذلك أمرها الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تأتي وإن كانت على قتب) وإن كانت على تنور وعلى فرن وهي تخبز، تترك كل شيء وتأتي إلى فراش الزوج، لأن الزوج لا يعلم نفسيته الآن، قد يكون رأى شيئاً في السوق، رأى امرأة في الشارع، قد يكون ثار في نفسه رغبة الآن لا بد من تحقيقها، والزوج إذا ما لبت رغبته بالحلال فلماذا تزوج؟! من أجل أن تأتي وتتمنع عليه، وترفض طلبه، ولا تأتي إلا بعد التماسات وبعد توسلات لا يمكن هذا! لا يمكن أن يكون هذا من شريعة الله في العلاقات الزوجية! ولئن كنا تكلمنا عن تسلط الزوج في أشياء فهناك تسلط لبعض الزوجات، فكأنها هي القوامة والمتحكمة في البيت والمتحكمة في الرجل، توجهه يميناً وشمالاً شرقاً وغرباً، اشتر لا تشتر اذهب لا تذهب، حتى تتحكم فيه في قضايا عمله الخاص به، افعل ولا تفعل.(55/17)
المرأة الموظفة ذات الراتب وحق الزوج في راتبها
نأتي الآن إلى مشكلة أخرى، وهي قضية الزوجة الموظفة ذات الراتب وحق الزوج في هذا الراتب، وماذا يحدث في هذه المشكلة؟ أول شيء: الأصل أنها في البيت تخدم زوجها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لكن قد يحصل أن المرأة تعمل في عمل مباح، بحشمة كاملة، وبيتها خير لها، لكنها تعمل في وظيفة معينة، فمن الذي عليه النفقة؟ الزوج ولا خلاف في ذلك، سواء كانت الزوجة ثرية جداً تملك الملايين، أو كانت معدمة فقيرة جداً، ولذلك بعض الأزواج يرتكب خطأ عندما يقول لزوجته: أنت عندك إرث من أبيك لماذا تكلفيني؟ أنا لا أعطيك أي شيء، عندك أموال وأراضٍ وعقارات.
هل رأيت شيئاً في الشريعة اسمه إذا كانت الزوجة ثرية فإن النفقة تسقط على الزوج؟ لا يوجد هذا.
إذا رضيت لك وجادت بأن تعطيك من مالها، أو أن تسقط النفقة عنك، وتقول: أنا أنفق على نفسي وأنت وفر مالك، قد تحتاج لأن تبني بيتاً، يمكن أن تحتاج مصروفات للمستقبل، تشتري سيارة؛ هذا من طيبها وجزاها الله خيراً إن فعلت ذلك.
بالنسبة للوظيفة، إن شرطوا عليك في عقد الزواج أن تعمل والنقود لها فلا يجوز لك أن تمنعها من العمل وراتبها لها، إذا رضيت بالشرط إلا إذا صار العمل في حرام أو في منكرات، ولا إشكال أبداً في هذا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط بالوفاء ما استحللتم به الفروج) لكن لو لم يكن هناك شرط، تزوجت وهي موظفة؟ فالمرأة قد تأخذ راتباً وفي بعض الأحيان يكون راتب المرأة أكثر من راتب الرجل، راتبه أربعة آلاف خمسة آلاف، وهي راتبها في التدريس مع الخبرة يصل إلى سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فيطمع الرجل في نقود زوجته، ويقول: بدلاً من أن تصرفيها على أهلك وجارتك وزيناتك وملابسك، أنا أحق فيها هاتيها، فيريد أن يأخذ راتبها بالقوة.
هنا لا بد أن ننظر نظرة فيها عدل، حالة ما فيها شرط في العقد، الآن الزوجة عندما تذهب إلى العمل هل تخل بشيء من حق الزوج؟ أنا أقول لكم
الجواب
نعم ولا شك، لا يمكن للواحدة أن ترجع منهكة من العمل ويكون طبخها أحسن ما يمكن، وترتيب بيتها أحسن ما يمكن، والعناية بالأولاد أحسن ما يمكن، واستقبال الزوج أحسن ما يمكن، هذا لا يمكن أن يكون أبداً، لا بد أن يحدث تقصير في حق الزوج.
إذاً: يمكن أن تحدث عملية مفاهمة واتفاقية غير مكتوبة ومعلنة، كأن الزوج يقول لزوجته في هذه الحالة التي نتكلم عنها الآن: مقابل أن عندك تقصيراً في حقوقي وواجباتي فإن من المناسب أن تعطيني من الراتب شيئاً يعادل التقصير في الحقوق الذي نتج من الوظيفة التي أنت تعملين فيها، فإذا اصطلحا على نسبة تعطيها إياه من الراتب مثل النصف أو الربع، أو الثلث ونحو ذلك، فإن هذا جائز شرعاً ولا غبار عليه بل هو أمر محمود، وذلك مقابل خروجها من البيت وربما ترك الأطفال عند الخادمة أو ترك الأطفال في حضانة أو نحو ذلك، وعدم ترتيب البيت، والرجوع منهكة من العمل وربما لا تعطيه حقه في الفراش تماماً أو في الطبخ أو إلى آخره.
هناك فرق بين الزوجة في حيويتها التامة عندما تستقبل الزوج، وفرق بين الزوجة المنهكة عندما تستقبل زوجها المنهك، فإذا حصل هذا الاتفاق فهو أمر طيب جداً، ويمكن أن يتفاهم عليه شفوياً، يقول: هلا سمحت لي بجزء من الراتب مقابل الوظيفة وخروجك من البيت؟ فإن طابت نفسها فالحمد لله، انتهت المشكلة هنا، لكن المشكلة تكون إذا منعها من الوظيفة وقد شرط ذلك في العقد، والعمل ليس فيه محرم، فلا يجوز له ذلك، ولها أن تطلب الفسخ، بعض الرجال يعمد ظلماً فيستولي على جميع ممتلكات زوجته، لأنه لا يوجد شرط في العقد.
تريد أن تمنعها من العمل لك الحق، لكن لا تستول على أموالها كلها دون رضا منها، هذا حرام يا أخي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) لا يجوز لك أن تفعل هذا، وبلغت الدناءة ببعضهم أنه تقدم إلى خطبة امرأة عندها شهادة، يقول: أشترط لكي أتزوج بنتكم أن تشتغل وتعطيني الراتب! حصل هذا، وهذا الأخذ للاستيلاء على المال الذي يحصل أنه يسلبها راتبها كله لا يبقي لها شيئاً، والمرأة عندها -مثلاً- هدايا، صديقتها أنجبت مولوداً، تريد أن تهدي لصديقتها شيئاً بهذه المناسبة، تريد أن تهدي هدية لأمها أو لأبيها تبرهما من راتبها، تشتري شيئاً لنفسها، وهو يسلب الراتب كله ويضعه باسمه في البنك، ويقول: نحن نعمر ونبني بيتاً ونفعل، وربما يصرفه وربما يتزوج به زوجة أخرى عليها من مالها.
الزواج بالثانية حلال، لكن أن يصل الكيد إلى درجة أنه يستولي على راتبها؛ لكي يتزوج ويكون مهر الثانية هو راتب الأولى فغير حسن.
وبعض الناس ما عنده زوجات موظفات، مهنة زوجته ربة بيت -ونِعمَ المهنة! - فتقع عندها مشكلة مالية أخرى وهي مصروفات الزوجة، تريد ثياباً وأدوات زينة، وأغراضاً شخصية، هدايا إلى أهلها إلى صديقاتها، وليس لها مصروف، فتقع النزاعات؛ تقول الزوجة: أنت لا تعطيني شيئاً، الذي تعطيني قليل، الزوج: لا.
هذا يكفيك أنت مبذرة، الزوجة: أنت ظالم، أنت بخيل، الزوج: أنتِ مسرفة، ويقع المشاجرات في هذه القضية.
فالآن ينبغي للواحد أن ينظر إلى المسألة بعين العدل والإنصاف، يا أخي! إذا وسع الله عليك وسع على أهلك، وهذا شيء تؤجر عليه، النفقة تؤجر عليها، والتوسعة تؤجر عليها، وهذه أقرب الناس لك زوجتك، فإذا كان عند الرجل سعة في المال، فلماذا لا يجعل لها مصروفاً جيداً؟ وهو متأكد أنها تصرفه في الحلال إن شاء الله، أما إذا كان في الحرام فلا يعينها بقرش واحد.
الآن عندنا طريقتان للإنفاق، إما أنها تطلب ويعطيها، مثلاً: خاطت ثوباً، خاطت فستاناً، تقوم أنت وتعطيها أجرة الخياط.
تقول لك: أريد أن أشتري هدية لأهلي، فتقوم أنت وتعطيها مالاً لذلك.
الحالة الثانية: بعض الناس عندهم نظام محاسبي، يعني: يريد أن يبرمج نفسه ويمشي على نظام معين ويعرف مصروفاته ومدخولاته، فهو إنسان مرتب، قد تكون المصلحة له أن يعمل لزوجته مصروفاً شهرياً، ومما يحل النزاعات أحياناً عمل مصروف شهري، افرض -مثلاً- أعطيتها في الشهر حسب راتب الشخص ألف ريال أو سبعمائة أو خمسمائة، بحسب راتبك أنت والتزاماتك قد يكون راتب الزوج خمسة عشر ألف ريال، لكن عنده التزامات قد يعول أكثر من عائلة، وعنده بناء بيت وأقساط سيارة، فإذاً ليست المسألة فقط أن تقول: أنت راتبك خمسة عشر ألف ريال لا بد أن تعطيني، لا.
قد يكون عليه التزامات.
فإذاً: مصروف الزوجة الشهري يحدد بناء على راتبه ومصروفاته والتزاماته، والناس يتفاوتون في الالتزامات، وليسوا سواء في المستويات الاجتماعية، هناك أناس صرفهم أكثر من أناس، هناك أناس -مثلاً- اجتماعيون وعندهم عزائم وولائم، وأناس انعزاليون انطوائيون نوعاً ما، لا يدخل الضيف بيته إلا نادراً، فيكون مصروفهم أقل، البعض حجم عائلته عشرة أشخاص، وواحد حجم عائلته اثنان.
فإذاً المسالة لا بد أن تراعى فيها هذه العوامل، ثم بعد ذلك يرتب لزوجته مصروفاً شهرياً يعطيها في أول الشهر، مثلاً: إذا استلم الراتب أعطاها، هي بعد ذلك حرة توفر منه، تنفقه كله في أول يوم، تنفق منه إلى آخر الشهر هذا يرجع إليها، وهذه المسألة مجربة ونافعة في حل كثير من المشكلات المالية التي تنشأ بين الزوجة وزوجها، بدلاً من أن تتخيل المرأة أن زوجها ما أعطاها شيئاً وأنه بخيل، وبدلاً من أن يتخيل هو أنه أعطاها، أو أن يتمنى كل واحد على الآخر، يقول مثلاً: أعطيتك في تلك المرة كذا، وأعطيتك كذا، وأنتِ لا تذكرين الجميل، وأنتن تكفرن العشير، صحيح أنه يحصل منهن كفران العشير، لكن قد يكون الزوج أحياناً متعدياً في الأوصاف، فإذاً قد تحدث مثل هذه، تكون قضية المصروف حلاً، وقد يكون كل ما لزمها أعطاها، ولا يرد لها طلباً مادام معقولاً والحمد لله تمشي الأمور.(55/18)
الزوج البخيل
نأتي الآن إلى مسألة أخرى، ومشكلة عويصة، وهي الزوج البخيل، الزوج البخيل يتصور في الزوج لا في الزوجة، الزوجة قد يكون فيها بخل لكن ينعكس أكثر إذا كان من الزوج، ويظهر أثره السلبي الواضح في الأسرة، بعض الأزواج الحقيقة أنهم لا يخافون الله في الصرف على العائلة وحتى الأولاد، فمثلاً: البيت قذر، البلاعات تطفح، ويخرج ما فيها في البيت، الروائح كريهة، ودهان الجدران مقشر، والمكيفات لا تعمل، والثلاجة تفح بالماء، والغسالة معطلة، والأشياء تتلف في البيت تدريجياً، وهو من بخله لا يصرف ولا ينفق، ولا يصلح البيت، وقد تكون عنده قدرة لشراء بيت جيد، وإذا أنعم الله على عبده فإنه يحب أن يرى أثر نعمته عليه، ومع ذلك لا يصرف شيئاً في البيت، بالنسبة للمصروف لا يعطيها مصروفاً ولا تشتري ثياباً، وربما تكون ثيابها التي عليها هي ثياب أختها.
الطعام قد يكون مقتراً في البيت جداً ولا يأتي بالأكل؛ حتى أن بعض الجيران قد يشفقون عليهم ويلاحظون فيعطونهم على الغداء وعلى العشاء؛ لأنهم يعرفون أن زوج هذه المرأة لا يشتري شيئاً حتى الطعام، ما في الثلاجة إلا الخبز، وربما لا تفطر ولا تتعشى إلا خبزاً وشاهي فقط، بعض الناس عندهم عجائب في هذا الجانب، ولا يدري إلا من سمع وتقصى الأخبار، وربما لا يدخل اللحم إلى البيت إلا في العيدين -من العيد إلى العيد- عقيقة الأولاد ربما لا يذبحها من بخله، إذا جاء ضيف قال: قولي له: غير موجود، ينعزم ولا يعزم، وهذا الوضع سيئ.
ربما بعض الأزواج تصل بهم الدناءة أن أهم شيءٍ عنده إشباع بطنه، فمثلاً: يمكن أن يُعزَم في العمل إلى وليمة أو شيء من هذا القبيل، لكن لا يهتم أبداً هل عندهم طعام في البيت أم لا، المهم أنه تغدى وملأ بطنه، والزوجة والأولاد أكلوا أم لم يأكلوا الأمران عنده سواء، وبعضهم من البخل لا يشتري ألعاباً لأولاده، واللعب للأولاد شيء ضروري، وقد لا يشتري لهم حلويات، حتى أن بعض النساء يمكن أن تجمع من ضيافات الناس، عندما تذهب إليهم وتقول: والله أخبيها لعيالي؛ لأن أباهم عمره ما أتى لهم بقطعة حلويات، تقول: أنا الآن أهلي يصرفون علي، آخذ نفقتي من أهلي، وربما نشتري أغراض البيت من أهلي، أنا الآن أبي زوجني لكي يتخفف عنه بعض المصروفات، وإذا بي جئت عبئاً عليهم بمصروفي ومصروف زوجي وأولادي وهذا شيء حاصل، وربما أخوها يعطف عليها ويعطيها، فإذا كان الوضع بهذا الحال، فماذا تفعل الزوجة يا ترى؟ عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلمه -مضطرة تشتكي وهذه ليس غيبة؛ لأنها مضطرة أن تشتكي حالها، لا بد من إيجاد حل، وهذا أمر عائلي مستمر، هذه ليست عيشة ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين، هذه حياة مستمرة، وهذه مشكلة متأصلة ولا بد من إيجاد حل- قال صلى الله عليه وسلم لها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم.
وبناءً عليه يكون عندنا حكم شرعي مقر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن المرأة إذا بخل عليها زوجها يجوز لها أن تأخذ ما تحتاج بالمعروف، الشرط: بالمعروف، تأخذ من جيبه حتى لو لم يعلم، تأخذ وتصرف على نفسها وبيتها وأولادها وهو لا يعلم، ولا تعتبر سرقة ولا يعتبر حراماً، بشرط أن يكون بالمعروف، أما أن تختلس منه وتسرق وهو ينفق عليها وغير مقصر معها، فإنه لا يجوز لها ذلك أبداً، ويا ويلها عند الله إن فعلت ذلك وأخذت ماله بغير علمه.(55/19)
شدة الخوف من المرأة
ننتقل إلى مشكلة أخرى: بعض النساء عندها طبيعة الخوف: فهذه المرأة تخاف من الظلام، وتخاف من الحشرات كبيرها وصغيرها، وتخاف من الوحدة في البيت، وتخاف من الأصوات إذا صارت خارج البيت، وهذا شيء نراه طبيعياً نوعاً ما، لكن أحياناً قد يزيد جداً بحيث أنه يصبح أمراً غير طبيعي، ويصبح هذا الخوف معطلاً للزوج عن قضاء مصالحه الدنيوية والشرعية، فلا يستطيع أن يذهب إلى جلسة علم، ولا يصلي الفجر في المسجد؛ لأن الزوجة خائفة وتتمسك به: أرجوك لا تخرج ولا تذهب، هناك شيء في الخارج، هناك لص، وإذا سقطت كرة الأولاد على البيت فقفز أحدهم يأتي بها، فهنا قد تقطعت أمعاؤها، واصفر وجهها، وسقطت مغمىً عليها.
صحيح أن الرجل أثبت فؤاداً وأقوى جناناً، لكن ليس بصحيح أن المرأة تصل إلى هذه الدرجة من الخوف، ثم إن المسألة إذا صار فيها تعطيل الزوج عن شيء شرعي، مثل: صلاة العشاء أو صلاة الفجر أو محاضرة بحجة: لا تتركني وحدي وتذهب تصلي.
لابد أن تتعود غصباً عنها.
نحن نتكلم بشرط أن يكون الرجل مؤمِّناً لزوجته المسكن المناسب، أي: الإجراءات الأمنية في البيت، أي: الأقفال والأبواب والمفاتيح والسور وهذه أشياء موجودة متوفرة، وبشرط كذلك أن يثبت أن الزوجة كلامها أوهام لا يوجد سارق ولا أصوات إنما هي أوهام ووسوسة تأتي بها هذه المرأة الخوافة إلى نفسها، فعند ذلك تتعود مع الزمن، ويكون الزوج له مواقف حاسمة وجادة في هذه القضية، ومسألة ترك واجبات وترك صلوات من أجل هذا لا يمكن أن يحدث.(55/20)
تأخر الزوج عن الرجوع إلى البيت
الآن ننتقل إلى مشكلة أخرى وهي تأخر الأزواج عن الرجوع إلى البيت، بعض الرجال يعكف عند زوجته مرابطاً طيلة الوقت ويقول: أيها الإخوة! آسف! حلقات العلم أعتذر عنها، أنا تغيرت حياتي وتزوجت وصار عندي مسئولية، وأنا إنسان الآن في أسرة، فأنا أعتذر منكم عن جميع الأشياء العلمية والحلقات الشرعية، وأعتذر عن دعوة فلان وفلان؛ لأنه متعلق بزوجته تمام التعلق بحيث إنه لا يفارقها لحظة واحدة، كله مع الزوجة، لا عطاء في الدعوة لا في طلب العلم، ولا عطاء للمجتمع، ولا زيارات اجتماعية، ولا صلة رحم، ولا دعوة الجيران والأقارب إلى آخره، هذه الأشياء كلها راحت مع الزواج، وهذا قد يكون منعطفاً من المنعطفات السيئة.
في المقابل: بعض الأزواج، عندهم العكس تماماً، سبحان الله! الأمور دائماً تكون بين إفراط وتفريط، الحق وسط بين طرفين، فيتأخر دائماً في الرجوع إلى البيت، لا تراه زوجته إلا نادراً، لا يراه أطفاله أبداً لأنه أصلاً عندما يرجع إلى البيت متأخراً يكون الأطفال قد ناموا، فيحرم الأولاد من ملاعبة أبيهم لهم وحنانه عليهم، وتربيته وتأديبه لهم؛ لأنه دائماً خارج البيت بعض الناس قد يذهبون في أشياء شرعية، لكن بعض الناس يذهبون في أشياء دنيوية، وتقول: إن زوجي لا يرجع من العمل إلا في الساعة الثالثة في الليل، هذا ليس نظاماً بل هذا شتات، هذا رجل عنده وظيفة عادية -تجارة- لكن من فرط انشغاله بتجارته لا يرجع إلا متأخراً في الليل، العمل والأشغال والأعمال والتجارات وهكذا، وبعضهم قد تكون أسباب الانشغال أو التأخر أشياء شرعية: كنا في حلقة علم، كنت مع شباب طيبين كنت في مشروع خير وكذا.
فالآن لا بد أن يكون الإنسان متوازناً، فلا هو الذي يمتنع عن عمل الخيرات ويلتصق بالبيت، ولا هو الذي يرجع دائماً متأخراً في الليل، قد تستطيع أن تجعل لك يوماً أو يومين أو ثلاثة تخرج من البيت وقد تتأخر، لكن لماذا تتأخر طيلة أيام الأسبوع؟ ثم إن الأزواج يختلفون، بعضهم قد يكون عنده مسئوليات دعوية وعلمية كثيرة جداً، وبعضهم قد يكون عنده مسئوليات قليلة في هذا الجانب، والزوجة لا بد أن تعذر زوجها من أي نوع، مثلاً: امرأة الزهري تقول: إن كتبه أضر عليّ من ثلاث ضرائر؛ أي: من عكوفه على العلم، وفرق بين العالم وغيره؛ أي: زوجة العالم ينبغي أن تعذره أكثر من زوجة الإنسان العادي، وزوجة طالب العلم أو زوجة الداعية ينبغي أن تعذره أكثر من الشخص العادي الذي ليس عنده إمكانيات في هذا الجانب.
أرى أن الوقت انتهى تقريباً وأرى أن المسألة ما اكتملت، وانظر إلى المشاكل ما أكثرها، فالله يكفينا شر المشكلات، ولذلك الظاهر أنه ينبغي أن نعدكم بمحاضرة أخرى نكمل فيها الكلام على بقية المشكلات، والحقيقة أن هذه أشياء واقعية واجتماعية مأخوذة من الواقع وليست أجنبية أو غريبة، ونسأل الله سبحانه تعالى أن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يوفقنا لحياة زوجية مستقرة، وأن يرزقنا تقواه في السر والعلن، وصلى الله على نبينا محمد، وإلى لقاء قادم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(55/21)
آداب عيادة المريض
في هذا الدرس عرض لأبيات من قصيدة الآداب لابن عبد القوي؛ مع خلاصة من شرحها غذاء الألباب للسفاريني؛ تعرض فيها الشيخ حفظه الله لزيارة المريض وفضلها وآدابها وبعض أحكام التطبيب، وأحكام قتل الحيوانات، وما يستحب قتله وما يكره وما يحرم، وبعض آداب الطعام والشراب.(56/1)
فضل زيارة المريض
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: مما يعز علي في هذا المقام أن يكون هذا الدرس هو آخر درسٍ في سلسلة الآداب الشرعية، ولعل الفرصة تتاح -إن شاء الله- لإكمال هذه الآداب في مناسبةٍ قادمة، وفي ختام هذه السلسلة في هذه الأيام، لعلنا نتم الكلام عن بعض أبيات القصيدة التي ابتدأنا فيها، وهي قصيدة ابن عبد القوي رحمه الله تعالى.
وكنا قد ذكرنا بعض أبيات هذه القصيدة العظيمة فيما سبق، ونختار أبياتاً أخرى من النصف الثاني من هذه القصيدة، لشرح بعضها والتعليق عليها، يقول رحمه الله تعالى:
ويشرع للمرضى العيادة فائتهم تخص رحمةً تغمر مجالس عود
أي: أن العيادة للمريض مشروعة، فائتهم، فإنك تمشي في الرحمة وتخوض فيها في ذهابك ومجيئك، وتكون مغموراً بالرحمة أثناء جلوسك فيها، والعود: جمع عائد.
فسبعون ألفاً من ملائكة الرضا تصلي على من عاد ممسىً إلى الغد
إذا عاده في المساء صلوا عليه إلى الصباح.
وإن عاده في أول اليوم واصلت عليه إلى الليل الصلاة فأسندِ
إذا عاده في الصباح واصلت الملائكة عليه الصلاة إلى الليل، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا المقصود بقوله (فأسندِ) أي: أسند الحديث في عيادة المريض والأجر فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(56/2)
آداب الزيارة(56/3)
تخفيف الزيارة أو تطويلها حسب حالة المريض
فمنهم مغباً عده خفف ومنهم الذي يؤثر التطويل من متوَرِّدِ
من المرضى من يكون مغباً يعاد يوماً فيوماً، ومعنى الغب: قيل هو من (غب الإبل) وذلك إذا كانت تشرب يوماً وتترك يوماً، فقوله: فمنهم مغباً عده، أي: عده يوماً واتركه يوماً، وقال بعضهم: إذا أراد أن يكون غباً، أي يوماً في الأسبوع.
فمنهم مغباً عده خفف، أي لا تطل الجلوس عنده، (ومنهم -أي ومن المرضى- الذي يُؤثر التطويل من متوردِ) والمتورد: وهو طالب الورود، وهو الذي يحب التطويل من الذين يقدمون عليه، والمرضى يختلفون، بعضهم يريدك أن تطيل عنده وتزوره كل يوم، وبعضهم قد يمل ويتعب من كثرة الزيارة والإطالة، ولذلك لابد من مراعاة الحال، ولذلك قال رحمه الله تعالى:(56/4)
لا تنكد على المريض بكثرة الأسئلة
وفكر وراع في العيادة حال من تعود ولا تكثر سؤالاً تنكدِ
لا تكثر السؤال على المريض: متى جاءك المرض؟ وما هو شعورك؟ وكيف حالك؟ ونحو ذلك، كما يفعل بعض طلاب الطب مع المرضى.
(ولا تكثر سؤالاً تنكدِ) تنكد على المريض.(56/5)
استعمال أهل الذمة
ومكروه استئماننا أهل ذمةٍ لإحراز مالٍ أو لقسمته اشهد
أي: يُكره أن نجعل الأمانة عند أهل الذمة لأنهم أعداؤنا في الدين فلا يؤتمنون، نعم إن منهم أمناء: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] أي إلا إن كنت تطالبه باستمرار.
(لإحراز مالٍ) أي: لحفظه، (أو لقسمته اشهدِ) أي: اشهد بذلك واعتقده ولا تعدل عنه، فإنه يُكره أن نستأمنهم وأن نستعملهم في قسمة الأموال، وأن نجعلهم ممن يوزعون الرواتب مثلاً.(56/6)
الاستطباب عند أهل الكتاب
ومكروهٌ استطبابهم لا ضرورةً وما ركبوه من دواء موصدِ
ويكره أيضاً أن نستعمل النصارى واليهود وأهل الكتاب في الطب ولو كانوا أهل ذمة، لكن إذا دعت الحاجة والضرورة فلا بأس بذلك.
ولذلك قال رحمه الله: (ومكروهٌ استطبابهم لا ضرورة) أي: في حال الضرورة لا يُكره ذلك.
(وما ركبوه من دواءٍ موصدِ) الموصد: المنسوج والمركب الدواء، أي: أيضاً يُكره اللجوء إليهم في تركيب الأدوية وأخذ الأدوية منهم، فإنهم قد يخلطون معها أشياء من المسمومات أو النجاسات، لأنهم قوم لا دين لهم صحيح، فربما جعلوا فيها سموماً من باب الخيانة، أو جعلوا فيها أشياء من النجاسات، لأنهم لا يحترزون عن النجاسات، وكثير من الأدوية المركبة فيها نجاسات، أو مأخوذة من النجاسة، أو ربما يكون فيها أشياء مما يُسكر.(56/7)
من أحكام التطبيب(56/8)
حكم تطبيب الذكر للأنثى
وإن مرضت أنثى ولم يجدوا لها طبيباً سوى فحلٍ أجزه ومهد
إذا مرضت أنثى من المسلمين طببتها أنثى مسلمة، فإن لم توجد أنثى مسلمة، فطبيبة كافرة، فإن لم توجد، قال: (ولم يجدوا لها طبيباً سوى فحلٍ)، قال في الشرح: أي لو كان هناك خصي أو كان خُنثى فهو أولى من الفحل الذكر، لكن إذا لم يوجد إلا الطبيب الذكر الفحل فـ (أجزه) أي: أجز تطبيبه للمرأة للضرورة، ويقدم الطبيب المسلم على الطبيب الكافر.(56/9)
حكم الحقنة في المخرج
ويكره حقن المرء إلا ضرورةً وينظر ما يحتاجه حاقنٌ قدِ
الحقنة: إيصال الدواء من المخرج إلى الجوف بالحقنة، ويكره حقن المرء إلا ضرورةً لما في ذلك من التعذيب وكشف العورة، لكن لو احتاج إلى الحقنة، فلا بأس.
ويكره حقن المرء إلا ضرورةً وينظر ما يحتاجه حاقنٌ قدِ
أي: وعلى الحاقن الذي يضع الدواء أو الحقنة في الشرج أن ينظر على قدر الضرورة ولا يتعداها.
كقابلةٍ حلٌ لها نظرٌ إلى مكان ولادة النساء في التولدِ
ومثل الحاقن الذي يحتاج إلى النظر إلى العورة لوضع الحقنة مثله في إباحة النظر للحاجة والضرورة مثل القابلة، والقابلة هي التي تولد، أحل لها النظر إلى مكان ولادة النساء، ومكان ولادة المرأة العورة الكبرى، فيجوز لها النظر إليها في حال الولادة.(56/10)
حكم إبانة عضو به آكلة وحكم قطع البواسير
ويكره إن لم يسر قطع بواسر وبط الأذى حلٌ بقطع مجودِ
وكذلك قطع البواسير ولكن إذا لم يكن يسري ولم يكن يضر، فلا بأس به، وبط الأذى مثل الدمامل والقروح، إخراج ما فيها من صديد، إذا كان الذي يخرجها جيداً لا يضر، لأن بعض الناس قد ينبشها فتضره.
لآكلة تسري بعضوٍ أبنه إن تخافن عقباه ولا تترددِ
إذا أصاب الداء أو الآكلة عضواً واحتاجوا إلى بتره فـ (أبنه) أي اقطعه وابتره، (إن تخافن عقباه) أي: سريان الداء إلى مواضع أخرى في الجسد، مثل بعض الأمراض كالسرطان أو غيره، وإذا أصاب الداء عضواً وكان ينتشر يضطرون في بعض الأحيان لقطع العضو، فما حكم قطعه؟
الجواب
لا بأس بذلك، لأجل المصلحة العظيمة في قطعه أو درء المفسدة الكبيرة، ويلف ويدفن.(56/11)
حكم الكي
وقبل الأذى لا بعده الكي فاكرهن وعنه على الإطلاق غير مقيدِ
أي: اكره الكي قبل المرض، أما بعد المرض إذا حصل فلا بأس به، (وعنه على الإطلاق غير مقيدِ) أي: جاء أيضاً عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية عنه بكراهية الكي على كل حال، لكن نقول: الكي إذا لم يكن له حاجة لا يستعمل، فإذا صار له حاجة فإن وجد ما يغني عنه يترك، لأن فيه استعمال النار، وفيه نوعاً من المثلة، لأنه يشوه مكان الكي، ولذلك لا يستحب فعله، لكن إن دعت الحاجة إليه ولم يكن إلا هو فلا بأس بذلك، فإن آخر الدواء الكي.(56/12)
حكم الخصاء
وفيما عدا الأغنام قد كرهوا الخصا لتعذيبه المنهي عنه بمسندِ
أي: وفيما عدا الأغنام يُنهى عن الخصا، وهو قطع الخصيتين، لكن في الأغنام يباح، والسبب أنه أطيب للحمها، وقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين موجوءين خصيين.
فقطع خصيتيه لهذا لا بأس به لأجل طيب لحمه وما ينتج عنه لأجل المصلحة، لكن غيره لا يُقطع، ولذلك قال: (وفيما عدا الأغنام قد كرهوا الخصا لتعذيبه) لماذا لا يجوز الخصاء؟ لأن فيه تعذيباً ومثلة.
(لتعذيبه المنهي عنه بمسندِ) المسند: الحديث المسند مثل حديث الصحيحين: (لعن الله من مثل بالحيوان).(56/13)
قطع قرون الدواب وشق آذانها
وقطع قرونٍ والأذان وشقها بلا ضررٍ تغيير خلقٍ معودِ
وأيضاً مما يُنهى عنه قطع القرون، قرون الشاة مثلاً (والأذان) هي الآذان، فهي أيضاً لا تُقطع، لأن الشيطان قال كما حكى الله عنه: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء:119]، (وشقها): شق الآذان، (بلا ضررٍ تغيير خلقٍ معودِ) لماذا لا يقطع قرنها ولا تشق أذنها؟ لأنه من تغيير خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: (تغيير خلقٍ معودِ)، أي: الخلق المعتاد، لا نفعله لئلا نغير خلق الله.(56/14)
أحكام قتل الحيوانات(56/15)
ما يستحب قتله
ويَحسن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ
انتقل رحمه الله لبيان بعض ما يتعلق بأحكام قتل الحيوانات، قال: (ويحسن في الإحرام والحل) في الحل والإحرام (قتل ما يضر) سواء كنت محرماً أو غير محرم، وفي حدود الحرم أو خارج حدود الحرم، يجوز لك (قتل ما يضر بلا نفعٍ)؛ لأن الحيوانات على ثلاثة أقسام: منها: ما ينفع بلا ضرر، ومنها: ما يضر بلا نفع، ومنها: ما ينفع ويضر، وسيأتي حكم كل واحدٍ من هذه الثلاثة.
قال:
ويحسُن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ
والنمر: ضربٌ من السباع فيه شبهٌ من الأسد، غير أنه شرسٌ جداً، لا يملك نفسه عند الغضب، وربما قتل نفسه من شدة الغضب، فهذا يجوز قتله في الحل والحرام، والمرثد: اسمٌ من أسماء الأسد، والأسد له عند العرب أكثر من خمسمائة اسم، ومن أشهر أسمائه عندهم أسامة والحارث وحيدرة والهزبر والضرغام والضيغم والعنبس والغضنفر وقسورة والهرماس والليث؛ فمرثد هنا من أسماء الأسد، ولذلك قال:
ويحسن في الإحرام والحل قتل ما يضر بلا نفعٍ كنمرٍ ومرثدِ
فالأسد مما يباح قتله لأنه من السباع الضارية المعتدية، لكنه إذا ترك فريسةً لا يعود إليها، وإذا ولغ الكلب في ماء لا يشربه، فهو يأنف أن يشرب من الماء الذي ورد فيه الكلب.
قال:
وغربان غير الزرع أيضاً وشبهها كذا حشرات الأرض دون تقيدِ
أي: أن الغربان يجوز قتلها، مثل الغراب الأبقع، لكن إذا كان من غراب الزرع، فلا يجوز قتله للمحرم، لأنه من الصيد، لجواز أكله، وغراب الزرع منقاره أحمر، فلا يصيده المحرم، وإنما الذي يقتله المحرم الغراب المعروف الذي لا يكون في الزرع وسمي الغراب بهذا لأنه أسود.
ومما يشبه الغراب مما يقتل الحدأة والقنفذ أيضاً فإنه يباح قتلها في الحل والحرم، وهو خبيث لا يؤكل؛ فالصحيح أنه لا يجوز أكله ولو ذكي.
(كذا حشرات الأرض دون تقيدِ): والحشرات كثيرة مثل الصرصور وغيره، وضرب لها أمثلة في البيت الذي بعده فقال:
كبقٍ وبرغوثٍ وفأرٍ وعقربٍ ودبرٍ وحيات وشبه المعددِ
فالبق معروف، والبرغوث هو من الحشرات التي لها أداةٌ تمص بها الدم، حتى إن بعض الظرفاء قال:
لا تسب البرغوث إن اسمه برٌ وغوثٌ لك لا تدري
فبره مص دمٍ فاسدٍ وغوثه الإيقاظ للفجر
والفأر هو الجرذ، والعقرب هي من أفتك ما يدب على الأرض، حتى إنها تقتل الحية، وكم تهلك الأفاعي بسموم العقارب! ومنها أنواعٌ إذا لدغت إنساناً تساقط لحمه وتناثر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله العقرب لا تدع مصلياً ولا غيره) وجاء أن العقرب لدغت النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء أن عقرباً لدغت أحد أصحابه، فأراد صاحبٌ له أن يرقيه، فاستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن له، وقال: (إن استطاع أحدكم أن ينفع أخاه بشيءٍ فليفعل) فالرقية من سم العقرب مشروعة.
الدَبْر: جمع دبور، وهو الزنبور، وقد جاء في الحديث الصحيح: أن عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه لما قتله المشركون أرادوا أخذ جثته، وكان قد عاهد الله ألا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك، فأرسل الله الدَبْر، فأظله، فجاءوا ليأخذوه فلم يستطع المشركون أخذ جثته لأن الدبر -الزنابير- قد أظلته، فلم يستطيعوا مد أيديهم إليه.
والزنبور مما يحل قتله وربما تجتمع الزنابير على رجل فتقتله، وقد ذكروا أن رجلاً كان مع صحبه، فسب أبا بكر وعمر، فبعد حين جاءت الزنابير إليه فاجتمعت وهي كثيرةٌ عليه فاستغاث بأصحابه، فأرادوا أن يغيثوه فاتجهت إليهم، فنفروا عنه حتى مات، قال أحدهم: ثم جاء زنبورٌ منها على أحدنا فلم يصبه بشيء، فعلمنا أنها مأمورة.
قال:
كبق وبرغوث وفأر وعقرب ودبر وحيات وشبه المعدد
والحيات يجوز قتلها أيضاً للمحرم وغير المحرم، وسيأتي بعض الاستثناءات، (وشبه المعددِ): وهي الأشياء التي تشبه ما عددناه قبل قليل، يجوز قتلها كالوزغ مثلاً.(56/16)
ما يكره قتله
ويُكره قتل النمل إلا مع الأذى به واكْرَهَنْ بالنار إحراق مفسدِ
فإذاً قتل النمل منهي عنه، إلا إذا صار مؤذياً، فيجوز قتله، مثل أن تكون له قرصةٌ مؤذية، والنمل أنواع منها ما يكون له قرصةٌ مؤذية، ومنها ما ليس بمؤذٍ، ومنه ما يدخل في الطعام ويفسد، ومنه ما هو مسالم، فإذا كان النمل مؤذياً سواءً بقرصته أو بإفساده للطعام ودخوله فيه ونحو ذلك، فإنه يجوز قتله، ولذلك قال: (ويكره قتل النمل)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن قتل أربع: النمل والنحل والهدهد والصرد).
(ويكره قتل النمل إلا مع الأذى به) فإنه لا يكره، (واكْرَهَنْ بالنار إحراق مفسدِ): فإذاً بالنار لا تُحرق الحيوانات ولا ذات الأرواح، يُنهى عن إحراق كل ذي روح، لأنه لا يعذب بالنار إلا رب النار.
ولو قيل بالتحريم ثم أجيز مع أذىً لم يزل إلا به لم أُبَعِّد
أي: لو قيل أنه لا يجوز التحريق بالنار، إلا إذا كان هناك مؤذٍ لا يزول إلا بالإحراق، أو بتدخينه، (لم يزل إلا به) أي: بالتحريق جاز، ولو قلنا بجوازه، قال الناظم: لم أُبَعِّدِ: أي: لم أبعد عن الحق.
ويُكره لنهي الشرع عن قتل ضفدعٍ وصردان طيرٍ قتل ذين وهدهدِ
فإذاً نهى الشرع عن قتل الضفدع، لما رواه أحمد وأبو داود: (أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلونها في الدواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها).
إذاً لا يجوز استعمال الضفدع أو أخذ شيء منه للدواء، وعلى الذين يركبون الأدوية ألا يأخذوا من الضفادع شيئاً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وجاء أن نقيقها تسبيح، لكنه لا يصح.
والله أعلم.
فلما كان ليس منها فائدة لا هي تؤكل ولا يستخرج منها دواء، فلماذا تقتل؟ فلا تقتل إلا إذا كانت مؤذية، لكن في الأحوال العادية لا تُقتل.
ويُكره لنهي الشرع عن قتل ضفدعٍ وصردان طيرٍ قتل ذين وهدهدِ
صرادن: جمع صرد، والصرد نوع من الطيور لا يؤكل لحمه، فكان قتله من باب العبث، ولذلك يُترك، وعموماً لا يجوز العبث بقتل الدواب عموماً، إما أن يكون هناك فائدة من قتله كالصيد أو الأكل أو يكون فيه دفع ضرر، وإلا فلا تقتل أي بهيمة بدون سبب، فلا تقتل للتسلية مثلاً.
أي: لا تقتل الضفدع والصرد، والهدهد أيضاً، وكنية الهدهد أبو الأخبار، وهو الذي جاء لسليمان عليه السلام وقال له كما ذكر الله في كتابه: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:22 - 23].
قال:
ويكره قتل الهر إلا مع الأذى وإن ملكت فاحظر إذاً غير مفسدِ
فإذاً الهر لا يقتل، ومن أسمائه البس والسنور والقط، إلا إذا صار مؤذياً، بأكل الفراخ وكفء القدور، فإن بعضها قد يؤذي بأكل الفراخ وكفء القدور.
وبعض الناس يقول: عندنا قطة تؤذينا أو عندنا بسٌ يؤذينا أو عندنا هر يدخل علينا فيؤذينا واحترنا معه وأخرجناه خارج البيت ورجع، ويلد عندنا ويؤذينا بنتنه وأولاده ونحو ذلك، فهذا يُؤخذ ويرمى بعيداً ولا يقتل، لكن لو لم يندفع شره إلا بالقتل، كأن يكون ممن يخدش ويفعل الأشياء المؤذية والضارة بالأطفال، وربما مات طفلٌ بسبب أن قطاً كبيراً جلس على وجهه حتى خنقه فمات، فإذاً قد يكون القط مؤذياً، ندفعه ونطرده، فإذا لم يكن دفعه ممكناً إلا بالقتل فيقتل في نهاية المطاف، وإن مُلكت، أي مُلك القط فاحظر: أي لا تقتله لأنه صار ملكاً للغير (إذاً غير مفسد) إذا كان غير مفسد فلا يقتل، فإذا كان مفسداً يقتل.(56/17)
قتل الحيات
وقتلك حيات البيوت ولم تقل ثلاثاً له اذهب سالماً غير معتد
مما ينهى عنه أيضاً: قتل حيات البيوت، إذا لم تنذرها ثلاثاً ولم تقل: اذهب سالماً غير معتد.
وحيات البيوت هذه فيها كلام طويل، بعض العلماء يرى أنه لا يجوز قتل حيات البيوت إلا بعد إنذارها في أي مكان، وبعضهم قال: إن هذا خاص بـ المدينة، بيوت المدينة لا تُقتل فيها الحيات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن جناً بـ المدينة قد أسلموا) والجن منهم من يكون على هيئة حيات، ومنهم من يكون على هيئة السعالي، ومنهم من يطيرون، ومنهم من يحلون ويظعنون مثل أهل البادية.
فما دامت الجن تتمثل بالحيات والكلاب، فلابد من إنذار الحية قبل قتلها، علماً بأن الكلب الأسود شيطان فيقتل مباشرة، لكن الحية قد تكون جناً مسلماً، وقد تكون جناً كافراً، وقد تكون حية أفعى أصلية.
فالآن العلماء بعضهم قال: إن حيات البيوت تنذر إذا وجدت في بيوت المدينة للحديث، وبعضهم قال: لا تقتل الحيات العوامر التي تسكن البيوت في أي بيتٍ وفي أي: مدينة، إذا وجدها لا يقتلها مباشرة، وإنما يُنذرها.
واختلف العلماء في معنى ثلاثاً التي جاءت في الحديث، هل هي ثلاثة أيام، أو هي ثلاث مرات، هل ينذرها ثلاثة أيام كل يوم يقول: أحرج عليك بالله أن تخرجي، أي: أقسم عليك بالله أن تخرجي وتتركي بيتنا مثلاً؟ إن كان جناً مسلماً فسيغادر، وإن لم يغادر فهو شيطان فاقتله، هكذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن اختلفوا هل هي ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ ثم إن الإنسان لو أنذرها ثلاثاً ولم تخرج، فليس ملزماً أن يبقيها في البيت، ممكن يدخلها في كيس أو شيء ويحاصرها ويرميها بعيداً أي: لا يقتلها، أي: واحد لو قال: أنا أنتظرها حتى تذهب وتدخل في المتاع ولا أدري أين تذهب، وقد تكون أفعى عادية وليس لها علاقة بالجن، فماذا أفعل هل أتركها؟ نقول: أنتَ لست ملزماً بإبقائها في البيت، لكن أنت تنهى عن قتلها فقط، حتى تنتهي المهلة، إذا وجدتها بعد ذلك فاقتلها ولا حرج.
وجاء أن رجلاً من شباب الأنصار كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان شاباً قوياً، وأراد الشاب أن يذهب فأذن له وأمره أن يأخذ معه سلاحه وقال: إني أخاف عليك، فلما جاء إلى بيته وجد امرأته عند باب الدار خارجة، وكان رجلاً له غيرةً قوية، فهم أن يضربها بالرمح فيقتلها، لأنها خارج البيت من غير حجاب، فقالت: اصبر وادخل فانظر ما الذي أخرجني، فدخل فوجد حيةً عظيمةً قد تكومت فانتظمها برمحه قتلها ثم ركزها على الحائط فانقلبت عليه، فلا يُدرى أيهما أول موتاً الحية أم الفتى، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (إن جناً بـ المدينة أسلموا) فالمهم أنه إذا وجدها ينذرها ثلاثاً، يقول: أقسم عليك بالله ثلاثاً أن تخرجي وتدعي هذا البيت، ونحو ذلك من العبارات، فإن كانت جناً مسلمةً خرجت ولم تؤذ، وإن كانت شيطاناً عصت فاستحقت القتل.
وذو الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ وما بعد إيذانٍ ترى أو بفدفدِ
هناك حيات تقتل مباشرةً سواء كانت في البيت أو خارج البيت، وذو الطفيتين، نوع معين من الحيات له خطان على ظهره، خطان متوازيان، قيل خطان أبيضان، وقيل خطان أسودان، هذا يسمى ذا الطفيتين، يُقتل مباشرة لا بإنذار ولا بشيء.
(وأبتر حيةٍ) هذا نوع من الحية؛ والأبتر عظيم النهاية، الحية تكون في العادة غليظة من فوق والمنتصف ثم في النهاية تدق حتى يكون لها ذنبٌ أو ذيلٌ دقيق في النهاية، أما الأبتر هذا فكأنه مقطوع الذنب، فهو من جهة الذنب في النهاية غليظ، كأنه مقطوع الذيل، فهذا الأبتر يقتل مباشرة؛ وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حديث في الصحيحين: (فإنهما يسقطان الحبل ويلتمسان البصر) أي: أن المرأة تسقط الولد الذي في بطنها بمجرد رؤيته، وكذلك يلتمسان البصر، قيل: إنه بمجرد النظر إليه يُعمي، وقيل: إنه يستهدف بصر الإنسان عند اللسع، ففيه قوةٌ سمية تسبب العمى، ونظراً لضرره ولأن الجني المسلم لا يتمثل بهذا النوع فإنه يقتل مباشرةً.
وذو الطفيتين اقتل وأبتر حيةٍ وما بعد إيذانٍ ترى أو بفدفدِ
والفدفد: هي الفلاة، فالحيات في الفلاة تقتل مباشرة، لا يلزم تحريج ولا قسم ولا شيء، فالحكم إذاً بالتحريج خاصٌ بحيات البيوت، ويستثنى من حيات البيوت ذو الطفيتين والأبتر.(56/18)
حكم قتل ما فيه ضر ونفع
وما فيه إضراراٌ ونفعٌ كباشقٍ وكلب وفهدٍ لاقتصاد التصيدِ
انتقل الآن إلى النوع من الحيوانات الذي فيه نفعٌ وضر، نفعٌ من جهة، وضرٌ من جهة، (وما فيه إضرارٌ ونفعٌ كباشقٍ) وهذا مثل البازي والصقر، الباشق قد يكون أحياناً يُؤنس ويستوحش أحياناً، وإذا صار أنيساً صاد ونفع صاحبه، وإذا صار مستوحشاً آذى، فهذا تكون أنت مخيراً في قتله وتركه.
(وكلب) وكذلك الكلب، (وفهدٍ لاقتصاد التصيد) فإن الكلاب والفهود يمكن أن تدرب للصيد، فالفهود ممكن أن يصاد بها، ويجوز الصيد بها، فإذا صار نافعاً يترك، وإذا صار مؤذياً يُقتل، مثل الكلب الأسود يُقتل لأنه شيطان، والكلب العقور الذي منه داء الكلب، فهو أيضاً يقتل لضرره.
إذا لم يكن ملكاً فأنت مخيرٌ وإن ملكت فاحظر وإن تؤذ فاقددِ
فإذا كان لا يملكه أحداً غيرك فأنت مخيرٌ بين قتله وتركه، (وإن مُلكت فاحظر) أي: لا تقتلها لأنها ملكٌ لغيرك، (وإن تؤذ فاقددِ) أي: فاقتلها إذا آذت.(56/19)
من آداب الطعام والشراب
ثم قال رحمه الله:
ويكره نفخٌ في الغدا وتنفسٌ وجولان أيدٍ في طعامٍ موحدِ
فإن كان أنواعاً فلا بأس فالذي نهى في اتحادٍ قد عفا في التعددِ
سبق في آداب الطعام أن الإنسان يأكل مما يليه، فإذا كان الطعام مختلفاً كالفاكهة المتنوعة، فيجوز أن يأخذها مما لا يليه.
وأخذٌ وإعطاءٌ وأكلٌ وشربه بيسراه فاكره ومتكئاً ذُدِ
فالأكل والشرب والأخذ والإعطاء باليسار من فعل الشيطان فلا تفعله.
وأكلك بالثنتين والأصبع اكرهاً ومع أكل شين العرف إتيان مسجدِ
الأكل بالأصبع الواحدة والثنتين كبر، وبالثلاث سنة، (ومع أكل شين العرف): الرائحة الكريهة، لا تأت المسجد إذا أكلتها.
ويكره باليمنى مباشرة الأذى وأوساخه مع نثر ما انفه الردي
فإذاً باليمنى لا تخرج الأوساخ ولا تباشر النجاسات ولا تخرج ما في أنفك.
كذا خلع نعليه بها واتكاؤه على يده اليسرى ورا ظهره اشهدِ
أي إذا خلع نعله بدأ باليسرى، وإذا انتعل بدأ باليمنى، والاتكاء على اليد اليسرى وإلقاؤها خلف الظهر قد ورد النهي عنه في سنن أبي داود وهو حديثٌ صحيح.
ويكره في التمر القران ونحوه وقيل مع التشريك لا في التفردِ
أي: إذا كان له شركاء فيه، إما إذا كان يأكل لوحده فلا بأس، وتقدم في آداب الطعام.
وكن جالساً فوق اليسار وناصب اليمين وبسمل ثم في الانتها احمدِ
ويكره سبق القوم للأكل نهمةً ولكن رب البيت إن شاءَ يبتدي
ولا بأس عند الأكل من شبع الفتى ومكروهٌ الإسراف والثلث أكدِ
ويحسن تصغير الفتى لقمة الغدا وبعد ابتلاع ثني والمضغ جودِ
أي: تجويد المضغ من آداب الطعام.
ويحسن قبل المسح لعق أصابعٍ وأكل فتات ساقطٍ بتثردِ
وغسل يدٍ قبل الطعام وبعده ويكره بالمطعوم غير مقيدِ
أي: لا تغسل يدك بالأشياء المطعومة، أما الماء فهو للغسل.
وما عفته فاتركه غير معنفٍ ولا عائبٍ رزقاً وبالشارع اقتدِ
النهي عن عيب الطعام.
ولا تشربن من في السقاء وثلمة الـ إناء وانْظُرَنْ فيه ومصاً تَزَرَّد
أي: لا تشرب من فم الإناء ولا من ثلمته، فالشرب من فيه يسبب رائحة نتنة وإيذاء من بعدك واختلاط الشراب بما يُغير رائحته، وقد تكون هناك حشرة بداخل هذه القربة، ولذلك لا تشرب من الفم مباشرة حتى لا تدخل في الجوف.
فهذه من فوائد عدم الشرب من في الإناء، ألا تنتنه فتؤذي من بعدك، وألا يكون فيه حشرة -مثلاً- فتبتلعها معه.
وأما الثُلم المكسورة فلا تشرب منها؛ فإنها مجتمع أوساخ، وقد يكون فيها جراثيم أيضاً، وكذلك ربما جرح فم الشارب.
(وانظرنَ فيه) أي: تأكد ألا يكون فيه حشرة ونحوها.
(ومصاً تزردِ) أي: لا تعبه عباً، ولكن ارشفه رشفاً رقيقاً ومصه مصاً، فإنه أهنأ وامرأ.
ونح الإنا عن فيك واشرب ثلاثة هو أهنا وامرا ثم ارو لمن صدي
أي إذا شربت الشربة الأولى فنحه عن فيك، ولا تتنفس فيه.(56/20)