صلاح الدين وتجديد الجهاد
صلاح الدين الأيوبي أحد مجددي الإسلام في الجهاد، نذر عمره في خدمته، وقد فتح الله له في جهاده مع النصارى ومع المارقين ممن كانوا يحسبون على الإسلام فتحاً عظيماً.
وهذه المادة تبين قصة هذا القائد منذ ولادته إلى وفاته؛ لتبرز صوراً من حبه للجهاد وزهده وفطنته، وحرصه على تحرير البلاد الإسلامية.
تتخلل هذه المحاضرة قصص لها فوائد، وعظات وعبر نحتاج إلى النظر فيها والتأمل والتفكر.(1/1)
مراحل الجهاد والتجديد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المجاهدين، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، فكانت سيرته صلى الله عليه وسلم بحقٍ نموذجاً فريداً لم يمر بالبشرية مثله أبداً ولن يمر، كان قدوة بعبادته وتقواه وخشيته وتعليمه وجهاده صلى الله عليه وسلم، وتجرد عليه الصلاة والسلام في دعوته للناس، فكان مستضعفاً في مكة، وجعل يدعو الناس إلى الإسلام حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة بعد مرحلة استضعاف طويلة -مكث ثلاث عشرة سنة مستضعفاً- بـ مكة لا يستطيع الجهاد، حتى هاجر إلى المدينة، وأسس ذلك المجتمع المسلم، فأذن الله سبحانه وتعالى بالجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا، ويجهز البعوث، ويقود الجيوش حتى آخر لحظة من حياته.
مات صلى الله عليه وسلم جاهداً مجاهداً، وسار من بعده خلفاؤه على هذا النهج في حرب المرتدين، وفي حروب فارس والروم، حتى أذن الله بأن تضعف هذه الأمة مرة أخرى، وأن ترجع ضعيفة بعد قوتها الأولى، ولكن الله رحيم بعباده، فلما جاءت جيوش الصليبيين إلى بلاد الشام كانت أكبر نكسة أصيب بها المسلمون، وأعظم الخطوب خطراً منذ حرب المرتدين.
ثم بعد ذلك جاءت نكسة التتر بعد موجة الصليبيين، ثم بعد ذلك جاء الكفار في العصر الحديث بغزوهم العسكري والفكري، والله سبحانه وتعالى لا يترك هذه الأمة بلا رحمة، بل إنه أذن عز وجل بأن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ولذلك كان التجديد وأحاديث المجددين من البشائر التي ينبغي على المسلم أن يتمعنها ويتأملها؛ لأنها تبعث في النفس الأمل في أوساط الضعف والهزيمة مثل الأوساط التي يعيشها المسلمون في هذه الأيام، ولكن هذه الأمة كالغيث لا يدرى خيرٌ أوله أم آخره (الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة).
فبعث الله المجددين في كل فرع من فروع الدين، فكان منهم من جدد في جميع الفروع كـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان منهم من جدد في جوانب الفقه أو التفسير أو الحديث، وكان منهم من جدد في جوانب الجهاد، ولذلك تمر بعض القرون بالأمة الإسلامية ولا يمكن أن يكون المجدد فيها واحداً، بل قد يكون مجموعة من الناس يجدد في وقت واحد؛ هذا يجدد من جهة، وهذا من أخرى، وهذا من ثالثة، حتى يقوم عماد الإسلام مرة أخرى.
كان الوقت الذي غزا فيه النصارى بلاد المسلمين وقتاً عصيباً جداً؛ فإنهم -عليهم لعائن الله- قام فيهم بطرس الناسك يحرضهم على غزو بلاد المسلمين، ويقول: إن أرض المسلمين تنبع لبناً وعسلاً، وأعلن بما يسمى بـ (الحرب المقدسة) حتى اجتمع من جيوش الكفرة من النصارى خلق عظيم غزوا سواحل بلاد الشام، فاحتلوا كثيراً منها، وأمعنوا في المسلمين قتلاً، وفي بلادهم وممتلكاتهم نهباً وسلباً، وقام المسلمون من كل مكان من بلاد الشام يذهبون إلى إخوانهم يستنصرونهم فلا معين ولا ناصر، وكان يشكو مصر في ذلك الوقت الدولة الفاطمية الباطنية الرافضية الكافرة -التي لما قام ملوكها قاموا بقتل علماء السنة في مصر، وجعلوا المساجد والأئمة والخطباء والقضاة منهم من أتباع المذهب الفاطمي، ينتسبون إلى فاطمة وفاطمة منهم بريئة رضي الله عنها.
وكان هؤلاء من خياناتهم: أنهم كانوا يتعاونون مع النصارى، وهكذا الباطنيون في كل عصر ومصر يكيدون لـ أهل السنة، ويتعاونون حتى مع الشيطان الرجيم في سبيل القضاء على ملة الإسلام، وما كانوا يقلون خطراً أبداً عن النصارى، بل إن شرهم مستطير، وبلاءهم عظيم، وقد قيَّض الله سبحانه وتعالى لأمة الإسلام في هذه الفترة ثلاثة من ملوك المسلمين العظام تتابعوا واحداً بعد واحد: محمود بن زنكي (نور الدين الشهيد) وصلاح الدين الأيوبي رحمهم الله تعالى، وهو الذي سنتحدث عن سيرته في هذه الليلة وعن تجديده في جانب الجهاد، وسنركز على جانب الجهاد أكثر شيء.
صلاح الدين رحمه الله بشر يصيب ويخطئ، وقد تكون له زلات، ولكن لا شك كما قال شيخنا عبد العزيز حفظه الله، وقد سألته عن هذا الرجل، وعما قيل فيه سلباً وإيجاباً، قال: لا شك أنه من مجددي الإسلام في الجهاد، وقال: وجهوده في القضاء على الباطنيين والنصارى عظيمة جداً لم يقم بها أحدٌ مثله، في القضاء على هاتين الطائفتين في وقت واحد.(1/2)
مولد صلاح الدين ونشأته
ولد صلاح الدين رحمه الله تعالى في قلعة تكريت عام [532هـ] واسمه: يوسف بن أيوب بن شاذي وهو كردي لا عربي، ولقبه: صلاح الدين.
انتقلت أسرته إلى الموصل، ثم رافق والده الذي عُيِّن حاكماً على بعلبك؛ ودرس صلاح الدين رحمه الله فيها أنواعاً من العلوم، وتعلم الصيد والفروسية، ثم لحق بعمه أسد الدين ابن شيركوه في حلب، وأبدى صلاح الدين في دمشق مهارة وقدرة كبيرة، ثم رجع إلى حلب واهتم به نور الدين لملامح الفطنة التي رآها عليه، ثم إن عمه أسد الدين شيركوه قد اصطحبه معه إلى مصر بأوامر من نور الدين رحمه الله، وكان نور الدين يسعى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر لجعل الصليبيين بين شقي الرحا، وكان من أهداف نور الدين رحمه الله أن يوحد بلاد المسلمين لحرب النصارى وهو يعلم علماً تاماً أنه لا يمكن أن يحارب المسلمون النصارى وهم متفرقون.
وفي هذا درس عظيم لكل من يرى أن نبدأ بالأعداء الخارجيين قبل الأعداء الداخليين.(1/3)
صلاح الدين في مصر
أراد نور الدين رحمه الله إسقاط الخلافة الباطنية، كما زعموا أنها خلافة، وعينوا لها خلفاء باطنيين في مصر، فأراد نور الدين ضمها إلى نفوذ أهل السنة والجماعة مرة أخرى، واستغل نور الدين خلافاً حصل بين وزيرين من الدولة الفاطمية، فأرسل أسد الدين مع ابن أخيه صلاح الدين في جيش إلى مصر، ثم عاد إليها مرة أخرى في عام (562هـ) ومعه ولد أخيه صلاح الدين أيضاً، وحصلت معركة مهمة بين شاور الخائن والصليبيين من جهة، وشاور من الباطنيين في مصر الذي استنجد بالصليبيين، حيث حدثت معركة بينه وبين الصليبيين من جهة، ومع جيش أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين من جهة أخرى، وانتهت المعركة بانتصار أهل السنة بقيادة أسد الدين شيركوه، وخرج أسد الدين من مصر ليعود إليها ويصبح وزيراً للخليفة الفاطمي الذي لم يبق له تقريباً إلا مجرد اسم، وقتل الخائن شاور عام (564هـ)، وشاء الله أن يموت أسد الدين شيركوه في عام (564هـ) ليتولى بعده صلاح الدين الوزارة، وظن الخليفة الفاطمي أن صغر سن صلاح الدين كم كان عمره ذلك الوقت؟ تولى عام (564هـ) وكان عمره في ذلك الوقت [32] سنة، ولكن صلاح الدين خيب ظن ذلك الخليفة الفاطمي الباطني، وقام بإصلاحات كثيرة جداً، منها: إلغاء ضرائب الفاطميين، وبذل الأموال للناس في أوقات الشدة حتى أحبوه، وصدَّ غارات شنها الصليبيون على دمياط عام (555هـ] وأسس المدارس، وحصن المدن والموانئ والثغور المصرية، وبنى قلعة المقطم المشهورة، واكتشف خيانة من الفاطميين فتخلص منها، وبدأ بمشروع مهم جداً وهو عزل قضاة مصر الباطنيين الفاطميين وتولية قضاة بدلاً منهم من أهل السنة والجماعة، وألغى (حي على خير العمل) من الأذان التي اخترعها أولئك الباطنيون في مصر ومسجد الأزهر الذي بناه الباطنيون الكفرة الذي يعتقد كثير من المسلمين أن جوهر الصقلي بطل إسلامي، مع أنه زنديق ملحد من هؤلاء الباطنيين، ولكن الله رد كيدهم في نحورهم، فكان ذلك المسجد منارة لـ أهل السنة في مصر كما طهره صلاح الدين رحمه الله تعالى.
وتمكن صلاح الدين رحمه الله بحنكته وحماسه وإخلاصه من إلغاء الخلافة الباطنية الفاطمية في مصر في أول جمعة من محرم عام (567هـ) وصار الخطباء في يوم الجمعة يدعون للخليفة العباسي على المنابر، وتوفي آخر خليفة باطني في (العاشر من محرم) من هذه السنة دون أن يعلم بأن دولته قد سقطت؛ لأن صلاح الدين أخفى ذلك عنه، ثم قام الباطنيون بتدبير عدة محاولات لاغتيال هذا القائد المسلم صلاح الدين رحمه الله بعد هذه الإصلاحات العديدة، منها: مؤامرة عمارة اليمني وعبد الصمد الكاتب وداعي الدعاة في عام (569هـ)، واتصلوا بالإسماعيليين لاغتيال صلاح الدين؛ وكان الإسماعيليون مسرورين بتدبير محاولة الاغتيال، فاتصلوا بهم من مصر واتصلوا بالصليبيين لغزو مصر، وإشعال الفتنة من الداخل، وكان حول صلاح الدين أناس مخلصون يقظون، فكان أحد رجال صلاح الدين داخلاً في بطن هذه المؤامرة ليستكشف أحوالها، فأحبطت قبل أن تنفذ، وصلب زعماءهم، وعرف الصليبيون اكتشاف المؤامرة فرجعوا مدحورين، وجرت معارك في البر والبحر بين صلاح الدين وملك صقلية في أواخر عام (569هـ) انتهت بانتصار صلاح الدين.(1/4)
صلاح الدين بعد نور الدين محمود
وفي عام (568هـ) وافت المنية نور الدين محمود رحمه الله وتولى ولده بعد ذلك، وقام الطامعون يريدون الاستيلاء على دولة نور الدين محمود الذي كان في بلاد الشام في حلب وفي دمشق، فتمهدت الأمور لـ صلاح الدين لدخول دمشق وضمها إلى مصر ليكمل خطته؛ وهي بلاد الشام، ومحاصرة الصليبيين، وأراد بعض طلاب الدنيا ممن كانوا مع نور الدين الاستعانة بالإسماعيليين في محاولة أخرى لاغتيال صلاح الدين رحمه الله، وأوشكت المؤامرة على النجاح لولا أن الله قدر انكشافها، ففشلت بعد أن جرح صلاح الدين في تلك المؤامرة.
استطاع صلاح الدين أن يوحد بلاد الشام تحت قيادته، وكان مع ذلك لا يخوض معارك مع بعض الطامعين في الإمارة من المسلمين لاستبقاء الدم الإسلامي -يبقى دم المسلم لحرب النصارى- وحاول الإسماعيليون مرة أخرى قتل صلاح الدين عام (570 - 571هـ) بالاندساس في جيشه حتى وصلوا إلى خيمته، حتى أن أحد هؤلاء الباطنيين وصل إلى خيمة صلاح الدين وفي يده سكينٌ مشفرة، ولكن الله قيض من الحراس من قتله، وأُحبطت اغتيال صلاح الدين وهو يحاصر قلعة أعزاز بـ حلب؛ وهذا دليل على أن الباطنيين المنافقين الذين يزعمون الإسلام، خطرٌ على المسلمين في كل زمان ومكان، ويجب كشفهم والقضاء عليهم، وما ضُرب الإسلام منذ خلافة عثمان بن عفان رحمه الله حتى هذه الأيام بمثل ما ضرب من الباطنيين ابتداءً بـ عبد الله بن سبأ وانتهاءً بهم الآن، وهم يدبرون المؤامرات تلو المؤامرات للقضاء على أهل السنة.
قام صلاح الدين رحمه الله بتأديبهم، وكان من طرق صلاح الدين في مواجهة بعض الأمراء من المسلمين الطامعين في السلطة أن يقول: من جاءني راضياً سلمت له بلاده على أن يكون من جنودي في جهاد الصليبيين، فكان من الواضح أن الرجل لا يريد الدنيا، ولا يريد الملك لنفسه، وإنما يريد أن يوحد المسلمين لحرب النصارى.
ومع الأسف! فإن بعض الطامعين في الدنيا من المسلمين قاموا بعقد المعاهدات مع النصارى، وبعضهم دفع عشرة آلاف دينار سنوياً للنصارى وسلمهم بعض ثغور المسلمين، وأطلق بعض أسرى النصارى مقابل الاستعانة بالنصارى في حرب صلاح الدين، وهكذا يفعل حب الدنيا الأفاعيل، وعندما لا يكون الولاء والبراء الصحيح متمكناً من قلب المسلم، فإنه يفقد توازنه، فمثل هؤلاء الناس لم يكن الولاء والبراء متحققاً في نفوسهم، فصاروا يوالون الكفار ويعادون المسلمين، والولاء والبراء من أساسيات العقيدة، لا يمكن لمسلم أن يجاهد دون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه، ولا يمكن أن يحقق الإيمان بدون أن يتمكن الولاء والبراء من قلبه.
مكث صلاح الدين الأيوبي تسع سنوات من عام (570 - 579هـ) من أجل توحيد بلاد المسلمين، حتى ضم مصر والشام وإقليم الجزيرة وأخضع الموصل ليصبح أقوى ملوك الشرق قاطبة.(1/5)
جهود صلاح الدين في تجديد الجهاد
وأما تجديد صلاح الدين في الجهاد فلم يكن رجلاً يخلط خلط عشواء، وإنما كان رحمه الله يعلم عظم المهمة التي انتدب نفسه لأجلها، ويعلم بأن هؤلاء النصارى ليسوا من السهولة أبداً، ولذلك أنت عندما تدقق في إصلاحات صلاح الدين في الجهاد، تعلم علم اليقين أن الرجل كان يعد العدة المكافئة للكفرة، وكان يطبق قول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
ولذلك فإنك لتستغرب أشد الاستغراب من تلك العقلية الفذة التي هيأها الله سبحانه وتعالى لترتيب صفوف المسلمين، وتطمئن اطمئناناً فعلياً إلى عناية الله عز وجل بهذه الأمة، وأنت تتأمل وتتمعن في تخطيط صلاح الدين لإعداد الأمة للجهاد، لم يكن الرجل يعد نفسه وأهل بيته فقط ولا المدن التي كانت حوله فقط، كان يعد الأمة الإسلامية قاطبة لحرب الصليبيين.
وابتدأت المسألة من جوانب الاقتصاد، وإعداد السلاح، والجند والجيوش، والدواوين، والأسلحة، والمؤن، والذخائر، والعتاد، والخطط الحربية، وسنأتي على كل شيء بلمحات تبين عظم تلك العقلية التي قيضها الله سبحانه وتعالى.(1/6)
صلاح الدين وإقطاع الأراضي الزراعية لخدمة الجهاد
جعل صلاح الدين رحمه الله الإقطاعات الزراعية لخدمة الجهاد، وكان يقطع الأراضي الزراعية والقرى للقادة الحربيين، على عادة نور الدين رحمه الله سابقاً، ولكن مع تطويرات إضافية، وكان يأخذ الإقطاع من كل أمير يهمل في واجباته، وكان صلاح الدين يعطي مثلاً: أرضاً زراعية لهذا القائد العسكري ممن معه فيستفيد منها، لا يتملكها هو ولا يورثها لأولاده، يستفيد منها ومن محاصيلها وخيراتها بشروط مقابل الخدمات الحربية.
فمثلاً: لا بد لهذا الأمير الذي أقطعه صلاح الدين هذه الأراضي أن يقدم العساكر في وقت الحرب، وأن ينفق على عساكره، وأن يعدها، وأن يلحق بالسلطان على رأس فرقته الحربية إذا طلب منه ذلك، وأن يرسل العتاد والسلاح والجند، وكذلك على هذا الأمير الذي أقطع هذا الإقطاع أن يراقب تحركات الأعداء، ويقر الأمن الداخلي في الإقطاع الذي أقطعه إياه، وكان لدى صلاح الدين رحمه الله ديوان جيش منظم لضبط الإقطاعات فيه أسماء الجند، ومراتبهم، ورواتبهم، ويصدر هذا الديوان إحصائيات دورية فيها أعداد الجند وقدراتهم، وكان هذا الديوان يصرف على العمائر والتحصينات وبناء الأسوار والقلاع، وكان فيه مسئولون يحاسبون أمراء الإقطاعات على تقصيراتهم، ويرفعون بشأنهم إلى صلاح الدين رحمه الله.(1/7)
صلاح الدين وتطوير السلاح والعتاد
وأما بالنسبة لجانب الأسلحة والمؤن والعتاد، فإنه كان رحمه الله يحرص على إعداد ما يكافئ المهمة، وقد اهتم بقضية السلاح اهتماماً كبيراً حتى طلب من أحد رجاله أن يؤلف له كتاباً حول الموضوع يشمل أنواع السلاح، وطرق صناعتها، وكذا استخدم الأسلحة التي تناسب الغرض المنشود من الأثقال والأحمال من العدد الواقية، والدروع السابغة، والنصال، والخوذ، والنقود، والمنجنيقات العادية والتركية والإفرنجية، وكان لدى صلاح الدين خبراء بالمنجنيقات، وطور المسلمون سلاحاً مهماً جداً من خلال الحروب الصليبية بفضل الله، ثم بدعم صلاح الدين وهو سلاح النفط؛ وسلاح النفط جمع صلاح الدين من أجله النفاطين والزراقين؛ النفاطين: خبراء في هذا النفط، وطوروا سلاحاً وهو خليط من خلطة من الزيوت، والنورة المطفأة وغير المطفأة، والنفط، والصمغ، والكبريت، والخل، وشحوم الحيوانات، ونخالة الحنطة، وهي تخضع لعمليات شبه كيميائية، لها طرق حتى تصبح هذه الخلطة مثل الألغام المتفجرة تقريباً، وكانت هذه الخلطة ترمى من المنجنيقات بواسطة النشاب وعلى ظهور الخيل، وتوضع في قشر البيض بعد إخراج ما في البيضة، فتوضع الخلطة داخل هذه البيضة ويغلق عليها وترمى من أقواس مخصوصة، كما طوروا أنواعاً من سلاح النفط يسير على الماء دون أن ينطفئ ليصطدم بمراكب العدو، ويحرقها ويغرقها في البحر أشبه بالألغام المائية الموجودة الآن.
وساعد الخليفة العباسي الذي أسدى له صلاح الدين خدمات جليلة بإرسال حمولات من النفط ومعهم جماعة من النفاطين وجماعة من الزراقين -خبراء الرمي- النفاطين: خبراء النفط التركيبة، والزراقين: خبراء الرمي، فكان عندهم هذه الزراقات أنابيب خاصة لرمي هذه المواد الملتهبة.
وكان من الأسلحة التي استخدمها صلاح الدين أيضاً: المثلثات والمسدسات؛ والمثلثات: عبارة عن حديدة لها شوكتان تغرس في الأرض وشوكة على ظاهر الأرض، والمسدسات: ثلاث شوكات في الأرض وثلاثة على سطح الأرض، حتى إذا داستها خيول الأعداء نفرت وأوذيت إيذاءً شديداً، وطاحت في الأرض وطرحت من عليها، وكانت ترمى في الطرق التي من المتوقع أن يسلكها الأعداء.
وطور المسلمون كذلك سلاح الدبابات؛ والدبابة كانت عبارة عن بناء من الخشب تصميم معين، يغلف بقطع من القماش والستائر المبلولة بالخل، والخشب المضادة للنيران، وكانت تسير على عجلات خشبية، وكان يستتر في داخلها الجند، أو تملأ بالمواد الملتهبة لتدفع دفعاً إلى الأسوار لتدمرها، وكانت تحمي من بداخلها.
وكذلك تستخدم هذه الستائر التي صنعها المسلمون لحماية الأبراج والدبابات والسفن والمنجنيقات، هذا بخلاف السيوف والرماح والتروس والدروع والجنديات التي كان يسير بها مجموعة من الجنود تقيهم ما أمامهم، وكان لدى جنود صلاح الدين مطارق خاصة لتهشيم خوذ الأعداء وضربهم على رءوسهم.(1/8)
مهارة صلاح الدين في تنظيم الجيش واستحداث أساليب جديدة في الحرب
وأما بالنسبة لتنظيم الجيش، فقد كانت مهمة صلاح الدين كبيرة جداً، وبشكل خاص في تنظيم الجيش، فكان لديه أنواع من الجند: منهم: العسكر السلطاني المتفرغون تماماً للجهاد؛ الذين يستخدمهم في الإغارة وصنع الكمائن دائماً.
وكان لديه أيضاً نوع آخر وهم: جند الأمراء الذين يستدعون وقت الحرب فقط ويستريحون بعدها ويذهبون إلى أهاليهم وقت الشتاء، وكان لديه أيضاً صنف ثالث: وهم المتطوعة، والقوات المساعدة من العلماء والصلحاء والقضاة والمتحمسين من المسلمين الذين يهبون كلما استدعاهم صلاح الدين.
وكان لديه من أبناء القبائل من يدله على الدروب والمسالك، وكان يدعم جنده بالعناصر الجيدة التي كان ينتخبها من الأقطار الإسلامية المختلفة ويعمد إلى أمراء الإقطاعات أن ينتخبوا له مجموعة كلما أراد أن يدعم جيشه لمعركة مهمة.
وهؤلاء المتطوعة من بين هذه الأصناف هم أشد الناس بلاءً وأحسنهم قتالاً؛ لأنهم لا يأخذون مرتبات، وليست لهم أموال تدفع للجهاد -ليس لهم رواتب- ولذلك كان منهم: العلماء، والقضاة، وكان لوجودهم أثر كبير في تحميس المسلمين؛ بل إنهم شاركوا في اختراع وسائل جديدة، وابتكار طرق مثلما حدث في معركة حطين عندما أثار بعض المتطوعة وقاموا بإشعال النار في مناطق فيها حشائش كثيرة يابسة استغلوا اتجاه الريح التي كانت تسير باتجاه الصليبيين حتى يجتمع عليهم حر هذه الأعشاب المحترقة مع دخانها مع انقضاض المسلمين عليهم.
وعمد صلاح الدين رحمه الله تعالى إلى تجميع أساليب القتال، فكان عنده نظام تعبئة، ونظام اصطفاف، وتنظيم للجيش في داخل الخيام عندما يخيمون، حتى إذا صاح قام أهل الميمنة إلى أماكنهم، وأهل الميسرة إلى أماكنهم، دون أي لخبطة.
وكان لديه حركات استكشاف، وقوات استطلاع، وعلامات بينه وبين الجنود يعرفون بها وقت الانقضاض وبدء الهجوم، وكان لديه قضاء داخل الجيش لفصل الخصومات عند حدوثها بين بعض المسلمين.
وكان لديه مجلس مشورة خاص وعام يرأسه هو، وكان يفتتحه هو ويأخذ بآراء جنوده، وأحياناً يفضل آراء المستشارين على رأيه الخاص، مع أنه كان يرى أحياناً أن رأيه أصوب تأليفاً لقلوبهم، وتطبيقاً لقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ومن افتتاحياته في مجلس الشورى في شعبان عام (585هـ) في حصار عكا قوله: اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا؛ أجلب بخيله ورجله، وأناخ بكلكله كله، وقد برز بالكفر كله إلى الإسلام كله، وجمع حشده، وحشد جمعه، واستنفذ وسعه، وإن لم يعالج الآن فريقه المضل؛ عظم داؤه، وتعذر غداً لقاؤه.
وكان لديه جواسيس كما فعل في كشف خبر ملك الألمان الذي اخترق معسكره بعض جنود صلاح الدين.
وكان رحمه الله يستخدم الحمام الهادي في نقل الرسائل كما حصل في حرب عكا.
وكان يستخدم الحرب الخاطفة، والكر والفر، ويرسل المسلمين لحصد غلات الصليبيين؛ الصليبيين كان لديهم مزارع، فكان صلاح الدين يرسل جنوداً لحصد غلات الصليبيين والإتيان بها إلى المسلمين.
ويستخدم أساليب التمويه والخداع؛ فيظهر أنه خارجٌ من جهة ويأتي من جهة أخرى.
وكانت لديه غارات، وتخريب لممتلكات، وكمائن، وشن حرب عصابات كما هجم جماعة من المسلمين أثناء حصار عكا عام (585هـ) سوق الخمارات، وسبوا عدداً من النساء الفواجر.
وكان بعض المسلمين يتسللون إلى معسكرات الصليبيين لخطف الجنود.
وكان من سياساته أنه يتفق مع المستأمنين من القادمين من النصارى يطلبون الأمان من صلاح الدين، يقول لهم: في طريقكم أغيروا على سبل النصارى وسلبها بيني وبينكم، فإذا جاءوا بالسلب أعطاهم كلهم، وكان هذا سبب في إسلام شطر منهم.
وكان رحمه الله يعرف كيف يستدرج العدو إلى المكان المناسب، وكيف يوفر المواد اللازمة لجنوده كالماء والعشب للدواب، ويراعي درجة حرارة الشمس واتجاه أشعة الشمس، كما حصل في معركة حطين.
وكان يتبع طريقة النوبات في حصار حصون الأعداء، ويهتم بتحصين المناطق، وتسوير المدن التي يخشى عليها من الصليبيين، وتجديد آلات الدفاع، ويهتم بحفر الخنادق، وبناء الأبراج، وعمل الجسور.
وأنشأ دوراً خاصة لصناعة الأسطول الإسلامي في مصر بعد أن أحرقه الكفار، وكان يجلب أخشاب الصنوبر والأرز من لبنان والحديد من جبالها من قرب بيروت، وحصل من إيطاليا عبر اتفاقية عقدها مع الإيطاليين على معاهدات تجارية استطاع أن يأتي من خلالها بأخشاب ومواد يحتاجها لبناء الأسطول الإسلامي، وكان لديه ثمانين سفينة في الأسطول؛ خمسين سفينة لحماية سواحل مصر، وثلاثين سفينة لحرب الصليبيين في بلاد الشام وحماية الحجاج الذين يأتون عن طريق البحر، ويهتم بتقوية أجهزة الدفاع والحراسة الساحلية في سواحل مصر والشام، وجعل في دمياط سلسلة لإعاقة دخول العدو في حالة الطوارئ.
وكان يهتم بوضع الخطط لإدخال المؤن إلى الموانئ والأماكن المحاصرة؛ فمن ذلك: الحصار المفاجئ واستخدام القوة لفتح ثغرة في صفوف العدو مثلما حدث في حصار عكا، أو يدخل المؤن قبل ذلك إلى الأماكن المتوقع حصارها، أو كان يستخدم مهاجمة العدو وإشغاله في طرف حتى يتمكن فريق آخر من إدخال المؤن من الطرف الآخر.
وكان يشن هجوماً برياً لكي يشغل الأعداء عن أسطول المسلمين القادم من مصر بالمؤن والذخائر.
وأعد صلاح الدين في بيروت سفينة كبيرة محملة بالمؤن (400) غرارة من القمح والجبن والميرة والبصل والغنم والنفط، واستخدم المسلمون وسيلة عظيمة لإدخال المؤن إلى ميناء عكا المحاصر، وكانت هذه الخطة: أن المسلمين على ظاهر هذه السفينة المحملة بالمؤن قاموا بما يلي: علقوا الصلبان في صدورهم، ولبسوا ملابس الفرنج وتزيوا بزيهم، بل إنهم وضعوا الخنازير فوق السفينة بشكل ظاهر، ودخلوا بهذه السفينة وسط سفن النصارى التي تحاصر عكا، وصاروا يقتربون من مدينة عكا ويعتذرون للنصارى بأن الريح تدفعهم بهذا الاتجاه، والنصارى يظنونهم منهم، حتى دخلت هذه السفينة إلى عكا، ففرج الله بها عن المسلمين تفريجاً كبيراً.
وكان صلاح الدين رحمه الله يهتم باستثارة الناس للجهاد؛ فكان يرسل الرسل والكتب إلى الخليفة العباسي ويطلعه على سير الفتوحات كما حدث في معركة حطين، وأرسل رسالة إلى البلاد التي لم تكن خاضعة للخلافة العباسية يستنجد بهم، كالتركمان في الشرق، ودولة الموحدين في الغرب، كما استعان بخطباء المساجد بالدعاء لجيشه بالنصر، وحث الناس على الجهاد.
وكان حريصاً على شن المعارك يوم الجمعة في التوقيت التي تقام صلاة الجمعة؛ تبركاً بدعوة الخطباء على المنابر.
وكان يستعين بالقضاة والفقهاء لتأليب الناس على الجهاد، وفي ساحات المعارك، وفي المدن التي كان يفتحها.
وكان يسير بين صفوف الجيش بنفسه يحثهم على الجهاد، وينادي: يا للإسلام، كما حدث في حصار عكا، وكان من ضمن فقرات الرسالة التي أرسلها إلى ملك المغرب المسلم من الموحدين يقول له: لا ترضى أن يعين الكفر الكفر، ولا يعين الإسلام الإسلام.
يقول له: هؤلاء الكفار يعينون بعضهم، أنت لا ترضى بذلك، ألا ترضى أن يعين المسلمون المسلمين؟!! هذه نبذة عن التجهيزات التي قام بها صلاح الدين لمحاربة النصارى، ومنها نعلم أن صلاح الدين رحمه الله ما قام على الحماس الفارغ أبداً، ولا دخل في المعارك دون أن يعد العدة، ولا ألقى بأبناء المسلمين غنيمة سهلة للكفار أبداً، رجل يعرف حجم المهمة، بل إنه لم يبدأ بحرب النصارى حرباً جدية إلا بعد أن وحد بلاد المسلمين؛ وصلاح الدين يعلم تماماً أنه بدون توحيد المسلمين لا يتمكن من حرب النصارى، بل إنه تعلَّم درساً من معركة هزم فيها أمام النصارى قبل أن يستكمل توحيد بلاد المسلمين، تعلم من ذلك أنه لا بد من استكمال عملية التوحيد؛ وهذا درس عظيم ينبغي أن يهتم به المسلمون في هذا الزمان، وبالذات طائفة الشباب المتحمسين الذين يظنون أن المهم هو إلقاء النفس إلى العدو فقط، وأن الله ينصر المسلمين بأي شيء، ولا يتمعنون في قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ليعلم أولئك المتحمسون أن النصر لا يأتي بهذه السهولة، وأن أخذ العدة العسكرية والمعنوية بعد تهيئة الناس عموماً للجهاد، تريد أن تجاهد بنفر من المتحمسين للجهاد الذين تتوق أنفسهم للجنة، وهناك أعداد كبيرة جداً من المسلمين ركنوا إلى الدنيا ولم يعبأ الناس للجهاد، كيف ستقوم بهذه المهمة؟! ولذلك فإننا مع تحرقنا للجهاد في سبيل الله، وتشوقنا لجنة عرضها السماوات والأرض إن شاء الله، وتوطيننا العزم لهذا اليوم الموعود، فإننا أبداً لا يمكن أن ننساق وراء الحماس الفارغ دون إعداد العدة وتجهيز الأمة، ولا بد من التربية الواعية، ولا بد من قيام المصلحين، والعلماء، والدعاة، والخطباء، والمدرسين كلٌ في مكانه، وكلٌ في ثغرته، بشحذ همم الأمة وإعدادها للجهاد، وليس فقط الإعداد الحماسي بالخطب والكتب والتآليف والكلمات الرنانة، بل بإعداد العدة العسكرية حقيقة لأجل الوصول إلى هذا الهدف، وليس المهم أن يحدث طفرة في مكان واحد من الأمكنة فقط! كلا.
وإنني أقول بهذه المناسبة أيها الإخوة: إن الله عز وجل إذا علم من المسلمين صدقاً وإخلاصاً، فإنه يوفقهم وينصرهم.
وكم كانت رءوس المسلمين مطأطئةً فما رفعت إلا بعد الجهاد الأفغاني، الجهاد هو الذي يحيي في الأمة الروح ويبعثها بعثاً جديداً، الجهاد هو الذي يوقظ الطاقات(1/9)
مواقف من جهاد صلاح الدين (قصة أرناط)
وإنه من المناسب هنا أن نستعرض بعض المواقف التي حصلت لـ صلاح الدين، وإلا فإن سياق جهاد أهل الردة الصليبيين أمرٌ متعسر الآن في هذه العجالة.
ولا يمكننا أن نسير على مخططه، وغزواته كلها وجهاده، والأماكن التي بدأ منها، والحصون التي اقتحمها، والمدن التي استولى عليها، والمعارك التي انتصر فيها والتي حصل فيها شيء من الهزيمة للمسلمين؛ هذا أمر يصعب.
ولكن نتأمل في قصة أرناط أحد ملوك النصارى، هذا الرجل صليبي حاقد، ولص، ولا يوجد بين ملوك النصارى من هو أشد منه نقضاً للعهود والمواثيق، هذا الرجل أسر في زمن نور الدين محمود وبيع في حلب، وذهب مرةً أخرى إلى النصارى ليكون قائداً من قوادهم، وهذا الرجل النصراني أرناط حدث أن جيشاً لـ صلاح الدين هزم قبل الرملة من قبل أرناط بعد أن حرر نفسه من المسلمين وذهب، وحصل أن هذا الرجل تزوج من ملكة للنصارى على حصن يسمى الكرك في الطريق بين مصر والشام، وصار يضيء منه على حجاج المسلمين لدرجة أن القاضي الفاضل أفتى في تلك الأيام أن الحج ليس بواجب على أهل تلك البقعة الذين لا يمرون إلا من هذا الطريق لعدم أمنهم، ووصفه بعض علماء المسلمين بأنه أغدر الفرنجة وأخبثهم وأنقضهم للمواثيق وأنكثهم وأحنثهم، وانتهك عام (577هـ) هدنة معقودة بين المسلمين والصليبيين، وجمع جيشه وسار إلى تيماء، ثم حدثته نفسه بالمسير إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ليستولي عليها، ويضرب المسلمين في أعز ما يملكون، وأقدس المناطق التي يكنون لها في أنفسهم قدراً عظيماً.
ولكن أمير دمشق من قبل صلاح الدين الأيوبي أغار على حصن الكرك وكبَّد النصارى خسائر كبيرة، مما اضطر أرناط العدول عن خطته والعودة وعدم غزو المدينة.
وفي عام (578هـ) شرع أرناط في بناء سفن نقلها مفككة على ظهور الجمال إلى ساحل البحر الأحمر، وركبها وشحنها بالمزاد، ولم يكن للصليبيين وجود في البحر الأحمر قبل هذا، وباغت المسلمين في ديارهم على حين غفلة؛ فقتل، ونهب، وسلب، وأسر، ثم توجه إلى أرض الحجاز وسار باتجاه المدينة المنورة مرة أخرى حتى وصل إلى رابغ، حتى لم يكن بينه وبين المدينة إلا مسيرة ليلة واحدة، فعند ذلك أمر صلاح الدين أميره على مصر وواليه عليها الملك العادل إلى إعداد أسطول قوي في البحر الأحمر وتجهيزه بقيادة الأمير حسام الدين لؤلؤ من المسلمين الذي تتبع الصليبيين في البحر الأحمر، وضرب أول الميناء أيلة التي احتلوها، ثم جعل يتتبع سفن الصليبيين واحدة واحدة حتى بلغ رابغ، وقد قتل معظمهم وأغرق سفنهم، وكان موسم الحج قريباً، فأرسل حسام الدين لؤلؤ القائد المسلم أسيرين من الصليبيين إلى منى حتى نحرهما هناك في يوم العاشر من ذي الحجة كما تنحر البدن؛ وهذا انتقاماً لإرهاب الكفرة، وأما الباقي فطيف بهم باستعراض في شوارع القاهرة والإسكندرية، وأمر صلاح الدين بقتلهم في مصر أمام الناس حتى لا تسول لأحد نفسه بغزو الحجاز مرة أخرى.
واستطاع أرناط من الهرب والعودة إلى حصن الكرك، وبعد عدة هجمات على حصنه هادن صلاح الدين، إلا أنه عاد مرة أخرى، وغدر، وخان، ونقض العهد، وهجم على قافلة من المسلمين؛ فغدر بهم، وأخذ أموالهم، وقتل من قتل، وأسر من أسر، فذكَّره بعض المسلمين بالمعاهدة التي بينه وبين صلاح الدين، فقال أرناط الصليبي الحاقد: (قولوا لمحمدكم يخلصكم) فأرسل إليه صلاح الدين يذكره بما حصل فلم يتذكر.
هذا الرجل كان لـ صلاح الدين موقف تَظهر فيه عزة الإسلام، وهكذا ينبغي أن تكون مواقف المسلمين أمام الكفرة؛ مواقف عزة لا مواقف ذله، هذا الموقف كان بعد معركة حطين مباشرة.
أما معركة حطين وهي لا بد من الإشارة إليها في هذا المقام؛ لأنها من أشهر الحوادث إن لم تكن أشهرها هي وفتح بيت المقدس: استطاع صلاح الدين بحنكته ودهائه استغلال فرصة خلاف بين الصليبيين ليميل مع جانب ضد الآخر، وأمر أهل حلب بعقد معاهدة مع البيزنطيين، فضمن عدم وصول إنجازات منهم للنصارى، ثم جمع قواته من مصر ودمشق وحلب والجزيرة والموصل وسار إلى قرب بحيرة طبرية، وعسكر على سفح جبل طبرية المشرف على سهل حطين، وكان صلاح الدين قبل ذلك قد عمل تعبئة ليتأكد أن المسلمين سيقدمون إليه إذا استنفرهم، واجتمع الصليبيون في تلك الموقعة وكانوا قد هزموا في صفورية، واستطاع صلاح الدين رحمه الله تعالى أن يستدرجهم إلى المكان الذي يريده في سهل جبل طبرية الغربي، وكان جملة من معه اثنا عشر ألفاً غير المتطوعين مع صلاح الدين، وجمع الصليبيون جنودهم فكانت قريبة من خمسين ألفاً، والتقى صلاح الدين رحمه الله ومن معه من المسلمين في صباح يوم الجمعة (24/ ربيع الآخر/ 583هـ) وابتدأ القتال، وفصل بين الجيشين الليل، ثم عادوا في النهار للاشتباك مرة أخرى وصلاح الدين يطوقهم شيئاً فشيئاً ويطوف بين الصفوف يحرضهم على الجهاد، واستمات المسلمون في القتال وأدركوا أن من ورائهم نهر الأردن، ومن أمامهم الروم، وأنه لا ينجيهم إلا الله تعالى، واشتدت المعركة، ونحن لا نسرد هنا تفاصيلها، ولكن حصلت فيها كثير من البطولات، واستخدم صلاح الدين ومن معه من المسلمين الأسلحة وبالذات أسلحة النفط، حتى منح الله المسلمين أكتاف المشركين فقتل منهم في تلك المعركة ثلاثون ألفاً، وأسر كثير منهم، وكان من ضمن القتلى والأسرى أعظم ملوك النصارى وحكامهم وأمرائهم في تلك الديار، وكان يوماً ميموناً مباركاً، ولما انتهت الوقعة أمر صلاح الدين رحمه الله المسلمين بضرب المخيم العظيم؛ وجعل فيه سريره، وعن يمينه أسرة مثلها، وأوتي بملوك النصارى في قيودهم يتهادون بذلة مطأطئي الرءوس، وكان من بين المأسورين أرناط -الذي تقدمت قصته- فقد ساقه الله إلى صلاح الدين في هذه المعركة، وصلاح الدين رحمه الله كان يبتهل إلى الله طيلة القتال، حتى إنه لما قرب النصر للمسلمين قام المسلمون وندبوا ليقولون: هزمناهم، قال: اصبروا حتى تسقط تلك الخيمة لم نهزمهم بعد، وكانت خيمة ملك النصارى لازالت باقية، فلما سقطت خيمة ملك النصارى سجد صلاح الدين رحمه الله شكراً لله تعالى وبكى من الفرح.
وكان من ملوك النصارى الذين مثلوا أمام صلاح الدين الملك جايك وأرناط وهنكري بن الهنكري وابن صاحب طبرية وجرار مقدم الداويه، وغيرهم من أكابر الصليبيين، فأجلس صلاح الدين ملوك النصارى بجانبه، وبدأ بالملك جايك فأعطاه إناءً مملوءاً بالماء البارد ليشرب، فهذا الرجل لما انتهى من الشرب أعطى أرناط ليشرب، فغضب صلاح الدين، وقال: لم أقل لك أن تسقيه؛ لأنه لا يشرب عندي! إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه! هذا لا عهد له عندي!! ثم إن السلطان صلاح الدين تحول إلى خيمة داخل الخيمة واستدعى أرناط، فلما أوقِفَ بين يديه قام إليه بالسيف، ودعاه للإسلام فامتنع، ثم قال له: أنت الذي غدرت وخنت وفعلت وفعلت، فكان يقول: هذه عادة الملوك، ثم قال له صلاح الدين رحمه الله القولة الذهبية المشهورة: نعم أنا أنيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت قلت للمسلمين: هاتوا محمداً يخلصكم، أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فأخلص المسلمين من شرك، ثم ضربه بسيفه على عاتقه وتتابع من حضر من المسلمين على أرناط، فقتل هذا الطاغية ذليلاً بين المسلمين، وكانت تلك فرحة عظيمة للمسلمين.(1/10)
دخول صلاح الدين بيت المقدس
كانت معركة حطين تمهيداً لدخول صلاح الدين رحمه الله إلى بيت المقدس، لأن هذه الهزيمة المنكرة مهدت الطريق، ولكن صلاح الدين بحنكته لم يدخل بيت المقدس مباشرة، إنما ذهب لإكمال فتح البلدان الساحلية حتى يمنع أي قادم عبر البحر لتعزيز الصليبيين من النصارى، ويقطع الطريق حتى تحاصر بيت المقدس تماماً، ثم اتجه بعد ذلك إلى بيت المقدس وقد اجتمع في بيت المقدس من النصارى خلق عظيم من الذين هربوا من معركة حطين ومن غيرها؛ وفيهم النساء والأطفال والجنود والأسلحة واستغل النصارى الفرصة، فعززوا الأسوار والحمايات، وحاصرها صلاح الدين رحمه الله حصاراً عظيماً حتى خرب السور وهمَّ الجنود المسلمون بالدخول، فخرج قائد النصارى يلتمس الصلح من صلاح الدين؛ وصلاح الدين، يقول: لا أصالحكم حتى أفعل بكم مثلما فعلتم بالمسلمين عندما دخلتموها، حتى أن ملك النصارى جاء إلى صلاح الدين مرةً أخرى ليقول له: أيها السلطان! اعلم أننا في هذه المدينة خلق كثير؛ وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا أنه لا بد منه؛ فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ولنحرقن أموالنا وأمتعتنا ولا نترككم تغنمون منها شيئاً، ولنخرب الصخرة والمسجد الأقصى، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين في مدينة القدس، فاستشار صلاح الدين أصحابه، فأشاروا عليه بالصلح الذي يكون من نتيجته تسليم المدينة، وأن تكون شروط الصلح هي نفسها شروط فتح المدن عنوةً؛ لأن صلاح الدين كان قد أقسم أن يفتح هذه المدينة عنوةً، وعند ذلك صالحهم صلاح الدين مقابل فداء يدفعونه، فجعل على الرجل عشرة دنانير يستوي فيها الغني والفقير، وعلى المرأة خمسة دنانير، وقيل: إنه جعل للطفل ديناراً واحداً، وأخليت المدينة لـ صلاح الدين رحمه الله تعالى فدخلها، وخرج النصارى بالفدية منها وسلموها لـ صلاح الدين رحمه الله.(1/11)
أول خطبة جمعة في بيت المقدس
ولما كان يوم الجمعة التالية لجمعة الفتح؛ لأنه دخلها يوم جمعة، لكنهم صلوا ظهراً ولم يتمكنوا من صلاة الجمعة، حضر المسلمون الحرم الشريف فغص بالزحام، وتسامع الناس من سائر الأطراف بفتح بيت المقدس، وتوافدوا من كل صقع وفج ليحظوا بمشاهدة هذا الفتح العظيم، فاجتمع من أهل الإسلام عدد لا يقع لهم إحصاء، وامتلأت ساحات المسجد بالخلائق، واستعبرت العيون من شدة الفرح، وخشعت الأصوات، ووجلت القلوب، وأخذ الناس من ذلك الموقف أُهبته، وعرض أناس يخطبوا والسلطان ساكت لم يعين خطيباً، حتى إذا حان وقت الخطبة قدم محيي الدين بن زكي الدين القاضي، فقام فخطب على المنبر في هذا الحشد العظيم خطبة بديعة جداً، استهلها بقوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ثم تلا الآيات التي في بدايتها الحمد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:1].
الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدَّر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيت المقدس من أدناس الشرك وأوباره، لم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دافع الشرك وداحض الإثم، الذي أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر إلى آخره.
ثم قال: أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا؛ لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله فيه أن يرفع اسمه إلى أن قال: وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموت إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاركم الله من عباده واصطفاهم من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجارٍ، فجزاكم الله عن محمدٍ نبيه أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منا ومنكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء.
ثم قال لهم: فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله بواجب شكرها.
ثم قال: أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1]؟! أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة من إلهكم عز وجل؟! أليس هو البيت الذي أمسك الله فيه الشمس على يوشع قبل أن تهرب ليفتح عليه؟!! أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه منهم إلا رجلان ورفض الباقون؟! فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وفضلكم على العالمين.
إلى آخر الخطاب المشهور، الذي أمرهم فيه وحرضهم على حفظ النعمة ومواصلة الجهاد، وكانت خطبة عظيمة بكى الناس فيها في ذلك المكان، وضج المسجد على كبره بالبكاء، وشكر الناس الله عز وجل على هذا الفتح العظيم، وأرسل صلاح الدين الرسل والكتب والبشائر إلى أنحاء العالم الإسلامي، وصدر كتابه إلى الخليفة العباسي بقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55].(1/12)
صلاح الدين وجهوده في إصلاحات بيت المقدس
عمد صلاح الدين رحمه الله إلى بيت المقدس فعمل فيه إصلاحات كثيرة، فمثلاً: كان النصارى قد أدخلوا بعض المسجد الأقصى في أبنيتهم، وبنوا على وجه المحراب داراً، وجعلوا المحراب مخزناً، واتخذوه مستراحاً، كما بنوا على الصحن كنيسة، وستروها بالأبنية، وملئوها بالصور، ونصبوا عليها مذبحاً، وعملوا مكاناً للرهبان، وأقاموا على رأس قبة الصخرة صليباً كبيراً، ولما دخل صلاح الدين أزال كل ما عمل الصليبيون في هذا المكان من الأمور المستحدثة، وكسرت الصلبان، وحولت الكنائس إلى مساجد، وجعل بيوت عظماء النصارى استراحات ومضافات لفقراء المسلمين، ولما تسلق بعض المسلمين إلى أعلى القبة واقتلعوا الصليب الذي سقط متكسراً، صاح الناس كلهم المسلمون والمشركون النصارى؛ فأما المسلمون فصاحوا فرحاً، وأما النصارى فصاحوا توجعاً وتألماً، ثم بدأ بعمارة المسجد الأقصى وتحسينه وتوسيعه، وخص المحراب باهتمام زائد عكس ما فعل به أولئك النصارى، وأتى بمنبر كان نور الدين محمود صنعه في حلب له كان يتمنى أن يخطب عليه في بيت المقدس أتى به صلاح الدين وجعله في بيت المقدس ليخطب عليه، وكذلك حصَّن هذه المدينة مرة أخرى حتى لا تعود إلى الكفرة ولم تعد إليهم إلا بعد أن دخلتها هذه الشرذمة من اليهود.(1/13)
روعة أخلاق القائد صلاح الدين
لا بد أن نقول أيها الإخوة: إن صلاح الدين رحمه الله كان يتمتع بأخلاقيات عالية جداً، فكم عفا عن أناس! وكم أعطى! وكم ترك أناساً يخرجون ولم ينتقم منهم كما فعلوا هم بالمسلمين من قبل! حتى أن بعض المستشرقين اضطروا إلى الاعتراف بمنة صلاح الدين في الكتب التي ألفت حديثاً، والمقارنة بين معاملة صلاح الدين ومعاملة غيره.
ومن القصص المشهورة التي تروى عن صلاح الدين في رحمته: أن بعض المسلمين لما دخلوا خيام العدو ليسرقوا رجالاً بعضهم سرق طفلاً رضيعاً له ثلاثة أشهر وأتوا به إلى خيمة السلطان، ثم ذهبوا به وباعوه، ولما فقدته أمه وهي في معسكر النصارى باتت مستغيثة بالويل والثبور طيلة تلك الليلة حتى وصل خبرها إلى ملوك النصارى؛ فأشفقوا عليها، وقالوا: اذهبي إلى صلاح الدين إنه رحيم القلب، قد أذنا لكِ بالخروج فاطلبيه منه فإنه يرده عليك، كيف عرفوا إلا من خلال معايشتهم لهذا القائد المظفر رحمه الله تعالى! وفعلاً فهذا ما حصل؛ ذهبت المرأة إلى صلاح الدين وأتى بترجمان يترجم بينها وبينه، فلما عرف وبكت أمامه بكاءً شديداً، وعرف قصتها رق لها ودمعت عينه، وأمر بإحضار الرضيع فوجدوه قد بيع، فاشتراه صلاح الدين من ماله ودفعه إليها، فبكت بكاءً وضمته إلى صدرها والناس ينظرون ويبكون، ثم حملت على فرس وألحقت بعسكرها هي وطفلها.(1/14)
آخر محاولات النصارى لغزو بلاد الإسلام
وحصل بعد ذلك أن صلاح الدين أكمل الفتوحات، ولكن جاءت حملة صليبية ثالثة عظيمة جداً؛ أعظم من الجنود والجيش الذي أتى به النصارى من قبل، وكان عليها ملوك فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، والبابا في ذلك الوقت عمد إلى حيلة ووسيلة خبيثة لتحريض النصارى برسمين: الأولى: رسمة تبين قبر المسيح الذي يزعمونه في كنيسة القيامة في بيت المقدس، صور القبر وصور عليه فرساً عليه فارس مسلم راكب وقد وطئ قبر المسيح، والفرس يبول فوق القبر؛ ومن ثم طيف بها على بلدان النصارى.
ثانياً: رسمت رسمة أخرى يصور فيها عيسى عليه السلام- كذبوا طبعاً- وجعلوه مع صورة أعرابي يضربه، وقد جرحه أو قتله، ومبين في هذه الصورة أن الأعرابي هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فطيف بهذه الصور وبغيرها من الدعايات حتى استجمعت جيوش عظيمة للكفار، كان تعداد الجيش الألماني فقط ثلاثمائة ألف، ولكن الله عز وجل بمنه وفضله جعل شرهم مقتصراً فقط في عكا، ولم يأخذوا عكا من المسلمين إلا بجهد جهيد، وهزموا بعد ذلك هزائم متوالية انتهت بعقد صلح الرملة الذي كان قبل وفاة صلاح الدين بوقتٍ قليل، ولم يأخذوا من بلاد المسلمين إلا هذه المنطقة ومناطق أخرى صغيرة جداً، حتى جاء بعد ذلك الملك الظاهر رحمه الله فأخرجهم من آخر معاقلهم من عكا وطهرت بلاد المسلمين من النصارى بالكلية.(1/15)
اهتمام صلاح الدين بالجهاد والعلماء والجيش
كان صلاح الدين رحمه الله رجلاً مغرماً بالجهاد، ومتوقداً حماساً للجهاد في سبيل الله، كان إذا أراد أحد أعوانه أن يتقرب إليه يتكلم إليه في أمور الجهاد، ومحاسن الجهاد، وفضائل الجهاد، وأمر صلاح الدين الكتاب والعلماء بتأليف كتب عن الجهاد، وفضائل الجهاد، كما ألف له العماد الأصفهاني والقاضي الفاضل وبهاء الدين بن شداد، ومن تعلقه أنه قال للقاضي ابن شداد وهو يسير معه في إحدى الغزوات: متى يسَّر الله فتح بقية الساحل قسمت البلاد وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
بهذه النية الصالحة تم لهذا الرجل استرداد بلاد المسلمين.
وهذا الرجل كان يشارك في الجهاد بنفسه، لم يكن يجلس في غرفة القيادة مغلقاً عليه الباب ويوجه.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: لعله وجبت له الجنة في رباطه في هذين العامين؛ لأنه حصل له مرض، صار فيه دمامل في جسده يتدمل إذا جلس على الفرس، ومع ذلك جلس عليه وتحمل يصابر الألم طيلة ليلتين، وكان يقول: إذا ركبت الفرس زال عني ألم الدمامل.
وكان رحمه الله تعالى أيضاً يجدد سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، وكان يحمس حتى الصبيان المسلمين على الجهاد.
وهناك قصة لطيفة ذكرت: عندما طال القتال جداً بين النصارى والمسلمين في بعض المواقع، سئموا القتال، فقال بعضهم لبعض: إلى كم يتقاتل الكبار وليس للصغار حظ، نريد أن يتصارع الصبيان؛ صبيٌ منا وصبيٌ منكم، يقول النصارى للمسلمين، فأخرج صبيان من المسلمين إلى صبيين من الإفرنج، واشتد الحرب بين الصبيان فوثب أحد الصبيين المسلمين إلى أحد الصبيين الكافرين فاختطفه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً، واشتد به ليأخذه حتى سار وراءه أحد الفرنجة، وقال: هو أسيرك هو أسيرك، أريد أن أشتريه منك، فباعه منه بدينارين.
ومن الأشياء أيضاً: أن صلاح الدين رحمه الله قرب منه العلماء، كان جيش صلاح الدين ليس محاربين فقط، كان فيهم علماء، ولذلك استدعى العلماء؛ والعلماء أيضاً تحمسوا للحاق بركب صلاح الدين، وكان يسمع منهم الحديث والأسانيد والأحكام، وهيأ الله له بطانةً صالحة من هؤلاء العلماء، وكان منهم الشيخ علي بن إبراهيم بن نجا الأنصاري الحنبلي، وكان منهم الحافظ القاسم بن علي بن حسن بن عساكر، ومن العلماء المجاهدين الفقيه عيسى الهتاري، أسر، فافتداه صلاح الدين بستين ألف دينار من النصارى لتعلم عظم مكانة العلماء عند صلاح الدين، ومنهم الشيخ أبو عمر المقدسي لا يترك معه معركة إلا حضرها، والشيخ عبد الله المنيني الملقب بـ أسد الشام؛ وكان أماراً بالمعروف لا يهاب الملوك، ومن العلماء المشهورين جداً الذين كانوا مع صلاح الدين: الحافظ عبد الغني المقدسي، والعالم المجتهد الرباني ابن قدامة المقدسي صاحب كتاب المغني المشهور، لأن آل قدامة كانوا يقاتلون مع صلاح الدين، وكان يقرب هؤلاء الفضلاء ويغدق عليهم ويعطيهم.(1/16)
حاجة القائد إلى أمة تقف بجانبه
نقف هنا -أيها الإخوة- عند مسألة مهمة جداً وهي درس في غاية الأهمية، يظن بعض الناس أن وضع المسلمين الآن لا يحله إلا ظهور قائد رباني، وبعض المساكين يرون أن نجلس وننتظر ظهور قائد رباني يرفع الراية ليسير المسلمون وراءه؛ هذه السطحية الموجودة عند بعض الناس الذين يظنون أن مشكلة المسلمين هي وجود قائد، ويقولون: إذا ظهر القائد انتهى كل شيء، هؤلاء المساكين الذين يعيشون على هذا الوهم لم يقرءوا التاريخ، هل يوجد من القادة عظيمٌ بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وإبراهيم الخليل؟! هل يوجد قائد مثل موسى عليه السلام الي قاد بني إسرائيل على أساس أنهم أسلموا معه إلى بيت المقدس، وطلب منهم اقتحامها، ماذا قالوا؟ {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] فعاقبهم الله عز وجل وضرب عليهم التيه أربعين سنة، وحرموا من دخول بيت المقدس، كان معهم قائد عظيم جداً؟ نعم.
لكن هل انتصروا؟ لا، وبذلك تبين لك يا أخي المسلم، وأقولها كلمةً أرجو أن تجد صداها في النفوس: قائد بدون جيش تربى على الإسلام لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ولذلك إذا تمعنا في سيرة صلاح الدين سنجد أن أفراد الجيش يختلفون عنا، ولذلك حصلت هذه الانتصارات، كان لأفراد جيش صلاح الدين دور كبير في هذا الجهاد، المسألة ليست صلاح الدين فقط، الذين يظنون أن المسألة صلاح الدين فقط مخطئون، صلاح الدين بمفرده لا يمكن أن يفعل كل هذه الأشياء، كانت الاجتماعات تعقد بين الجيش لتذاكر فرائض الجهاد، ويقوم بينهم العلماء والقضاة يذكرونهم، وحصل مرة أن اجتمعوا عند الصخرة وتحالفوا على الموت، وكانوا يتسابقون على معسكر صلاح الدين بمجرد علمهم بعزمه على الجهاد، وكان لهذه آثار على عامة المسلمين، فيتوافدون على أرض الجهاد وخصوصاً المتطوعة، كما حدث عندما عزم صلاح الدين على كبس خيام الصليبيين في معركة مرج العين عام (575هـ) كان الأفراد يقومون بمهام جميلة في غاية الأهمية.
ذات مرة بنى النصارى في حصار عكا ثلاثة أبراج عظيمة جداً يقذفون منها عكا فلحق بالمسلمين خسائر شديدة جداً، فندب صلاح الدين الناس إلى إتلاف هذه الأبراج، فما استطاعوا، حاول كثيراً منهم، حتى جاء شابٌ من أهل دمشق؛ وكان ذكياً يجيد صناعة (الأخلاط الملتهبة والمشتعلة) فعمل خلطة وركزها وركبها ثلاث خلطات، وقذف بها الأبراج واحداً واحداً، فكلما أتت على برجٍ أحرقته ومات من في هذا البرج من جند الصليبيين، واستراح المسلمون جداً بعد إحراق هذه الأبراج الثلاثة، فأراد صلاح الدين أن يكافئ هذا الشاب، فعرض عليه الأموال النفيسة؛ لأنه قدم هذه الخدمة الجميلة، فقال الشاب: أنا فعلت هذا لله تعالى، ورفض أن يأخذ ولو درهماً واحداً، فلما كان مع صلاح الدين مثل هؤلاء الأذكياء انتصر المسلمون؛ هذا من الأسباب.
وكذلك إليكم هذه الحادثة: كان للسلطان مملوك اسمه/ سراسمكر كان شجاعاً قتل من أعداء الله خلقاً كثيراً، وفتك فيهم، فأخذوا في قلوبهم من نكايته فيهم، فمكروا به، وتجمعوا له، وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم وتراءوا لهذا المسلم الشجاع، فحمل عليهم حتى صار بينهم فوثبوا عليه من سائر الجوانب من الكمين فأمسكوه، هذا يدل على شجاعة الناس الذين كانوا مع صلاح الدين، ولكن الله عز وجل بلطفه يدافع عن الذين آمنوا، فأخذ أحد النصارى بشعر هذا الرجل المسلم ورفع الآخر السيف ليضرب رقبة المسلم؛ لأن حامل السيف بينه وبين المسلم ثأر؛ لأن المسلم قتل قريباً من أقرباء هذا النصراني، فشاء الله أن تقع ضربة السيف على يد الماسك بشعر المسلم، فقطعت يد النصراني وقام المسلم فهرب، وهم يشتدون وراءه ولم يلحقوه حتى دخل بين المسلمين {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} [الأحزاب:25].(1/17)
زهد صلاح الدين حتى وفاته
كان صلاح الدين رحمه الله زاهداً، مات ولا يوجد في خزانته أربعون درهماً، شيء يسير جداً، كان يصرف الأموال للجهاد في سبيل الله، وكان يربي أتباعه على هذه القضية، وكان أي إنسان فيهم يجد عنده ميلاً إلى الدنيا كما حدث عندما رجع إلى دمشق بعد غزوة حصن كوكب عام (594هـ) وجد وكيل الخزانة في دمشق قد بنى له داراً ضخماً بقلعة دمشق، فغضب عليه وعزله، وقال: إنا لم نخلق للمقام بـ دمشق ولا لغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله عز وجل والجهاد في سبيله.
ومرض صلاح الدين رحمه الله تعالى سنة (589هـ) وحصل بعد ذلك أن اشتد به المرض ليلة الأربعاء (27/ صفر) واستدعى أبا جعفر ليبيت عنده يقرأ القرآن ويلقنه الشهادة إذا نزل به الموت، فذكر هذا الإمام: أنه كان يقرأ عند صلاح الدين وهو في غمرات الموت {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] فقال صلاح الدين: وهو كذلك صحيح، فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل ودخل عليه وهو في آخر رمق، فلما قرأ القارئ: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه، ومات رحمه الله وله من العمر (57 سنة) واستمر أولاده من بعده مجاهدين.
هذه باختصار -أيها الأخوة- نبذة عن حياة هذا الرجل العظيم، وعن تجديده في ميدان الجهاد.
وهذه الأمة لن تعدم -إن شاء الله- أفراداً أناساً مخلصين يحيون فيها الجهاد في سبيل الله.(1/18)
أمور تشترط لتحقيق النصر
أيها الأخوة! إن توحيد الأمة، وإعداد العدة، والتربية على الإسلام؛ ثلاثة أمور لا يمكن أن ينتصر المسلمون إلا بها، صلاح الدين عندما تحققت عنده انتصر.
أولاً: تربية الناس على الإسلام.
ثانياً: توحيد الأمة، فلا يمكن أن يقاتل المسلمون وهم متفرقون، ومن أين يأتي النصر؟ ثالثاً: إعداد العدة، فإذا تحصلت هذه الشروط انتصر المسلمون بإذن الله {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
وحتى يحين ذلك اليوم؛ الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغناه مجاهدين في سبيله، فإننا ندعو أنفسنا جميعاً لإعداد العدة، فالنصارى احتلوا بيت المقدس (92) سنة واليهود احتلوا بيت المقدس (42) سنة فإذاً كان من يحتل بيت المقدس جلسوا فيه ضعف الزمن الذي جلسه اليهود الآن، ولكن الله هيأ لهم من يخرجهم بعد (92) سنة من الاحتلال، ولعل الله يجمع اليهود الآن في هذا المكان من كل حدبٍ وصوب من أقطار الأرض حتى تكون نهايتهم واحدة بإذنه سبحانه وتعالى، مهما طال ليل الظالمين، فإن الفجر سيبزغ إن شاء الله، وهاأنتم ترون طلائع الجهاد في أرض الأفغان وفي أرض فلسطين بوادر وبذر طيبة، تمهيداً لذلك اليوم الذي يأذن الله فيه بعلو الإسلام، ولا بد أن يأتي؛ لأن عندنا من نصوص القرآن والسنة ما يجزم أن الله سيدخل هذا الدين كل بيت على سطح الأرض بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر وأهله.
المهم: ألا ننام نحن ولا نقعد، بل نواصل العمل في تعليم أنفسنا، والدعوة إلى الله، وتربية الناس، وشحذ هممهم، وتذكيرهم الجهاد (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية) لذلك لا بد أن تكون النية في الغزو -متى ما جاء وقته- حاضرةً عندنا جاهزةً لدينا، حتى إذا حانت اللحظات خرجت تلك النفوس إلى ربها سبحانه وتعالى تسعى سعياً حثيثاً.
والمسلمون يحتاجون اليوم إلى إعداد كبير وتربية عميقة، ولن يقوم بها إلا أنتم أيها المخلصون من المسلمين.
والمسلمون اليوم يعانون من أوضاع غريبة شاذة لم تمر بهم من قبل، فهم في ميدان يحتاجون فيه إلى دعم الجهاد، وفي ميدان يحتاجون فيه إلى إزالة جهل، ومحاربة شرك، وقمع بدعة، وفي ميدان يحتاجون إلى توطين أنفسهم، وفي ميدان يحتاجون إلى نشر الدعوة في أوساط الكفار، وفي ميدان يحتاجون إلى تربية؛ والتربية مهمة جداً لا بد أن تكون في جميع الميادين، وكلكم على ثغرة من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبلك، وأنت مسئول في بيتك، ووظيفتك، ومسجدك، وشارعك، وأنت مسئولٌ عن المسلمين في أرجاء الأرض المضطهدين في دعمهم بالنفقات المادية، وعلى الأقل بالدعاء لهم أن ينصرهم الله نصراً مؤزراً.
علينا أن نقرأ التاريخ -أيها الإخوة- لنعلم فعلاً أن الله لا يخلي بين هذه الأمة وبين الشيطان، وأن الله تعالى ناصر دينه ولا بد، ولو حصل الإيمان لجاء النصر بإذنه عز وجل {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
وصلى الله على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/19)
الموقف الرهيب في اليوم العصيب
يوم القيامة آت لا محالة، وهوله عظيم وحره شديد، والناس فيه على أحوال مختلفة ومواقف متباينة كما كانوا في الدنيا، وفي هذه المحاضرة وصف لذلك اليوم، وتذكير بأحوال الناس فيه، فهي موعظة عظيمة وعبرة بالغة.(2/1)
شدة هول يوم القيامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن المؤمن يخاف يوماً عبوساً قمطريراً، يخاف يوماً طويلاً كان شره مستطيراً، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ذلك اليوم في كتابه بتفصيلات كثيرة حتى كأن الإنسان ينظر إلى الآخرة رأي العين، ومن سره أن ينظر إلى القيامة رأي العين فليقرأ تلكم السور في جزء عم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ذكرنا الله بذلك اليوم؛ لنستعد له بالعدة اللازمة، ونحسب للأمر حسابه، وكثيرٌ من الناس عن هذا اليوم غافلون.
عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى إذا قبض خلقه بنفخة الصور، ومات الناس أجمعون، وصعق من في السماوات ومن في الأرض، يمكث الناس بين النفختين أربعون، ثم ينزل الله من السماء ماءً، فينبتون كما ينبت البقل، وليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظماً واحداً، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة كما في الحديث المتفق عليه، وعجب الذنب مثل حبة الخردل وتكون آخر العمود الفقري، فتلك النقطة يركب منها الخلق يوم القيامة.
يرسل الله سبحانه وتعالى سحابةً سوداء من قبل المغرب مثل الترس، فلا تزال ترتفع في السماء وتنتشر حتى تملأ السماء، ثم ينادي منادٍ: أيها الناس {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده إن الرجلين ينشران الثوب، فلا يطويانه، وإن الرجل ليمجر حوضه فلا يسقي منه شيئاً، والرجل يحلب ناقته فلا يشربه أبداً) رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
فهي تذهلهم إذاً، حتى إن الرجل يرفع لقمته إلى فيه لا يطعمها، من هول المفاجأة التي تكون، ثم يموت الناس، ويبعثون بعد ذلك.
والمطلع قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه: (لا تمنوا الموت، فإن هول المطلع شديد) وسنتحدث إن شاء الله في هذه الخطبة عن موضوع الحشر، نذكر به أنفسنا، ويتعلم من جهل، ويتذكر من غفل، ولعله يكون بعد ذلك التوبة والعودة.(2/2)
الحشر وأنواعه
الحشر: جمع الناس يوم القيامة، والمحشر: المجمع الذي يحشر إليه الناس.
والحشر أربعة: حشران في الدنيا، وحشران في الآخرة، فاللذان في الدنيا أحدهما المذكور في سورة الحشر في قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] والثاني: الحشر المذكور في أشراط الساعة فيما رواه مسلم رحمه الله تعالى: (إن الساعة لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات) والحشر الثالث: حشر الأموات من قبورهم بعد البعث إلى الموقف قال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:47] والحشر الرابع: حشر أهل الموقف إلى الجنة، أو إلى النار.
أما الحشر الذي يكون في آخر الدنيا قبل قيام الساعة، فإن الناس يطردون إلى المحشر وهو بأرض الشام بنارٍ يخرجها الله سبحانه وتعالى من نحو حضرموت من عدن أبين كما جاء في الحديث الصحيح، ثم تنتشر في الأرض، فتحشر الناس إلى مكان الحشر وهو الشام، يحشرون بطرائق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا) يحشرون إلى بيت المقدس في أرض الشام كما جاء ذلك في الحديث الصحيح: (فتخرج نار من نحو حضرموت تحشر الناس، قلنا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: عليكم بـ الشام) وقوله في الحديث: (راغبين راهبين) أي: ينطلقون هرباً من الفتن إلى أرض الشام في آخر الدنيا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يبقى في مكانه، ثم بعد ذلك إذا جاءت الفتن والبلايا والزلازل العظام، وكثرت الصواعق، فعند ذلك يذهبون على الإبل والدواب اثنان على بعير وثلاثة وأربعة يعتقبون، يركب بعضهم ويمشي الآخر، ويبقى أناسٌ لا يلقون ظهراً كما شرح ابن مسعود فيما صح عنه: أن الله يرسل آفةً، فيفنى الظهر، فتقل الدواب جداً حتى يمشون مشياً، والنار تحيط بهم، ومن تخلف أكلته، حتى يحشرون إلى الشام التي سيكون فيها الموت لجميع أهل الأرض قبل أن يبعثوا مرة أخرى.
فهذا الحشر يكون في آخر الدنيا قبل قيام الساعة مباشرةً، بنارٍ تخرج وتحيط بالناس فتحشرهم جميعاً إلى بيت المقدس في الشام، وبعد ذلك نفخة الصعق التي يموت فيها الناس أجمعون، ثم يبعثون مرةً أخرى فينشرون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته ميمونة بنت سعد: (يا نبي الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر) حديث صحيح.
المنشر: بعث الناس من الموت إلى الحياة مرة أخرى، والمحشر جمعهم في ذلك المكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تحشرون رجالاً وركباناً، وتجرون على وجوهكم هاهنا، وأومأ بيده إلى الشام).
أما أرض المحشر التي يحشرون إليها بعد قيامهم من القبور، فقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد) عفراء: ليست نقية البياض، وإنما بياض يضرب إلى حمرة.
كقرصة النقي أي: كقرص الخبز النقي الخالي من الغش والنخالة.
ليس فيها معلم لأحد: لا علامة من سكنى، أو بناء، أو أثر، أو جبل، أو صخرة بارزة، وإنما هي مستوية لا ترى فيها عوجاً، ولا أمتاً، لا يستطيعون الاختباء خلف أي شيء في تلك الأرض: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم:48] فالله سبحانه وتعالى؛ يبدل معالم الأرض، ويغير صفاتها فتكون مستوية: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:107] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تمد الأرض مد الأديم لعظمة الله عز وجل، فلا يكون لرجلٍ من بني آدم منها إلا موضع قدميه) قال البوصيري: إسناده صحيح.
والنبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، يخرج من قبره، ثم يخرج الناس على إثره بعد ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي) يعني: على أثري، يحشر الناس بعد قيامه صلى الله عليه وسلم، يحشرون وراءه، ويحشر المؤمنون، قال الله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} [مريم:85] ومعنى وفداً: كوفد الملوك الذين يقدمونع على الملوك لإكرامهم، الوافد من يأتي إلى الملك في أمر له شأن ينتظر الكرامة والنعمة والضيافة: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} [مريم:85].
ويحشر بعض الصالحين من بطون الطير والسباع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مرَّ على حمزة بعد وقعة أحد، وقد جدع، أي: قطع أنفه، ومثل به: قطعت بعض أعضائه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن تجد صفية في نفسها، لتركته حتى تأكله العافية -وهي السباع والطير التي تقع على الجيف- حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع، ثم كفنه في نمرة صلى الله عليه وسلم) وفي هذا دليلٌ على أن الله تعالى يحشر المحترقين والذين تحولوا إلى رماد، والذين أكلتهم الحيتان والسمك في قاع البحر، والذين أكلتهم الطيور والسباع وتخطفتهم، فالله تعالى يحشرهم جميعاً، ولما أوصى بعضهم أولاده بأن يحرقوه، ويذروا رماده في البحر في يوم عاصف، قال الله تعالى: قم، فقام بين يديه، وقد جمعه الله.(2/3)
صفة الناس في المحشر
يحشر الناس أجمعون يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (تحشرون حفاةً عراةً غرلاً، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! -عفة عائشة المفقودة في كثير من بنات جنسها في هذا الزمان، حياء عائشة المفقود في كثير من بنات هذا الزمان- فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) حفاةً: لا شيء في أقدامهم من خفٍ، أو نعل.
عراةً: متجردين من الثياب.
غرلاً: غير مختونين، والأغرل من بقيت غرلته وهي القلفة (الجلدة) التي تقطع في الختان، يحشرون كما خلقوا، لا شيء معهم، لا يفقد منهم شيء، حتى الغرلة تكون معهم، يحشرون حفاةً عراةً مشاةً كما جاء في حديث آخر، قالت عائشة: الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟!! فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مشغولون، ليس لديهم أي اهتمام لهذا النظر، وفي رواية: (يا رسول الله! واسوءتاه! ينظر بعضنا إلى بعض؟!! فقال: وشغل الناس، قلت: ما شغلهم؟ قال: نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل) كل الأعمال الصغيرة والكبيرة، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن موسى وهو ثقة.
والمتكبرون يحشرون كأمثال الذر في صور الرجال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغشاهم الذل من كل مكان) كما تكبروا في الدنيا يجعلهم الله على صور الرجال، لكن المقاس والحجم حجم النمل والذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، ويحشر الكفار {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126] يحشرون عمياً، وقال الله في آية أخرى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:34] عن أنس أن رجلاً قال: (يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟ -الوجه يكون بمثابة القدمين فيمشي على وجهه، وجهه إلى الأسفل ورجلاه إلى الأعلى- قال صلى الله عليه وسلم: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) قال قتادة: [بلى وعزة ربنا] والكافر الذي لم يسجد لله في الدنيا يعاقب بأن يسحب على وجهه في القيامة إظهاراً لهوانه، فويل لتارك الصلاة الذي لا يركعها، الذي لا يسجد لله رب العالمين، حيث يحشر على وجهه، ويمشي على وجهه، ويعفر بالتراب ويلاقي ما يلاقي، يحشرون يوم القيامة عمياً وبكماً وصماً.
والشياطين تحشر: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} [مريم:68] جاثون على الركب، وقال الله في شأن الكفرة والفسقة والفجرة: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:22 - 23] ومعنى أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم، ومن هو على شاكلتهم، فيحشر اليهود معاً، والنصارى معاً، ومن أحب اليهود والنصارى حشر معهم، ويحشر الزناة مع الزناة، والمرتشون مع المرتشين، والمرابون مع المرابين: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] كل طائفة على حدة يحشرون معاً، ومن أحب قوماً حشر معهم، فمن أحب مغنياً كافراً، أو ممثلةً فاسقةً فاجرةً، كل أولئك يحشرون سوياً {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] المقتدون بهم في أفعالهم، القرناء يحشرون معاً، وما يقع على هذا يقع على الآخر، ويناله نصيبه منه، ولا يبقى شيءٌ إلا ويحشر حتى الوحوش، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] أي: جمعت، وقال الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] فيحشر كل شيء حتى الذباب كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر الخلائق كلهم يوم القيامة، والبهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء) التي لها قرون ونطحت أخرى ليس لها قرون، يقتص الله للمنطوحة من الناطحة وهذا من كمال عدل الله، ثم يقول لهذه الدواب والطيور والوحوش: كوني تراباً، فذلك حين يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ثم يبقى الذين قد كلفوا ليكون الحساب عليهم، يكون الحساب في ذلك الموقف العظيم، وأما حشر التجار، فقد جاء فيه حديثٌ خاصٌ عن البراء بن عازب، قال: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، فقال: يا معشر التجار! حتى إذا اشرأبوا -ورفعوا رءوسهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن التجار يحشرون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى وبر وصدق) إلا من اتقى في بيعه وشرائه، ولم يبع المحرمات، ولم يبع بطريقة محرمة، ولا غشَّ في تجارته، وبرَّ في يمينه، لأنهم كثيراً ما يحلفون على الكذب وهم يعلمون، وصدق.
تاجر: تاء التقوى، والألف أمانة، والجيم جرأة يحتاج إليها التجار، والراء رحمة، لكنهم في كثير من الأحيان بعيدون عن ذلك إلا من رحم الله، وفي هذا الحديث دليلٌ واضحٌ على حشر التجار الفجار، فإن الكثير يستغلون بجشعهم حال الناس، وكثيرٌ منهم يحتكر، وهم من أكبر أسباب رفع الأسعار في البلاد، ولذلك يحشرون فجاراً إلا من رحم الله، فإنهم يكرمون مع الآمنين المؤمنين.(2/4)
أحوال الناس في يوم المحشر
.(2/5)
الجمع إلى المحشر
أما أحوال الناس في يوم المحشر، فإنهم يخرجون من القبور في أول ذلك اليوم كما قال الله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:4] قلبت فأخرج ما فيها، وقال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] أي: يسرعون، وقال الله: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] يعني: كأنه وضع لهم شيء أو علامة يسرعون إليها: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر:7] {مُهْطِعِينَ} [القمر:8] مهطعين أي: مسرعين، في ذل، رءوسهم مرفوعة لا تنظر يميناً ولا شمالاً: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم:43] لا تعقل من الخوف: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] اليوم الذي يخرج فيه الناس من قبورهم {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] في الكثرة والانتشار والضعف والتخبط، وموجان بعضهم في بعض، والذلة والاضطراب والتطاير كتطاير الفراش إلى النار، قال الإشبيلي رحمه الله: فتفكر في بهتك وحيرتك وانكسارك، وذُلِّك، وافتقارك وقلتك يوم لا تجد إلا عملك وسعيك الذي سعيت.
يخرجون من القبور يتبعون الداعي، والداعي: ملكٌ موكلٌ من الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] ملك يدعوهم إلى الحضور للحساب، يسمعون صوته، فيتبعونه {لا عِوَجَ لَهُ} [طه:108] أي: لا يحيدون عنه، ولا يميلون لا يميناً، ولا شمالاً {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:108] أي: خفضت وسكنت وسكتت هيبةً لله تعالى، وإجلالاً وخوفاً {فَلا تَسْمَعُ} [طه:108] أي: في ذلك اليوم صوتاً عالياً، بل لا تسمع إلا همساً أي: صوتاً خفياً، أو صوت الأقدام إلى المحشر، كل هذا كائن، وكل دنيانا ذاهبة، ونحن سنصير إلى ذلك اليوم.
قال الإشبيلي رحمه الله: وتخيل قيام الناس وثورانهم من قبورهم دفعةً واحدةً، وانبعاثهم مرةٍ واحدةٍ، وأنت بينهم وفي جملتهم منكسفاً وجهك، متغيراً لونك، متعثرة قدمك، قد ملئ قلبك فزعاً، وقصم ظهرك ذلك المستمع، وأنت حيران عطشان سكران: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] شاخص البصر نحو النداء، مستمعاً لذلك الدعاء، ولو وجدت مطاراً لطرت، ومفراً لفررت.
وهكذا يحشرون إلى ربهم، ويقومون من القبور عراةً، وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل عليه السلام.
ويتم الوقوف في ذلك الموقف، وفي أرض المحشر ليس للإنسان إلا موطئ قدميه فقط {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ليس أحدٌ جالساً، ولا مضجعاً، كل الناس واقفون في ذلك اليوم، كم طوله؟ خمسون ألف سنة، كما قال الله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:1 - 9] فالسماوات تطوى، وتذوب بعد ذلك ذوباناً تقطر منه، وتتغير ألوانها إلى الحمرة والزرقة والصفرة {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] متغيرة الألوان، وتذوب وتقطر، وتكون السماء كالمهل {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104] خمسون ألف سنة كما دل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب مانع الزكاة، الذي يمنع زكاة الإبل، تعضه وتطؤه إبله، وغنمه وبقره تنطحه، وتعود كلما انتهت في دورات متوالية، وكذلك الذي يمنع زكاة المال والذهب والفضة، فتصفح صفائح من نار، يطوقه ثعبان أقرع عظيم شديد السم، له قرنان، يلدغه في شفتي شدقيه، يقول: أنا كنزك: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ثم يرى بعد ذلك سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار.(2/6)
شدة الحر في يوم المحشر
قال الإشبيلي رحمه الله: ثم تفكر في ذلك الازدحام والانغمام، والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجن، وما يجمع من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم، وتدافعهم، واختلاطهم، لا فرار ولا انتصار، ولا ملاذ ولا هروب، وقربت الشمس، وكانت قدر ميلٍ، وزيد في حرها، وضوعف في وهجها، ولا ظل إلا ظل العرش، وقد انضاف على حر الشمس حر الأنفاس لتزاحم الناس، واحتراق القلوب بما غشيها من الكروب، واشتد الفرق، وعظم القلق، وسال من الأجسام، وانبعث من كل موضع من الجسد، وكان الناس في العرق على قدر أعمالهم، فليتفكر الإنسان إذا سال عرقه، وجرى من قرنه إلى قدمه بحسب عمله، واعلم رحمك الله أنه لو سال عرقك في الدنيا طول عمرك في طاعة ربك، ورضا سيدك على ألا تعرق في ذلك اليوم، لكان ذلك يسيراً، وهذا العرق قد جاءت فيه أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [المطففين:6] قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه) العرق ذو الرائحة الكريهة الذي يحدث نتيجة الحر ودنو الشمس وتزاحم الناس وانضمام بعضهم إلى بعض، ينزل من هذا الإنسان، وتشربه الأرض حتى يغوص فيها سبعين ذراعاً، قال عليه الصلاة والسلام: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً) وهذا عمق العرق تحت؛ أما فوق، فقال عليه الصلاة والسلام: (ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم) وهذا في حق الكفرة الفجرة، وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً ما يحدث: (حتى إن السفن لو أجريت فيه لجرت) قال الهيثمي: إسناده جيد، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الكافر ليحاسب يوم القيامة حتى يلجمه العرق، حتى إنه يقول: أرحني ولو إلى النار) وكذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قال: [إن الرجل ليفيض عرقاً حتى تسيخ في الأرض قامته، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب، قالوا: ممَ ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس مما سيلقونه] قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وهكذا تدنو الشمس من العباد، ثم إن جهنم يؤتى بها أيضاً، ليزداد الحر حراً، يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمامٍ سبعون ألف ملك يجرونها، أربعة آلاف وتسعمائة مليون ملك يجرون جهنم، ويزداد الحر حراً، ولا ينجو إلا من عصم الله، فهل أعددنا لذلك اليوم من عدة؟ وهل تبنا وقمنا بما يلزم من التوبة؟ وهل تركنا المعاصي وعدنا إلى الله رجاء النجاة في ذلك اليوم؟ اللهم اجعلنا في يوم الفزع من الآمنين، واغفر لنا أجمعين، وأظللنا في ظل عرشك يا كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(2/7)
نزول الله لفصل القضاء
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، هو الحي لا يموت، والإنس والجن يموتون، سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يشاء، لا إله إلا هو الحي القيوم، هو ديان يوم الدين سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله المبعوث رحمةً للعالمين، السراج المنير، والبشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: ومن أكثر الأمور فزعاً في ذلك اليوم عندما يجيء الرب نفسه سبحانه وتعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة:210] فيأتي الله لفصل القضاء بين الأولين والآخرين {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فتأتي الملائكة صفوفاً مع الرب عز وجل، يأتي لفصل القضاء بين الخلق بعد أن توسل النبي صلى الله عليه وسلم وشفع، لأن الناس قيام في الحر، وهم في كرب شديد يفزعون إلى الأنبياء واحداً إثر واحد، والأنبياء لا يقولون إلا: اللهم سلم سلم، ويردونها حتى تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيشفع ويسجد، ثم يقبل منه، ثم يأتي الله لفصل القضاء بين العباد.
صحح ابن حجر عن ابن عباس أنه قال: إذا كان يوم القيامة، مدت الأرض مد الأديم، وجمع الخلائق في صعيد واحد جنهم وإنسهم، فإذا كان كذلك قبضت هذه السماء -أي: كشفت- عن أهلها، فينثر على وجه الأرض من فيها من الملائكة، فلأهل السماء وحدهم أكثر من جميع أهل الأرض جنهم وإنسهم بالضعف، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض، وقالوا: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم، ويقولون: سبحان ربنا!! ليس هو فينا، وهو آتٍ ثم يقاض أهل السماء الثانية، فلأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل السماء الدنيا -من الملائكة- ومن جميع أهل الأرض بالضعف، فإذا نثروا على وجه الأرض، فزع إليهم أهل الأرض، وقالوا: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولهم ويقولون: سبحان ربنا!! ليس فينا، وهو آتٍ، ثم يقاض أهل السماوات كلها، فينثرون على وجه الأرض، فيفزع إليهم أهل الأرض فيقولون مثل ذلك، ويجيبونهم بمثل ذلك، ثم يقاض أهل السماء السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل السماوات الست ومن جميع أهل الأرض بالضعف، فيجيء الله فيهم، والأمم جثى صفوفاً، فينادى: سيعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون على كل حال -أصحاب الحمد لله على كل حال- فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادى ثانية: سيعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع -أصحاب قيام الليل- فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادى الثالثة: ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، فإذا أخذ من هؤلاء الثلاثة، خرج عنقٌ من النار، فأشرف على الخلائق، له عينان تبصران، ولسان فصيح، فيقول: إني وكلت بثلاثة: إني وكلت بكل جبار عنيد -الطغاة البغاة الذين كانوا يعذبون الناس في الدنيا ويتكبرون ويتجبرون على الخلق- إني وكلت بكل جبار عنيد، فيلقطون من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثانية، فيقول: إني وكلت بمن آذى الله ورسوله، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، ثم يخرج ثالثة، فيقول: إني وكلت بأصحاب التصاوير -الذين يعملون التماثيل والصور ذوات الأرواح- إني وكلت بأصحاب التصاوير، فيلقطهم من الصفوف لقط الطير حب السمسم، فيحبس بهم في جهنم، فإذا أخذ من هؤلاء الثلاثة، نشرت الصحف، ووضعت الموازين، ودعي الخلائق للحساب.(2/8)
المؤمنون في يوم القيامة
عباد الله: في ذلك اليوم العظيم؛ في خمسين ألف سنة ما حال المؤمنين؟ قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر) على المؤمنين فقط، والإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ليست القضية بالأماني: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] سلعة الله غالية حفت بالمكاره، فالمؤمنون يكون ذلك اليوم عليهم مثل ما بين الظهر والعصر، مثل وقت وجبة الغداء ينتظرون الكرامة من الله في ظل العرش؛ لا يصيبهم لهب الشمس، ولهم طعام وشراب، بين النبي صلى الله عليه وسلم أن طعامهم الثور والحوت، ثورٌ يرعى في أطراف الجنة ينحر لهم، ويأكلون ذلك النون وهو الحوت في ذلك الموقف يأكلون الحوت، ويوزع عليهم زيادة كبد الحوت فقط، وزيادة الكبد ألذ شيء في الكبد، يأكل منها سبعون ألفاً، هذه الضيافة في ذلك اليوم كما ثبت في الحديث الصحيح، والشراب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصب فيه نهر الكوثر، ميزاب من الجنة يصب في الحوض، وهو نهر الكوثر، لا ظمأ، ولا جوع، ولا حر، والوقت ما بين الظهر إلى العصر، وبقية الناس يا ويلهم! وحديث وفد بني المنتفق حديثٌ مشهورٌ رواه عددٌ من الأئمة في كتبهم، وقال بعضهم إن في سنده ضعفاً، ولكن قواه بعض أهل العلم كـ ابن القيم رحمه الله، وقال الهيثمي عن أحد أسانيده: إن رجالها ثقاة، وإسناده متصل، قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً، فقال: (أيها الناس! ألا قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام ألا لتسمعوا اليوم، ألا أني مسئولٌ هل بلغت! ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا) فجلس الناس، وقام هذا الوافد مع صاحبه، وحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (ثم تبعث الصائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئاً إلا مات، والملائكة الذين مع ربك) حتى هم يموتون، ثم يبعثهم الله (فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش) تهطل منياً كمني الرجال، فتنبت الأجساد من الأرض (فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيلٍ، ولا مدفن ميتٍ إلا شقت القبر حتى تخلفه من عند رأسه، فيستوي جالساً) لأن الله سبحانه وتعالى وصف الحشر كالماء الذي ينزل فتحيا به الأرض مع أنها كانت ميتة {كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فاطر:9] كما قال الله، فيقول ربك: متى عهدك يا بن آدم؟ يقول: أمس اليوم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف:35] لعده بالحياة يحسبه حديثاً بأهله، فقلت: يا رسول الله! فكيف يجمعنا بعد أن تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ فمثل له الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر، ثم قال: فتخرجون من قبوركم فتنظرون إليه وينظر إليكم، ثم بعد ذلك قال صلى الله عليه وسلم لما سئل ماذا يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: (تعرضون عليه باديةً له صفحاتكم لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من ماء، فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما يخطأ وجه أحد منكم منها قطرة، فأما المسلم، فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر، فتنضحه، أو قال: بمثل الحمم الأسو) هكذا يكونون في سواد زرقة وسواد، هذا شيء مما يكون يوم الحشر، وهو شيء آتٍ آتٍ لا محالة، وكل ما حولنا من المتع والملذات سيفنى، ولا يبقى إلا العمل الصالح، فالعمل العمل، والبدار البدار.
اللهم تب علينا وارزقنا توبةً نصوحاً، اللهم أحسن عملنا، اللهم اجعل وفاتنا على طاعتك، اللهم اجعل وفاتنا على طاعتك، فإن العبد يحشر على ما مات عليه، اللهم اجعلنا يوم الفزع من الآمنين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وأظللنا في ظل عرشك يا كريم، اللهم اجعل حسابنا يسيراً، اللهم اجعل حسابنا يسيراً، اللهم اجعل حسابنا يسيراً يا رب العالمين.(2/9)
مفسدات القلوب
إن القلب هو ملك سائر الأعضاء والجوارح، ولما كان القلب بهذه المنزلة، كان لابد من إصلاحه والابتعاد عما يفسده، وفي هذا الدرس يذكر الشيخ بعضاً من مفسدات القلوب.(3/1)
الحث على إصلاح القلب والابتعاد عن مفسداته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المكان، والحمد لله الذي هيأ لنا هذا اللقاء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعله مجلساً من مجالس الذكر الذي تحفه ملائكته، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين تنزل عليهم الرحمة والسكينة وتتغشاهم.
أيها الإخوة: نحمد الله على ما من به من نزول هذه الأمطار ونقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً نافعاً، اللهم صيباً نافعاً، ونتفاءل بنزول هذا المطر، نتفاءل بنزول رحمة الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، ونزول نصره عليهم، ونزول عذابه على الكفرة المشركين، وعلى اليهود والمنافقين وأعداء الدين، وربما سأل بعض الإخوان فقال: لماذا لا نجمع الآن؟ فأقول: الجمع في المطر لكي لا يشق على الناس الإتيان إلى المسجد لصلاة العشاء، وما دمنا نحن الآن في المسجد أصلاً فلعل هذه المشقة لا تكون موجودة بالنسبة للأعم والأغلب والحكم للأعم الأغلب، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقد تكلمنا أيها الإخوة في المرة الماضية عن موضوع إصلاح القلوب، وذكرنا فيه نقطتين أساسيتين، أو ثلاثاً، ولعل من المناسب أن نسمي الموضوع الماضي بعنوان: (المسلم بين الزهد والورع).
وأن يكون عنوان هذا الدرس في هذه الليلة، (مفسدات القلوب)، لأننا سنتكلم عن مفسدات القلوب، ولا شك أن الموضوع الماضي وهذا الموضع يدخلان في الإطار العام لموضوع إصلاح القلوب.
أيها الإخوة: إن هذا القلب هو الملك على سائر الأعضاء، وهو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) ولما كان القلب هو الملك والجوارح هي الجنود المؤتمرة بأمره، ولما كان هو المسئول عن الرعية، وهو الراعي والجوارح هي رعيته، لما علم عدو الله إبليس بذلك أجلب على هذا القلب بالوساوس والشهوات، وصار يحاول إفساد قلوب بني آدم بشتى الوسائل التي يستطيعها، وما ذلك إلا أنه قد أخذ على نفسه العهد بأن يفسد من ذرية آدم من يستطيع، والله استثنى خلقاً من خلقه، فقال: "إلا عبادي" هؤلاء العباد ليس لك عليهم سلطان، عباد الله المتقون، وأما الناس الغافلون وأصحاب الشهوات والشبهات، فإن لكل منهم نصيباً من الشيطان، بحسب الضلال الذي أضله به، ولا يمكن أن ينجو الإنسان يوم القيامة إلا إذا جاء بقلب سليم من الشهوات والشبهات، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(3/2)
أنواع القلوب
كما أن إضلال الشيطان لقلوب العباد على أنواع ومراتب، فإن القلوب أنواع كذلك، بحسب أصحابها، فمن القلوب: القلب الأول: قلب أسود مرباد كالكوز مجخٍ، قلب أغلف وذلك هو قلب الكافر، لا يدخل إليه النور ولا ينتفع بشيء.
القلب الثاني: قلب منكوس فيه مرض، وهو قلب المنافق.
القلب الثالث: وقلب فيه من النور الإيماني الرحماني ومن شهوات الشيطان والشبهات خلط، فيمده ميزابان، ميزاب النور الإيماني، وميزاب الشهوات والشبهات الشيطانية، فهو لما غلب عليه منهما، فإن كان الأغلب عليه نور الرحمن؛ فإنه ينجو، وإن كان الأغلب عليه مداد الشيطان؛ فإنه يهلك.
القلب الرابع: قلب المخبتين، الذين تخبت قلوبهم لذكر الله وتلين جلودهم لربهم سبحانه وتعالى، وهذا قلب المؤمن الخالص.
وقلوبنا -أيها الإخوة- نحن الضعفاء قلوب فيها الخلط والأمور المختلفة، فيها ما يرضي الله وما لا يرضيه ولذلك فإن المسلم مطالب بتنقية قلبه، وهناك أشياء تُصلح القلب ذكرنا بعضها، ولا يتسع المجال لذكر أمرٍ آخر من الأمور التي تصلح القلب، كالاستطراد في ذكر الله مثلاً، فإنه مما يصلح القلب، والعبادات على تنوعها تُصلح القلب، وهكذا من أنواع الخوف والرجاء والمحبة، والمحاسبة، والمراقبة والطمأنينة، والحياء والمراتب الأخرى التي هي أخلاق القلوب وسنذكر في هذا الليلة بعضاً من المفسدات؛ لأن اجتناب المفسدات من أعظم وسائل إصلاح القلوب، فإن المسألة جلب مصالح ودرء مفاسد.(3/3)
مفسدات القلوب
من مفسدات القلب -أيها الإخوة- خمسة مفسدات مرتبطة ببعضها البعض، وهي كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله، والشبع، وكثرة النوم، وسنضيف إليها موضوع الذنوب، والخواطر السيئة، وحب الرئاسة والرياء، إذا أسعفنا الوقت.(3/4)
كثرة الاختلاط بالناس
أيها الإخوة! إن كثرة الاختلاط بالناس اختلاطاً شديداً بحيث لا يبقى للإنسان وقت يتفرغ فيه لنفسه ولا يتفطن فيه لعيوبه، ولا يصلح فيه قلبه، كثرة الخلطة مسألة سيئة، يتسبب عن كثرة الخلطة، وإمتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، حتى يسود ويسبب تشتت القلب، وتفرقه ويسبب الهم والغم، وإضاعة المصالح والاشتغال بقرناء السوء، وينقسم الفكر عند كثرة الاختلاط بالناس، الاختلاط غير الشرعي، يقسم الفكر في أودية مطالب هؤلاء المخالطين، يتقسم الفكر في أودية مطالبهم وإراداتهم فماذا سيبقى في القلب لله والدار الآخرة؟! وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة، وأنزلت من محنة، وعطلت من منحة، وأحلت من رزية، وأوقعت في بلية؟ وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان أضر على أبي طالب من قرناء السوء؟ فلم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة توجب له سعادة الأبد، وهي كلمة التوحيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسه يقول: يا عم قل كلمة، كلمة حق أشفع لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله، وأبو جهل وغيره من عتاة قريش على رأسه من الجانب الآخر يقولون: تموت على غير ملة عبد المطلب، وهو يقول:
إني لأعلم أن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فـ أبو طالب يعلم بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم خير أديان البرية ديناً، لكن يمنعه عن قول لا إله إلا الله، الملامة أو حذار مسبة، أن يلومه قومه، أو يسبوه بعد موته، ويقولون: مات على غير ملة آبائه وأجداده، فهذه الخلطة الشنيعة سببت هذا الوبال الذي حل بـ أبي طالب، ألم يقل الله عن أناس من أهل النار يعتذرون فيقولون: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام:128] فيقال لهم: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128] وهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، كما قال الله عز وجل: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].
اجتماع الناس في مودة على شيء لا يرضي الله، سيكفر بعضهم ببعض يوم القيامة على هذا الاجتماع الذي اجتمعوا عليه، وكثير من الناس الآن يلتقون على مودة، لكن أي مودة؟ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25] اتخذوا من دون الله أوثاناً مودة بينهم في الحياة الدنيا، التقوا مودة، لكنها مودة شركية كفرية، مودة معاصٍ، وأهواء وشهوات، هذه الذي اجتمعوا عليها ففي يوم القيامة سيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، فهذه الخلطة المحرمة، وهذه الخلطة بقرناء السوء هي التي ستردي صاحبها في نار جهنم، فيكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين.
فإن قال قائل هل الخلطة أصلاً محرمة؟ وهل الإنسان مطالب أن يعيش وحدانياً ليس له صاحب ولا صديق؟ فنقول: أبداً ليس الأمر كذلك، فإن الإنسان خلق اجتماعياً بطبعه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل:72] لتسكنوا إليها، وجعل الناس ذوي أشكال أو أرواح فيها تجاذب وفيها تنافر والناس يميل بعضهم إلى بعض، ويرتاح بعضهم إلى بعض، أقسام وجماعات وشيع، لكن لا بد أن نقول: إن الخلطة منها ما هو شرعي، مثل ما خاطب الله المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة) معناه: أن المسلم مطالب أن يكون في جماعة، إذا لم يكن في جماعة يشذ ومن شذ، شذ في النار.
وإذا لم يكن في جماعة فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية؛ لأن الجماعة هي التي تقويه وتشد أزره وتغذي وريد إيمانه، وهي التي تشجعه، فيتقوى بعضهم ببعض، وتنعقد أواصر الأخوة في الله، إذاً: الجماعة الصالحة مطلوب من المسلم أن يختلط بها، ومطلوب من المسلم أن ينضوي تحت لوائها، ومطلوب من المسلم أن يكون فرداً من أفرادها، المجموعة الصالحة والرفقة الطيبة، لا بد من الاختلاط بها، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة، فلا يمكن للإنسان أن يقول: إننا من أجل إصلاح القلوب ينبغي أن نعيش منفردين ولا نخالط الناس، لكن أين الخطأ وأين الخطر؟
الجواب
الخطر في مخالطة أهل السوء، والاجتماع بقرناء السوء، وهذه الوحشة التي تحصل من امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم، الذين دائماً يسيرون على الخطأ ولا يتوبون إلى الله ولا يرجعون، هؤلاء أنفاسهم دخان ينعقد في القلب، فيعلون القلب من هذا النتن، ومن هذا الران، مالا يعلمه إلا الله.
فإن قال قائل: أعطنا ضابطاً يضبط لنا الأمور في الاختلاط الجيد والاختلاط الرديء فنقول: إذا خالطت الناس في الخير، كالجمعة والجماعات، والأعياد والحج، وتعلم العلم والجهاد في سبيل الله والنصيحة، فهذا اختلاط محمود بل هو مطلوب شرعاً، وينبغي عليك أن تفعل ذلك، وأن تعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإذا رأيتهم على لهو ولعب ومعاصٍ وفسوق، فلا يجوز لك أن تختلط بهم.
وإن قال قائل: إن الأوضاع اليوم لا تيسر لنا اجتماعاً دائماً على الخير، فإنني موظف في شركة، وطالب في مدرسة، وعضو في جامعة، وهذه الشركة، أو المدرسة، أو الجامعة، لا بد أن أذهب إليها، بحكم الدراسة والدوام، ولا بد أن أختلط بالطلبة والموظفين والناس الذين في ذلك المحل، وإنني تاجر وأختلط بالزبائن، فكيف أفعل؟ هل أترك هذه الأماكن لأن فيها سوءاً؟ فإن الأسواق فيها سوء، وكثير من المدارس قد يكون فيها سوء، والشركات فيها سوء، فهل أترك الخلطة في عملي في المستشفى أو الدائرة أو الشركة، وما إلى ذلك من أنوع أماكن التجمعات التي يتجمع فيها الناس لكي يعيشوا في وظائف، أو يعيشوا من الوظائف هذه في هذه التجمعات، هل أترك ذلك؟ فنقول: إن الاختلاط هنا أمر صار شبه مفروض عليك، ولا تستطيع أن تترك الاختلاط بهؤلاء الناس، في الشركة أو المستشفى، أو المدرسة، أو الجامعة أو السوق، فإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم، ولم يمكنك اعتزالهم وهم يفعلون أموراً من الشر؛ لأنك لن تعدم أحداً يدخن أو يغتاب أو يلعب الألعاب المحرمة، أو يأتي بمنكرات في المجلس الذي أنت فيه سواء في الشركة، أو الجامعة أو السوق أو المستشفى، أو المكان الذي أنت موجود فيه، ولا يمكن أن نقول للناس: عطلوا المستشفيات؛ لأن فيها اختلاطاً، وغادروا الشركات؛ لأن فيها مدراء سوء، واتركوا الجامعات؛ لأن فيها شللاً منحرفة، بل نحن مطالبون بالإصلاح ومطالبون بأن يكون لنا دور عملي نغير به الواقع، فيكون واقعاً يرضي الله عز وجل، فأنت طبيب في المستشفى، فلا بد أن تغير الواقع وتسعى في تغييره ليكون مرضياً لله، فتقاوم الاختلاط والسفور والخلوة المحرمة، وأنت طالب في المدرسة ينبغي أن تدافع المنكرات وتغير الواقع، وتقاوم قرناء السوء، وتقاوم الصورة المحرمة، والفلم المحرم الذي قد يجلب، والألعاب المحرمة، والنكت والطرائف المحرمة، وأنت في السوق ينبغي أن تقاوم البيوع المحرمة والتعامل الحرام مع الزبائن، والتحدث مع النساء مع تكسرهن في الكلام، ودعوتهن بالشهوات والمظاهر التي تجلب الشقاء للنفس، إذاً: نحن مهمتنا المدافعة وتغيير المنكر إلى ما يرضي الله عز وجل.
فإذا دعتنا الظروف لأن نكون مختلطين في هذا الواقع فماذا نفعل؟ لأن الواقع هذا قد يفسد القلب أو يقسيه، إنهم أناس لا يتورعون عن فعل الشر، وفي نفس الوقت لا يمكن أن نتركهم، ولا بد أن نختلط بهم في حكم عملنا، وهذا مجال كسب ووظيفة، ولا بد أن نكون فيه فما هو الحل؟ فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم وهم على أمور من المنكرات والشر، ولا يمكنك اعتزالهم أبداً -لأنه قد يمكن اعتزالهم في الشر- وإذا جاء وقت المباحات أو الخير اختلطت بهم، لكن إذا لم يمكن، فالحذر الحذر أن توافقهم على منكرهم وشرورهم، وأن تصبر على أذاهم، لأنك ستدعو وتواجه بأنواع من الأذى؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلقى أذى، فإذا لم يجد الأذى معناه أن في سيره خطأ، إما أنه يداهن أو شيء من هذا القبيل، وإذا لم يجد في إنكاره أذى أبداً، فمعنى أن في إنكاره خطأ، طبعاً لا يشترط أن يكون الأذى كل مرة، فقد يجد قلباً متفتحاً وأذناً سامعة، وإنساناً مستجيباً ويثني عليه، فلا يشترط أن يجد الأذى كل مرة، ولكن في أحوال كثيرة، أو في بعض الأحيان، لا بد أن يجد شيئاً من الأذى، فالحذر أن توافقهم، واصبر على أذاهم.
وإذا دعتك الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات، في أشياء من المباحات، فاجتهد أن تقلب ذلك المجلس طاعة لله، وأن تشجع نفسك على هذا الأمر وأن لا تستجيب للشيطان إذا قال لك هذا رياء، وأنت تريد أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر وأن تفتح مواضيع إسلامية، أنت مراءٍ، أنت تريد أن تبرز بينهم، على أنك أنت الشيخ وأنت الواعظ المذكر، وهذا رياء فلا تستجب للشيطان، وادع وذكّر: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] واستعن بالله عليهم، وأخلص في عملك، فإن أعجزتك المقادير فلم تستطع أن تغير أو أن تقلب المجلس إلى مجلس ذكر، فماذا تفعل؟ قال: ابن القيم رحمه الله فيمن هذا شأنه: "فليسل قلبه من بينهم، سل الشعرة من العجين وليكن فيهم حاضراً غائباً، قريباً بعيداً، نائماً يقظاً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، ويسمع كلامهم ولا يعيه؛ لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، وما أصعب هذا، وما أشقه على النفوس، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه".
أحياناً يضطر الإنسان أن يجلس في مجلس أو في مكا(3/5)
التمني
ثانيا: التمني، فإنه من مفسدات القلب، وهو بحر لا ساحل له، يركبه مفاليس العالم، والمُنَى رأس أموال المفاليس، والمفلس هو الذي ليس عنده أعمال صالحة، أو ليس عنده عطاء لهذا الدين، ماذا يفعل لكي ينجو من لوم النفس إذا لامته، أو ينجو من تأنيب الضمير إذا أنبه؟ يعلق النفس بالأماني، ويقول: سيغفر الله لي، أليس الله بغفور رحيم! فلا تزال أمواج الأماني الكاذبة تتلاعب براكب بحر التمني، وكل حسب حاجته، فمنهم من يعتمد على رحمة الله ويعصي ويحلم بالأماني، ويحلم بجنة عرضها السماوات والأرض، ولكن لا يفكر في أنها أعدت للمتقين، هؤلاء المتكلون على رحمة الله، مما ضيعهم مسألة مهمة جداً ما هي؟ إذا تأملت حالهم وجدتهم ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، هذه عبارة مهمة جداً، ذكرها علماؤنا، "ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم"، هؤلاء أصحاب الأماني، ما هي مشكلتهم ومصيبتهم؟ إنهم ينظرون في حقهم على الله، فيقولون: لا بد أن الله يغفر لنا، فنحن موحدون، ونحن مسلمون، قلنا: لا إله إلا الله، أليس من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؟ أليس؟ أليس؟ أكيد أن الله سيغفر لنا، فينظرون في حقهم على الله، والآن كل تفكيرهم وجل همهم ماذا سيفعل الله لهم من أنواع النعيم المقيم وجنات النعيم، ولكنهم لا يفكرون في حق الله عليهم، لو فكروا في حق الله عليهم وأنهم ينبغي أن يعبدوه وأن يصلحوا شأنهم معه؛ لعرفوا تقصيرهم، ولعرفوا أنهم مهما قدموا من الصالحات فلا يزالون مقصرين، إلا إذا تداركهم الله برحمته، و (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فإذاً: هذا التمني من الدواهي التي تصيب القلب فتهلكه؛ لأن الإنسان لا يزال في أحلام وتخيلات، في أنواع الجزاء الذي سيأخذه يوم القيامة، وهو قد نأى بنفسه عن التفكير في حق الله عليه.
ومن الناس من يجعل تمنياته في القدرة والسلطان، فيحلم وينظر إلى المستقبل أو ينظر إلى نفسه، يتمنى أن يكون أميراً أو كبيراً أو وزيراً أو رئيساً أو زعيماً، أو مديراً أو نائب مدير، أو نائب المدير العام ونحو ذلك من الأشياء.
ومنهم من أمانيه في الضرب في الأرض والتطواف في البلدان، في السياحات، ورؤية البلدان والمناظر الخلاّبة إلخ.
وهذا أمانيه محصورة بهذا الجانب، ومنهم أناس من أمنياتهم أو أمانيهم في الأموال والأثمان، تاجر وربح وكسب، وتضاعف رأس ماله ولا خسارة تذكر وهكذا وتوسعت الشركات، وفتحت الفروع، وعملت الأعمال، وهكذا فهو محصور في عملية الأثمان والأموال والتجارات وكل متمن بحسبه.
ومشكلة التمني أنه يصور الأمر لهذا المتمني أنه قد فاز بمطلوبه؛ لأنه عندما يفكر أنه قد وصل وأنه حصل على هذه الأشياء، وهذا مجرد تفكير وخيالات يرتاح فيها مؤقتاً، ويلتذ لذة وهمية، لأنه لم يحصل له شيء من هذا، وإنما هي أمنيات، فبينما هو على هذه الحال إذا استيقظ فوجد الحصير في يده، ليس عنده إلا الحصير.
فلابد أن نقف وقفة بسيطة، نقول: هل خطأ أن الإنسان يتمنى مالاً، أو غنىً أو جاهاً، هل هذا خطأ في الشرع، نقول: لا.
لكن الخطأ ورد في حديث مهم جداً، ذكره عليه الصلاة والسلام: ذكر أربعة من الرجال وذكر أحوالهم، فكان مما قاله في أحد الأحاديث: (ورجل يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان) إنسان غني يعمل صالحات، وينفق أموالاً وزكوات وصدقات وكفالة أيتام ويبني المساجد ويعمل الملاجئ والأوقاف وآخر يقول: لو أن لي مال فلان لعملت بعمله، وكلمة لو أن لي مال فلان، تعتبر تمنياً وهذا هو التمني المحمود؛ لأنه يتمنى لو أن له مال فلان لعمل فيه بعمل فلان، أي لتصدق وزكى وأنفق وبنى المساجد وكفل الأيتام، وتصدق على الفقراء، وأخرج المجاهدين وعمل أوقافاً إلى آخره، وطبع الكتب، ودعم الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، وعمل مراكز ربما في الخارج، وأنفق على دعاة، وجعل رواتب للدعاة لكي يتفرغوا للدعوة، وفكر في أشياء، هذا الإنسان يؤجر على أمنيته، يؤجر على نيته الطيبة، ولو ما عنده مال، يقول عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء).
وآخر عنده مال عمل فيه بمعصية الله، سافر السفريات المحرمة، وأنفق الأموال على أهل الفواحش، وأرباب الفسق وقرناء السوء، وظلم في هذه المال، وقطع رحماً، ومنع زكاةً ولم يكن من المصلين، ولم يحض على طعام المسكين، ونهر السائل، وقهر اليتيم الخ.
هذا إنسان آثم ولا شك، وشخص آخر يقول: لو أن لي مال فلان، لعملت بعمله، لو أن لي مال فلان، لركبت السيارات، ولبست الساعة الذهب الفلانية، وسافرت إلى المحلات الفلانية، وعملت الفواحش، وعملت الموبقات، ووضعت في البنك الربوي الفلاني وجاءتني الفوائد الفلانية، إذاً: هذا الإنسان ليس له مال، لكن مجرد الأمنية هذه يأثم عليها، فيقول: عليه الصلاة والسلام: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ليس له مال، ولكن تصور حتى تعلم أن القلب يعبد الله أو يعصي الله، يؤجر على ما في القلب ويأثم على ما في القلب، وهذا الإثم من إنسان مريد عاقد النية، لو كان له مال فلان لعمل فيه وهذا غير الخواطر، لأنه قد يقول قائل: إن الإنسان لا يأثم على الخواطر، نقول: نعم.
لا يأثم على الخواطر السيئة إذا طردها، جاءت ومرت، لكن هذا عازم، لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، معناها أن هذا الإنسان مصمم على المعصية وعاقد العزم عليها، وقلبه متجه إليها بكليته غير الشخص الذي يعي قول الله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فلا تتناقض في النصوص الشرعية.
هل يمكن أن تحجب التمني عن إنسان تقول له أنت يا فلان لا تتمنّ أبداً ولا تتخيل أي شيء؟ لا يمكن؛ لأن التمني شيء من ضروريات التفكير والعقل، ولا بد منه، وكل شخص يتمنى شيئاً ما.
فإذاً: ذكرنا تمنيات أهل الفسق والفجور، فما هي تمنيات أهل الصلاح؟ ذكرنا بعض التمنيات التي تصرف الإنسان عن الله في الأثمان والنسوان والسلطان الخ.
فما هي تمنيات أصحاب الهمة العالية؟ مثلاً: رجل يتمنى أن يحفظ صحيح البخاري، أو يحفظ القرآن قبل ذلك، ويتمنى أن يكون قد قرأ كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ويتمنى أنه قد درس عند الشيخ الفلاني، أو يتمنى أنه كان في روابي أرض الجهاد فيجاهد في سبيل الله، يتمنى الخير ويقول: لو أن لي مالاً لعملت به بعمل فلان من الأتقياء، يتقي فيه ربه، ويخرج حقه، ويصل رحمه.
هذا التمني هو الذي ينبغي أن يكون في نفس المؤمن، يتمنى أن يقاتل أعداء الله، يتمنى أن يرفع لواء للجهاد فيكون من أوائل الخارجين في سبيل الله، هذه الأمنيات ينبغي أن تكون موجودة في القلب وهي ليست مهلكة، ولا آثمة، وإنما هي أماني المؤمن، ولكل إنسان أمانيه، فما هي أمنيتك أيها المسلم؟ إن العصاة يتمنون أن يعصوا الله بأموالهم وصاحب الدنيا يتمنى سيارة فارهة، وبيتاً من عدة أدوار، وسلطان، وأهل الآخرة أمنياتهم تختلف عن أهل الفسق تمام الاختلاف.(3/6)
التعلق بغير الله
ومن الأمور التي هي من مفسدات القلب كذلك: التعلق بغير الله عز وجل.
أيها الإخوة: التعلق بغير الله له عدة نواحٍ والكلام فيه من عدة فروع، فمن التعلق بغير الله: التعلق بالدنيا، وقد مثله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود تمثيل في قوله عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) هذا الرجل المتعلق بغير الله، فمن الناس من يتعلق بالأموال، فيعمل لها كل همه، فيخرج من الصباح ويسعى ويعمل ويكدح إلى الليل، وربما سهر إلى الساعة الثالثة في الفجر، كما قال بعضهم: امرأة تشتكي زوجها قالت: يخرج الصباح فلا يرجع إلا الساعة الثالثة في الليل، مضيع لزوجته ولأولاده ولبيته ويقول لها: هذه حياتي تريدين العيش أهلاً وسهلاً، لا تريدين هذا الباب مع السلامة.
فهذا الشخص عبد الدينار والدرهم، وجعل همه للدرهم والدينار، إن رضي فللمال، وإن غضب فللمال وإن سخط فللمال، وإن أعطى فللمال، وإن منع فلأجل المال، وهكذا، فجعل هذا الدرهم والدينار هو معبوده من دون الله، وهو إلهه الذي يسعى في مرضاته، والكلام في هذا الموضوع كثير، وسبق أن طرحناه عدة مرات في مجالات أوسع من هذا، ولكن هنا فقط إشارة، وهناك أناس يتعلقون مثلاً بمدير أو رئيس مثلاً، فيجعل هذه الرئيس إلهاً يعبد من دون الله، فيطيعه في معصية الله، ويجعل همه في إرضائه، ويتجنب إسخاطه بكل وسيلة ولو أسخط ربه، ويجعل هذا الرئيس إلهاً يعبد، ويكون هو عنده بمثابة الخادم العبد الذليل الذي يفعل له كل شيء، من أجل أن يرضيه، ولا يفكر في إرضاء ربه سبحانه وتعالى، تعس عبد هذا الرئيس.
ومن الناس من قد يتعلق أو يجعل همه إرضاء زوجته، تعس عبد الزوجة، فلو أمرته بمعصية الله أطاع، وجرته إلى مكان معصية ذهب، وهكذا من الأشياء التي قد يقع فيها بسبب إسلامه القيادة لامرأة فاسقة عاصية.
ومن التعلق بغير الله: العشق، وهذا أمر خطير جداً، قد وقع فيه كثير من الناس في القديم والحديث، وقالوا فيه الأقاويل والأشعار حتى أوضحت لنا مكنونات أولئك الناس، فإذا أردت أن تعرف عذاب العاشق في الدنيا، فإنه إنسان فانٍ في محبة معشوقة، ومع ذلك ربما يقرب منه ويبعد عنه ذاك المعشوق ولا يفي له، ويهجره ويصل عدوه، فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء، كثير الشركاء سريع التغير، عظيم الخيانة، لا يدوم له معه وصل، فكيف إذا هجره ونأى عنه بالكلية، فإنه يكون عند ذلك جاءه العذاب الأليم، والسم الناقع، الذي يجعل حياته جحيماً لا تطاق، فالمشكلة تبدأ بالتعلق، أو بالإعجاب، قد يعجب بشخص من الأشخاص، ثم يتزايد هذا الإعجاب فيقوى، حتى يصبح تعلقاً بحيث إنه لا بد له من أن يلقاه في كل وقت، وفي كل حين، وأن يجلس إليه، وينظر إليه، ويسمع كلامه، ثم تتطور الأمور حتى تصبح عشقاً، فيصبح متيماً بهذا الشخص، همه إرضاء هذه الشخص قد غلبت محبته لهذا الشخص محبته لله عز وجل، فلذلك يعبده من دون الله ويستولي على قلبه، ويتمكن منه، فصار العاشق عابداً للمعشوق، يسعى في مرضاته ويؤثره على حب الله، بل يقدم رضاه على رضا الله، وحبه على حب الله، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاة هذا المعشوق ما لا ينفق في مرضاة الله، ويتجنب في سخط هذا المعشوق ما لا يتجنبه من سخط الله، فعند ذلك يكون عبداً له بالكلية، ويكون مشركاً مع الله سبحانه وتعالى.
وتأمل كيف قاد العشق امرأة العزيز إلى أن وقعت في المهاوي وعمدت إلى الفاحشة، وركبت رأسها، وغلقت الأبواب، ودعت يوسف وخانت زوجها، وأودى الأمر إلى أن يتكلم فيها نساء المدينة، ومع ذلك هي مصرة على غوايتها، وتقول: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].
فإذاً: أودى العشق بهذه المرأة في مهاوٍ، والشرك قرين للعشق، والتوحيد يبعد عن العشق تماماً، ولذلك كافأ الله يوسف بتوحيده لربه فأبعده عن الهلاك والرذيلة، وجعل تلك المرأة بشركها ملومة مذمومة يتكلم الناس عنها، حتى اعترفت بذنبها في النهاية، وبرأت يوسف عليه السلام.
وتكلمنا في محاضرة سابقة عن موضوع العشق لكنه -أيها الإخوة- ولم يجر عادة الكلام فيه، من شاء فليرجع إليه، لكن ينصح في هذا الموضوع بقراءة ما كتبه العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وكتاب إغاثه اللهفان من مصائد الشيطان، تكلم عنه في موضع من المجلس الأول وفي المجلد الثاني ربما كان الكلام أكثر في أواخره تقريباً، فموضوع العشق هو نتيجة ضعف الإيمان، والقلوب التي لا يكون فيها إيمان مستقر، فإنه يتطرق إليها العشق، وأنتم أيها الإخوة: لو تأملتم في أكثر كلمات الأغاني لوجدتم أنها تدور على معاني العشق، وكلها صدرت من أشخاص قد جربوا العشق أو عشقوا سواء كان الملحن أو المؤلف أو المغني أو السامع، فإن غالب الكلام إذا تأملت فيه وتبصرت فعلاً بنور الإيمان في كلام هؤلاء المغنين، لوجدته وصفاً لأحوال العشق، وأنه قد عبر أمامه وأن قلبه قد أنشد إليه، وأنه أحسن ما في الدنيا، وأنه إذا أعطاه كلمة واحدة من الثناء، فإن له بالدنيا وما له بالدنيا وما فيها، ولذلك تقرأ حتى في بعض أشعارهم: (لو كانت ليلى في جهة المشرق، وأنا أصلي للغرب؛ لتيممت نحوها في صلاتي، ولو أنه بين الحطيم وزمزم) والكلام كله يدور على معاني العشق، وهذه الأغاني قد دمرت القلوب تدميراً، ولعله يتاح لي الفرصة للكلام على مساوئ الأغاني وترسيخ العشق في قلوب الناس السامعين، لأن بعض الناس يقول: لماذا أنتم تعقدون الأمور جداً، والأغاني ماذا فيها؟! موسيقى وكلمات، لكن صدق -بالله العظيم- أن هذه الكلمات والألحان تجر إلى الشرك بالله عز وجل، وتزين العشق للسامعين وللناس، ومن نتائج سماع الأغاني المتكررة، أن يبدأ هؤلاء السامعون للأغاني في عشق النساء والمردان وعشق الصور الجميلة -طبعاً الأشخاص- المحرمة، وينبني عليها فساد عظيم في الدنيا وفي الآخرة، وينبني عليها ثوران الشهوات وينبني عليها تخريب العلاقة برب العالمين، وينبني عليها فساد العبادات، يقول: إياك نعبد وإياك نستعين، الفاتحة، وقلبه متعلق بامرأة أو شخص وهكذا المسألة تسير في هذه الناحية فيجعل جل همه في إرضاء هذا المعشوق وفي طاعته، وباختصار في عبادته من دون الله.
وينبغي أيها الإخوة: أن نعلم أن العشق قد يرتبط بالمحبة، لأن العشق هو عبارة عن محبة، زادت جداً جداً حتى وصلت إلى مرحلة أنه صار متيماً بهذا الأمر، وبلغ فيه النهاية القصوى، وتخلل قلبه محبة هذا المتعلق به، فينبغي أن نعلم بأن المحبة، نوعان: النوع الأول: محبة نافعة.
النوع الثاني: محبة محرمة.
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: النوع الأول: محبة الله وهي الأساس.
النوع الثاني: المحبة في الله، فنحن نحب الأنبياء لأي شيء؟ لصورهم وأشكالهم!! لأن الله أرسلهم، لأننا نحب الله، وهؤلاء جاءوا رسلاً من الله، فنحن نحبهم لأنهم جاءوا من محبوبنا الأعظم من الله سبحانه وتعالى الذي نحبه أكثر من كل شيء، أو هكذا ينبغي أن يكون الأمر.
ثانياً: المحبة في الله.
النوع الثالث: محبة ما يعين على طاعة الله.
والمحبة السيئة ثلاثة أنواع: النوع الأول: محبة مع الله، هذا شرك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] وهذا يقع فيه العاشقون، يقعون في هذا النوع من الشرك وهو المحبة مع الله، فهذا من أحسن أحوال بعضهم، وإلا فإن بعضهم نسي الله عز وجل تماماً، وصار كل همه في محبة المعشوق محبة مع الله.
النوع الثاني: محبة ما يبغضه الله، وهي مذمومة أيضاً.
النوع الثالث: محبة ما يقطع عن الله، إذا كان محبتك لشيء تقطعك عن الله، فمحبتك لهذا الشيء حرام، إذا كان التلفزيون يقطعك عن الله، فمحبتك له حرام، إذا كانت الألعاب -أي لعبة لو كانت مباحة- فلو قال قائل: المحبة مع الله شرك عرفناه، محبة ما يبغضه الله عرفناها، ولو كانت أفلاماً محرمة، أو أغاني إلى آخره عرفنا أنها محرمة وأن محبتها محرمة وأن الله عز وجل يبغضها وأن محبة ما يبغضه الله حرام، لكن ما معنى محبة ما يقطع عن الله؟ يعني: أن هناك أشياء مباحة أصلاً لا يبغضها الله، لكن إذا كانت محبتك لها تقطعك عن الله، فينبغي أن تبغضها، ولا تحب الأشياء التي تقطعك عن الله ولو كانت مباحة مادامت تقطعك عن الله مثلاً: إنسان محبته لزوجته تمنعه من الخروج إلى صلاة الفجر، ما حكم محبة الزوجة؟ مباح، بل شيء طيب، بل لا يمكن أن تستقيم الأسرة إلا إذا أحب الرجل زوجته والعكس، لكن لو أن هذه المحبة صارت إلى درجة أن الرجل من تعلقه بزوجته صار لا يمكن أن يفارقها، لإجابة نداء المؤذن في صلاة الفجر، فماذا يكون الحكم؟ هنا صار الأمر محرماً، لأن هذه المحبة في هذا الأمر قد قطعته عما يحبه الله، فصار تعطيلاً عن العبادة ومنعاً من أدائها، وصار أمراً لا يجوز، وقد أجاب ابن القيم رحمه الله في موضوع العشق في إغاثة اللهفان عن مسألة قال: ما حكم عشق الرجل لزوجته؟ فقال: إنه جائز إلا إذا كان يشغل عن عبادة الله.
لا يمانع أن الإنسان يحب زوجته جداً، بشرط ألا يقع في الشرك لكن إذا وصل الأمر إلى أنها توقعه في معصية وتصرفه عن طاعة، فعند ذلك يصبح أمراً محرماً.
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، كان عشقه للصور أوقع وأكثر في نفسه.(3/7)
كثرة الطعام
ومن مفسدات القلب أيها الإخوة: كثرة الطعام، وكثرة الطعام على نوعين: شيء من المحرمات، أو من المباحات، فإذا كان محرماً كالميتة، والدم والخنزير والخمر والشيء المغصوب والمسروق فإن أكله حرام، ولا يجوز فهو يفسد القلب بالتأكيد.
وكل جسم نبت من سحت فالنار أولى به، وإذا كان يأكل من الربا ويتغذى على الربا، فهل سيكون قلبه يقظاً؟ بالتأكيد لا.
الشيء الثاني: أطعمة مباحة، لكن الإنسان أسرف وجاوز الحد في المباح، والمباحات لها حدود فإذا جاوزت الحد في المباح تقع في المحذور، فالإسراف في الحلال في هذه المطعومات يؤدي إلى الشبع المفرط، والشبع المفرط يشغل عن الطاعة، وذلك لأنه يسبب بطنة، ومحالة إزالتها أو الوقاية من أمراضها، فيكون شيئاً مذموماً، ثم إن الشبع التام يقوي الشهوة، ويوسع مجاري الشيطان ومن أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً فخسر كثيراً، ولا يمكن أن نقارن بين التوسع في الحلال وبين الأكل الحرام، لكن أيهما أعظم؟ الأصل أن الأكل من الحرام أعظم، والتوسع في المباح يصير مذموماً إذا شغل عن عبادة الله عز وجل، ودعوني أقول لكم فائدة ذكرتها الآن: جاءني سؤال في ذات مرة، قال: رجل يأكل ثم يذهب ويستفرغ، ثم يعود يأكل ثم يذهب ويستفرغ، لماذا؟ قال: لأن هذا الإنسان يحب الطعام جداً، ولا يمكن أنه لا يأكل، أو يتلذذ بالطعام، ولكنه في نفس الوقت لا يريد زيادة وزنه فكيف يجمع بين الأمرين؟ فصار هذا المسكين يأكل ويتلذذ بالطعام، ثم يذهب إلى دورة المياه ويتقيأ ويتقيأ، ثم يعود مرة أخرى، فسألت الشيخ عبد العزيز حفظه الله عن هذا الموضوع قال: لا أدري ما هذا؟ عبث وأقل أحواله الكراهية الشديدة، لأنه إنسان متلف للمال على غير شيء، يأكل ويذهب ويستفرغ، فصارت المسألة كأنها حياة البهائم.(3/8)
كثرة النوم
والمسالة الخامسة من مفسدات القلب كثرة النوم، فإن كثرة النوم، تميت القلب، وتثقل البدن، ومضيعة للأوقات، وسبب في الغفلة والكسل، وهناك نوم نافع، كالقيلولة وأول الليل وسدسه الأخير، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، أي: قبل الظهر أو بعد الظهر أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من طرفي النهار زاد ضرره وقل نفعه، إلا المحتاج، فلو نمت مثلاً في أول النهار وقت تنزل البركات (بورك لأمتي في بكورها) ونوم بعد الفجر عند السلف مذموم؛ لأن هذا وقت تقسم فيه الأرزاق، وتحل فيه البركة، وتتنزل فيه ملائكة الرحمن، فيكون من حرمان الخير النوم فيه إلا المحتاج، وكذلك النوم بين المغرب والعشاء، وهذا أسوء الأشياء ولذلك نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً صريحاً، نهى عن النوم قبل العشاء، ولا ينام الإنسان قبل العشاء، النوم بعد المغرب منهي عنه، وهذا أسوء أنواع النوم، والنوم بعد العصر أيضاً فيه نوع من الضرب، ولكن إلا للمحتاج، لأن طبيعة العمل تحيج الإنسان لهذا، ولقد صار الناس نتيجة الورديات والأعمال وتطلب الإنتاج الكبير يشتغل في المصنع أربعاً وعشرين ساعة، حتى يكون إنتاجه أكثر فلما جعلنا همنا للدنيا، صار الناس حياتهم في جحيم، فيقول لك: أنا ليلي نهار، ونهاري ليل، منقلب وأريد أن أبدل وأسير على غير هذا إلا أن المجتمع صار هكذا، كل الأشياء مبنية على الدنيا.(3/9)
الذنوب والمعاصي
ومن الأشياء التي تفسد القلب: الذنوب، ومن الأدلة على ذلك ما قاله ذلك الرجل الصالح:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وكما جعلت حياة البدن بالطعام والشراب، فحياة القلب بدوام ذكر الله والإنابة إليه، وترك الذنوب، وإذا زادت الذنوب علا الران على القلب، حتى يتغلف ولذلك قال بعض السلف: اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: الموطن الأول: عند سماع القرآن.
الموطن الثاني: في مجال الذكر.
الموطن الثالث: في أوقات الخلوة.
فإن لم تجده في هذه المواطن، فاسأل الله أن يمن عليك بقلب فإنه لا قلب لك.(3/10)
الخواطر السيئة والاسترسال فيها
ومن الأمور التي تفسد القلب أيضاً: الخواطر السيئة والاسترسال فيها، وقد ذكرنا قبل قليل أن مجرد مرور الخاطر لا يمكن للإنسان أن يدفعه بل لابد أن يخطر ببالك شيء، لكن الخطر عندما تسترسل في الخواطر السيئة وتتمادى فيها، فإن مبدأ كل عمل خواطر وأفكار، الخاطرة تصبح فكرة، والفكرة تصبح تصوراً، والتصورات تدعو للإرادة، والإرادة تقتضي وقوع الفعل، وإذا وقع الفعل بكثرة وتكرر وصار عادة، فأنى لهم بعد ذلك أن يغيروا.
فإذاً: متى تصلح أعمالك؟ إذا صلحت خواطرك التي تخطر في قلبك ونفسك، وصارت خواطر طيبة، وإذا صارت الخواطر السيئة دائماً تخطر ببال الإنسان كالفواحش والحرام، والكسب المحرم، ويخطر بباله الظلم وأنه يريد أن يبطش.
إذا كثرت الخواطر السيئة والإنسان لم يدافعها ولا استعاذ بالله منها، واسترسل فيها وتمادى، تتحول إلى ملكات في النفس راسخة، ثم تضغط على الجوارح حتى تصبح فعلاً، فيفعل ما خطر بباله من المحرمات، والإنسان لا يمكنه منع نفسه من الخواطر، إلا أن قوة الإيمان تعين على دفع الخواطر الرذيلة.
انظر إلى حال الصحابة، يعني: أحياناً تأتي لأحدهم الخواطر في ذات الله سبحانه وتعالى، (قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحترق حتى يصير حمماً، أحب إليه من أن يتكلم به) تأتينا أحياناً خواطر في ذات الله، لو أني ترديت من جبل أو احترقت حتى صرت فحماً ولا أن أتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ذاك صريح الإيمان) يعني: إذا أنت توصلت إلى التحرج من هذه الخواطر لدرجة أنك تتردى من جبل، وتهلك وتحترق ولا تتكلم بها معناه أنك إنسان عندك إيمان قوي، ولذلك خنس الشيطان في نفسك ولم يقدر عليك إلا بهذه الخواطر تكرهها وتدافعها ما استطعت، والله سبحانه وتعالى خلق النفس شبيهة الرحى، ما هو الرحى؟ آلة الطحن، ولا تسكن، خلق النفس شبيهة بالرحى لا تسكن، هذا تمثيل جيد، ذكره ابن القيم رحمه الله وهذه الرحى التي لا تسكن لا بد لها من حب تطحنه، فإذا طحنت حباً خرج دقيقاً جديداً، كان الحب قمحاً فخرج طحيناً جيداً، وإذا كان تراباً وحصىً ماذا يخرج الطحن؟ وإذا كان في الطاحون شيء من القمح، ثم جاء إنسان بسطل من التبن وفتح الطاحون ووضعه فيه، فماذا سيحدث؟ يختلط الطيب والرديء، فانظر في نفسك ما هي الأفكار التي تدور فيها؟ فإذا كان ما يدور في نفسك قمحاً جيداً ستكون النتيجة عملاً جيداً، ودقيقاً نافعاً.
وإذا كانت الخواطر التي تدور في نفسك خواطر سوء معناها أن النتيجة التي ستخرج بعد الطحن ستكون أعمالاً سيئة، وإذا كان مخلوط بينهما، يخرج لك مثل الدقيق المخلوط بالتبن والعلف وهذا حال النفس وما يأتي فيها من الخواطر الطيبة والرديئة.(3/11)
حب الرئاسة
بقي لنا أيها الإخوة من الكلام في هذا لموضوع نقطتان: الأولى: تتعلق بحب الرئاسة، والثانية: تتعلق بالرياء، ثم الإجابة عن بعض الأسئلة.
أما بالنسبة لحب الرئاسة فإن حب الرئاسة شهوة خفية في النفس، وطمع يسعى إليه كل من في قلبه شيء من محبة هذه الأمور، فإن أكثر الناس يحب أن يكون ظاهراً ومعظماً، رئيساً مطاعاً وإليه الأمر في الأمور، وأن يؤخذ برأيه ومشورته، ونحو ذلك.
ونظراً لأن حب الرئاسة أو لأن الرئاسة إذا حصلت، يقع كثير من الناس بسببها في الظلم وفساد النية؛ لأن أصحاب المراكز دائماً الأنظار والأضواء مسلطة عليهم، جاء فلان وحضر فلان، فيقع في نفس الشخص شيء من كثرة ذكره بين الناس، وأنه شخص مهم، وبالتالي يقع فساد في قلبه من جراء هذا الأمر خصوصاً إذا بدأ الناس يتزلفون إليه، وقد يصرفون إليه شيئاً من الأشياء التي لا تجوز إلا لله، من أجل أن يحصلوا على مكاسب من ورائه فيتخذونه سلماً ويصرفون إليه أشياء من هذه الأمور التي فيها معاني العبودية، نظراً لذلك كانت الرئاسة مسألة خطيرة، وكان للسلف مواقف منها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه واحد يطلب إمارة لم يعطه، قال: (إنّا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله) جاء واحد يسأل الإمارة فقال: (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها -أي أعطيت لك- أوكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها) لو أعطيتها من غير مسألة وقيل لك: تولَّ قلت: لا أريد، ثم ألزموك بها، فسيعينونك رغماً عنهم؛ لأنهم هم الذين ورطوك في الأمر وأنت كاره له، فلا بد أن يعينوك، وإلا فلا تقبل بهذه، ولأن الرئاسة أو الإمارة فيها إفساد للقلب، ابتعد عنها كثير من السلف، وكانوا يتعوذون بالله منها كما يتعوذون من الشيطان، وهذا الذي يفسر لنا عزوف بعض السلف عن القضاء، يخشى من المنصب، ويخشى أن يظلم الناس بسببه، وكان ربما ضرب بعضهم وسجن ليتولى القضاء ويرفض ذلك.
فإن قال قائل، لكن الناس لا بد لهم من رؤساء، ولا بد لهم من قواد، فكيف نفعل؟ فنقول: في الوضع الإسلامي والجو الإسلامي، عندنا نماذج ما حدث في عهد أبي بكر وعمر، وقول أبي بكر لما بويع، طلب من الناس إذا وجدوه على خير أن يعينوه وإذا وجدوه على باطل أن ينقدوه ويصوبوه، وكان عمر دقيقاً في محاسبة الولاة، وكان يعزل ويولي على أشياء بالدقة والإتقان، ويجعل العيون على الولاة، وكانت تأتي إليه أخبارهم بالدقة دائماً وهذا في عهد السلف ولا بد أن نفهم هذه القضية، في عهد السلف كان الأكفاء وأهل العلم كثر، إذا تدافعوا القضاء سيتولى واحد من أهل العلم، لأن أهل العلم كثر، وكذلك إذا ولي فلان ولايات، هناك من الأكفاء وأهل الطاعة والإيمان والقدرة كثر، إنه مجتمع إسلامي ناضج وفيه خبرات متفتحة، فلما تدافعوا كان تدافعهم من أجل أنه وجد أكفاء يديرون الأمور، فلو دفع عن نفسه؛ لا يحصل بسبب ذلك ضرر على المجتمع، لكن نحن الآن في وضعنا ماذا نفعل، تعالوا ننظر في حال يوسف عليه السلام {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] لماذا طلب يوسف المنصب؟ وكيف يطلب يوسف المنصب؟ ونحن نتكلم الآن عن حب الرئاسة، نقول: إن يوسف كان يعلم، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، أنه كان لديه خبرة وقدرة على إدارة أمور التخزين، والصرف للناس بشيء من القدرة التي أعطاه الله إياها، ولم يكن يوجد في البلاد مثله ولا قريباً منه، فلأجل صالح الناس العام طلب أن يتولى ذلك المنصب، ولذلك نقول: إذا قل الأكفاء، فلا بد أن يولى الأكفاء وإذا ولي الأكفاء، فلا بد أن يربوا لأنه لو لم يتول هذا المنصب، لجاء آخر فأفسد فيه، لكن لو وجد من يتولى المنصب مثله في الكفاءة، أو قريباً منه، فالأسلم للقلب في هذه الحالة أن يبتعد عن المنصب، فلو كان يشغل المنصب عندنا فاسق وإنسان متمسك بالدين، وعنده خبرة: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] أمانة وقوة وخبرة، فمن الذين يتولى؟ هل يقول الرجل الصالح: لا.
هذا خطر على قلبي لا.
إذا كان هذا المنصب ليس فيه من المنكرات والآثام والمفاسد أكثر من مصلحة وجودك فيه، فإنه يتعين عليك إنقاذاً لمصالح الأمة -التي تستطيع أن تحققها من هذا المنصب- أن تتولى هذا المنصب، ولو كانت المفاسد التي فيه أكبر من المصالح بحيث ربما تفسد أنت في المنصب، بحجة مصلحة المسلمين فلا يجوز لك أن تتولى، وإذا وجد مثلك في الكفاءة لنفس المنصب، فإن الأسلم للقلب أن تبتعد، لكن إذا لم يوجد غيرك، ومثلك في الكفاءة أو كانت المصالح أكثر من المفاسد، فإن توليك له مصلحة شرعية، وينبغي أن تحرص عليها، لا لأجل المنصب والشهرة، وأن يكون لك مكانة بين الناس، ولكن لأجل حماية مصالح المسلمين.
ونرجو بهذا التوضيح الأخير، أن تكون المسألة الآن قد صارت واضحة.(3/12)
الرياء
ومن المفسدات التي سنذكرها في هذه الليلة أخيراً: الرياء.
والرياء هو عمل الشيء لكي يراك الناس والرياء: هو أن ترائي بعملك، (من راءى، راءى الله به) من فعل ليراه الناس، راءى الله به (ومن سمَّع سمَّع الله به) من فعل وأخبر الناس أني عملت وعملت، هذا اسمه تسميع، وهذا الفرق بين الرياء والتسميع، الرياء أن تعمل ليراك الناس، والتسميع أن تخبر الناس بما فعلت، ليسمعوا بك وبفعلك: (ومن سمع سمع الله به).
وإذا فضح الله إنساناً يوم القيامة، فالويل له مما قدمت يداه، فالرياء مفسد للعمل، وإذا كان العمل متصلاً ومبنياً أوله على آخره، وإن طرأ عليه الرياء ولم يدافعه فإن العمل يفسد ولا بد من إعادته كالصلاة المفروضة، وأما لو كان العمل منفصلاً وراءى في جزء منه أو في شيء منه، كمن تصدق بمائة ريال، وراءى فيها ثم تصدق بمائة أخرى ولم يرائِ فيها فليتصدق، فالتي تصدق ولم يراءِ فيها فهي مقبولة، والتي راءى فيها فهي مردودة، إلا أن يتوب إلى الله من هذا الرياء، فإنها تقبل إن شاء الله.
والرياء محرم، وليس فقط محبطاً للعمل، وإنما يترتب عليه إثم، لو أن قائلاً قال لك: الرياء فقط يبطل العمل، نقول: لا.
إنه يبطل العمل وتأثم أيضاً زيادة على بطلان العمل، تأثم لو أنت تصدقت رياء أمام الناس وأخرجت مائة ريال وجعلت تفرك بها وترفع وتخفض، هذا ليس فقط يحبط عمل المائة أنه ليس لك أجر عليها، ولكن أيضاً تأثم بفعل ذلك والدليل أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، ثلاثة: (متصدق وقارئ ومجاهد) وكما ورد في الاختلاف بحسب اختلاف الروايات، أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: (أولئك خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة، يا أبا هريرة).
فالرياء لا شك أنه من مفسدات القلوب وهو شرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ولا بد من توبة مخصوصة له، فبقية الذنوب لو عمل الإنسان حسنات فإنها تمحو بها السيئات، لكن الشرك لا يغفره الله إلا بتوبة، فلا بد أن تتوب له، ولأجل كثرة أنواع الشرك، وصعوبة متابعة الإنسان لكل شرك بتوبة، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء، فقال: (اللهم أني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه).
لأنك قد تكون وقعت في الشرك، فتقول بذمتك، وهذا شرك، وهذا أبسط الأشياء، فقولك: (بذمتك صار كذا)، فإذاً ينبغي الحذر من الشرك بجميع أنواعه وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] أنه داخل في الشرك الأكبر والأصغر.
وما هو الحل والعلاج من الرياء؟ علاجات الرياء أشياء كثيرة جداً: منها: محاولة إخفاء العمل على الدوام، وألا يجر ذلك إلى التقاعس، وهناك أشياء لا تخفى كصلاة الجمعة والجماعة، أن تأتي بقناع إلى المسجد، فهذا لا بد من الظهور فيه، لكن الصدقة قد تخفيها إلا إذا ترتبت مصلحة كبرى من إظهارها، مثل ما فعل الرجل، (وجعل الرجل يأتي بصرة حتى كادت كفه تعجز عنها، ثم تتابع الناس فكان قدوة للآخرين) هذا فيه مصلحة شرعية.
وإلا الأصل إخفاء الصدقات، وهكذا الحرص على إخفاء العمل وبالذات الأشياء التي ليس من السنة إظهارها، كقيام الليل، ثم إن الإنسان إذا أدى العمل فيراقب نفسه قبل أدائه، لأنه سيعمله لله، لأن العبد لا تزول قدمه يوم القيامة حتى يسأل عما عمل في حياته، لِمَ عملته وكيف عملته، أهو موافق للسنة؟ أهو لله أو لغير الله؟ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6].
كذلك احتقار العمل فهناك شيء مهم جداً وهو أن الإنسان مهما عمل من الصالحات فعليه أن يحتقر العمل، ويقول بينه وبين نفسه أن ما عمله حقير وأنه لا شيء بالنسبة لما هو مطلوب منه، ولو صلى كذا وكذا ركعة، وأنفق كذا وكذا من المبالغ الطائلة فإنه لا شيء بالنسبة لحق الله عليه، ينبغي أن يشعر أنه ما عمل شيئاً وأنه لعله ينجو: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة: الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه، يخاف ألا يقبل منه، يرجو الله أن يقبل، ويخشى من ألا يقبل منه فهو معلق بين الخوف والرجاء.
ومن العلاجات: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أهم من العمل نفسه، الآن مثلاً: أنت تصلي وتحرص على إتمام الصلاة، وأن تجعل ظهرك ليس للأعلى ولا للأسفل وأنه مستوٍ، وأنك تحرص على ضم اليدين عند السجود، وأن تستقبل به القبلة عند السجود وإذا رفعت، فلا هي مضمومة ولا هي مفرقة بين بين، وأنها مبسوطة وأنها حيال المنكبين، أو الأذنين، أو أنها على صدرك، أو بين الثديين كما قال أهل العلم، وأنك تشير بالأصبع وأنت تحرص على تصحيح صورة العمل، هذا ممتاز ومهم جداً، لكن ما هو الأهم منه؟ إنه تصحيح العمل نفسه، أي أن يكون العمل لله، أهم من تصحيح صورة العمل، وكلا الصورتين مهمة، الأولى: تتعلق بالإخلاص، والثانية: تتعلق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأمر الآخر: محاسبة النفس، هل راءيت فتتوب إلى الله، وما فعلته لله، هل قمت به لأجل الله أو لأجل فلان؟ مددت يدي لله، أو لأجل فلان؟ إن ترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها يؤدي إلى الهلاك، قال الله عز وجل: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8].
فإذا سئل الصادقون فما بالك بغيرهم، يسأل الصادقون عن صدقهم، فما بالك بغيرهم، فما بالك بالكاذبين، والتأمل في حال السلف من العلاجات، كيف كانوا يخفون أعمالهم، كيف كانوا يحتقرون أعمالهم، قال: محمد بن واسع -انظر هؤلاء سلف وكبار، وجهابذة، وعباد وصلحاء- يقول محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي من أهل الأرض".
وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون، كنت عنهم بمعزل" أنا لا أعد نفسي من هذه الزمرة، هم أعلى وأنا أدنى من ذلك، وكان عمر يقول: [اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقالوا: يا أمير المؤمنين! هذا ظلم، فما بال الكفر، قال: قال الله عز وجل: ((إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [إبراهيم:34]] كفر النعمة، إن أسهل شيء يقع فيه الناس كفر النعمة وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة".
وكذلك فإن محاسبة النفس بأن ينظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم ينظر هل قام به كما ينبغي، ينظر في حق الله، ماذا يجب عليه لله ثانياً وهذا يؤدي إلى ترك الإعجاب بالعمل، لأن من الأشياء السيئة أن يعجب الإنسان بعمله، ويشعر أنه عبد الله كما ينبغي فيقول: اليوم أنا عبادتي كاملة، والعجب بالعمل مصيبة، لذلك يقال في الآثار: لو أن عبداً عبد الله كذا وكذا سنة، ثم شعر بأنه احتقر عمله، فلحظة الاحتقار قد تكون أعلى وأكمل من كذا وكذا سنة عبادة، لأن العبادة قد تشعر الإنسان بالعجب، وإذا شعر بأنها قليل، وأنه لم يعمل شيئاً بالنسبة لحق الله، ولا بد من المزيد، يجتهد في العمل، وذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم أن رجلاً قال لأحد أهل العلم: إني لأقوم في صلاتي فأبكي حتى يكاد البقل ينبت من دموعي، فقال: "إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك، خير لك من أن تبكي وأنت تدل بعملك".
وهذه قصة لطيفة وجميلة نختم بها كلامنا، ذكرها ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان يقول: عن جعفر بن زيد قال: خرجنا في غزاة إلى كابول، -تصور، المسلمون وصلوا إلى كابول منذ قديم الزمان- خرجنا في غزاة إلى كابول وفي الجيش صلة بن أشيم وكان أحد الصالحين، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا، ثم اضطجع هو فقلت: لأرمقن عمله فأنظر ماذا يصنع هذه الليلة، فالتمس غفلة الناس - الناس ناموا وغفلوا- حتى إذا قلت هدأت العيون وثب، فدخل غيضة - مكان ملتف بالأشجار وخفي- قريباً منا ودخلت على إثره، فتوضأ ثم قام يصلي وجاء أسد - من أسود الغابة الموجودة- وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة -المراقب خاف- قال جعفر بن زيد: فتراه التفت أو عده جرواً فلما سجد قلت: الآن يفترسه، فجلس من السجود ثم سلم، ثم قال: أيها السبع! اطلب الرزق من مكان آخر، فولى وإن له لزئير، تصدع الجبال منه، قال: فما زال ذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس - لما صار قريباً من الصبح - فحمد الله بمحامد ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، فمثلي لا يجترئ أن يسألك الجنة -طبعاً هذا تواضع من العبد، وذلة بين يدي الله، لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يسأل الله عز وجل الجنة بل الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن نسأل الله الفردوس الأعلى، لكن في بعض الأحيان، قد يكون العبد فيه تواضع وذلة بين يدي الله لدرجة أنه يقول: مثل هذا الكلام تعبيراً عن تواضعه- قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفزع شيء الله به عالم.
فكانوا هكذا يخفون أعمالهم، هكذا يعبدون الله، وهكذا يحتقرون الأعمال، ولأجل ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى وأيدهم، وجعلهم فاتحين، وقدوة للأمم والعالم.(3/13)
الأسئلة(3/14)
حكم التعلق بالزوجة
السؤال
ما رأيك بالذي يتعلق بزوجته ولا يستطيع أن يصبر عنها دقيقة وربما سهر معها حتى ضاعت صلاة الفجر؟
الجواب
طبعاً هذا من التعلق المذموم الذي ذكرناه لأنه قد أدى إلى ضياع فريضة.(3/15)
ظاهرة الاختلاط
السؤال
ما رأيك فيمن قال في موضوع: أن صلة الرحم أن يجتمع العائلة بالنساء والرجال ولو اختلطوا أجلس معهم من باب صلة الرحم أحسن من ألا أجتمع معهم، فأكون قاطعاً؟
الجواب
هذه حيلة شيطانية، وإلا فإن الإنسان يمكن أن يصل الرحم لكن دون أن يقع في المحرمات، ولا يحتاج إلى الجلوس مع النساء فبإمكانه أن يتصل بالهاتف، أو يرسل رسالة، أو يبلغ سلامه، أو يهدي هدية مالية أو عينية، أو شيئاً من هذا القبيل، فإذاً هناك وسائل أخرى للصلة.(3/16)
حكم إعطاء مال الصدقة لغير ما تصدق له
السؤال
لدي مبلغ من المال لأسرة فقيرة سافرت وقد وجدت عائلة أخرى فقيرة، فهل أعطي المبلغ للعائلة الفقيرة الثانية أم أدخر المبلغ إلى حين ترجع الأسرة الفقيرة الأولى؟
الجواب
ادخر المبلغ حتى ترجع الأسرة الأولى لأن الذي أعطوك نيتهم لهذه العائلة.(3/17)
الصلاة خلف الصف
السؤال
أصلي خلف صف قد اكتمل أو أسحب؟
الجواب
تنظر حتى يأتي أناس آخرون، ولا تسحب أحداً أو تبحث عن مكان في الصف.(3/18)
حكم مس المتوضئ ذكره
السؤال
ما حكم وضوء من مس ذكره؟
الجواب
من مس ذكره من غير شهوة الصحيح أن وضوءه لا ينتقض، لأن هذا هو الجمع الصحيح بين حديث أبي هريرة وبين حديث علي بن طلق (إنما هو بضعة منك) وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) قال شيخ الإسلام: هذا يدل على أنه يجمع بينهما أن من مس ذكره بشهوة ينتقض لحديث (من مس ذكره فليتوضأ)، ومن مس ذكره لغير شهوة مثل أن يلبس أحياناً الملابس بسرعة فيمس ذكره بيده بدون شهوة وقصد، فعند ذلك لا ينتقض وضوءه إعمالاً لحديث علي بن طلق: (إنما هو بضعة منك).(3/19)
عظم الرجاء في الله
السؤال
أحس أن الله أحياناً راض عني إذا قمت بأعمال صالحة؟
الجواب
إحساس لا بأس به، لكن لا تجزم لنفسك، وإنما كن على خوف: ((قلوبهم وجلة)).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم شر أنفسنا، وأن يجعلنا وإياكم من أهل طاعته وذكره وصلى الله على نبينا محمد.(3/20)
التوسم والفراسة
الفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الباطنة، وهي علامة للمؤمن، ولها قسمان، وفي هذا الدرس ترى الكثير من القضاة والعلماء الذين كانت لهم فراسة صادقة، منهم: أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب الشافعي القاضي إياس وهناك علاقة بين الفراسة وبين تفسير الرؤى، كما أن لها علاقة بالقيافة.
والعلماء والقضاة وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توصلوا في كثير من القضايا إلى الحق بالقرائن الظاهرة، وهناك أمثلة كثيرة في هذا.(4/1)
الفراسة معناها وأقسامها
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن موضوعٍ فيه شيءٌ من العجب والغرابة ولكنه سمةٌ من سمات المؤمنين، وصفةٌ من صفاتهم ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه واصفاً بها المؤمنين فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75].
والتوسم والفراسة من صفات المؤمن، فأما الفراسة: فإنها النظر والتثبت والتأمل في الشيء والبصر به، يقال: تفرست فيه الخير، أي: تعرفته بالظن الصائب، وتفرس في الشيء: أي: توسمه، فالفراسةُ -أيها الإخوة- ناشئة عن جودة القريحة وحدَّة النظر وصفاء الفكر، والفراسة: هي الظن الصائب الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن، والفراسةُ: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، وهي أيضاً ما يقع في القلب بغير نظرٍ وحجة، وقد قسمها ابن الأثير رحمه الله إلى قسمين: الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: (اتقوا فراسة المؤمن) وفي إسناده ضعف ولكن معناه صحيح، إن للمؤمن فراسة، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوعٍ من الكرامات وإصابة الظن والحدس.
الثاني: نوعٌ يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس، وفراسة المؤمن معتبرةٌ شرعاً في الجملة لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75].
الفراسة: نظر القلب بنورٍ يقع فيه، ويتفرس يعني: يتثبت وينظر، وفي قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] فيه أن التوسم وهو تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير نافلةً والله يعلم أني صادق البصرِ
الفراسة التي هي الاستدلال بالخلق على الخلق، لقد جاءنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: [أحسن الناس فراسةً ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، وابنة شعيبٍ حين قالت في موسى: يا أبتي! استأجره، وأبو بكر الصديق حين ولى عمر] وهذا يحتاج إلى إثبات نسبته إلى هذا الصحابي الجليل فإن مسألة فراسة عزيز مصر في يوسف صحيحة من جهة أنه لم يكن معه علامةٌ ظاهرة، وأما بنت شعيب والراجح أنها بنت رجل صالح ليس بنبي الله شعيب، وإنما هو رجلٌ صالح غير نبي الله شعيب؛ لأن موسى لم يكن معاصراً لشعيب، هذه المرأة كان معها علامة بينة، فأما القوة فعلامتها سقي موسى لغنمها وسط هؤلاء الرعاة، وأما الأمانة فبقوله لها: وكان يوماً رياحاً: امشي خلفي لئلا تصفك الريح بضم ثوبك إليك وأنا لا أنظرُ في أدبار النساء.
فلما رأى الريح تكشف ثوبها وهي ماشية أمامه لتدله على بيت أبيها قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، أما أبو بكر رضي الله عنه، فقد عرف ولاية عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة وطولها.(4/2)
أصحاب الفراسة من السلف(4/3)
فراسة أبي بكر الصديق
وقد كان سلفنا رحمهم الله فيهم من هذه الخصلة شيءٌ كثير، فمن فراسة الصديق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: [نحلني أبو بكر رضي الله عنه الجذاذ عشرين وسقاً من ماله بـ العالية] له نخل شجر منحها جذاذ عشرين وسقاً، الجذاذ: الحصاد أو القطف الذي يحصل للثمر، ولم تقبضه عائشة وحضرت أبا بكر المنية وهبها إذا خرج الثمر يعطيها جذاذ عشرين وسقاً، فلما حضرته المنية حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: [با بنية! إن أحب الناس إلي غنىً أنتِ وأعزهم عليّ فقراً أنتِ وإني كنتُ نحلتك جذاذاً عشرين وسقاً من مالي بـ العالية -منطقة معروفة في المدينة وفيها نخلٌ جيد- وإنك لم تكوني قبضتيه ولا حوزتيه -ومتى تلزم الهبة؟ بالقبض: بما أنها ما قبضته فلا زال في ملك أبيها، وإنما هو مال الورثة- إذا مت الآن لن يكون من نصيبك ما قبضته بعد، فسيكون من مال الورثة، وإنما هما أخواك وأختاكِ؛ -الورثة- قالت: فقلت: فإنما هي أم عبد الله -تعني: أسماء؛ يعني: أخواي عرفتهما، وأختاي مالي إلا أخت واحدة أسماء فمن الأخت الأخرى؟ - قال: إنه ألقي في نفسي أن في بطن بنت خارجة جاريةً] وبنت خارجة: هي زوجة أبي بكر الصديق، وهكذا حصل وصار لـ عائشة أختٌ أخرى وورثت معها.(4/4)
عمر صاحب فراسة
أما عمر رضي الله تعالى عنه: فإنه رجلٌ أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، وهو رجل ملهم محدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (في أمتي ناسٌ محدثون، منهم عمر) محدث ينطق بالحق، وما يظنه عمر يكون حقاً في الغالب وصحيحاً، هذه فراسة إيمانية يلقيها الله في قلب من يشاء من عباده، ودخل عليه قومٌ من مذحج فيهم الأشتر فصعّد عمر فيه النظر وصوبه، وقال: أيهم هذا؟ قالوا: مالك بن الحارث، قال: ماله قاتله الله؟ إني لأرى للمسلمين منه يوماً عصيبة، وبعد عمر حصل من الأشتر فتنة عظيمة على المسلمين فعلاً، عرف عمر ذلك من وجه الأشتر.
ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـ عمر: هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك.
وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة:
فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبردٍ نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن أجاجٍ ولولا خشية الله رنت
من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر، وتقول:
فمنهن من تسقى بعذبٍ مبردٍ نقاخ فتلكم عند ذلك قرت
ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ أجاجٍ ولولا خشية الله رنت
فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.(4/5)
فراسة عثمان بن عفان
وأما عثمان رضي الله عنه، فله من ذلك أيضاً نصيبٌ جيد، فإنه حصل أن رجلاً مر بالسوق فنظر إلى امرأةٍ لا تحل له، فلما دخل على عثمان نظر إليه عثمان رضي الله عنه، قال: [يدخل رجل علينا، وفي عينه أثر الزنا -وزنا العينين النظر- فقال له الرجل: أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا.
ولكن برهانٌ وفراسة] ومثل هذا كثيرٌ عن علي رضي الله عنه.(4/6)
القاضي إياس ممن اشتهروا بالفراسة
وممن اشتهر بالفراسة في التاريخ الإسلامي إياس القاضي رحمه الله، إياس القاضي لما تولى القضاء في البصرة فرح به العلماء، حتى قال أيوب: لقد رموها بحجرها.
أصابوا الرجل المناسب في المكان المناسب، رموها بحجرها وجاء الحسن وابن سيرين فسلمَّا عليه فبكى إياس وذكر الحديث: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وواحد في الجنة) فقال الحسن: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] إلى قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] ثم جلس للناس في المسجد واجتمع عليه الناس للخصومات، فما قام حتى فصل سبعين قضيةً حتى كان يشبه بـ شريح القاضي، وكان إذا أشكل عليه شيءٌ بعث إلى محمد بن سيرين فسأله عنه.
هذا إياس القاضي رحمه الله له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن هذه القصص التي ذكروها أن إياساً القاضي جاءه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس: انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، فدعا إياس المودع المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم.
قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي.
فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن.
وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس: أما إحداهنّ فحامل، والثانية مرضع، والثالثة ثيب، والأخيرة بكرٌ.
فنظروا فوجدوا الأمر كما قال: قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوعٌ عن بطنها فعرفتُ أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها، فعرفتُ أنها مرضع، وأما الثيب فكانت تكلمني وعينها في عيني، فعرفتُ أنها ثيب، وأما البكرُ فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفتُ أنها بكرٌ.
وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان -سلمته المال عند شجرة في بستان- فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم.
قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم -يا عدو الله- فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته.
وتحاكم إليه اثنان في جاريةٍ فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس: أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ما ولدتِ؟ قالت: نعم.
فقال للبائع: ردها ردها وكذلك قال الثوري عن الأعمش: دعوني إلى إياس فإذا رجلٌ كلما فرغ من حديثٍ أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى.(4/7)
الشافعي وفراسته
وأما الشافعي رحمه الله فكان صاحب فراسةٍ أيضاً: ودخل اليمن خصيصاً لطلب كتب الفراسة وشرائها، وحصل له موقفٌ قال: مررتُ في طريق بفناء دار رجلٍ أزرق العينين، ناتئ الجبهة، سناط، فقلت: هل من منزل أبيت عندك؟ قال: نعم.
قال الشافعي: وهذا النعتُ أخبث ما يكون في الفراسة، تفرست في أن هذا الرجل لئيم، لكنه رضي أن يؤويني فأنزلني وأكرمني، فقلت: أغسل كتب الفراسة إذا رأيت هذا -الآن أصبحت كتب الفراسة فاشلة- فلما أصبحتُ انتهت الضيافة قلت له: إذا قدمت مكة فاسأل عن الشافعي؟ -يعني: من باب المكافأة بالمثل إذا جئت إلى مكة اسأل عن الشافعي حتى إذا جاء يرد له كرم الضيافة- فقال: أمولىً لأبيكَ كنتُ -أنا عبد عند أبيك؟ - قلت: لا.
قال: أين ما تكلفتُ لك البارحة؟ فوزنتُ له ما تكلف، وقلتُ: بقي شيءٌ آخر؟ قال: كراء الدار، ضيقتَ على نفسي قال الشافعي: فوزنتُ له، فقال: امضِ أخزاك الله فما رأيت شراً منك، هذا كلام صاحب البيت.
ومما يذكره العلماء في الفراسة أهمية فراسة العالم مع طلابه، كما ذكر الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين قال: وحكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لِمَ منعته؟ فقال: لكل تربةٍ غرس، ولكل بناءٍ أس، وقال بعض البلغاء: لكل ثوبٍ لابس، ولكل علمٍ قابس.
وينبغي أن يكون للعالم فراسةٌ يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته، حتى يعرف كم يعطيه من العلم وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم.
وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمتُ ما رأيت].(4/8)
مسألة الحكم بالقرائن
أما مسألة القضاء بالفراسة هل يجوز أن يقضي القاضي بفراسة؟ إن فقهاء المذاهب بالجملة لا يرون الحكم بالفراسة، فإن مدارك الأحكام معلومةٌ شرعاً مدركةٌ قطعاً، وليست الفراسة منها؛ لأنها حكم بالظن والحزر والتخمين، وهي تخطئ وتصيب.
هناك مسألةً مهمة نبه عليها ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية وفي كلام نفيس ذكر مسألة الحكم بالقرائن، وما يظهر وما يلوح وما يفهمه القاضي وما يستشفه من الأمر، قال: أما بعد: وسئلت عن الحاكم أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مجرد ظواهر البينات والإقرار حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال، فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع إلخ.
ثم قال: وإذا تأملت الشرع وجدته يعول على ذلك -أي على القرائن والحكم بها- ومن هذا مستند ذلك قوله تعالى: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27].
ونقل عن ابن عقيل رحمه الله قوله في مسألة اعتماد القرائن قال: وفي العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد أنه لمن؟ للدباغ، العطار ما دخله في الجلد، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار، للنجار، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر، للطباخ ونحو ذلك، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات، وكذلك الحكم بالقافة، القافة: الذين يعرفون الأثر وإذا رأوا أثر شخص على الأرض يعرفون من أي قبيلة، كم عمره، ذكر أو أنثى، وإذا كانت أنثى حاملاً أو ليست بحامل، وربما يعلم من أثر المرأة الحامل في أي شهرٍ هي.
هذه فراسة يرزقها الله من يشاء من الناس، فمن بني مدلج أناس مشهورون بالقيافة كما أن في بني مرة الآن أناس مشهورون بالفراسة، أو بالقيافة، فالقيافة نوع من الفراسة، وكذلك يمكن أيضاً من رؤية الأرجل أن يعرف هذا ولد فلان أو لا.(4/9)
القيافة يؤخذ بها في معرفة الأنساب
وقد حدثت قصةٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصة مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه، فإنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة نائمين عند النبي عليه الصلاة والسلام قد تغطيا، وأقدام أسامة ظاهرة من تحت الغطاء وأقدام أبيه زيد ظاهرة، كان أسامة بن زيد أسود كالفحم، وكان زيد بن حارثة أبيض كالقطن، فطعن المنافقون في نسب أسامة بن زيد، يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام يحب أسامة بن زيد وأباه وأن كلاً منهما حب النبي عليه الصلاة والسلام، فمن باب إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام كانوا يطعنون في نسب أسامة من أبيه زيد، فدخل مجزز على النبي عليه الصلاة والسلام وأسامة وأبوه نائمين، فنظر إلى الأقدام من غير ما أحد يسأله ولا يستشيره ولا يطلب شهادته، فنظر فقط للأقدام فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، لا يعرف الآن من النائم ولا من الأشخاص والألوان مختلفة، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي صلى الله عليه وسلم جداً؛ لأن الشهادة جاءت من شخص غير متواطئ ولا مستشار، شهد من نفسه فكانت شهادته كاتمةً ومخرسةً لألسن المنافقين.
وكذلك وحشي قاتل حمزة لما أسلم وجاءه رجلان واحد منهم معتجر بعمامته متلثم، ولما رآه وحشي سأله الشخص تعرفني؟ فقال: لا.
إلا أن تكون أنت ابن فلانة فقد حملتُكَ وأنتَ رضيع -كم القصة؟ يمكن فيها أربعين سنة- فعرفه، ومع أنه ما رآه إلا وهو رضيع من قبل، وهذه فراسةٌ عظيمة، قيافة عظيمة، فإذاً: للفراسة أشياء يستدل بها كالخلق في التقسيمات في الوجه والأعضاء واللون والهيئة يستدل بها على أمور: على نسب شخص، وهذه مسألة لها دخل في قضية القضاء إذا ادعى عدة آباء ولداً، كل واحد يقول: هذا ولدي، وليس هناك بينة فيعمل بكلام القافة، فيؤتى بالقائف الخبير الذي جرب من قبل، يجرب يقال له: هذا ولد لم نعرف من أبوه، يقول: ولد فلان ويكون كلامه صحيحاً والثاني والثالث، نختبر القائف فإذا عرفنا خبرته وصدقه فهنا يأخذ كلامه في مثل هذه الحالة، عندما لا يدرى أن هذا ولد من، فيختصم عليه مجموعة أو اثنان أو أكثر فإنه يعمل بقوله.(4/10)
يؤخذ بالقرائن في أحكام الحوادث الكلية
وكذلك يؤخذ بالقرائن في فقه أحكام الحوادث الكلية وفقه نفس الواقع وأحوال الناس ويميز بها بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، وهذا من عدل هذه الشريعة ومجيئها بما يسعد الخلائق وأنه لا عدل فوق عدلها.
وكذلك فإن النبي سليمان عليه السلام قد استدل بالمحق من المبطل لما جاءت المرأتان كل واحدة تدعي الولد، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، فلقيهما سليمان عندما خرجتا من عنده فسألهما عن القضية فأخبرتاه أنهما اختصمتا في الولد، أختان كل واحد معها ولدها، فخرجت إلى البرية، فجاء الذئب فعدا ببنت إحداهما فأخذه، فاختصمتا في الولد، كل واحدة تقول: هذا ولدي، جاءتا إلى داود فحكم به للكبرى؛ لأن الولد كان مع الكبرى، فلما خرجتا من عنده سألهما سليمان، ثم قال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، نصف لها ونصف لك، فقالت الصغرى: هو ولدها يرحمك الله، فقضى به للصغرى، وعرف أن الرحمة ما جاءت إلا من الأم الحقيقية، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة؟! فاستدل برحمة الصغرى ورضا الكبرى على ذلك وأن الصغرى رفضت ذبح صغيرها بسبب ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، وحكم به لها مع قولها هو ابنها.(4/11)
يؤخذ بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت
وكذلك يعمل بالقرائن في مسألة إقرار المريض بمرض الموت بمالٍ لوارثه، فإذا قال شخص وهو على مرض الموت: أنا أخذت من ولدي هذا فلان مائة ألف لانعقاد سبب التهمة، واعتماداً على قرينة الحال في قصده تخصيصهم، وكذلك في الشهادة التي ذكرها الله في كتابه: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} [يوسف:25] الآيات.
فقال: فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب.
وكذلك فإن القرينة الظاهرة التي جعلت الصحابة يحكمون بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل أو قيئه خمراً، يعد اعتماداً على القرينة الظاهرة، ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار.
قال في الأمارات والعلامات: وكذلك إذا رأينا رجلاً مكشوف الرأس وليس ذلك عادته -عادته يلبس عمامة- وآخر هارباً أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا بالعمامة للمكشوف، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ولا نحكم بها لصاحب اليد ولا نقول: وجدت بيده فهي له، من القرينة القوية التي قامت.(4/12)
النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالقرينة
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال له: العهد قريب والمال أكبر من ذلك، فهاتان قرينتان في غاية القوة، كثرة المال وقصر المدة، والقصة بأكملها رواها ابن عمر رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر، حتى ألجأهم إلى قصرهم والحصن فغلب على الزرع والأرض والنخل فاستولى عليها بالقوة، فصالحوه على أن يجلوا من حصونهم ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصخراء والبيضاء -الذهب والفضة- واشترط عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ولا أمان، يقتلوا إذا كانوا كاذبين وغشوا.
فغيبوا اليهود، أخفوا مسكناً فيه مالٌ وحليٌ لـ حيي بن أخطب، كان قد احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النظير.
لجأ حيي بن أخطب من نظير إلى خيبر، ومعه هذا المال والذهب، فلما أجلي يهود خيبر أخفوا هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب -وكان حيي قد قتل-: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النظير؟ قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب والمال أكثر) ما مضى مدة طويلة على المال العهد قريب والمال كثير، لا يمكن أن يكون قد ذهب بالنفقات فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، سلم اليهودي إلى الزبير فمسه بعذاب، لما قامت القرينة قال له: اضربه ليعترف، وكان قبل ذلك دخل خربةً فقال -هذا العم لما ضرب- قال: رأيت حيي ابن أخي يطوف في خربةٍ هاهنا، فذهبوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق بالنكث الذي نكثوا.
ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة، وعقوبة أهل التهم، وجواز الصلح على الشرط وانتقاض العهد الذي خالفوا وإخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم، فهو سبحانه قادرٌ على أن يطلع رسوله على الكنز بالوحي، لكن جعلها تمضي لكي يعرف القضاة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الأخذ بالقرائن.
وكذلك قال: ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل: كل واحد يقول: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه) فمن خلال السيوف عرف -بالقرائن- من هو الذي قتله فعلاً، وقضى له بسلبه، وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع فالدم في النصل شاهدٌ عجيب.
وقد روى ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله قال: (أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، قال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً) الآن جابر كان عليه ديون ويريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه خمسة عشر وسقاً من تمر خيبر، من قبل وكيل النبي عليه الصلاة والسلام، كيف يعرف الوكيل أن جابراً فعلاً عنده وكالة بأن يأخذ خمسة عشر وسقاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ جابر (فإذا طلب منكَ آيةً فضع يدك على ترقوته) قال: وكيلي إذا طلب منك دليلاً فضع يدك على ترقوته، كان يوجد اتفاق سابق بين النبي عليه الصلاة والسلام ووكيله قبل أن يذهب على هذه العلامة وهي: إذا جاءك شخص يدعي شيئاً مني ووضع يده على ترقوتك اعرف أنه محق.
فهذا اعتمادٌ في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة، وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغِ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال.
قال ابن القيم: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لهم لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها، وكذلك فإن الأمارات والفراسة ربما تدفعهم إلى الارتياب في حال المدعي، فيسألونه عن تفاصيل زائدة، وعن صحة ما يقول: وأين كان ونظر الحال، ونحو ذلك من الأشياء والأوصاف التي تقود في النهاية إلى معرفة الحقيقة.(4/13)
القاضي إياس والقضاء بالقرائن والشواهد
ومما حدث في التاريخ أيضاً من قصص إياس رحمه الله في هذا الجانب، مسألة العمل بالقرائن، قال: أودع رجلٌ بعض شهوده كيساً مختوماً وذكر أن فيه ألف دينار -وضع كيساً فيه ألف دينار عند شخص بحضور شهود- فلما طالت غيبة الرجل المودع ماذا فعل المودع عنده؟ فتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم -الدنانير ذهب والدراهم فضة قيمتها أقل- وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبها بعد سنوات فطلب وديعته، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير مختوم من فوق ما تغير الختم ولا انكسر فلما فتحه وشاهد الحالة رجع إليه قال: إني أودعتك دنانير والذي دفعتَ إلي دراهم، فقال: هو كيسك بخاتمك، فاستعدى عليه القاضي فأمر بإحضار المودع، فلما صار بين يديه قال له القاضي: منذُ كم أودعك هذا الكيس؟ -انظر الآن فراسة وحنكة القاضي، قضاة المسلمين كانوا على درجة عالية من الذكاء والخبرة والفراسة والعمل والأمارات والنباهة، ما كانوا مغفلين ولا نائمين ولا جهلة، هذه مسألة دماء وأموال: ما يحكم فيها إلا صاحب خبرة وعلم، القاضي هذا كان إمام البلد له وزنه- قال: منذُ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكتها، مسكوكة في عام كم؟ فإذا فيها ما قد ضرب من سنتين أو ثلاث، فأمره بدفع الدنانير إليه وأسقطه ونادى عليه، أي: شهر فيه وسفهه وعاقبه وحكم عليه بأن يرد الدنانير.(4/14)
الشيخ صالح بن عثمان وشدة فراسته
ومن هذا القبيل ما حدث في زماننا هذا الشيخ صالح بن عثمان القاضي، قاضي عنيزة، شيخ الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، كان قاضياً يقضي في الطريق ويقضي عند بيته ويقبل به الناس، وكان صاحب حلم وورع وتقوى ودقة وخبرة وفراسة، وقد جاءه مرةً رجل يعرفه أنه من أهل الصلاح يعمل جزاراً، وآخر بدوي -شخص آخر بدوي- يقول المدعي هذا: جاءني هذا البدوي وباع علي غنمه، فأعطيته الدراهم حول المغرب، ثم جاءني ثاني يوم في النهار يقول: أعطني ثمن الغنم، فقلت: أعطيتك إياها بالأمس، فقال: ما أعطيتني شيئاً، فذهب إلى الشيخ، وكان القاضي يحمس قهوته.
-ماء يفور على النار ويغليه لأجل القهوة- فقال: يا أيها البدوي! في جيبك دراهم، قال: نعم.
قال: أعطني إياها، فسكب الشيخ القاضي الماء في الإناء ثم طرح الدراهم التي مع البدوي في الإناء فطفا الدهن على سطحها، فقال: يا كذاب! هذه دراهم جزار، إذاً: هو أعطاك ثمنها، فالشاهد الآن أن هذه القرائن التي يعرف بها أهل الفراسة من القضاة وأهل العلم والخبرة يعرفون بها الأحوال فيضعون الحق في نصابه.(4/15)
القاضي أبو حازم وتأخير الحكم بسبب قرينة
وكذلك يقول مكرم بن أحمد: كنتُ في مجلس القاضي أبي حازم -وأبو حازم كان قاضياً مشهوراً- فتقدم رجلٌ شيخٌ ومعه غلامٌ حدث -جاء شخص كبير في السن ومعه غلام صغير، معه شاب حدث- فادعى الشيخ على الغلام هذا ألف دينار ديناً، قال: هذا استلف مني ألف دينار، فقال القاضي للشاب الحدث: ما تقول؟ قال: نعم.
فعلاً أخذت منه ألف دينار، فقال القاضي للشيخ: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تحبسه حتى يعيد إلي المال، فتفرس أبو حازم فيهما ساعة، نظر في هذا وفي هذا، ثم قال: اجلس حتى أنظر في أمركما في مجلسٍ آخر.
فيقول مكرم: قلت للقاضي: لم أخرت حبسه؟ قال: ويحك، إني أعرف في أكثر الأحوال في وجود الخصوم وجه المحق من المبطل، حتى صارت لي بذلك دراية، وقد وقع إليّ أنا الآن مرتاب، بسبب سماحة هذا بالإقرار، يعني: هذا الحدث بسرعة يقر بالألف! ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على بصيرة، أما رأيت قلة تقصيهما في الناكرة وقلة اختلافهما وسكون طباعهما مع عظم المال -مع أن المال كثير ما جادل ولا ناقش ولا أحد دافع التهمة- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع -هؤلاء الصغار لا يعترف بسهولة! هذا مسألة فيها شيء- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع حتى يقر مثل هذا طوعاً عجلاً منشرح الصدر يقر على المال، قال: فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذن على القاضي لبعض التجار، فأذن له، فلما دخل التاجر قال: أصلح الله القاضي إني بليتُ بولدٍ حدث يتلف مالي، ويظفر به في القيان عند فلان -في الأغاني واللهو- فإذا منعته -إذا لم أعطه نقوداً يلعب بها ويلهو بها، ويسافر بها أو يشتري سيارات يفحط بها- فإذا منعته احتال بحيلٍ تضطرني إلى التزام الغرم عنه، وقد نصب اليوم صاحب القيان يطالب بألف دينارٍ حالاً وبلغني أنه تقدم إلى القاضي يقر له فيحبسه، فما هي الخطة الآن؟
الجواب
يقول هذا الرجل: الآن الولد متفق مع صاحب الملاهي بأن يذهب عند القاضي والولد يعترف أن لصاحب الملاهي ألف دينار، فماذا يفعل القاضي؟ يحبس الولد، ثم إذا انحبس الولد قامت أمه نكدت عيشتي حتى أقضي الدين عن الولد وأدفع الألف دينار إلى المعترَف له، ويتقاسمانه بعد ذلك.
فلما سمعتُ بذلك بادرت إلى القاضي فتبسم القاضي وقال: كيف رأيته؟ فقلت: هذا من فضل الله على القاضي، فقال: علي بالغلام والشيخ، فأرهب الشيخ ووعظ الغلام فأقرا، فأخذ الرجل ابنه وانصرف، فالمسألة مسألة دراسة عند القاضي؛ ولذلك يعرف بها المحق من المبطل.
وكذلك قال: وقع من الفراسة أن ابن عمر رضي الله عنه لما ودع الحسين قال: [أستودعك الله من قتيل] ومعه كتب أهل العراق فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم، وفعلاً قتل الحسين، ومن ذلك أيضاً أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما تفرس أنه مقتول ولا بد، أمسك عن القتال وعن الدفاع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو.
هذه طائفة من الأخبار التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية في هذا الموضوع.(4/16)
القضاة كانوا أصحاب فراسة
قد سبق الكلام على مسألة الفراسة وأن فراسة المؤمن من علاماته، وأن الله تعالى ذكر ذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] وأنها إلهامٌ يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من عباده المؤمنين، وكذلك فقد اتصف بهذه الصفة عددٌ من أولياء الله عز وجل، وعلى رأسهم كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان القضاة المسلمون قد اتسموا بهذه الميزة وهذه الصفة، وكذلك فقد حفل التاريخ الإسلامي بأحوالٍ متعددة من القضاة الذين كانوا ينظرون بنور الإيمان والفراسة، ويعلمون المحق من المبطل.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله عز وجل نماذج من فراسة العلماء والقضاة ممن كانوا من قبلنا، ومن هؤلاء إياس رحمه الله تعالى وكان من كبار القضاة، وتقدم الكلام عن فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكذلك فراسة كعب بن سور رضي الله تعالى عنه، فإنه قد حدث في عهده من القصص التي تبين أن هذه الصفة من صفات المؤمنين.
وقد ساق رحمه الله تعالى في كتابه: الطرق الحكمية نماذج لما كان عليه أهل العلم في هذه المسألة، وتكملةً لما سبق الكلام عنه في هذا أنه قد ادعى عند إياس رحمه الله رجلان في قطيفتين إحداهما حمراء والأخرى خضراء، فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي ثم جاء هذا فوضع قطيفته تحت قطيفتي ثم دخل فاغتسل فخرج قبلي وأخذ قطيفتي فمضى بها، ثم خرجت فتبعته، فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بينة؟ قال: لا.
قال: ائتوني بمشطٍ فأوتي بمشطٍ فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوفٌ أحمر، ومن رأس الآخر صوفٌ أخضر، فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر.
وكذلك فإن مما حدث أيضاً، مما ينسب إليه رحمه الله تعالى أنه كان مرةً ينظر فجاء رجل فجلس على دكانٍ مرتفع للمربد، فجعل يترصد الطريق فبينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه -أي: هذا الجالس على الدكة والمكان المرتفع- نظر فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه ثم رجع إلى موضعه، فقال إياس: قولوا في هذا الرجل، قالوا: ما نقول؟ قال: رجل طالب حاجة وهو معلم صبيان قد أبق له غلامٌ -أي: عبدٌ- أعور فقام إليه بعضنا فسأله عن حاجته، فقال: هو غلامٌ لي آبق، قالوا: ما صفته؟ قال: كذا وكذا وإحدى عينيه ذاهبة، قلنا: وما صنعتك؟ قال: أعلم الصبيان، فقلنا لـ إياس: كيف علمت ذلك؟ قال: رأيته جاء فجعل يطلب موضعاً يجلس فيه، فنظر إلى أرفع شيءٍ يقدر عليه فجلس عليه، فنظرت في قدره فإذا ليس قدره قدر الملوك، فنظرتُ فيمن اعتاد في جلوسه جلوس الملوك، فلم أجد إلا المعلمين، فعلمتُ أنه معلم صبيان، فقلنا: كيف علمت أنه أبق له غلام؟ قال: إني رأيته يترصد الطريق ينظر في وجوه الناس، قلنا: كيف علمتَ أنه أعور؟ قال: بينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً قد ذهبت إحدى عينيه، فعلمت أنه اشتبه عليه بغلامه.(4/17)
فراسة كعب بن سور
وهكذا حصل أيضاً من كعب بن سور رضي الله تعالى عنه: جاءت امرأةٌ عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فشكرت عنده زوجها، وقالت: هو من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى يمسي، ثم أدركها الحياء فلم تستطع أن تكمل، فقال: جزاك الله خيراً فقد أحسنت الثناء، فلما ولت قال كعب: يا أمير المؤمنين! لقد أبلغت في الشكوى إليك، فقال: وما اشتكت؟ قال: زوجها، إن هذا الكلام هو شكوى لزوجها؛ إنها أثنت عليه أثنت عليه ثم سكتت، فقال: هذه شكوى، قال: عليّ بهما، فقال لـ كعب بن سور: اقضِ بينهما، قال: أقضي وأنت شاهد؟ قال: إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن له، قال: إن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يومك، وقم ثلاث ليالٍ وبت عندها ليلة، فقال عمر: [هذا أعجب إلي من الأول فبعثه قاضياً لأهل البصرة فكان يقع له في الحكومة من الفراسة أمورٌ عجيبة] أي: الحكم بين الناس يقع له في أمورٍ عجيبة، فهذا الرجل فهم من شكوى ثناء المرأة على زوجها ثم سكوتها أنها تشتكي زوجها وكذلك لما جيء به فصار على هذه الصفة من العبادة، وهو لا يعطي زوجته حقها لانشغاله بالعبادة استنبط من قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] أنه إذا أراد أن يقوم الليالي فإنه يأتي زوجته ليلة، وإذا أراد أن يصوم الأيام فإنه يفطر يوماً من كل أربعة، من أجل حق زوجته.(4/18)
من أنواع الفراسة
قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله: ومن أنواع الفراسة ما أرشدت إليه السنة النبوية من التخلص من المكروه بأمرٍ سهلٍ جداً، من تعريض بقولٍ أو فعلٍ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رجلٌ: يا رسول الله! إن لي جاراً يؤذيني، قال: انطلق فأخرج متاعك إلى الطريق فانطلق فأخرج متاعه؛ -أخرج الأثاث إلى الشارع- فاجتمع الناس إليه، فقالوا: ما شأنك؟ قال: إن لي جاراً يؤذيني -فما تحملت فأخرجت الأثاث إلى الخارج- فجعلوا يقولون: اللهم العنه اللهم أخرجه -الناس صارت تسب الجار المؤذي- فبلغه ذلك -أي: الجار المؤذي- فأتاه فقال: ارجع إلى منزلك فوالله لا أؤذيك أبداً) والقصة أيضاً رواها أبو داود وصححها الألباني.
فهذه وأمثالها هي الحيل التي أباحتها الشريعة وهي تحيل الإنسان في فعلٍ مباحٍ على تخلصه من ظلم غيره وإيذائه، لا الاحتيال على إسقاط فرائض الله واستباحة محارمه، وفي المسند والسنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في صلاته فلينصرف -يعني: إذا أحدث في الصلاة يقطع الصلاة ويمشي، لا يحتاج إلى سلام؛ لأنه قطعت للحدث- فإن كان في صلاة جماعة، فليأخذ بأنفه ولينصرف).
وإذا كان في وسط الجماعة فإن إحراجاً عليه بين الناس أن يمشي فليأخذ بأنفه كأنه أصابه رعاف، فالناس يقولون: خرج لأجل الرعاف، وفي الحقيقة أنه خرج لأجل الحدث، فقال: هذه دلت عليه السنة لتخليص الإنسان من الحرج دون كذب، فإنه لا يقول: إن بي رعافاً ويأخذ بأنفه وينصرف، وحتى الذي يعرف هذا الحديث من الناس، إذا رأى رجلاً آخذاً بأنفه لا يدري هل أصابه رعاف أم أنه خرج منه حدثٌ أو ريح، قال: وفي السنة كثيرٌ من ذكر المعاريض التي لا تبطل حقاً ولا تحق باطلاً، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله بقوله: ممن أنتم؟ وهو في الغزو ولا يريد أن يخبره من أي مكان كان هذا من أسرار العسكرية للمسلمين، قال: (نحن من ماء) وفعلاً إن الإنسان خلق من ماء مهين، والله عز وجل خلق كل شيءٍ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} [الأنبياء:30].
وكذلك لما سئل أبو بكر الصديق عن النبي عليه الصلاة والسلام: (قيل له: من هذا بين يديك؟ قال: هادٍ يدلني على الطريق) ما يريد أن يخبر أن هذا النبي عليه الصلاة والسلام، خطأ وهو هارب عليه السلام من مكة وكيف لو أصاب الخبر، فقال: هذا هادٍ يدلني على الطريق، وفعلاً النبي عليه الصلاة والسلام هادٍ يدل على طريق الإسلام والحق.
وعبد الرحمن بن أبي ليلى -الفقيه- وقد أقيم على دكانه بعد صلاة الجمعة على مكان مرتفع، فقام على الدكان وقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب، فالعنوه لعنه الله.
هذا عبد الرحمن بن أبي ليلى قد أتي به مكرهاً من قبل واحد ممن كان يكره علي بن أبي طالب، وقيل له: نريدك أن تصعد أمام الناس وتلعن علي بن أبي طالب، فقام على المكان المرتفع، فقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله، قصده في (العنوه) على من؟ على الأمير ومن ذلك تعريض الحجاج بن علاط بل تصريحه لامرأته بهزيمة الصحابة وقتلهم، حتى أخذ ماله منها وكانت على الشرك وهو على الإسلام.
ومن الفراسة الصادقة؛ فراسة خزيمة بن ثابت حين قدم وشهد على عقد التباين، بين الأعراب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حاضراً، تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا يدخل في سرعة الأمر.
فراسة حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيناً إلى المشركين، فجلس بينهم، تسلل وجلس بينهم في معركة الخندق، فقال أبو سفيان وكان رئيس المشركين فجأة لينظر كلٌ منكم جليسه، قال: أخشى أن يكون محمداً قد أرسل إلينا عيناً، تجسسوا علينا كل واحد ينظر من بجانبه يتفقده؛ فـ حذيفة بادر قبل أن يسأله جاره المشرك، وهو مندس بين المشركين، فقال لجليسة: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، فاطمأن ذلك الشخص ولم يسأله.
وكذلك من هذا الباب فراسة المغيرة بن شعبة وقد استعمله عمر على البحرين فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم، فخافوا أن يرده عليهم، فقال دهقانهم: إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا، قالوا: مرنا بأمرك؟ قال: تجمعون مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر، وأقول: إن المغيرة اختان هذا ودفعه إليه -نتهم المغيرة عند عمر، نقول: إنه اختلس هذا المبلغ ووضعه عندي، هذا الدهقان الكافر وقومه يخشون أن يرجع عليهم المغيرة أميراً فيقولون: نذهب ونتهمه عند عمر، فجمعوا المال للدهقان، فأتى الدهقان إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إن المغيرة اختان هذا فدفعه إلي! اختلسه ووضعه عندي أمانة، فدعا عمر المغيرة فقال: هذا يقول إنك اختلست ألفاً ووضعتها عنده، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ذلك؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ -يعني: هذا المدعي أيضاً صار مختلساً مائة- فقال: لا والله لأصدقنكم، والله ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على هذا؟ -يعني: على هذه الكذبة- قال: إن الخبيث كذب علي فأردت أن أخزيه.(4/19)
فراسة عبد الملك بن مروان
قال ابن القيم رحمه الله: ومن أحسن الفراسة فراسة عبد الملك بن مروان لما بعث الشعبي إلى ملك الروم فحسد المسلمين عليه -ملك الروم لما رأى نجابة الشعبي وذكاءه وفطنته وعلمه حسد المسلمين عليه- وأراد أن يدبر له مكيدة لعله يُقتل أو يحبس فبعث معه ورقةً لطيفة إلى عبد الملك رسالة فلما قرأها -أي: عبد الملك الخليفة- قال للشعبي: أتدري ما فيها؟ قال: في نص الرسالة: عجبٌ كيف مَلَّكَتِ العرب غير هذا؟ -يقول له ما ذكره في الرسالة: عجيب أمر العرب! كيف يملكون غير هذا الشعبي - يقول عبد الملك بن مروان: أفتدري ما أراد؟ قال: لا.
قال: حسدني عليك فأراد أن أقتلك، قال الشعبي: لو رآك -يا أمير المؤمنين- ما استكبرني، فبلغ ذلك ملك الروم فقال: والله ما أخطأ ما كان في نفسه.(4/20)
فراسة المنصور
ومن دقيق الفطنة ودقيق الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارةٍ فكسب مالاً فدفعه إلى امرأته ثم طلبه منها، فذكرت أنه سرق من البيت، ولم يرَ نقباً ولا أمارة -الجدران سليمة وما عليها أثر اقتحام للبيت أو سرقة- فقال المنصور: منذُ كم تزوجتها؟ قال: منذُ سنة، قال: بكراً أو ثيباً؟ قال: ثيباً، يعني: كانت عند زوج من قبل، فوقع في نفسه احتمال أن تكون متعلقة برجل من قبل، قال: فلها ولدٌ من غيرك؟ قال: لا.
فدعا المنصور بقارورة طيبٍ كان يتخذُ له، حاد الرائحة غريب النوع لا يوجد له أي مثيل، فدفعها إليه، وقال له: تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك، فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحدٌ منكم، فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحدٍ فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت به إلى رجلٍ كانت تحبه، وقد كان للذي دفعت إليه المال، سرقت من زوجها وأعطت الرجل، والآن أعطته الطيب، فتطيب منه ذلك الرجل ومر مجتازاً ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحته عليه، فأتى به إلى المنصور، فسأله من أين لك هذا الطيب؟ فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة، وقال: إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخلِّ عنه، وإلا فاضربه ألف سوط، فما جرد للضرب حتى أحضر المال على هيئته، فدعا المنصور صاحب المال، فقال: الآن المال سوف يرد إلى صاحبه، لكن بقيت لدينا مشكلة ما هي؟ تعلق المرأة بذلك الرجل، فيريد أن يحل المشكلة أيضاً فقال المنصور للرجل: أرأيت إن رددت عليك المال تحكمني في امرأتك -تقضي لي الحكم فيها- قال: نعم.
قال: هذا مالك وقد طلقت المرأة منك؛ لأجل أن أتاحت المجال للآخر بالحلال أن يعود إليها، والرجل صاحب المال راضٍ بهذا.(4/21)
سرعة البديهة جزء من الفراسة
ومما يدخل في الفراسة سرعة البديهة، وهي جزء من أجزاء الفراسة أو نوعٌ منها، فمن ذلك أن شريكاً -وهو قاضٍ عالم فاضل دخل على المهدي، فقال للخادم -الآن المهدي خليفة أمامه واحد من عظماء المسلمين وعلمائهم الكبار- قال: هاتِ عوداً للقاضي يعني: البخور، فجاء الخادم بعودٍ يضرب به -الخادم غبي أتى بعود مما يعزف به، فوضعه في حجر شريك - فصارت الآن الورطة الكبيرة للمهدي الخليفة، أن هذا العالم الجليل يأتي للعود ويضع في حجره، فقال شريك: ما هذا؟ فبادر المهدي وحضرته البديهة فقال: هذا عودٌ أخذه صاحب العسس البارحة -الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من العسس- صادره بالأمس، فأحببت أن يكون كسره على يديك فدعا له وكسره.
وكذلك: كان للمعتضد رحمه الله عجائب في هذا، منها: أنه قام ليلةً فإذا غلامٌ قد وثب على ظهر غلام، فاندس بين الغلمان فلم يعرفه، فجعل يضع يده على فؤاد كل واحد، واحداً بعد واحد فيجده ساكناً حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام فإذا به يخفق خفقاً شديداً فركضه برجله واستقره فأقر فقتله، يعني: على فعل الفاحشة.
وكذلك: رفع إليه أن صياداً ألقى شبكته في دجلة فوقع فيها جراب فيه كفٌ مخضوبةٌ بحناء، كف مقطوعة، وأحضر بين يديه، فهاله ذلك، وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هناك، ففعل فأخرج جراباً آخر فيه رجلٌ -كف ورجل- فاغتم المعتضد وقال: معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه؟!! ثم أحضر ثقةً له وأعطاه الجراب وقال: طف به على كل من يعمل الجرب بـ بغداد فإن عرفه أحدٌ منهم فاسأله عمن باعه منهم، فإذا دلك عليه فاسأل المشتري عن ذلك، وانقل عن خبره فغاب الرجل ثلاثة أيام، ثم عاد فقال: ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي اشتراهما مع عشرة جوارب وشكا البائع شره وفساده، ومن جملة ما قال: إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها، فلا يعرف لها خبر وادعى أنها هربت والجيران يقولون: إنه قتلها، فبعث المعتضد من ذهب إلى منزل الهاشمي وأحضره وأحضر اليد والرجل وأراه إياهما، فلما رآهما انتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف.
ثم بعد ذلك أنفذ فيه الحكم.(4/22)
الفراسة في تحسين اللفظ
وكذلك قال: من محاسن الفراسة في تحسين اللفظ بابٌ عظيم له شواهد كثيرةٌ في السنة، وهو من خاصية العقل والفطنة، فقد روينا عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يعس المدينة بالليل فرأى ناراً موقدةً في خباء فوقف وقال: يا أهل الضوء -يريد أن يناديهم وهم في الخيمة وقد أوقدوا ناراً- وكره أن يقول: يا أهل النار؛ لكي لا يسميهم بأهل النار؛ مع أنهم أوقدوا ناراً، ولكن لكي لا يسميهم بأهل النار لأنه اسمٌ قبيح، فقال: يا أهل الضوء.
وكذلك سئل العباس أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فينتقي الإنسان الكلمة الطيبة ولا يقول الكلمة الخبيثة حفاظاً على مشاعر أخيه المسلم.(4/23)
أحمد بن طولون وفراسته الحادة
ومن عجيب الفراسة ما ذكر عن أحمد بن طولون، أنه رأى مرةً يوماً حمالاً يحمل صناً وهو يضطرب تحته، فقال: لو كان هذا الاضطراب من ثقل محمول لغاصت عنق الحمَّال، وأنا أرى عنقه بارزةً وما أرى هذا الأمر إلا من خوف -واحد حمال يحمل قفة ويضطرب وعنقه ليست بداخلةٍ من الثقل- فأمر بحط الصن فإذا فيه جاريةٌ قد قتلت وقطعت، فقال: اصدقني عن حالها؟ قال: أربعة نفرٍ في الدار الفلانية أعطوني هذه الدنانير وأمروني بحمل هذه المقتولة فضربه وقتل الأربعة.
وكان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة، فدعا ثقته وقال: خذ هذه الدنانير وأعطها إمام مسجد كذا، فإنه فقيرٌ مشغول القلب، ففعل هذا الرجل وجلس مع الإمام هذا وباسطه فوجد زوجته قد ضربها الطلق وليس معه ما يحتاج إليه من المال، فقال: فالآن تنبه وعرف أنها فطنة الخليفة، ولكن كيف اكتشف أنه محتاج؟ قال: عرفت شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة -قال: صليت وراءه فإذا به يخطئ كثيراً في القراءة فعلمت أن قلبه مشغول، ولذلك صار يغلط في القراءة كثيراً- فلعل شغله فقرٌ فدفع إليه المال.(4/24)
تحذير القضاة من الاستعجال في تنفيذ الأحكام
وكذلك مما ذكر رحمه الله تعالى قال: ومن قضايا علي رضي الله عنه أنه أتي برجلٍ وجد في خربةٍ بيده سكينةٌ ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه؟ فلما ذهب به أقبل رجلٌ مسرعاً، فقال: يا قوم! لا تعجلوا ردوه إلى علي فردوه، فقال: يا أمير المؤمنين! ما هذا صاحبه أنا قتلته، فقال علي للأول: ما حملك على أنك قلت أنتَ قاتله ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين! وما أستطيع أن أصنع وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقفٌ وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة فخفتُ ألا يقبل مني فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله، قال علي: بئس ما صنعت فكيف كان حديثك، كيف أدى بك الحال إلى هذا الموضع؟ قال: لأنني رجلٌ قصاب -جزار- خرجت إلى حانوتيٍ في الغلس فذبحت بقرةً وسلختها فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي، أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها فقضيت حاجتي وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي وأخذوني فقال الناس: هذا قتل هذا، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ قال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق.
فإذاً: هذا قتل شخصاً ثم انتهز فرصة خلو الجزار من الدكان فوضعه في دكان الجزار، فلما جاء الجزار بيده سكينه المعتادة وإذ بالناس قد جاءوا إلى هذا المكان وقبضوا عليه.
وكذلك قال رحمه الله تعالى: وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجلٌ في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروهٍ على نفسها، فاستغاثت برجلٍ مر عليها وفر صاحبه -الفاعل فر وهذا المستغاث به صار هو في المشهد- فمر أناس فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر وهرب، فجاءوا بهذا المستغاث به يقودونه فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقالوا: انطلقوا به فارجموه، فقال رجل: لا ترجموه وارجموني؛ جاء الفاعل واعترف فأنا الذي فعلت هذا الفعل.
ولذلك فإن القاضي عليه ألا يستعجل فإنه ربما ظهر الحق بعد مدة وأن يتأمل في الموضوع، فإنه ربما يظهر بالتأمل حالٌ جديدة، أو يظهر فيها حق ولو استعجل لأزهقت روح بريئة.
وكذلك من هذا القبيل بينما علي رضي الله عنه جالس في مجلسه إذ سمع ضجةً فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجلٌ سرق ومعه من يشهد عليه، فأمر بإحضاره فدخلوا، فشهد شاهدان عليه أنه سرق درعاً فجعل الرجل يبكي ويناشد علياً أن يتثبت في أمره، فخرج علي إلى مستمع الناس بالسوق فدعا بالشاهدين، فناشدهما الله وخوفهما فأقاما على شهادتهما، فلما رآهما لا يرجعان، فدعا بالسكين وقال: ليمسك أحدكم يده ويقطع الآخر -أنتما شاهدان عليه بالسرقة، والآن وجب تنفيذ الحد أحدكم يمسك يده والآخر يقطع- فتقدما ليقطعاه فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام علي عن الموضع فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا، فقال علي: من يدلني على الشاهدين الكاذبين؟ فلم يقف لهما على خبر فخلى سبيل الرجل وهذا من أحسن الفراسة، فإنه ولىّ الشاهدين ما توليّا وأمرهما أن يقطعا بأيديهما يد من اتهماه بألسنتهما.
ومن هاهنا قال العلماء: إنه يبدأ الشهود بالرجم، إذا شهدوا بالزنا وأما إذا اعترف الرجل الزاني فالذي يبدأ بالرجم القاضي الذي اعترف عنده، احتياطاً بالشريعة وبأرواح العباد، وكذلك قال: وحكم الفراسة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، قال الله تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273].
وأن الأخذ بالسيماء والعلامة معتمد شرعاً، قال: حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام وعليه زنار -وهذا لباس أهل الذمة من النصارى- وهو غير مختون ماذا نحكم؟ أنه نصراني، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، بأن النصارى: كثيرٌ منهم لا يختتنون، وقال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18].
قال عبد المنعم بن الفرس: روي أن إخوة يوسف لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقاً ولا أثر نابٍ من النياب المزعوم فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟! فلما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله تعالى بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص، ويسلم القميص ويجمعوا على أن يعقوب استدل على كذبهم بصحة القميص، فيعقوب جزم: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف:18] عرف ذلك من العلامات.
قال: ومن الحكم بالعلامات أيضاً: ما جاء في قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:26 - 28].
فهذه أمارات قد حكم بها وعرف بها البريء من الظالم، وكانت دليلاً على براءة يوسف عليه السلام، والذي تكلم على الراجح هو رجلٌ كبير ذو لحية كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أما كونه صغيراً قد تكلم في المهد فلم يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي شهد شاهدٌ من أهلها رجلٌ كبيرٌ ذو لحية كان عنده عقلٌ وتمييزٌ وفراسة، فأمره بأن يعمل بهذه العلامة، وألهمه الله ذلك ليقوله فيبرئ يوسف عليه السلام.(4/25)
العلاقة بين القيافة والفراسة
وكذلك فإن هناك علاقة بين القيافة والفراسة.
والقيافة: هي العلامات التي يعرف بها القائف نسب الشخص من أبيه عندما يتفرس في خلقتهما، ولما لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين عويمر العجلاني وامرأته -وكانت حاملاً- قال عليه الصلاة والسلام: (إن جاءت به أحمر قصيراً كأنه وحرةٌ فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها -لما رماها بالزنى- وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق) فجاءت به على المكروه من ذلك، يعني: أنها قد فعلت الفاحشة وأن زوجها صادقٌ فيما رماها به من الزنى.
وجاء في الروايات في البخاري كان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله، خدلج الساقين آدم كثير اللحم جعداً قططاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بين) فجاءت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، جاءت على النحو المكروه.
والوحرة: دويبةٌ حمراء تلصق بالأرض، والأعين: واسع العينين، والآدم شديد الأدمة وهي: سمرةٌ بحمرة، والخدلج: كثير لحم الساقين، والقطط: شديد جعودة الشعر، فهذا يعمل به ولما جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل أو تجد المرأة ما يجد الرجل -يعني: من إنزال- والغسل عليها فقال عليه السلام: (تربت يداك ومن أين يكون الشبه؟) يعني: إن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبهاً في الولد في الأبوين، فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب، ويعرف من الشكل أن هذا -مثلاً- ولدي يشبهني فهو مني، هذا من القرائن ومن العلامات.
وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ مسروراً فقال: يا عائشة! ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيد وعليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) وسبق الكلام على أن بعض المنافقين طعنوا في نسب أسامة من أبيه زيد؛ لأن أسامة كان أسود وزيد كان أبيض، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يحبهما جداً، فَطُعِنَ في نسب هذا من هذا، فجاء هذا الرجل شاهداً من تلقاء نفسه، وكان خبيراً بالقيافة، فعندما نظر إلى الأرجل الخارجة من تحت الغطاء قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض.
وكذلك فإن في هذا الذي حصل دليلاً على وجود الفراسة لدى بعض الناس يعرفون بها هذا ابن هذا أو لا، ولذلك يكون هناك طريقة لإثبات النسب عند ادعاء الابن لأكثر من شخص، إذا اختلفوا وليس هناك بينة.(4/26)
العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى
وما العلاقة بين الفراسة وتأويل الرؤى؟ هناك علاقة كبيرة بين هذا وذاك، فإن كثيراً ممن يؤول الرؤى تأويلاً صحيحاً لديه نوعٌ من الفراسة، يعرف بها تأويل الرؤى وتفسير المنامات، وقد اتسعت تقيداته وتشعبت تخصيصاته وتنوعت تعريفاته، ولا يمكن الاعتماد على أقوال الناس إلا ما ورد في القرآن العظيم والكتاب والسنة، وأما جعل ضوابط فإنه لا يمكن في تفسير المنامات والأحلام؛ لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ومنا من يلقى في قلب مفسر للرؤيا عندما تقص عليه بإلهام يلهمه الله عز وجل فيتكلم بذلك، فلا يجوز الكلام فيما لا يعرفه الإنسان في تأويل الكلام وعده العلماء من الفتيا بغير علم.(4/27)
أسباب في تحصيل الفراسة
وأخيراً: في هذا الموضوع نأتي إلى أسباب تحصيل الفراسة، فلو قال القائل: هل هناك أسباب لتحصيل الفراسة؟
الجواب
إن من شروط ذلك: الاستقامة وغض النظر عن المحارم، فإن المرء إذا أطلق نظره تنفس الصعداء في مراءاة قلبه فطمست نورها: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
وقال بعض السلف: من غض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة، وتعود أكل الحلال لم تخطئ فراسته.
فإذاًَ: إذا أراد الإنسان أن يكون له فراسة، ونظر صائب في الأمور، ويكتشف المحق من المبطل ويعثر على الحق، ويتبين إذا اختلطت الأشياء وتشابهت، فإن عليه أن يقوم بهذه الأشياء وهي: غض البصر عن المحرمات، وكف النفس عن الشهوات، وتعود أكل الحلال، وأن يكون مراقباً لله عز وجل، فكلما زادت تقوى المؤمن ألهمه الله تعالى التبصر بالأمور وسرعة الفهم، فكانت فراسته أثبت ممن كان أقل تقوى منه، وهذه الفراسة في غض البصر لها علاقة مباشرة بها؛ لأنه يورث نور القلب، وقال عز وجل في قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فهذا تعلق بالصور المحرمة، وسكر القلب بل جنونه، فلا يمكن أن يكون معه فراسة كما قيل:
سكران سكر هوىً وسكر مدامة فمتى إفاقة من به سكرانِ
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
أي: العشق أعظم من الجنون:
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
وكان شهاب بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة؛ وكف نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة.
من غض بصره عن الحرام فأطلق الله تعالى له نور البصيرة وفتح عليه باب العلم والمعرفة فيظهر عليه من الفراسة ما الله به عليم.
هذه بعض ما يورث الفراسة وهذا موضوع جدير بالاهتمام وله علاقة مباشرة في الإيمان وهو مذكورٌ في القرآن في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ويلزم أن يكون من صفات كل من يحكمون بين العباد، نسأل الله عز وجل أن ينور قلوبنا بالإيمان.
هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(4/28)
رسالة منهج دراسة الأسماء والصفات
أهل السنة والجماعة هم كاسمهم أهل لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولجماعة المسلمين المؤمنين المستسلمين لأوامر الله ونواهيه في كل شيء، فالحلال ما أحله الله والحرام ما حرمه، والأسماء والصفات ما أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقد جاءت هذه الرسالة لبيان منهج السلف الصالح في فهم آيات الأسماء والصفات.(5/1)
الأسس التي يرتكز عليها مذهب السلف في الصفات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: في هذه الليلة نستعرض وإياكم رسالة علمية في أحد موضوعات العقيدة، وهو توحيد الأسماء والصفات، وهذه الرسالة هي رسالة العلامة الشيخ الإمام/ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، بعنوان: منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات.
وهذه الرسالة تثبت سلفية الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته، وسنعرض لشيء من ترجمته بعد عرض الرسالة بمشيئة الله تعالى، وكانت هذه الرسالة محاضرة قد ألقاها الشيخ رحمه الله في الجامعة الإسلامية في: (الثالث عشر من رمضان، سنة ألف وثلاثمائة واثنين وثمانين للهجرة) ومعلوم ما يشيع عند كثير من الناس المنتسبين إلى العلم في العالم الإسلامي من منهج المتكلمين في الأسماء والصفات، وإنكارهم لكثير من الصفات، وتأويلهم وتحريفهم بالأحرى لنصوص الصفات، ولا شك أن المجتمعات العلمية يكون فيها من هذا كثير، ويصل طلبة العلم إلى كتب ليست على طريقة السلف في الأسماء والصفات، فبين الشيخ رحمه الله تعالى بعض القواعد الأساسية في هذا الموضوع، ونبه في بداية رسالته إلى أمر مهم ألا وهو: أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في الموضوع من البدع التي يكرهها السلف.
وأن مباحث آيات الصفات التي دل عليها القرآن الكريم، ترتكز على ثلاث أسس مهمة.
الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل أن تشبه أي صفة من صفاته صفة من صفات المخلوقين، فلا يشبه سبحانه وتعالى أحداً من المخلوقين، ولا تشبه صفاته سبحانه وتعالى أي صفة من صفات المخلوقين كما دل عليه قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، إذاً أولاً: عدم المشابهة، بين الله وخلقه.
الأساس الثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا يصف الله عز وجل أعلم منه سبحانه وتعالى، لا يوجد أحد أعلم بالله من الله {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] وكذلك الإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
فإذاً القاعدة الثانية: يجب الإيمان بما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أخل بأحد هذين الأصلين وقع في ضلال، وتجرأ على الله عز وجل، ونفى صفات أثبتها الله لنفسه سبحانه وتعالى، والله يثبت ما يشاء لنفسه عز وجل من صفات الكمال والجلال، فكيف يليق بجاهل مسكين أن يتقدم بين يدي رب السماوات والأرض، ويقول: هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك! وهذا الذي وصفت به نفسك يلزم منه النقص! وأنا أريد أن أؤوله وأن ألغيه وأن آتي ببدله من تلقاء نفسي، من غير دليل {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
ومن آمن بصفات الله سبحانه وتعالى، فإنه لا بد أن يعتقد أن الله منزه عن مشابهة المخلوقين، فيكون سالماً من التشبيه، وسالماً من النفي والجحد، فهو يثبت الصفة، ويؤمن بأنها لا تشبه أي صفة من صفات المخاليق، هذا هو مضمون قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
فنفى المشابهة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] هذا الركن الأول {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] أثبت لنفسه السمع والبصر، فمن جاء وقال: إن المخاليق المخلوقة والحوادث هذه المحدثة لها سمع وبصر، فكيف نثبت لله السمع والبصر فإنه تشبيه؟ فنقول: كيف يكون تشبيهاً وقد قال هو لما أثبتها لنفسه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] فالله عز وجل له صفات لائقة بكماله وجلاله، والمخلوقات لهم صفات مناسبة لأحوالهم، وصفات رب السموات سبحانه وتعالى أكمل وأعلى من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله، ولا يقول هذا إلا مجنون ضال ملحد لا عقل له، وقد قال الله تعالى في المشركين {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] ومن يسوي رب العالمين بغيره، فهو مجنون!(5/2)
ما أحدثه المتكلمون في الأسماء والصفات
وقد جاء المتكلمون في بعض العصور الإسلامية واستخرجوا من كلام اليونان القواعد الفلسفية والكلامية، ثم حاكموا نصوص الصفات إليها، فنفوا ما نفوا وأثبتوا ما أثبتوا بزعمهم أنهم يثبتون ما يوافق مقتضى العقل، وينفون ما يقتضي العقل نفيه، فحكموا عقولهم في النصوص، وقدموا عقولهم على الكتاب والسنة، وقدموا منطق اليونان على القرآن، ولا يمكن أن يكون هناك أية مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق، فلله تعالى الصفات اللائقة بذاته، وللمخلوق الصفات اللائقة به.
وهؤلاء المتكلمون لأنهم لا يعتمدون على الكتاب والسنة، فقد اضطربوا، وكل من لا يعتمد على الكتاب والسنة يضطرب، وهذه قاعدة: فتجد أن بعض هؤلاء المتكلمين قد أثبتوا سبع صفات، وبعضهم أثبت ثلاث عشرة، وبعضهم أثبتوا واحداً وعشرين صفة، وهكذا اضطربوا في عدد الصفات التي تليق بالله من وجهة نظرهم، كل واحد على حسب عقله، يقول: هذه تليق بالله أثبتوها، وهذه لا تليق لا تثبتوها، وأهل السنة يثبتون كل ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، فهؤلاء بعض المتكلمين المشهور من مذهبهم الذي أثبته الأشعري أولاً: السبعة المشهورة:
له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدر
جمعوها في هذه البيت وقالوا: إننا نعترف بسبع صفات لله فقط، ما هي؟ قالوا: صفة القدرة، وصفة الإرادة، وصفة العلم، وصفة الحياة، وصفة السمع، وصفة البصر، وصفة الكلام.
مثلاً: أثبت أنه يُحب ويغضب ويرضى ويرحم إلى آخره، قالوا: لا نثبتها، وصفات الذات، أن له اليد والوجه والقدم والأصابع سبحانه وتعالى إلى آخره، قالوا: لا نثبتها.
والمعتزلة أيضاً أصحاب علم الكلام قد عطلوا أسماء الله سبحانه وتعالى ونفوا الصفات، قالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قادر بذاته، سميع بذاته، عليم بذاته، حي بذاته، لأنهم لا يريدون الإثبات لا حياة ولا سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة، وهؤلاء في النفي غلو أكثر من الأشاعرة بطبيعة الحال، وهذا مذهب يعرف كل عاقل بصير بالكتاب والسنة أنه مذهب باطل.(5/3)
إثبات صحة مذهب السلف فيما ذهبوا إليه
الشنقيطي رحمه الله في رسالته يريد أن يناقش هؤلاء، ويثبت لهم أن ما أثبتوه هو من باب الذي نفوه، وأن يلزمهم بنفي الجميع أو إثبات الجميع، وأن يقول لهم: إن المحذور الذي تفرون منه في الأشياء التي تنفون عن الله موجود، إذا أرادنا نطبق كلامكم في الأشياء التي أثبتموها.(5/4)
مذهب السلف في الصفات الذاتية
فالآن يقول لهم: مثلاً: الإرادة، أنتم تثبتون لله يا أيها الأشاعرة، يا أيها المتكلمون؟ يقولون: نعم نثبتها لله، حسناً أليس المخلوق له إرادة؟ فيقولون: نعم، فنقول: إذاً هذا تشبيه، لماذا ما تأولون الإرادة وتنفون الإرادة أيضاً، ولا معنى أنكم تنفون الوجه لله مثلاً، وتقولون: بأن الوجه من صفات المخلوقين، وإذا أثبتنا الوجه عملنا مشابهة، فننفي الوجه، فنقول: وأيضاً الإرادة، إذا أثبتموها عملتم مشابهة، لأن المخلوق له إرادة، فانفوا الإرادة إذاً؟! لكنه مشى رحمه الله في رسالته على تقسيم المتكلمين، وفندها واحداً واحداً، فقال: في صفات المعاني التي أقروا بها، نقول لهم: وصفوا الله بالقدرة، وأثبتوا له القدرة، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] والله قد وصف المخلوقين بالقدرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] فأثبت لهم القدرة، وآيات أخرى أيضاً، نقول لهذا الرجل المنحرف: هأنت تثبت القدرة للخالق، وتثبت القدرة للمخلوقين، هذا تشبيه فماذا سيقول؟ سيقول: لا، للخالق قدرة تخصه وتليق به، وللمخلوق قدرة تناسبه! فنقول: قلها في اليد والأصابع والقدم والمحبة والبغض والكره، وفي سائر الصفات، فلماذا فقط أثبت هذه السبع، قال: ووصف الله نفسه بالسمع والبصر في غير آية من كتابه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ووصف بعض المخلوقات بأن لها سمعاً وبصراً! مثال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] من هو؟ الإنسان، فهل إذا أثبتنا السمع والبصر لله، وأثبتنا السمع والبصر للمخلوق حدثت مشابهة، فهل ننفي السمع والبصر عن الله إطلاقاً؟ فنحن لا نشك أن الذي في القرآن حق، فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان، يليقان بجلاله وعظمته، كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين، يناسبان حاله من ضعف وفقر وفناء وعجزٍ، وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق من المخالفة مثل ما بين ذات الخالق وذات المخلوق.
وصف الله نفسه بالحياة، فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] ووصف بعض المخاليق بالحياة فقال عز وجل: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام:95] {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:15] فهل ترى يا عبد الله أن الله لما وصف نفسه بالحياة، قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وصف بعض المخاليق أنها لها حياة، فهل إثبات هذا وهذا يستلزم تشبيه؟ لا، فلله سبحانه وتعالى حياة تليق بجلاله وعظمته، حياة دائمة حقيقية سبحانه، والمخلوق له حياة لها بداية ولها نهاية، يفنى ويعجز، ويفتقر إلى الله سبحانه.
ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالإرادة، فقال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ووصف بعض المخلوقين بالإرادة، قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال:71] {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا} [القصص:19]، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [التوبة:32] {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} [الأحزاب:13] {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء:94] إذاً أثبت للمخاليق إرادة، وأثبت لنفسه إرادة، ولا يستلزم من إثبات هذا وهذا التشبيه، فكلٌ له إرادة تناسب حاله، والفرق بين إرادة الخالق وإرادة المخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق.
لقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بالعلم، فقال عز وجل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات:16]، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] ووصف بعض المخلوقين بالعلم فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً} [الروم:7] فإذاً عندهم علم، وقال: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر:53] {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68] في سورة يوسف، وهو يعقوب عليه السلام.
فعلم الله سبحانه وتعالى كامل، عليم بالماضي والحاضر والمستقبل وكل شيء ما كان لو كان كيف سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، والمخلوق علمه ضعيف، لا يعلم من الماضي إلا قليل، والحاضر قليل، المستقبل لا يعلم عنه شيئاً إطلاقاً، والله قد أحاط بكل شيء علماً، فالله له صفة العلم، والمخلوق له صفة العلم مع التفاوت بينهما.
ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الكلام، فقال عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ووصف بعض المخلوقين بأنهم يتكلمون، مثل: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران:46] وكذلك: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].
فإذاً المخاليق أيضاً يتكلمون، فلا شك أن لله تعالى كلاماً حقيقياً لائقاً بجلاله وكماله، كما أن للمخلوقين كلاماً يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وضعفهم، والمخلوق كلامه لا يأتي إلا بعد المران، وكلامه يعتريه النقص، وبعض الناس لا يخرج بعض الحروف، وصوته ضعيف، والله سبحانه تعالى ينادي يوم القيامة، يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فشتان بين صفة الكلام لله وصفة الكلام للمخلوقين، ولا يستلزم إثبات الكلام لله أي تشابه، والفرق بين كلام الخالق والمخلوق كالفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق.
الأشاعرة مشهور عندهم إثبات هذه الصفات التي أثبتوها ويسمونها صفات المعاني، وخرجنا بأن إثبات هذه الصفات لا يستلزم أي مشابهة.(5/5)
مذهب السلف في اسم (القديم)
نأتي إلى صفات أخرى قد أثبتها بعضهم، فبعض المتكلمين أثبتوا لله صفة القدم والبقاء، وصفة القدم ليس عليها دليل، وإنما الصفة التي ثبتت لله صفة الأولية {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الحديد:3] ونرد على المتكلمين الذين وصفوا الله بالقدم بغض النظر عن قضية ثبوت هذه الصفة، نقول: أنتم وصفتم الخالق بالقدم، طيب الله وصف المخاليق بالقدم: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39] وأيضاً {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء:76] فهل يلزم عندكم أيها المتكلمون أن قدم الخالق مثل قدم المخلوقين؟ أما نحن فلا نثبت كلمة القدم، ولا نقول: إن من أسمائه القديم لأنها لم تثبت، نقول: هو الأول، فعندنا ما يغني، لكن من باب المحاجة نقول لهم هذا، والله سبحانه وتعالى له صفة البقاء، ونثبت هذه الصفة، لأن الله أثبتها لنفسه: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27].
هل وصف الله المخاليق بالبقاء؟
الجواب
نعم والدليل: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77] فهل يستلزم إثبات البقاء لله، وإثبات بقاء المخلوقين مشابهة؟ كلا، فالبقاء لله يناسبه سبحانه وتعالى، والبقاء للمخلوق يناسب المخلوق الذي يفنى، وبقاء المخلوق محدود، ولكنه سبحانه وتعالى أبقى ذرية نوح وتناسلوا إلى أن يأذن الله بفناء البشرية، فالله سبحانه وتعالى له صفة الأولية والآخرية التي نص عليهما في كتابه في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر} [الحديد:3]، {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات:16 - 17] هذا بالنسبة لصفات المخلوقين، فإذاً الأولية والآخرية جاءت للخالق وجاءت للمخلوقين بدون لزوم أي تشابه، هذا شيء غير السبعة مما نناقشهم فيه.(5/6)
مذهب السلف في صفات الأفعال
ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه واحد، فقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] ووصف بعض المخلوقين بذلك، فمن هذا قوله سبحانه وتعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} [الرعد:4] وصف نفسه بالغنى، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد:24] ووصف بعض المخاليق بالغنى، فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6].
فإذاً هل إثبات صفة الغنى لله وإثبات صفة الغنى للمخلوق تعني تشبيهاً؟
الجواب
لا، وهكذا فلا داعي أن تنفى صفات الرب سبحانه وتعالى بعلة التشبيه بصفات المخلوقين.
وقد وصف سبحانه وتعالى نفسه بصفات الأفعال، ووصف بعض المخاليق بهذه الصفة، جاءت للخالق في نص وجاءت للمخلوق في نص آخر.
من صفات الأفعال، مثلاً الرزق، الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات:58] وسمى نفسه الرزاق، وصفة الرزق بها يرزق سبحانه وتعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق، أي أن المخلوق يرزق، الدليل على أن المخلوق يرزق: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] وقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] وقال الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233].
فهذا الله يرزق، والمخلوق يرزق، لكن شتان بين رزق الله عز وجل ورزق المخلوق، فرزق المخلوق ناقص ورزق المخلوق لا يكون إلا إذا كان عنده، ثم يفنى، ثم لا يستطيع أن يعطي، ولا يرزق إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى إلى آخره.
ولا يقدر المخلوق أن يرزق إلا شيئاً محدوداً، لا يستطيع أن يعطي كل الناس، الله يرزق الحيتان في البحر، ويرزق الدود، ويرزق الجراد، ويرزق كل أحد سبحانه وتعالى.
من صفات الفعل أيضاً: العمل: عمل يعمل عملاً، فالله عز وجل يعمل، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:16] هذا عمل وهذا عمل وإثباتهما لا يستلزم أي تشبيه إطلاقاً.
والتعليم وصف الله نفسه بأنه يعلم، وأخبر أنه يعلم، وأخبر أن بعض المخاليق تعلم، فقال سبحانه وتعالى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4] {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113] ووصف بعض المخاليق بأنهم يعملون فقال سبحانه: {أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] {َ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة:2] فهذا التعليم من الله، وهذا التعليم من المخلوق، وما استلزم أي تشبيه إطلاقاً، كل كما يليق به.
ووصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه ينبئ، ووصف المخلوق بأنه ينبئ، وجمع بينهما في آية واحدة: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] فهو ينبئ سبحانه، وأخبر أن نبيه قد نبأ بعض أزواجه.
ووصف نفسه سبحانه وتعالى بصفة الفعل الإيتاء، قال عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] وقال سبحانه: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3] ووصف بعض المخاليق بأنهم يؤتون، فقال عز وجل: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96] لكن هذا يقول: أعطوني، أنا أريد المخلوق يعطي الشيء، قال سبحانه وتعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4].
فكل هذا الكلام يدل على أن الصفات التي وردت لله، لو كان هناك مثلها عند المخلوقين فلا يستلزم إثباتها أي تشبيه، كل بما يليق به.(5/7)
مذهب السلف في الصفات الجامعة
ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالعلو والكبر، والعظم فقال سبحانه: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] هذه في الصفات التي يسمونها الصفات الجامعة، الآن خرجنا من صفات الأفعال إلى الصفات الجامعة، كالعلو والعظم والكبر والملك والجبروت والعزة والقوة، هذه اسمها الصفات الجامعات، حتى هذه الصفات على تقسيمهم إذا نظرنا فيها، سنجد أن الله أثبتها لنفسه، وأثبت بعضها لبعض المخلوقين، فوصف الله سبحانه وتعالى، بأنه علي وأنه عظيم وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] وقال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} [النساء:34] فوصف نفسه بالعلو والكبر سبحانه وتعالى وأنه {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9] ووصف بعض الخلق بالعلو وبالعظيم فقال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57] {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} [الإسراء:40] {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] وقال عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] ووصف بعض المخلوقات أنها كبيرة فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63].
فهذه الصفات الجامعة، كالعلو والكبر والعظم نثبتها لله كما أثبتها الله لنفسه، ونثبتها للمخاليق إذا ثبتت لهم، ولا يستلزم ذلك أي تشبيه.
ووصف الله نفسه بالملك، فقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ} [الجمعة:1] {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] ووصف بعض المخلوقين بالملك فقال في القرآن: {طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247] {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} [يوسف:43] {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79].
فلله سبحانه وتعالى ملك حقيقي يليق بجلاله وكماله، وللمخاليق ملك يناسب حالهم وفناءهم وعجزهم وافتقارهم، ملك الله سبحانه وتعالى نافذ، ملك الله سبحانه وتعالى عام، ملك الله سبحانه وتعالى لا يزول ولا يحول، ملك الله سبحانه وتعالى يتصرف فيه كيف يشاء، ملك المخلوق محدود، ومعرض للاغتصاب، ومعرض للزوال، ويزول، وملكه قد لا يتصرف فيه، ممكن أنت تملك شيئاً، لكنك لا تستطيع أن تتصرف فيه، لأن هناك غاصباً، أو لأن القاضي وضع عليه حجراً، لأن لأن من الأسباب التي قد تعيقك عن التصرف في ملكك، ولكن الله يتصرف في ملكه كيف يشاء.
فلا يمنع أن يثبت لله الملك، وأن يثبت للمخلوق الملك، كل بما يليق به.
ووصف الله سبحانه وتعالى بأنه جبار متكبر فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] ووصف بعض المخاليق بأنهم جبارون متكبرون: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35] {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وهكذا.
ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالعزة فقال: {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209] {رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص:9] ووصف بعض المخلوقين بالعزة فقال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] وكذلك {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] مجموعة كلها، هذه العزة لله وعزة الرسول وعزة المؤمنين، وهذه عزة الله غير عزة الرسول وعزة المؤمنين.
ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالقوة فقال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] ووصف بعض المخاليق بأن لها قوة فقال: {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54].
إذاً: نلاحظ الآن أنه مهما قسم المتكلمون الصفات، فإن هناك صفات لله في هذه البنود التي قسموها ثابتة لله وثابتة للمخاليق، وهذا من بليغ تقسيمه رحمه الله ورده عليهم.
وكذلك الرأفة والحلم والرحمة تثبت لله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
ووصف الله نفسه سبحانه وتعالى بالمغفرة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173] ووصف أيضاً بعض المخاليق بأنهم يغفرون: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} [البقرة:263] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14].(5/8)
مذهب السلف في صفة الاستواء
لو جئنا الآن إلى مسألة الاستواء، فقلنا: إن الله سبحانه وتعالى قد أثبت الاستواء لنفسه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأثبت الاستواء للمخلوقين فقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13] {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] فهل إثبات هذه وهذا يستلزم تشبيهاً؟ لا، فلماذا يا أيها الأشاعرة تفرون من إثبات الاستواء، وتجعلون في كتبكم وتفاسيركم استوى أي: استولى، وترفضون إثبات الاستواء لله لماذا؟ فسروا لنا لماذا وهذه كلها أمثلة تدل على أنه يمكن الإثبات بغير تشبيه بوضوح جداً.
فتجرأ هؤلاء ممن يدعون الإسلام واتباع الحق والدليل على نفي الاستواء عن الله سبحانه وتعالى بأدلة منطقية، وكلام فلسفي في الاستواء فماذا يقولون؟ يقولون: لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للخلق، وبما أنه غير مشابه للخلق إذاً هو غير مستو على العرش.
وهذا كلام فلسفي من علم الكلام من اليونان لا من القرآن، إذا أثبتنا أنه مستو على العرش، يعني جعلناه مشابهاً للخلق، وبما أنه غير مشابه للخلق إذاً هو غير مستوٍ على العرش، مقدمات ونتائج.
الله سبحانه وتعالى ذكر استواءه على العرش صفة من صفاته في سبع آيات في آيات من القرآن الكريم: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس:3] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الرعد:2] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد:4] كل هذه الآيات تثبت استواءه ثم تأتون أنتم وتقولون: إنه لم يستو وأننا لا نثبت له صفة الاستواء، وإنه لا بد أن ننفيها! ثم نؤولها ونأتي ببديل عنها، فدخلوا في فتنة التأويل، قالوا: إذا أثبتنا الاستواء شبهناه بخلقه، ما هو الحل؟ قالوا: ننفي الاستواء، وماذا تفعلون بدلاً منه؟ قالوا: نؤول الاستواء، ننفي حقيقته نقول: الحقيقة غير مرادة وإلا شبهناه، إذاً فما هو المخرج، قالوا: نؤوله.
هنا وقف الشيخ رحمه الله في رسالته وقفة مع التأويل واضعاً استمدادها من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم، فإنه قد تأثر بهما على ما سنورد في ترجمته إن شاء الله.(5/9)
معاني التأويل
التأويل يطلق على ثلاثة معان: المعنى الأول: ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني الحال، أي الحال الآتية والحالة القادمة، قال الله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39] {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف:53] ما معنى {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53]؟
الجواب
ما تؤول إليه حقيقة الأمر، ما تصير إليه حقيقة الأمر، وما سيكون في المستقبل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53] أي: في المستقبل، عندما يأتي تأويله ويحصل، الآن، فإذاً: التأويل يأتي بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الأمر مستقبلاً أو في ثاني الحال.
المعنى الثاني: التأويل بمعنى التفسير، كما يقول ابن جرير رحمه الله: والقول في تأويل قوله تعالى كذا، يعني في تفسير قوله تعالى كذا، ويذكر التفسير.
المعنى الثالث: التأويل عند الأصوليين هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل، وهنا يدخل هؤلاء المناقشون، يقولون: اللفظ ظاهر اللفظ استوى، فنحن نصرفه عن ظاهره، لماذا؟ يقولون: عندنا دليل، هكذا يقولون، الآن سيدخلون من هذا الباب، فنقول: لا تحتجوا بنصوص التأويل التي فيها النوع الأول والثاني، أنتم لا علاقة لكم بهذا الموضوع.
وحتى لا يلتبس علينا معنى التأويل نقول: إن التأويل يكون بمعنى بما يؤول إليه الحال، مثل تأويل الرؤيا، عندما تحققت وصارت ودخل يعقوب وأم يوسف وإخوانه عليه، وتحققت الرؤيا، آلت إلى أن صارت حقيقة في الواقع، وأما من قبل كانت رؤيا، فتأولت وحصلت في الواقع على ما رآها، بحسب ما رآها، فلا علاقة لكم بهذا، ولا علاقة لكم بقضية التأويل بمعنى التفسير، أنتم ستدخلون من باب صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، وأنتم تقولون إن عندكم قرينة، لأنه لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره، وإلا صار أي واحد يلعب بالقرآن، أي واحد يأتي بأي شيء من القرآن، ويقول: هذا المراد به كذا، الصوم: حفظ أسرار الشيخ، الحج: الذهاب إلى الشيخ، الصلاة كذا، ذكر أسماء علي وحسن وحسين وفاطمة، فهم سيدخلون من هذا الباب.(5/10)
وجوه صرف اللفظ عن ظاهره
التأويل الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره لدليل هنا لا بد أن يوضح هذا النوع، صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه، له عند علماء الأصول -والشنقيطي من كبار علماء الأصول- له عندهم ثلاث حالات: الأولى: أن يصرف عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من الكتاب أو السنة، وهذا التأويل عند الأصوليين صحيح سائغ لا نزاع فيه، ضربوا له مثلاً في كتب الأصول بحديث: (الجار أحق بسقبه) فقالوا: ظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار، أي أنت لو عندك أرض وجارك عنده أرض، إذا أراد الجار أن يبيع أرضه فأنت أولى بها من غيرك، هذا ظاهره، لكن لما نظر العلماء في النصوص الأخرى التي جمعوها في موضوع الشفعة، وجدوا نصاً يقول ما يلي: (فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ما معنى صرّفت الطرق؟ أي ضربت الحدود، وقيل: هذه حدود أرض فلان، وهذه حدود أرض فلان، فعند ذلك لا يوجد حق الشفعة، كل واحد يبيع كما يريد.
قالوا: أيضاً تكون الشفعة في الشراكة المشاعة، أنت وشخص عندكم أرض بدون تقسيم، كلاكما يملك الأرض، بنسبة مشاعة من الأرض، ما يجوز واحد يبيع نصيبه أو نسبته فيها بدون أن يعرضها على شريكه.
إذاً لما قالوا: (الجار أحق بسقبه) ظاهرها أنه حتى لو كانت أرض محددة، قالوا: هذا ليس ظاهره مراداً، لماذا صرفتموها عن الجار عموماً إلى الشريك فقط، لماذا صرفتموها من الجار إلى الشريك في الشراكة المشاعة أو الشريك المخالط؟ قالوا: لقرينة، والدليل صحيح وهو: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) هذا واضح، صرف الدليل عن ظاهره لقرينة صحيحه، وهذا يسمى تأويلاً صحيحاً أو تأويلاً قريباً، أو تأويلاً ساغئاً دلَّ عليه النص.
النوع الثاني: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً وليس دليلاً في نفس الأمر: فهذا يسمى تأويلاً فاسداً، أو يسمى تأويلاً بعيداً، ضربوا له مثالاً بكلام بعض الأحناف، أو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، لما جاء إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الآن أبو حنيفة يرى أن نكاح المرأة لا يشترط أن يكون فيه ولي، وممكن أن تنكح من غير ولي، فلما قيل الحديث: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
قال: المقصود بالمرأة هنا المكاتبة فقط، الأمة عند سيدها ما تنكح إلا بإذن سيدها، وهو وليها، أما النساء الأحرار، والعاديات ممكن بغير إذن وليها، إذاً ما في دليل صحيح، بل النص: (أيما امرأة) يفيد العموم أي: كبيرة، صغيرة، حرة، أمة (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
فإذاً هذا الذي ذهب إليه رحمه الله ليس تأويلاً صحيحاً، والقرينة غير صحيحة، وليس هناك دليل في نفس الأمر، هذا يسمى تأويلاً بعيداً فاسداً، وهو صرف للفظ عن ظاهره المتبادر منه بغير قرينة صحيحة ولا دليل جازم يجب الرجوع إليه.
النوع الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره بدون أي دليل، أي حتى ولو قرينة ضعيفة، صرف اللفظ عن ظاهره مطلقاً هكذا على الهوى والتشهي، وعلى الرأي بدون أي قرينة لا ضعيفة ولا قوية، وهذا يسمى عند العلماء لعباً، لأنه تلاعب بالكتاب والسنة، كما قال غلاة الروافض {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: البقرة عائشة، وما هي القرينة التي أوجبت صرف اللفظ عن ظاهره والظاهر أنه بقرة تمشي على أربعة، بقرة الحيوان البهيمة المعروفة، بأي حق صرفتم البقرة إلى عائشة؟ لا يوجد إطلاقاً أي قرينة.
وكما قال الصوفية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67]، قالوا: البقرة هي النفس، تذبح نفسك بسكين الطاعة، إذاً {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] قالوا: لا شاب ولا شايب، كهل في الوسط، {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] قالوا: صفار الوجه في الطاعة بالصوم {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] فهذا كلام فارغ، وهذا في الحقيقة يسمى تلاعباً لا قرينة له إلا الهوى الذي يعمي ويصم.
فالقاعدة إذاً مهمة جداً لأنها تنسف ما يقررونه، لا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا لقرينة، جاءوا إلى الاستواء قالوا: نصرفه عن ظاهره، ما هي القرينة؟ قالوا: لأن الاستواء يلزم منه المشابهة، ولماذا لا تقولون هذا في الإرادة؟ ولماذا لا تقولونه في العلم؟ ولماذا لا تقولونه في سائر الصفات التي ناقشنا فيها قبل قليل؟ لماذا لا تعاملون الاستواء كما عاملتم بقية الصفات؟ ما هو الفرق؟ لا فرق في الحقيقة.(5/11)
نصيحة مشفق لكل مؤول
قال رحمه الله: (فاسمعوا أيها الإخوان! نصيحة مشفق) هذه الآن النصيحة تبين السبب الذي من أجله ما قبلوا الإقرار بالصفة، لماذا لم يقبلوا الإقرار بالصفة؟ قال: "فاسمعوا أيها الإخوان نصيحة مشفق، واعلموا أن كل هذا الشر إنما جاء من مسألة وهي: نجس القلب، وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه، فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال التي أثنى الله بها على نفسه، كنزوله إلى السماء الدنيا بثلث الليل الآخر، وكاستوائه على عرشه، وكمجيئه يوم القيامة، وغير ذلك من صفات الجلال والكمال، أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق".
فإذاً هذه مسألة مهمة، وهذا تحليل نفسي لنفسية الأشعري، والمؤولين في الصفات والمحرفين لها.
لماذا يلجئون إلى التأويل الذي هو التحريف حقيقة؟ ومن أي شيء ينطلقون؟ مبعثهم الإحساس بالتشبيه، لأنهم اعتقدوا أن هذه الصفة إذا أثبتوها شبهوا الخالق بالمخلوق، قالوا: إذاً هنا لا بد من مهرب ولا بد أن نفر، فلذلك لا يوجد معطل محرف إلا قد كان قبل ذلك مشبهاً؛ لأنه لما اعتقد التشبيه فر منه إلى التعطيل والتحريف، هذه مسألة مهمة جداً، فيدعي أن إثبات الصفة يؤدي إلى التشبيه بصفات المخلوقين، فيكون أولاً: مشبهاً، وثانياً: معطلاً.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة، هل ممكن يكون هذا اللفظ غير مراد ولا يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه غير مراد؟ لا يمكن إطلاقاً، هل يمكن أن يكون ظاهر الآيات كفر؟ هم يقولون هكذا، ظاهر بعض آيات الصفات كفر، فنقول: الله أرحم بعباده من أن ينزل عليهم شيئاً ظاهره الكفر، وهل الله يعجز أن يبين العبارة؟ لو كان الله يريد (استولى) لبينها، أي الله عاجز أن يغير، لا تكون الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وتكون الآية: الرحمن على العرش استولى، ألله عاجز عن هذا؟! كيف نقول: إن هذا أفصح كلام وأبين كلام وأبلغه، ثم نقول: الظاهر غير مراد، بل الظاهر كفر! هم يقولون: اعتقاد الظاهر كفر، إذا اعتقدت أنه استوى تكفر! لماذا؟ لأنهم انطلقوا من التشبيه.(5/12)
خلاصة ما سبق
ولذلك قال رحمه الله: " فالحاصل أنه يجب على المسلم أن يعتقد إذا سمع وصفاً اتصف به خالق السموات والأرض في نفسه التعظيم لله، قال فليملأ صدره من التعظيم، ويجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والجلال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة ".
وهذه مسألة مفيدة في علاج الوساوس، الآن نحن السلفيين عندما نثبت الأصبع والقدم والرجل واليد والكف، كما أثبت لله عز وجل، ممكن الشيطان يقول: يشبه لك في عقلك شكلاً معيناً وتشبيهاً معيناً، ونحو ذلك، فكيف تقاوم هذه الوسوسة الشيطانية؟ بأن يمتلئ قلبك بالتعظيم عند إمرار الصفة في ذهنك، وخطورها في بالك، يمتلئ قلبك بتعظيم الرب، فإذا امتلأ قلبك بتعظيم الرب، فكل آيات الصفات التي تمر على نفسك ما يمكن أن تسبب بلبلة إطلاقاً عندك؛ لأن تعظيمك للرب سيقطع كل علاقة بين هذه الصفات وبين التشبه بالمخلوق، فلو خطر ببال أحد مثلاً تصور شكل كذا وشكل كذا، وهو في صفات الله، فإذا استحضر عظمة الرب، ماذا يحدث لهذه الأشكال الذي يجري بها الشيطان في النفس؟ كلها تنمسح، وتضمحل، هذا التوحيد أثبت وعظم، فيكون القلب منزهاً معظماً له جل وعلا غير متنجسٍ بأقذار التشبيه، معتقداً بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].(5/13)
قاعدتان ذهبيتان في الأسماء والصفات
وفي هذا المقام يتزود الطالب بقاعدتين ذهبيتين مهمتين، ذكرهما شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الحموية، ونقلها الشنقيطي رحمه الله: أولاً: القول في الصفات كالقول في الذات، ثانياً: القول في الصفات كالقول في البعض الآخر.
هاتان قاعدتان خصم بهما شيخ الإسلام كل أشعري، وضاقت مذاهبهم، وأعيتهم الحيل، وتأزموا نفسياً من وراء كتاب الحموية؛ لأنه قعد قاعدتين لا مهرب منهما، قال: القول في الصفات كالقول في الذات.
إذا قلت لي يا أيها الأشعري: ذات الله لا تشبه ذوات المخلوقين، أقول لك: ويده لا تشبه يد المخلوقين، وأصبعه لا يشبه أصابع المخلوقين.
والقول في الصفات كالقول في البعض الآخر، هذه القاعدة الثانية مهمة: إذا كنت أيها الأشعري تثبت السمع والبصر، أثبت اليد والرجل، فما الفرق؟ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، انتهت المسألة، هاتان قاعدتان مهمتان جداً وإليهما أشار رحمه الله، ناقلاً من كلام شيخ الإسلام ومتأثراً به؛ لأن الشنقيطي رحمه الله قد كان في مبدأ أمره ليس على عقيدة السلف في الأسماء والصفات، عندما كان في شنقيط وكان يطلب العلم هناك، ولكن عندما جاء إلى الجزيرة، والتقى بعلماء الجزيرة، وأهدى له الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وأوصى بذلك بعض العلماء في المدينة أن يتابعوا الشيخ الشنقيطي في هذه المسألة، حصل للرجل القناعة التامة بمذهب السلف، وألفه بعد غاية بلوغه في العلم حتى لا يقال: مسكين ضحكوا عليه، ألفه بعد غاية جهده العلمي، ألف مثل هذه الرسالة.
وليس ظاهر الصفات التشبيه حتى تحتاج إلى تأويل، قال: " اعلموا أن المقرر في الأصول: أن الكلام إذا دل على معنى لا يحتمل غيره، فهو المسمى نصاً، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196].
فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين: إما أن يكون أحد الاحتمالين أظهر أو لا يكون ".
فإذاً عندنا نص لا يحتمل إلا معنى واحد فقط، وعندنا نص يحتمل احتمالين ثم قد يكون أحد الاحتمالين، أقوى وقد لا يكون أحد الاحتمالين أقوى، فإذا كان الاحتمال يتساوى، فهذا الذي يسميه العلماء المجمل، وضرب مثلاً قال: "لو قلت عدا اللصوص على عين زيد -أي اعتدى اللصوص على عين زيد- فاحتمال أن تكون عينه الباصرة عوروها، أو عينه الجارية غوروها، أو عين ذهبه وفضته سرقوها".
فإذاً كلمة عين في اللغة تحتمل: الحاسة هذه، وممكن تحتمل حرف العين من حروف الأبجدية، ممكن تحتمل الجاسوس، ممكن تحتمل عين الماء، ممكن تحتمل الذهب والفضة، فإذا كيف نفهم ما هو المقصود إذا صار هناك اشتراك في اللفظ؟ بالسياق والقرينة التي تدل عليه، فإذا قلت مثلاً: رأيت رأس الجبل، ورأس المال، يتبين بالإضافة كلمة رأس بحسب ما تضاف إليه ويكون لها معنى، رأس المال، رأس الجبل، رأس الإنسان.
إذا قلت: رأيت أسداً يكون الظاهر أنه حيوان مفترس، وإذا قلت رأيت أسداً يقاتل على حصان، واضح هنا أن الأسد المقصود به الرجل الشجاع مثلاً، فإذا قال مثلاً: اعتدى اللصوص على عين زيد فعوروها، نفهم العين الجارحة، وإذا قلت اعتدى اللصوص على عين زيد فغوروها، فإذاً هي العين الجارية، وإذا قلت اعتدى اللصوص على عين زيد فسرقوها؟ الذهب والفضة.
فالاختلاف في الصفات يعود إلى الاختلاف فيما أضيفت إليه هذه الصفات، كما قلنا في كلمة رأس، إذا أضيف الرأس إلى الجبل، أو إلى المال، أو إلى الإنسان، صارت أشياء مختلفة، فليس لأن فيها كلمة رأس تكون كلها واحدة متشابه، ولا نقول بهذا، وعندما نقول يد الله ويد زيد، ويد الباب، ما يستلزم التشابه، والمعنى يظهر من إضافة كل شيء إليه، فيد الله غير يد الإنسان، ورأس الجبل غير رأس الإنسان، ولله المثل الأعلى، لكن أنت ترى الاختلاف في المخلوق، إذا قلت رأس المال ورأس الجبل ورأس الإنسان، هذه مخلوقات، وكلمة رأس مختلفة في كل واحد منهما بحسب ما أضيف إليه.
وكذلك يفهم بالبديهة ويفهم بالطبيعة أننا عندما نضيف صفة لله سبحانه وتعالى، نقول: يد الله، وجه الله، قدم الله، أن هذا لا يلزم التشبيه إطلاقاً، وإذا قلنا استوى الله واستوى المخلوق، لا يستلزم تشبيه الاستواء بالاستواء إطلاقاً وهكذا.
ويؤمن المسلم بصفة الله سبحانه وتعالى، وهو يعتقد أن الله منزه عن مشابهة جميع المخاليق والحوادث المحدثة، ونعتقد أن ما قاله هؤلاء المحرفون باطل، وأن المقدمات الكلامية الفلسفية التي اعتمدوا عليها باطلة، وأنهم لما قالوا: إن الله لا يشابه المخاليق هذه مقدمة، وإثبات استواء الله يؤدي إلى التشبيه، فالنتيجة هي أن الاستواء باطل لا ينسب لله، فهذه المقدمة باطلة، وهذا الربط بين (لو واللام) في قولهم: لو أثبتنا لصار تشبيهاً، هذا الربط كاذب، فالله مستو على عرشه من غير مشابهة للمخاليق والحوادث، وكذلك سائر صفاته سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تنزيه {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] إثبات.(5/14)
قاعدة تقود إلى صحة الإيمان بالأسماء والصفات
ثم مسألة مهمة جداً تساعد في توحيد الأسماء والصفات والإيمان به إيماناً صحيحاً أشار إليها الشيخ الشنقيطي رحمه الله قال: (قطع الطمع عن إدراك حقيقة الكيفية لابد منه) ويلزم أن تقطع تماماً الأمل أن تدرك كيفيته إطلاقاً، إذا اعتقدت هذا فستسلم من كل شبهة، قال الله عز وجل: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] فعبارة: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] يعني: لا يمكن إدراك كيفية صفاته سبحانه وتعالى، ولا يمكن تخيل ذلك، ولا يمكن للعقل البشري أن يحيط به، ولا للعلم البشري أن يحيط به سبحانه وتعالى.
والمسألة ليست مجرد عرض عملي كما قد يحس البعض بالجمود، وإنما هو عرض وعظي أيضاً، وعرض إيماني، قال: " لو متم يا إخواني وأنتم على هذا المعتقد " تنزيه الله عن مشابهة المخاليق، إثبات الصفات له، قطع الطمع عن إدراك الكيفية، وإثبات الصفات ونفي التشبيه.
قال: " لو متم يا إخواني وأنتم على هذا المعتقد؛ أترون الله يوم القيامة يقول: لم نزهتموني عن مشابهة الخلق؟ ويلومكم على ذلك؟ "هل يلومكم إذا أثبتم الاستواء؟ هل سيقول لكم لماذا لم تأولوا الاستواء؟ " كلا والله، لا يلومكم على ذلك " هل يلومكم ويقول: لم أثبتم لي ما أثبته لنفسي، وأثبته لي رسولي؟! لا ولله لا يلومكم على ذلك، ولا تكون عاقبته سيئة إطلاقاً.
وفي الختام: فإنه ذكر رحمه الله تعالى بأن هؤلاء الذين نفوا صفات الله كالاستواء والنزول والمجيء أولاً: اعتقدوا التشبيه، وقالوا: ما قلته في كتابك لا يليق بك، وجاء ربك قالوا: هذه الآية ما تليق بك، ظاهرها لا يليق: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] لا يليق بك، سبحان الله! فاعتقدوا التشبيه، ثم بعد ذلك تهجموا على نصوص الوحي، قالوا: لا بد أن نعمل فيها شيئاً، ولا يمكن أن نسكت، فاضطروا بسببها إلى نفي صفات فراراً من المشابهة، فحملوا نصوص القرآن على معانٍ غير لائقة بالله، ثم نفوها من أصلها، ثم فسروا الصفة بصفة أخرى من تلقاء أنفسهم من غير دليل، فقالوا: استوى يعني: استولى.
ولو سرنا معهم وقلنا لهم: استوى بمعنى استولى، ولكن المخاليق تستولي، فلماذا لا تظهر هنا قضية التشبيه ونقول: استيلاء كالاستيلاء، ونحتاج أن نغير الاستيلاء ونأتي بمعنى آخر، أنتم قلتم: لا نقول استوى، لأن الإنسان يستوي، وإذا قلنا الاستواء معناه أننا شبهنا الله بالخلق، ما هو الحل؟ قالوا الحل نقول: استولى، نقول: المخلوق يستولي؟ فإذاً: لماذا لا يكون استيلاء باستيلاء، ففررتم من أي شيء إلى أي شيء، ماذا فعلنا؟ حرفنا الآية بدون فائدة.
فهذا ما أورده رحمه الله في هذه الرسالة العظمية النافعة في تقرير توحيد الأسماء والصفات، والرد على من حرف الصفات.(5/15)
الزواج بلا منكرات
لقد حث الإسلام الشباب على تحصين أنفسهم بالزواج، وبين المصالح من هذا الارتباط للفرد والمجتمع، ولأن عقد الزواج يعتبر عقداً مقدساً فقد جعلت له الشريعة شروطاً عظيمة كرضا الزوجين واشتراط الولي في النكاح، ولقد ركز الشيخ -حفظه الله- في هذا الدرس على ذكر بعض الأحكام المتعلقة بالنكاح، وحذر من المفاسد المتعلقة بالزفاف ووليمة العرس، وذلك ليرشد الناس إلى الزواج الإسلامي السعيد الخالي من المنكرات.(6/1)
أهمية الزواج في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فالحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وهذا النكاح الذي شرعه الله تعالى للمسلمين يطلق على أمرين: على عقد النكاح وعلى الوطء، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد التزويج، وإذا قالوا: نكح امرأته أو زوجته لم يريدوا إلا الجماع، وهذا التعاقد المقدس الشرعي بين الرجل والمرأة ضرورة فطرية دال على أن الخلقة سوية، قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189].(6/2)
الترغيب والحث على الزواج
فالحمد لله على هذه النعمة وهذا الدين الذي يوافق الفطرة، حيث أمر به سبحانه وتعالى الرجال والنساء، وأمر به الأولياء، فقال عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
تأمل يا عبد الله! كيف جاء لفت النظر في هذه الآية إلى الصالحين، وأن قضية الفقر ليست مشكلة كبيرة، وإنما الصلاح هو القضية الأعظم قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] أما قضية المال فإنها تأتي بإذن الله قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] فإن يكن فقيراً، أو عليه دين، أو ليس ذا عمل ولا وظيفة؛ يرزقه الله سبحانه وتعالى.
وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء) وقد أمر الله تعالى بالاستعفاف عند عدم القدرة، والاستعفاف يكون بغض البصر وعدم الاختلاط بما حرم الله، وعدم ملابسة المعاصي ولا غشيان الأماكن التي تثور الشهوات بسبب غشيانها، فلا مناظر ولا أماكن؛ لأن هذه هي قاعدة الاستعفاف قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور:33] أي: يتركون الحرام ويبتعدون عنه، ويتعففون حتى يأتي الفَرَج من الله عز وجل.
وقال سعيد بن جبير: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: [هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرهم نساء] وهذا النكاح هو شرع مؤكد من سنن المرسلين قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] وقال عليه الصلاة والسلام: (إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني)؛ ولذلك قال العلماء: إن التزوج مع الشهوة أفضل من نوافل العبادة لما يترتب عليه من المصالح الكثيرة والآثار الحميدة؛ بل إنه يكون واجباً في بعض الأحيان، وخصوصاً في هذا الزمان، فإذا خاف على نفسه الحرام أو وقع فيه، أو أوشك أن يقع فيه، وكان في العنت وجب عليه الزواج وجوباً يأثم بتركه.(6/3)
مصالح الزواج على الفرد والمجتمع
إن الزواج ليس وسيلة لحفظ النوع الإنساني فحسب، بل هو وسيلة للاطمئنان النفسي والهدوء القلبي والسكون الوجداني، إنه سكن للنفس ومتاع لها، وطمأنينة للقلب وإحصان للجوارح، ونعمة وراحة، وسنة وستر وصيانة، وهو سبب لحصول الذرية التي تنفع الإنسان في الحياة وبعد الممات، وهو عقد لازم، وميثاق غليظ، وواجب اجتماعي، وسبيل مودة ورحمة بين الرجال والنساء؛ يزول به سبب من أعظم أسباب اضطراب النفس البشرية التي لا ترتاح إلا بزواله، فيكون هذا الزواج راحة للنفس وطمأنينة، فالمرأة سكن للرجل وكرامة ونعمة تجلب إليه بصلاحها الأنس والسرور، والغبطة والحبور، وتقاسمه الغموم والهموم، ويكون بوجودها بمثابة السيد المخدوم والملك المحشوم، فمسكين رجل بلا امرأة، ومسكينة امرأة بلا رجل.
ولو لم يكن في النكاح إلا سرور النبي صلى الله عليه وسلم يوم يباهي كل نبي بأمته، ولو لم يكن منه إلا هذا التكاثر الذي يترتب عليه سرور محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بهذه الأمة لكان ذلك كافياً في الرغبة فيه، ولو لم يكن منه إلا ألاَّ ينقطع عمل الإنسان بعد موته بهذا الولد الصالح الذي يدعو له بعد وفاته لكان سبباً في الرغبة فيه، ولو لم يكن فيه إلا أن يخرج من صلبه من يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله، ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا احتساب الأجر في النفقة على المرأة في كسوتها ومسكنها؛ ورفع اللقمة إلى فيها لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا إغاظة أعداء الإسلام لتكثير أبناء الإسلام لكان ذلك كافياً، ولو لم يكن فيه إلا إعفاف النفس عن الحرام وقطع السبيل على من يروج الحرام لكان ذلك كافياً، فكيف لو اجتمعت هذه الأسباب في رجل صالح؟!(6/4)
شروط النكاح
يا عباد الله! نظراً لأن هذا العقد مقدس جعلت له الشريعة شروطاً عظيمة منها:(6/5)
الرضا بين الزوجين
فلا يصح إجبار الرجل على نكاح من لا يريد، كما لا يجوز إجبار المرأة على نكاح من لا تريد؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن) فجعل الرضا في ذلك شرطاً، وإذا امتنعت عن الزواج، فلا يجوز لوليها أن يجبرها على أحد لا تريده كما جاءت بذلك السنة، وأرادت المرأة الأولى أن تبين لمن بعدها أنه لا يجوز للأب إجبار زوج ابنته على من لا تريد، ولا للولي أن يجبر موليته على من لا تريد، فإذا خطبها شخصان، وقالت: أريد هذا ولا أريد الآخر، فيزوجها أبوها بمن تريد إلا إذا لم يكن لها كفؤاً، فعند ذلك يمتنع الولي ولا إثم عليه في منعها لأنها لم تعرف مصلحة نفسها في هذه الحالة، فإذا كان الولي عاضلاً يمنع الكفء المتقدم، فإن القاضي يزيحه عن موقع الولاية، وينصب الولي الذي بعده لكي يوافق على زواجها بمن لا ضير عليها من الزواج به.(6/6)
وجود الولي في النكاح
فالولي مهم لابد منه، ولا نكاح إلا بولي، فلا تزوج المرأة نفسها، ومن زوجت نفسها فنكاحها باطل، وإن ورد ذلك في بعض المذاهب فإن السنة تقضي على كل شيء، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وهذه الأدلة قاضية وملزمة، والنص متبوع ونحن تابعون، ولا رأي لأحدٍ مع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6/7)
مسائل متفرقة في النكاح
عباد الله: إن هذا الاستخلاف في الأرض الذي يقتضي كثرة تناسل الجنس الإنساني، وحصول المقصود يتحقق بالزواج، والزواج المبكر أفضل وأكمل من تأخيره، ولو لأجل اكتمال الاستعدادات امتثالاً لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ولقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ولقوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج).(6/8)
التوكيل الشرعي في النكاح
وبعض الناس يقولون: نريد الزواج من فتاة في بلد الغربة، ولكن الولي غير حاضر، فنقول: المسألة سهلة؛ يرسل الولي توكيلاً شرعياً من بلده إلى شخص في ذلك البلد، ويقوم مقامه في تزويج البنت، فيذهب هذا الموكل إلى القاضي، ويقوم مقام الولي، ولا حاجة إلى نكاح سر مخترم ليس فيه شروط شرعية متحققة، فلا بد -إذاً- من اكتمال الشروط الشرعية يا عباد الله.(6/9)
حرمة إجبار البنت على الزواج
بعض الناس يريد إجبار ابنته على الزواج بصاحب مال حتى يغنم من ورائه، وكذلك بعضهم يضيع ابنته، فلا يبحث لها عن الكفء؛ حتى إنه ربما يريد التخلص منها بأي طريقة، ولقد عرض رجل ابنته على شخص غير كفء، فقال: خذها بخمسة آلاف بالتقسيط! فهل رأيتم -يا عباد الله- مثل تضييع هذا الرجل؟! ويضيع ابنته مع غير الكفء ويريد الخلاص منها؛ لأنه طلق زوجته وعنده بنات منها، ويريد أن يتخلص منهن بأي طريقة، فيوافق على كل أحد مضيعاً لبناته اللاتي جعله الله مؤتمناً عليهن، ولقد خان الأمانة وضيع المسئولية، والله سائله عما استرعاه أحفظ أم ضيع؟(6/10)
هروب البنات مع العشاق
وكذلك هؤلاء البنات اللاتي يهربن مع العشاق -بزعمهن- ويردن الحرام أو الزواج بمن تريد بأي طريقة ولو لم يوافق الولي، وتشاهد المسلسلات وما أدراك ما هي المسلسلات؟! جهاز الحرام المنتشر الذي يشجع البنات على مثل هذه الحركات السيئة، فيشجعها على أن تهرب مع عشيقها ومحبوبها الذي لم يرض به الأب، وذلك حرام ولا يجوز.(6/11)
الحيل غير الشرعية في النكاح
وبعضهم يأتي بحيل لإجبار طرف من الأطراف على إيقاع النكاح، فيقع الفأس في الرأس، وكل ذلك مما ينكشف يوم القيامة ويكون وبالاً على صاحبه، ويعقد لكل صاحب غدرٍ لواء يوم القيامة عند استه يفضحه الله به بين الأولين والآخرين.(6/12)
أهمية البحث عن أصحاب الدِّين من الرجال والنساء
عباد الله: لما كانت الشريعة تريد إقامة البيوت على أساس الدين رغبت الشاب في البحث عن ذات الدين، وكذلك الولي أن يبحث عن الصالحين فجاءت بالطرفين من هنا ومن هناك، فمن هنا: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] أي: أنكحوا الصالحين، ومن هناك: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، وإذا قال إنسان: فكيف أعرفها والمصائب نسمعها تترى وتتابع في هذا الزمان من بنت من عائلة نعرفها بأنها محافظة، ثم نفاجأ بالقصص العجيبة عنها؟! فنقول: إن ذلك من سوء الاستقصاء ولا شك، فهلاَّ اكتمل بحثك -يا عبد الله- ويا أيها الشاب! وهلا استقصيت في السؤال لكي تعرف عن حالها؟ وهناك سبل مشروعة من استخدام محارمك من النساء للبحث عن حال هذه الفتاة، أليست في مدرسة يوجد فيها من يعرف حالها؟ أو في حي يوجد فيه جيران يعرفون حالها؟ أو أقارب يعرفون حالها؟ وكذلك إذا أردنا أن نبحث عن الرجل الصالح التمسناه في المسجد، هل هو يواظب على الصلاة فيه أم لا؟ فكذلك المرأة الطيبة تغشى الأماكن الطيبة، وقد صار -ولله الحمد- من مدارس تحفيظ القرآن وغيرها من الأماكن الطيبة ما هو مظان وجود الفتيات الطيبات؛ ولذلك فإن الاستقصاء والبحث والسؤال أمر في غاية الأهمية، والتماس مثل هذه الفتاة في مظان الصالحات أمر في غاية الأهمية، ولما كانت المرأة عاجزة أو ضعيفة، وقليلة الحيلة في السؤال والاستقصاء عن الرجل لم يجعل الشارع الأمر إليها، وإنما جعله إلى ولي رجل، ولما كانت الفتاة المتقدم إليها عاجزة أو قليلة الحيلة في الاستقصاء عن حال هذا الرجل، فلا تستطيع أن تذهب إلى مكان عمله ولا إلى حيه، ولا أن تسأل معارفه؛ جعل الشارع الأمر بيد ولي رجل مؤتمن يقوم عليها، فيسأل لها عن المتقدم إليها ويعرف حاله، وهذه أمانة عظيمة من لم يقم بها فقد خان، والخيانة إثمها كبير وذنبها شديد عظيم، فليتق الله تعالى من استؤمن، وليتق الله من سئل، ومن أشار على أخيه المسلم أو على أخته المسلمة بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه، فويل للذين يكتمون العيوب التي تمنع من النكاح، وويل للذين يكتمون حال الأزواج أو حال الشباب أو الفتيات عند السؤال، وهم يعلمون أن هذا الأمر مهم بيانه، وأن هذه الأمانة التي إذا ضيعت حصل خلل كبير في الزواج، وكان الإنسان الخائن سبباً في عقد نكاح لا يرضى أحد الطرفين به لو كان يعلم الحقيقة، ومن غش المسلمين فليس منهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا).(6/13)
الصداق والمغالاة في المهور
عباد الله: إن الصداق حق للمرأة؛ لأنه مقابل ما استحل من فرجها كما بين النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أصدق النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية) رواه الخمسة وصححه الترمذي.
ولما اشتط الناس في أمر الصداق، وبالغوا في المغالاة فيه؛ جعلوا بأيديهم عواقب الهلكة التي أحاطت بشبابهم وبناتهم يخربون البيوت بأيديهم، بل يمنعون قيامها بأيديهم بما جعلوا من المغالاة في الصداق والحفلات وغيرها من المتطلبات، والتي ليس عليها في هذه التكاليف العظيمة دليل ولا أثارة من علم، وجعلوا المطالب الشكلية هي الأساس الذي يدور عليه إمضاء الزواج من عدمه، مع أن شريعة الإسلام تريد إمضاءه أولاً، وهذه الأمور الشكلية تيسر على الإنسان المسلم، فكيف -يا عباد الله- تجعل هذه الأمور الشكلية مانعاً من تحقيق المقصود الأصلي؟ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر أنفسنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يتوب علينا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(6/14)
حرمة زواج المتعة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى، وأشهد أن محمداً رسول الهدى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
عباد الله! إن الأصل في النكاح البقاء والدوام والاستمرار؛ لأنه إقامة أسرة وبيت، ومن هنا كان زواج المتعة حراماً في الإسلام؛ لأنه زواج مؤقت محدد بوقت معين يعلن فيه العقد، ويتفق عليه الطرفان، ويكون معلوماً لكل منهما، فإذا انتهى الأجل انتهى النكاح -بزعمهم- فهذا استئجار على الزنى وليس من شرع الله في شيء، وزواج المتعة يكون على أربع وعشرين ساعة أو على ثلاثة أيام أو على أسبوع أو على شهر، فهذا استئجار على الزنى ومهر بغي لا يفعله إلا الديوثين؛ فأهل البدع الذين لا عقل ولا دين، ولا غيرة لهم يفعلونه، وأهل السنة يقومون بما جاءت به السنة.(6/15)
حكم من تزوج وهو مبيت لنية الطلاق
وبعض الناس يسأل عن الزواج الذي يكون في نية صاحبه أن يطلق بعد مدة، ولكنه لا يجعل ذلك في العقد ولا هو مشروط بين الطرفين، فهذا الزواج إن تكاملت شروطه الشرعية من رضا الطرفين والولي والإيجاب والقبول، وانتفاء الموانع من المحرمية والنسب والرضاع ونحو ذلك، فإذا انتفت الموانع فإن العقد صحيح في الأصل لتكامل شروطه وعدم النص المانع له؛ ولأن نيته قد تتغير فيتعلق بزوجته أو يكسبه الله منها أولاداً فتبقى عنده، ولكن بعض أهل العلم كرهه لأجل ما فيه من النية المبيتة التي لو علم بها الطرف الآخر ربما لم يوافق عليها.
ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين هذا النكاح وبين نكاح المتعة الذي يكون الطرفان على علم بالمدة المحددة التي إذا انقضت انتهى العقد بينهما، وأما الذي أشير إليه قبل قليل من نية عند الزوج أو عند المتقدم كالمسافر للخارج ونحوه؛ فإنها ليست معلنة بين الطرفين، ولا متفق عليها، ولا ينتهي النكاح إذا انتهت المدة التي في ذهنه بل هو مستمر.(6/16)
حكم الزواج المشروط بنفقة المرأة على نفسها
وكذلك فإن بعض الناس يكثر الكلام عن النكاح الذي يقول فيه الرجل للمرأة: أتزوجكِ، ولكن لا تشترطي علي مبيتاً ولا تطالبيني بنفقة متى ما جئتك، وعليك أن تنفقي على البيت، فإذا رضيت بذلك المرأة -وهي صاحبة القرار في الطرف الآخر- واكتملت الشروط الشرعية للعقد فإن هذا صحيح، كما أفتى بذلك شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته.
أيها الإخوة! فإذا ما طالبت المرأة بحقها في النفقة بعد الزواج، وقالت: أطالب بحقي في النفقة، قيل له: إما أن تنفق وإما أن تطلق، وأما ما دامت راضية ساكتة، وتنفق هي ولا تطالبه بمبيت؛ فإن الزواج على ما هو عليه، وهو على صحته باق، ولكن ينبغي أن يعلم أهل الحكمة أن مثل هذا الزواج غير مرشح للنجاح؛ لأنه كالشيء الذي لا يريد فيه صاحبه استقراراً، وربما وافقت عليه المرأة تحت الحاجة، فقالت: أنا برجل يأتيني في الأسبوع مرةً خيرٌ من أن أبقى بقية الدهر عانسة، فهذا في الغالب ليس مرشحاً للاستمرار، ولكن لابد أن نعلم الحكم الشرعي فيه، ثم بعد ذلك هل يقدم عليه الشخص أم لا؟ إن ذلك راجع إليه، وإلى ما يرى فيه المصلحة.(6/17)
مفاسد وليمة العرس والزفاف في العصر الحاضر
عباد الله: إن وليمة العرس سنة، ولكن الناس اشتطوا فيها حتى صارت حملاً ثقيلاً ينوء به الزوج وبتكاليفه، وربما يبقى سنوات وهو يسدد تكاليف الزواج ولما خالف الناس هذه الشريعة التي جاءت بالتيسير صارت أمورهم معسرة وشديدة، ثم لم يرضوا بذلك حتى ملئوا الوليمة والزفاف بالمنكرات مثل: اختلاط النساء بالرجال، والغناء المحرم وآلات الموسيقى، والفرق الغنائية التي تستأجر بكذا وكذا، ويدخل الزوج وبعض أقاربه في كثير من الأحيان على النساء، وتعمل الكاميرات وآلات التصوير عملها لأولئك المصورين والمصورات، وتصوير ذوات الأرواح ملعون من فعله كما جاء ذلك في الحديث، وابتدعوا بدعاً كثيرة فقالوا: نعرض فلماً وثائقياً للزوج من صغره وللزوجة كذلك، وفيها عرض لوقت الخطوبة وإتيانه إليها، والحديث الذي دار بينهما، ويراه الحاضرون أو الحاضرات، فتباً لهذه الأفكار الوخيمة والابتكارات السيئة، وتنطلق الأبخرة والدخان والألوان الحمراء والخضراء وغيرها مركزة على هذه البنت عند دخولها، والكاميرات تعمل عملها، وقد أخبر العارفون بأن هذه الأنوار، وهذه الأبخرة وربما رافق ذلك موسيقى صاخبة بأن ذلك كله من فعل أهل الديسكو وأهل الانحراف وأهل الفسق، ومعلوم أن التشبه بالفسقة حرام، فكيف إذا كان الفعل في ذاته محرماً! فكيف إذا كانت تهدر في ذلك الأموال، ويقع الإسراف الذي لايرضاه الله ولا رسوله! عباد الله: نمص وتزيين بالحرام من كوافيرات كافرات أو فاسقات، وذلك شعار يستعمل في الزفاف وحفلاته، ووضعاً للشعر فوق الرأس كأسنمة البخت المائلة، وهذا صنف من أهل النار حدثنا عنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وصل ووشم ونمص وتفلج إلى آخر ذلك من الأفعال التي لعنها النبي صلى الله عليه وسلم ولعن من فعلها، وتختم بالذهب للرجال، ووضع لآنية الذهب والفضة وأطباقهما في الحفلات، وأطباق الكرستوفل وغيرها من الفضة، والتي من أكل أو شرب بها فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم، ورفع لصوت النساء بالغناء، وهن نساء كبيرات في السن بالغات، يصل الصوت عبر هذه المكبرات إلى الرجال في الصالة، أليس في ذلك فتنة؟ هل هذا هو الدف الذي أباحه الشارع؟ كلا والله بل أباح الشارع الدف واستثناه من سائر المعازف، ولم يبح الآلات الموسيقية الكبرى، ولا أصوات النساء الكبيرات اللاتي يصل صوتهن إلى الرجال عبر المكبرات، فهذا كله لم يبح في الشرع؛ ولذلك كان فاعله آثماً، فلا تبدءوا أيامكم الأولى في هذا العقد المقدس -يا معشر الشباب- بمعصية الله، فإنه -والله- لا خير في زواج يبدأ بمعصية الله، ويدوم على معصية الله.
اللهم ارزقنا العفة والعفاف، اللهم ارزقنا الأمن والإيمان، اللهم ارزقنا الطهر والنظافة واليقين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، وأن تجعلنا من الركع السجود، اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور! وآمنا في الأوطان والدور، وأرشد الأئمة وولاة الأمور إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(6/18)
مسائل فقهية يكثر السؤال عنها
التفقه في الدين من أجلِّ العبادات وأعظمها، فبه يتعلم الإنسان أحكام الشرع الحكيم، وبه يعرف الحلال والحرام، وبه يهتدي إلى الحق من غيره.
والناس يسألون الفقهاء دائماً عن أحكام دينهم، ويلحظ الفقيه تكرر أسئلة من ألسنة الكثير، فرأى الشيخ أن يضمن هذه الخطبة بعض الأسئلة المتكررة.(7/1)
منزلة الفقه في الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن التفقه في دين الله تعالى من أجلِّ العبادات: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
إن منزلة الفقه في الدين -يا عباد الله- من المنازل العظيمة! كيف نعبد ربنا إلا بالفقه، كيف تصح عباداتنا إلا بالفقه، كيف نعرف الحلال والحرام إلا بالفقه، الفقه أساس ديننا، الفهم عن الله ورسوله، فهم الشريعة، فهم الأحكام، وهذا ولا شك، معرفته فرض عين على كل مسلم في كل مسألة احتاج إليها أن يعرف فقهها وحكمها.
وأما التفقه في الدين على وجه العموم، فإنه فرض كفاية، فلا بد أن يكون في المسلمين من يُفقّههم، ويفتيهم، ويعلمهم، ويبين لهم أحكام الله عز وجل، فإن لم يكن ذلك فيهم، أو لم يوجد فيهم من يكفي أثموا جميعاً، ومن هنا تنبع الحاجة إلى معرفة أحكام الدين والتفقه فيها، وكثير من الناس تعرض لهم أحوال ومسائل، لا يجدون فيها حكماً شرعياً في أذهانهم، لا يعرفون الحكم فضلاً عن دليله، فضلاً عن القائل به من السلف والعلماء، فضلاً عن فتوى لمفتٍ ممن يعاصرونه ولو بغير دليل، لا يعرفون ذلك إلا من رحم الله تعالى.(7/2)
قضايا فقهية يكثر السؤال عنها
وقد رأيت في هذه الخطبة -أيها الإخوة- أن أذكر لكم مجتمعاً من الأحكام الفقهية في الأبواب المختلفة، من الأشياء التي يكثر سؤال الناس عنها، وقد وجدت بالتجربة أن أكثر ما يسأل عنه الناس: اليمين، والطلاق، والمنامات، وأمور أخرى نأتي عليها في بعض من الترتيب الذي ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى من مسائل واقعية، فرأيت أنه يكثر السؤال عنها، فلعلَّ في بيانها نفعاً إن شاء الله تعالى، وستجدون ذلك في التطبيقات العملية، فيما يواجه الشخص في حياته.(7/3)
أحكام الآنية وإزالة النجاسات
ففي أبواب الآنية: لا يجوز استعمال إلا الطاهر من الآنية، وآنية الكفار إذا لم يوجد غيرها تغسل ثم تستخدم، وأما المطلي بالذهب أو الفضة من الآنية وهي كثيرة جداً في الأسواق من الصحون والملاعق وغيرها، مما يؤكل به أو يقدم الطعام به، فإن استخدامه حرام لا يجوز، ومن أكل أو شرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم.
وأما إزالة النجاسات: فهي أمر واجب إذا علم نجاسة في ثوبه أو بدنه، وجب عليه المبادرة إلى إزالتها حتى لا يتضرر ببقائها وحتى لا ينساها.(7/4)
مس المصحف وسنن الفطرة
وأما مس المصحف: فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن الأئمة الأربعة اشتراط الطهارة عندهم لمس المصحف، وقال بعض أهل العلم بأن الأدلة في ذلك لم تثبت، بما يؤكد اشتراط الطهارة لها، فالأحوط للمسلم ألا يمس المصحف إلا على طهارة، بخلاف كتب التفاسير أو الكتب التي يوجد فيها آيات مخلوطة بغيرها من الكلام، فإنه لا بأس بمسها على غير طهارة، ولو للحائض والجنب.
وكذلك فإن من سنن الفطرة: قص الأظافر، وإزالة شعر العانة، وشعر الإبط بأي مزيل كان، والسنة والأفضل إزالة شعر الإبط بنتفه إذا قوي على ذلك، وإزالة شعر العانة بالحلق والاستحداد، وهو الأفضل والأكثر أجراً، ولا يجوز إبقاء هذه الثلاثة: الشعر والأظافر، أكثر من أربعين يوماً، فمن فعل ذلك فهو آثم، ولو كان ظفر الخنصر الذي يحتفظ به عدد من الناس، سواءً كان للمرأة أو الرجل، فإن إبقاءه لا يجوز، وقص ما طال عن الشفة العليا من الشارب واجب، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد وهو حديث صحيح، وتخفيفه سنة أيضاً، وليس من السنة في شيء إطالته وتعريضه وتكثيفه، ومن ظن أن ذلك رجولة، فهو لا يفهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أكمل الرجال رجولة.(7/5)
خروج الريح والتسمية في الوضوء
وأما خروج الريح: فإنه لا يلزم منه استنجاء كما يعتقد ذلك كثير من العامة، وإنما هو الوضوء فقط.
ويكثر السؤال عن التسمية عند الوضوء: وقد ذكر بعض أهل العلم وعدد من المحدثين، أن أحاديث التسمية ترتقي إلى درجة الحسن أو الصحيح، ولذلك لا ينبغي تركها فأما إذا كان في مكان قضاء الحاجة سمى اللهُ في نفسه، وتوضأ، وإن نسي التسمية عند أول الوضوء وتذكرها أثناءه سمى الله تعالى في أثناء الوضوء، وإذا نسيها فلم يتذكرها إلا بعد الوضوء سقطت التسمية عنه.(7/6)
النوم من نواقض الوضوء
وأما في مسألة النوم: فإنه ناقض للوضوء إذا استغرق الإنسان فيه؛ سواء كان جالساً في خطبة الجمعة، أو في غيرها، أو كان مستلقياً، فإنه إذا استغرق في النوم، وغاب عما حوله، انتقض وضوءه على الراجح من أقوال أهل العلم، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (العين وكاء السه، فإذا نامت العين استطلق الوكاء) فشبه فتحة الدبر التي يخرج منها الريح بالقربة التي فيها غطاء أو فيها خيط يغلق أعلاها، فإذا نامت العين استطلق الوكاء وانحل الخيط، وأصبح ما في الجوف قابلاً للخروج، كما أن الماء يصبح قابلاً للخروج إذا انفك خيط قربة الجلد.(7/7)
المسح على الجوربين
ويكثر السؤال في المسح على الخفين والجوربين عن نوع الجورب: والراجح: أن كل جورب يصح أن يسمى جورباً ويطلق عليه اسم الجورب يصح المسح عليه، يوماً وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، يبتدئ المسح من أول وضوء بعد الحدث، إذا غسل رجليه ولبس الجوربين، ثم أحدث، ثم توضأ للصلاة، بدأت مدة المسح من حين وضوئه ذلك، هذا ولا ينتقض الوضوء بخلع الجوربين على الراجح من أقوال أهل العلم، كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأخبر بأنه لا يعرف في الشريعة أن من نواقض الوضوء خلع الخفين والجوربين، لكن إذا انتهت المدة، لم يعد يجوز له المسح عليهما إلا بعد طهارة كاملة فيها غسل الرجلين.(7/8)
المسح على الجبائر
ويكثر السؤال في مسألة الجبائر التي توضع على الكسور وغيرها، هل يشترط فيها الطهارة؟ ف
الجواب
لا يشترط الطهارة عند وضع الجبيرة، لكن على الإنسان أن ينتبه بأن لا تجاوز الجبيرة حدود الحاجة اللازمة لاستمساكها؛ لأن بعض الأطباء أو الممرضين الذين يضعونها ربما يجاوزون حدود الحاجة في الأعضاء التي يجب غسلها في الوضوء، فينتج عن ذلك تقصير في الطهارة، فيغسل من الأطراف من أعضاء الوضوء ما ظهر، ويمسح على الجبيرة في الباقي.(7/9)
مس الذكر هل ينقض الوضوء؟
وأما مس الذكر: فإن الراجح من أقوال أهل العلم فيه: أنه إذا كان بشهوة نقض الوضوء، وإذا لم يكن بشهوة لم ينقض الوضوء، كما إذا حدث عند لبس ملابسك مثلاً، وذلك جمعاً بين الحديثين الصحيحين، الواردين عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا: (إنما هو بضعة منك)، وحديث: (من مس ذكره فليتوضأ) كما رجح ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.(7/10)
مس المرأة هل ينقض الوضوء؟
وأما مس المرأة: ففيه خلاف كبير، فقال بعضهم: إذا مسها بشهوة انتقض، وقال بعضهم: لا ينتقض وضوؤه ولا طهارته إلا إذا خرج منه شيء كمذي أو مني فعند ذلك ينتقض وضوؤه، وهو الراجح إن شاء الله تعالى.(7/11)
حكم التداوي بالحرام
وأما التداوي بالمحرم: فإنه لا يجوز سواء كان دماً أو نجاسة ونحو ذلك من الأشياء التي ربما يستخدمها بعض الناس في التداوي، وإذا كان الشراب الذي فيه نسبة من الكحول لو شرب بمجموعه مع الكحول، لو شربت منه كمية كبيرة أسكر، فإنه لا يجوز استخدامه، ولم يجعل الله شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
ولا يجوز أخذ المقابل على الدم، بالنسبة للذين يتبرعون بالدماء في المستشفيات؛ لأن (النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم) رواه البخاري.
وتشجيع الناس على التبرع طيب، وربما جاز الدفع؛ دفع الثمن للدم ولم يجز أخذ المقابل عليه، وإنما يجوز دفع ثمنه للضرورة، ولا يجوز أخذ الثمن؛ لأن الشارع نهى عن ثمن الدم، ويجوز نقل الدم للضرورة بمثابة أكل الميتة للمضطر، هذا بخلاف التداوي، أحكام المضطر في نقل الدم تختلف عن أحكام التداوي، فمهما قال لك بعض الأطباء الشعبيين أو المشعوذين في فوائد دم الضب مثلاً أو غيره فاعلم بأنه هراء، وكذلك لا يجوز التداوي بالنجاسات.
وكذلك لا يجوز تعليق التمائم والحروز وغيرها مما فيه طلاسم، أو كلمات غير مفهومة، أو شركية، أو استغاثة بغير الله، أو أرقام ونحو ذلك كفعل المشعوذين، ولا يتداوى به من سحر ولا من عين ولا من غيرها.(7/12)
كيفية الغسل
وأما كيفية الغسل: فإنه يغسل عورته أولاً، ثم يغسل يديه بشيء من الأشنان أو الصابون مما علق بهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم ينهل الماء على شقه الأيمن، ثم الأيسر، ثم على رأسه، وإذا أخر غسل رجليه إلى آخر الغسل فلا بأس بذلك، والغسل واجب إذا أولج الرجل في امرأته سواء أنزل أم لم ينزل.(7/13)
من أحكام الحيض والنفاس
ويكثر السؤال عن المسائل المتعلقة بالحيض من قبل النساء أو من أزواجهن: واعلموا رحمكم الله أن في هذا قواعد بسيطة إذا حفظت فإنها تغني عن كثير من السؤالات، وتزيل كثيراً من الحيرة والاضطراب، فالحيض: أيُّ دم أو صفرة أو كدرة جاء في وقت الحيض فهو حيض، من أي لون كان، أو أي كمية كانت، إذا جاءت في وقت العادة فهي عادة، وإذا جاء دم في غير وقت العادة نظرنا في صفاته، فإن كان مماثلاً للعادة، في اللون والرائحة والأوجاع المصاحبة في البطن والظهر ونحو ذلك حكمنا بأنها عادة، تقدمت أو تأخرت، وإلا فليست بعادة، وكذلك فإن العادة معرضة للتقديم والتأخير، والاتصال والانقطاع، والزيادة والنقصان، ولكن لا تزيد العادة عن خمسة عشر يوماً، فإذا زادت عن خمسة عشر يوماً، اغتسلت وصلت واعتبرت الباقي استحاضة وقضت من الصلوات ما بعد العادة الأصلية، فلو كانت عادتها سبعة أيام، فطال بها الدم في أحد الشهور حتى بلغ ستة عشر يوماً وهي ممسكة عن الصلاة في الخمسة عشر بناء على القاعدة، فإنها تغتسل وتعتبرها استحاضة، وتقضي من الصلوات ما بعد العادة الأصلية وهي السبع من الأيام، وهي معذورة في تركها.
أما النفاس فالراجح أن أقصى مدة له أربعون يوماً، فإن زاد عن ذلك فهو استحاضة، وكل كدرة أو صفرة أو دم من أي لون في الأربعين فهو نفاس، وإذا انقطع الدم قبل الأربعين ونظفت المرأة طهرت واغتسلت لزوجها وللصلاة.(7/14)
رؤية النجاسة في الثوب
وأما من رأى في ثوبه نجاسة لا يدري متى حدثت، فإن صلاته فيما مضت صحيحة، وعليه المبادرة إلى غسل النجاسة، وأما إن كان الموجود في الثوب أثر جنابة، فإنه يغتسل ويعيد الصلوات من آخر نومة نامها.(7/15)
صلاة المفترض خلف المتنفل والمسافر بالمقيم
ويكثر
السؤال
عن ائتمام المفترض بالمتنفل، والمسافر بالمقيم، وصاحب صلاة العصر بالظهر، واختلاف النيات بين الإمام والمأموم؟ فاعلموا رحمكم الله، أنَّ ائتمام الجميع بالجميع جائز إن شاء الله، فلو اقتدى مفترض بمتنفل، أو متنفل بمفترض، أو مقيم بمسافر، أو مسافر بمقيم، أو اقتدى من يصلي الظهر بمن يصلي العصر، صح ذلك سواء اختلف عدد الركعات أم لا، ولكن المسافر إذا اقتدى بالمقيم وجب عليه الإتمام، لحديث ابن عباس: (مضت السنة أن يتم المسافر خلف المقيم) والمقيم إذا اقتدى بالمسافر أتم الصلاة ولا بد، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سَفْر) ومن كان يريد صلاة المغرب، فصلى خلف من يصلي العشاء، جلس في الثالثة وانتظره على الأفضل إلى أن يسلم فيسلم معه، وأما إذا كان يريد أن يصلي رباعية وراء من يصلي ثلاثية مثلاً فإنه يتم بعد سلام الإمام ولا إشكال في ذلك.
ويجوز إذا دخل شخص المسجد فوجد إنساناً يصلي أن يلتحق به، كائنة ما كانت صلاة ذلك الشخص، ويجهر له بالصلاة والتكبيرات بحسب الوقت ليأتم به.(7/16)
سجود السهو
وأما سجود السهو: فإن كان للزيادة في الصلاة، سجد بعد السلام سجدتين، ثم سلم مرة أخرى، وفي جميع الحالات الأخرى في النقص أو الشك، فإن الراجح أن سجدته تكون قبل السلام للسهو.(7/17)
قضاء النوافل وسجود التلاوة
وقضاء النوافل والسنن الرواتب مشروع، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم سنة الظهر بعد العصر، وقضاء الوتر مشروع، فإذا قضاه في النهار زاد ركعة، فشفع الذي كان سيصليه في الليل.
وسجود التلاوة مستحب، واشترط له كثير من الفقهاء شروط الصلاة؛ من الطهارة، واستقبال القبلة، وغير ذلك، يكبر إذا كان في الصلاة للسجود ويكبر للرفع لعموم الحديث: (كان يكبر عند كل خفض ورفع) وفي خارج الصلاة، يكبر لسجود التلاوة، ويقول الذكر المشروع فيها ومنه التسبيح المعتاد.(7/18)
مسافة القصر
وأما السفر، فيكثر سؤال الناس عن مسافته: ذهب بعض أهل العلم كـ شيخ الإسلام رحمه الله: إلى أنه لا حد للسفر، فإن كان عرف الناس في البلد أن ذهابهم منه إلى البلد الآخر سفر، فهو سفر، وذهب عدد كبير من أهل العلم إلى أن مسافة السفر تحدد بمسيرة اليوم والليلة على الإبل التي تحمل صاحبها وعليها متاعه، ومن هنا قدروها بثمانين كيلو متراً.
والجمع في السنة يكون إذا جدَّ بالمسافر السير، فإذا جلس في المكان، أو نزل به، فإنه يقصر من غير جمع كما يفعل الحاج في منى.
والجمع في السفر، وفي المطر، سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو للمريض كذلك قياساً على السفر بجامع المشقة.(7/19)
تأخير الأموات في المستشفيات
عباد الله: مما يكثر السؤال عنه: قضايا تأخير الأموات في ثلاجات المستشفيات: فاعلموا أن الإسراع بتجهيز الميت لا شك أنه من دين الله، وأن تأخير الأموات في ثلاجات المستشفيات من المنكرات، وإكرام الميت التعجيل به كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى، بناء على الأحاديث التي حثت على الإسراع بالجنازة، ويستلزم من ذلك سرعة تجهيزها، من غسل، وتكفين، وتقديم للصلاة، ودفن، فهي إما خير تعجلونها إليه، وإما شر تضعونه عن أعناقكم.
والإعلام بموت الميت لا حرج فيه، إلا إذا كان على طريقة أهل الجاهلية، الذين كانوا يصيحون في الأسواق وما يفعل في بعض البلدان من الطواف بسيارة لها مكبر يعلنونه في الشوارع، ونعي الجرائد فيه كثير من المنكرات.
والإسراع بقضاء الدين يخفف كثيراً عن الميت، والاجتماع للعزاء، ووضع الطعام في العزاء للمعزين بدعة قبيحة ومنكرة؛ لأن الصحابي أخبر بأنهم كانوا يرون الاجتماع إلى أهل الميت وعمل الطعام من النياحة، فلمن يكون الطعام؟ لأهل الميت وضيوفهم الذين قدموا عليهم من بعيد ونزلوا في بيتهم مثلاً.
أما المعزون من البلد، فإنهم لا حق لهم في الأكل من الطعام الذي يقدم في العزاء، مهما تواتر الناس وتتابعوا على ذلك، وهذه من البدع القبيحة المنكرة الشائعة، يجعلون العزاء مأكلاً وشرباً، وليس هذا بوقته، ويحملون أهل الميت من التكاليف ما الله به عليم.(7/20)
ما تجب فيه الزكاة وقضاء رمضان
عباد الله: كل ما استعمل واتخذ للاقتناء فليس فيه زكاة سوى الذهب والفضة على الراجح.
والرواتب لا يزكى إلا ما توفر منها وحال عليها سنة، والأسهم إذا كانت متخذة للبيع والشراء ففي قيمتها وأرباحها الزكاة، وإذا اتخذها ليقتات من أربحاها ويستفيد من الأرباح لا ليتاجر بها فالزكاة في الأرباح إذا حال عليها الحول.
وكذلك فإن بعض الناس يحابون بدفع زكاتهم إلى الأقارب، لا تدفع الزكاة لكل قريب أنت مكلف بالإنفاق عليه، كأصولك وفروعك، وكذلك الزوجة، ولا تدفع إلى قريب فقير له غيره يغنيه، فإن كان هناك من ينفق عليه بما يحتاج لم يجز لك أنت أن تعطيه من زكاتك.
وتستحب المبادرة إلى قضاء رمضان، وعدم تأخيره إبراءً للذمة.(7/21)
حكم الصلاة في الطائرة والإحرام فيها
وأما الصلاة في الطائرة، والصيام فيها والإحرام، فمما ينبغي معرفة حكمه: فتجوز الصلاة في الطائرة، على أي اتجاه كانت مادام لا وقت له للصلاة إلا فيها، كالأسفار الطويلة، إذا لم يكن مستطيعاً لاستقبال القبلة، وإذا لم يكن مستطيعاً للقيام صلى جالساً فيها.
وأما الصيام: فلا يفطر إذا أراد أن يتم صومه، إلا عند اختفاء قرص الشمس بالنسبة إليه في الطائرة.
والإحرام فيها إذا مر بمحاذاة الميقات من الجو، ويجوز أن يحرم قبل ذلك بقليل كخمس دقائق، احتياطاً لسرعة الطائرة.(7/22)
مجاوزة الميقات بدون إحرام
ويكثر
السؤال
عمن كانت له عمرة وعمل في جدة مثلاً، فماذا يفعل؟ فلا بد ولا بد من الإحرام من الميقات، ومن جاوزه بغير إحرام فعليه العودة إليه للإحرام منه، ولزم عليه في هذه الحالة دم، وإن أحرم من جدة وهو مريد للعمرة وهو من الآفاقيين، من أهل البلدان الذين يمرون على المواقيت، فهو مسيء تلزمه التوبة والدم لترك الواجب، فليفعل العمرة قبل أن يذهب إلى العمل إن استطاع، وأما إن كان لا يدري هل يتمكن من العمرة أم لا، ذهب لشغل وقال في نفسه: إن وجدت فرصة اعتمرت وإلا رجعت، فلا حرج عليه أن يحرم من المكان الذي عزم منه على العمرة.(7/23)
من أحكام العقيقة
وأما العقيقة: فإنها سنة وفيها تأكيد شديد، وتجوز في أي يوم من الأيام، خصوصاً الذين يريدون فعلها في عطلة نهاية الأسبوع؛ لأجل اجتماع الناس وأقربائهم وظروفهم، والسنة أن يذبح في اليوم السابع، فإن لم يتمكن ففي الرابع عشر، فإن لم يتمكن ففي الحادي والعشرين، لحديث حسن رواه البيهقي في ذلك، وبعد الحادي والعشرين قال بعضهم في مضاعفة السبعة، وقال بعضهم تستوي في أي يوم كان، وكلما كانت أقرب كانت أفضل، وشروطها شروط الأضحية، ولا ينسى نصيب الفقراء منها.(7/24)
استئذان الوالدين للجهاد
وأما استئذان الوالدين للجهاد: فإن كان جهاداً مستحباً أو فرض كفاية وجب استئذان الأبوين؛ لأن استئذانهما فرض عين وطاعتهما فرض عين، وإن كان الجهاد فرض عين، كأن حضر المعركة، أو داهم العدو البلد خرج بغير إذن أبويه.(7/25)
من أحكام البيوع
ولا يجوز في البيع أن يبيع محرماً وهذا كثير في الدكاكين، ولا أن يبيع شيئاً على من يستخدمه في معصية، واعلموا أن الأشياء المبيعة ثلاثة: منه ماهو مستخدم في المعصية فقط، ومنه ما هو مستخدم في الطاعة، ومنه ما يستخدم في الحلال والحرام كالسكين، فإذا عرف أنه سيستخدمه في الحرام، أو غلب ذلك على ظنه لم يجز له أن يبيعه.
وأما الذين يكتبون في الدكاكين: البضاعة التي تباع لا ترد ولا تستبدل، فهذا إذا خرج من المجلس ولم يكن فيها شيء يبيح الرد كالعيب، أما إذا كان في مجلس العقد، جاز له أن يرد رغماً عن البائع، وإذا ظهر فيها عيب جاز له أن يردها رغماً عن البائع، ولو كتب في الدكان، أو على الفاتورة ما كتب.
وكذلك فإن بيع التقسيط جائز على الراجح من أقوال أهل العلم إذا كان يملك السلعة، وكان الثمن معلوماً، جاز له أن بيع تلك السلعة بالتقسيط، أما الذي يفعل اليوم عن طريق شركات التقسيط، فهو رباً وحرام، يقولون له: انتق السلعة وهات الفاتورة، يسددونها عنه ثم يقولون: سدد بزيادة إلى أجل بالتقسيط، فهذا رباً وحرام، ولا شك في ذلك، لكن إذا ملكوا السلعة وحازوها إليهم، ولم يكن هناك إلزام مسبق، جاز لهم أن يبيعوها عليه بالتقسيط، وإن تأخر عن السداد في الموعد لم يكن لهم إلا الثمن الذي اتفقوا عليه.
والبيع على الشرط جائز إذا كان صحيحاً، فإن كان الشرط فاسداً لم يجز البيع، كأن يقول له: أبيعك بشرط ألا تبيع لغيرك؛ فهذا شرط فاسد.
وكذلك فإنه لا يجوز البيع قبل القبض للحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) وقال: (لا تبع ما ليس عندك).
وأما الربا فأشكاله كثيرة، ومن أشهرها القرض الربوي، وهم يتحايلون بتسجيل المبلغ في الكمبيالة أقل مما استلم، ليرد ما في الكمبيالة من الرقم، ولا شك أن هذا حرام واضح أشد الوضوح، وهم يغرون الناس بأشياء، يقولون: لا يلزم كفيل، ويقولون: إذا مت نسامحك، الله أكبر! ما أحسن أخلاقهم، إذا مت نسامحك ترغيباً له في الاقتراض، ويجعلون شروطاً للراتب حتى يتمكنوا من أخذ الربا الذي اشترطوه وكتبوه ضمن المبلغ.(7/26)
من أحكام الرهن والوكالة
وأما بيع البيوت المرهونة: لا يجوز أن يباع البيت المرهون إلا بإذن الطرفين.
وفي باب الوكالة، يسأل بعض الناس: إذا وكلنا في شراء شيء، فهل يجوز لنا أن نأخذ ربحاً؟ فنقول: نعم، إذا كان صاحب الشأن يعلم، أما إذا كان لا يعلم فلا يجوز لكم أن تأخذوا ربحاً إلا إذا كنتم أنتم البائعين، فإذا قلت له: أنا أبيعك، جاز أن تأخذ الربح ولو لم تخبره بكم رأس المال عليك؟ أما إذا كنت مجرد وكيل وقال لك: من فضلك اشتر لي كذا من السوق، فيجب أن تخبره بثمنه، ولا يجوز أن تأخذ شيئاً زيادة إلا بإذنه، ومن قال لغيره: بعه بمائة وما زاد فهو لك، فهذا بيع جائز وصحيح.(7/27)
ما يحدثه الإنسان في ملكه
ولا يجوز للإنسان أن يحدث في ملكه ما يضر الآخرين، فلو أحدث في بيته طاقات ونوافذ تضر بالجيران، أو عمل مقهىً أو تنوراً يؤذي جيرانه، ألزم بإزالته، وبتغطية النوافذ شرعاً، أو عمل ورشة تقلق راحة الجيران ألزم بإزالة ذلك.
ولا يجوز أن يحدث في ملكه ما يضايق الطريق، كأن يبني ويترك الأسمنت والحديد يضيق الشارع، فهذا حرام يأثم به طيلة وضعه في الطريق مضيقاً له، أو أن يجعل لنفسه موقفاً لسيارته، يأخذ من حد الطريق العام الذي هو للمسلمين، فإنه يأثم ويلزم بإزالة ذلك الموقف، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يخرج شيئاً في طريق المسلمين من أجزاء البناء، أو يعتدي على الشارع العام، أو على الرصيف، كل ذلك حرام، وكذلك فإن بعض الناس يضعون من الأشياء المؤذية: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58].
وإذا كان المال من شخص، والعمل من شخص، كانت شركة مضاربة وفي أحكام الشركات إذا اتفق على النسبة، فهي صحيحة شرعاً، لكن إذا خسرت الشركة يخسر صاحب المال ماله ويخسر صاحب الجهد جهده، ولا يجوز تحميل خسارة مالية للمضارب إذا كان أميناً لم يتعدَ ما اتفق عليه من العمل، وأخذ المال.
واشتراط ضمان رأس المال حرام لا يجوز، فإذا قال له: هات من عندك رأس مال، أتاجر به أضمنه لك، أعطيك من الأرباح نسبة كذا، وإذا خسرت فإنك لا تخسر؛ بهذا الشرط حرام لا يجوز، أما أن يدخل معه على الشركة الجائزة شرعاً وإلا فلا يدخل.(7/28)
من أحكام الإجارة
وبالنسبة للإجارة، فلا بد أن تكون الأجرة معلومة في عقد الإجارة الشفوي أو الكتابي.
وجهالة الأجرة حرام، إلا إذا كانت الأجرة شائعة في البلد، فلا حرج في عدم ذكرها.
ولا يجوز تأجير المحلات والدور على من يستعملها في معصية الله تعالى، وعقود الموظفين في الشركات والمصالح الحكومية هي عقد إجارة، يجب على الموظف الوفاء بالعمل، ويجب على صاحب العمل الوفاء بالأجرة.(7/29)
حكم النوم في العمل والانصراف قبل الوقت
ويكثر السؤال من الناس عن حكم النوم في العمل، خصوصاً الذين يعملون في النوبات الليلية وغيرها، أو تقسيم الموظفين الذين يداومون في تلك النوبة فيبقى بعضهم وينصرف آخرون أو ينامون؟ ويكثر
السؤال
عن حكم الانصراف من العمل قبل الوقت إذا أدى المهمة في ذلك اليوم؟ ف
الجواب
كل ذلك بحسب الاتفاق والعقد، فإذا شرطوا عليه أن يبقى مستيقظاً في العمل من السابعة إلى الثانية ظهراً لم يجز له الانصراف إلا بإذن، ولا النوم، ولا تقسيم العمل على الموظفين الموجودين مهما كان قليلاً، وأما إن قالوا له في العقد: إن تنجز عملك اليومي وتنصرف، فإن ذلك لا بأس به فله أن ينصرف.(7/30)
حكم المسابقات
وأما المسابقات: فإنها لا تجوز عند جمهور أهل العلم على عوض، إلا فيما يُعين على الجهاد ونشر الدين، كالسباق على الإبل والخيل والسهام وما يقوم مقامها كسائر الأسلحة المستخدمة في التصويب، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) وألحق شيخ الإسلام رحمه الله المسابقات في حفظ القرآن والسنة والدين؛ لأنها تشترك مع الجهاد في نشر الدين، ومنه تعلم أن كثيراً من المسابقات القائمة اليوم بجوائز الاشتراك فيها للجائزة حرام.
والمسابقات ثلاث: مسابقة محرمة في أصلها، ومسابقة جائزة بعوض كالسبق على الخيل وفي الرمي، ومسابقة جائزة بغير عوض كالسباق على الأقدام وغير ذلك من أنواع الألعاب المباحة.
والرهان حرام إلا إذا كان فيه انتصار للدين وإظهار الإسلام وهيمنته، كما راهن أبو بكر الكفار على غلبة الروم للفرس بحسب ما ورد في الآية، وأما الرهانات الأخرى الموجودة والمنتشرة كثيراً بين الناس فهي حرام ولا تجوز.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب قريب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(7/31)
شهر المحرم وصيام عاشوراء
أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، والصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين الطاهرين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: قد بقي لنا في الموضوع بقية، في أحكام تتعلق بالمعاملات، لعلنا نأتي عليها في خطبة قادمة إن شاء الله، وقد سبق أن ابتدأنا سلسلة في أحكام الغناء، لعلنا نكمل شيئاً من ذلك في الخطبة القادمة بمشيئة الله، وأتحدث إليكم بسرعة، عن مسألة عاشوراء، وقد دخلنا في شهر محرم نسأل الله أن يجعله عاماً مباركاً، وعام نصر للإسلام والمسلمين.
وهذا شهر محرم الحرام، من اقترف فيه سيئة فإن الإثم يضاعف عليه؛ لأنه من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
ويندب الإكثار من الصيام في شهر محرم على وجه العموم.
وفيه يوم عاشوراء الذي كان صيامه مفروضاً على المسلمين، ولما فرض صيام رمضان نسخ عاشوراء وصار صومه مستحباً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أمرهم بصيامه: (إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم كان يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب أن يصومه فليصمه، ومن أحب أن يتركه فليتركه).
وأما في أجره: فقال عليه الصلاة والسلام: (صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية) رواه مسلم رحمه الله تعالى، وفي رواية () إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
فهنيئاً لمن صامه؛ لأنه يكفر له ذنوب سنة كاملة قد مضت، فما أكثر الذنوب! وما أعظم من سامح وغفر، والله سبحانه وتعالى شرع لنا هذه المواسم للمغفرة والتوبة.
وعاشوراء: هو يوم العاشر من محرم، وهذا اليوم يوم نجى الله فيه موسى ومن معه، انتزع النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته من اليهود، لما أخبروه عن سبب صيامهم له، ونحن أحق بموسى منهم.
وفي صيامه موافقة لسنة الأنبياء، وانتزاع للفضيلة من أهل الكتاب، والتأكيد على ذلك، وتكون مخالفتهم بأن نصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، بالإضافة لما فيه من الأجر العظيم، واعلموا رحمكم الله تعالى أن تاسوعاء هو الأفضل أن يصام مع عاشوراء، فمن فعل ذلك فقد أتى بسنَّة عظيمة من السنن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم همَّ بذلك وأخبر عن عزمه عليه.
وكذلك فإن صيام هذا اليوم، ذكر فيه بعض أهل العلم أن له مراتب ثلاث: أن يصام عاشوراء فقط، وهذا جائز وتكون المخالفة في هذه الحالة مستحبة لا واجبة.
وأن يصام يوم قبله وهو الأفضل، أو يوماً بعده فهي المرتبة الثانية.
وأن يصام يوماً قبله ويوماً بعده، ولم يصح بذلك حديث، ولكن لأجل الاستكثار من العمل الصالح، وعموم مشروعية الصيام في محرم، يكون أفضل من هذه الجهة.
وأما بالنسبة لهذه السنة، وفي كل سنة يتكرر الكلام، إذا علمت -يا عبد الله- بدخول الشهر فصم على حسب علمك، فإن علمت أن ذي الحجة كانت تسعاً وعشرين وأن محرماً دخل في اليوم الفلاني فصم بناءً على ذلك، وإذا لم يصل إليك علم، فإنك تعمل بناءً على إكمال ذي الحجة ثلاثين؛ وتصوم عاشوراء من محرم بناءً على ذلك، ولا يجب تحري دخول محرم؛ لأنَّه لا تتعلق به عبادة واجبة، بل يجب تحري دخول رمضان، وشهر شوال، ويجب تحري دخول ذي الحجة، لكن لا يجب تحري دخول محرم؛ لأنه لا تتعلق به عبادة واجبة، فإن وصلنا خبر صمنا بناءً على ذلك، وإلا فنكمل ذو الحجة ثلاثين، وبناءً على ذلك لو أكملنا ذو الحجة ثلاثين فيكون الإثنين والثلاثاء من الأسبوع القادم هو تاسوعاء وعاشوراء، ومن صام الإثنين والثلاثاء فإنه أصاب عاشوراء قطعاً؛ لأنه إما أن يكون الإثنين أو الثلاثاء، فمن صام الإثنين والثلاثاء فإنه يكون قد أصاب عاشوراء إن شاء الله تعالى، وهذا ما أخبرنا به سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز عن هذه السنة في صبيحة هذا اليوم، وقد سألته عنه فقال: الأفضل أن يصوموا الإثنين والثلاثاء ما لم يأتِ خبر عن دخول الشهر.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع، وأن ينعم علينا أجمعين بالتوبة النصوح، والمغفرة من سائر الذنوب، وتكفير الخطايا.
اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، والنفع للعباد يا رب العالمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا ذنوبنا يا عزيز يا غفور! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(7/32)
القارئ الصغير
كان عمرو بن سلمة فتى صغيراً؛ لكنه كان قوي الحفظ سريعه، فكان يتلقى الركبان ويحفظ منهم ما أنزل من القرآن.
وحينما أسلم قومه وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يؤمهم أقرؤهم، لم يجدوا من هو أقرأ من عمرو، فأمهم ولم يكن له إلا ثوب ممزق تبدو منه سوءته، فمرت امرأة من الحي وقالت: غطوا عنا است إمامكم، فاشتروا له قميصاً فكان فرحه به عظيماً، وفي هذه القصة فوائد وأحكام كثيرة.
يمكنك أن تعرفها من اطلاعك على هذه المادة.(8/1)
روايات حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبياً(8/2)
رواية البخاري لحديث عمرو بن سلمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فمعنا حديث الصحابي الصغير عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه، يقول راوياً قصته التي أخرجها الإمام البخاري رحمه الله والنسائي وأبو داود والإمام أحمد يقول: (كنا بماءٍ ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان، فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه، أو أوحى الله إليه بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يُقر في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌ صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قومٍ بإسلامهم، وبادر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فلم يكن أحدٌ أكثر قرآناً مني لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت علي بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا عنا است قارئكم؟! فقطعوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء فرحي بذلك القميص).(8/3)
رواية النسائي لحديث عمرو بن سلمة
فأما رواية النسائي رحمه الله: فعن عمرو بن سلمة قال: (لما رجع قومي من عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه قال: ليؤمكم أكثركم قراءة للقرآن، قال: فدعوني فعلموني الركوع والسجود، فكنت أصلي بهم وكانت عليّ بردة مفتوقة فكانوا يقولون لأبي: ألا تغطي عنا است ابنك) وفي رواية له أيضاً قال: (كان يمر علينا الركبان فنتعلم منهم القرآن، فأتى أبي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليؤمكم أكثركم قرآناً، فجاء أبي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليؤمكم أكثركم قرآناً، فنظروا فكنت أكثرهم قرآناً، فكنت أؤمهم وأنا ابن ثمان سنين).(8/4)
رواية الإمام أحمد لحديث عمرو بن سلمة
وأما رواية الإمام أحمد رحمه الله فإنه رواها عن عمرو بن سلمة قال: (كنا على حاضرٍ -وهم القوم الذين ينزلون بمكان لا يرحلون عنه- فكان الركبان يمرون بنا راجعين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي أن الذين يذهبون إلى المدينة ويرجعون طريقهم على هؤلاء- فأدنو منهم فأسمع حتى حفظت قرآناً، وكان الناس ينتظرون بإسلامهم فتح مكة، فلما فتحت جعل الرجل يأتيه فيقول: يا رسول الله أنا وافد بني فلان وجئتك بإسلامهم، فانطلق أبي بإسلام قومه فرجع إليهم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدموا أكثركم قرآنا، فنظروا وإنا لعلى حواءٍ عظيم، فما وجدوا فيهم أحداً أكثر قرآناً مني، فقدموني وأنا غلامٌ فصليت بهم وعليّ بردة، وكنت إذا ركعت أو سجدت قلصت فتبدو عورتي، فلما صلينا تقول عجوزٌ لنا دهرية: غطوا عنا است قارئكم، قال: فقطعوا لي قميصاً فذكر أنه فرح به فرحاً شديداً).
وأما رواية أبي داود رحمه الله فإنه رواها عن عمرو بن سلمة قال: (كنا بحاضرٍ يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا رجعوا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، وكنت غلاماً حافظاً، فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبي وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من قومه فعلمهم -أي النبي عليه الصلاة والسلام- الصلاة فقال: يؤمكم أقرؤكم، وكنت أقرؤهم لما كنت أحفظ، فقدموني، فكنت أؤمهم وعلي بردة لي صغيرة صفراء، فكنت إذا سجدت تكشفت عني، فقالت امرأة من الناس: واروا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصاً عمانياً، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين).
وفي رواية أخرى لـ أبي داود عن عمرو بن سلمة: (إنهم وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله! من يؤمنا؟ قال: أكثركم جمعاً للقرآن أو أخذاً للقرآن، فلم يكن أحدٌ من القوم جمع ما جمعته، قال: فقدموني وأنا غلام وعلي شملة لي، فما شهدت مجمعاً من جرمٍ -يعني قومه بني جرم- إلا كنت إمامهم، وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا).(8/5)
ترجمة عمرو بن سلمة وذكر ضوابط في معرفة الصحابي
هذا الحديث الذي يرويه عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه وهو رجلٌ مختلفٌ في صحبته، أبوه صحابي لأنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُوجد في الرواية أنه وفد مع أبيه، وقد قيل: إنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إنه لم يفد عليه، ولذلك لم يكن في عداد الصحابة.(8/6)
تعريف الصحابي
والصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.
لماذا قلنا: من لقي ولم نقل: من رأى؟ لأنه قد يكون ضريراً، لو قلنا: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فمعنى ذلك أننا أخرجنا ابن أم مكتوم وأخرجنا فلاناً وفلاناً من الصحابة الذين لم يكونوا من المبصرين، فقال العلماء: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم، واللقيا هي: هو أن يجتمع مع النبي في مكانٍ واحد ولو لم يتحدث معه، ولو لم يسمع منه شيئاً، فمجرد التقائه بالنبي عليه الصلاة والسلام يصير من الصحابة الذين لهم الميزات العظيمة رضي الله عنهم ورضوا عنه ومن أهل الجنة، والقدح فيهم قدح في نقلة الوحي، ولا يسأل عن أحدهم في الحديث هل هو ثقة أو غير ثقة لأنهم عدول كلهم، وهم قومٌ اختارهم الله؛ كل واحدٍ لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وهذا يشمل من لقيه في الأرض أو لقيه في السماء.
ولذلك فإن بعض الأنبياء صحابة لقوه مؤمنين به، لكن عندما نقول في التعريف: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، فإن عيسى عليه السلام بناءً على ذلك ينطبق عليه تعريف الصحابي، لأنه لقي النبي عليه الصلاة والسلام مؤمناً به وسيموت على هذا، لأن عيسى لم يمت بعد عليه السلام، عمره فوق ألفي سنة، وسيكون عمره فوق ألفين سنة إذا نزل ومات عليه السلام.
ولا يهم أين لقيه، في طريق الهجرة، في مكة في المدينة في الأرض، في السماء.
واللقاء يمكن أن يكون بنظرة أو اجتماع في مكانٍ واحد سواء كلمه أو لم يكلمه.
ومؤمناً به: حتى نخرج الكافر الذي لقيه ولم يؤمن به ومات كافراً، مثل أبي لهب وأبي جهل وغيرهم ممن لقوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم ليسوا بمؤمنين به، فلذلك ليسوا من الصحابة؛ لأن الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناٌ به ومات على ذلك.
فخرج من هذا كل المرتدين الذين ماتوا مرتدين ممن لقي النبي عليه الصلاة والسلام كـ مسيلمة، فقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مات على الردة، وعدد من العرب ماتوا على الردة.
فالصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ولو تخللته ردةٌ على الأصح؛ فلو أنه ارتد ثم رجع فإنه يعتبر صحابياً؛ لأن العبرة بالخاتمة، والتوبة تجب ما قبلها، فتمحى فترة الردة بالتوبة، فيتصل الإسلام الأول بالإسلام الثاني، فكأن الردة لم تكن، ومات على ذلك.
وهناك أناس حصل بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مراسلات، وآمنوا به وماتوا على ذلك، لكن ليسوا صحابة كـ النجاشي؛ لأنه لم يلتق معه، حصل بينه وبينه مراسلات، لكن ما لقيه.
ثم إن العلماء بحثوا مسألة: هل إذا لقيه يشترط أن يكون في سنٍ معينة؛ لو أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى شخصاً والشخص هذا كان عمره سنة، من الذي لقي الآخر؟ النبي صلى الله عليه وسلم لقي الصبي أو حنكه أو دعا له ونحو ذلك.
وكذلك الجن، فإن تعريف الصحابة لا يختص بالإنس، فمن الجن صحابة التقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وعلمهم القرآن، قرأ عليهم سورة الرحمن وانطلق مع وفدهم واجتمع بهم، وأرى الصحابة آثار نيرانهم، وأعطاهم كل عظمٍ ذُكر اسم الله عليه عند ذبحه، فكل عظم ذبيحة ذُكر اسم الله عليها عند ذبحها ينقلب في أيديهم لحماً أوفر ما يكون، طعاماً للمسلمين منهم، وكل روث علف لدوابهم، ولذلك نهينا أن نستجمر بالروث والعظم، لأن العظم زاد إخواننا من الجن، ينقلب لحماً في أيديهم، والروث علف لدوابهم لأن الجن لهم دواب، وعلف دوابهم الروث، فلا نستجمر لا بعظم ولا بروث.
ثم ً بحثوا أيضاً مسألة الملائكة الذين لقوا النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن الملائكة ستموت عندما ينفخ في الصور، كل من في السماوات ومن في الأرض حتى جبرائيل وميكائيل وحتى إسرافيل الذي ينفخ في الصور يموت.
ثم بحثوا أيضاً مسألة من وصل إلى المدينة وقد مات عليه الصلاة والسلام ورآه بعد ما مات قبل أن يُدفن هل يكون صحابياً أو لا، وينبغي معرفة هل حصل أصلاً هذا أو لا، لأن إثباته قد يكون من الصعوبة بمكان، فالمهم أن هناك حالات متفق عليها أنهم من الصحابة، وحالات مختلف فيها هل هم من الصحابة أم لا، وحالات قطعاً ليسوا من الصحابة، وهناك أناس وفدوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فكان قد مات قبلها بليالٍ كالشاعر أبي ذؤيب الهذلي، والصنابحي وغيرهم ممن جاءوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام بقليل جداً.
وبعضهم أكبر من الصحابة في العمر، عمرو بن ميمون الأودي عمره مثل عمر ناس من كبار الصحابة، لكن ما كتب له أن يلقى النبي عليه الصلاة والسلام، وصل إلى المدينة بعدما مات النبي عليه الصلاة والسلام.
عدة الصحابة مائة وأربعة وعشرون ألفاً، والذين حجوا معه في حجة الوداع عددهم قريب من هذا العدد، حج معه كل المسلمين القادرين على الحج، مائة وأربعة وعشرون ألفاً رأوه في عرفة ونظروا إليه، ومؤكد أن هذا العدد الذي نقله العادون في الحج في عرفة اجتمع معه صلى الله عليه وسلم.
أما المنافقون فليسوا من الصحابة طبعاً إذا ماتوا على النفاق كـ عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من المنافقين، والحمد لله لا يوجد في نقلة الأحاديث منافق، ما أذن الله لمنافق أن يروي حديثاً، ولذلك كل رواة الحديث عدول من الصحابة، لا يوجد حديث رواه منافق، ما مكنهم الله من رواية الأحاديث، وأصلاً هم لا يقصدون نشر العلم بأي طريقة، بل يريدون الطعن في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.(8/7)
شرح حديث عمرو بن سلمة في إمامته صبياً
وعمرو بن سلمة رضي الله عنه ليس له في صحيح البخاري إلا هذا الحديث، وله ذكر في حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة، يقول: كنا بممر الناس، كل واحد يرجع من المدينة يمر علينا، وكنا نسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فنقول: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل؟ وهكذا كثير من العرب كانوا في موقف المتفرج يقولون: ننتظر ماذا تسفر عنه المواجهة بين هذا الرجل وبين قومه قريش، إن انتصرت قريش ارتحنا، وان انتصر هو تبعناه، كانت العرب تمشي على قاعدة المشي مع الغالب، ولذلك كانت المعارك التي بين النبي عليه الصلاة والسلام وقريش معارك حاسمة، يتوقف عليها المستقبل للإسلام؛ مثل معركة بدر وفتح مكة فهي معارك حاسمة جداً، يتوقف عليها مستقبل الدين، ليست مثل المعارك الآن، الآن مهما هزم المسلمون فالإسلام باق منتشر، ولا يمكن اقتلاعه من الأرض، أما في أول الإسلام فالإسلام محصور في المدينة، وفي بعض القبائل وفي مكة وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) إذا قضي عليها في بدر فلن تقوم للإسلام قائمة، ولذلك الصحابة الذين شهدوا بدراً أجرهم أعظم ممن يشهد المعارك الأخرى، لأن هذا داخل في معركة ينبني عليها مستقبل الإسلام في الأرض، ولما انتصروا في المعارك ونصرهم الله كان هذا النصر سبباً في انتشار الدين.
ومن حساسية هذه القضية وخطورتها يقول عمرو بن سلمة رحمه الله ورضي عنه: إن كثيراً من العرب كانوا يتلومون أي: ينتظرون ويؤخرون البت في الأمر حتى يروا ما ستسفر عنه المواجهة، ومن الذي سيحسم الموقف، ولمن سيستقر الأمر، ثم بعد ذلك يحددون موقفهم.
فلذلك كانوا يقولون: ما للناس؟ ما للناس؟ ما لهذا الرجل أوحي إليه كذا؟ فيأتي العائدون من المدينة بقرآن، وكل مسافر يرجع وقد سمع شيئاً ويقول: إن محمداً يزعم أن الله أرسله أوحي إليه الله إليه بكذا.
من الذي كان يهوى الجلوس إلى هؤلاء المسافرين ويجلس معهم ويسمع كلامهم؟ إنه عمرو بن سلمة، وكان غلاماً حافظاً رزقه الله ذاكرةً قوية، يقول: فحفظت من ذلك قرآناً كثيراً، فكأنما يقر -أي: هذا القرآن- فكأنما يقر في صدري- يجمع وفي رواية: يغري -أي: يلصق بالغراء، كأنك لصقت شيئاً بالغراء فليس بقابل للإزالة- وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، أي يؤخرون.
وهذا يدل على مسألة مهمة، وهي أن على الدعاة وأهل الإسلام أن يقدروا أن هناك أناساً موقفهم متوقف على من سينتصر، هناك كثيرٌ من المتفرجين في الأرض إسلامه يتوقف على من الذي سينتصر، فالضعفاء والمتشككون في الدعوة والمنتفعون وأهل الدنيا يقولون: ننتظر من الذي سيفوز، من الذي سينتصر.
وهذا موقف يتكرر كثيراً، وهو أن بعض الناس يتربصون لمن سيكون الانتصار، إن كان للإسلاميين كانوا معهم، وإن كان مع العلمانيين المنافقين كانوا معهم، وهكذا هم مع الغالب.
قال: فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيٌ صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح -أي حين فتحت مكة وحسم الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام- بدأت أفواج العرب تأتي، كل المتفرجين مالوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وحسموا موقفهم معه، لأن قريشاً هي القيادة في العرب، فما دامت القيادة قد سقطت وآل الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام وصار هو القيادة للعرب، جاء كل العرب يبايعونه، ولذلك قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10].
وقد كان صلح الحديبية بالذات نقطة تحول، ولذلك سمي فتحاً مبيناً.
قال: وبدر أبي قومي بإسلامهم؛ وكان من هؤلاء المتفرجين بنو جرم -قوم عمرو بن سلمة - وكان أبو عمرو بن سلمة من زعمائهم، فانتقى بعض الأشخاص من بني جرم، وذهب بهم إلى المدينة، يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلنون الدخول في الدين، ولقيهم النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منهم وعلمهم الصلاة وسمع منهم ما سمع، وكان من ضمن المعلومات التي نقلها أبو عمرو بن سلمة قوله صلى الله عليه وسلم: (وليؤمكم أكثركم قرآنا) لأنهم قالوا: يا رسول الله من يؤمنا؟ عرفنا الصلاة فمن الإمام؟ قال: (أكثركم جمعاً للقرآن).
قال: فنظروا إلى حوائنا -مكان النازلين يسمى حواء- من أحفظ واحد، فإذا به عمرو بن سلمة فكانت المفاجأة أن هذا الغلام الذي لم يكن يُعمل له حساب وفقه الله أنه كان يحفظ من المسافرين، ويسمع من المسافرين وعنده ذاكرة قوية، واتضح أنه هو أبرز واحد في حفظ القرآن، فكان هو المستحق لأن يكون إماماً، ولذلك قدم في الصلاة، فالأحداث تبرز الأشخاص.
لم يكن في الحسبان أن عمرو بن سلمة يؤم قومه، لكن جاء حديث: (ليؤمكم أكثركم جمعاً للقرآن) وعُمل مسح للقوم، فإذا بالفائز والمتقدم والمتصدر عمرو بن سلمة، لكن القوم كان فيهم فقر، ما كان على الغلام إلا شملة مشقوقة -إزار مشقوق قصير- وكان النساء يصلون خلف الرجال، وكذلك ربما يرونهم من الخيام ومن النُزل التي ينزلون فيها، فكان إذا سجد انكشفت عورته، فقالت امرأة: ألا تغطون عنا است قارئكم، وفي رواية: واروا عنا عورة قارئكم، بما أن هذا هو الإمام وهو القارئ فغطوا عورته.
ربما لم يكن عندهم علم بأن كشف العورة يبطل الصلاة، أو أن هذا الغلام ما كان له شيءٌ يستره، أو ما كانوا يأبهون كثيراً بتغطية عورات الغلمان، لكن لما اقترحت العجوز تغطية عورة الغلام، اشتروا له ثوباً وفي رواية: قميصاً عمانياً، وعمان تابعة لمنطقة البحرين التي سبق ذكرها.
وقد ورد في الحج من عمان حديثٌ لا بأس به: (أن الحج من عمان يعدل حجتين) أي أن أجره مضاعف، وعمان هي المنطقة المعروفة، وهذا من فضائل عمان نسأل الله أن يشيع السنة فيه.
فيقول: اشتروا لي قميصاً عمانياً، ويبدو أن هذه المنطقة كانت تصنع فيها القُمص؛ والقميص يشبه الثوب الذي نلبسه الآن، كان يطلق عليه في الماضي قميص، قال: فما شهدت مجمعاً من جرمٍ إلا كنت إمامهم فاستمر عمرو بن سلمة يصلي بقومه ما شاء الله من الفرائض والنوافل والجنائز.(8/8)
فوائد من حديث عمرو بن سلمة(8/9)
حكم إمامة المميز
وهذا الحديث حجة لمن ذهب إلى أن إمامة الصبي المميز صحيحة، فهذا دليل على ذلك، فابن سبع سنين مميز، وقد كان عمره سبع سنين أو ثمان سنين، والتمييز أيضاً فيه تفاوت بين الغلمان، والنباهة تختلف لكن الحد المتوسط سبع سنين، ولذلك قال العلماء بصحة صلاة ابن سبع سنين إماماً وأذان ابن سبع سنين، فإذا أذن ابن سبع سنين صح أذانه، وإذا صلى ابن سبع سنين إماماً صحت إمامته أيضاً.
وهذه مسألة إمامة المميز بمن هو أكبر منه من البالغين مسألة خلافية مشهورة، ولكن الدليل مع من قال بصحتها، وبعضهم حاول أن يطعن في المسألة قال: لعل النبي عليه الصلاة والسلام ما اطلع ولعل ولعل، ولكن الوحي ينزل، ولو كانت الإمامة باطلة لكان أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير ذلك وأرسل إليهم يغير ذلك.
وجابر استدل بجواز العزل لكونهم فعلوه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [كنا نعزل والقرآن ينزل] ولا يقال: ما كان عليه الصلاة والسلام يدري، أو لعله ما اطلع، الصحابي يقول: [كنا نعزل والقرآن ينزل] أي: أن الصحابي يفهم أن نزول القرآن والعزل موجود دون إنكار من الوحي عليهم حجة، ولذلك فإن الذي يحتج بهذا أيضاً يحتج بهذا، فالطريق واحد.(8/10)
الإمامة للأقرأ وتكريم حامل القرآن
وكذلك من الفوائد: أنه يؤم القوم أحفظهم للقرآن، فلو قيل: من الذي يؤم؟ هل هو الأعلم؟ هل هو الأجود؟ هل هو الأحفظ؟ ف
الجواب
أن قراءة الشخص إذا كانت صحيحة، وهو أحفظ الناس للقرآن فهو أولى بالإمامة، كما دل عليه هذا الحديث، لأنه قال: (أكثركم أخذاً للقرآن) (أكثركم جمعاً للقرآن) (أكثركم قرآناً) ما معنى أكثركم جمعاً؟ أي: أكثركم حفظاً، فأولى الناس بالإمامة أحفظهم للقرآن ولو كان صغيراً، وأبوه قد يكون أعلم منه، فقد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصار صحابياً وتلقى العلم من النبي عليه الصلاة والسلام لكن من الذي تقدم للصلاة؟ ولده الأصغر الأقل علماً الذي لم يكن صحابياً على قول، والسبب أنه أحفظ للقرآن؛ فالأحفظ هو الذي يتقدم، إذا كانت قراءته صحيحة.
وهذا يدلنا على تكريم الإسلام لحامل القرآن، ومكانة حامل القرآن في الإسلام، أنه يؤم من هو أكبر منه سناً، وأقدم منه إسلاماً، لأنه أحفظ.
وقد ورد في تكريم جامع القرآن وحافظ القرآن مناسبات كثيرة في السنة، فتعالوا نذكر بعضها: منها تكريم حامل القرآن بالإمامة في الدنيا، أما بالنسبة لتكريم حامل القرآن في الآخرة فإنه يقال له: (اقرأ وارق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
ثانياً: لما كثُر القتلى في أحد، وجعلوا القبر الواحد لأكثر من شخص؛ لأن القوم بهم جراحات، ويشق عليهم أن يحفروا لكل قتيل قبراً، والقتلى سبعون، ولذلك قال: (قدموا أكثرهم قرآناً) أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم عند الدفن بتقديم أكثرهم قرآناً، فإذا مات جماعة في قتال أو في معركة أو في زلزال، ودفنوا جماعياً قدم الأحفظ.
ثالثاً: التقديم في الدنيا بالنكاح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (زوجتكها بما معك من القرآن) سأله: ماذا تحفظ؟ قال: سورة كذا وسورة كذا -ذكر سوراً- فجعل مهرها أن يعلمها ما يحفظ، فكان حفظه شفيعاً له في زواجه، فقيل: ما عنده خاتم حديد، زوجه قرآنه الذي يحفظه.
رابعاً: لما قدم والي مكة على عمر رضي الله عنه قال عمر: من استخلفت؟ قال: ابن أبزى مولى لنا، قال: استخلفت مولى؟!! هؤلاء أشراف قريش استخلفت عليهم مولى؟ فذكر له أنه آخذ لكتاب الله فقال عمر: [إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين] فلذلك من أخذ الكتاب أكرم حتى من جهة الإمارة.
قال في الحديث: (فلما صلينا تقول عجوزٌ لنا دهرية: غطوا عنا است قارئكم، فقطعوا لي قميصاً) فذكر أنه فرح به فرحاً شديداً، فهو ما زال في سن الطفولة، والصغير يفرح بالثوب الجديد، فالفرحة الطبيعية بالثوب الجديد كانت عليه رضي الله تعالى عنه، وهذا يعني أن الصغار يكرمون، بالذات إذا صار أحدهم حافظاً للقرآن، يُكرم بشيء يتجمل به أمام الناس، مادام هو إمام الناس، لأن الإمام يُنظر إليه ويتقدم بين يدي الناس، فلذلك أُكرم بهذا القميص.
وفي بعض البلدان حافظ القرآن عندهم له مكانة خاصة مثل الهند أو باكستان؛ فالذي يحفظ القرآن عندهم يعطونه لقب قارئ، وربما يُكتب ذلك في الاسم فلان بن فلان القارئ أو القاري أو قارئ، ويُكتب في الوثائق الرسمية وفي جواز سفره ويُبجل بين الناس، أي تكون له مكانة خاصة عندهم حتى لو كان عاملاً يجمع القمامة، وبعض الأعاجم أشد احتراماً لحامل القرآن من العرب، ويعرفون قيمة الحافظ أكثر من كثيرٍ من العرب.
فينبغي إجلال حامل القرآن لأجل القرآن، واحترامه لأجل القرآن، وعدم إيذائه لأجل القرآن الذي يحمله.(8/11)
إمامة الصبي المميز للبالغين في الفريضة واقتداء المفترض بالمتنفل
وكذلك في هذا الحديث أن هذا الإمام صلى بهم، والظاهر أنه صلى الفرائض، وليس النوافل كما قال بعضهم، لأن بعضهم قال: يؤم الصبي في النوافل فقط، والصحيح أنه يؤم في الفرائض وفي النوافل.
والشافعي رحمه الله قال: يؤم الصبي غير المحتلم إذا عقل الصلاة إلا في الجمعة، وأجاز إمامة الصبي الحسن وإسحاق بن راهوية، وبعض العلماء ذهبوا إلى تضعيف أمر عمرو بن سلمة ولم يحتجوا بذلك، ولكن مادام الحديث قد ثبت، فينبغي المصير إليه.
ولكن يمكن أن يؤخذ من الحديث شيء، وهو جواز اقتداء المفترض بالمتنفل كما قال بعض العلماء؛ لأن صلاة الصبي نافلة، وهؤلاء يصلون وراءه فرضاً، إذا كان الفرض لا يُسمى فرضاً إلا في حق البالغ فقط، وأن هذا الصغير صلاته صلاة نفل على من يقول بذلك، فيستدل به على جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ذكر هذا صاحب عون المعبود شرح سنن أبي داود.(8/12)
تلقي العلم وتفعيل الطاقات
وفي هذا الحديث كذلك أهمية تلقي العلم، وأن الإنسان لا يحتقر المعلومات التي تأتيه من مسافرين؛ فربما يكون فيها خير عظيم، كما كان من شأن هذا الصبي الغلام رضي الله عنه ورحمه، فإنه بسبب قعوده إلى المسافرين في الطريق جمع هذا القرآن.
وكذلك في هذا الحديث أن بعض الطاقات والمواهب في القبيلة أو في المجتمع أو في البلد أو في المدرسة لا تبرز إلا بأحداث؛ فلقد كان هذا الغلام مغموراً، فهو حافظ لكن أحداً لم ينتبه إلى أنه حافظ، يسمع من ناس مسافرين ويحفظ، ما انتبهوا لمكانته، متى انكشفت مكانته؟ لما ذهب أبوه للقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وعلمه ألا يؤم إلا الأقرأ الأحفظ، فمسحوا الناس في القبيلة، فوجدوا أن هذا هو الأحفظ فقدموه.
وقد يُوجد هناك طاقات مختفية، أو طاقات غير ظاهرة في المجتمع، فينبغي استكشافها لأن لها شأناً، أصحاب الطاقات هؤلاء من الصغر يظهرون، وأهمية اكتشافها تكمن في أن الطاقات ينبغي أن تأخذ حظها من العناية والرعاية منذ البداية، حتى تكبر ويكون لها شأن في المستقبل، والحمد لله أن هذا الدين فيه من المناسبات التي تُظهر الطاقات، مثل قضية حفظ القرآن والإمامة، ولذلك تجد الآن بسبب الحديث عدداً من الأطفال أو من الصغار يبرزون في المجتمع.
فصار -بحمد الله- هناك مجالٌ لظهور الطاقات التي تحفظ وتفهم بحيث تتلقف وتُشمل بالرعاية التي تهيئ خروج هذه الطاقة، وهذه الشخصية في المستقبل لتكون شخصية كبيرة، والغربيون انتبهوا حديثاً لقضية استكشاف الطاقات وجعلوا للمتفوقين والنوابغ فصولاً خاصة ومناهج خاصة.
أما في الإسلام فإن طبيعة الدين وطبيعة أحكامه تبرز الطاقات، وتبرز المتفوقين، مثل مسألة إمامة الأحفظ؛ فإمامة الأحفظ من وسائل اكتشاف الطاقات والشخصيات الماهرة من الصغر، وجعله الإسلام في موقع تسلط عليه الأضواء، فهو إمام للناس أي: ينتبهون إليه، والذي يتمعن لمسألة مثل هذه المسائل فعلاً يكتشف جوانب عَظَمَة في هذا الدين لم يكن قد انتبه إليها من قبل.(8/13)
اقتراح من عجوز وحكم عورة الصبيان
كذلك في الحديث أن الاقتراح الوجيه جداً قد يأتي من امرأة عجوز، فالتي قالت: غطوا عنا است قارئكم إنما هي امرأة دهرية عجوز.
وفيه قبح ظهور العورة، والاست معروف، وهو فتحة الدبر، فقبح ظهور العورة أمر شائع ومنتشر، ولذلك إذا كان الصبي مميزاً وجب ستر عورته، أما ابن سنتين فلا حكم لعورته، بمعنى لا يجب ستر عورة طفل عمره سنة، فلو رأى عورته أحد فلا إثم عليه، ولا ينطبق عليها حكم وجوب التغطية، ولمسها لا ينقض الوضوء، أما المميز فيجب أن تستر عورته، على الأقل ستر السوءتين لا بد من ذلك.(8/14)
التكامل في أداء المهام والحرص على مشافهة العلماء
كذلك في هذا الحديث: أنه قد يكون الشخص مناسباً لأن يقوم بالمهمة، لكن تحتاج المهمة إلى تكميل، فهذا حافظ لكن يحتاج إلى معرفة كيفية الصلاة، فكمل حتى يقوم بالمهمة قال: فدعوني وعلموني الركوع والسجود، فقد كان عنده مقدرة، لكن تحتاج إلى تكميل، فحفظ القرآن موجود، بقي تكميل المسألة بتعليمه صفة الصلاة وكيفية الركوع والسجود.
وكذلك في الحديث الحرص على التلقي من الأفواه، فهذا الغلام كان يسمع فقط، ولم يكن له كتاب، كان يسمع من المسافرين ومن المارين يتلقفه ويقر في صدره.(8/15)
غالبية الناس تتبع الأقوياء
وكذلك في هذا الحديث قضية حسم المواقف؛ لأن هناك متفرجين ينتظرون الحسم، وأن أجر الاتباع للذين يحسمون الأمور؛ لأن كل الذين ينتظرون سيتبعونهم إذا انتصروا.
ولذلك فإننا نمر بمواقف كثيرة تحدث فيها صراعات بين أهل الخير وأهل الشر، ويكون هناك طائفة من المتفرجين ليسوا من أهل الخير ولا في معسكر أهل الخير، وليسوا من أهل الشر الخلص ولا مع أهل الشر، تحدث المعركة وتحدث المجابهة، ثم بعد ذلك يحسمون مواقفهم حسب النتيجة، ويتابعون المنتصر حتى ولو في مناظرة.
هبها مناظرة بين عالم من علماء المسلمين وراهب من رهبان النصارى كافر، هناك طائفة من المتفرجين ينتظرون هذه المناظرة عن أي شيء ستسفر، حتى يتابعوا المنتصر، وهنا تبرز أهمية من يمثل الإسلام في المعارك، هناك الآن معارك وجبهات كثيرة في النقاشات، وحوارات ومناظرات، وتحدث أحياناً مؤتمرات أو لقاءات وتنشر، وقد تبث على الهواء مباشرة، من الذي يمثل الإسلام فيها؟ وهذه مسألة مهمة جداً، لأن هناك متفرجين ينتظرون من الذي سينتصر في هذا النقاش وفي هذه المناظرة.
ولذلك ينبغي ألا يدخل فيها إلا المتمكنون من أهل العلم والدين، لأنهم يمثلون الإسلام، وبناءً على النتيجة سيحسم كثيرٌ من الناس مواقفهم من المتفرجين والمتشككين والمترددين، وهذه مسألة من أخطر المسائل في عصرنا هذا الذي نعيش فيه.
أخذنا هذه الفائدة من قوله رضي الله عنه: كان العرب يتلومون، أي ينتظرون حسم المواقف، كثير من الناس يطلق عليه إمعة، يرون من المنتصر، وقد يكون بعضهم ذكياً لكن ما عنده علم يصل به إلى النتيجة، فهناك كثير من الأذكياء ينتظرون أشياء تُحسم ليتبعوا.
هذا ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، إنه سميع مجيب.(8/16)
الأسئلة(8/17)
الزوجة المعلقة وكيف تتصرف
السؤال
إذا ترك الزوج زوجته معلقة مدةً طويلة ولم يتقدم لإرجاعها وكانت ترغب في العودة ولم يعدها أو يطلقها، فماذا تفعل؟
الجواب
تتقدم إلى القاضي عند ذلك ليحسم أمرها، فيأتي بالزوج يقول: تعال هنا، يقول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226 - 227] فيقال له: يا أيها الذي امتنع عن زوجته وعلقها، تجاوزت الأربعة الأشهر التي حددها الله، إما أن تعيدها وتعطيها حقوقها كزوجة عندك، وإما أن تطلقها، ثم إذا رفض أن يعيدها زوجة لها حقوقها الكاملة، أجبره القاضي على الطلاق، فإذا طلقها بدأت العدة على قول جمهور أهل العلم.(8/18)
خطورة القنوات الفضائية على النشء
السؤال
لو نبهتم على خطورة تلقي القنوات الفضائية على الأطفال وعلى النشء؟
الجواب
لا شك أن أعداء الإسلام قد اكتشفوا أهمية ذلك قبلنا بكثير، وسبقوا في هذا المجال، وبالتالي نحن صرنا مستهلكين، نستهلك زبالاتهم التي يذيعونها علينا، فهم يخططون ويمكرون ويدبرون، وينتجون بهذه المؤامرات وهذا التدبير كل الأشياء المملوءة بالسموم والمملوءة بالترهات وسفاسف الأمور، والأشياء المنافية للأخلاق والآداب والمنافية للعقائد، وفيها تلميع شخصيات الكفار وإبراز معبودات الكفار وشعارات الكفار، والأشياء المنافية للأخلاق، كالاختلاط بين الجنسين، والرقص والملابس القصيرة، والحب والغرام، والمشاهد التي بين الذكران والإناث ونحو ذلك، وأطفالنا يرون ويتأثرون ويتلقون، ويتشبعون بهذه الأشياء من حيث لا ينتبه الأب، تظن الأم أنها إذا فتحت الشاشة للولد ارتاحت في البيت، وفعلاً تجد الولد يسكت، لكن ما درت أنها الآن تعطيه سماً، صحيح أنه سكت وما سبب لها إزعاجاً في البيت، لكنها تساهم في تدمير عقيدته وأخلاقه.(8/19)
حكم تنظيف المرأة لأخيها الصغير
السؤال
ما حكم قيام الأخت بتنظيف أخيها الصغير؟
الجواب
إذا كان ابن السنتين فأقل فلا بأس بذلك أن تنظفه لأنه -كما قلنا- لا حكم لعورته.(8/20)
مشروعية قضاء صلاة الليل
السؤال
هل يشرع لمن نام عن صلاة التهجد في النصف الثاني من الليل أن يصلي في صبيحة اليوم التالي؟
الجواب
نعم، يكمل صلاته في النهار شفعاً.(8/21)
حكم الصلاة بدون إقامة
السؤال
هل تصح الصلاة مع عدم الإقامة؟
الجواب
تصح الصلاة مع عدم الإقامة، ولكن السنة أن يُقيم.(8/22)
تغيير مكان صلاة النافلة
السؤال
لماذا يصلي الرجل في مكان آخر السنة الراتبة؟
الجواب
ورد عن معاوية رضي الله عنه في سنة الجمعة أن يتقدم بعد الصلاة عن مكان الفريضة ويصلي، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن وصل صلاة بصلاة حتى يتكلم أو يقوم حتى لا يكون هناك اتصال بالفريضة، فليس من السنة أن يقوم الإنسان بعد الفريضة ويصلي مباشرة، بل يفصل بين الفريضة والسنة بكلام، أي: التسبيحات والتهليلات وتكبيرات الأذكار التي بعد الصلاة، فمن الأخطاء -ونجد هذا من كثيرٍ من الأعاجم- أن بعضهم يقوم بعد السلام مباشرة ويأتي بالسنة، وهذا مخالف للسنة، ينبغي أن يأتي بأذكار الصلاة، ثم بعد ذلك يأتي بالسنة، ويفصل بين السنة والفريضة حتى لا يكون ذلك ذريعة بالزيادة على الفريضة أو أن يدخل فيها ما ليس منها.(8/23)
حال حديث: (لو خشع قلب هذا)
السؤال
حديث: (لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه)؟
الجواب
لم يثبت هذا الحديث لكن معناه صحيح.(8/24)
حكم بيع ماء زمزم
السؤال
ما حكم بيع ماء زمزم؟
الجواب
جائز، لأنه شيء مباح، وبيع المباحات مباح.(8/25)
المستثنون من الصعقة
السؤال
قوله تعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] ما المقصود بقوله: إلا من شاء الله؟
الجواب
قال بعض العلماء: مثل الحور العين، فإنهن يستثنين من الصعقة.(8/26)
حكم تشبيك الأصابع في المسجد
السؤال
ما حكم تشبيك الأصابع في المسجد؟
الجواب
أما بالنسبة للتشبيك عند الإتيان إلى المسجد فقد ورد النهي عنه، فلا يشبك الإنسان أصابعه وهو آتٍ إلى المسجد، وكذلك إذا كان ينتظر الصلاة لأنه في صلاة، أما بعد الصلاة إذا شبك بين أصابعه فلا بأس، لم يرد النهي عن هذا في هذه الحالة، واستعمله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقام مرةً بعدما صلى بهيئة الغضبان لما سلم من ركعتين وشبك بين أصابعه ووضع ذقنه على يده كالغضبان، وكذلك قال أيضاً في تمثيل المؤمن: (المؤمن للمؤمن كالبنان أو كالبنيان وشبك بين أصابعه).(8/27)
كتاب عن نوافل الصلوات
السؤال
هل هناك كتاب يجمع الصلوات النافلة؟
الجواب
نعم، هناك بعض الكتب التي بينت ذكر صلوات النافلة وصفاتها مثل كتاب: محمد عمر بازبول في صلاة النافلة، فهو كتاب لطيف يحتوي على صلوات النافلة وعلى شرح لها.(8/28)
دفع الزكاة إلى من يؤدي بها فريضة الحج
السؤال
هل يجوز دفع زكاة المال إلى مسلم ليحج حج الفريضة؟
الجواب
الصحيح أنه يجوز ذلك، للحديث الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحج والعمرة لمن سبيل الله) فهذا فيه نص على إدخال ذلك في سبيل الله في آية الزكاة.(8/29)
من صلى مع إمامين هل يكتب له قيام ليلة
السؤال
من صلى صلاة القيام أول الليل مع إمام، ثم صلى آخر الليل مع إمام آخر، هل ينطبق عليه حديث: (حتى ينصرف)؟
الجواب
نعم له أجر، لكن هل الأجر الوارد في الحديث ينطبق عليه؟ الله أعلم، إنما هو مأجور على ذلك.(8/30)
حكم التشكيك في تلبس الجن بالإنس
السؤال
ما حكم من شكك في تلبس الجن بالإنسان؟
الجواب
مخالف للنصوص الشرعية: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فالله أثبت المس وأثبت أن الإنس يتخبطون نتيجة المس، فكما يتخبط الممسوس فكذلك حال آكل الربا إذا قام من قبره يوم القيامة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ} [البقرة:275] أي: من قبورهم {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فكما يترنح الممسوس يميناً وشمالاً ويسقط ويرغي ويزبد فهكذا يكون حال الذي يأكل الربا.(8/31)
لقاء الرسول بالجن
السؤال
ذكرت أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بمعشر الجن هل يمكن أن تعيد هذه الرواية؟
الجواب
وردت عدة روايات في هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتاني وفد جن نصيبين فقرأت عليهم القرآن) وكذلك جاءه وافدهم وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم واجتمع معهم وأرى الصحابي بعد ذلك -وهو ابن مسعود رضي الله عنه- آثار نيرانهم، وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لما قرأ سورة الرحمن على الصحابة أخبرهم أنه قد قرأها على الجن فكانوا أحسن مردوداً منهم، كان كلما مر بقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] قال مؤمنو الجن: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد، وإنهم سألوني الزاد فأعطيتهم؛ أعطاهم كل عظمٍ ذُكر اسم الله عليه ينقلب في أيديهم لحماً، والروث علفاًَ لدوابهم.(8/32)
معنى البوائق
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)؟
الجواب
البوائق هي: الإيذاءات والمكر والتدبير للشر، لأن بعض الجيران يدبرون الشر لجيرانهم، ينام الجار وهو غير آمن، ولا يدري ماذا سيفعل به جاره هذه الليلة، وأي مؤامرة يحيكها له في الليل ليفاجئه بها في اليوم الثاني، وهذا موجود.(8/33)
مصيبة كوسوفا
إن سنة الله تعالى جارية في الصراع بين الحق والباطل، ففي كل أرض وبلاد من بلاد المسلمين صراع ومواجهة، وهذا دليل على الحقد الدفين في قلوب الأعداء من اليهود والنصارى للمسلمين؛ لهذا لا بد من البراءة الكاملة من المشركين وعدم موالاتهم أو انتظار نصرتهم، ومن تلك البلاد المكلومة أرض كوسوفا، فقد تحدث عنها الشيخ، فذكر مشاهد مما يجري هناك من تقتيل وتشريد وتنكيل، ثم ذكر بعض القصائد التي تصف أحوال المسلمين في تلك البلاد، ثم تكلم عن واجب المسلمين تجاه إخوانهم، وما يجب عليهم من التألم لجراحاتهم، والدعاء لهم، وقبل ذلك كله الرجوع إلى الله تعالى(9/1)
عداوة اليهود والنصارى للمسلمين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
عباد الله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ويألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الرأس لما في الجسد، ويسمع المؤمنون في هذه الأيام ما أصاب إخوانهم المسلمين في الأرض، فيتألم كل صاحب دين، ويكون في قلبه من الحزن على إخوانه المسلمين الذين وقع لهم ما يندى له الجبين من المصائب العظيمة التي تقض المضاجع، والتي يرتاع لها فؤاد المسلم مما أصاب إخوانه.
وفي هذه والأحداث الذي يجريها الله سبحانه وتعالى بقدره وقفات فوائد {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38].
ومن ذلك أيها الإخوة: أولاً: أن نعلم حجم العداوة التي انطوت عليها قلوب الكفرة للمسلمين، التي ذكرها الله لنا في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] وقال عز وجل: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين من اتخاذ المنافقين بطانةً، وذكر أنهم لا يألون المؤمنين خبالاً، أي: يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن، وبما يستطيعون من المكر والخديعة، ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم، ثم قال عزَّ وجلَّ: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] أي: قد لاح على وجوههم وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مشتملين عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيبٍ، ولهذا قال تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] فهذا ما في قلوبهم على الإسلام وأهله، ولو كان بينهم اختلافات فإنهم يجتمعون على حربنا.(9/2)
البراءة من المشركين
عباد الله: إن من الأمور التي تجعل الإنسان حائراً هذا الكيد العظيم الذي اجتمع به الكفار على المسلمين، ولذلك فإنَّ الله حذرنا تحذيرات كثيرة من هؤلاء، وقسمهم فرقاً، وإذا نظرت إلى تقسيمات القرآن تجد انطباقها انطباقاً عجيباً في هذا الزمان، فإن الله عزَّ وجلَّ قد ذكر أن من الكفار من أخرجونا من ديارنا، ومنهم من ظاهروا على إخراجنا، ونهانا عن برهم والإحسان إليهم، فقال الله عز وجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9] فقارن أخي المسلم بين هذا التقسيم المذكور في الآية، وبين ما يحدث الآن على أرض الواقع: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة:9] قال ابن كثير رحمه الله: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا، أي: يعاونوا على إخراجكم، ولا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} [الممتحنة:9] أي: إنما ينهاكم عن مولاة هؤلاء الذين ناصبوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم.(9/3)
وقفات مع كوسوفا وما يجري فيها
أيها الإخوة: إن من الكفار اليوم من قاتلونا في الدين لأننا مسلمون، وأخرجونا من ديارنا، والإخراج من الديار ليس أمراً سهلاً يا عبد الله، أن يسلب بيتك، وأن تخرج منه، وأن تكون هائماً في الأرض ليس لك مأوى، ولا بيت ترجع إليه تصبح شريداً طريداً في الأرض ليست القضية سهلةً على الإطلاق، ولذلك ذكر الله في كتابه كيف أن الكفار يخرجوننا من ديارنا، وطائفة أخرى يظاهرون على إخراجنا، أي: يعاونون على ذلك بتسريعها والتخطيط لها، والإعانة عليها بشتى صور الإعانة، ولا يهولنك التمثيليات وانظر إلى النتائج.
إذا أردت أن تكون فطناً فانظر إلى النتائج ما هي؟ الإخراج من الديار، والمظاهرة على ذلك في السر والعلن، وقد يقع بين الكفار خلافات وقد يصطدمون، ولكن إذا نظرت إلى النتائج على المسلمين تجد أن المسلمين هم الطرف الخاسر الذي يخسر باستمرار، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة:9].
إن المسلمين في كوسوفا يخرجون من ديارهم ويُظاهرُ على إخراجهم، مليونان من البشر سيصبحون بلا مأوى، سيوزعون على البلدان، سيحصرون في شريط ضيق ليس لهم ديار، أُخرجوا من ديارهم، وظاهر الكفار الكفارَ على إخراجهم، فما هو موقف المسلم؟ لا شك أنها العداوة للكفار أبداً؛ لأنهم أخرجوا إخواننا من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، لقد كان الإخراج من الديار دافعاً للقتال عند المسلمين الذين كانوا عند نبي لهم من بني إسرائيل، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246] فكان ذلك سبباً للجهاد في سبيل الله.(9/4)
الجهاد هو الحل لمآسي المسلمين
أيها الإخوة لا شك أن مثل هذه المآسي لا تُحَلُّ إلا بالجهاد في سبيل الله، ولذلك قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] فهم يبحثون عن ولي ونصيرٍ يعينهم ويساعدهم، وهذا تحريض من الله تعالى للمؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في إنقاذ المستضعفين بـ مكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها، ولذلك قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [النساء:75] إنهم يبحثون عن نصيرٍ ومعين.
إن الجهاد في سبيل الله إذا قدرت عليه الأمة وجب عليها؛ لأن في ذلك إعانةً للمظلوم ونصراً للمسلم، وهذا واجب ولا شك، وفيه أيضاً: استنقاذ معابد الله في الأرض، والبيوت التي يذكر فيها، كما قال عزَّ وجلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] ليس لهم ذنبٌ، لس لهم صفةٌ، ليس هناك سببٌ في إخراجهم من ديارهم إلا أنهم مسلمون يقولون: ربنا الله.
ويقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] لولا دفع الكفار بجهاد المسلمين لهم، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] فمن الذي ينتصر إذاً؟ إنهم الذين ينصرون الله، وليس هم الذين يرفعون راية قومية، ولا عصبية جاهلية، ولا الذين يقولون: إن الحرب ليست حرباً دينية، إنما هي حرب وطنية قومية.
فهؤلاء لا ينصرهم الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: يعلي كلمته، ويرفع لواء لا إله إلى الله، لا لواء العنصرية والقومية.
وما هي صفات هؤلاء الذين يُنصرون؟ قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وإلى أن يأتي الجيل الذي هذه صفته، فلا يزال أهل الإسلام في هزيمة، وفي مصيبة تلو مصيبة، ونكبة على إثر نكبة، حتى يأتي الجيل الذي ينصر الله سبحانه وتعالى.
ولا تظن -يا عبد الله- أن المستضعفين من المسلمين ذهبوا هباءً منثوراً، فإن الله عز وجل يثيب الصابرين منهم والمحتسبين الذين أخرجوا من أجله، قال عزَّ وجلَّ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195] فالله عزَّ وجلَّ لا يضيع عنده الأجر، ولعل ما أصاب إخواننا في كوسوفا كفارة لهم وشهادة، وابتلاء يزيد في حسناتهم ويرفع درجاتهم عند الله، والله لا يخلف الميعاد.(9/5)
اعتداء الصرب الحاقدين على المسلمين
أيها المسلمون لقد صار من المصائب على المسلمين في تلك الديار أمرٌ عظيم، ألم يأتكم نبأ ما حصل في عيد الأضحى لإخواننا في تلك الديار؟ لقد قام الصرب بالإحاطة بأئمة المساجد والمصليات في صلاة العيد، وقاموا أولاً بقتل أئمة صلاة العيد أمام المسلمين وأقربائهم، ثم ألحقوا ذويهم بهم، ثم ألحقوا جموع المصلين، حتى بلغ عدد القتلى في يوم العيد من المصلين.
ليس من أهل البيوت بل من المصلين فقط عشرة آلاف في أنحاء الإقليم!! ضحوا بهم في يوم الأضحى، وأعدموهم بالسلاح الأبيض بطريقة وحشية وبحقدٍ دفين وحصدوهم بالرصاص، وفي جامع واحد قتلوا ألفاً وثمانمائة مصلٍ؛ لأنهم يقولون لا إله إلا الله، لم يعملوا شيئاً إلا لأجل لا إله إلا الله، فعليها يعادوننا ومن أجلها يقتلوننا، وقد جمعوا الرجال فحصدوهم، وأخذوهم، وفرقوا النساء والأطفال عنهم، وهكذا فعلوا كما هو المعهود عنهم في أمور الاغتصاب والفضائع والشنائع!!(9/6)
قصائد تتحدث عن مآسي المسلمين
ماذا يقول البؤبؤ المفقوء بالأزميل؟ والثدي حين تنوشه السكين؟ والطفل مرفوعاً على رأس الحراب؟! شيء عجاب!!
ماذا دهى الإفرنج عباد الصليب
نهضوا يميطون اللثام عن القلوب
سوداء كالقطران كالسرطان كالتلمود كالسم الرعيب
نهضوا من الأوران والدانوب
ومن الشمال إلى الجنوب
يستأسدون على بني الإسلام مسلوبي النيوب.
قنبلة تفجر ملجأ الأيتام وعاصفة من النار الحقوده
تأكل الشجر العفيف
ودمٌ هناك على الرصيف.
تلك الطوابير التي خرجت من البيت المهدم
أين تمضي؟
فأمامها أز الرصاص
وخلفها أز الرصاص
والطفلة تصرخ أين دميتها
بل كيف تخرجها من الأنقاض
أمي
مالذي فعل الجناة؟
والأم ذاهلة فماذا تستطيع بأن تقول
يا أنت يا زمن المغول
عندما تترك أجساد النساء
في عرى البؤس وفي حزن الشقاء
عندما يمتص عربيد دماء الأبرياء
والأيامى والثكالى هائمات في العراء
أي خيرٍ أيها العالم يبقى
عندما ينقل شعبٌ من بلاءٍ لبلاء
عندما يرسل مأفونٌ جنوداً في الظلام
ويباح الوطن المصفود قهراً لِلئام
عندما ينبعث الأحياء من بين الركام
عندما تمسي الصبايا كالسبايا في الخيام
أي خيرٍ أيها العالم يبقى؟
ولماذا الصمت في وقت الكلام؟
عندما يهدم محرابٌ وسور
عندما تنبش أمواتٌ وتجتاح القبور
ويلف الصمت دنيانا فلا يصحو شعور
أي خيرٍ أيها العالم يبقى
عندما تخلو من الإنسان أو يغفو الضمير?
أيها الإخوة إنما حصل ويحصل من هؤلاء الصرب النصارى، ومن مالأهم وعاونهم.
إنه أمرٌ عجيب.(9/7)
قصيدة تحكي اغتيال أسرة مسلمة
ومن أسرةٍ لم السبات جفونها بعيد شتاتٍ في الميادين مقحم
وقد غاب عنهم والدٌ لم تزل له هنالك في الميدان جولات ملحم
وأقبل صربيٌ لئيم كأنه تدفق أرجاس ووحلٍ ومأثم
ومن حوله لو كنت تشهد عصبةٌ تجمع من باغ طغى ومزلم
كأنك لو أبصرت هون غرورهم ترى قزماً في ثوب أيَهَم أجسم
ففزع من في البيت من هول حقده وهبوا وقد أفضى الجبان إليهم
ترى طفلة لم تبلغ السبع روعت تمر بعينيها تدور عليهم
عليها رداء أحمر لم يزل له بقايا حديثٍ للطفولة منعم
ومن خلفها أمٌ حنت لتضمها وشيخٌ تشكى يا لضعفي ومهرمي
وطفل رضيع كاد يزحف نحوهم ويصرخ يا دنيا اشهدي وتكلمي
ولما رأت ذات الردا رجاءها وأشواقها لم توقظ الخير فيهم
تراجعت الآمال وارتد خطوها تشبث بالأم الحنون وتحتمي
فصوبت الدنيا الرصاص إليهم تدفق في رأسٍ وصدرٍ ومعصم
وأبلى النظام العالمي بخنجرٍ ليطعن في ظهرٍ وجيدٍ وأعظم
يدور عدو الله بالنار بينهم ليفرغ من حقدٍ شديد عليهم
تساقطت الأم الحنون وأفلتت يداها وأهوت في بحارٍ من الدم
وطفلتها أهوت تصب دماءها عليها وطفلٌ قد تناثر فيهم
وشيخ تهاوى يا لأشلاء أمة تهاوت به يا للحطام المكوم!!
ومجد تهاوى بين أطلاله ترى بقية تاريخٍ ودمعة يُتَّم
أيها البوسنا لستم يتماً إنما نحن جميعاً يتم
لقد نصر الصرب بنو دينٍ لهم ولكم إخوانُ عن نصرٍ عموا
فاطلبوا العون من الله الذي إن طلبتم عونه لن تعدموا
واجعلوا دربكم درب فدا بجهادٍ واصنعوه أنتم
أي عهدٍ لهم مؤتمن عوهد الذئب فأين الغنم
ألم يقل الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10]؟ ليس لهم عهدٌ ولا ميثاق، ينقصون وينقضون، هذه هي الحال أيها الإخوة.
لقد نصر الصرب بنو دينٍ لهم، وللمسلمين إخوان عن نصرهم قد عموا.(9/8)
حال الأمة اليوم
لقد شغلنا بالمعاصي والتراهات، لقد حصل ما حصل من الآثام التي جعلت المسلمين في ضعفٍ شديد لا يقوون على نصرة إخوانهم، هل هذا حال يرضي الله أيها المسلمون؟ نحن نعلم ضعفنا، ونعلم حالنا، ونعلم أنه ليس لنا قوة، لكن لماذا ليس لنا قوة؟ لابتعادنا عن دين الله، ولتفشي المعاصي بيننا على أي سيءٍ ننام؟ وعلى أي شيءٍ نصحو؟ ننام ونصحو على المعاصي، والفسق، والفجور، وعلى الصور، والمسلسلات، وعلى الأغاني، والمعاكسات، وعلى تبذير الأموال والسياحة في بلاد الكفار ومن أجل أي شيءٍ نعيش؟ نعيش للهو والترفيه، للطعام والشراب ماهذا الحال؟ ألا من عودة إلى الله توقظ في هذه الأمة الحمية لنصرة إخوانهم؟! أيها الإخوة والله لن يتغير حالنا إلا إذا رجعنا إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك أن تحيينا على الإسلام، وتميتنا على الإيمان، اللهم اجعلنا بكتابك مستمسكين، وبسنة نبيك عاملين، واجعلنا ممن نصرت بهم الدين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(9/9)
فقد الهوية الإسلامية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أشرك به أحداً، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين نصروا دينه، ورفعوا كلمة الله، وجاهدوا في سبيل الله، اللهم ارض عنهم يا أرحم الراحمين، وارض عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: لا يرجى من الكفار نصرٌ للمسلمين، فلماذا ينصرونهم؟ لا يرجى منهم نصرٌ والله، ومهما كان من الأسباب فإنما هي تمثيليات أو خلافات بين الكفار، أما أن يقصد الكفار نصر المسلمين، فذلك في عالم الأحلام، وحتى في عالم الأحلام قد لا يقع، فإنه لا ينصر المسلم إلا أهل الإسلام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في سنته.
عباد الله: إن من المصائب العظيمة فقد الهوية الإسلامية والانتماء لهذا الدين، وهذا شيءٌ قد حصل عند كثير من الشعوب التي كانت ترزح تحت الشيوعية وغيرها، فقد فقدت هويتها الإسلامية، ولم يعرف الكثير من أبنائها حقيقة الانتماء إلى هذا الدين، فهم يرجون النصر من شرقٍ ومن غرب، ولعله لأجل أنهم لا حيلة لهم، وبعضهم ينتظر من الشرق والغرب لأنه لم يجد يداً تمتد إليه من المسلمين، ولكن القضية الأساسية الخطيرة فقد الهوية الإسلامية، عندما لا يشعر المسلم بالانتماء إلى الإسلام الذي يوجب عليه ألا يوالي الكفار، وأن يتميز عن الكفر، وأن يرفع راية الإسلام واضحةً، فإنه إن لم ترفع راية إسلامية واضحة ضاعت المبادئ، وذلك من الأخطاء التي يقع فيها بعض أهل كوسوفا، لقد ضاع المسلمون فيها بين منافقٍ عظيم، وبين بعض الذين لم يرفعوا لواء الإسلام، وإنما رفعوا في قتالهم لواء العنصرية القومية، وقالوا: إن الحرب ليست دينية، فضاعت الأمور.
كيف سينصرهم الله في هذا الحال؟ إنها مصيبة عظيمة أن تفقد القضية الراية الحقيقية الصحيحة، إنها أكبر مصيبة ابتلي بها أهل ذلك الإقليم، وانتظار النصر من الكفار أمرٌ غير ممكن، قال الله عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] فليس عند الكفار عزةٌ للمسلم، وإن تظاهروا بنصرتهم فإما أنه خداع وتمويه، وإما أنه لمآرب أخرى عند الكفار، ليس من بينها أبداً نصرة للمسلمين، فقد يكون لخلافات بينهم أو أطماع، أو إرادة تسلط بعضهم على بعض، لكن لا يمكن أن يكون منها نصرة الإسلام وأهله مطلقاً، ونحن نعلم ذلك من الكتاب والسنة.
إذاً فلا حل للمضطهدين إلا بجهادٍ خالص وراية واضحة: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:84] فهكذا يكف بأس الكفار {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84].(9/10)
الواجب علينا تجاه إخواننا المسلمين في البلاد المجروحة
أيها الإخوة إن هذه الأمة تعيش في سباتٍ وغفلة، والذي يكون في غيبوبة قد لا يستيقظ إلا بالصدمات، فُيعمل له صدمات كهربائية وغيرها عله أن يستيقظ، وهكذا هذه الأمة لا تستيقظ إلا بالصدمات وهي تعيش في غيبوبة، فإذا استيقظت بالصدمات قامت العزة فيها وفي أبنائها، فلعل المسلمين يعودون إلى دينهم فتعود إليهم عزتهم فينصرون إخوانهم، ويأتي الوقت الذي لا يجرؤ فيه أحد على أن يؤذي مسلمة؛ لأنه يعرف ماذا سيحصل له لو آذاها.(9/11)
التألم لجراحات المسلمين
أيها المسلمون فماذا يجب علينا إذاً؟ أولاً: أن نتألم لأهل الإسلام، فإن الألم دليلٌ على حياة القلب وعلى الرابطة الإسلامية في قلوبنا لأجل إخواننا، قال عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن من أهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.
إن المسملين جسدٌ واحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، أما أن نغيب عن الواقع وننغمس في اللذات ولا نشعر بالألم فإنها مصيبة عظيمة.
في كل يوم صليب الكفر يدهمنا ويبتني في زوايا بيتنا صنما
ولا ترى فتية للموت طامحة ولا ترى عمراً غضبان مقتحما
لا أمتي أمة في العصر شاهدةٌ ولا لها حكمة إن عدت الحكما
لا أمتي أمةٌ يزهو الزمان بها ولم تعد تصنع الفرسان والقلما
ركنت إلى دعةٍ فانسل مخلبها وانهد كاهلها واستؤكلت لقما
هذا هو حالنا، فينبغي أن نتألم، وينبغي أن نشعر بما يشعر به إخواننا.
آهٍ أخي من البشناق يا خجلي طوى الزمان رشيداً ثم معتصما
طوى الزمان أخا دينٍ ومرحمةٍ ومن يزمجر إن عرضٌ له ثلما
طوى الزمان الذي إن تنتهك رحمٌ للمسلمين يمت من غمه ألما
يهجر لذيذ الكرى يهجر رفاهته ويصبح الموت أشهاها له حلما
وعرِّيت خيلنا وارتاح فارسها يعاقر العهر والتبذير والنعما
هذا هو الذي لا نريده إطلاقاً؛ أن نكون ممن في الكرى سادرون، وبالنعم يستلذون، وإخوانهم يتألمون ويتكدرون ويشكون.
أيها المسلمون لابد أن نتألم، لابد أن توقظ المصائب فينا نخوة أهل الإسلام، لابد أن نستيقظ من السبات، حتى نعود، ولو أن يسمع بعضنا الأخبار، فلابد أن يكون له في ذلك تأثير.
عذري إليكم وما الأعذار نافعة وبعضها ربما يحتاج تعذيراً
أني ضعيف جريح النفس مضطهدٌ أني مضيت أجوب الأرض مقهوراً
أقعي على شاشة التلفاز كامرأةٍ أراقب الهول تقريراً فتقريراً
أمي وأختي وأبنائي وقد شبعوا ذعراً وذبحاً وتدميراً وتهجيراً
وقد أشيح بوجهي تارةً غضباً ويلتوي الحزن في عيني تعبيراً
والصرب ماضون لا سيف فيردعهم لقد تكسرت الأسياف تكسيراً
ويشمخ الغرب مزهواً بخسته وقد تعرى قبيح الوجه مخموراً
يظل يبعث كالوغد الشقي بكم ميت الضمير عديم الحس مغروراً
يشاهد المحن السوداء ممتعظاً جهراً وسراً قرير النفس مسروراً(9/12)
العودة إلى الله جل وعلا والدعاء
العودة إلى الدين، ثم مساعدة إخواننا المسلمين بما نستطيع من أنواع المساعدة كالصدقات وغيرها.
ثم الدعاء، فندعو الله عزَّ وجلَّ أن يرفع الكروب وأن يعيد العزة لهذه الأمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالمسلمين بلية عظيمة، أو خطبٌ جسيم أو مصيبة كبيرة، قنت قنوت النازلة، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الركعة الأخيرة من الصلوات بعدما يقول سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كان القنوت في المغرب وفي الفجر] وجاء في حادثة أخرى أنها في الصلوات الخمس عموماً، وأن أكثر ما يكون في المغرب والفجر، وكان رسول صلى الله عليه وسلم حين يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، يدعو لرجالٍ فيسميهم بأسمائهم فيقول: (اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وكان أهل المشرق يومئذٍ من مضر مخالفين له.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (قنت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعلٍ وذكوان) روى هذه الأحاديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه.
فعندنا قنوت النوازل إذا استجدت مصيبة عظيمة، وإلا فالمصائب كثيرة متوالية مستمرة، فيقنت للمسلمين ويدعو لهم مدةً من الزمن، ثم يترك القنوت بعد ذلك، فإذا استجدت مصيبة أخرى دعا هذه هي السنة في قنوت النوازل.
اللهم إنا نسألك أن تنجي المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، عراة فاكسهم، اللهم إنهم طريدون فآوهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، اللهم إنهم مقهورون فأعزهم، إنك أنت العزيز الحكيم.
اللهم إنك أنت الجبار ملك السموات والأرض، أنت على كل شيءٍ قدير، أنزل بالصرب والنصارى واليهود بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً اللهم فرِّق شملهم، وشتِّت جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم تضرعنا إليك، واستغثنا بك، ورجوناك ودعوناك، اللهم لا تخيب رجاءنا، وانصر في هذا الموقف إخواننا، ورد في هذا المقام كيد أعدائنا.
اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، واجمع كلمتهم على التقوى والتوحيد، اللهم ألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم أيقظ في نفوس المسلمين الحمية لقتال اليهود والنصارى، واجعل في قلوبهم الحمية لإخراج أولئك مما أخرجونا يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(9/13)
حاجتنا إلى الإخلاص لله
الإخلاص هو الركن الثاني من أركان قبول العمل عند الله، وقد استطاع الشيخ أن يعطي هذا الموضوع ما يستحقه، فتكلم كثيراً عن فوائد الإخلاص، وعرَّج بعد ذلك على طرق تحصيل الإخلاص، ثم ركز على قوادح الإخلاص وعلاجها وأثرها في العمل.
وفي الأخير بيَّن المجالات التي يدخلها الإخلاص وكشف حقيقة غير المخلصين.(10/1)
أهمية الإخلاص في العمل
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: سنتكلم إن شاء الله عن موضوع يهمنا جميعاً، وهو أمر عظيم نحتاج إليه، لأنه يحدد علاقتنا بالله عز وجل، ويميز أعمالنا، وهو طريق الخلاص، إنه الإخلاص.
حاجتنا إلى الإخلاص لله عز وجل حاجةٌ مهمة جداً تدخل في أمور حياتنا كلها، والله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته وأمرنا بالإخلاص في هذه العبادة فقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] واستثنى الله طائفةً من البشر كلهم الهالكون الخاسرون {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:146] فهؤلاء الذين أخلصوا دينهم لله هم السعداء حقاً، الذين ينالون من ربهم الجزاء الأوفى والنعيم المقيم في جنات النعيم.
وأثنى الله على المؤمنين لما كانوا يقومون بسائر أعمال القرب والطاعات، ومنها إطعامهم للمحتاجين {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:8 - 9] لا نريد أي نوع من أنواع الأجر الدنيوي، كل ما نقوم به لوجه الله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] من هو هذا الشخص؟ من هو؟ ما هي صفته؟ قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
ولذلك فإن الله تعالى لا يقبل عملاً من العبد إلا إذا كان خالصاً لوجهه، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه سبحانه وتعالى).
رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه عن الوليد بن أبي الوليد أبي عثمان المدني: أن عقبة بن مسلم حدثه: أن شُفَيّاً الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجلٍ قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ قالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت له: أسألك بحقي، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً فمكثنا قليلاً ثم أفاق -أخذته السكينة- فكاد يغشى عليه شفقةً وأسفاً وخوفاً من الله عز وجل، فشهق هذه الشهقة، ثم أفاق من هول الحديث الذي سيتكلم به، فقال: لأحدثنك حديثا ًحدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ نشغةً أخرى ثم أفاق ومسح عن وجهه، فقال: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وهو في هذا البيت ما معنا أحدٌ غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغةً شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته طويلاً، ثم أفاق، ما هو الحديث الذي لأجله حدث لـ أبي هريرة كل هذا الشأن؟ قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمةٍ جاثية، على ركبهم من هول ذلك اليوم، فأول من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجلٌ قتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال!! فيقول الله عز وجل للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فقال: بلى يا رب! قال: فما عملت فيما علمته، قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال فلان قارئ ماهر بالقراءة -مقرئ جيد- وقد قيل ذلك.
ويؤتى بصاحب المال فيقول الله عز وجل: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله تبارك وتعالى: بل أردت أن يقال: فلانٌ جواد كريم وقد قيل ذلك، وأخذت أجرك في الدنيا من كلام الناس.
ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أي ربي، أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلانٌ جريء شجاع فقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبته فقال: يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة) هؤلاء المرائين هم أول حطب جهنم.
قال الوليد أبو عثمان المدني وأخبرني عقبة أن شفياً هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا الحديث، فقال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافاً لـ معاوية فدخل عليه رجلٌ فأخبره بهذا الحديث عن أبي هريرة فقال معاوية رضي الله عنه: [قد فُعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس] ثم بكى معاوية بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بِشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] هذه عاقبة الذي لا يراعي الإخلاص لله في عمله وهذه عاقبة فاقد الإخلاص يوم القيامة.(10/2)
تعريف الإخلاص
والإخلاص في اللغة: يقال عن الشيء خالص إذا صفي من الشوائب التي يمكن أن تشوبه، سمي: خالصاً كما قال الله عز وجل ممتناً على عباده باللبن الذي يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] فهذا اللبن صافي غير مختلط بشيء من الدم والفرث، فيخرج هذا اللبن الصافي بقدرة الله عز وجل فسماه الله ووصفه بأنه خالص.
والإخلاص تعددت فيه أقوال أهل العلم في تعريفه الشرعي.
فمنهم من قال: إفراد الله بالقصد في الطاعة.
ومنهم من قال: تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وإعجاب الفاعل بنفسه.
ومنهم من قال: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن.
ومنهم من قال: الصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره.
ومنهم من قال: ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله.
وقال الفضيل رحمه الله: [ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما] أن يعافيك الله من الرياء الذي بسببه الناس تترك العمل، والشرك الذي تعمل من أجل الناس، وباختصار فإن تصفية العمل من كل شائبة تشوبه هو الإخلاص لله عز وجل.(10/3)
اهتمام الأئمة بالكلام عن الإخلاص
الإخلاص موضوعٌ عظيم جرت مراعاته عند أئمتنا في كلامهم وتآليفهم، فكان بعضهم يصدر بها خطبه، وكان بعضهم وكثير منهم يصدر مصنفاته بهذا الموضوع: الإخلاص لله.
فيقول: باب الإخلاص وتصحيح النية، وعد أهل العلم حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ربع العلم، وبعضهم عده ثلث العلم، وبعضهم عده نصف العلم، قال ابن مهدي رحمه الله: لو صنفت كتاباً، لبدأت في كل أول باب منه بحديث: (إنما الأعمال بالنيات) وقال: من أراد أن يصنف كتاباً فليبدأ بهذا الحديث وقد استجاب لوصيته الإمام البخاري رحمه الله تعالى فبدأ مصنفه الجليل، وأعظم كتابٍ بعد القرآن صحيح البخاري بحديث إنما الأعمال بالنيات.
وكذلك بدأ به الحافظ عبد الغني المقدسي كتابه عمدة الأحكام، والنووي رحمه الله كتابه المجموع، وابتدأ به السيوطي رحمه الله جميعه، وشرح الحديث جماعة من أهل العلم في مصنفاتٍ خاصة، وتمنى ابن أبي جمرة رحمه الله أن يتخصص بعض العلماء في النيات فقط؛ لتعليمها للناس؛ لأن أكثر المشاكل التي تحدث عند الناس هي في قضية النيات.(10/4)
فوائد الإخلاص
وهذا الإخلاص له فوائد عظيمة جداً:(10/5)
الأجر أكثر من العمل
من فوائده: أن المخلص ينال من الأجر بإخلاصه أكثر من عمله، بل ربما ينال أجراً ولا يعمل عملاً؛ فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أقواماً خلفنا بـ المدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر) أناس جلسوا في المدينة وما خرجوا في الجهاد، لكنهم مع الجيش في أجرهم والفوز الذي أعده الله، فقد كانوا يريدون الخروج في الجهاد لكن حبسهم العذر، فلم يستطيعوا الخروج، هؤلاء: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] ليس عنده ما يشتري به الدابة والسلاح، ولا يستطيع الخروج فيبكي؛ لأنه يريد الجهاد ولا يستطيع، فهو متأثر لأنه قد منع من حاجته وإرادته للجهاد بأعذارٍ شرعية لم يستطع من أجلها الخروج في سبيل الله (لقد تركتم بـ المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادي إلا وهم معكم قالوا: يا رسول الله! وكيف يكونون معنا وهم بـ المدينة؟ قال: حبسهم العذر -ما استطاعوا الخروج- وإلا فهم يريدون الخروج، علم الله من صدق نياتهم ما أعطاهم به الأجر وهم قاعدون في بيوتهم).
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذرٍ وعن قدرٍ ومن أقام على عذرٍ فقد راحا
بعض الناس في أقطار الأرض يودون الذهاب إلى الحج والعمرة لكن لا يستطيع، ليس عنده نفقة أو لم تتيسر له الإجراءات اللازمة للحج ولكنه يريد الحج، والله يعلم من نفس هذا الرجل أنه يريد الحج أو يريد العمرة فيكتب له أجر الحاج والمعتمر وهو قاعد في بيته، بسبب إخلاصه.
(من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه لما تجهز للغزو معه عليه الصلاة والسلام فمات قبل أن يخرج (إن الله تعالى قد أوقع أجره على قدر نيته).
مثالٌ آخر: عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان نومه صدقةً عليه من ربه) وأحدهم أراد أن يقوم الليل بصدق واستعد، لكن غلبته عينه، فأكمل النوم إلى الفجر، فلم يقم برغم نيته الصادقة، فله أجر قيام الليل والنوم صدقة من ربه عليه، حديث صحيح.
ولذلك -أيها الإخوة- تصحيح النية ومراعاتها مسألة مهمة جداً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبدٌ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٌ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً؛ لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال لتصدقت، وأخرجت زكاته، ووصلت رحمي من هذا المال، وأنفقت على أقربائي، وعملت أشياء من أعمال البر والخير، وكفلت أيتاماً، وعلمت للمسلمين أموراً ينتفعون بها، تصدقت بها في سبيل الله، وطبعت كتباً، وأوقفت مصاحف للمساجد، وعملت وعملت فهو يتمنى أنه لو كان له ذلك المال لعمل به في هذا، فإذا صدق الله في نيته تلك، فإن الله يعطيه على قدر نيته، فيقول عليه الصلاة والسلام: (فأجرهما سواء) أجر الذي عنده وأنفق، وأجر الذي ليس عنده ونوى لو كان عنده لأنفق مثل صاحبه أجرهما سواء.
وفي نفس الوقت (عبدٌ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل، ورجل قال: لو أن عندي مالاً مثل فلان لعملت بعمل فلان) لو كان عندي مال كنت سافرت إلى الخارج وفسقت وفعلت الفواحش، واستأجرت فرق الغناء والطرب، وعملت وليمة فيها من المعاصي والفسق مثلما عمل فلان، ويرى خاتماً ذهب في يد رجل فيقول: لو كان عندي مال لاشتريت مثله، هذا الرجل الذي يتمنى بقلبه هذا الأمنيات لو أن الله أعطاه مالاً فهو شريك ذلك الرجل في الوزر قال: (فهما في الوزر سواء) مع أنه ما عمل لكن نيته هذه نية عازمة، فلو أن الله أعطاه مالاً لعمل فيه من المعاصي مثلما عمل ذلك الفاجر.(10/6)
احتساب الأجر عند الله عز وجل
ومن ثمرات الإخلاص أيضاً: ما جاء في هذا الحديث العظيم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان ابن عمٍ لي ما أعلم من الناس من أهل المدينة ممن يصلي إلى القبلة أبعد بيتاً من المسجد منه، فكان يحضر الصلوات كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: لو اشتريت حماراً تركبه من الرمضاء -يعني: من شدة الحر- يحميك أو يقيك من هوام الأرض - الحشرات والدواب المؤذية- قال: والله ما أحب أن بيتي يلصق بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -ما أحب أن بيتي ملاصقاً للمسجد- فما سمعت كلمةً أكره إلي منها -تعجب- أي أن أبي يقول: كرهت كلامه كيف أنه لا يريد أن يكون بيته ملاصقاً للمسجد، ولو كان بيته ملاصقاً للمسجد لكره هذا الأمر، قال: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: يا نبي الله! لكي ما يكتب أثري ورجوعي إلى أهلي وإقبالي إليه) أي: أنا لا أريد أن أصير بجانب المسجد لكي إذا أتيت من بعيد يكتب لي الأجر الممشى من البيت إلى المسجد ومن المسجد إلى البيت، لأن الإنسان في قدومه لصلاة الجماعة لا يكتب أجره فقط من البيت إلى المسجد وإنما أيضاً من المسجد إلى البيت، فالرجل يقول: أنا لا أود ولا أتمنى أن يكون بيتي ملاصقاً للمسجد؛ لأني أريد أن آتي هكذا دائماً لكي يكتب لي الأجر جيئة وذهاباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنطاك الله ذلك كله) أنطاك الله بلغة أهل اليمن يعني: أعطاك الله وفي رواية: (لك ما نويت) أو قال: (لك أجر ما نويت) وفي مسلم: (لك ما احتسبت).(10/7)
الإخلاص سبب الانتصار
ومن المزايا التي تحصل للمجتمع الذي فيه هؤلاء المخلصون ما يلي: عن مصعب بن سعد عن أبيه رضي الله عنه: أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها) بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم؛ هذه الأمة فيها أقوياء وفيها ضعفاء، فيها أغنياء وفيها فقراء، والله عز وجل ينصر الأمة بالضعفاء فيها، بصلاتهم، ودعائهم، وصدقهم، وإخلاصهم، لأنه في العادة أن الضعيف عنده من الإخلاص ما ليس عند القوي؛ فإنه لا يملك كثيراً من الأسباب التي تدفع إلى عدم الإخلاص، ولذلك لا تحتقر ضعيفاً أبداً إذا كان تقياً، فإنه قد يكون سبب نصرة الأمة به.(10/8)
الإخلاص يقلب العادات إلى عبادات
الإخلاص يقلب العادات إلى عبادات؛ فربما يكون هنا عملٌ صورته واحدة ولكن أجر العاملين به يختلف، فمثلاً الزواج، الذي يتزوج للاستمتاع بالمباح مكانته عند الله غير الذي يتزوج ليعف نفسه، وهناك من ينوي بالزواج إضافةً إلى ذلك إعفاف زوجته، وهناك من ينوي إضافةً إلى ذلك ابتغاء الولد الذي يكثر به هذه الأمة، وهناك من ينوي بالإضافة إلى ذلك الإنفاق على زوجته وأولاده، وهذا الإنفاق في سبيل الله، وهؤلاء أجرهم ليس سواء، فهذا تزوج، وهذا تزوج، وهذا تزوج، وكلهم فعلوا نفس الشيء والزواج صورته واحدة ولكن سبب تفاوت الأجر هي النية النابعة من الإخلاص.
كذلك من الناس من يغتسل تنظفاً وإزالةً للأقذار والأوساخ، ومنهم من يغتسل تبرداً بسبب الحر، ومن الناس من يغتسل مداواة؛ فقد يكون به حمى شديدة، ولكن من الناس من يغتسل للجمعة، فالذي يغتسل للجمعة له أجرٌ أكبر؛ لأنه نوى بغسله الجمعة أو إتيان المسجد وهو نظيف لكي لا يؤذي المسلمين، أو غسل الجنابة ونحو ذلك، فمادام أنه نوى قربة وطاعة بهذا الغسل فتحولت عادته إلى عبادة يؤجر عليها.
وبعض الناس يظن أن النية في الفعل فقط، يعني: يتزوج ويغتسل، لكن النية لها أثر كبير في الترك كما أن لها أثر في الفعل فمن الناس من يترك الطعام حميةً حتى لا يصيبه مرض، ومن الناس من يترك الطعام تداوياً حتى يشفى من مرض واقع فيه، ومن الناس من يترك الطعام بخلاً حتى على نفسه، ومن الناس من يترك الطعام لعدم ميله إليه وعدم تعلقه به، فهو لا يشتهيه، ومن الناس من يترك الطعام صياماً لرب العالمين، فهذا أكثر أجراً، فإذاً يحصل هنا الأجر على الترك كما يحصل الأجر على الفعل، بسبب بالنية.
ولما ينعدم الإخلاص وينقص، فإن صاحبه ينتكس انتكاسات كبيرة جداً، فقد يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباءً منثوراً، ذلك بأنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، وهؤلاء عديمي الإخلاص.(10/9)
كيفية تحصيل الإخلاص
إذا خف الإخلاص يسير الإنسان إلى عكس مقصوده، سير المقيد المقعد، أو أنه يسير سير صاحب الدابة الجموح الممتنعة على صاحبها، كلما مشت إلى قدام خطوة رجعت إلى الخلف عشر خطوات، وهذا لا يحدث إلا لمن يفتقد الإخلاص، أو ينقص إخلاصه، ولذلك الإخلاص تحصيله صعب وليس سهلاً.
يقول سفيان رحمه الله: [ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تنقلب علي كلما آتي لأثبتها تنقلب فأنا أعالج وأجاهد وأجتهد في تثبيت النية] لأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فلا يمكنه من التوبة والإخلاص، فيحول بين المرء وقلبه، ولذلك مجاهدة النفس على الإخلاص وتوجيه النية لله رب العالمين هي أصعب شيء.
قال يوسف بن أسباط رحمه الله: [تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد] لو قام أحدهم الليل ساعات طويلة قد يصبر، لكن تثبيت النية بحيث إن العمل لا يكون فيه شيء للدنيا ولا للناس هذا أصعب من العمل نفسه.
وقال يوسف بن الحسين: [أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي، فكأنه يمكث على لونٍ آخر] أحاول أن أسد هذا الباب فينفتح باب آخر، أحاول أن أثبت من هنا؛ فأوتى من هناك وهكذا، لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن لا يعني هذا أن ذلك مستحيل وأنه لا يمكن أن نخلص وأنه مهما اجتهدنا لا نصل لمرتبة المخلصين، كلا.
إن سألت كيف أكتسب الإخلاص؟ لو قلت لي الإخلاص صعب، فعرفنا منزلة الإخلاص في الدين، وعرفنا خطورة الموضوع، وعرفنا فوائد الإخلاص، وعرفنا مضار فقدان الإخلاص، فكيف نكتسب الإخلاص؟ يقول ابن القيم رحمه الله: "لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص، وسهولة ذلك بأن تعلم أن مدح أحدٍ أو ذمه لا يضر".
لو قيل: كيف تريد مني أن أقطع الطمع بثناء الناس ولا أكترث بذم الناس؟ أعطني العلاج المفتاح لهذه المسألة، كيف تريد مني ألا أكترث سواءً ذموني أو مدحوني؟ نقول لك: انظر في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أعرابي فقال: إن مدحي زينٌ وإن ذمي شينٌ، أي: أنا إذا مدحت واحد زان من مدحي وارتفع، وإذا ذممت شخصاً فقد شان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل) ذاك الله عز وجل الذي إذا مدح أناساً ارتفعوا، وإذا ذم أناساً هبطوا، ولست أنت.
فإذا عرفت أيها المسلم: بأن الناس لو مدحوك ما رفعوك، ولو ذموك ما خفضوك؛ فلا تكترث عند ذلك لمدحهم ولا ذمهم، وتعلم بأن المهم هو مدح الله وليس مدح المخلوقين، وبأن الذم المذموم هو ذم الله لا ذم المخلوقين.(10/10)
قوادح الإخلاص وعلاجها
يمكن تحصيل الإخلاص بمعالجة قوادح الإخلاص، أي شيء يقدح في الإخلاص نعمل على إبعاده، فمثلاً لو أن شخصاً عمل عملاً فالأشياء التي تقدح في هذا العمل وتنافي الإخلاص هي حب الثناء من الناس والرياء والغرور الذي يقدح في عمل الواحد وهو يصلي في بيته ولا يراه أحد من الناس وهو: العجب بالنفس.(10/11)
علاج العجب بالنفس
(إعجاب المرء بنفسه) فيرى أنه قد أدى عبادات، وأنه قد وصل إلى مراتب بينه وبين نفسه، ولكي تعالج هذا الإعجاب الذي يقدح في عملك عليك بالأمور الآتية: أولاً: أن تعلم أن الله عز وجل حقه أكبر مما عملت، يمكن لو وزنت أعمالك كلها يوم القيامة ما ساوت نعمة البصر مثلاً، عند ذلك تعلم أن عملك لا شيء فكيف بالنعم الأخرى؟ كيف بنعمة الهداية! كيف بنعمة الإيمان! وتعلم أيضاً أن الذي وفقك لهذا العمل هو الله عز وجل، إذاً: فلماذا تعجب به، وهو ما جاء من عندك، والله الذي وفقك له.
وكذلك من الأمور التي تعالج العجب بالعمل: أن تشعر إذا عملت عملاً بشدة الحياء من الله عز وجل قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] أي: إنك إذا تصدقت بصدقة أو عملت عملاً طيباً، فليكن إحساسك بالحياء من الله عز وجل، لأنك تقدم شيئاً وتخشى ألا يقبل، وحق الله أعظم من هذا، ولذلك الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه، فهذا الذي يعمل هذه الأعمال ثم يخاف ألا تقبل منه، هو الذي نجا من الإعجاب بنفسه.
وكذلك أن تعلم -كما ذكرنا قبل قليل- أن عملك منة من الله وليست من نفسك، وفضلٌ من الله وليست فضلاً من عندك، وتوفيق من الله وليس توفيقاً من عندك قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] فالخير عند العبد من الله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] ولذلك كان كلام أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] لاحظ {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] فالله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن ثبتناك يا محمد لقد كدت تركن إلى الكفار شيئاً قليلاً، فمن الذي ثبتك؟ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7].
إذاً: إذا أقبل الواحد على الطاعات وأحس بحلاوتها، فالذي أوجد في نفسه هذا الدافع هو الله، والذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه هو الله.
وكذلك من الأشياء التي تقضي على الإعجاب بالعمل: أن تعلم أن كل عمل مهما عظم؛ فإن للشيطان فيه نصيباً ولو قل، وقال صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يلتفت فجأة في الصلاة ثم يرجع: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) هذا اختلاس النظر فكيف باختلاس القلب! فإذا عرفت أن كل عمل عملته قد يكون للشيطان فيه نصيبا، ً تعلم أن عملك معيب، ولذلك لا يمكن أن تعجب بعملٍ معيب وناقص.(10/12)
علاج طلب العوض من المخلوقين
ومن القوادح في الإخلاص التي ينبغي أن تعالج الأول: أن يطلب العبد بعمله العوض من المخلوقين كيف ما كان هذا العوض، وهذا العوض قد يكون أشياء كثيرة، منها: التزين في قلوب الخلق؛ حتى يكون له عند الناس شأن ووزن.
الثاني: طلب مدحهم؛ فيعمل العمل لأجل أن يمدحه الناس.
الثالث: النجاة من ذمهم؛ فبعض الناس يعملون أعمالاً لا لله، في القتال مقدام حتى لا يقال عنه: جبان، يحسن الصلاة حتى لا يقال عنه: فلان يسرع في صلاته مثلاً، فينجو من ذم الناس.
رابعاً: طلب تعظيمهم؛ أن يعظموه.
خامساً: طلب أموالهم، مثلاً واحد يخلص في العمل، ويتظاهر بالأمانة؛ لكي يحصل على وظيفة؛ وبعض الناس يظهر بمظاهر التقى والصلاح؛ لكي يستأمنه رب العمل فيوظفه عنده، ويقول رب العمل في نفسه: فلان هذا تقي وورع، فلان هذا مناسب أن أضعه في هذه الوظيفة، فيضعه في هذه الوظيفة، وقد يعمل العمل أيضاً بدافع طلب خدمتهم ومحبتهم، يعني: لكي يخدمه الناس، وكذلك بطلب قضاء حوائجه: كتزويجه منهم من بنتهم، فيخلص في العمل والعبادة الظاهرة حتى يقولوا: فلان ذو دين فنزوجه، ولذلك وصلنا أن بعضهم إذا تقدم لأناس فيزورهم كثيراً، فإذا سمع الأذان قام من عندهم للصلاة، وهو أصلاً إنسان غير حريص على الصلاة، فخدعهم من أجل أن يزوجوه.
فإذاً: يعرض للإنسان شوائب تقدح في إخلاصه، من التماس الأشياء من الناس على عمله الصالح، فكل شيء يراد به غير الله قادح ينبغي التخلص منه.
ولكي يقضي العبد على طلب هذه الأشياء من المخلوقين؛ انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء) وقال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحداً؛ فليطلب ثوابه من عنده؛ فإن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) وقال: (من عمل عملاً أشرك فيه أحداً غيري؛ تركته وشركه) ولذلك إذا تأمل العبد أنه يوم القيامة سيقال له: اذهب إلى الناس الذين رآءيت من أجلهم اطلب منهم ثواب العمل، وأنهم لن يعطوه شيئاً، فماذا سيكون موقفه؟(10/13)
علاج الرياء
وكذلك فإن من أقدح القوادح في الإخلاص الرياء؛ والرياء مراتب ودرجات: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي) وفي رواية: (يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لما يرى من نظر الرجل) وفي رواية: (لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر) تحسن صلاتك لأن الناس ينظرون إليك، لو ما نظر إليك أحد ولا كان بجانبك أحد ما طولتها هذا التطويل ولا حسنتها هذا التحسين، وهذا هو الرياء، يرائي الناس بطلب رؤيتهم ليمدحوه.
وفي علاج الرياء هناك علاج علمي وعلاج عملي، من العلاج العلمي: أن تعلم ما هو عذاب المرائين يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام مقام رياءٍ وسمعة) وفي رواية: (من سمع الناس بعمله راءى الله به يوم القيامة وسمع) وفي رواية: (سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره يوم القيامة) وفي رواية: (إلا سمع الله به على رءوس الخلائق يوم القيامة) يعني: فضحه على رءوس الأولين من آدم إلى آخر واحد وهو الراعي من مزينة الذي يحشر آخر واحد من الناس فيموت عند الصعق، لأنه قام مقام الرياء والسمعة.
علامات الرياء كثيرة ومنها، لو قال واحد: أعطني حدوداً أعرف بها هل أنا مرائي أم لا، فنقول: النشاط في الملأ مع الكسل في الخلاء، ومحبة الحمد على جميع أمورك؛ إذا كنت تنشط في الملأ وتكسل في الخلاء، وتحب أن تحمد على أفعالك فأنت على خطر من أن تكون مرائياً، ولذلك من علاجات الرياء العملية، مثلاً إذا شككت أن إطالتك في سجودك في المسجد لأجل الناس اذهب إلى بيتك وصلي صلاةً أطول منها، وإذا شككت أن النفقة التي أخرجتها من أجل الناس في المسجد، فاذهب سراً وأنفق نفقةً أكبر منها، وقال بعضهم: إذا كان المرء يحدث في المجلس؛ فأعجبه حديثه فليسكت، وإذا كان ساكتاً فأعجبه سكوته فليتكلم، فبعض الناس يعجبون بحديثهم، وبعضهم يعجبون بسكوتهم، فيرى أن يعطي انطباعاً للناس عنه بأنه متزن، وقور، هادئ وغير ثرثار ونحو ذلك، فإذا كان المرء يحدث في المجلس، فأعجبه الحديث فليسكت؛ وإذا كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليحدث.
ومن الأمور كذلك التي نكتسب بها الإخلاص: الدعاء، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من أمور: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه) وقد كان وعمر رضي الله عنه كان يسأل الله ألا يجعل لأحدٍ من الخلق في عمله حظاً ولا نصيباً، وأن يجعله لوجهه خالصاً، فالدعاء مهم في هذه المسألة.
ولمرافقة أهل الإخلاص أثر، فأنت تكتسب الإخلاص إذا احتككت وعاشرت ورافقت أهل الإخلاص، وهذه نقطة مهمة جداً لأنك تتعلم منهم، الآن لما رأى الرجل الإمام البخاري رحمه الله، قال: رأيت أبا عبد الله في المسجد والناس حوله، فأخذ الرجل شيئاً من لحيته فرمى به في الأرض -يعني: قذر رمى به في المسجد- قال: فرأيت أبا عبد الله نظر بطرفه إليها، فلما انتهى المجلس وانصرف الناس، نظر يميناً وشمالاً، فلما لم ير أحداً أخذها فدسها في جيبه وخرج من المسجد، فلما خرج رأيته يتلفت يميناً وشمالاً، فلما علم أنه لا يراه أحد من الناس أخرجها وألقاها.
هذا الراوي الذي روى القصة هو الذي شاهد البخاري رحمه الله والبخاري لا يعلم، وانظروا أن الله يقيض لأهل الإخلاص من ينشر سيرتهم مع أنهم لم يقصدوا نشرها، كيف وصلنا الخبر والبخاري رحمه الله لا يريد أن يراه أحد، لكن سخر الله له رجل من الناس رأى فعله فرواها ونقلت وكتبت واقتدى بها الناس، فمعاشرة أهل الإخلاص في غاية الأهمية في اكتساب الإخلاص، فإنك ترى من إخلاصهم ما يربيك بالقدوة.(10/14)
تأثير قوادح الإخلاص في العمل
قوادح الإخلاص تؤثر في العمل تأثيراً سيئاً فمنها مثلاً:(10/15)
حبوط العمل بالكلية
كأن يقوم الإنسان للصلاة من أجل الناس لا لله، هؤلاء الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6 - 7] هؤلاء المنافقين عليهم حابط بالكلية.
وأحياناً يكون العمل لله ولكن يدخل معه في بدايته الرغبة فيما عند الناس أيضاً، فيصير لله والناس من البداية فهذا أيضاً حابط، ومن دخل في صلاةٍ هذه نيته أنها للناس فإنها فاسدة يجب إعادتها: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه أحداً غيري تركته وشركه) هذا الدليل على أنه إذا رافقت نية لله نية أخرى للناس من البداية حبط العمل.
وأحياناً يطرأ الرياء على العمل أثناء العمل، هو يبدأ لله لكن يطرأ عليه طارئ، هذا إذا جاهد العبد نفسه فعمله صحيح، وإذا غلب الرياء إلى آخر الصلاة ففي صحتها شك ونظر.(10/16)
حكم إرادة الدنيا مع العمل لله
ومنها أن بعض الناس يعملون لله ولكن يريدون أشياء دنيوية مع هذا العمل: كرجلٍ خرج للحج والتجارة، فحجه ليس بحابط قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] لكن أجر الذي خرج للحج والتجارة ليس مثل أجر الذي خرج للحج فقط، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن السرية إذا خرجت للجهاد فغنموا أنهم تعجلوا ثلثي أجرهم وبقي لهم ثلث الأجر فقط، ولكن إذا ما غنموا شيئاً كان لهم الأجر كله، ولو أنهم خرجوا في سرية فلم يصابوا، كان أجرهم غير الذين خرجوا فأصيبوا، وهذا معنى قول الصحابي: [منا من مات ولم يأخذ من الدنيا شيئاً] مثل مصعب بن عمير ما أخذ شيئاً وكل عمله كان جهادياً وانتهى بالموت شهيداً في سبيل الله، ومنهم من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنهم من أخره الله عز وجل ورأى الفتوح وأخذ من الغنائم وليس في ذلك شيء، ومن هذا الباب ما يأخذه مدرس الدين أو إمام المسجد على عمله، إذا لم يكن يعيش إلا به، فهذا يجوز له أن يأخذه، لكن لا شك أنه إذا احتسب التعليم والأذان أو الإمامة دون أجرٍ فهو أفضل، مثل المجندين الذين لهم رواتب من بيت مال المسلمين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هؤلاء يجاهدون في سبيل الله ولهم رواتب، رواتبهم لا تحبط جهادهم وأعمالهم؛ لأنهم أخذوها ليستعينوا بها على المعيشة، لكن لو كان عنده مصدر كسب آخر، فالأحسن له أن يتصدق بها، والضابط قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل الذي يتعلم العلم- الذي هو يعمل به لله يعني: علم الشريعة- يبتغي به الدنيا يكبه الله في النار) أقول: فرق بين الذي يدرس الشريعة ويأخذ مكافئة الطالب، وبين الذي يأخذ مكافئة الطالب ليدرس، وفرق بين الذي يدرس الدين في المدارس ليأخذ الراتب، وبين الذي يأخذ الراتب ليدرس الدين في المدارس، وفرق بين الذي يحج عن واحد ويأخذ المال، وبين من يأخذ المال ليحج فإن قلت لي: لم تصل الفكرة بعد فأقول: الذي يحج ليأخذ، قصده المال، والوسيلة الحج، فهذا مذموم تماماً؛ لأنه جعل الحج وسيلة للتكسب، مثلما يعمل كثير من الناس اليوم، فهذا يحج ليأخذ فجعل الأخذ هو الهدف، والحج هو الوسيلة للتكسب مثل أي مهنة، يحج عن العالم ويأخذ فلوس.
كذلك الذي يدرس الشريعة ليأخذ مكافئة الطالب، الهدف هو المكافئة، والوسيلة هي دراسة الشريعة، وليس لديه كلية ثانية تقبله فقال: آخذ من ورائهم المكافئة، لكن فرق بين هؤلاء وبين من يأخذ المال ليتقوى به على الطاعة ويعيش ليتمكن من أداء العمل.
افرض أن إمام مسجد ليس له دخل إلا راتب الإمام، هذا الرجل إذا لم يأخذ الراتب فإنه سيشحذ من الناس فيهين نفسه، فيأخذ الراتب من بيت مال المسلمين لكي يساعده على أداء الإمامة، فتكون الإمامة هي الهدف والراتب هو وسيلة.
الذي يدرس الدين في المدارس إذا كان قصده الراتب، ولو ما أعطوه الراتب ما درس شيئاً، ولو خفضوا الراتب خفض التدريس ولو نزلوا الرواتب لم يهتم بالتحضير، فيتأثر الإخلاص ويصير هدفه الراتب، والوظيفة هي وسيلة تدريس الدين للطلاب، كونه يعلمهم أحكام الصلاة والطهارة والزكاة والتوحيد والشرك، وهذا مذموم متوعد يوم القيامة.
وفرق بين من يحج ليأخذ وبين من يأخذ ليحج، والناجي هو الذي يأخذ ليحج؛ لأنه لا يستطيع أن يشتري تذكرة الطائرة حتى يحج بها مثلاً عن فلان، كيف يشتري تذكرة طائرة؟ كيف يتنقل بين المشاعر بسيارات الأجرة؟ كيف يشتري لوازمه من الطعام والماء واللازم له في عرفة ومزدلفة ومنى؟ فإذاً أخذ المال صار وسيلة والحج هو الغاية، غايته أن يحج حتى يبرئ ذمة ذلك الشخص الذي لم يحج مثلاً.
ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: [التاجر- يعني في الحج مثلاً أو الجهاد والمستأجر والمكاري- الذي يؤجر الدابة- أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم] فإذا هو خرج قال: ما دام أني خارج للجهاد فلأتكسب، مثلاً أبيع أشياء على الجيش، أبيع طعام على الجيش مثلاً، أو ما دام أني ذاهب للحج فسوف أبيع لي شيئاً، هذا أجره على قدر نيته؛ لأن بعض الناس يفوتون بعض الأشياء في الحج من أجل التجارة يقول: أنا ذاهب الحج، فقد يفوت بعض الأحيان واجبات ويفوت سنناً ويفوت أشياء كثيرة من أجل الكسب والتجارة في الحج، فهذا أجره على قدر نيته ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وأحياناً يكون العمل خالصاً لله إلى النهاية ويطلع عليه بعض الناس فيمدحون صاحبه، مثلاً دخل رجل فجأة فرآك تصلي في الليل، أو استيقظ أحدٌ من أهلك فرآك تصلي، العمل في هذه الحالة صحيح، وكون الله عز وجل قدر أن يطلع على عملك بعض الناس دون قصدٍ منك ودون أن تختار مكان يسهل اطلاع الناس عليك فلا عليك حرج، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير يحمده الناس عليه فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم، فما قال الرسول صلى الله عليه وسلم رياء ولا حبط العمل؛ لأن الرجل ما قصد أن يطلع الناس على عبادته.
فإذاً من عمل لله خالصاً هذا أعلى المراتب، ومن عمل لا يريد إلا الدنيا فعمله حابط، ومن قصد الدنيا مع قصد الله فعمله أيضاً حابط، ولكن إذا طرأ عليه الرياء فجاهده فالحمد لله، فإن استمر معه نقص من أجره بقدر هذا الشيء الطارئ.
وإن قصد وجه الله والدنيا، يحبط العمل إلا إذا كان مثل ما ذكرنا في الحج فإنه لا بأس به؛ لأنه قصد وجه الله والله أباح له التجارة، وينقص من أجره بقدر اهتمامه بالتجارة.(10/17)
حكم العمل لله دون إرادة ثواب الآخرة
وبعض الناس يعمل العمل لله؛ يصلي لله، يزكي لله، يحج لله، لكن لا يريد العمل الثواب في الآخرة، لو سألته لماذا تصلي؟ قال: يا أخي! لأني أريد أن أحفظ نفسي؛ لأني أريد أن الله يحفظني ويحفظ أولادي، ويحفظ أموالي، فأنا أصلي لهذا السبب، أنا أصلي لله لا أصلي لقبر ولا لميت ولا لأي شيء، أصلي لله، لكن أنا قصدي من الصلاة أن الله يحفظني ويحفظ أولادي، فهذا الرجل ليس له أجرٌ في الآخرة، عمله صحيح ولا يحتاج أن يعيد الصلاة، لكن ليس له أجر في الآخرة ويعطى أجره في الدنيا؛ لأنه ما صلى ابتغاء الدار الآخرة أو الجنة والثواب الأخروي، صلى لأجل حفظ نفسه وأولاده، وكثير من الناس يفعلون هذا.(10/18)
مجالات الإخلاص
الإخلاص له عدة مجالات، الإخلاص مثلاً الإخلاص في العبادة، الإخلاص في الجهاد، الإخلاص في طلب العلم، الإخلاص في الدعوة إلى الله، الإخلاص في التربية.(10/19)
الإخلاص في العبادات
فمن الإخلاص في العبادات مثلاً والأعمال الصالحة: ما وقع لأصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة وقالوا لبعضهم: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ليفرج عنكم، فالذي انتظر أبواه حتى استيقظا وهو قائمٌ على رأسيهما، وأولاده يصيحون من الجوع، حتى استيقظا في الصباح وأعطاهما اللبن وشربا قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
والذي قعد للزنا بين يدي المرأة المحتاجة إليه، فلما ذكرته بالله؛ انصرف عنها وأعطاها المال، ولم يعمل بها شيئاً قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
والذي حفظ للأجير ماله ونماه له أضعافاً مضاعفة، فلما جاءه الأجير؛ أعطاه إياه كله دون أن يأخذ منه شيئاً قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة بسبب أنهم سألوا الله بأخلص الأعمال التي عملوها، فانظر فائدة الإخلاص، هذه أعمال عظيمة ظهر فيها الإخلاص؛ لذلك كانت مكتوبة عند الله ثقيلة جداً ونفعتهم، ولقد حدث أني سألت بعض أهل العلم فقلت له: لو أن الواحد وقع في ورطة فقال: اللهم إني عملت يوم كذا وكذا -بينه وبين الله- عملاً أرجو به وجهك أخلصت فيه لك؛ ففرج عني بذلك العمل الذي عملته لك هذه الكربة، هل ينقص من أجر ذلك العمل؟ فأجاب الشيخ: لا يظهر هذا، وسياق الحديث في مساق المدح له، ولو كان هناك شيء من هذا؛ لورد على الأقل، ولذلك لا بأس بسؤال الله بصالح العمل الذي عملته وانتهيت ليس أن تعمل العلم الصالح من أجل شيء دنيوي، لا، شيء عملته وانتهيت، أخلصت فيه لله وحصلت لك مشكلة بعد ذلك، فسألت الله بذلك العمل أن يفرج عنك المشكلة لا بأس.(10/20)
الإخلاص في طلب العلم
بعض طلبة العلم لا يخلصون لله في طلب العلم، يقول عليه الصلاة والسلام في شأنهم: (من تعلم العلم -في رواية: من طلب العلم، وفي رواية: من ابتغى العلم- ليباهي به العلماء -وفي رواية: ليجاري به العلماء- أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه -وفي رواية: أو تقبل أفئدة الناس إليه- فإلى النار -وفي رواية: أدخله الله جهنم) حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، أو تماروا به السفهاء، ولا لتجترئوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار) حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من تعلم علماً يبتغى به وجه الله -علوم الشريعة- لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً -يعني: متاع الدنيا- لم يجد عرف الجنة يوم القيامة -يعني: ريح الجنة لا يجدها-) فإلى الذين يدرسون في الكليات الشرعية من أجل الشهادة والوظيفة والراتب لا ليعلموا الناس هذا تحذير عظيم.
وإلى الذين يتعلموا العلم؛ ليظهروا أمام الناس بأنهم حفاظ، ويلفتوا الأنظار بجودة حفظهم وحسن سردهم وأنهم لا يتوقفون هذا تحذيرٌ شديد.
وإلى الذين يتعلمون العلم لإفحام الناس في المجالس فقط، وإسكات الخصوم فالويل لهم.
إلى الذي يأتي حلق العلم ليقال عنه نشيط فالويل له.
وإلى الذين يماشون العلماء ويدعون أهل العلم والفضل ليقال: فلان جاء في بيته العالم الفلاني فالويل له، أو يقعد مع عالم ساعة ثم يدور المجالس ويقول: قال شيخنا قال شيخنا، وما جلس معه إلا ساعة فالويل لهم.
ولو جلسنا نستعرض قوادح الإخلاص في طلب العلم لوجدناها كثيرة، وهي كذلك في الدعوة إلى الله، فالإخلاص مهم جداً؛ فإن الله يفتح به القلوب ولو كان الداعية مبتدئ في الدعوة، ويهدي الله على يدي الداعية أناس ولو كان أسلوبه بدائياً جداً في الدعوة بسبب إخلاصه.
نجد أحياناً خطيباً مصقعاً وداعية لا يتوقف في الكلام وأسلوبه ممتاز، لكن لا أحد يهتدي على يديه، كلامه لا يؤثر في الناس، ونجد إنساناً أسلوبه ركيكاً ربما يكون أعجمياً، وإنسان مبتدئ في الدعوة وإنسان ليس عنده خبرة ولا تجربة، لكن لإخلاصه ترى الناس يهتدون على يديه؛ فالإخلاص يفعل الأفاعيل، الإخلاص يثبت العلم في ذهنك ويجعل الله البركة في هذا العلم، ويتناقله الناس، لماذا الآن نجد بعض المصنفات عاشت وبقيت وقيض الله لها من يحييها وطبعت وصارت منتشرة جداً بين الناس، ومصنفات لو طبعوها مليون طبعة تجد أن الناس ما أقبلوا عليها، ولو أخذوها بلا مال لكن لا يقبلون عليها، فيقبل الناس على صحيح البخاري، وفتح الباري، كتب السنن التي ألفها علماء الحديث، وتفسير ابن كثير فهناك شيء يتعلق بإخلاص المؤلف -نحن نحسبهم هكذا والله حسيبهم- فقيض الله لكتبهم هذا الانتشار الذائع وإقبال الناس على هذه الكتب بالذات حتى بقيت مراجع يرجع إليها الناس، كذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والمغني، كتب تجدها مراجع مع أنه قد يكون هناك مصنفات أطول منها وأكبر منها، فالله عز وجل قيض لها أناساً نشروها لإخلاص الذين كتبوها، وقد يكون مؤلفاً صغيراً ينفع الله به، وكلام كثير لا يسمن ولا يغني من جوع.
والداعية عندما يمرض بالرياء فإنه يحطم نفسه وغيره، بل يعيق عجلة الدعوة من التقدم إلى الإمام بخطواتٍ أوسع، بل قد يتضرر الدعاة من حوله بمرضه، ويتعثرون حتى يتخلص هو من مرض الرياء بالتوبة، أو يتخلصون هم منه بالابتعاد أو الإبعاد.(10/21)
الإخلاص في الجهاد
وبالنسبة للجهاد في سيبل الله مر معنا الحديث، كم واحد ذهب إلى الجهاد ليقال عنه: فلان مجاهد، وكم واحد ذهب إلى الجهاد ورجع وهو يقول: فعلت ثم انتقلت، وتجده في المجالس والولائم يطرح تجاربه الشخصية ويقول: عملت وفعلت، بل إنه قد يكتب في الجرائد ويقول: وعملت وفعلت، لكن أين الإخلاص؟ أصلاً كلام بعض الناس يخبرك أنه ليس عندهم إخلاص، ولو كان عندهم إخلاص ما قالوا هكذا، ولتحدثوا عن أعمال الآخرين وما تحدثوا عن أنفسهم: (رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته) كما قال عليه الصلاة والسلام.(10/22)
الإخلاص في التربية
هناك مفاهيم خاطئة طبعاً في التربية سواء في تربية الإنسان لنفسه، أو لأولاده، أو لزوجته، فبعض الناس يصلح الله أولادهم بإخلاصهم، وبعض الناس لا يصلح الله أولادهم ابتلاءً، وبعض الناس لا يصلح الله أولادهم بسبب عدم إخلاصهم، والإخلاص في التربية هو الذي يجعلك تكتشف مواهب الأشخاص وتعاملهم بحكمة، وتعرف اعوجاجهم ولو كان مختبئاً في داخلة نفوسهم، ويكتب الله شفاء أمراضهم النفسية والقلبية على يديك، بالإخلاص في التربية وعدم الالتفاف فقط إلى الوجهاء وإنما نتذكر قصة {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] ولا نفرق بين صغيرٍ ولا كبير، ولا قريب ولا بعيد، والإخلاص يؤدي إلى انتقاء الأتقى للأعمال والمناصب، ويكون انتقاؤك صحيحاً في محله.
وكذلك الإخلاص يجعلك تصل إلى حقيقة المسائل وتصل إلى الحق فيها، وقد يكون فلان أعلم من فلان، لكن هذا الأقل علماً يصيب الحق في مسألة وذلك الرجل لا يصيب، قد يحفظ واحد عشرة أقوال، وواحد يحفظ قولين، أو قول واحد ويكون هو الحق، وذلك الذي يحفظ عشرة أقوال لا يصيب الحق، يعمل بواحد بعيد عن الحق، والسبب الإخلاص.
وكذلك فإن الناس يتأثرون من المخلص، فيخرج كلامه من قلبه ليستقر في قلوب الناس، ويجعل الله لعاداته أجراً وتصبح عبادات؛ كأكله وشربه ولبسه ونومه ونكاحه ونحوها، ويلقي الله في قلوب العباد محبة المخلص؛ لأن الله يكتب له القبول.(10/23)
مفاهيم خاطئة عن الإخلاص
هناك مفاهيم خاطئة يظنها بعض الناس من الإخلاص وليست من الإخلاص.(10/24)
الإخلاص هو التخلص من جميع الإرادات
يظن بعض الناس أن الإخلاص هو أن تتخلص من جميع إراداتك، فأي هدف لك تتخلص منه وأي إرادة لك دنيوية تتخلص منها، ويكون فقط قصدك أن تفنى في مراد الله كما يقول الصوفية: مرتبة الفناء، وهؤلاء الناس مساكين؛ لأنهم يكلفون أنفسهم شططاً، ويصادمون الفطرة، ينادون للتجرد عن الميول والنزعات الفطرية، يقول: يجب ألا يكون عندك هم في النكاح ولا غرض في الوظيفة، ولا تجارة، ولا شيء أبداً من الدنيا وإلا فأنت مشرك، لو صرت نجاراً للعمل أنت مشرك؛ لو رحت تزوجت لقضاء شهوتك أنت مشرك، لو أنك عملت لترتقي في الوظيفة فأنت مشرك، هذه الدعوة من دعاوى الصوفية الضلال، والله خلق البشر لهم إرادات ولهم عزائم، لكن من أراد بعمله وجه ولو كان عمل دنيوي فإن الله يثيبه عليه، وقضية أن نتخلص من جميع الإرادات والهمم لا يمكن أبداً، هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها: (حبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء) سبحان الله العظيم.(10/25)
طلب الثواب الأخروي منافٍ للإخلاص
وكذلك بعضهم يظن أن طلب الثواب الأخروي منافي للإخلاص، فيقول لك: لا تسأل الله الجنة، لا تعمل للجنة، اعمل لله، لا تعمل خوفاً من النار، لا تترك المعاصي خوفاً من النار، وإنما فقط لله، فهم يقولون لو تركت العمل خوفاً من النار وتركت الزنا خوفاً من النار، ولو صليت للجنة فأنت مشرك، ويقولون أشعاراً في هذا ومقولات منها: (ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك) وهذا الشيء عبادة العامة وأن عبادة الخاصة هي لله دون جنة، هذا الكلام أيضاً ضلال، فالله عز وجل قال عن الجنة: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] وحتى على غنائم القتال قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] وهذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعمل لله ويسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار.(10/26)
الإخلاص هو ترك الأعمال الظاهرة أمام الناس
طيب بعض الناس يؤدي بهم طلب الإخلاص لأشياء، منها: أنه يغيب عن كل الأعمال العلنية فلا يصلي في المسجد؛ يقول: رياء، الأفضل أ، أصلي في البيت حيث لا يراني أحد، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، وإذا خرج من بيته يخرج متقنعاً خوفاً من الرياء؟ فأجاب: أن هذا غلو في الدين.
فهذا الإخلاص أدى به إلى ترك الفرائض.
وبعض الناس يترك الأذان، وقد يكون خطيباً يترك الخطبة، وقد يكون يعلم في المساجد ويعظ يترك التعليم والوعظ، ويترك عيادة المريض لأنه سيذهب ويرى الناس موجودين يقول: جاء لعيادة المريض هذا يريد أن يظهر نفسه، وهكذا يتركون أعمالاً من الدين، ويترك الحج والجهاد لأنه يقول: هذا رياء أن أظهر أمام الناس، وهذا ضلال، لأن هناك أعمال تخفى وهناك أعمال لا يمكن إخفاؤها، فالأعمال التي لا يمكن إخفاؤها تتوكل على الله وتخلص فيها وتعملها، فنصلي في المساجد وليقولوا عنا مرائين، وليقولوا عنا ما سيقولوا.(10/27)
ترك أهل الخير بسبب الإخلاص
وكذلك بعض الناس يترك أهل الخير ويقول: أنا إذا صرت معهم أجامل وأسمع الحديث ويرق قلبي، وإذا خلوت بنفسي في بيتي قسا قلبي وما تشجعت للخير مثلما أتشجع معهم، معناها أنا منافق، أنا أمامهم أتشجع ومن ورائهم أتثبط، إذاً لا بد أن أتركهم وإلا انقدح في إخلاصي وصار رياء.
الصحابي حنظلة بن عامر لما قال: نافق حنظلة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو تكونون على الحال التي أنتم عليها عندي -يعني: في بيوتكم تكونوا مثلما كنتم عندي- لصافحتكم الملائكة) فمن الطبيعي أن الإنسان يكون بين الناس مع الصالحين يتشجع للخير ويجلس.
كذلك بعض الناس يخافون من الرياء بشكل كبير جداً، بحيث إنهم يقعون في الرياء، وبعض الناس يعتقد أن تحسين الثياب والنعال ينافي الإخلاص، وبعض الناس يقول: ما يجوز أن أكتم ذنوبي عن إخواني لا بد أخبرهم بكل ما أفعل، حتى تكون واضحة عندهم، فيخبرهم بما ستر الله عليه، وهذا أيضاً غلط والله عز وجل ما أوجب على المسلم أن يفضح نفسه.
كذلك لو أراد أحدهم أن يعمل عمل خير أمام الناس، فنيته لله لكن ليقتدي به الناس، مثل أن يأتي بصدقة عظيمة كي يتتابع الناس بصدقاتهم، فهذا لا يتنافى مع الرياء.(10/28)
كشف حقيقة غير المخلصين
وأخيراً: -أيها الإخوة- فلا بد من محاولة كشف غير المخلصين وتعريتهم، حتى تستبين حقيقتهم للناس، قال عثمان رضي الله عنه: [ما أسر أحدٌ سريرةً إلا أظهرها الله عز وجل على صفحات وجهه وفلتات لسانه] وقال ابن عقيل رحمه الله: [من أراد التكشف عن رجل خطب منه]، يعني: جاءك أحدهم يخطب ابنتك وأنت لا تعلمه قال: [فإنه لا يزال يذكر المذاهب -يعني الهدامة الباطلة- ويعرض بها ويذكر الأفعال الرزية في الشرع التي يميل إليها الطبع وينظر هشاشته إليها وتعبسه عن ذكرها وما شاكل ذلك، فإنه لا يزال البحث بصاحبه حتى يوقفه على المطلوب بما يظهر من الدلائل، فأين رائحة الإيمان منك وأنت لا يتغير وجهك فضلاً عن أن تتكلم؟] هذه من الطرق التي يكتشف بها هل الرجل هذا صالح أم لا، وهل هو مخلص أم لا.
وأخيراً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المخلصين، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
وصلى الله على نبينا محمد.(10/29)
آيات يخطئ فهمها الكثيرون
إن القرآن العظيم هو مصدر الهداية والنور، يهدي الله به من شاء من عباده، وقد أمرنا الله بتدبره والتأمل في آياته، ويسر لنا الادكار به حيث جعله سهلاً ميسراً تفهمه العقول ويلامس شغاف القلوب، ولكن التدبر والتأمل للقرآن ومعرفة أحكامه وحكمه لا بد لها من ضوابط من الشريعة، وفي هذا الدرس يتطرق الشيخ لبعض الآيات التي يخطئ فهمها الكثير من الناس.(11/1)
أهمية تدبر القرآن
الحمد لله الذي جمعنا وإياكم في هذا المجتمع الذي نسأل الله أن يكون من مجتمعات الخير ومغفرة الذنوب، وأن يتجاوز الله عنا وعنكم التقصير والغفلة، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه الليلة إن شاء الله تعالى، موضوع حساسٌ وخطيرٌ في نفس الوقت، لأنه يتعلق -أيها الإخوة- بأغلى شيء عند الإنسان المسلم، أغلى ما يملكه الإنسان المسلم في هذه الحياة، وأعز شيء عنده، بل هو دليله ونوره الذي لا يستطيع السير بدونه، ألا وهو القرآن.
وسيكون محور الكلام في هذا الموضوع الذي سنتحدث عنه متعلق بهذا القرآن العظيم الذي هو مصدر الهداية وإشعاع النور الذي يهدي الله تعالى به من شاء من عباده.
أيها الإخوة: إن الله عز وجل أمر بتدبر القرآن، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمد:24] دعوة للتدبر، أفلا يتدبرون القرآن أم أن القلوب مقفلة؟! {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالناس قلوبهم غفلت عن ذكر الله وعن القرآن، وصار عليها أقفال غليظة من الغفلة والإعراض، فهي لا تنفتح مطلقاً لهذا النور الرباني، والذكر العظيم الذي أنزله الله تعالى، والله عز وجل من رحمته بالمسلمين أنه يسر هذا الذكر للادكار لمن يريد أن يدكر ويتذكر، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:40] أي: هل من مدكر يريد أن يتذكر؟ أيها الإخوة: إن القرآن ليس صعباً بحيث لا تفهمه العقول ولا تدركه النفوس، كلا.
إنه سهلٌ ميسرٌ لمن أراد الله تعالى به الخير، ولذلك كثيرٌ من الناس يفتحون القرآن يريدون أن يفهموا ماذا يحوي، ولكن بسبب الغفلة والجهل المسيطر على أفئدتهم وعقولهم، فإنهم لا يلبثون أن يقفلوا هذا الكتاب، لأنهم لا يعون ما يقرءون، أما من وفقه الله تعالى وقذف في قلبه النور والهداية -نسأل الله أن نكون منهم- فإنهم لا يجدون المشقة، ولا يجدون المستحيل والمعوقات وهم يقرءون كتاب الله لكي يتذكروا ما فيه ويفقهوا معناه.
أيها الإخوة: إن التدبر والتأمل في القرآن وإرادة معرفة المعاني وما اشتمل عليه من الفوائد والحكم والأحكام مسألة لابد لها من ضوابط من الشريعة الإسلامية، وإلا فإن الإنسان المسلم ينحرف بدونها.
ولذلك كان من أسباب ضلال أهل الكتاب ممن كانوا قبلنا أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، والله عز وجل عنفهم على هذا وأنبهم تأنيباً شديداً فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] وقال الله عز وجل أيضاً: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:90 - 91] مفرقة، فآمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الآخر، جعلوه عضين، مقسماً ومجزأ إلى أجزاء، فما وافق هواهم آمنوا به واتبعوه، وما كان مصادماً لأهوائهم وشهواتهم أعرضوا عنه وأغفلوه، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يأخذون هذا القرآن بقوة، ويعرفون معناه، ويطلبون المعنى الذي أراده الله عز وجل، يريدون أن يعرفوا المعنى حتى لا يصبحوا كمن كان قبلهم من أهل الكتاب.
وكذلك كان السلف رحمهم الله في غاية الدقة، والحرص، وفي غاية التحرج وهم يفسرون هذه الآيات، والعلماء الواحد منهم يعلم أنه لو قال برأيه في القرآن فأصاب فقد أخطأ، فكان أحدهم عندما يفسر القرآن يعلم تماماً أنه إذا خاض في آية ليس عنده علم بها أنه سيأثم حتى وإن كان ما قاله صواباً، ولذلك قال ابن كثير رحمه الله معلقاً: أي أخطأ؛ لأنه قد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر، لكنه قد أخطأ، لأنه لم يأت الأمر من بابه.
ليس عنده العدة التي يفسر بها حتى وإن كان كلامه صحيحاً، فهو آثم؛ لأن القرآن لا يصح لأحدٍ أن يخوض في تفسيره وتبيان المراد منه بغير علم وبغير أدلة.
ولذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: [أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!].
وكان ابن أبي مليكة -من كبار علماء السلف - يقول: سئل ابن عباس عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها -لو أحد سئل فيها الآن لأفتى وقال فيها- فأبى أن يقول فيها.
أبى ابن عباس، وابن عباس هو الحبر البحر، إمام أهل السنة في التفسير قاطبةً، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ودعا الله عز وجل أن يعلمه التأويل، فعلمه الله عز وجل أشياء كثيرة، فلما جاء عند آية لم يعرف معناها، رفض أن يتكلم فيها!(11/2)
العلوم التي يحتاجها المفسر
وكذلك- أيها الإخوة- لو أردنا أن نسرد شيئاً من أطراف العلم، أو شيئاً من أنواع العلم التي يحتاج إليها المفسر، لوجدنا علماءنا قد نقلوا أشياء كثيرة، فمنها ما نقله الذهبي المتأخر رحمه الله تعالى المتأخر في كتابه التفسير والمفسرون، قال: العلوم التي يحتاج إليها المفسر كثيرة منها: علم اللغة، وعلم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاشتقاق، وعلم البلاغة بأنواعه الثلاثة: البيان والبديع والمعاني، وعلم القراءات، وعلم العقيدة، وعلم أصول الفقه، وعلم أسباب النزول، وعلم القصص والتاريخ، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأحاديث المبينة لمجمل القرآن ومبهمه.
فإذاً المفسر شأنه عظيم، ليس أي واحد يشتغل بالتفسير، نحن المسلمين ماذا نفعل الآن؟ نحن نقرأ هذا القرآن مفسراً بأقوال علماء السلف، هذا القرآن أنزل نعم، ومن هذا القرآن ما يفهمه العامة كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل هناك أحد لا يفهمها؟ لا.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ماذا تعني لكن {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] قد نحتاج في فهم كلمة (الصمد) إلى الرجوع لأقوال المفسرين والعلماء: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ما المقصود بالفلق؟ {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ما هو (الغاسق إذا وقب)؟ هذه الآيات التي يرددها كثير من المسلمين في صلواتهم بدون معرفة لمعناها، كم شخص الآن من الذين يقرءون هذه الآية: {غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] يعرف ما معناها؟ قلة.
أيها الإخوة: لا بد من الرجوع إلى أقوال العلماء في التفسير، وإلا لضللنا ضلالاً بعيداً بدون أقوال علماء التفسير، ولا يمكن أن نتقدم خطوة إلى الأمام في فهم القرآن.
أيها الإخوة: هناك علماء عندهم العدة فهم يفسرون، وهناك أناسٌ من طلبة العلم ومن عامة الناس الذين أراد الله تعالى بهم الخير يقرءون القرآن وتفسيره على ضوء أقوال علماء المسلمين المتخصصين في هذا المجال.
إذاً: لا بد أن يفتح المسلم قلبه لهذا القرآن، وأن يعي معناه، وأن يتعلم تفسيره حتى يستطيع أن يسير على نور من ربه.
أيها الإخوة: لابد أن يدخل المسلم منا عالم القرآن الكريم بدون مقررات سابقة، وبدون مؤثرات سابقة، وبدون فلسفات وثقافات سابقة، لا بد أن يدخل المسلم ساحة القرآن الكريم وصدره خالٍ من أي شيء سابق؛ حتى يشكل القرآن خلفية هذا المسلم ويكون له فكره، ويكون القرآن هو الذي ينشئ معرفة المسلم، وثقافته وقيمه وموازينه ومعاييره، وإلا فإن الأمور ستضطرب.
ومن الأمثلة على هذا: هؤلاء الناس الذين ضلوا من قبلنا ودخلوا عالم القرآن وعندهم قواعد فلسفية من علم الكلام والمنطق وما شابه ذلك، فنزلوا آيات الله على أشياء لم يردها الله عز وجل، وضلوا ضلالاً بعيداً.(11/3)
أسباب الضلال في فهم القرآن
إذا أردنا أن نستعرض معكم جزءاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنها- أيها الإخوة- ترجع إلى عوامل كثيرة منها:(11/4)
الزيغ في العقيدة
الزيغ في العقيدة، فالإنسان إذا كانت عقيدته منحرفة ودخل في فهم القرآن، فإنه لا بد أن يضل في القرآن، ولذلك تجد طوائف كثيرة ممن انتسبوا إلى الإسلام عندما دخلوا في القرآن وعندهم قواعد سابقة من الضلال في العقيدة، انحرفوا انحرافاً كبيراً، ولا أدل على ذلك من استدلال كافة الفرق المنحرفة لصحة مذاهبهم بالقرآن، حتى ولو كانت استدلالات مضحكة، هؤلاء المعتزلة يستدلون على صحة مذهبهم بأن إبراهيم قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48] قالوا: بما أن إبراهيم اعتزل إذاً الاعتزال هو الصحيح، ومذهب المعتزلة هو الحق، وهؤلاء الرافضة وغيرهم من الفرق المنحرفة عندما دخلوا في القرآن بقواعدهم الفاسدة، أفرزوا إفرازات غريبة عن المنهج الإسلامي.(11/5)
اتباع الهوى
وإذا أردت سبباً آخر من أسباب الضلال في فهم القرآن، فإنه: اتباع الهوى: اتباع الهوى بكافة فروعه وأنواعه، فمن الناس من يكون اتباعهم للهوى في فهمهم للقرآن ناتجاً عن التهجم على كتاب الله والجرأة عليه بغير علم، كل واحد يظن نفسه أنه سيفتي ويفهم القرآن على كيفه، ويقول: أنا أفهم، وأنا مجتهد، وهكذا يدخل ويفسر يميناً ويساراً، وتجد التخبط الشديد في هذا الجانب، وأمثلة كثيرة في هذا المجال لعل الوقت يتسع لذكر بعضها، ومنهم من يحمله الهوى على محاولة تبرير أخطائه هو لتشهد الآيات عليها، يعني: هو إنسان مخطئ ومذنب ومقصر، فيأتي إلى القرآن يبحث عن آيات يحملها على محمل لكي تبرئه وتظهره أمام الناس بأنه إنسان مستقيم وغير مخطئ، ولا مقصر- كما سيمر معنا أمثلة من هذا.(11/6)
أخذ بعض القرآن وترك بعضه
كذلك- أيها الإخوة- من أسباب الضلال في فهم القرآن: أخذ بعضه وترك بعضه، وكما ذكرنا قبل قليل أن أحدهم يأخذ آية ويترك آيات.
وإذا ما جمعنا النصوص من مذهب أهل السنة والجماعة عن طريقتهم في فهم القرآن والسنة تجد العالم النحرير عندما يطرق موضوعاً لا يأتي له بآية واحدة إلا إذا لم يكن يوجد غيرها في هذا الباب، أو حديث واحد، ولكنه يجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب، لأن الآية ربما تتكلم عن جانب من الجوانب، ولا تتكلم عن جانب آخر، أو آية تتكلم مثلاً عن فترة معينة نزلت، ثم نسخت بآية أخرى، فيكون الاستدلال بالآية الأولى المنسوخة فيه ضلال، لأن هذا الرجل لم يجمع الآيات في الباب الواحد، فيكون فعله مثل الذي يأخذ قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ويسكت عن الباقي ويفعل كما فعل أبو نواس عندما قال:
ما قال ربك ويلٌ للألى سكروا وإنما قال ويلٌ للمصلينَ
ما قال الله ويلٌ للذين يسكرون، وإنما قال: ويل للمصلين، يعني: نحن لا نصلي ونسكر!! فإذاً- أيها الإخوة- أخذ بعض الكتاب وترك بعضه من أسباب الانحراف والزيغ الذي وقع فيه كثير من الطوائف السابقة واللاحقة.(11/7)
الهزيمة النفسية أمام الغرب الكافر
كذلك: الهزيمة النفسية أمام الغرب، من العوامل التي تحمل بعض المسلمين على الدخول والخوض في القرآن ونفسيتهم متصفة بالهزيمة أمام الكفار، أمام الغربيين وغيرهم، فيأخذ يستنتج من القرآن كل شيء، يريد أن يثبت للناس أن القرآن فيه كل شيء، وأنه سبق الأمم في العلوم، وأن فيه جميع أنواع العلوم إلخ، كما فعل طنطاوي جوهري وغيره من الذين انحرفوا في هذا المجال.
فهذا أيضاً من أسباب الضلال في فهم القرآن، والشاطبي رحمه الله بين في كتابه الموافقات قواعد عظيمة للاستنباط والفهم واستخراج الأحكام وكذلك في كتاب الاعتصام أيضاً، وينبغي لمن أراد التوسع في هذا المجال أن يرجع إلى هذه الكتب.(11/8)
أمثلة على الفهم الخاطئ المؤدي إلى العمل الخاطئ
واعلموا -أيها الإخوة- أن عدم الفهم الصحيح يؤثر على التطبيق تأثيراً مباشراً، إذ أن الخطأ في الفهم يقود إلى الخطأ في التطبيق.
لماذا نحن الآن نركز على مسألة كيف يفهم القرآن فهماً صحيحاً؟ ونحن الآن لم نتوسع فيها وما ذكرنا جوانبها المتشعبة، بل ذكرنا لمحة بسيطة، لكن ما هي أهمية الموضوع؟ الذي لا يفهم القرآن فهماً صحيحاً لا يطبق تطبيقاً صحيحاً، وينعكس فهمه الخاطئ إلى فهمه العملي انعكاساً مباشراً، فتنتج هذه الانحرافات والخرافات في الفهم والتصور والعمل والتطبيق.(11/9)
قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)
فإذا أردنا مثالاً فلنأخذ بعض الأمثلة على آيات يخطئ في فهمها الكثير من الناس، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] ماذا يفهم الآن كثيرٌ من المسلمين من هذه الآية؟ إن هذه الآية أيها الإخوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] صارت معتمداً للكسالى والقاعدين والمقصرين في باب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتبرها هؤلاء الناس عذراً لهم في القعود عن القيام بواجب التبليغ والدعوة إلى الله، وقال كل إنسان منهم: عليك نفسك، لأن الله قال: عليكم أنفسكم، عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، ما دام أنك تطبق الشرع ما عليك من الناس، هكذا يفهم من هذه الآية.
فعند هؤلاء المنحرفين هذه الآية تجيز لكل مسلم في مفهومهم أن يلتزم بالطاعة هو، وأن يبتعد عن المحرمات هو، وأنه إذا فعل هذا، فقد أدى الواجب الذي عليه، وأن الله لا يريد منه أكثر من هذا، وأنه ليس عليه أن يدعو الآخرين، ولا أن يدلهم ويهديهم هداية الإرشاد والدلالة، وأن كون المجتمع فاسداً والناس منحرفين لا يضر، لأن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] هكذا يفهمون.
أما إذا جئت معي إلى المفهوم الصحيح الذي ذكره علماؤنا في تفسير هذه الآية، فإنك ستجد الأمر مختلفاً تماماً، وستجد عندما ترى الصورة الصحيحة يتبين لك مدى الانحراف الحاصل في فهم هذه الآية عند كثير من المسلمين، يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي تفسير ابن كثير -مثلاً- نجد قولين أساسيين في تفسير هذه الآية: فمن العلماء من يقول أن هذه الآية خاصة بظرف معين، أي كما قال بعض علماء السلف: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ولم يستجب لك، ولم تطع، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت.
إذا أنت قمت بالواجب، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وما سمع لك الناس، وما استجابوا لك، فعند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وكذلك يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: " إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت".
إذاً: هذه الآية خاصة بظرف معين وهو إذا كان الناس لا يستجيبون، وصار الوقت وقت فتنة، ويدخل في هذا الأوقات والظروف التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يصدع بالحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيقتصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القلب في بعض الأحيان عندما تشتد الظروف على المسلمين في بعض الأوقات والأحوال، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، إذا فسد الناس وفسد المجتمع، وصار الوضع أن يخرج الإنسان إلى الجبال -كما سيحدث في آخر الزمان- فتكون أحسن أحوال المسلم أن يأخذ قطيعاً من الغنم ويخرج خارج هذا المجتمع، لأنه لم يعد يجد على الخير أعواناً، ولا يمكن أن يبقى، لأنه سينحل ويفسد لو بقي في المجتمع، هذا حال آخر الزمان، وقد يحدث جزءٌ من هذه الحال في بعض الأوقات والأحيان، ولكنها تتغير، لأن الله عز وجل يغير الظروف، ويداول الأيام بين الناس، ولله الأمر من قبل ومن بعد، فيكون المسلمون في حالة ضعف يعقبها حالة قوة، ثم حالة ضعف، ثم حالة قوة، وأحياناً يكونون في مكان قوة، وفي مكان ضعف في نفس الوقت: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
المعنى الثاني وهو فقه مهم، يقول الله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] هل تتصور -يا أخي المسلم- أن تهتدي ويصير اسمك مهتدياً إذا اهتديت وأنت لا تأمر بالمعروف، ولا تنهى عن المنكر، ولا تدعو إلى الله، هل يكون اسمك مهتدياً؟ لا طبعاً.
إذا كنت صالحاً في نفسك فقد حققت جزءاً من الهداية، لكنك لم تحقق الهداية كلها، لأنك لا يمكن أن تصير مهتدٍياً تماماً إلا إذا قمت بهذا الواجب العظيم، فعند ذلك نستطيع أن نفهم: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] إذا اهتديتم: سرتم على الهداية بجميع فروعها، ومنها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند ذلك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، وما عليك إلا نفسك، أنت لا تحاسب إلا عن نفسك: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
الأمر الثالث: أنه يجب أن نجمع كل الآيات والأحاديث في هذا الباب قبل أن نستنبط عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا جمعت الآيات الأخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] وإذا اطلعت على هذا الحديث الصحيح عن قيس بن أبي حازم، قال: (قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) [المائدة:105] وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بالعقاب).
أيها الإخوة: إن أخذ الموضوع من جميع جوانبه، والاستشهاد بالآيات والأحاديث بعمومها هو الذي ينجي الإنسان من هذه المآزق التي يقع فيها، ولابد أن نقوم بالواجب كاملاً: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] ثم إن هذه الآية لسان حالها يقول لكل مسلم: عليك نفسك أصلحها وأبعدها عن المعاصي، حسناً كيف نبعد النفس عن المعاصي ونحن نترك الناس في الفساد يرتعون ويمرحون كما شاءوا، يعني: هل يمكن أن تصلح نفسك وأهلك الذين أنت مكلفٌ بإصلاحهم والمجتمع من حولك فاسد؟ لا يمكن.
إذاً إصلاحك لنفسك ولأهلك يستلزم أن تصلح المجتمع، وتسعى في إصلاح المجتمع؛ لأنك لا يمكن أن تصلح نفسك في بيئة فاسدة، هل أنت تعيش لوحدك في قمة جبل ليس عندك أحد حتى تصلح نفسك بدون مؤثرات خارجية؟ لا يمكن.
فإصلاحك لنفسك أيضاً: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] يتطلب ويتضمن أن تسعى في إصلاح البيئة التي من حولك.
فهذه الآية -أيها الإخوة- تأمرنا بالعمل في المجال الخاص وهو الإقبال على النفس، وتربية النفس وإصلاحها؛ لتستقيم على طاعة الله، وتبتعد عن معصية الله، وكذلك تأمرنا بأن نعمل في مجال العامة، وهو الإقبال على الآخرين ووعظهم ونصحهم وتذكيرهم بأمر الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.(11/10)
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
تعال معي إلى آية أخرى، وانظر كيف يكون سوء الفهم، وعدم الفهم الصحيح للآية قائداً ودليلاً إلى سوء التطبيق -والعياذ بالله- يقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16].
ماذا يفهم الآن كثير من المسلمين من هذه الآية؟ إنهم يفهمون أن التقصير في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات، والترخص في بعض الأحكام، نأخذ من الرخص مما هب ودب، والتفلت من بعض التكاليف، هذا ليس فيه شيء، لأن الله قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] يعني: إذا استطعت على بعض الأشياء، لا بأس أن تأخذها، وإذا لم تناسب الظروف ولم تساعد الأحوال، لا بأس أن تترك بعض الواجبات، وتتفلت من بعض الأحكام، وإذا وقعت في بعض المنكرات، فلا بأس أيضاً وهكذا، ويبرر هؤلاء الناس حالهم بهذه الآية، فيقولون: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
كثير من الناس تناقشه في الواقع الفاسد، يقول: يا أخي! {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهذه استطاعتي.
إذاً: عندما تأتي لتفهم هذه الآية: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] إنها تعني -يا أخي المسلم- كما يقول ابن كثير رحمه الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] يعني: بحسب وسعكم وطاقتكم.
انظر! الفرق في الفهم عندما تفهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وعندما تفهم اتق الله ما استطعت، يعني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً اتق الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) على قدر الاستطاعة، ما استطعت إلى تنفيذ هذا الأمر سبيلاً، طبق والتزم ما استطعت، وليس معنى ما استطعت هنا أي: كم في المائة تطبق لا بأس، لا.
ما استطعت، يعني: على قدر كل استطاعتك، كل قدراتك، تتقي الله عز وجل، لا تفرط ولا بشيء من استطاعتك في طاعة الله مطلقاً.
وإذا تذكرنا الآية الأخرى وهي قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] كيف يتقي الإنسان حق التقوى إلا إذا اتقى الله بقدر استطاعته وقدر جهده؟! كل ما عندك من جهد، وكل ما عندك من إمكانيات واستطاعات اتق الله عز وجل، فهذا يحمينا من الانحراف الذي يقع فيه كثير من المسلمين في فهمهم القاصر لهذه الآية مما يترتب عليه تفاوتهم في الالتزام بالإسلام؛ لأن كل واحد يقول: هذه استطاعتي، الثاني يقول: لا.
أنا أقدر، وكلهم يستطيعون، لكن كل واحد يأخذ على حسب هواه.
فيتفاوت التزامهم بالإسلام نتيجةً لفهمهم الخاطئ لهذه الآية وغيرها، فيقدم كل منهم صورة مختلفة عن الإسلام، ويتحول الإسلام عملياً إلى إسلامات، لأن كل واحد يعمل على قدر فهمه، يعني: على حسب الظروف، ويتحول الإسلام في واقعه العملي إلى صورة مشوهة جداً، كل واحد يفعل على مزاجه، ويطبق على مزاجه، ويقول في النهاية: هذه استطاعتي، ثم يزعمون أنهم على الحق، وأن القرآن يشهد لفعلهم.
كذلك -أيها الإخوة- ليس الشخص هو الذي يحدد مقدار استطاعته، وإنما الشرع هو الذي يحدد لك مقدار استطاعتك، فإذا فرض الله عليك الصلاة، معناها أنك تستطيع أن تصلي في الظروف العادية غير الحالات الطارئة، وإذا فرض الله عليك الزكاة وأنت عندك مال، يعني: باستطاعتك أنك تزكي مادام عندك مال، وهكذا.
فالشرع هو الذي يحدد الاستطاعات العامة، ولكن في نفس الوقت هناك أناس معذورون لأعذار قاهرة، هؤلاء أعذارهم بينها الشرع الحنيف، ولم يترك شيئاً إلا وبينه.
وكذلك نفس الموضوع هذا عندما تكلم الكثير من الناس عن واقع المنكرات التي يعيشونها ويحيون فيها، يقولون لك: يا أخي! {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] تقول: يا أخي! هذا العمل وهذه الوظيفة لا تجوز، هذا الراتب الذي تأخذه من هذه الوظيفة حرام؛ لأن عملك هذا فيه منكر، أنت تعمل في منكر، يقول: يا أخي! أين أحصل على غيره؟ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
فتجده يحتج بهذه الآية على تقصيره وإهماله وتفريطه في حق الله عز وجل.
وعندما تأتي معي إلى سبب نزول هذه الآية ينجلي عنك الإشكال والغموض واللبس تماماً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (لما نزلت على رسول الله ((لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)) [البقرة:284] إلى آخر الآية، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق -الصلاة والصيام والزكاة والصدقة، ما عندنا في ذلك إشكال- وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -يعني: ((وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)) [البقرة:284] سواءً أسررته، أو أعلنته يحاسبكم به الله- فقالوا: يا رسول الله! أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها -في نوع من الجرأة كان في كلامهم رضي الله عنهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين -اليهود والنصارى- سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا) ما دام أن الله أنزل عليكم هكذا، قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، واسألوا الله المغفرة على هذا التقصير الذي يحصل منكم، {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] ثم انظر إلى العبارة التي ستأتي الآن، وقد عبر عنها الراوي بعبارة دقيقة وجميلة جداً، يقول: (فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285] وأنزل الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]) نزل التخفيف، كان من أول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] سواءً أظهرت النية السيئة، أم لم تظهرها، ما دام أنها جاءت في نفسك، سيحاسبك الله عز وجل عليها، ويسجل عليك سيئات، فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، استسلموا لأمر الله، قالوا: ما دام أنها نزلت من عند الله، سمعنا وأطعنا.
انظروا -أيها الإخوة- كيف إن الله عز وجل يكافئ المطيع على طاعته، فلما أطاع الصحابة الله عز وجل، نزل التخفيف، فقال في الآية: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: نعم.
لا يؤاخذهم إن نسوا، أو أخطئوا: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال: نعم.
{رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] قال: نعم {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] قال: نعم.
فنزلت الرخصة، ونزل التخفيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب طاعتهم لله عز وجل.
وهذا -أيها الإخوة- من فضل الصحابة، وهذا التصرف كان سبباً في نزول التخفيف، وصارت الآن القضية لو جاء في نفسك خاطر سوء، لكنك لم تنفذه فلا تعاقب عليه بعد التخفيف بل: (من هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله له حسنة).
انظر! التخفيف، كانت القضية من أول: لو جاء في نفسك خاطر سوء، تأثم ولو لم تفعله، وصارت المسألة بعد ذلك -في التخفيف- لما اقترأها الصحابة وذلت بها ألسنتهم إذا همت نفسك بالسيئة وهممت بها ولم تعملها يكافئك الله عز وجل بالحسنات، لأنك ابتعدت وتركت المنكر والسيئة لأجل الله عز وجل، وهذا من فضل الله على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.(11/11)
قوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
كذلك عندما تأتي معي إلى آية أخرى، يقول الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] يؤخذ هذا الشطر من الآية اليوم عند المسلمين {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فإذا رأوا مجاهداً في سبيل الله يخوض غمار الحروب، قالوا: ألقى بنفسه في التهلكة، مجاهد يذهب في سبيل الله ويشق صفوف العدو، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهكذا في الدخول في غمار الأجواء التي ترضي الله عز وجل، ويكون فيها خطر على النفس، يقولون: ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولم يعرفوا كيف نزلت هذه الآية، ومعرفة سبب النزول يقود إلى أخذ الفكرة الصحيحة المطلوبة من هذه الآية.
هذه الآية -أيها الإخوة- نزلت كما روى الترمذي رحمه الله بإسناد صحيح يقول الراوي: (كنا في حرب مع الروم فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم، أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن نافع، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين -شخص واحد فقط- على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، فقال: يا أيها الناس! إنكم تأولون هذه التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها) الصحابة قالوا في فترة من الفترات بعد فتح مكة، أو بعد ما انتشر الإسلام، قال هؤلاء الصحابة في أنفسهم: الآن الحمد لله انتشر الإسلام، وكثر المناصرون للإسلام، وأموالنا نحن في غمار الجهاد والتضحيات السابقة تلفت، وصار الواحد منا ليس عنده ما ينفق على نفسه، ليس عنده أموال ولا زرع، وما عنده بيوت، فالآن الحمد لله الدنيا صارت بخير وانتشر الإسلام، صار في مركز قوة، فنلتفت نحن إلى أموالنا فنصلحها، وهذا الكلام سر فيما بينهم، وهذه خاطرة يعني: قد تكون طبيعية في هذا الجو، أناس تعبوا وجاهدوا وقاتلوا وضحوا سنوات طويلة جداً حتى انتشر الإسلام، فجاء في أنفسهم هذا الخاطر، لو الآن أقمنا والتفتنا إلى أحوالنا، فأصلحناها.
فهنا -أيها الإخوة- ينزل الله هذه الآية العظيمة لكي يربي المسلمين على مبادئ كبيرة جداً، فيقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] فيقول الصحابي رضي الله عنه: (وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سيبل الله حتى دفن في أرض الروم).
أيها الإخوة: انظروا كيف إن المسلمين يستدلون بها على أي شيء، وهي نزلت في أية مناسبة؟ فرق كبير جداً، فالآية لا تتخيل، ولا تتصور إلا بعد أن تعرف سبب النزول فإذا عرفت سبب النزول، فهمت أن الله يريد أن يربي المسلمين على الاستمرارية في التضحية، لا تقول: أنا جاهدت ودعوت عشر سنوات، عشرين سنة، دعني الآن أشتغل في التجارة، وأتفرغ لنفسي وأحوالي المعيشية، والحمد لله الآن الدعاة كثروا، بعض الناس عندهم هذا المفهوم، يقول: الحمد الله الآن الدعاة كثروا، والإسلام بخير، والصحوة الإسلامية منتشرة، وأنا لي الآن فترة طويلة أدعو وأضحي، فدعني الآن ألتفت إلى تجارتي ومعيشتي أنشغل بها فيما بقي من عمري، وأصلح أحوالي وأحوال أسرتي.
هذه الحالة منافية للحالة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المسلم.
فالإنسان المسلم -أيها الإخوة- داعية ومجاهد على طول الخط، وفي طول الطريق يبقى مضحياً في سبيل الله، ويبقى عطاؤه وإنفاقه مستمراً في سبيل الله لا يتركه لحظة واحدة، ومتى ما ترك ذلك فقد هلك وانتهى؛ لأن الشخص الذي ينتقل من أجواء الدعوة والتضحية والبذل والعطاء إلى جو الأموال والمتاع الدنيوي، يقضى عليه تماماً، وينسى حتى الأشياء الأساسية، النفس تغفل، إذا انشغلت بالدنيا انتهت.
فلذلك الله يأمر المسلمين بالاستمرارية في العطاء، صحيح أن الإسلام انتشر، لكن ما زال هناك أناس لم يصل إليهم الإسلام، ما زال هناك جهاد في سبيل الله، ما زال هناك مجالات للإنفاق، لا تقل أنا أشتغل بنفسي، وأترك الإسلام ينتشر لوحده، أو الأجيال الجديدة التي ظهرت الآن هي التي تتحمل، فأنا أقدم استقالتي، وأترك هذا العمل الإسلامي، كلا.
إن هذه القضية خطيرة جداً تعود بالوبال على من يفكر فيها لحظة واحدة وينقلها إلى مجال التطبيق، فهؤلاء الذين يبررون قعودهم عن أداء الواجب، ويرون الرخص في عدم الجهر بالحق والصدع بالأمر وتبليغ الدعوة، أحياناً تطلب الدعوة تبليغ الحق يكون فيه أذى عن النفس، ويكون فيه شدة ومشقة، فيأتي الشيطان يقول للإنسان: يا أخي! لا تلق بنفسك إلى التهلكة، لماذا تذهب تصدع بالحق وتجر الأذى على نفسك، وتفعل وتفعل؟ لا، الآن الحمد الله الناس بخير والصحوة الإسلامية منتشرة، أنت الآن لا تصدع، فيبرر لهؤلاء الكسالى المتقاعسين القعود عن التضحية والعمل من أجل الإسلام.
والآية -أيها الإخوة- ترد على هذه المزاعم: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
فأنفق يا أخي! أنفق مالك في سبيل الله، أنفق وقتك في سبيل الله، أنفق جهدك في سبيل الله، اجعل تخطيطك ومخططاتك أيضاً فيها حظ كبير للدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وتربية النفس وتربية الناس ونشر الخير بين المسلمين بدلاً من أن تجعل كل مخططاتك وتخطيطك كلها دنيوية بحتة، ماذا أفعل غدا؟ وكيف أقيم مشروعاً؟ وكيف أكسب؟ وكيف أزيد دخلي؟ وهكذا؛ لأن من صدق الالتزام بالإسلام أن يكون شغلك الشاغل وتخطيطك للمستقبل فيه تفكير لأمور الإسلام والمسلمين، لكن أكثر المسلمين اليوم تجد تفكيراتهم المستقبلية كلها دنيوية لا يفكر بأحوال المسلمين ماذا ستكون، ماذا يمكن أن نقدم في المستقبل، كيف أطور نفسي، ما هي الأساليب الجديدة في الدعوة إلى الله، كيف أدخل في آفاق جديدة ومجالات لم أتطرق إليها من ذي قبل، كيف أصعد من همتي ونشاطي في الدعوة إلى الله.
إذاً: لا بد أن تكون حتى أفكارنا ومشاعرنا، وآلامنا وآمالنا كلها من أجل الإسلام ومصلحة المسلمين، فلابد أن ننفق حتى الأفكار والمشاعر، وحتى الآمال والتطلعات والتخطيطات، وحتى الأموال والجهد والوقت، لا بد أن ينفق هذا كله في سبيل الله.
ويقول ابن كثير رحمه الله في هذه الآية بعدما فسر الآية ونقل أقوال السلف: ومضمون الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر أوجه القربات وأوجه الطاعات، وخاصةً صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوي المسلمين على عدوهم، ويقول: والإخبار- يعني: هذه الآية تتضمن أيضاً- أن ترك ذلك هلاكٌ ودمارٌ إن لزمه واعتاده.
فنسأل الله أن يجعلنا من الذين ينفقون أوقاتهم وأعمارهم وأموالهم في سبيل الله عز وجل.(11/12)
قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)
فإذا أتيت معي إلى آية أخرى، وهي قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].
هذه الآية -أيها الإخوة- يحارب بها بعض المسلمين، أو المتمسلمين كثيراً من الدعاة إلى الله عز وجل، وينتقدونهم ويرفضونهم ويخطئونهم لنصحهم الناس ودعوتهم الناس إلى الخير، ويأخذون عليهم جهرهم بالحق، لماذا؟ لأنهم يخالفون -بزعمهم- هذه الآية، فتجد أحدهم يأتي إليك ويقول: يا أخي! لماذا تنكر على الناس المنكرات؟ ولماذا تكلم الناس عن هذه المعاصي؟ ولماذا تصدع بالحق؟ ولماذا تجهر به؟ أما قال الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]؟ فالناس عندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن تسكت عن تبيين الحق، وعندهم الحكمة والموعظة الحسنة أن الإنسان إذا جلس في مجلس يعصى الله فيه يسكت ولا يتكلم ولا كلمة؛ لأنه يقول: هذه حكمة، الآن عندما أسكت حكمة؛ لأني لو تكلمت كرهوني وانتقدوني وعابوني، فإذاً أسكت، فيعتبر هذه حكمة.
والناس الآخرون لو تكلم، قالوا: أين الحكمة في الدعوة؟ فيثبطونه ويقعدون به عن المضي في صراط الله المستقيم، فما كانت هذه أبداً في شرع الله عز وجل، ما كان حضور المنكرات والانفعال فيها ومشاركة الناس فيها أبداً من باب الحكمة والدعوة بالموعظة الحسنة مطلقاً، والله عز وجل يأبى هذا ولا يرضاه، وشريعة الله لا تقر هذا بأي حال من الأحوال.
وما كانت -أيها الإخوة- الحكمة والموعظة الحسنة عند السلف في يوم من الأيام أن يرضى الإنسان المسلم الدنية في دينه، ويرضى مواقف الذل في حياته، ويشارك أعداء الإسلام، ويتنازل عن تشريعات كثيرة، وأحكام كثيرة من أحكام الدين باسم المرونة، أو التطور وما شابه ذلك، فالآن الناس يفسرون ويقولون: كن مرناً، الحكمة والموعظة الحسنة أن تكون مرناً، ليس هناك داع أن تنكر وتلتزم بكل هذه الأشياء، فيجعلون التفلت من الالتزامات الإسلامية، والسكوت عن الحق والمداهنة هو الحكمة والموعظة الحسنة.
وعندما ترجع إلى التفسير تجد أن القضية مختلفة تماماً، فيقول ابن كثير رحمه الله ناقلاً عن ابن جرير: الحكمة هي ما أنزله الله على رسوله من الكتاب والسنة.
هذه هي الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].
وهذا طبعاً لا يعني أنك عندما تعرض الكتاب والسنة على الناس أن تترك الأشياء المساعدة لك في الدعوة إلى الله، كالقول المناسب في الوقت المناسب بالقدر المناسب والأسلوب المناسب، فإن هذا من تكملة الحكمة ومن تفريعاتها ومن مستلزماتها ومتضمناتها، والحكمة أساساً هي: الكتاب والسنة، لكن هذا يتضمن دعوة الناس إلى الكتاب والسنة، فلابد أن تنتقي القول المناسب وتنتقي الوقت المناسب، وتنتقي الأسلوب المناسب بالقدر المناسب والتدرج المناسب، وهذا لا ينافي الشريعة مطلقاً، بل إن هذا أمر مطلوب، وتدعو إليه الشريعة، وأحوال الرسل والأنبياء.
والموعظة الحسنة- كما يقول ابن جرير رحمه الله- أي: ما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا من بأس الله.
يعني: بالموعظة الحسنة ادعهم بما يرقق قلوبهم من ذكر النار وعقاب الله عز وجل والعذاب، ومصائر الأمم الغابرة التي أهلكها الله تعالى، رقق قلوبهم حتى بآيات الجنة وآيات الثواب، وآيات الرحمة والمغفرة، استخدم هذه الأشياء التي ترقق القلوب، المهم أن ترقق القلوب، هذا هو استخدام الموعظة الحسنة.
فانظر -رحمك الله- إلى فهم الناس للآية والفهم الإسلامي الصحيح، تجد الفرق شاسعاً نتيجة التصور الخاطئ، لم يكلفوا أنفسهم بفتح كتاب واحد من كتب التفسير المعتمدة، وإنما أطلقوا العنان لأهوائهم في حمل هذه الآيات على المحامل المختلفة التي ليس من شأنها إلا تثبيط المسلمين وتبرير الأخطاء.(11/13)
قوله تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً)
أيضاً إذا جئت إلى قول الله عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] يقول الله لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] الآن ماذا يحصل نتيجة الفهم الخاطئ لهذه الآية؟ الذي يحصل -أيها الإخوة- أن الناس صاروا يخلطون بين مضمون الإسلام وبين الأسلوب، أو المنهج الذي تعرض به حقائق الإسلام، ما معنى: {قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44]؟ أي: يكون أسلوب الإنسان في الخطاب ليناً، درجة الخطاب، مستوى الخطاب، القالب الذي تقدم به الحقائق وليست الحقائق نفسها، فالقالب الذي يقدم به الحقائق والصورة التي تعرض بها الحقائق، والإطار -اختيار الألفاظ والمفردات والتراكيب والعبارات- هذا لين، هذا مأمور فيه باللين واختيار الألفاظ والتراكيب والعبارات والجمل التي تدل على الموضوع، هذا الذي فيه لين، أما أن نقول: إن الحقائق نفسها هي التي نلين فيها فهذا من الضلال، والعياذ بالله! فالآن الناس ينقلون هذا المفهوم: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] ينقلونه من الأسلوب إلى المضمون، المفروض أن يكون الأسلوب ليناً، وليس المضمون يعني: أنت الآن إذا عرضت حقيقة من حقائق الإسلام، حكم معين بأسلوب ما، فقال الشخص الآخر: لا.
أنا أرفض هذا الحكم، هل تقول: حسناً يا أخي ليس هناك مانع، الزنا ليس حرام، حسناً ليس هو حراماً، بعض الناس سبحان الله! كما يقول صاحب الظلال رحمة الله تعالى عليه، يعني: يعرضون أحكام الإسلام على الناس كأنهم يربتون على أكتافهم ويتدسسون إليهم بالإسلام تدسساً.
يعني: كأن الواحد منهم خجلان من الأحكام التي يقولها للناس، ولذلك هو يعرض شيئاً، ويترك شيئاً، ويعلن شيئاً، ويخفي أشياء، وهكذا يتدسس تدسس كأن أحكام الإسلام عار وخزي وخجل.
فهذا -أيها الإخوة- من الضلال، فمن أكبر الانحرافات في الدعوة إلى الله أن نخلط بين الرقة في الأسلوب واللين في الحقائق والمضامين، فإن هذه الأمور إذا اختلطت صار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، وصارت أحكام الإسلام كلها مرنة من هذه المرونة الشيطانية التي كلها تنازل عن حقائق الإسلام، وتغيير وقلب للأمور وتسميتها بغير مسمياتها كلها انطلاقاً من هذه الأفهام الخاطئة لمثل قول الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] أو {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44].(11/14)
قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
كذلك -يا أخي- إذا جئت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] ماذا تجد في الواقع؟ تجد أن الناس غالباً يحتجون بهذه الآية في احتجاجات خاطئة، مثلاً: عندما يرون داعياً إلى الله عز وجل يدعو الناس، ويتعب ويبذل الجهد، يأتي شخص من هؤلاء المخذلين والمثبطين فيقول: يا أخي! لماذا تتعب نفسك؟ لماذا تدعو؟ ولماذا تنصح؟ يا أخي! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] اترك الناس، تريد أن تهديهم بالقوة؟! أعرض عن هذا واشتغل بأي شغل آخر وهكذا.
من واقع ماذا؟ يقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وهو يخلط تماماً وليس عنده أصلاً أي فكرة في التفريق بين هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق، وهذا الجهل أصلاً في الفرق بين أنواع الهداية، وهو الذي يعرض الناس للوقوع في هذه المزالق، والإنكار على الصالحين بمثل هذه الآيات، يقول: لماذا تتعب نفسك وليس هناك فائدة؟ بل إنه أحياناً تجد أن العاصي الذي تدعوه وصاحب المنكر إذا جئت تذكره وتنصحه، يقول لك: تريد أن تهديني بالقوة؟! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] سبحان الله! يأتي بهذه الآية ويضعها ستاراً ويدافع بها عن نفسه يقول: تريد أن تهديني بالقوة؟! {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
يا أخي! الهداية بيد الله، وتقول لهذا الرجل من الناس الذين طبع الله على قلوبهم فأصمهم وأعمى أبصارهم: انظر في سبب النزول دائماً، فإنها من الأمور المهمة جداً، كيف نزلت هذه الآية؟ وفيمن نزلت؟ وما مناسبة النزول؟ روى الإمام مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة -عم الرسول صلى الله عليه وسلم- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمِ! قل لا إله إلا الله كلمةً أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب -آخر كلامه-: هو على ملة عبد المطلب) اختار الكفر-والعياذ بالله- لأن الناس هؤلاء يضغطون على رأسه.
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فهو خشي الملامة والمسبة، وخشي أن يعيره الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، ومات، فماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وأنزل الله في أبي طالب -هذه تكملة الرواية-: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]) أنزلها الله في أبي طالب فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] هل هذه الآية نزلت قبل أن يبذل الرسول جهداً في دعوة أبي طالب؟ هل نزلت هذه الآية بعد أن قطع الرسول مرحلة في دعوة أبي طالب؟ متى نزلت الآية؟ نزلت بعد أن استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم جهده كله في دعوة أبي طالب بالليل والنهار، سراً وعلانيةً، بل حتى على فراش الموت، نزلت هذه الآية بعدما شعر الرسول صلى الله عليه وسلم بنوع من الحزن والندم لمصير هذا الرجل، قال الله عز وجل له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] بعدما استفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم وسعه وطاقته في دعوة أبي طالب نزلت هذه الآية، فانظر كيف يستخدمها الآن هؤلاء المغفلون المغرضون في حجب النور عن الناس، وتثبيط الدعاة إلى الله.(11/15)
من نتائج الفهم الخاطئ للقرآن(11/16)
أخذ تصورات خاطئة عن أقوام من البشر
كذلك -أيها الإخوة- عدم فهم بعض الآيات فهماً صحيحاً يؤدي إلى أخذ تصورات خاطئة عن أقوامٍ من البشر، مثال: يقول الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82] كثيرٌ من المسلمين الآن يقولون: الآية هذه تقول أن النصارى يحبوننا لأن الله قال: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].
وهذه الآية -للأسف- يستخدمها المبشرون استخداماً رهيباً في الكلام مع المسلمين لإزالة الحواجز التي ترسخت بفعل العقيدة الإسلامية الصحيحة، يأتي بعض المبشرين الآن ويقولون للمسلمين وهم يخاطبونهم: نحن وإياكم شيء واحد، نحن نحبكم ونودكم، وما نقول هذا الكلام من عندنا، لا.
إن قرآنكم يقول هذا، لأن الله يقول: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] فإذاً نحن وإياكم أصحاب، ونحن وإياكم شيء واحد، ونحن بيننا علاقات وجسور قوية ومتينة من المحبة والمودة- يضحكون على المسلمين- وكذلك بعض المسلمين يلين للنصارى كثيراً ويشاركهم في معتقداتهم، ولا ينكر عليهم، بل لا يكلف نفسه حتى بالنصح لهم، لماذا؟ لأنه رأى الآية: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].
فأين منشأ الخطأ؟ الخطأ أن هذا الرجل الذي فهم هذا الفهم لم يتأمل قول الله كاملاً، وإذا كنت تريد معرفة الرد، فانظر إلى تكملة الآيات التي بعدها: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] من أين أتت هذه المودة؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].
فإذاً أول شيء أنتج هذه المودة عدم الاستكبار، وهو الاستكبار الذي يمنع قبول الحق.
ثانياً: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة:83] رسولنا صلى الله عليه وسلم: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83] هل النصارى الآن يفعلون هذا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]؟ ليس هذا فقط، ليس فقط لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترى أعينهم تفيض من الدمع، لا، وإنما أيضاً: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] يعني: دخلوا في الإسلام: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:84] هذه تكملة الآيات: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} [المائدة:85].
إذاً- أيها الإخوة- هذا الصنف من الناس هم أقرب مودة للذين آمنوا، يعني: الآيات هي التي تحكي هذا: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].
إذاً هو صنف معين من النصارى عرفوا الحق وآمنوا به، ليس عندهم استكبار، هؤلاء أقرب الناس، وسيدخلون بعد ذلك في الإسلام، هؤلاء هم أقرب مودة للذين آمنوا، وإلا فإن واقع النصارى اليوم والواقع السابق أيضاً الواقع الأسود والحملات الصليبية التي خاضت فيها خيول النصارى في دماء المسلمين إلى ركبها في فلسطين وغيرها عندما دخلوها وقتلوا المسلمين، وما حدث في الأندلس المفقود عندما دخله الأسبان النصارى، وما يحدث اليوم من النصارى ضد المسلمين في أنحاء العالم، إنه أمر يهز الإنسان المسلم هزاً.
وأفيدك -يا أخي- بأن هؤلاء لا يزالون في عداوة شديدة للإسلام والمسلمين، وأن حالهم أبداً لا يقارن ولا يقارب شيئاً مطلقاً من الأحوال التي ذكرها الله عن صفات هؤلاء النصارى.
إذاً لا بد أن يعرف المسلم عدوه، وألا يخلط الأمور، وألا يلبس عليه وألا يفهم خطأً.(11/17)
يوقع في حبائل أهل الهوى
كذلك أيها الإخوة: عدم الفهم الصحيح للقرآن يوقع المسلم في حبائل أهل السوء، ويجعله يقع أيضاً في الحرام وتتلبس عليه الأمور.(11/18)
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا)
مثلاً: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] كثيرٌ من الناس اليوم يقولون: الله نهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفةً كأن يؤخذ (50%) أو (100%) أو (300%) هذا هو المحرم، أما إذا أخذنا شيئاً بسيطاً، كأن يؤخذ (5%) أو (7%) أو (3.
5%) فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه الله يقول: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] يعني: الأضعاف المضاعفة هذه هي التي منهي عنها، لكن هذه النسب البسيطة ليس فيها شيء ولا تدخل في الآية، من أين أتي هؤلاء في سوء النتيجة التي وصلوا إليها؟ أولاً: لم يعرفوا هذه الآية نزلت في أي شيء، هذه الآية نزلت -أيها الإخوة- تنكر واقعاً ربوياً قد تعارف عليه العرب في الجاهلية، العرب في الجاهلية كان الواحد منهم إذا استلف من الآخر نقوداً ثم جاء موعد السداد ولم يؤد الذي عليه مع النسبة الربوية مثلاً، يقول له الشخص الآخر صاحب المال: أؤجلك سنة وأضاعف عليك النسبة، وتأتي السنة التي بعدها ولم يستطع الأداء، يقول له: أؤجلك سنة أخرى وأضاعف عليك النسبة، فهذه الآية في بيان فساد هذا الواقع: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] كلما عجز عن التسديد، أعطى له زيادة في المدة مع مضاعفة الربا، لكن الله يقول في آية محكمة أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة: 278] ثم يقول مهدداً: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279].
فإذاً - أيها الإخوة - الاحتجاج بهذه الآية ونسيان الآيات الأخرى، وعدم معرفة هذه الآية نزلت في تبيان أي واقع من الأمور يسبب الانحراف عن منهج الله والوقوع في المحرمات.(11/19)
الشعور بتناقض القرآن
كذلك يؤدي عدم فهم بعض الآيات إلى الشعور بأن القرآن فيه تناقض، مثال: روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ، قال: وما هو؟ -كان يجد أشياء متناقضة- قال: وما هو؟ قال: قال الله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] يعني: الله سبحانه وتعالى ذكر في آية حالة من الحالات لا يتساءلون، وفي حالة أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور:25] فهذا فيه تناقض، فكيف؟ فقال ابن عباس ورضي الله عنه وأرضاه: [فلا أنساب بينهم في النفخة الأولى -ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون- ثم في النفخة الثانية: أقبل بعضهم على بعض يتساءلون].
فإذاً هذه آية وردت في حال وهذه في حال آخر، إلى آخر المناقشة، وهي مناقشة جيدة ينبغي الرجوع إليها لمعرفة كيف يكون أحياناً عدم فهم الآيات مشعر لبعض المسلمين بالتناقض في القرآن مع أنه ليس هناك تناقض، وإنما التناقض في فهم هذا الشخص.(11/20)
اعتقاد مخالفة القرآن للوقائع
أحياناً يؤدي عدم فهم القرآن إلى الاعتقاد بأن القرآن مخالف للحقائق التاريخية، يعني مثلاً: يأتي واحد ويستعرض قول الله في سورة مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] هذا الكلام يوجهه إلى من؟ إلى مريم، ومريم بعد هارون الذي كان مع موسى بمئات السنين، وربما بآلاف السنين، فكيف يقول قومها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم:28] وهارون الذي كان مع موسى بينه وبين مريم آلاف السنين؟ كيف صارت أخته! هذا الإشكال أورده نصارى نجران لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم المغيرة بن شعبة، فلما قدم عليهم، قالوا له: إنكم تقرءون: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم) يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: هارون هذا غير هارون أخي موسى، حيث كان بنو إسرائيل يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين، مثلنا نحن الآن نسمي إبراهيم على اسم النبي إبراهيم، نسمي صالحاً على اسم النبي صالح وهكذا، فبنو إسرائيل هكذا أيضاً، فقال هذا هارون الذي أخته مريم ليس هو هارون أخا موسى، هذا هو الرد ببساطة.
وقال بعض المفسرين: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] يعني: أخته في الدين، حتى لو كان هارون ذاك أخا موسى.
وقال بعضهم: حتى لو كان هارون ذاك، فإنها تحمل على: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] يعني: أخته في الشبه في العبادة، الآن بعض العامة يقولون: هذه السيارة أخت السيارة هذه، ماذا يقصد؟ هل يعني أختها بالنسب؟ لا، ولكن بالشبه، يقولون: هذه أختها بالضبط، يعني: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:28] يا شبيهته بالعبادة، ولكن القول الأول الذي فسره صلى الله عليه وسلم هو الأولى، ولو كانت باقي الأقوال تصح في المعنى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها تفسيراً واضحاً جلياً.(11/21)
فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس
كذلك -أيها الإخوة- الفهم الخاطئ لآيات القرآن يؤدي إلى فقدان المعايير الصحيحة للحكم على الناس، وقد يوضع أناس في غير منازلهم التي هم عليها حقيقة، مثال: يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ويقول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] الآن الناس يستشهدون بها على أن هؤلاء العلماء الكفار الذين في الغرب عندهم خشية لله، لأن الله مدحهم وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
هؤلاء علماء الفلك وعلماء الطب، وعلماء الأرصاد وعلماء وعلماء إلى إلخ، وبعضهم يضل ضلالاً أكثر ويفهم الآية بالعكس، يقول: الله يخاف من العلماء، يعني: العلماء عندهم سلطان وعلم، فلذلك الله يخشى منهم، وهي الآية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ} [فاطر:28] لفظ الجلالة مفعول به {مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] والعلماء هم الفاعل، فالفاعل الذي يخشى هو العلماء، وهو فاعل مؤخر، ولفظ الجلالة مفعول به مقدم، يعني: إنما يخشى العلماءُ اللهَ، فهذا الأصل.
وهذه جاءت في القرآن لمعانٍ بلاغية كبيرة.
من هم العلماء الذين يخشون الله؟ علماء الشريعة وليسوا علماء الفلك والطب وعلماء العلم الدنيوي، علماء الشريعة هم الذين يخشون الله، وإلا فهناك علماء كبار في الذرة والفلك ما نفعهم علمهم، وإنما قادهم إلى تشغيل مخترعاتهم فيما يدمر البشرية، وما يعود على الناس بالوبال وبسائر الأمور الشريرة.
فإذاً يجب أن نفهم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] حتى إن بعض السلف قال: العالم هو كل من خشي الله، كل من خشي الله فهو عالم، يعني: عالم عنده علمٌ بالخشية، نفس الشيء: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
ومن الناس الآن من أخذ شهادة -مثلاً- في حقل الهندسة، أو الطب، أو الفلك وترى مكتوباً على الشهادة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وشهادات التقدير الدراسية التي تمنح في التفوق في الرياضيات والإنجليزي وكذا مكتوب عليها: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
فهل المقصود في الآية هذا؟ لا طبعاً، لما ترجع إلى تفسير السلف إلى هذه الآيات، تجد {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فمن هم الذين يعلمون؟ صفتهم في نفس الآية {سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هؤلاء الذين يعلمون؛ لأن الله قال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] هؤلاء الصنف: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فهم الذين يعلمون.
أيها الإخوة: لو لم يفهم هذا فإننا سوف نفسر القرآن ونضع هؤلاء الناس الذين عندهم علم الدنيا في المنازل العالية، ونفسر الآيات بناءً على هذا، وهذا من القضايا الخطيرة.(11/22)
اتهام الأنبياء بما لا يتصوره مسلم
كذلك قد يؤدي أحياناً عدم الفهم لآيات القرآن الكريم إلى اتهام الأنبياء بأشياء لا يمكن أن يتصورها مسلم صحيح العقيدة، يخشى الله ويعظم قدر الأنبياء.
فمثلاً: قصة إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:75 - 78].
فالآن بعض المسلمين يفهمون أن إبراهيم مر في حياته في فترة تردد وحيرة وضياع، وما كان يعرف أين الله، ولذلك مرة يقول على الكوكب هو الله، ومرة يقول على الشمس الله، وتخبط حتى اهتدى في الأخير إلى التوحيد.
والله عز وجل يقول: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [آل عمران: 67] ما كان ولا في يوم من الأيام: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران:67] طول عمر إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، ولا يمكن أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو رجلاً لا يعرف الله، ولا يعرف أين ربه.
فإذاً كيف نفهم هذه الآيات؟ لما نرجع إلى التفسير، نجد أن علماءنا قالوا: إبراهيم عليه السلام كان يناقش قومه ويجادلهم، فلو قال لهم: هذا الكوكب ليس هو الله من أول مرة، ما استطاع أن يفحمهم؛ لأن آل إبراهيم كانوا يعبدون الأصنام، وكذلك كانوا يعبدون النجوم والكواكب والشمس والقمر، فإبراهيم أراد أن يفحمهم بأسلوب عجيب يجب أن يتعلم منه كل داعية، حيث كان مع قومه في مناسبة، فخرج كوكب، قال: هذا ربي، ليس اعتقاداً من إبراهيم، إنما تنزلاً معهم في المجادلة والنقاش، وهذا أسلوب معروف في النقاش، وهذا مثلما نقول نحن الآن على فرض أنه كذا، فكذا وكذا وكذا، وإن كان هذا الفرض خاطئ ولا يمكن أن يحصل.
فهذه كانت طريقة إبراهيم، قال: هذا ربي، فلما غاب -وهو يعرف إبراهيم أن الكوكب سيغيب- قال: لا أحب الآفلين، يعني: لا يمكن أني أحب إله يغيب، والقمر نفس الشيء، والشمس وهي الأكبر، قال: هذه أكبر، الآن هذه ربي، فلما غابت، قال: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] هذه أسلوب في العرض، يتنزل معهم في النقاش حتى يوصلهم إلى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام:79].
وأيضاً يونس عليه السلام نبي كريم من أنبياء الله، وقد جاء في آية: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] كيف يفهم الآن الناس: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]؟ هم يفهمون أن يونس ذهب مغاضباً، وفكر أن الله لا يقدر أن يأتي به، فكان جزاؤه أن التقمه الحوت، فجلس ينادي في الظلمات، فهم يفسرون قوله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أنه فكر أننا لن نقدر على الإتيان به.
وفعلاً -أيها الإخوة- هذه من الأمثلة على أنه لا بد من الرجوع إلى كتب التفسير ومعرفة أقوال العلماء، ترجع إلى كتب التفسير فتجد أن (نقدر) هنا ليس من القدرة وهي الاستطاعة، بل الفعل: نقدر ماضيه: قدَر وليس قدِر، قدِر يعني: استطاع، وإنما قدَر يعني: ضيق، ولذلك يقول الله في القرآن: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] الذي ضيقنا عليه في الرزق ينفق على حسب استطاعته وما عنده، وكذلك: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] فقوله تعالى: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:16] أي: ضيقه.
فماذا يكون معنى الآية؟ معنى الآية أن يونس ذا النون لما صار في بطن الحوت- ابتلاء من الله ليعظم الدرجات له في الجنة، ظن يعني: أيقن، فهي قد تأتي بمعنى أيقن، وقد تأتي بمعنى شك، وهي هنا بمعنى: أيقن، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] يعني: متأكد أني ملاقٍ حسابيه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] يعني: أيقن أننا لن نضيق عليه في بطن الحوت، وأننا سننجيه ولن نضيق عليه ولن ننساه، وسنجيب دعاه، فلذلك نادى، وإلا لو أنه ظن أنه ليس هناك أمل، لماذا قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]؟ لم يكن هناك فائدة من الدعاء، ولكن لأن هذا النبي الكريم يعلم بأن الله لن يقدِر عليه، لن يضيق عليه في بطن الحوت، فلذلك نادى في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].(11/23)
إخضاع الآيات القرآنية لمخترعات الكفار
إذاً: أيها الإخوة! المنعطفات والمزالق كثيرة في قضية فهم الآيات، ومن هذه المزالق والمنعطفات قضية الفتنة التي حصلت بهذا العلم التجريبي عند الكفار، مما جعل بعض المسلمين يتهافتون تهافتاً على إخضاع الآيات والأحاديث لنظريات الكفار، فنتجت عن هذه أشياء عجيبة جداً مذهلة، هذا مصطفى محمود يقول: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14] هذا يؤيد نظرية دارون، في أن الإنسان أصله خلية، وبعد ذلك صار برمائيات وزواحف وثدييات، وبعد ذلك صار قرداً، وبعد ذلك صار إنساناً، لأن الله يقول: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:14] يعني: كان في طور من أطواره خلية، ثم صار برمائياً، وطور صار فيه زواحف، وطور صار فيه ثديات، هذا فهمه، وله كتاب خطير جداً القرآن محاولة لفهم عصري كله من هذه الخرافات والشعوذات، هكذا فهم خلقناكم أطوار، مع أن المفهوم الصحيح لخلقناكم أطواراً نطفة، علقة، مضغة، عظاماً، فكسونا العظام لحماً، هذه الأطوار، وهذه خطورة عدم الاعتماد على أقوال المفسرين من السلف، حيث أدى إلى هذه النتيجة الوخيمة.
وأحدهم قال: أما تدري أن المكيف موجود في القرآن؟ كيف يكون المكيف موجوداً في القرآن؟! قال: أليس الله يقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يعني: من الداخل رحمة وبرودة، ومن خارج عذاب وحر، يعني: هذا المكيف موجود في القرآن، هذا يوم القيامة يضرب بين الكفار والمؤمنين بسور له باب داخله فيه الرحمة: الجنة ومما يلي المؤمنين، ومن قبله العذاب مما يلي الكفار، هذا السور الذي يضرب بينهم، فهذا الأخ يقول: ورد المكيف في القرآن.
وأحدهم يقول: الطائرات موجودة في القرآن؟ كيف؟ قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] الطائرات النفاثات في القرآن.
وأحدهم يقول: الذرة هذه مكتشفة: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:8].
أيها الإخوة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:35] أحد المؤلفين له كتاب فيه، قال: هذه تدل على أشعة الليزر، وظل يقول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] وأن أشعة الليزر تتولد من مصباح في زجاجة، وتوضع في فهو مثل الكوة، وتخرج أشعة لا هي شرقية، ولا هي غربية، ويؤلف تأليفاً كله من هذا الباب العجيب.
ولذلك أختم كلامي بقول الشنقيطي رحمه الله -وهو مهم جداً في هذا الموضوع- في أضواء البيان: واعلم وفقني الله وإياك أن التلاعب بكتاب الله جل وعلا وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء الكفرة والإفرنج -مثلما فعل هذا في نظرية دارون وغيرها- ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا والآخرة، وإنما هو فساد الدارين، ونحن إذ نمنع من التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه نحض المسلمين على بذل الوسع في تعلم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
وهذا كلام نفيس جداً، يقول: نحن لا نخضع الآيات، لكننا نقول للمسلمين ادرسوا وتعلموا هذه العلوم حتى تنصروا بها الدين.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من القارئين لكتاب الله، اللهم اجعلنا ممن يقرءون كتابك فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهه، واجعلنا ممن يقيم حدوده وحروفه، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، واجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، واجعله حجةً لنا لا حجةً علينا بحولك وقوتك يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(11/24)
كلمات الأغاني في ميزان الشريعة
إن الإباحية اليوم والانحلال قد طغتا على معظم الأمة؛ ومن أهم أسباب ذلك الأغاني والمجون والتغزل بالنساء من قبل الفنانين والفنانات، فقد عثر على كلمات فيها كفر وردة عن الدين، وشرك بالله وعبادة لغيره سبحانه، ولهذا أتى الشيخ بأمثلة ونماذج تبين ذلك الكفر البواح والارتداد عن الدِّين.(12/1)
حكم الغناء والمعازف في الشريعة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
إخواني: لقد عرفنا في بعض الخطب الماضية حكم الغناء في الإسلام، وأنه حرام حرام، وذكرنا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة في تسميته سبحانه وتعالى للغناء بلهو الحديث الذي أقسم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه الغناء، وأن الله لما قال: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] أن المفسرين قد ذكروا في صوت الشيطان أن منه الغناء.
وكذلك سماه الله: (سموداً) فقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59 - 61].
فهو: الغناء بلغة حمير، من أهل اليمن، وهو الصوت الأحمق الفاجر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وكذلك هو الصوت الملعون، صوت المزمار الذي ذكره عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر.
وكذلك فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد تأففوا منه، ولما مر ابن عمر بقومٍ يغنون وهم في حجٍ قال: [لا سمع الله لكم] وسد الصحابي أذنه لما مر بزمارة راعٍ احتياطاً منه رضي الله عنه، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
وكذلك أخبر عليه الصلاة والسلام: (أن هذه الأمة ستستحل الحر والحرير والخمر والمعازف) وهو حديث صحيح بلا ريب.
واستحلال الحر يعني: الزنا، وكذلك الخمر والمعازف معروفة؛ ما هي إلا أدوات الموسيقى المنتشرة التي تكون في كل مكان تقريباً.
عباد الله: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن قوماً من أمته سيبيتون على لهوٍ ولعب ومعازف، وأن الله تعالى سيخسف بهم ويسقط عليهم جبلاً يكونون تحته، ويمسخ منهم قردةً وخنازير؛ وكل هذا الوعيد يدل على تحريم ذلك.
كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الكوبة -وهي: الطبل- ونهى عن كسب الزمارة، وذكرنا كذلك كلام الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم في تحريم الغناء، وأنه يشتد إذا كان بصوت امرأة، ويشتد إذا رافقه معازف وصوت الموسيقى، وأن حضوره حرام، والاستئجار للمغني والمغنية حرام إلى آخر الكلام الذي مضى ذكره عن أهل العلم رحمهم الله تعالى في ذلك.
ووعدنا بالكلام عن كلمات الأغاني في ميزان الشريعة.
أيها الإخوة: لقد كنت أظن بُرهة من الزمن أن كلمات الأغاني فيها خطورة كبيرة، وفيها مخالفات شرعية كثيرة، ولكن لما طلبنا من بعض الإخوان أن يأتوننا بما يعرفون من كلمات الأغاني التي سمعوها فيما مضى من دهرهم وعمرهم.(12/2)
خطر كلمات الأغاني
وبعد المراجعات (المقرفة) لبعض دواوين المغنين، واستبياناً قمنا به مع بعض الشباب التائهين؛ تبين أن الأمر أخطر بكثيرٍ مما نتصور، والتصور السابق شيء وما يطلع عليه الإنسان في البحث شيء آخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) فإنك قد تسمع عن شيء لكن إذا رأيته بنفسك اختلفت النظرة عندك.
لقد وجدت في كلمات الأغاني -بعد الفحص والمراجعة وما جلبه هؤلاء الإخوان- درجات الكفر بجميع أنواعه، والشرك الأكبر والأصغر والخفي، وأنواع المعاصي من الكبائر والصغائر، والمحادة لله، وأريد أن أعرض لكم بعضاً مما اطلعت عليه ليكون في ذلك عبرة، ولنعلم -جميعاً- بأن قضية الأغاني ليست قضية طرب فقط -مع أن الطرب بها محرم- ولكنها قضية خطيرة، ومدخلٌ من مداخل إبليس لإدخال الشرك والكفر والانحلال إلى أوساط المسلمين.
إن المسألة أخطر مما نتصور يا عباد الله! إن هذه الكلمات التي ترددها الأجيال؛ يرددها الصغار والكبار بهذه الأشرطة المنتشرة التي هي بالملايين بين الناس ذكوراً وإناثاً تخرب في النفوس تخريباً لا يعلم مداه إلا الله.
وإني أستسمحكم وأستعذركم في ذكر بعض هذه الكلمات على منبر خطبة الجمعة؛ لأن المسألة فيها أشياء عجيبة من الكفر والانحلال.(12/3)
أمثلة على الأغاني الإباحية
لعلك تتصور نفسك وأنت تستمع لبعض هذه المقاطع أحياناً أنك في جو الأغنية، ولكن انقل لنفسك -أيها المسلم- وخصوصاً يا من تستمع إلى الأغاني إلى جو الكتاب والسنة، لتقارن بين هذا وبين ما هو موجود في كلام الرب والرسول صلى الله عليه وسلم.(12/4)
مغنون لا يعرفون سبب وجودهم في الدنيا
عباد الله: لقد وجدنا أن في كلمات الأغاني -التي يغنيها المشاهير من المغنين والمغنيات- كفراً صراحاً وردةً معلنة عن دين الله تعالى.
كان مما غنوه قصيدة الشاعر النصراني:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
كيف أبصرت طريقي لست أدري
ولماذا لست أدري لست أدري
لقد غنوا الأغنيات ذات الأشعار التي تبين أنهم لا يعرفون سبب وجودهم في هذه الدنيا، ولا يعرفون أبعد هذا الموت بعثٌ أو نشور، أو أنه يكون هناك الإهمال والترك، وتكون هذه النهاية بكلماتها الفصحى وغير الفصحى، عبروا عنها في أغنياتهم، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
لقد وجدنا في كلمات الأغاني أن هؤلاء القوم يكتبون الكلمات ويغنونها ويلحنونها، فالشاعر كاتب الكلمات، والملحن لها، والمغني ثلاثة في النار، وهم شركاء في الإثم؛ لأنهم يقدمون هذا السم ويعرضونه.
* تقول قائلتهم أم كلثوم التي طرب بها الملايين، وأعجبوا بها، واستمعوا الساعات الطوال: لبست ثوب العيش ولم أُستشر.
* ويقول الآخر التافه الهالك: لو كنت أعلم خاتمتي ما كنت بدأت.
هل أنتم تحيون وتموتون كما تريدون؟ وتأتون إلى الدنيا متى ما أردتم وعندما تشاءون؟ وتفعلون ما تشتهون؟ أم الله هو الذي يأتي بكم؟ وهو الذي يحييكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون؟!! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] وهؤلاء يقولون: لبسنا ثوب العيش ولم نستشر.
ومن الذي سيستشيركم؟ وهل لكم رأيٌ؟ ومن أنتم حتى يكون لكم رأي؟(12/5)
عبادة المحبوب
ثم وجدنا في كلمات الأغاني -أيها الإخوة- الصراحة في عبادة المحبوب، وأنه لأجله يعيش في هذه الدنيا، ويصرح بأنه مخلوق في الدنيا من أجله، وأنه يعيش من أجله، ويقول: * عشت لكي وعلشانك، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
تقول: * أنا جئت إلى الدنيا من أجلك ومن أجل حبك، هكذا جاءت إلى الدنيا ولأجل هذا خلقت! ويصرح بعضهم بصرف أنوع من العبادة إلى المحبوب أو المحبوبة: وهو التوبة.
فيقول قائلهم:
أتوب إلى ربي وإني بمرةٍ يسامحني ربي إليكِ أتوب
ورأيت أنكِ كنت لي ذنباً سألت الله ألا يغفره فغفرتِهِ
هذا الذي يقولونه من صرف التوبة إلى غير الله تعالى، فهو يعبد المحبوبة ولأجلها يعيش، وهذا غرضه من الدنيا، ولها يتوب وإليها، ولا يسأل ألا تغفر فتغفر، أو أن تغفر فلا تغفر، والله هو الذي يغفر: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] فإليه يتاب سبحانه، قال الله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] وتقديم حرف الجر هنا: (إليه) يفيد الحصر، أي: إليه التوبة لا إلى غيره: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] حصر التوبة فيه سبحانه وإليه عزوجل ومنه المغفرة لا من غيره.
وهم يستخدمون ألفاظ التوحيد والدين في العلاقة بالمحبوب والمحبوبة وهكذا يعبرون.
ومنهم من شيعه الملايين من المسلمين مشوا في جنازته.
ويعبرون: أحب حبيبي، وأعشق حبيبي، وأعبد حبيبي.
وتقول القائلة: وحبك عليَّ أكبر فريضة؛ أكبر فريضة هي الحب! ويقول القائل: الله أمر لعيونك أسهر، الله أمر.
{قُل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].
إذاً! يعبرون بأن الله أمر بالحب الحرام للمحبوبة، وأمر بأن يسهر من أجل عيونها، وذلك تكذيب ومنافاة ومضادة صريحة لما أمر الله تعالى به: {قُل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].(12/6)
في الغناء: العشق والمحبة عبادة
ويقول الآخر:
أريد ودك جمراً ولا أطيق رماده
قلت المحبة عندي لو تعلمين عباده
الحب في الشرع فرضٌ على الجميع ارتياده
يقول: لابد لكل أحدٍ أن يحب، ومحبتها هذه عنده عبادة، فيتقربون إلى الله بالكبائر والمعاصي.
ويقول الآخر في أغنيته: أنا عبدكِ أنا عبدكِ! ومنزلة العبودية أرفع المقامات وأعلاها، ولأجل ذلك سمى الله محمداً صلى الله عليه وسلم في القرآن عبداً في أربعة مواضع لم يسمه ولم يطلق عليه ولم يصفه إلا بهذه الصفة؛ صفة العبودية؛ لأن العبودية هي كمال المحبة مع كمال الخوف والخضوع والذل لله رب العالمين، فيجتمع فيها محبةٌ وخوف ورجاء، وكمال الخضوع والذل، وهذه هي العبودية، ثم يقول قائلهم: حبك عبادة، وحبكِ عبادة، وأنا عبدكِ أو أنا عبدكَ، ونحو ذلك من الألفاظ.
والله قد سمى المخلصين من خلقه عباداً له، وشرفهم بإضافتهم إليه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63].
فالعبودية منزلة عظيمة، لكن في أي شيء جعلها هؤلاء!(12/7)
في الغناء: الاعتداء على الأنبياء
لقد اعتدوا على ذات الله وشرعه، وعلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتدوا على أنبياء الله.
فهذا أحدهم يقول في صبره على فراق المحبوب، أو المحبوبة: صبرت مثل صبر أيوب.
والآخر يقول: أيوب ما صبر صبري.
والنبي الكريم أيوب هو الذي مسه الضر فنادى الله تعالى، فقال الله عز وجل عنه: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:83 - 84] قال العلماء: أخفى ولم يظهر الطلب وأظهر النداء، فقال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فكشف الله تعالى ما به من ضر، ابتلاه سنوات طويلة، فصبر ذلك النبي الكريم على بلواه، وشكا أمره إلى الله، فاستجاب له مولاه، وكشف عنه الكرب الذي أصابه وحلَّ به، وهذا يقول: أيوب ما صبر صبري! اعتداءٌ فاحش على رسل الله تعالى وعلى أنبيائه.(12/8)
في الغناء: اعتداء على الله ورسوله
بل قد حصل الاعتداء على كتاب الله؛ فلحنوا آيات من القرآن، منها سورة {إِذَا زُلْزِلَتْ} [الزلزلة:1] وعبثوا فيها ولعبوا، حتى قصار السور حصل فيها تلحين والغناء لها نصاً أو مقاطع، وبعضكم يعلم ذلك، فما بقيت حرمة للدين إلا واعتدى عليها هؤلاء المغنون.
وبعض الأغاني الشعبية فيها سب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفيها وصف لله تعالى -تعالى الله عن أقوالهم- بأوصاف شنيعة، وأنه سبحانه يشاركهم الغناء والطرب، وأنه يعمل معهم ذلك -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- فماذا بقي أيها الإخوة؟!(12/9)
في الغناء: سب للقدر
أما عقيدة القضاء والقدر ولوم الرب، فيقول بعضهم: ليه القسوة ليه؟ ليه الظلم ليه؟ ليه يا رب ليه؟ فهذا فريد الأطرش يتهم الله صراحة بالظلم والقسوة، والله يقول: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] لا نقول لله: ليه، ولا لماذا: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23].
أليس هذا كفراً أيها الإخوة؟! أليست هذه الأغنية قد استمع لها الملايين في ما مضى، ولا زالت تسجل وتسمع فيما بقي من التراث السابق بين الحين والحين وهكذا يفعلون، وهو الآن تحت الأرض، الله أعلم ماذا يفعل به؟ ذهب القوم وماتوا، وبقيت أغنياتهم حسرة عليهم، بها يعذبون، وعليها يؤاخذون ويحاسبون، والله أعلم كيف سيكون مصيرهم يوم الدين، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(12/10)
في الغناء: الاستعداد لدخول النار
ثم إن منهم من يصرح بأنه مستعد للذهاب إلى جهنم مع محبوبته:
يا تعيش وياي في الجنة يا اعيش وياك في النار
بطلت أصوم وأصلي بدي أعبد سماكِ
لجهنم ماني رايح إلا أنا ويّاك
يصرحون بأنهم يختارون بين الجنة والنار:
يا تختار الجنة يا تختار النار
علشانك أنتِ انكوي بالنار وألقح جثتي
وأدخل جهنم وانشوي واصرخ واقول يا لهوتي
هذا نص كلام غنائهم وما يقولونه، فيتمنى أحدهم أن يذهب مع المحبوب ولو إلى النار.
وماذا يوجد في جهنم؟ {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29].
تشوى جلودهم في النار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7].
تكشف القلوب من حرها، وتصطلي القلوب ناراً لشدة عذابها: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12].
لهم نصيب من العذاب {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة:37] {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36] {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة:35] {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُم} [محمد:15] {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29] {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
هذا الذي أردته واخترته مع محبوبتك، ولو إلى جهنم!: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].(12/11)
في الغناء: استحلال للمحرمات
ويصرح قائلهم بأنه قبَّلها في الصباح، فقالت: تفطر يا هذا والناس صيام، قلت لها: أنتِ الهلال، والصوم بعد الهلال حرام فهي الهلال عنده، وأفطر في يوم الصوم؛ لأنه يرى بأنها هي هلاله، وأن الصوم بعد رؤية الهلال حرام.
ويصرحون بأنه إذا لم تحل له محبوبته على دين محمد أخذها على دين المسيح بن مريم؛ وهل كان دين المسيح عيسى بن مريم يحل الزنا؟!! ويقول قائلهم: صوتك ذكرياتي وعزي وصلاتي.
ويقول قائلهم: فكانت حلالاً لي ولو كنتَ أو كنتِ محرمي.
لو كانت من المحارم لاستحلها وهي عزته وصلاته، وهي هلاله، وهي التي يفطر عليها.
هكذا صارت المحبوبة.
يا جماعة! هذه الأشعار التي تقال وتغنى هي السم الناقع، والبلاء القاطع لهذه الأعناق يوم الدين.
فيا قوم إنما فتنتم بهذا الغناء، وبهؤلاء المغنين.(12/12)
الغناء وسوء الخاتمة
ويصرح بعضهم بأنه سيطري ذكرها في سكرات الموت، ويقول: قلت أهواكِ وأفضل هواكِ، أو أهواك بين سكرات الموت بطريكي إذاً: سيطري ذكرها في سكرات الموت.
وأنا أقول: إن هذا كلامٌ صحيح، فالذي يفتن بالشيء ويغرم به ويحبه إلى النهاية ويفتن به يذكره عند سكرات الموت.
ولذلك أخبر العلماء من قصص الواقع: أن بعض المرابين ممن فُتن بالربا وعمل به، كان يقول عند موته: عشرة بأحد عشر، عشرة بأحد عشر.
وأن بعض التجار الذين ألهتهم تجارتهم عن الصلاة وذكر الله كان يقول عند موته: هذه سلعة رخيصة، هذا مشتراها رخيص، هذه بكذا وكذا.
وأن بعض من فتن بالنساء كان يقول عند موته:
رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ
فهو قد عشق جاريةًَ أتت إلى الحمام العمومي ولا زالت في مخيلته حتى مات كمداً وعشقاً، وهو لا يزال يلهج بذكر محبوبته.
وبعض الذين ماتوا في حوادث السيارات كانوا في الرمق الأخير يرددون مقاطع من الأغاني، أشلاؤهم قد اختلطت بحديد السيارات ملقون في الطرقات بعد الحوادث، يتلفظون ببعض المقاطع من الأغاني.
وهكذا كل من شغف بذكر شيءٍ ذكره في أحلك اللحظات؛ وأحلك اللحظات في حياة المرء هي سكرات الموت: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم هون علينا سكرات الموت) فهو عندما يقول ذلك فهو كلامٌ صحيح يقر به أن يطري ذكراها في سكرات الموت، وكيف تكون نهايته؟! وكيف يقابل ربه؟!(12/13)
الغناء والشهادة
لقد ميعت المعاني الفاضلة في الشريعة، والرتب العالية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70] هذه هي المراتب العالية، ومنها: مرتبة الشهادة، والشهداء أحياءٌ عند ربهم، أرواحهم في حواصل طيرٍ خضر تسرح في أنهار الجنة، يعجب ربك إليهم ويضحك، ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه.
الشهيد هو الذي يقتل بين الصفين مقبلاً غير مدبر في سبيل الله تعالى، هذا هو الشهيد.
ثم يقول عبد الحليم شبانة:
يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب
هكذا جعلوا الشهادة؛ المقام العظيم عند الله، من مات فداءً للمحبوب، ومن المحبوب؟ هل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لا.
لا يقصدون ذلك، لأنه استهل تلك القصيدة بذكر أوصاف المحبوبة التي شعرها كذا وكذا، وعيناها كذا وكذا، ثم ينادي بالشهادة لأجل المحبوبة.(12/14)
الغناء وتغيير الأسماء
هذا عبد الحليم شبانة الذي غير اسمه، وملعون من انتسب إلى غير أبيه أو قومه، وهذه من المنكرات العظيمة في الأوساط الفنية العفنة، فتجد تغيير الأسماء بالأسماء الفنية ليشتهروا بها، وينادوا بها، ويكتب عنهم بها، إلا واحداً سمعت عنه فوجدت أن تغييره لاسمه كان في محله، اسمه: محمد، وهو من المغنين الذين فتن بهم الجيل الحاضر الجديد من النساء والرجال، فغير اسمه إلى (عاصي) لأنه معجب بملحن اسمه: (عاصي) فهذا وجدت أن تغييره لاسمه كان في محله.
"ورب رميةٍ من غير رامٍ" هو قصد إعجاباً، فجاءت مطابقة للواقع ولما يقوم به ويعمل.
والحمد لله الذي أرانا ذلك وجعلها آية، فمحمد لا يليق بالغناء أما عاصي، فهو الاسم الدال على ذلك المسمى الذي يعصي الله تعالى.
نسأل الله عزوجل أن يتوب على من يسمع الغناء، وأن ينقذ هذه الأمة من هذه الفتنة العظيمة، والبلوى التي طار شررها، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يطهر بيوتنا من المنكرات.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.(12/15)
الغناء والاعتداء على العقيدة والتوحيد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، صلى الله عليه صلاةً دائمةً بما علَّمنا وأدّبنا ودلّنا على الخير.
عباد الله: هل أنتم تشكون في تحريم الغناء، وأن ما يقال في هذه الأغاني هو عين الردة عن الدين أحياناً، وعين الفسق والفجور أحياناً، وعين نشر الرذيلة بين المسلمين، والدعوة إلى الانحلال والفسق والفجور؟(12/16)
الغناء وادعاء علم الغيب
ثم إننا لم ننتهِ بعدُ من ذكر بعض ما وصلنا مما يقال في الأغاني من الأمور المتعلقة بالعقيدة؛ لأننا لم نذكر شيئاً بعد عن الأمور المتعلقة بالانحلال والفسق.
جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجاني المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب
اشتمل هذان البيتان على جلوس هذا الفاجر مع امرأة تدعي علم الغيب، فهي كاهنة وعرافة ومشعوذة، وعلى طريقة الذين يدَّعون علم الغيب في شعوذتهم وهي قراءة الفنجان المقلوب بعد قلبه.
واشتمل على الكذب على الله تعالى في أنه كتب الحب على هذا الرجل.
أولاً: ادعاء علم الغيب كفرٌ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] {لا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن:26].
وقراءة الفنجان وقراءة الكف، وضرب الودع، والتخطيط في الرمل، قراءة الكرة الكريستال، وغير ذلك من الوسائل القديمة والحديثة شرك وحرام.
وادعاء علم الغيب كفر بالله، واعتداءٌ على خصوصية من خصوصياته سبحانه وهي علم الغيب الذي لا يطلع عليه أحداً إلا من شاء سبحانه من وحي إلى رسول بأمور مستقبلة ينبئ بها قومه ليحذروا ونحو ذلك من الأمور.(12/17)
الاستعانة والحلف بغير الله
ثم إنك تجد أيضاً في أغانيهم:
مدد يا نبي يا نبي مدد
والاستعانة بغير الله، ونداء الأموات، والطلب من الأموات، والحلف بغير الله، والحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحياة الغالي عندك، وحياة عينيك، أو وحياة عينك؛ والقسم بغير الله عز وجل: أحلف والحب يمين، كما يقول قائلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).
بل إن في بعض مقاطع الأغاني حلف بالأضرحة والمشاهد والقبور: مقدرش على كده ومقام السيده والواو: واو القسم، والقسم بمقام السيدة.(12/18)
الغناء وسب الدهر
إن سب الدهر في الأغاني شائع ومنتشر، شتم الساعة، والزمان، والشهر، والعمر، والدهر؛ كل ذلك وارد ومنتشر.
كتاب حزين كله مآسي جابنا في زمان غدار قاسي
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر) هو مقلب الأيام والليالي سبحانه وتعالى، وإذا سب أحد الدهر فقد سب شيئاً ليس بأهلٍ للسب ولا ذنب له؛ لأن الدهر هو ظرفٌ لوقوع الحوادث، فلا ذنب له ولا عمل فيها، ولكن الله هو الذي يشاء، ويفعل ما يشاء، ويقدر ما يشاء، ويجري الحوادث في الزمان بمشيئته سبحانه، فمن سب الدهر فقد رجع سبه على الله، وهم يقولون: زمان غدار وقاسي.(12/19)
الغناء والاعتداء على اللوح المحفوظ
ثم يعتدون على ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ:
الفرح سطر غلط مكتوب لما الزمان كان يوم ناسي
هذا السطر الذي كتبه الله في اللوح المحفوظ كان غلط، افهم يا مسلم يا عبد الله! كيف يتسللون إلى بيتك وإلى عقول نسائك وأولادك، وبه تلهج الملايين؟! ثم إن هناك فناً يمكن أن نسميه فن التفاهة؛ تصاغ به الأشعار وعليه كلمات سخيفة جداً جداً جداً، لكن يترنم بها ملايين المسلمين، وتنتشر أسطواناتها بالملايين.
أما ذلك الشعر الرائع الفخم الجزيل، الموزون على قوافي أشعار العرب، المحكم في نظمه وبيانه، وجميل ترتيبه وجمال كلماته، المشتمل على المعاني العظيمة: السحْ ادَّحْ امبوا إلى آخره، هذا هو الكلام العظيم المشتمل على المعاني الرائعة التي يتغنى به الملايين! وأغاني عدوية التي تسمى بالأغاني الشعبية قد انتشرت بالملايين، يلهجون بها بدلاً من أن يقول الواحد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله (من قال: لا إله إلا الله غرست له شجرة في الجنة) (غراس الجنة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله) لكنهم يقولون هذا الكلام، ويلهجون به.(12/20)
أقسام كلمات الأغاني
أيها الأخ المسلم! لو قسمنا كلمات الأغاني لوجدناها ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما هو منافٍ للدين والعقيدة والردة عن الدين وهو كفر بالله تعالى.
وقد غنت أم كلثوم قصائد في الشعر الإلهي: القلب يعشق كل جميل.
وهذا اسمه عند الصوفية المنحرفين (العشق الإلهي) فتجد في القصيدة بعض الإشارات إلى قضية العشق الإلهي عند هؤلاء الصوفية المنحرفين، وتجد الردة الكفر والشرك الأكبر والشرك الأصغر، وتجد جميع الألفاظ الإسلامية، والمعاني الجليلة في الدين، وإدخالها في الأغاني والحب والغرام.
القسم الثاني: قسم الانحلال: وهي الأغاني التي فيها وصف الحبيب والمحبوبة، انحلال.
وهذا شيء لا يمكن أن نأتي بأمثلته في خطبة الجمعة، لكن هذا هو أكثر ما يعرف في الأغاني هو أغاني الانحلال والفسق والفجور، والدعوة إلى الفاحشة، والدعوة إلى الموعد والابتسامة واللقاء والحب والغرام، والدعوة إلى الفجور والمعصية؛ هذا هو أكثر ما هو موجود في الأغاني مرافقاً للفيديو (كليب) الذي ذبح به بعض الشباب ذبحاً من الوريد إلى الوريد، لكن ما ذبحوه ذبحاً تسيل به الدماء؛ وإنما ذبحوه ذبحاً تسيل به الفضيلة والدين من النفوس، وتخرج وتزهق أرواحهم بما يعرض في تلك الأغاني.
القسم الثالث من الأغاني: أغاني التفاهة.
ثم يوجد أغاني دينية وموشحات أندلسية بعضها فيه الشرك، كما يوجد في بعض المناسبات الدينية؛ كالموالد والرجبية وغيرها.
وبعضه لا يوجد فيه شيء من هذا، بل قد يكون الشعر الأصلي جميل المعنى، جليل المحتوى، لكن ما حكم تلحين لفظ الجلالة وتغنى على الموسيقى؟(12/21)
الغناء وتلحين لفظ الجلالة
وكثير من الأغاني ممتلئة بألفاظ الجلالة الملحنة التي تؤدى من امرأة أو رجل فاجر على أنغام الموسيقى.
ماذا يسمى هذا أيها الإخوة؟ حتى لو كانت المعاني جميلة وجليلة فقد استخدموها في الموسيقى من غناء امرأة أو رجل فاجر! إذاً يتبين بالجملة أن قضية الغناء هذه دخل بها إبليس عن طريق أبالسة الإنس وشياطينهم: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
يلحنون بها لأجيال المسلمين ليشتغلوا به عن ذكر الله وتعمر به المجالس، وتلهج به ألسن أولادكم وبناتكم ذكراناً وإناثاً في بيوتكم والسيارات والأشرطة في كل مكان: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106].
فماذا نقول بعد هذا؟ هل من توبة؟ هل من أوبة؟ هل من ورجعة؟ هل من تركٍ لهذه المحرمات؟ اعتدوا على أعز شيء عندك، اعتدوا على الله تعالى ورسله اعتدوا على اللوح المحفوظ اعتدوا على قضائه وقدره شتموا الدين والرب، ما أبقوا عزيزاً في الدين ولا غالٍ إلا أوسخوه ووسخوه بهذه الكلمات، ولطخوه لكي يحولوا بين الناس وبين دين رب العالمين.
فأين المنتبهون؟!! وأين الواعون لهذه الأخطار؟!! المسألة جد خطيرة يا عباد الله! نسأل الله تعالى السلامة والعافية.(12/22)
شرح منظومة ابن فرح اللامية
نَظَمَ ابن فرح المصطلحات الحديثية في قصيدة ظاهرها الغزل، فجاءت طرفة من الطرف، فكثرت عناية العلماء بشرحها والتعريف بمصطلحات أهل الأثر في ثناياها، فمنهم ابن جماعة والسفاريني وغيرهما.
وفي هذا الدرس خلاصة لشرح السفاريني لها مع ترجمة له وللناظم.(13/1)
منظومة ابن فرح وموضوعها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فلا تستعجلوا وتفكروا وتدبروا في هذه القصيدة:
غرامي صحيح والرجا فيك معضل وحزني ودمعي مرسل ومسلسل
وصبري عنكم يشهد العقل أنه ضعيف ومتروك وذلي أجمل
ولا حسنٌ إلا سماع حديثكم مشافهة يملى علي فأنقل
وأمري موقوف عليك وليس لي على أحدٍ إلا عليك المعول
ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي على رغم عذالي ترق وتعدل
وعذل عذولي منكر لا أسيغه وزور وتدليس يرد ويهمل
أقضي زماني فيك متصل الأسى ومنقطعاً عما به أتوصل
وها أنا في أكفان هجرك مدرجٌ تكلفني ما لا أطيق فأحمل
وأجريت دمعي فوق خدي مدبجاً وما هي إلا مهجتي تتحلل
فمتفقٌ جسمي وسهدي وعبرتي ومفترقٌ صبري وقلبي المبلبل
ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ومختلف حظي وما منك آمل
خذ الوجد عني مسنداً ومعنعناً فغيري بموضوع الهوى يتحلل
وذي نبذٌ من مبهم الحب فاعتبر وغامضه إن رمت شرحاً أطول
عزيز بكم صبٌ ذليل لعزكم ومشهور أوصاف المحب التذلل
غريب يقاسي البعد عنك وما له وحقك عن دار القلى متحول
فرفقاً بمقطوع الوسائل ما له إليك سبيل لا ولا عنك معدل
فلا زلت في عزٍ منيعٍ ورفعة ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل
أوري بسعدى والرباب وزينب وأنت الذي تُعنى وأنت المؤمل
فخذ أولاً من آخر ثم أولاً من النصف منه فهو فيه مكمل
أبر إذا أقسمت أني بحبه أهيم وقلبي بالصبابة مشعل(13/2)
موضوع المنظومة
ما هو موضوع هذه القصيدة؟ أنوع الحديث في مصطلح الحديث، لعل الناظم لما رأى إقبال الناس على الهوى والمحبة، قال: لا طريق لتعريفهم بالمصطلح إلا بأن نسلك هذا السبيل، فنظم الناظم رحمه الله هذه القصيدة في هيئة الغزل، لكنها في الحقيقة تحتوي على أقسام الحديث وأنواعه في علم مصطلح الحديث.
وهذه القصيدة للعلامة ابن فرح الأشبيلي رحمه الله تعالى، شرحها العلامة محمد السفاريني الحنبلي في كتابه: الملح الغرامية بشرح منظومة ابن فرح اللامية، وسنترك ترجمة الناظم والشارح إلى النهاية إن شاء الله، ونشرع في الكلام على هذه القصيدة وما تحويه من أنواع مصطلح الحديث.
وهي تصلح لمن يريد أن يدرس مصطلح الحديث في البداية كما تصلح البيقونية وغيرها، وقد شابه الناظمَ الشارحُ في أول شرحه، فقال: الحمد لله الذي رفع ذكر أهل المحبة وفضل، وأجرى دمعهم مدبجاً على وجنة خد المعلل، وأوقفهم على الحسن فكلهم في قيد الغرام مسلسل لا مرسل، وذللهم للجمال وإن كانوا من أعز العالم وأبسل، وأعضلهم عن مشافهة من علقوا به فليست دفاترهم تملى على غيره أو تنقل، سبحانه وتعالى من إله وفق من أحبه لصحيح القصد وخوّل، وفرق شمل من مقته وضعف قلبه وزلزل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -فهو القديم- شهادةً تقطع عنا علائق الشرك وبها إلى خالص التوحيد نتوصل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ما ترك منكراً إلا بتكه بسيفه العدل وأبطل، نبي ألف الله به بين قلوب كانت قبله مختلفة لا توجل.
إلى آخر المقدمة؛ ذكر فيها فضل علم الحديث، وأن هذه القصيدة قد احتوت أقسام المصطلح ضمنها فيه على سبيل التورية فزادت بذلك ملاحتها، وظهرت فصاحتها، ثم إنه ذكر عزمه على شرح هذه المنظومة.(13/3)
تعريف الصحيح والمعضل والمرسل والمسلسل
نريد أن نكتشف ماذا يوجد في كل بيت منها من أنواع الحديث، يقول في مطلعها:
غرامي صحيح والرجا فيك معضل وحزني ودمعي مرسل ومسلسل
كم نوعاً من أنواع الحديث اشتمل عليها هذا البيت؟ في هذا البيت ذكر أربعة أقسام من الحديث: الأول: الحديث الصحيح: وهو الحديث الذي يتصل سنده بنقل العدل التام الضبط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة.
وقد قال الحافظ العراقي في ألفيته:
فالأول المتصل الإسناد بنقل عدل ضابط الفؤاد
عن مثله من غير ما شذوذ أو علة قادحة فتوذي
ومعروف تعريف الحديث الصحيح: نقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة.
وعندما نقول: الحديث الذي يتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، يخرج الحديث المرسل والمعضل والمنقطع.
وعندما نقول: نقل العدل.
يخرج: من كان غير معروف العدالة.
وعندما نقول: الضابط.
يخرج: ما كان من الرواة مغفلاً كثير الخطأ وإن كان معروفاً بالصدق والعدالة؛ لأن الضبط يتنافى مع الغفلة.
ويخرج كذلك الشاذ والمعلل؛ لأننا قلنا في آخر العبارة: من غير شذوذ ولا علة.
والصحيح نوعان: صحيح لذاته، وصحيح لغيره.
صحيح لذاته تقدم تعريفه، والصحيح لغيره: ما تكثر طرقه مما دون الصحيح لذاته فيرتقي من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحة، ولكن يقال: صحيح لغيره؛ لأنه صار مع غيره صحيحاً، ولو انفرد وحده ما سمي صحيحاً.(13/4)
حكم الحديث المعضل والمرسل
الثاني: الحديث المعضل: وهو الذي سقط منه اثنان فصاعداً على التوالي، كأن يقول مالك رحمه الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكم بين مالك والرسول صلى الله عليه وسلم؟ أقل ما يكون راويان اثنان، فإذا قال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا حديث معضل.
الثالث: الحديث المرسل.
أن يقول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال التابعي ذلك سواء كان كبيراً أو صغيراً فإنه حديث مرسل؛ والحديث المرسل ليس من أقسام الحديث الصحيح.
فإذا قال قائل: إذا علمنا من حال التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة؟ فجمهور العلماء من المحدثين على التوقف لبقاء الاحتمال؛ لأنه قد يكون ليس بثقة عند غيره، لكن المراسيل إذا تعددت طرقها ومخارجها وكانت صحيحة فإن بعضها يقوى ببعض، فإذا وجد مرسل عن مجاهد ومرسل عن عكرمة وهي مراسيل صحيحة من جهة السند، والمخارج مختلفة فيمكن أن يتقوى هذا بهذا، ويصبح الحديث صحيحاً أو حسناً.
الرابع: الحديث المسلسل.
ما يكون فيه شيء واحد يشترك فيه الرواة، وقد يكون التسلسل بالأولية، كأن يقول: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه عن شيخه فلان وهو أول حديث سمعه منه، عن شيخه فلان وهو أول حديث سمعه منه، وهكذا.
وقد يكون التسلسل بالمصافحة، كأن يقول: حدثني فلان وكفي بين كفيه، عن فلان وكفه بين كفيه، عن فلان وكفه بين كفيه، وهكذا.
وقد يكون التسلسل بالمحمدين، كأن يقول: حدثني شيخي محمد بن فلان، عن شيخه محمد بن فلان، عن محمد بن فلان، وهكذا.
ولكن قلما تسلم المسلسلات من الضعف كما قال أهل العلم.(13/5)
تعريف الضعيف والمتروك
وصبري عنكم يشهد العقل أنه ضعيف ومتروك وذلي أجمل
وكم نوعاً من الأنواع اشتمل عليه هذا البيت؟ الضعيف والمتروك والشواهد.
أما الحديث الضعيف فإنه أنواع كثيرة، وهو ما لم يبلغ رتبة الحسن، والحديث الضعيف لا يعمل به إلا بشروط عند بعض العلماء: الشرط الأول: إذا لم يشتد ضعفه.
الشرط الثاني: إذا دخل تحت أصل معروف معمولٍ به في الشريعة.
الشرط الثالث: إذا كان في فضائل الأعمال.
وذهب بعض أهل العلم إلى عدم العمل بالحديث الضعيف إطلاقاً، وقال: في الصحيح ما يغني عن الضعيف.
ولكن هناك مسألة مهمة جداً في الحديث الضعيف، وهي أنه مفيد في حالات، فإذا كثر طرقه يصير حديثاً حسناً لغيره، لكن هذا يشترط فيه ألا يكون الضعف بسبب فسق الراوي؛ فإذا كان السبب في الضعف فسق الراوي، فإن ذلك لا يرتقي، وإذا كان الضعف في حفظ الراوي وليس في عدالة الراوي، فيمكن بمجيئه من وجهٍ آخر أن يتقوى ويصير حسناً.
وهناك فرق بين الحديث الضعيف والمضعف أشار إليه بعضهم، فقال: الضعيف هو المتفق على ضعفه عند العلماء.
والمضعف هو الذي ضعفه بعضهم ولم يضعفه آخرون.
أما الحديث المتروك فهو ما انفرد به راوٍ مجمعٌ على ضعفه، وهنا قد يقال: أليس المتروك من أقسام الضعيف؟
الجواب
نعم.
وذكره هنا من باب ذكر الخاص بعد العام.
أما الشاهد: فهو أن يأتي حديث بمعنى حديث آخر دون لفظه، لكن يشهد له من جهة المعنى الذي ذكر فيه ويقويه.
والشواهد قد تكون في الأحاديث الضعيفة وقد تكون أيضاً في الأحاديث الصحيحة، فمثلاً: الشافعي رحمه الله روى عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).
زعم بعضهم أن الشافعي تفرد به عن مالك، لكن الحديث هذا لو بحثنا عن معناه في أحاديث أخرى لوجدنا له شواهد: منها: حديث البخاري من رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ: (فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) فهذا معناه مشابه للأول فيكون شاهداً له، فإذا جاء حديث بمعنى حديث آخر فإنه يكون شاهداً له.(13/6)
تعريف الحديث الحسن وذكر كيفيات السماع
ولا حسنٌ إلا سماع حديثكم مشافهةً يملى عليَّ فأنقل
فما هي المصطلحات الحديثية في هذا البيت؟ الحسن والمشافهة والسماع والإملاء.
الحديث الحسن: هو ما رواه الثقة الضابط لكن ليس تام الضبط؛ لأنه لو كان تام الضبط لصار الحديث صحيحاً، فما رواه ثقة ضابط ليس بتام الضبط متصلاً إلى منتهاه فهو حديث حسن.
والحديث الحسن قد يكون حسناً لذاته، وقد يكون حسناً لغيره؛ وهو الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور، لكنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهماً بالكذب، فإذا جاء من وجه آخر تقوى به وصار حسناً لغيره.
فالحسن لغيره هو حديث ضعيف جاء مع حديث ضعيف آخر تقوى به، فصار حديثاً حسناً لغيره، فهو أصلاً ضعيف قد ارتقى.(13/7)
كيفيات السماع
أما مسألة السماع التي أشار إليها الناظم رحمه الله، فإن سماع التلميذ من الشيخ على مراتب: فأعلاها سمعت وحدثني، ثم أخبرني وقرأت عليه؛ لأن السماع من الشيخ أعلى من القراءة على الشيخ، ثم قُرئ عليه وأنا أسمع، ثم أنبأني، ثم ناولني، ثم شافهني بالإجازة، ثم كتب إليَّ، ثم عن فلان أو أن فلاناً ونحو ذلك.
والحديث: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً بأن يتلفظ به كقوله: (إنما الأعمال بالنيات) وفعلاً كلبسه المغفر والدرع وحفر الخندق، وتقريراً كصلاة خبيب عندما أراد المشركون قتله، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم خبيباً على ذلك.
وإذا قال الراوي: كنا نفعل كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو قلنا كذا بحضرته صلى الله عليه وسلم فأقرهم؛ فهذا أيضاً يكون من الحديث لكن بالتقرير، أو كان صفةً كأوصافه صلى الله عليه وسلم كنقل الراوي: أنه كان أكحل العينين، أزج الحاجبين، أبيض مشرباً بحمرة، وما شابه ذلك.
وأما المشافهة: فهي تكون بالإجازة، فإن الشيخ يشافه الطالب بإجازته في رواية مروياته وأحاديثه.
وأما الإملاء: فهو أن يملي الشيخ ويكتب التلميذ؛ سواء كان الشيخ يملي من حفظه، أو من أصله؛ وأصله هو كتاب الشيخ الذي عنده، وقد صحح البخاري رحمه الله في بداية طلبه وهو تلميذ لأحد شيوخه وكان يُقرأ عليه قراءة من حفظه، فتعجب الشيخ وتوقف، ثم دخل بيته واستخرج أصله فنظر فيه فإذا هو كما يقول أبو عبد الله فأذعنوا له.
والإملاء أرفع من قراءة التلميذ، إذا كان الشيخ يملي من كلامه والتلميذ يكتب فهذا أعلى من كون التلميذ يقرأ من محفوظات الشيخ، أو من كتاب الشيخ والشيخ يسمع؛ لأن الشيخ يقرأ والتلميذ يسمع ويكتب فهذه أعلى ما يكون من الضبط والتحرز.(13/8)
تعريف الموقوف
وأمري موقوف عليك وليس لي على أحدٍ إلا عليك المعول
س: ماذا ذكر في هذا البيت من أنواع المصطلح؟ ج: الموقوف: وهو ما قاله الصحابي أو فعله؛ سواء كان متصل السند إليه أم لا، أما إذا كان من كلام التابعي فلا يُسمى موقوفاً، لكن بعض العلماء يقول: موقوف على فلان وهو التابعي، موقوف على الحسن البصري، موقوف على مالك بن دينار، وبعض الفقهاء الخراسانيين يسمون الموقوف بالأثر.
إذاً.
الموقوف: هو ما أضيف إلى الصحابي من قول الصحابي أو من فعل الصحابي، سواء كان متصل السند، أو غير متصل السند.(13/9)
تعريف المرفوع
ولو كان مرفوعاً إليك لكنت لي على رغم عذالي ترق وتعدل
س: ماذا ذكر هنا؟ ج: المرفوع، وهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة؛ سواء كان هذا المضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحابياً أو غيره، وسواء كان هذا الإسناد متصلاً أم لا.
فإذا قيل: حديث مرفوع، لا يلزم أن يكون حديثاً متصلاً، قد يكون منقطعاً ولكنه مرفوع، فالمرفوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحيحاً أو غير صحيح، متصلاً أو غير متصل.(13/10)
تعريف الحديث المنكر وذكر مراتب التدليس
وعذل عذولي منكرٌ لا أسيغه وزور وتدليس يُرد ويُهمل
س: ماذا ذكر في هذا البيت؟ ج: ذكر خمسة أقسام وهي: المنكر، التدليس، مهمل، المردود، الزور؛ وهو الكذب.
فالمنكر: ما فحش غلط راويه.
وقيل: ما انفرد به من لم يبلغ في الثقة والإتقان ما يُحتمل تفرده، فالمنكر: ما تفرد به غير الثقة.
لو عندنا واحد ليس بثقة تفرد بحديث، لم يأتِ به غيره، فإننا نسمي هذا الحديث حديثاً منكراً، فمن فحش غلطه، أو كثرت غفلته، أو ظهر فسقه فحديثه منكر كما قال ابن حجر رحمه الله.
أما إذا تفرد الثقة بحديث فيقبل إلا إن خالف الثقات فيرد، والحديث الذي خالف فيه الثقة من هو أوثق منه يُسمى شاذاً، فالتحقيق والتدقيق أن الشاذ غير المنكر: فالمنكر: ما تفرد به غير الثقة.
الشاذ: ما خالف فيه الثقة من هو أوثق منه.(13/11)
ذكر مراتب التدليس
المدلس: وأشار إليه بقوله: تدليس، والحديث المدلس سُمي بذلك لكون الراوي لم يسم من حدثه، فأوهم أنه سمع ممن لم يحدثه به؛ وهو أنواع: فلو أن الراوي وصف شيخه بصفة، أو سماه باسم لا يُعرف به هذا الشيخ، فهذا تدليس الشيوخ، لماذا يفعل بعض الرواة هذا؟ لماذا يسمون شيوخهم بأسماء غير معروفة وغير مشهورة؟ إما لقصد سيئ من المباهاة، وإيهام تكثير الشيوخ، فمرة يقول: أبو عبد الله المصري، ومرة يقول: محمد كذا، وهو نفسه شخص واحد، أو أن الشيخ صغير السن وهذا الراوي يأنف أن يحدث عن شيخ صغير السن، أو من هو في مثل سنه، أو من هو أصغر منه، فيأتي باسم غير مشهور أو غير معروف لهذا الشخص.
أو أن الشيخ ضعيف فهذا لو ذكره باسمه، مثلاً: لو قال: حدثنا عطية العوفي، لقالوا: قف، هذا حديثك ضعيف، عطية ضعيف، لكن يسميه باسم آخر: أبو فلان كذا، فيتوهم السامع أن هذا شخص آخر ولا يخطر بباله أن هذا هو الضعيف، فقد يسميه باسم غير اسمه، أو يكنيه بغير كنيته، أو ينسبه إلى غير نسبته، أو إلى غير قبيلته، أو يذكر له صفة غير صفته، ونحو ذلك تعمية وتدليساً.
وهناك تدليس الإسناد، وهو أن يروي بعض الرواة عمن لقيه وسمع منه حديثاً ليس من مسموعاته منه، فهو قد سمع منه أحاديث معينة، لكنه يروي لنا عن الشيخ هذا حديثاً لم يسمعه منه، فالناظر في السند أول ما يتوهم يقول: نعم فلان سمع من فلان، وهذا من شيوخه فإذن هذا سمعه منه، مع أنه في الحقيقة قد سمع منه أحاديث ولقيه، لكن هذا الحديث بالذات ما سمعه منه، إنما سمعه بواسطة عنه فيحذف الواسطة ويقول: عن فلان، موهماً أنه سمع منه، والتدليس لا يجوز.
فيحرم عليه أن يسمع من ضعيفٍ عن الشيخ فلان فيحذف الضعيف ويقول: عن الشيخ فلان؛ وهذا لا شك أنه تدليس شنيع جداً، ولذلك قال شعبة: لأن أزني أحب إليَّ من أن أدلس؛ لأنه يوعر الطريق على العلماء لاكتشافه، ولأنه يوهم أن الحديث سنده صحيح وليس كذلك، ويُروج لهذا الحديث ويأخذ به من يأخذ منخدعاً ونحو ذلك، فالتدليس أخو الكذب.
وتدليس التسوية -وهو شر أنواع التدليس على الإطلاق-: أن يروي حديثاً عن شيخه الثقة، وهذا الشيخ الثقة يرويه عن ضعيف عن شيخ آخر ثقة فيأتي المدلس فيسقط الضعيف بين الثقتين ويقول: حدثني فلان -الذي هو الثقة- عن فلان الثقة الآخر وبينهما ضعيف أسقطه هذا المدلس؛ فيصبح السند أمام الناظر سنداً جيداً ليس فيه بأس، فإذا كان هذان الثقتان قد تلاقيا فكيف تكتشفه؟ يقول: حدثني فلان وهو ثقة عن فلان ثقة وبينهما راوٍ ضعيف أسقطه هذا المدلس؛ وهذا الثقة قد سمع من الثقة الآخر وعاصره، فمن ذا الذي يكتشفه؟ فلذلك عدوا هذا شر أنواع التدليس لصعوبة اكتشافه، لكن هيأ الله للأمة من يكتشف هذا وغيره، ويكون الإسناد مستوياً في هذه الحالة أمامك، كلهم ثقات قد لقي بعضهم بعضاً وسمع بعضهم من بعض، والتدليس مذموم ومردود وهو أخو الكذب، لكن قد حفظوا لنا أمثلة عن ناس لم يدلسوا إلا عن ثقات، يُسقط راوياً ثم يكتشف العلماء أن هذا كلما أسقط راوياًَ فإن المسقط ثقة، ولا يكاد يعرف بهذا إلا سفيان بن عيينة رحمه الله، فإنه لا يدلس إلا عن ثقة، ولذلك فإن تدليسه محمول.(13/12)
الفرق بين التدليس والإرسال الخفي
فإن قال قائل: ما هو الفرق بين التدليس والإرسال الخفي؟ لأن هذه النقطة تُشكل وفهمها قد يصعب، ولكن أبان ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وغيره.
فالمرسل الخفي أن يروي شخصٌ عن معاصرٍ لم يلقه، شخص عاصر الراوي وجد في عصره لكن ما لقيه.
فالتدليس يختص بمن روى عمن عُرف لقاؤه إياه، فإذا عاصره ولكن لم يلقه فيسمى مرسلاً خفياً.
وتضمن البيت كذلك الحديث المردود، والمردود كثير: الضعيف، والمرسل، والموقوف، والمنكر، والمعضل، والمعلق؛ كلها أحاديث عند قضية الأخذ والرد تكون مردودة، فإنها ترد ولا تقبل ولا يُعمل بها.
أما قوله: المهمل.
فهذا من صفات الراوي، كأن يكون راوٍ يروي عن اثنين متفقين اسماً، لكن اختص بأحدهما دون الآخر، الراوي هذا اختص بالسماع من هذا الشيخ المعين الذي اسمه مشابه لشيخ آخر سمع منه الراوي لكن هو مختص بأحدهما، فهذا الذي اختص به المشهور، والآخر يقال عنه: مهمل.
أما قوله: الزور: وهو الحديث المكذوب الموضوع وسيأتي.(13/13)
تعريف الاتصال والانقطاع
أقضي زمان فيك متصل الأسى ومنقطعاً عما به أتوصل
س: فماذا تضمن هذا من أنواع الحديث؟ ج: تضمن المتصل، والمنقطع.
فأما الحديث المتصل فهو الذي اتصل إسناده فكان كل واحد من رواته سمع ممن فوقه، فإذا كان متصل السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمى مرفوعاً متصلاً، وإذا اتصل إسناده إلى الصحابي فيسمى موقوفاً متصلاً، وإذا اتصل إسناده إلى التابعي فيسمى مقطوعاً متصلاً.
والمنقطع غير المقطوع.
أما المنقطع: فهو ما سقط من رواته غير الصحابي؛ لأنه لو سقط الصحابي لكان مرسلاً كما قلنا، أو سقط اثنان غير متواليين؛ لأنه لو كان الاثنان متواليين فيسمى معضلاً.(13/14)
أقسام تحمل الحديث وتعريف الإدراج
وها أنا في أكفان هجرك مدرجٌ تكلفني ما لا أطيق فأحمل
س: ماذا ذكر في هذا البيت؟ ج: المدرج، ومسألة في المصطلح، وهي التحمل.
أما بالنسبة للمدرج: فهو ما أدرج من كلام الرواة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يذكر الصحابي كلاماً أثناء الحديث أو بعد الحديث مباشرة، فيتوهم السامع أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بينما هو تعليق صحابي على الحديث.
وقد يكون الإدراج مدحاً لصاحب الفعل، قد يكون تفسيراً كما جاء في حديث البخاري: (وكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوت العدد -وهو التعبد-) فكان الإدراج في شرح لفظة، فيتوهم من لا علم عنده أن الكل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع خلاف ذلك.
فكيف يعرف الإدراج؟ مثل حديث: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) فهذه الجملة الأخيرة: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) هي من كلام أبي هريرة رضي الله عنه.
كيف يُعرف أن هذا إدراج؟ أولاً: أن يرويه راوٍ آخر عن الصحابي دون إدراج.
ثانياً: أن ينص على أنه من كلامه.
ثالثاً: أن ينص بعض الأئمة المطلعين على أنه إدراج.
رابعاً: استحالة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبارة، كما لو قال الزهري مثلاً: وفي أيامنا كذا، أو يذكر في عهد خليفة، تعليقاً على الحديث، ويُعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول ذلك، وقد يكون الإدراج في أول الحديث، وقد يكون في وسط الحديث، وقد يكون في آخر الحديث وهو الأكثر.
وهذا مدرج في المتن، وهناك مدرج في السند أيضاً، كأن يكون هناك شخص سمع الحديث من طريقين فيذكر أحد الطريقين فقط ويذكر المتن بجميعه على هذا السند المعين تاركاً السند الآخر، فإذا كان عند راوٍ متنان مختلفان بإسنادين مختلفين فرواهما مقتصراً على أحد الإسنادين كان هذا نوعاً من الإدراج في السند.
مثلاً في أثناء السند يعرض له عارض فيقول كلاماً، فيرويه الراوي من ضمن السند، وكان بعض المحدثين يحدث فقال: حدثنا فلان عن فلان كذا فدخل واحد من طلابه من العُبّاد يلوح على وجهه نور العبادة، والطلاب يكتبون عن فلان عن فلان عن فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل هذا الطالب فنظر إليه الشيخ فقال: من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار، فكتبوا ذلك، وبعض الكتبة قد يكون فيهم غفلة ولا ينتبهون، ولا ينظرون للشيخ عندما يتكلم، فعدم النظر إلى الشيخ وعدم الانتباه قد يؤدي إلى عملية الإدراج.(13/15)
التحمل والأداء وشروطهما
أما النوع الثاني الذي ذكره المصنف رحمه الله في البيت فهو التحمل؛ تحمل العلم أو تحمل الحديث، وفيه فروع: فمثلاً: قد يسمع الصحابي حديثاً من النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يسلم بعد، ثم يُسلم فينقل إلينا ما سمعه حال كفره بعد إسلامه، فهل نقبله من هذا الصحابي أو نقول: أنت سمعته في حال كفرك ولا نقبله؟ الصحيح أننا نقبله؛ لأنه قد أسلم ونقل الحديث إلينا وهو صحابي، فكيف نرد كلامه وهو لا يكذب؟ فلو تحمل الحديث كافر ثم أسلم وحدثنا به في حال إسلامه قُبل، لأن الإسلام شرط للأداء لا للتحمل؟ التحمل هو سماع الكلام، والأداء أن يبلغنا الكلام، فالإسلام شرط للأداء لا للتحمل.
من فروع المسألة كذلك: لو تحمل الحديث صبيٌ ثم أداه بعد البلوغ قُبل على الأصح، وقد قبلت أحاديث جماعة من صغار الصحابة رضي الله عنهم تحملوا الحديث في صغرهم كـ السبطين وعبد الله بن الزبير والنعمان بن بشير وعبد الله بن عباس وغيرهم، ولم يزل أهل الحديث يحضرون الصبيان في المجالس ثم يحدثون بما سمعوا به بعد البلوغ.
فإذا قال قائل: هي يصح سماع الصبي؟ فالحق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، وليس هناك سن معين لأن الأفهام تختلف، والنبوغ للصبيان يختلف، فإذا كان أهلاً وحدث قبل منه.(13/16)
أقسام التحمل
والتحمل أقسام من حيث الصيغ: الصيغة الأولى: السماع من لفظ الشيخ.
الصيغة الثانية: من كتابه.
الصيغة الثالثة: من حفظه.
الصيغة الرابعة: قراءة التلميذ على الشيخ.
الصيغة الخامسة: قراءة رفيقه على الشيخ وهو حاضر يسمع.
الصيغة السادسة: الإجازة بأنواعها مثل: أجزتك برواية أحاديثي.
الصيغة السابعة: المناولة: أن يعطي الشيخ التلميذَ شيئاً من مروياته أو من مؤلفاته، لكن لا يجيزه في روايته عنه، بل يناوله إياه مناولة.
الصيغة الثامنة: الوصية بالكتابة للقارئ.
الصيغة التاسعة: الوجادة.
يقول: وجدت بخط الشيخ فإذا كان ثقة خبيراً بخط الشيخ يقبل منه.(13/17)
تعريف المدبج وذكر رواية الأقران والأكابر عن الأصاغر
وأجريت دمعي فوق خدي مدبجاً وما هي إلا مهجتي تتحلل
ما هو نوع الحديث المتعلق هنا بالمصطلح؟ المدبج: هو أن يروي قرينان كل واحد منهما عن الآخر، قرينان أي: اثنان في السن مشتركان في الطبقة، يطلبان العلم معاً، وكل واحد منهما يروي عن الآخر، هذا يسمى مدبجاً، لكن رواية الأقران أعم؛ لأن رواية الأقران أن يروي واحد عن قرينه لكن القرين لا يروي عن القرين الآخر، أي: من جهة واحدة هذه رواية الأقران.
فرواية الأعمش عن التيمي والتيمي عن الأعمش مدبج، وقد يجتمع جماعة من الأقران في سلسلة كما روى أحمد عن أبي خيثمة زهير بن حرب عن ابن معين عن علي المديني عن عبد الله بن معاذ قال: (كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يأخذن من شعورهن حتى يكون كالوفرة) أي: الشعر المجتمع على الرأس وما جاوز شحمة الأذن هو الجمة ثم اللمة.
فهذا الحديث رواه لنا هؤلاء الخمسة وكلهم أقران.
أحمد بن حنبل عن أبي خيثمة بن حرب عن ابن معين عن علي بن المديني عن عبد الله بن معاذ.
ومن المستظرفات في هذا الباب: أن محمد بن سيرين روى عن أخيه يحيى بن سيرين عن أخيه أنس بن سيرين، ثلاثة إخوة يروون عن بعض، فقد وقع في هذا السند ثلاثة من التابعين كلهم إخوة.
أما رواية الأكابر عن الأصاغر فهي أن يروي الشيخ عن تلميذه حديثاً ليس عند الشيخ؛ وهذا يحدث كثيراً عندما يكون التلميذ جوالاً في الآفاق، يجمع الأحاديث ثم يأتي إلى الشيخ ويسمع من الشيخ، ثم يقول للشيخ حديثاً ليس عند الشيخ، الشيخ يحدث عن التلميذ بعض الأحاديث.(13/18)
المتفق والمفترق
فمتفقٌ جفني وسهدي وعبرتي ومفترقٌ صبري وقلبي المبلبل
س: ماذا ذكر في هذا البيت؟ ج: هذا نوع من المصطلح يسمى بالمتفق والمفترق، ألف فيه الخطيب البغدادي مصنفاً.
ما المقصود بالمتفق والمفترق؟ المقصود بالمتفق والمفترق: ما اتفق لفظه وخطه وافترقت أشخاصه، نفس الحروف، نفس الكلمات لكن الأشخاص مختلفون؛ وهذا أقسام وأنواع، والمتفق والمفترق مبحث متعلق بالرواة، أن تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم، وعندنا مجموعة من الرواة أسماؤهم واحدة وأسماء آبائهم واحدة، كـ الخليل بن أحمد؛ فهناك ستة أشخاص مشهورين بالرواية في الأحاديث، منهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري النحوي صاحب العروض المشهور، ومنهم: الخليل بن أحمد المزني، ومنهم: الخليل بن أحمد السجزي، ومنهم: الخليل بن أحمد المهلبي، فأنت ترى أن أسماء هؤلاء الرواة وأسماء آبائهم متفقة، مفترقون بالأشخاص.
وقد تتفق أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم؛ وهذا طبعاً أقل مثل: أحمد بن جعفر بن حمدان هناك أحمد بن جعفر بن حمدان البغدادي وأحمد بن جعفر بن حمدان البصري.
قد يتفقان في الكنية والنسبة معاً، مثل: عبد الملك بن حبيب، وموسى بن سهل بن عبد الحميد اتفقوا في الكنية فكل منهما كنيته أبو عمران، واتفقا أيضاً بالنسبة فكلاهما بصري، فإذا قلت: أبو عمران البصري فيحتمل أنه عبد الملك بن حبيب التابعي المشهور، ويحتمل أنه موسى بن سهل بن عبد الحميد، فهنا لا بد من النظر لتعيين من هو منهما في السند، وقد يتفق الاسم واسم الأب والنسبة، وقد يحدث أن تتفق الكنى وأسماء الآباء كأبي بكر بن عياش، فأبو بكر بن عياش اثنان: أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي وأبو بكر بن عياش الحمصي، وهكذا من أنواع الاتفاقات، لكنهم أشخاص متفترقة.(13/19)
المؤتلف والمختلف
ومؤتلف وجدي وشجوي ولوعتي ومختلف حظي وما منك آمل
س: ماذا ذكر هنا؟ ج: المؤتلف والمختلف نوع من أنواع الحديث، مثل: أن تتفق الأسماء خطاً وتختلف نطقاً.
قد يكون المرجع في الاختلاف النقط مثل: الباء والنون، وقد يكون الشكل مثل: الضم والكسر والفتح، فمثلاً: قد يوجد -وخصوصاً قبل النقط- تشابه كبير، فمثلاً: سلاَّم وسلام، حزام وحرام، العنسي والعبسي، عثّام وغنّام؛ فهذه كلها في أبواب المؤتلف والمختلف، فهي من جهة الخط واحدة، خصوصاً قبل وضع النقط، ولكنها مختلفة من ناحية النطق.(13/20)
تعريف المسند والمعنعن والموضوع
خذ الوجد عني مسنداً ومعنعناً فغيري بموضوع الهوى يتحلل
س: ماذا ذكر هنا؟ ج: ذكر المسند، والمعنعن، والموضوع.
فالمسند: هو الحديث المرفوع الذي رفعه الصحابي بسند ظاهره الاتصال، فالمرسل لا يمكن أن يكون مسنداً، والموقوف لا يمكن أن يكون مسنداً، ولا المعضل ولا المعلق.
فالمسند مرفوع الصحابي بسند ظاهره الاتصال، وقد يكون في الباطن غير متصل، فإذا قيل مثلاً: ألف فلان المسند، فاعلم أن الأحاديث الموجودة فيه من هذا الباب، ويشمل ذلك ما فيه علة خفية أو انقطاع غير ظاهر وما في سنده رجل ضعيف.
أما المعنعن: فهو ما رواه الراوي بالعنعنة كأن قال: عن فلان، و (أنّ) كـ (عن) في الحكم.
وإذا كان الراوي مدلساً فهل تُقبل عنعنته؟ كلا.
ثم النوع الثالث: وهو الموضوع: فهو الحديث المكذوب المختلق على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد مر بلفظ الزور، ولا يجوز ذكره إلا على سبيل التحذير منه.(13/21)
علامات الوضع في الحديث
ويُعرف الوضع بأشياء كثيرة ذكرها ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم: منها: ركاكة اللفظ.
ومنها: ذكر الأجور العظيمة المستغربة.
ومنها: ما يعترف به واضعه.
وقال سفيان رحمه الله: ما ستر الله أحداً بكذبٍ في الحديث.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو أن رجلاً هم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله.
وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر -أي: قبيل الفجر- أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب.
وقيل له: هذه الأحاديث الموضوعة ماذا نفعل بالأحاديث الموضوعة؟ قال: تعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وبما أن السنة شرح للقرآن فحفظ القرآن يقتضي حفظ السنة، ولذلك هيأ الله من أفذاذ الأمة من قام بالواجب، نقح وصحح وبين وكشف الكذب وهكذا.
قال ابن الجوزي رحمه الله: كل حديث ناقض الأصول، وخالف المنقول، وباين المعقول؛ فهو مردود.
وكانوا يقولون: لكلام النبوة نور يدركه كل إمامٍ محدث.(13/22)
أصناف الوضاعين
ثم إن الواضعين أصناف: فمنهم الزنادقة الذين وضعوا الأحاديث لإضلال الناس كما روى بعضهم: (إن الله لما أراد أن يخلق نفسه أجرى الخيل فعرقت فخلق نفسه) فهذا الوضاع زنديق يريد بهذا الحديث الذي اختلقه العيب والذم لذات الله عز وجل، فضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي وبيان بن سمعان الآخر قتله خالد القسري.
وجاء عن حماد بن زيد أنه قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديثٍ، ومنهم من وضعه انتصاراً لمذهبه كـ الرافضة وغيرهم، ومنهم من وضعه إرضاء للأمراء كما فعل غياث بن إبراهيم روى للمهدي حديث: (لا سبق إلا في نصل، أو خفٍ، أو حافر).
هذا الحديث، ثم زاد فيه: (أو جناح) لما رأى المهدي يحب اللعب بالحمام دخل عليه وأعطاه الحديث وقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبْق إلا في نصل -التي هي السهام- أو خفٍ -وهو سباق الجمال- أو حافر -الخيل) وهذه التي يجوز فيها المسابقات وبالجوائز، ولما كان المهدي يلعب بالحمام ويحب اللعب بالحمام قال: (أو جناح) حتى يبيح له المسابقة في الحمام.(13/23)
ذكر معنى الإبهام في الحديث وبيان معنى الاعتبار
وذي نبذٌ من مبهم الحب فاعتبر وغامضه إن رمت شرحاً أطول
س: ماذا ذكر في هذا؟ ج: ذكر المبهم، والغامض، والاعتبار.
والمبهم هو الراوي الذي لا يسمى كقول الراوي: أخبرني رجل، حدثني شيخ، حدثني فلان، دون أن يذكر اسمه؛ فهذا لا يُقبل حتى يُسمى لأن من شروط القبول العدالة، وإذا لم نعرف من هو الشخص، فكيف نعرف هل هو عدل أم لا؟ ولو أبهمه بلفظ التعديل: كأن قال: أخبرني الثقة لم يُقبل، لأنه قد يكون ثقة عنده ليس بثقة عند غيره، إلا إذا عرفنا أنه لا يقول أخبرني الثقة إلا وهو يريد به شخصاً معيناً، مثلاً: الشافعي لا يقول: أخبرني الثقة إلا إذا كان الثقة هذا هو أحمد، ويعرف هذا بالتجربة وبالخبرة وبكلام الأئمة فإذا نصوا على ذلك كانت هذه حالة خاصة.
وكذلك لو أبهم الصحابي في أي سند؛ مثلاً التابعي الثقة قال: حدثني رجل من الصحابة، فلا يضُر ولا يهُم؛ لأن الصحابة كلهم عدول.
أما الاعتبار فهو أن يُنظر هل الراوي تُوبع على روايته أم لا فإذا روى حماد بن سلمة -مثلاً- حديثاً لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة فنظرنا هل رواه ثقة آخر عن أيوب عن ابن سيرين غير حماد بن سلمة، فهذه العملية (عملية النظر هل روى عن شيخ الراوي راوٍ آخر) هي عملية الاعتبار، ثم إذا لم نجد ننتقل للشيخ الذي بعده، هل وجد أحد روى الحديث عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم نجد عن ابن سيرين ننظر هل هناك أحد آخر روى الحديث عن أبي هريرة غير هؤلاء، فهذه عملية الاعتبار.
أما الغامض: فهو الألفاظ المشكلة التي يخفى معناها فتحتاج إلى شرح لبيان الغريب والمشكل، ومن أحسن ما صُنف في هذا الباب كتاب: النهاية لـ ابن الأثير رحمه الله.(13/24)
تعريف العزيز والمشهور
عزيز بكم صبٌ ذليل لعزكم ومشهور أوصاف المحب التذلل
س: ماذا انطوى عليه هذا البيت؟ ج: العزيز، المشهور.
أما بالنسبة للعزيز: فهو ألا يرويه أقل من اثنين عن اثنين عن اثنين إلى منتهاه، وسمي عزيزاً إما لأنه عز برواية هذا وهذا فقوي، أو لأنه نادر أن يكون بهذه الطريقة أي: لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين إلى منتهاه، في كل طبقة من طبقات السند يوجد اثنان فأكثر.
أما المشهور: فهو ما رواه أكثر من اثنين، وسمي بذلك لوضوحه.
وبعضهم يقول: إنه المستفيض من فاض الماء، وسمي بذلك لانتشاره.
وبعضهم يقول: إن المشهور ما زادت رواته عن ثلاثة.
ولا يشترط في الحديث الصحيح أن يكون مشهوراً ولا عزيزاً، فقد يكون الحديث الصحيح غريباً فرداً، خلافاً لمن يشترط أن يكون في كل طبقة من طبقات السند اثنان فأكثر، فتسقط أحاديث كثيرة جداً، ونحن عندنا حديث: (إنما الأعمال بالنيات).
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم صحابي واحد فقط وهو عمر بن الخطاب، ما عرفنا الحديث إلا من طريق عمر، ورواه عن عمر بن الخطاب تابعي واحد فقط؛ وهو علقمة بن وقاص الليثي، وما رواه عن علقمة إلا واحد وهو محمد بن إبراهيم التيمي.
ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ومن يحيى بن سعيد الأنصاري انتشر الحديث، حتى إنه يقال: إنه سمعه منه مائتي شخص، لكن الحديث بصحابيه ومن بعده ومن بعده ومن بعده واحد واحد واحد واحد في طبقات السند، ومع ذلك فالحديث صحيح، فالحديث الغريب إذا كان رواته ثقات صحيح مقبول.(13/25)
تعريف الغريب
غريب يقاسي البعد عنكم وما له وحقك عن دار القلى متحول
وذكر في هذا البيت الغريب، وهو ما انفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، فهذا هو الغريب.
السفاريني رحمه الله قال: إن المتحول هنا يمكن أن يقصد بها التحويل الذي في السند، التي تكتب أحياناً (ح) أي: تحويلة، وتعني: انتقال الراوي من سند إلى سند آخر، يلتقي بعد ذلك مع هذا السند وقد لا يلتقي ويكون الإسنادان منفصلين.
يقول: إنني لم أر فيمن شرح من قبل القصيدة ذكر هذا، لكن يُحتمل أنه أراد الإشارة إلى التحويل الذي في السند.(13/26)
تعريف المقطوع
فرفقاً بمقطوع الوسائل ما له إليك سبيل لا ولا عنك معدل
س: ماذا أورد هنا؟ ج: المقطوع، وهو ما أضيف إلى التابعي من قول أو فعل، وجمعه مقاطيع، ما ينتهي إلى التابعي وحتى من دونه من أتباع التابعين يسمى مقطوعاً؛ وهذا غير المنقطع بطبيعة الحال.(13/27)
العالي والنازل من الأسانيد
فلا زلت في عزٍ منيعٍ ورفعة ولا زلت تعلو بالتجني فأنزل
س: ماذا ذكر هنا؟ ج: العالي والنازل من فنون المصطلح، والسند العالي لا شك أنه نعمة إذا كان صحيحاً، والسند العالي ما قلت فيه الوسائط، وإذا كان بين صاحب الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة كان ذلك أشرف من أن يكون بينهما أربعة، وأشرف من أن يكون خمسة وهكذا، وكلما قلّ الرجال في السند تقل مئونة البحث فيه وفي ضعفه، واحتمالات الخطأ فيه، فهذا العالي والنازل.
فالإسناد العالي يعتبر محموداً إذا كان نظيفاً من المجروحين، وقد أحسن ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله لما قال:
إذا أحببت تخريج العوالي على الراوين حقق ما أقول
نزول عن ثقاتهم علوٌ علوٌ من ضعافهم نزول
فإذا ذهبت تروي الإسناد العالي عن طريق ضعفاء ففي الحقيقة أنت ما علوت، وإنما نزلت.
والمقصود بالعلو: العلو إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السند؛ فالراوي مثلاً يذهب إلى شيخ شيخه ويسمع منه لكي يعلو إسناده، وقد يكون العلو إلى إمام مشهور، أو إلى كتاب من الكتب الستة، ولا شك أن أفضلها في العلو العلو للنبي صلى الله عليه وسلم.(13/28)
المقصود بقصيدة ابن فرح
أوري بسعدى والرباب وزينب وأنت الذي تُعنى وأنت المؤمل
يقول الناظم: إنني استخدمت التورية وأتيت بأبيات ظاهرها الغزل، أو ذكر الحب ونحو ذلك، وما يُذكر في أشعار الغزل من سعدى والرباب وزينب وليلى ولبنى وعزة وبثينة ونحو ذلك، ولكنني أقصد شيئاً آخر، قال:
فخذ أولاً من آخر ثم أولاً من النصف منه فهو فيه مكمل
هذا لغز حله في البيت الذي بعده:
أبرُّ إذا أقسمت أني بحبه أهيمُ وقلبي بالصبابة مشعل
فما هو حل اللغز؟ فهو يلغز إلى كلمة واحدة؛ والكلمة هذه علم على شخص.
لأنه في البيت الأخير قال:
أبر إذا أقسمت أني بحبه أهيم وقلبي بالصبابة مشعل
وكان قد قال قبلها:
فخذ أولاً من آخر
أي: خذ أول كلمة من آخر بيت، وما هي أول كلمة من آخر بيت: (أبر)
ثم أولاً من النصف
التي هي كلمة (أهيم).
منه فهو فيه مكمل
فهذه الكلمة هي (إبراهيم).
وبهذا نكون قد انتهينا من المرور على منظومة ابن فرح الإشبيلي بشرح العلامة السفاريني رحمه الله تعالى.(13/29)
ترجمة ابن فرح ناظم القصيدة والسفاريني شارحها:
أما بالنسبة لناظم هذه القصيدة فهو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن فرح بن أحمد بن محمد بن فرح اللخمي الإشبيلي الحافظ المحدث الفقيه الشافعي المولود سنة 624هـ بـ أشبيلية وهو نزيل دمشق، وقد أسره الفرنج سنة (646هـ) ثم نجاه الله تعالى وحج، وسمع بـ مصر من شيخ الشيوخ عبد العزيز الأنصاري وابن عبد السلام وطبقتهما ثم استوطن في دمشق، وسمع من ابن عبد الدائم والكرماني وخلق سواهم، وسمع منه قصيدة (غرامي صحيح) -وهي التي ذكرنها- الدمياطي واليونيني والبرزالي، وهو من كبار الحفاظ، وكان له حلقة في جامع دمشق، وعرضت عليه مشيخة دار الحديث النورية، فامتنع ولعل ذلك تواضع منه رحمه الله تعالى، وله هذه المنظومة وشرح الأربعين النووية ومختصر خلافيات البيهقي، لأن البيهقي جمع المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية فاختصر الكتاب ابن فرح الأشبيلي رحمه الله، وعاش خمساً وسبعين سنة وتوفي في منزله بتربة أم الصالح مبطوناً؛ أي: بداء البطن، سنة (699هـ)، وهي سنة قازان التي أخذ فيها التتار بلاد الشام، ومات في هذه السنة خلق كثير من أهل العلم رحمه الله وشيعه جمٌ غفير.
نظم هذه القصيدة، وشرحها بعض أهل العلم منهم: الإمام عز الدين محمد بن أحمد بن جماعة وسماه: زوال الترح بشرح منظومة ابن فرح، وكذلك شرحها يحيى بن عبد الرحمن القرافي، وأول الشرح: الحمد لله الذي قبل بصحيح النية إلى آخره، وشرحها العلامة السفاريني رحمه الله، فمن هو هذا العلامة؟ وأين عاش؟ وفي أي زمن؟ لأن له مؤلفات مشهورة وموجودة.
&(13/30)
ترجمة السفاريني ونبذة عن حياته
أما بالنسبة لهذا العلامة فإنه سمي بـ السفاريني نسبة إلى سفارين وهي من أعمال بلدة نابلس في فلسطين فك الله أسرها من أيدي اليهود، فبلدة السفاريني قريبة من نابلس التي بأيدي اليهود اليوم، وكان الوقت الذي عاش فيه السفاريني رحمه الله في القرن الثاني عشر، فهو من العلماء المتأخرين نسبياً في بلاد الشام من عام (1114هـ) إلى عام (1188هـ) وكان العثمانيون يحكمون في تلك الفترة بلاد الشام، ولكن كانت فترة ضعف في الخلافة العثمانية، فقد تآلبت عليها دول أوروبا، وانتزعت منها كثيراً من ممتلكاتها والبلدان التي كانت تحت حكمها، واشتغل كثيرٌ من سلاطينها في أواخر عمرها باللهو والعبث، حتى حكّم بعضهم شريعة غير شريعة الله، واستورد القوانين وأخذ بها دون القوانين الإسلامية.
فالمهم أنه صار الوضع في آخر الدولة العثمانية حال استبداد وفوضى، وخرج عليها كثير من الولاة، وتكونت دويلات مستبدة وضعيفة، وعم السلب والنهب وفقد الأمن.
يقول العلامة محمد كرد علي مؤرخ الشام متحدثاً عن حالة الشام في القرن الثاني عشر: وسكان هذا القُطر -أي: بلاد الشام - كسائر الأقطار العثمانية لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح؛ لأن أحداً لم يأخذ بأسبابه ولا توسل بطرقه، فصار التخلف والاستبداد وإرهاق الرعية بالضرائب والإتاوات، وعم الفقر والبؤس.
ولما عمت الإتاوات والضرائب والفقر والبؤس كان من دور الشيخ السفاريني مقاومة ذلك، فكان محارباً للظلم والطغيان، ومما يذكر من شجاعته أنه قال لأمير نابلس لما تولى بعد أبيه الأمير، وجاء أهل العلم لتهنئته وطلبوا منه إلغاء الضرائب الزائدة عن الزكاة الشرعية؛ لأن المزارعين لا يشبعون من غلة أراضيهم لكثرة الضرائب، فقال الأمير: لا أغير شيئاً مما كان عليه والدي المرحوم، فقال له الشيخ السفاريني: وما أدراك أنه مرحوم؟ أزل الضرائب والناس يدعون لك، فاستجاب له وأزال كثيراً من الضرائب، وأخذوا منه كتابة لإزالة الضرائب، ودعوا له بالتوفيق.
أما بالنسبة للحالة الدينية في ذلك الوقت فإن الجمود والانحطاط أثر بلا شك في الحالة العلمية فمثلاً: انتشار التصوف وظهور البدع والخرافات كان واضحاً في ذلك العصر، حتى قال الكاتب الأمريكي لوثرب استيوارت في كتابه: حاضر العالم الإسلامي، فيقول عن هذه الفترة: وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة للناس -وهو النبي صلى الله عليه وسلم- سجفاً من الخرافات وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبونهم بالحج إلى قبور الأولياء، ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن إلى آخر كلامه.
السفاريني رحمه الله في كتابه غذاء الألباب نقل صوراً مخزية عن الحال التي كانت في عصره، وكذلك ابن مفلح من أهل زمانهم أيضاً قال: فما بالك بعصرنا هذا الذي نحن فيه -وكان طبعاً في المائة الثانية عشرة من الهجرة- وقد انطمست معالم الدين وطفئت إلا من بقايا حفظت الدين، فصارت السنة بدعة والبدعة شرعة، والعبادة عادة والعادة عبادة، فعالمهم عاكف على شهواته، وحاكمهم متمادٍ في غفلاته، وغنيهم لا رأفة عنده ولا رحمة بالمساكين، وفقيرهم متكبر وغنيهم متجبر.
ثم حكى عن الصوفية الذين في عصره فقال: فلو رأيت جموع صوفية زماننا وقد أوقدوا النيران وأحضروا آلات المعازف كالدفوف المجلجلة والطبول والنايات والشبابات -وهي جمع شبَّابة وهو نوع من المزامير- وقاموا على أقدامهم يرقصون ويتمايلون لقضيت بأنهم فرقة من بقية أصحاب السامري، وهم على عبادة عجلهم يعكفون، أو حضرت مجمعاً وقد حضره العلماء بعمائمهم الكبار، والفراء المثمنة، والهيئات المستحسنة، ينشدون الأشعار المهيجة في وصف الخدود والنهود والقدود، وقد أرخى القوم رءوسهم ونكسوها، واستمعوا للنغمة واستأنسوها، لقلت وهم لذلك مطرقون: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
في خضم هذا الفساد الاعتقادي والابتعاد عن الكتاب والسنة، نشأ وحمل لواء الإصلاح أئمة في ذلك الوقت، منهم الشيخ محمد السفاريني رحمه الله في بلاد الشام، ولا شك أن تآليف الشيخ في العقيدة تدل على أنه كان سلفياً في الجملة، كما في كتابه: لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية في شرح قصيدة أبي داود الحائية، وكذلك كتابه: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية.
وكذلك كتابه: البحور الزاخرة في علوم الآخرة، فإنه يظهر منها في الجملة أن الرجل كان سلفي المعتقد، والعصر الذي وجد فيه كان عصر جمود وعدم ابتكار، وحتى لو كان هناك مؤلفات فكثير منها حواشٍ على مؤلفات قديمة، أو اختصارات، أو جمع، أما من جهة التأليف المبتكر الذي يدل على اجتهاد أو قوة علم وعمق فنادراً ما كنت تجده في مؤلفات ذلك الوقت، لكن كما قلنا وجد أئمة كبار مثل الشيخ محمد حياة السندي رحمه الله، ومن محدثي ذلك الزمان، وكان من شيوخ السفاريني رحمه الله.
وقال السفاريني في كتابه: شرح ثلاثيات مسند أحمد، فيقول عن الحالة العلمية في عصره: لم يبق من آثار ذهاب البيان إلا حكايات تتزين بها الطروس ككان وكان، والعلم قد أفلت شموسه، وتقوضت محافله ودروسه، وربعه المأهول أمسى خالياً، وواديه المأنوس أضحى موحشاً داوياً، وغصنه الرطيب غدا ذاوياً، وبرده القشيب صار بالياً، فالعالم الآن قلت مضاربه، وضاقت مطالبه، وسدت مذاهبه، فليس له في هذا الزمان إلا التجاء إلى عالم السر والإعلان، هذا بالنسبة للحالة التي كان موجوداً فيها السفاريني رحمه الله تعالى.
أما اسمه: فهو محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني أبو العون شمس الدين، ونسبته إلى سفارين، قال مرتضى الزبيدي: وهي كجبارين أي: في النطق، قرية من قرى نابلس؛ ونابلس بضم الباء والميم كما قلنا وكما ضبطها السمعاني في كتابه: الأنساب، وهي البلدة المعروفة في جنوب شرق طولكرم بـ فلسطين على مسافة عشرين كيلو متر، وينسب إليها العالم محمد السفاريني رحمه الله.
مولده كما قلنا: سنة (1114هـ)، وأسرته قيل: إنها كانت من الحجاز حيث نزح بعض أفرادها وسكنوا طولكرم ويافا، ومنهم الشيخ سعيد بن أسعد السفاريني كان إماماً في المذهب الحنبلي.
وللشيخ محمد الذي نحن بصدده ابنان من أبنائه يوسف ومصطفى، ومن أحفاده عبد الرحمن بن يوسف وعبد القادر بن مصطفى، وكانا من أهل العلم.
وأما بالنسبة لسيرته رحمه الله: فإنه كان عالماً جليلاً جميلاً صاحب سمت ووقار ومهابة واعتبار، جمع بين الإمامة والفقه، والديانة والصيانة، والصدق وحُسن السمت والخلق، والتعبد وطول الصمت عما لا يعنيه، وكان محمود السيرة نافذ الكلمة رفيع المنزلة سخي النفس، كريماً بما يملك مهاباً معظماً، وكان كثير العبادة ملازماً على قيام الليل يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة، ويشغل جميع أوقاته بالإفادة والاستفادة، يطرح المسائل على الطلاب والأقران، ويدير بينهم المحاورة، وكان صادعاً بالحق لا يبالي فيه جميع أعيان البلد، وكان أمراؤها يهابونه، كان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، خيراً جواداً.
ومع حرصه على الكتب العلمية وجمعه كثيراً منها كان يقول من تواضعه: أنا فقير للكتب العلمية، وكل ما يدخل في يده من الدنيا ينفقه، وعاش مدة عمره في بلده عزيزاً موقراً محتشماً، كانت وفاته رحمه الله سنة (1188هـ)، قال الجبرتي في تاريخه؛ وتاريخ الجبرتي من التواريخ المهمة في العصور المتأخرة، وهذا التاريخ مهم وجيد، ومن نوادر الذين أرخوا تاريخاً فيه نزاهة وعدل في الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الجبرتي رحمه الله، قال الجبرتي عن الشيخ السفاريني: لا يزال يملي ويفيد ويجيز من سنة (1148هـ) إلى أن توفي يوم الاثنين الثامن من شوال من هذه السنة بـ نابلس وجهز وصلي عليه بالجامع الكبير، ودفن بالمقبرة الزراكينية وكثر الأسف عليه.
ولا شك أن هذا الرجل ما دام بلغ هذا المبلغ من العلم فلا بد أن يكون في أول أمره حريصاً عليه من السن المبكرة، فهو قد قال: وقد منّ الله علي بقراءة القرآن سنة (1131هـ) فانتهى منه حفظاً واشتغل بالعلم، ورحل إلى دمشق في سنة (1133هـ) ومكث خمس سنين يأخذ عن علمائها، ورزقه الله قوة حفظ وملكة في الاستيعاب، ولذلك فقد استوعب علوماً كثيرة وأخذ عن مشايخ كبار وعلماء وأجازه غير واحد، فلما صار عمره تسع عشرة سنة كان قد فقه وأتقن مسائل المذهب يذاكر بها شيوخه، حتى قال عن شيخه عبد القادر التغلبي: ذاكرته في عدة مباحث من شرحه على الدليل؛ وهو دليل الطال(13/31)
التفريح بذكر التسبيح
التسبيح له فضل عظيم وأجر كبير، ويدلك على ذلك أن الله أمرنا به في الصلاة وفي غيرها، بل ورتب عليه أجراً كثيراً، وقد ذكر الشيخ المواطن التي يجب ويستحب فيها التسبيح، كما تحدث عن التسبيح الجماعي وذكر بدعيته مستدلاً على ذلك.(14/1)
مقدمة عن التسبيح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- بعنوان: التفريح بذكر التسبيح.
التسبيح عبادةٌ عظيمة لله سبحانه وتعالى، نسبح الله تعالى بكرةً وأصيلاً، نسبح الله في الصباح والمساء، نسبح الله في الصلوات؛ في ركوعنا وسجودنا، نسبح الله في افتتاحنا لصلواتنا.
هذه العبادة ما معناها؟ ما هي المواضع التي يذكر فيها التسبيح؟ وما فضل التسبيح؟ إلى أمورٍ أخرى نتعرف عليها بمشيئة الله تعالى في مرورنا على هذه العبادة العظيمة من الأذكار التي يذكر بها المسلم ربه.(14/2)
معاني التسبيح
أما معناه أيها الإخوة! فإن التسبيح: هو التنزيه فإذا سبحت الله أي: نزهته عن جميع النقائص والعيوب تسبح الله سبحانه وتعالى، أي: أن تبرئ ربك من كل عيب، وأن تشهد له بالكمال، وإذا حمدته فأنت تثني عليه، فيكتمل التسبيح بالتحميد، تمجيد الله عز وجل، لأنك تثبت له الكمال من جهة، وتنفي عنه النقص من جهةٍ أخرى، ولذلك كان من أعظم الأذكار: سبحان الله وبحمده: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17].
وقد يكون التسبيح بمعنى الصلاة كما أنه قد جاء في صلاة السبحة (سبحة الضحى) وهي: النافلة تسمى بالتسبيح، لأنها تشتمل على التسبيح، وكذلك فإن هذا التسبيح هو من رءوس الأذكار، فإن ذكر الله تعالى منه ما يكون تسبيحاً، ومنه ما يكون تهليلاً، ومنه ما يكون تحميداً منه ما يكون تكبيراً، وكل هذا من أنواع الثناء على الله عز وجل، والتسبيح تبريكٌ وتقديسٌ وتطهيرٌ، والتسبيح من حكمته استحضار العبد عظمة الخالق، ليمتلئ قلبه هيبةً فيخشع له سبحانه وتعالى، هذا التسبيح مطلوبٌ عقله بالقلب والتفكر فيه، وأننا إذا قلنا سبحان الله، فإن هذه ليست كلمة تقال باللسان دون أن نعرف معناها، بل نستحضر المعنى إذا عرفناها، إن التسبيح عبادةٌ لو كانت على طهارة فهي طيبة، ويجوز أن تكون على غير طهارةٍ قائماً وقاعداً ومضطجعاً: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191].
التسبيح داخل في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) وسواء كان تسبيحاً أو غيره، ويندب للمسلم أن يسبح الله سبحانه وتعالى بصوتٍ خافت على وجه العموم: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف:205].
وأما دبر الصلوات فقد ذهب عددٌ من أهل العلم إلى مشروعية الجهر به؛ لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قد أخبر أن الجهر بالذكر عقب المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التسبيح إذا عقله الإنسان، فإنه يعقل أموراً كثيرةً منها:(14/3)
بعض المخلوقات التي تسبح الله
أن يعرف أنه ليس مختصاً بهذا الذكر، فإن هناك مخلوقات تسبح الله سبحانه وتعالى، ألم يأتك خبر تسبيح الملائكة، لقد روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أخبرني رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار؛ بينما هم جلوس ليلةً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمي بنجمٍ فاستنار، -أضاء النجم في السماء لما رمي به- فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: كنا نقول: ولد الليلة رجلٌ عظيم، ومات رجلٌ عظيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال، قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضاً حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا) كلما أمر سبحانه بأمرٍ سبحت الملائكة على طبقاتها؛ حملة العرش ويليهم أهل السماوات السبع، حتى ينتهي التسبيح إلى الملائكة الذين في السماء الدنيا، إن السماوات ممتلئة بالملائكة ليس فيها موضع شبرٍ أو أربع أصابع إلا وفيه ملكٌ قائم راكعٌ أو ساجد (أطت السماء وحق لها أن تئط) لقد اهتزت واضطربت بعبادة الملائكة فيها، فهؤلاء الملائكة يسبحون الله سبحانه وتعالى.
- وكذلك الجبال والطير تسبح، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله عز وجل: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فهي تسبح الله عز وجل وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] كل شيءٍ حتى الجمادات تسبح بحمد الله تعالى، وهذه الجبال لما كان داود عليه السلام يقرأ في الزبور ما تملك الجبال إلا أن تسبح معه من جمال صوته عليه السلام، ولذلك قال المفسرون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] قال مجاهد: [سبحي معه].
ومن الجمادات التي سبحت: الطعام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا نعد الأيادي بركة وأنتم تعدونها تخوفيا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناءٍ فيه ماءٌ قليلٌ فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حيّ على الطهور المبارك، والبركة من الله) فلذلك لا يجوز أن يقال: بارك لنا يا فلان، أو تباركت علينا يا فلان، مصدر البركة من الله وليست من المخلوق، والله يبارك من خلقه ما يشاء، فجعل النبي مباركاً، وجعل ماء زمزم مباركاً، ويجعل البركة فيما يشاء سبحانه وتعالى.
وقال ابن مسعود: (فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يدي النبي صلى الله عليه وسل) فالصحابة كان يسمعون بآذانهم تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأكرم وأعظم تسبيح هو تسبيح أهل الجنة.
أهل الجنة يسبحون الله عز وجل، وتسبيحهم لله سبحانه وتعالى ليس بتعبٍ ولا بنصب؛ لأنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس كما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون، قالوا: فما بال الطعام؟ أين يذهب إذا أكله أهل الجنة؟ قال: جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك) فضلات الطعام من أجسادهم تترشح، ولكن رشحٌ ليس كعرقنا برائحة كريهة، إنما هو رشحٌ كرشح المسك، فيضمر بطن أحدهم، فيعود ويأكل، ويرشح كرشح المسك، ويضمر بطنه ويأكل، وهكذا في أكلٍ مستمر ولذةٍ مستمرة.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: (يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس) رواه مسلم، هل نتعب إذا تنفسنا نحن، إننا نتنفس بطريقةٍ آلية بدون كلفةٍ أو مشقة وهكذا يلهم أهل الجنة التسبيح، يسبحون باستمرار ولا يتعبهم ذلك التسبيح.(14/4)
فضل التسبيح وأجره ومنزلته
التسبيح -أيها الإخوة- منزلته عظيمة وأجره جزيل وفضله كبير.
وقد جاء عن أبي مالكٍ الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (التسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض) وقال: (الحمد لله تملأ الميزان) وكذلك قال (إن التسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض) روى ذلك النسائي رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو صدقةٌ من الصدقات كما قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح على كل سلامى في كل يوم صدقة) كل عظم أو كل مفصل من المفاصل عليه صدقة، لشكر نعمة المفاصل، كيف نتحرك وكيف نقرب وكيف ننبسط إلا بهذه المفاصل، في الإنسان ثلاثمائة وستون، كل واحد عليه شكر نعمة، كل سلامى من أحدكم في كل يومٍ صدقة، فمن أين تأتي بثلاثمائة وستين صدقة؟ قال: (فله بكل صلاةٍ صدقة، وصيامٍ صدقة، وحجٍ صدقة، وتسبيحٍ صدقة) الحديث رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح.
وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن أجر التسبيح فقال الحديث الذي رواه أحمد رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عبد الله مولى جهينة قال: سمعتُ مصعب بن سعد يحدث عن سعد، وهؤلاء كلهم ثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيعجز أحدكم أن يكسب في اليوم ألف حسنة؟! قالوا: ومن يطيق ذلك؟ قال: يسبح مائة تسبيحه فيكتب له ألف حسنةٍ وتمحى عنه ألف سيئةٍ).
إذاً مائة تسبيحه في اليوم، مائة تسبيحة يومياً يسردها كلها في نفس الوقت أو يجزئها على أوقات أو غير ذلك، وهي سهلة، قد تحتاج منك عشر دقائق أو ربع ساعة، دقائق قليلة تكسب فيها ألف حسنة، وليس فقط هذا، وإنما تمحى عنك ألف سيئةً أيضاً، والله ذو الفضل العظيم.(14/5)
تسبيح النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح الله في صلاته، وإذا أردنا أن نعرف عدد المرات التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يسبح فيها في ركوعه وسجوده فإن أقرب حديثٍ ينبئنا عن ذلك حديث سعيد بن جبير: قال: (سمعت أنس بن مالك يقول: ما صليتٌ وراء أحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاةً برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني: عمر بن عبد العزيز - قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات) رواه النسائي رحمه الله فيه.
هذا الحديث هو الحديث الذي فيه ذكر عدد التسبيحات النبوية في الركوع والسجود، كان عليه الصلاة والسلام -نحن نعلم أن الواحدة واجبة والثلاث أفضل- يسبح عشر تسبيحات في الركوع وعشر تسبيحات في السجود.
وكان عليه الصلاة والسلام يسبح في صلاته إذا قرأ القرآن وخصوصاً في قيام الليل كما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه قال: (صليتٌ مع النبي عليه الصلاة والسلام ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً فإذا مر بآية فيها تسبيحٌ سبح، وإذا مر بسؤالٍ سأل، وإذا مر بتعوذٍ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه) وهكذا كان عليه الصلاة والسلام طويل التسبيح في صلاته، وفي ركوعه وسجوده، وفي قيامه إذا قرأ في صلاة الليل ومر بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبح الله عز وجل، توقف عن القراءة وصار يسبح الله سبحانه وتعالى.(14/6)
مواطن يستحب فيها التسبيح(14/7)
التسبيح في الصلاة المفروضة وبعدها
لقد جاءت -أيها الإخوة- السنة بأن التسبيح في افتتاح الصلاة وأثناء القراءة في قيام الليل، وفي الركوع والسجود، وإذا انتهى من الصلاة فإنه يسبح الله ثلاثاً وثلاثين كما جاء ذلك في حديثٍ صحيح، يقول عليه الصلاة والسلام ((من سبح الله في دبر كل صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على شيءٍ قدير؛ غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).
فإذاً في أول الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، وبعد نهاية الصلاة أول ذكر من الأذكار: سبحان الله، يبدأ به، ثلاثاً وثلاثين.(14/8)
التسبيح في الصباح والمساء
لقد جاءت السنة أيضاً بتسبيح الله سبحانه وتعالى في الصباح والمساء كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثلما قال أو زاد عليه) رواه مسلمٌ رحمه الله تعالى.
وكذلك فإن التسبيح في الصباح والمساء مما ورد في القرآن: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130] وكما مر معنا يطلق التسبيح على الصلاة.(14/9)
التسبيح في السفر
لقد ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كانوا إذا نزلوا في السفر -في منخفضٍ من الأرض- سبحوا الله تعالى: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) وقد أشار ابن القيم رحمه الله وغيره إلى مناسبة هذا التسبيح، وهو أن الإنسان إذا نزل في منخفض فإنه يتذكر أن ينزه الله تعالى عن السفول وعن المواطن المنخفضة، وعن كل نقصٍ وعيبٍ، ويقدس ربه بهذا التسبيح، فإذا نزل قال: سبحان الله، وإذا ارتفع تذكر عظمة ربه وارتفاعه سبحانه وتعالى فكبرَ، يكبر الله ويذكر الكبير المتعال.
وكذلك التسبيح يكون أيضاً في الركوع والسجود واجباً كما تقدم، وأن التسبيح في الركوع بقوله: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى مناسبٌ لحال المصلي، فإن المصلي عندما يكون في أنزل مكان وأخفض مكان ويضع جبهته على الأرض ويقول: سبحان ربي الأعلى، فيتذكر علو ربه، وهو في أخفض مكان، كما أنه يسبحه عندما ينزل في الأماكن المنخفضة في الأسفار، وهذا ليس خاصاً بالأرض فحتى لو كان في الجو ونزل أو نزلت الطائرة فإنه يسبح الله سبحانه وتعالى.(14/10)
تنبيه الإمام في الصلاة بالتسبيح
سبحان الذي لا ينسى، لقد كان التسبيح منبهاً للإمام من قبل المأمومين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نابه شيءٌ في صلاته فليقل: سبحان الله).
(وجعل التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) فإذا أخطأ الإمام وأراد المأموم أن ينبهه، فإنه يقول له: سبحان الله، فهذا الإنسان ينسى والله تعالى لا ينسى، فسبحان من لا ينسى، ولذلك يذكر المأموم الإمام التسبيح، إذا أخطأ أو سهى في صلاته، كما أن المصلي يمكن أن يسبح لأي شيءٍ ينوبه في الصلاة، فلو أن إنساناً طرق الباب، أو أوشك شخصٌ على الوقوع في المهلكة، أو أوشك الولد أن يقترب من الكهرباء، وأراد المصلي أن ينبه زوجته أو أحداً في البيت، فإنه لا بأس عليه أن يرفع صوته بالتسبيح ما دام أنه قد نابه شيءٌ في الصلاة، فليسبح.
(من نابه شيءٌ في صلاته فليقل: سبحان الله فإنه لا يسمعه أحدٌ يقول: سبحان الله إلا التفت) حديثٌ صحيحٌ رواه البخاري رحمه الله تعالى.
وكذلك جاء عن علي رضي الله عنه: (كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً آتيه فيها، فإذا أتيته استأذنته؛ إن وجدته يصلي فسبح دخلت، وإن وجدته فارغاً أذن لي).
إن التسبيح أيها الأخوة! يكون في عبادات أخرى مثل: ما يكون في صلاة الكسوف والخسوف، فإنه قد جاء في السنة أن التسبيح عند الكسوف والخسوف عبادة، كما روى عبد الرحمن بن سمرة رضي الله تعالى عنه حيث قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد كسفت الشمس وهو قائمٌ في الصلاة رافعٌ يديه، فجعل يسبح ويهلل ويكبر، ويحمد ويدعو حتى حسر عنها) وهذا الحديث قد رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.(14/11)
التسبيح في صلاة العيدين
والتسبيح يكون مشروعاً في تكبيرات صلاة العيدين، فإن الثناء على الله بعد كل تكبيرة من تكبيرات صلاة العيدين سنة، فيسبح ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحمد الله تعالى ويهلله عز وجل، فيقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، مما كان يقول بين تكبيرات العيد، أن يحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم.(14/12)
التسبيح عند التعجب
التسبيح يستعمل عند التعجب، إذا قال لك إنسان شيئاً عجيباً أو استغربت من فعلٍ أو قولٍ فإنه يشرع لك التسبيح، هذا من المواطن التي يسبح فيها الإنسان، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا هريرة وأبو هريرة جنب، فانسل أبو هريرة وذهب خفية فاغتسل فتفقده النبي عليه الصلاة والسلام وسأل عنه قال: أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله! لقيتني وأنا جنب، فكرهت أن أجالسك حتى أغتسل، فقال: سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) فقد تعجب عليه الصلاة والسلام مما قاله أبو هريرة إذ كان أبو هريرة يظن أن الجنب لا يجالس ولا يصافح، فقال ((سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) وكذلك جاء في صحيح مسلم، عن أنسٍ رضي الله عنه أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (القصاص القصاص فقالت أم الربيع: يا رسول الله! أتقتص من فلانه؟ والله لا يقتص منها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: القصاص كتاب الله، سبحان الله يا أم الربيع! وإن هناك من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، كما حصل أن عم أنس بن مالك، أنس بن النضر لما جيء بخبر القصاص قال: والله لا تكسر ثنية الربيع وأبر الله قسمه وتسامحا) وكانوا من قبل مصرين على القصاص، ومصرين على كسر سن هذه الفاعلة، وهذه الفاعلة كان لها منزلة عظيمة، لكنها اعتدت وأخطأت، ولما حكم النبي عليه الصلاة والسلام بالقصاص، وأصروا عليه وجاء أنس بن النضر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله لا تكسر ثنية الربيع، هذه المرأة الصالحة لا تكسر ثنيتها حلف فأبر الله قسمه، فجاءوا وتنازلوا ولم تكسر ثنيتها.
إن التسبيح عند الرعد قد ورد فيه حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنّا مع عمر رضي الله عنه في سفر، فأصابنا رعدٌ وبرد فقال لنا كعب رضي الله عنه: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاث مرات، عوفي من ذلك الرعد، قال: فقلنا فعوفينا) أخرجه الطبراني وحسنه ابن حجر رحمه الله كما نقل ابن علان في الفتوحات الربانية.(14/13)
التسبيح للحائض والجنب
إن هذا التسبيح يكون للإنسان في كل أحيانه، ولذلك فهو إنقاذ للحائض ومجالٌ لها للأجر وذكر الله تعالى، فحيث أنها لا تقرأ القرآن ولا تمسك القرآن، وعند بعض العلماء لا تقرأ القرآن لكنها لا تنسى التسبيح، ولذلك لما ذكر الترمذي رحمه الله تعالى المسألة في سننه ساق الحديث وفي إسناده ضعف، قال ((لا تقرأ الجنب ولا الحائض) وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم، مثل: سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئاً إلا طرف الآية والحرف ونحو ذلك، ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل.
فحتى لو قلنا على قول هؤلاء العلماء أنها لا تقرأ القرآن، فلا يعني هذا أن تنقطع عن ذكر الله، ولذلك يكون التسبيح مجالاً للعبادة، فتهلل وتسبح وتذكر الله عز وجل، واختار عددٌ من أهل العلم أن الحائض يمكن أن تقرأ القرآن لكن بدون أن تمس المصحف، وتقرأ القرآن إما عن ظهر قلب، أو أنها تمسك المصحف بخرقةٍ أو بشيءٍ أو تقلب الورقة بالقلم ونحو ذلك.(14/14)
التسبيح فيه قوة للبدن ووقاية من المجاعة
التسبيح فيه قوة للبدن والدليل على أن التسبيح يقوي البدن ما جاء في الحديث الصحيح عن عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه قال: شكت إليّ فاطمة مجل يديها من الطحين -لقد أصاب يدي فاطمة خشونة نتيجة الخبز فشكت لزوجها علي رضي الله عنه- فقال لها علي مقترحاً: لو أتيت أباك فسألته خادماً، فذهبت تسأل أباها خادماً يكفيها مؤنة العمل، فقال ((ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من الخادم؟ إذا أخذتما مضجعكما تقولان ثلاثاً وثلاثين، وثلاثاً وثلاثين وأربعاً وثلاثين، من تحميدٍ وتسبيحٍ وتكبير).
فإذا سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر أربعاً وثلاثين، هذه الأذكار بدل الخادم، إذاً تعطي قوة للبدن، وتعوض عن الخادم، وأشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله وعده من الأذكار التي تقوي البدن، وقد جاء في الحديث أيضاً، أن التسبيح يقيت الناس، عندما لا يكون هناك طعام ولا شراب، وهذا ليس في الآخرة بل في الدنيا، يأتي على الناس وقت لا يجدون فيه طعاماً ويعيشون مدة طويلة بدون طعام فما يقيتهم وما يقويهم وما يبقيهم على قيد الحياة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدجال المشهور: (وإنه قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شدادٍ يصيب الناس فيها جوعٌ شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضرا، فلا تبقى ذات ظلف -الدواب- إلا هلكت، إلا ما شاء الله، قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل والتكبير والتسبيحُ والتحميدُ ويجري ذلك عليهم مُجرى الطعام).
إذاً يقوم هذا بالنسبة لهم مقام الطعام، ويكفيهم عن الطعام! هذا التسبيح لعظمة أجره وفائدته في الدنيا وفي الآخرة.(14/15)
ابن مسعود وإنكاره للتسبيح الجماعي
ولنعلم أخيراً -أيها الإخوة- أن هذه العبادة قد ابتدع بعض الناس فيها بدعاً كثيرة، في طريقة التسبيح، وأدخلوه في أشياء، فبعضهم يسبح في الأذان، وأيضاً في اتباع الجنازة بعضهم يسبح مشيعاً الجنازة، ولا شك أن هذا كله من البدع المنكرات.
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الجنائز.
ومن البدع أيضاً: التسبيح الجماعي كما يفعل في بعض البلدان، يبدأ الإمام فيسبح الناس كلهم بصوتٍ واحد ثلاثاً وثلاثين بعد الصلاة وهكذا.(14/16)
أصحاب حلق الذكر وكيفية تسبيحهم
وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حديثٌ عظيمٌ في هذا الشأن، رواه الدارمي رحمه الله بإسنادٍ صحيح، قال عمرو بن يحيى سمعتُ أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد -يستفيدون من العالم وهو خارج من باب بيته إلى المسجد- فجاءنا أبو موسى الأشعري على باب بيت عبد الله بن مسعود، فقال: أخرجَ إليكم أبو عبد الرحمن بعدُ؟ قُلنا: لا.
فجلس معنا، حتى خرجَ فلما خرجَ قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً نكرته، ولم أرَ والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ قال: إن عشتَ فستراه، لقد رأيتُ في المسجدِ قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقةٍ رجلٌ وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة!! -إذاً هذا العمل كان عن أمر رجلٍ بمجموعات معهم حصى قال عبد الله بن مسعود لـ أبي موسى الأشعري: فماذا قلتَ لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظاراً لرأيك وأمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم ألا يضيع من حسناتهم؟ وغضب عبد الله بن مسعود؛ لأن أبا موسى لم ينكر المنكر الواضح والبدع الواضحة، ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقةً من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُ بها التكبير والتهليل والتسبيح، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامنٌ ألا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر -ما أسرع ما وقعتم في البدع! الآن الصحابة ما زالوا موجودين والنبي صلى الله عليه وسلم آنيته موجودة، وثيابه موجودة، ومات قريباً، وبسرعة وقعتم في البدع- والذي نفسي بيده؛ إما إنكم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة قالوا: والله -يا أبا عبد الرحمن - ما أردنا إلا الخير -هذه العملية فيها تحميس وفيها ضبط للعدد، هذه العملية يتشجعون فيها على الذكر، ولا أحد يقوم بسرعة بعد الصلاة بل الجميع يأتي بالأذكار وما أردنا إلا الخير- قال: وكم من مريدٍ للخير لم يصبه!(14/17)
وكم من مريد للخير لم يصبه
وهذه عبارة عظيمة جداً أهل البدع لا أحد منهم يقول: أنا أريد شراً، لا أصحاب المسابح الألفية ولا أصحاب الصلوات النارية، ولا أصحاب الأذكار الصمدية، ولا أصحاب اللطيفية، يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعين مرة! ولا أصحاب البدع المختلفة من الموالد وغيرها.
ولا يقول: أريد بدعة، كلهم يقول: نريد الخير، نريد إحياء القلوب، نريد الذكر والحسنات، نريد الأجر، نريد التحميس، نريد الضبط وهكذا، فقال ابن مسعود: وكم من مريدٍ للخير لم يصبه! أي: فكونكم تريدون الخير، لا يبرر العمل -إذا كان العمل خطأ فالمائة الحسنة لا تبرره، يبقى العمل خطأ ولو كانت النية حسنة.
ليت أصحاب البدع من الصوفية وغيرهم يفقهون هذه الكلمة، النية الحسنة لا تبرر البدعة، تبقى البدعة بدعة، والخطأ خطأ ولو كانت نية حسنة، ولو كان يقصد الخير، ولو قال لك: اجتمعنا في المولد في اثني عشر ربيع الأول لنتذكر سنة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته، ولو كنتم تريدون الخير، ولو كنتم تقصدون إحياء السيرة وتذكرها، يبقى الاحتفال بالمناسبة بدعة، والاجتماع عليها بدعة، ويبقى إظهار الاحتفال والفرح بها عيدٌ مبتدع مخالف، وكم من مريدٍ للخير لم يصبه.
كنتُ أناقش شخصاً قبل أيام في مسألة الاحتفال بيوم المولد، فقال: نحن نجتمع في يوم المولد ونعمل أشياء، وفينا أحد المشايخ يرى الرسول صلى الله عليه وسلم كل ليلة في المنام، ويأخذ منه تعليمات.
وهذه كارثة أيها الإخوة، يرى الرسول كل ليلة! هل الرؤية باليد، أم بالريموت كنترول؟ واحد إذا ضغط على زر يأخذ قليلاً من النوم ثم يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يا ليت رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام بالمنام كانت مسألة باليد، إذاً لكان الواحد ضغط الزر ونام، أو يقول أذكاراً معينة وينام ويأتيه الرسول في المنام، هذا يقول: شيخنا يرى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ليلة، قلت له: في كل ليلة؟! قال: لا يمر أسبوع إلا ويراه، ثم قال: يتلقى منه تعليمات، وهذه طبعاً كارثة كبيرة جداً جداً، أي: يتلقى منه تعليمات، يعني ممكن أن يقول: الكتاب والسنة الآن على جنب، وفتح باب جديد، لأن هناك تعليمات إضافية، يأتيه في المنام ويقول له تعليمات، وافعل وقل لأتباعك، وقل لأصحابك أن يفعلوا كذا كذا.
وهذا هو الخطر العظيم وهذا هو الشر الداهم والمستطير أن يقال: جاءنا في المنام، لو جاءه أحد فقد جاءه إبليس قطعاً.(14/18)
المبتدعة لا يجاوز القرآن تراقيهم
وقال ابن مسعود لأصحاب حلق الذكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (إن قوماً يفقهون القرآن لا يجاوز تراقيهم) لا أجر ولا ثواب ولا انتفاع، لا يجاوز الحناجر والتراقي، وايمُ الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، هذه فراسة ابن مسعود رضي الله عنه فراسة عجيبة! يقول ابن مسعود: أظن القوم هؤلاء الذين أخبرني النبي عليه الصلاة والسلام عنهم، أنهم يقرءون القرآن ولا ينتفعون به، ولا يثابون ولا يأخذون منه شيئاً، مثل السهم إذا اخترق الغزال ونفذ من الطرف الآخر من سرعته وقوته، فإن السهم يخرج نظيفاً لم يعلق به من لحم وعصب الغزال شيء إطلاقاً، كما يخرج السهم من الرمية من قوس الصائد، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم.
يقول: لعل أكثر هؤلاء منكم أنتم يا أيها الذين تذكرون بهذه الطريقة المبتدعة، ثم تولى عنهم رضي الله عنه، فقال عمرو بن أبي سلمة: رأينا عامة أولئك يطاعنون يوم النهروان مع الخوارج، فعلاً حصل، وهؤلاء كانوا في عماد جيوش الخوارج الذين قاتلوا علياً والصحابة والصالحين من المسلمين في معركة النهروان، وكان معهم ذو الثدية وهو رجلٌ أسود، مقطوع اليد، في عضده مثل حلمة ثدي المرأة، علامة على أن هؤلاء هم جيش الخوارج، ولذلك علي بن أبي طالب طلبَ أن يلتمسوه في القتلى، حتى يطمئن أنه ما قاتل مسلمين وأراق دماء مسلمين، فبحثوا فما وجدوه قال: ما كذبت ولا كذبت، لا يمكن إلا أن يكون هذا موجوداً، فبحثوا وبحثوا ووجدوه تحت الجثث مقتفياً مقتولاً، وجدوه وآيته في عضده مثل حلمة ثدي المرأة وحولها شعيرة.
رجل أسود، النبي صلى الله عليه وسلم أخبر علياً رضي الله عنه أنه سيقاتل قوماً هذه آيتهم، ذو الثدية وفعلاً قد كانوا هؤلاء.
إذاً أيها الإخوة: هذا التسبيح عبادة عظيمة قد يجعلها بعض الناس على هيئةٍ بدعية، لا يرضاها الله ولا رسوله، ولا شرعها الله ولا رسوله.(14/19)
التسبيح باليد اليمنى
ويكون التسبيح باليد، والأفضل باليمنى كما بين الصحابي كان يعقد التسبيح بيمينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كما روى عمرو بن العاص: (كان يعقد التسبيح بيمينه) رواه أبو داود والترمذي وهذا الحديث يبين أن السنة أن الإنسان إذا أراد أن يعد التسبيح أن يجعل عقدة من طرف الأصبع الأنملة مع راحة اليد، هذه عقده، وهذه عقدة ثانية، وهذا طرف الإصبع مع راحة اليد، فيعقد التسبيح بيمينه ويعد ثلاثة وثلاثين وهكذا إذا أراد أن يضبط العدد، وهذا ليس فقط لضبط العدد، بل له فوائد أخرى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنهن مسئولاتٌ مستنطقات، أطراف الأصابع الأنامل، قال (واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات) فيوم القيامة تشهد لك هذه الأنامل بأنك ذكرت الله فيها، هذه طائفة من هذه العبادة العظيمة وهي التسبيح.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المسبحين ومن المستغفرين ومن التائبين، وصلى الله على نبيه الأمين.(14/20)
الأسئلة(14/21)
التسبيح بالسر
السؤال
هل التسبيح بالسر مشروع؟ أو لابد من تحريك الشفتين على الأقل؟
الجواب
نعم.
لا يعتبر تسبيحاً حتى تذكره، ولا يكون ذكراً حتى تتلفظ به، ولكن لا يعني أن تجهر به وتصيح، لكن لابد أن يجري نفس يتحرك اللسان والشفتان حتى يكون ذكراً تؤجر عليه، أما التأمل القلبي أو إمرار الشيء في الذهن، فلا يعتبر ذكراً إلا إن كان ذكراً بالقلب.(14/22)
تفريق صيام الكفارة
السؤال
هل يجوز تفريق صيام كفارة اليمين؟
الجواب
نعم.
الجمهور على أنه يجوز تفريقه، وذهب ابن مسعود رضي الله عنه إلى التتابع فيها، وقرأ القراءة المفسرة صيام ثلاثة أيام متتابعات، ولكن لو فرقها ليس عليه بأس إن شاء الله، وإذا صامها متوالية فهو أحوط.(14/23)
مسألة في الإحرام
السؤال
نقل عملي من الظهران منذ ثلاث سنوات، وما زال منزلي في جدة قائماً أعود إليه في الإجازة، فمن أين يكون إحرامي؟
الجواب
إذاً ما دام لك منزل هناك في ذلك المكان فأنت مخير، أن تحرم من هنا أو تحرم من منزلك هناك، أن تحرم من ميقات أهل الشرقية هنا، أو أن تحرم من منزلك في جدة.(14/24)
صلاة التسابيح ومشروعيتها
السؤال
ما مشروعية صلاة التسابيح؟
الجواب
هذه الصلاة قد اختلف فيها أهل العلم اختلافاً كثيراً، فقال بعضهم بمشروعيتها وذهب إلى تحسينه كالحافظ ابن حجر رحمه الله، وذهب إلى أنها ليست بثابتة عدد من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فعلى حسب ما يترجح لطالب العلم يعمل، والذي ليس عنده قدرة على بحث المسألة والخروج بنتيجة، فإنه يقلد أهل العلم، فإذا سأل العالم قال له: ليست بمشروعة، فلا يجوز.(14/25)
مسألة تقطيع أذكار الصباح والمساء
السؤال
أذكار الصباح والمساء هل يجوز تقطيعها؛ مثلاً يقرأ دعاءً ثم يشغله شاغل ثم يرجع ويكمل؟
الجواب
نعم.
هي مجموعة أذكار وأدعية لو قرأ بعضها ثم انشغل بشيء، ثم أكمل بعد ذلك فلا حرج في هذا.(14/26)
حكم جوائز السحب في المبيعات
السؤال
ما حكم الجوائز من السيارات وغيرها التي توضع في بعض محلات التسويق لمن يشتري، توزع كوبونات للمشتري ثم يضعها في الصندوق ويجرى عليها السحب بالحظ؟
الجواب
إذاً أنت تدفع مالاً، وتأخذ كوبوناً وقسيمةً، ويجرى عليها سحب على أمل أن تخرج لك جائزة، وهذه صورة مقامرة وميسر لا يجوز الدخول فيها؛ لأنك إنما نلت هذا أو هذه القسيمة بالمال الذي دفعته، ثم قد تغنم وقد لا تغنم شيئاً.(14/27)
حكم شراء المواد الغذائية وداخل بعضها نقود
السؤال
إذا اشتريت بعض المواد الغذائية تجد بداخلها نقوداً تصل إلى الخمسمائة ريال أحياناً؟
الجواب
هذه أيضاً لا تجوز، يجعل لك في علبة حليب خمس عشرة ريالاً، وفي علبة لا شيء، وفي أخرى خمسمائة، إذاً هذه المجازفة والمغامرة وهذا المجهول الموجود في العلبة يجعل هذا البيع ليس بجائز، لكن لو قالوا لك: العلبة هذه بخمسين فيها ثلاث ريال، أي علبة تشتريها فيها ثلاثة ريال، إذاً فالحقيقة سعر العلبة كذا، انتهت المسألة إذاً لا جهالة في العملية، لكن نقول لك: هذه العلبة يمكن فيها عشرة أو خمسة أو ريال أو لا شيء، وأنت تشتري، قد يخرج وقد لا يخرج، ثم إن هناك سلعاً متشابهة ويشترون هذه بالذات على أن يخرج فيها خمسمائة، هو أصلاً الدعاية والإعلان قائم في الغالب على التزوير، والغش والخداع، والتلبيس والضحك على عقول الناس والسذج والبسطاء، أكثر الناس يقفون هكذا في السحب من هؤلاء.(14/28)
الدم العلامة البينة للدورة الشهرية
السؤال
الزوجة تأتيها علامات الدورة الشهرية ولا يأتي الدم، ولها خمسة أيام تأتي العلامات ولا تحدث دورها في الدم؟ الجوب: ما دامت ما رأت الدم، فهي تصوم، الدم هو البينة والعلامة القاطعة، وكذلك الكدرة والصفرة إذا جاءت في وقت العادة فهي عادة.(14/29)
صلاة الضحى
السؤال
هل الركعتان اللتان تصليا بعد شروق الشمس في المسجد ورد فيهما حديث؟ وهل تصلى في التاسعة صباحاً؟
الجواب
نعم.
منهم من يقول: هذه صلاة الإشراق، ومنهم من يقول: هذه صلاة الضحى، ولعلها صلاة الضحى، إن شاء الله أن هاتين الركعتين صلاة الضحى، يمكن أن تصلى في أي وقت من بعد ارتفاع الشمس إلى قبيل الظهر.(14/30)
حكم حمل الطفل في الصلاة وعليه نجاسة
السؤال
ما حكم صلاة العبد إذا كان يحمل ابنه الصغير وفيه نجاسةٌ بالبول، ولكن مع الحاجز من الحفاظات؟
الجواب
لا بأس بذلك، ما دام أن النجاسة لا تصل إلى المصلي ليس فيها رطوبةٌ تتسرب إلى المصلي، وهو يصلي فلا حرج في حمله الطفل.(14/31)
حكم صيام كبير السن الذي لا يميز
السؤال
والدي ووالدتي لا يصومان لكبر سنهما ولا يقدران على تمييز الأوقات؟
الجواب
إذا كبر الشخص وأصابه الخرف، وصار لا يدري بالأوقات، ولا يميز الأشخاص، فقد سقط عنه التكليف فلا صلاة عليه ولا صيام، ولا يأمر بهما حيث أنه غير مكلف.
أما إذا كان هذا الكبير يعقل وإذا قيل له أن يصوم يفهم معنى الصيام، ولا زال يعرف معنى الصيام والصلاة، فإنه يأمر بهما، وإذا قلنا إنه غير مكلف وأصابه الخرف وفقد التمييز؛ فإنه لا صيام عليه ولا قضاء ولا كفارة ولا على أوليائه شيء ولا عليه شيء؛ لأنه ليس بمكلف مثل: الصبي الصغير.(14/32)
ابتلاع اللعاب لا يفطر
السؤال
ابتلاع اللعاب الذي في الفم؟
الجواب
هذا لا يضر الصيام.(14/33)
مسألة في الزكاة
السؤال
هل أخرج الزكاة على أرباح الشركة المساهمة التي أخذت منها نصيبي من الإرث؟
الجواب
أسهم الشركات الذي يتعامل بها هو أحد شخصين؛ إما أنه يريد باتخاذها وشرائها أن يتكسب من أرباحها ويبقيها عنده أصل، ويأخذ الأرباح ويعيش من الأرباح ويكسب من الأرباح.
الثاني: أن يقصد بشرائها المتاجرة فيها، فيشتري الأسهم ليبيعها، فالأول لا زكاة عليه إلا في المال الذي يأخذه من الأرباح إذا حال عليه الحول؛ لأنه ما اتخذ الأسهم عروض تجارة يبيع فيها ويشتري، وإنما أرادها لأجل الأرباح، فالأرباح إذا أخذها فإن الزكاة فيها.
وأما إذا كان قد اتخذ أسهم الشركات يبيع فيها ويشتري ويتاجر في الأسهم، فالزكاة عليها وعلى أرباحها، فإذا حال الحول على الأسهم المعدة للبيع والشراء ففيها زكاة في قيمتها الحالية، وإذا خرجت الأرباح ففيها الزكاة وحولها حول الأصل، ولا ينتظر بالأرباح حول مستقل، وإنما حولها حول أصل.(14/34)
الوتر يشفع بركعة عند قيام الليل
السؤال
إذا أراد رجل أن يقوم آخر الليل فهل يصلي مع الإمام ويوتر ويكمل الركعة؟ أم لا يصلي؟
الجواب
له خياران، إما أنه يكمل الوتر مع الإمام ويشفعه بركعة، ثم يقوم ويصلي في الليل ما يريد ويوتر، وإما أن يصلي في الليل مثنى مثنى ولا يعيد الوتر ويكتفي بوتره الأول مع الإمام.(14/35)
حكم قراءة سورة بعد الفاتحة في السنن الرواتب
السؤال
هل يجب أن يقرأ شيء من القرآن بعد الفاتحة في سنن الرواتب؟
الجواب
لا يجب ولا في الفرائض، لكن السنة أن يقرأ.(14/36)
وقت فطر المسافر بالطائرة
السؤال
إذا كان الرجل الصائم يريد أن يسافر بالطائرة إلى مكان ليس فيه مسلمون، وأقلع بالطائرة من مدينته عند قرب الغروب، هل يعتبر كصيام أهل البلد الذين يذهب إليهم؟
الجواب
الصائم إذا أراد أن يصوم في السفر، وإذا أراد أن يحسب له اليوم كاملاً، فإنه لا يفطر إلا إذا غربت الشمس في المكان الذي هو فيه، فإن كان في الجو لا يفطر إلا إذا غربت الشمس والطائرة في الجو، وعندما يكون في الجو فهو ينتظر الغروب لا في الأرض ولا في البلد الذي سيصل إليه، ولا في البلد الذي أقلع منه، وإنما هو في الجو بحسب غروب الشمس وهو في الجو، إذا اختفت وهو في الجو أفطر ويعتبر يوماً كاملاً، وإذا أراد أن يفطر فعذره معه، وهو مسافر.(14/37)
الاستلاف من أجل الزواج بالثانية
السؤال
هل من الحكمة الاستلاف للزواج من زوجةٍ ثانية؟
الجواب
حسب الحاجة، إذا احتاج الشخص إلى أن يتزوج زوجةً ثانية، فلا حرج عليه أن يستلف سواءً الزوجة الأولى أو الزوجة الثانية، لكن بعضهم يستلف من الزوجة الأولى لكي يتزوج عليها زوجة ثانية، فهذه قلة ذوق.(14/38)
حكم تخصيص وقت لقراءة القرآن خلال الدوام في الشركات
السؤال
هل يجوز تخصيص وقت في نهار رمضان خلال العمل في الشركات لقراءة القرآن؟
الجواب
إذا كان هناك عمل فلا يجوز الانشغال بأي شيءٍ آخر من الفرائض، مادام أنه كان يتعارض مع العمل، فلا يجوز أن يترك العمل ويقرأ القرآن ولا يصلي والسنن وغير ذلك، وأما إذا كان لا يوجد عمل فإنه لا بأس أن يقرأ القرآن وأن يصلي النوافل، وهناك أذكار لا تتعارض مع العمل، إذا كان يكتب -مثلاً- ويستغفر الله ويسبح فلا يتعارض مع العمل.(14/39)
حكم حبوب منع الدورة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تتناول حبوب منع الدورة؟
الجواب
الأفضل ألا تتناولها؛ لأن تناولها يوقع كثيراً في مشكلات تتعلق باضطرابها، وبالتالي اضطراب الصلاة والصيام.(14/40)
حكم حلق الرأس بدون حج أو عمرة
السؤال
هل يجوز حلق الرأس كاملاً بدون الحج والعمرة؟
الجواب
إذا كان لغرضٍ صحيح طبي كعلاج أو حجامة فلا مانع، وإلا غير الحج والعمرة مكروه؛ لأن الخوارج كان من سيماهم التحليق.(14/41)
المسافر يتم الصلاة إذا وصل إلى مدينة
السؤال
مسافر صلى المغرب ولم يجمع معها العشاء ودخل وقت العشاء ولم يصل إلى مدينته، ووصل متأخراً فصلى العشاء قصراً؟
الجواب
إذا وصل إلى بلده فلا يجوز أن يصلي العشاء قصراً لأنه صار في البلد، ويجب عليه أن يتم الصلاة.(14/42)
الذكر في سجود السهو
السؤال
ما المشروع في سجود السهو؟
الجواب
نفس أذكار السجود الذي في الصلاة العادية.(14/43)
المأموم لا يقف عن يسار الإمام
السؤال
هل يجوز للمأموم أن يقف عن يسار الإمام؟
الجواب
يقف عن يمينه، وإذا وقف عن يساره فعلى الإمام أن يأخذ بيده فيديره إلى الجهة اليمنى.(14/44)
أعمال القلوب في أوقات الشدة
الدنيا جُبلت على الأكدار والمصائب والشدائد، وعندما تمر بالأمة أوقات شدة؛ فلابد لها من أمور تقوم بها حتى تزال عنها هذه الشدة أو الأزمة، وللقلوب أهمية عظيمة عند الشدائد، فمن أهم أعمال القلوب التي يحتاج إليها الإنسان في وقت الشدة: الإنابة إلى الله وصدق الرجوع إليه، وكذلك الخوف من الله وحده، والتوكل عليه والتضرع إليه، وفي ذلك فوائد عظيمة أهمها الطمأنينة.(15/1)
القلب في أوقات المحن والشدائد
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فلما كان لابد للمسلم أن يجتمع بإخوانه ليذكر الله وإياهم؛ خصوصاً في أوقات الشدة التي يحتاج فيها الناس كثيراً للتبصرة والتذكرة؛ التبصير بما يجب عليهم أن يعملوه، والتذكير بما ينبغي عليهم أن يتذكروه.
إن تصرفاتنا وحركاتنا وسكناتنا ينبغي أن تكون لله رب العالمين؛ إن تحركات المسلم ليست تحركاتٍ طائشة، وإن تصرفات المسلم ليست تصرفاتٍ هوجاء؛ لأنها يجب أن تكون منضبطةً بنور هذه الشريعة، وينبغي أن يكون نور الوحيين هو الذي يعمل عمله وفعله في قلوب الناس في أوقات الشدائد، وإذا كان للجوارح أعمالٌ كالصلاة والحج والجهاد، فإن للقلوب أعمالاً أعظم من ذلك بكثير؛ لأن عمل القلب ينبني عليه صلاح عمل الجوارح أو فسادها.
ولذلك فينبغي للمسلم أن يهتم بقلبه جداً في أوقات المحن -ونحن نمرُ ولا شك بمحنة- وإن الحوادث من حولنا تُوجب علينا أن نكون أكثر بصيرةً من ذي قبل، وينبغي أن تكون قلوب المسلمين حية؛ لأن القلب الميت لا خير في صاحبه.
أيها الأخوة: إن الله سبحانه وتعالى نزّل هذا الكتاب ليحيي به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر، وإنه عز وجل أنزله غيثاً وهدىً وشفاءً ورحمةً للمؤمنين، وقد قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ولذلك فإن الخراب إذا حصل والفِرار إذا نزل، يكون مرْجع ذلك كله إلى هذه القلوب إذا كانت خاوية، فما هي الأعمال التي ينبغي أن يعملها القلب في أوقات الشدة؟ وماذا ينبغي أن تكون حالنا عندما يبتلينا الله عز وجل بمحنة؟ يقول الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] فينظر كيف تعملون! وهذه التحركات والتصرفات محسوبةٌ علينا، وسنبعث ونرجع جميعاً إلى الله عز وجل: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر:7].
ما مدة لبثنا في هذه الدنيا؛ وما طول مقامنا فيها؟ لا شيء بالنسبة لما سيأتي بعد الموت من الحياة الدائمة الخالدة المستقرة في الدار الآخرة، ولذلك لابد أن نُري الله من أنفسنا خيراً، ولابد أن نأخذ للأمر أهبته، وللميدان عدته حتى تتحد هذه القلوب في مواجهة الشر والكفر، وليكون المسلمون يداً واحدة أمام عدوهم.(15/2)
وجوب الإنابة إلى الله وقت الشدة
أيها الأخوة: إن القلوب في أوقات الشدة هي التي تعمل، ومن أعمال القلوب المهمة إذا حصلت الشدائد: الإنابة إلى الله عز وجل كما قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54].
ولما مدح الله تعالى داود قال: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] وقوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33].
فإذا أنابت القلوب إلى الله في وقت الشدة حصل الخير وثبت الناس، الإنابة إلى الله هي الرجوع إليه والأوبة، والتوبة إليه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر:13] ولذلك فإن مما يمتد من أثر الإنابة التذكر؛ والتذكر عملٌ آخر من أعمال القلب، كما قال عز وجل: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة:269] {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
فمن كان له قلب يتذكر، ومن ليس له قلب لا يتذكر، ولذلك فإن القلوب على ثلاثة أنواع: القلب الأول: ميت لا خير فيه، ولا يُرجى منه شيءٌ أبداً.
القلب الثاني: حيٌ لكنه لم يستمع للآيات، إما لأنها لم تصل إليه، وإما لأنه انشغل عنها.
القلب الثالث: حيٌ مستعدٌ تليت عليه الآيات فأصغى بسمعه، وأحضر قلبه فهو شاهد القلب ملقٍ للسمع، فهذا هو الذي ينتفع، فصاحب القلب الأول مثله كمثل الأعمى لا يرى شيئاً.
صاحب القلب الثاني بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير الجهة التي تنفعه.
وصاحب القلب الثالث هو البصير المحدق إلى جهة المنظور، فهو يرى وينتفع.(15/3)
النصوص الشرعية وربطها بالواقع
لابد من الربط بين الآيات وبين الواقع، إذا كُنا نريد أن نكون أولي قلوب فعلاً ونتذكر، فينبغي أن نربط بين الآيات وبين الواقع، لأن هذه الآيات -أيها الإخوة- نزلت لعلاج الواقع، فهي تتلكم عن الواقع؛ لأن الله يعلم ماذا سيحدث في هذا الزمن، والله نزل القرآن لكي يستفيد منه المسلمون في كل زمن، ولذلك ينبغي أن تكون نقطة الانطلاق من هذا القرآن، إن الذين لا يرجعون إلى القرآن في النظر إلى الأحوال الموجودة الآن يخيبون كثيراً، لا تسدد لهم رمية، ولا يكون لهم رأيٌ مصيب أبداً.
ولذلك فإن قراءة القرآن وتطبيقه على الواقع هو أن ننظر: ما المقصود من الآية بهذا الواقع؟ كيف نربط القرآن بالواقع؟ كيف نقرأ ونفكر في الواقع؟ ونحن نقرأ نتدبر ونربط بالواقع ونقول: نعم.
هذا ما أخبرنا به ربنا، ونقول في آيةٍ أخرى: نعم.
هذا ما حذرنا منه الله عز وجل، ونقول عند آية ثالثة: نعم.
هذه سنة الله في الكون تعمل لحظةً بلحظة، وساعةً بساعة، ويوماً بيوم، ونقول في آيةٍ رابعة: نعم.
هذه شروط النصر، لو تكاملت لتحقق النصر، ونقول في آيةٍ خامسة: نعم.
هذا هو الجزاء الذي وعد الله به الفسقة المجرمين وهكذا، هذا جزاء ما توعدهم به ربنا يحصل الآن في الواقع، نعم.
هذا الظلم بعينه، نعم.
هذه عاقبة الظالم: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178].
ونحن يمكن أن نعرف النتائج من القرآن سلفاً، صحيح أننا قد لا نعلمها بالتفصيل؛ لأن علم الغيب بالتفصيل مما اختص به رب العالمين، لكن الله أخبرنا عن أشياء، وقال: إذا حصل كذا، فسيحدث كذا.
ولذلك عندما ننظر في الواقع سنرى الآيات تتطبق فعلاً وتتحقق، فإذا كنا نعلم أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يجعل لكل ظالمٍ نهاية، فإذا حدث ظلمٌ في الأرض فنحن نعلم حقيقةً ماذا ستكون النتيجة.
وإذا أخبر الله بسقوط مجتمعاتٍ بأكملها إذا فشت فيها أدواءٌ معينة، فإننا سنعلم أن هذه المجتمعات ستسقط ولا شك، نعلم هذا سلفاً.
ما من قريةٍ فشى فيها الربا والزنا إلا استحقت عذاب الله، نعلم أنه لابد أن يقع.
فإذاً يمكن للآيات أن تنبئنا بما سيحدث، وإذا أخبر الله بأن من يعتصم به ينجو، ومن يعتصم بغيره يهلك، فإننا سنعلم النتيجة سلفاً من خلال هذه الآيات.
وليس كل الناس ينظرون إلى الواقع من خلال القرآن، وإنما ينظرون بعينٍ مجردة عن أثر القرآن، فلذلك تخيب الأشياء وتصبح مجرد احتمالات بشرية، ولكن المؤمن لا يخيب نظره، ولذلك كان من أعمال القلب الاعتصام بالله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
والاعتصام به عز وجل: أي: التمسك بدينه، والتمسك بعهده وكتابه وحبله سبحانه وتعالى، وهذا القرآن حبلُ الله، طرفه الأول عند الله، وطرفه الثاني بأيدينا، فإذا تمسكنا به لن نضل أبداً، والاعتصام بكتاب بالله وعهد الله يعصم الإنسان من الضلالة ويُوجب له الهداية، ويُكسبه القوة، ويبعد عنه الهزيمة.
ولذلك كان لابد أن ندور مع القرآن حيثما دار، لابد أن نتمسك في وقت الشدة -أيها الأخوة- بهذا النور ولا نحيد عنه، وإن تصرفات العامة في الأزمات غير منضبطة بالقرآن في كثيرٍ من الأحيان، لكن يمكن أن تجد من بين الناس رجلاً حضرت لديه أنوار هذا التنزيل، فصار يتصرف من خلالها، فهو لا يخطو خطوة ولا يتقدم ولا يتأخر إلا على نورٍ من ربه.
ولذلك فإن الناس في مواقفهم وآرائهم قد يخيبون كثيراً، إلا الذين اعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله، فإنك تجد آراءهم سديدة، ومواقفهم لا تتغير مع الزمن، وتجد الموقف في أول الحدث هو الموقف عند نهاية الحدث لم يتغير؛ لأنه كان منطلقاً من الكتاب والسنة، ليس منطلقاً من الآراء ولا من كلام البشر، ولا من الحسابات الدنيوية.(15/4)
الخوف من الله عمل قلبي له فوائد
ثم إن من أعمال القلب الخوف من الله لا من غيره، وإذا نزلت الشدائد وادلهمت الخطوب، فإن كثيراً من الناس يخافون، قد يخافون من قعقعة السلاح، وقد يخافون من خطرٍ وشيكٍ يوشك أن يُحدق بهم، وقد يخافون من عدوٍ أو مرضٍ أو سيلٍ ونحو ذلك من أنواع المصائب الحادثة.
ولكن القلوب تختلف، فمن الناس مَنْ قلوبهم موصولةٌ بالله، فإذا نزلت المصيبة وجاءت الأحداث لا تتزلزل كياناتهم، ولم تضطرب مواقفهم وتتزعزع، ولا يجرون في جميع الاتجاهات لا يدرون إلى أين يذهبون! ولا ترى الواحد منهم إذا نزل الخوف يفر فراراً لا يلوي على شيء، حتى إذا ابتعد بمسافةٍ طويلة توقف وقال: إلى أين أذهب الآن، وماذا أفعل؟! خطوات غير محسوبة، لأن الخوف كان مهيمناً على قلبه فنتج هذا الاضطراب، ولكن المسلم الذي يُسلم أمره لله ويعلم قول الله عز وجل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] الذي يخشى الله فقط ولا يخشى أحداً إلا الله، فإن الله يثبته؛ لأن الشرور -أيها الأخوة- لا تنتهي، قد يحصل بك شر وتعتصم بأحد البشر فينقذك، لكن غداً يحصل لك شرٌ آخر فلا ينجيك أحد.(15/5)
خوفك من الله يجعلك تفر إليه
لن تجد من يقف بجانبك طيلة حدوث الأحداث المتكررة إلا الله عز وجل، إذا خفت منه وهربت إليه سبحانه وتعالى فإن الله يكون معك في جميع الأحداث، ولذلك فإن الله يداول الأيام بين الناس، والذي يحسم مادة الخوف ويقضي على الخوف والذعر هو التسليم لله، فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، لم يبقَ لخوف المخلوقين في قلبه موضعٌ أبداً.
فإن النفس التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها وبارئها وخالقها سبحانه وتعالى، وعلم أنه لا يصيبها إلا ما قدر الله لها، وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها، وأن ما لم يكتب فلا يمكن أن يصيبها، هذا الذي يحسم مادة الخوف نهائياً وهذا هو الذي يجعل الإنسان مطمئناً.(15/6)
من نتائج الخوف من الله الطمأنينة
مشكلتنا -أيها الأخوة- أننا نُذعر ونخاف وننسى بسرعة، تصرفاتنا غير موزونة وغير مضبوطةٍ بموازين الشريعة، ولذلك فإذا كان الخوف من الله لا من غيره؛ فإن الطمأنينة تنزل تلقائياً في القلب والطمأنينة عملٌ آخر من أعمال القلوب: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ذكر الله هو القرآن.
والذي يُعرض عن القرآن يتزلزل قلبه، ويضطرب عيشه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} كلامي، القرآن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} [طه:124 - 126] هذه التي من المفروض أن تتذكرها لتنجو وتثبت، وتكون لك حياةٌ سعيدة، وعيشة رغيدة، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
وكان من دعاء بعض السلف: اللهم هب لي نفساً مطمئنةً إليك، وإذا طال الخوف على الإنسان واشتد به وأراد الله أن يريحه ويحمل عنه، أنزل عليه السكينة فاستراح قلبه إلى الرجاء واطمئن به، وسكن لهيب خوفه.
ولذلك كان للعلماء المذكرين بالله أدوارٌ مهمة في تثبيت الناس، فلما كان ابن القيم رحمه الله يتكلم عن نفسه وعن صحبه عندما تنزل بهم الخطوب، وكان لهم أعداء كُثر بسبب تمسكهم بالسنة، فإنهم عند تزلزل الأمور كانوا يذهبون إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فيجلسون إليه، يقول: فما هو إلا أن نسمع كلامه حتى ترتاح القلوب وتهدأ النفوس وتطمئن، والطمأنينة بذكر الله وبمجالسة أولياء الله من الأسباب التي تُحدث الثبات في القلب.
ومن أنواع الطمأنينة: الطمأنينة إلى حكم الله وما يقع من المصائب والأحداث، وإذا علمت أن ما شاء الله كان وأن ما لم يشأ لم يكن، فلا معنى للجزع والقلق، فإن الشيء المحذور إذا قُدِّر فلا سبيل إلى صرفه.
لقد هرب أناسٌ كثيرون خوفاً من هذه المنطقة، فلما ركبوا الطريق ساروا في سياراتهم وحصل على بعضهم من الحوادث ما قضى به نحبه، وقد كان خائفاً من شيء، فإذا منيته تكون في أمرٍ آخر، وإذا بالشيء الذي هرب منه قد ساقه إلى أمرٍ آخر كان فيه هلاكه وحتفه:
ما قد قضى يا نفس فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدرِ
وتحققي أن المقدر كائنٌ يجري عليك حذرتِ أم لم تحذري(15/7)
الخوف من الله سبب لعدم الأمن من مكر الله
والخوف من الله عز وجل يستوجب أمراً آخر من مهمات القلوب، وهو عدم الأمن من مكر الله عز وجل، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47].
هذه الآيات عين الواقع بالضبط، هؤلاء الذين مكروا السيئات فعملوها، ودعوا الناس إليها، وحرضوهم عليها، وشجعوهم على فعلها، هؤلاء الذين يمكرون بالناس في دعائهم إياهم للمعاصي، هؤلاء: أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض؟ {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل:45 - 46].
وتقلبهم هو تنقلهم في الأسفار وغيرها، وتغيرهم في أحوالهم، ولذلك قال الله في آيةٍ أخرى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].
فإذاً الناس عندما يؤخذون بالعذاب على أنواع: فمنهم من يأخذه الله وهو مطمئن نائم, ومنهم من يأخذه الله وهو يلعب ويلهو، أو مشغول بالدنيا، فيأتيه العذاب فجأة، ومنهم من يأخذه الله وهو يخاف من وقوع العذاب عليه.
ولذلك إذا أخذ الله غيرنا بعذابٍ وهم نائمون مطمئنون، فنحن الآن في مرحلة نخشى أن يأخذنا الله بعذابٍ ونحن على تخوف.
لابد -أيها الأخوة- أن نفقه الآيات، ولذلك سنعيد قراءتها: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:45] أي: لا يتوقعون، لم يدر في بالهم أن الله سيفعل بهم ما فعل، أو يأخذهم في تقلبهم وهم في أسفارهم وذهابهم ومجيئهم، أخذهم الله فأصيبوا فما هم بمعجزين، يصل إليهم الأثر وهم في أقصى الدنيا.
ولذلك لما أنزل الله بعاد عذاباً كان منهم قومٌ مسافرون إلى مكان بعيد عن مكان الحدث، فذهب إليهم العذاب فأخذهم في سفرهم! الحالة الثالثة: أو يأخذهم على تخوف، أي: هم يترقبون أن يحدث شيء، فيأخذهم الله في حال الخشية وفي حال الخوف: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل:47] وهم خائفون وجلون مضطربون يخشون حدوث شيء، فيأخذهم الله عز وجل، أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوفٌ رحيم.
كيف يكون رءوفاً رحيماً؟ إذا لم يعاجلهم بالعقوبة عز وجل، قد يأخذهم مباشرة، وقد يأخذهم بعد إمهال، وقد يأخذهم على تخوف ويكون من أشد أنواع الأخذ، لأنه قد اجتمع عليهم الخوف والعذاب، ولذلك لابد من العودة إلى الله، فنحن الآن في مرحلة مصيرية وفي لحظات عصيبة.
وبعض الناس الذين ناموا انتبهوا لحظات، ثم ناموا ورجعوا للغفلة، فعليهم أن ينتبهوا، أفأمنوا أن يأخذهم الله على تخوف، فإن ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليمٌ شديد؛ إذا جاءت غاشية من عذاب الله، فإنها لا تبقي ولا تذر.
وتأمل قوله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] والنوم يأتي من الطمأنينة، أناس مطمئنون لا يحسبون في حسابهم أي شيء، فينام الإنسان فيأتيه العذاب وهو نائم، كما فعل الله بأقوامٍ كُثر، أتاهم العذاب وهم نائمون.
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] وإنما يلعب الناس إذا توفر لهم الرزق، وتوفر لهم رغد المعيشة، وكان عندهم سعة، فإنهم لا يحتاجون لطلب الرزق، فلذلك يلهون ويلعبون، وينشغلون بكل الملهيات، ولو كانوا في ضنك لذهبوا يطلبون الرزق، ولكن أمنوا مكر الله واغتروا بالنعمة ولم يشكروها، فيلعبوا في سائر الأوقات بالمعاصي وبالمنكرات، فيأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون؛ فيكون مفاجئاً لهم، وهذا دليل أمنهم من مكر الله، ولو كانوا يخشون الله ما ناموا ولعبوا، ولصلوا وقاموا وعبدوا الله، وفعلوا كما كان يفعل رسول صلى الله عليه وسلم.
فلم يكن نومه عليه الصلاة والسلام غفلة، وإنما كان عبادة، ولذلك فإنه لابد للعباد أن يفيئوا إلى الله في وقت الشدة، وأن يتوكلوا على الله.(15/8)
التوكل على الله
من أهم أعمال القلوب: التوكل على الله.
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران:173 - 174] هذا كان عاقبة الذين يتوكلون على الله، كفاهم الله الشر والعذاب وكفاهم بأس عدوهم غانمين سالمين، وأرجعهم يعبدون الله ويتبعون رضوانه.(15/9)
رسول الله وتوكله على الله
كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه وذكره لربه: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) وكان يفوض أمره إلى ربه حتى عند النوم يقول: (أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبةً ورهبةً إليك) واعتماده على الله سبحانه وتعالى.
والتوكل يمكن أن نعرفه بأن نقول: هو تفويض الأمر إلى الله، والتعلق بالله في كل حال، وقطع علائق القلب عن غير الله، كل علاقة بغير الله نقطعها، والاعتماد على الله في حصول المطلوب وزوال المكروب مع الأخذ بالأسباب، هذا تعريف التوكل.(15/10)
موسى ينصح قومه بالتوكل على الله
موسى عليه السلام لما أرسله الله لبني إسرائيل وكانوا في اضطهاد وظلم قال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] اجعلوها عامرة بذكر الله؛ لأن هذا الذي ينجي في الأخطار، وهذا الذي يصبر الناس، فماذا قال موسى لقومه؟ وقال موسى لقومه لمن آمن به: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [يونس:84 - 85] ولذلك لابد أن يواطئ اللسان القلب؛ فالقلب متوكل واللسان يقول: توكلنا على الله، واللسان يقول: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] أي: يكفيك ويكفي المؤمنين الذين اتبعوك، فهو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، ولذلك -أيها الأخوة- ثبت من خلال الأحداث بالدليل القاطع أن جمع الأموال وتخزين الأطعمة لا يفيد شيئاً أبداً إذا نزل عذاب الله، فالأموال تذهب كلها، والعدو يستولي عليك وعلى طعامك.(15/11)
تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة
ما الذي ندخره للحظات الشدة؟! التوكل على الله وعبادته، من سره أن يكون الله معه في وقت الشدة، فليكن مع الله في وقت الرخاء، ونحن يمكن أن نجني ثمرات ما زرعناه في الماضي من وقت الرخاء عندما نكون الآن في وقت الشدة، فإذا لم نكن قد زرعنا شيئاً فلنستغل الفرصة الآن، فيمكن أن نعبد الله، وأن نتجه إلى المساجد، وأن نصلي ونحن مطمئنون، وأن نتصدق ونخرج من أموالنا، إن أناساً حرموا من الصدقات، قد يريد الصدقة لكن لا مجال أن يتصدق، واليوم صاروا يُتَصدَّق عليهم، ناس كانوا يقولون: هل رأيتم الفقر، فإنا هذا دفناه؟ ناس قالوها في السنوات الماضية والآن صاروا يقبلون ما يُعطى لأولادهم من الثياب المستخدمة، واحد كان عنده خمسين مليون ديناراً، لكنه يقتسم الآن هو وخادمه رغيفاً من الخبز.
والله الذي لا إله إلا هو -أيها الأخوة- إذا لم تهزنا الأحداث وتجعلنا نفيء إلى الله عز وجل، فإن الله إذا أخذنا فإنه سيأخذنا أخذ عزيزٍ مقتدر، ولذلك فالحق نفسك أيها المسلم.
أكثر من العبادات الصدقات توكل على الله اجمع قلبك على الله! لا تشتت نفسك بالتوكل على غير الله، فإن من توكل على غير الله ذل.
والعوام كثيرٌ منهم هوام، لا يعتقدون بالعقيدة الصحيحة في التوكل، ولذلك تجدهم مساكين في ألفاظهم ومعتقداتهم، نسوا قضية التوكل على الله، الناس الآن يتعلقون بأي قشة ونسوا التوكل على الله عز وجل.
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] وإلى أين تهربون؟!! {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8].
أين ثمود؟ أين فرعون ذو الأوتاد؛ الذين طغوا في البلاد؛ فأكثروا فيها الفساد؟ هل كان هناك أشد من فرعون ومن معه من جنده؟! أو أشد من ثمود الذين قطعوا الصخر، وعملوا هذه البيوت التي بقيت إلى الآن:: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137 - 138].
إذاً مسألة التجميع والاستكثار من الدنيا لا تنفع أبداً وقت الأزمة، وما ينفع إلا بالإيمان بالله، فإن كان عندك رصيد من الإيمان نفعك وقت الشدة، وإلا فيمكن أن تصيبك سكتة أو أي شيء من الأمور المفزعة والمضطربة، أو صدمة نفسية وعصبية، لكن المسلم المعتصم بالله، لو أصابته شدة ينقذه الله.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].
لكن الله عز وجل يمهل فيظن الناس أنه ما أخذ ولن يؤخذ مع أن العذاب قريب: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25].(15/12)
الولاء والبراء
أيها الأخوة: من أعمال القلب: تجديد الولاء والبراء الحق، الولاء لله والبراء من أعداء الله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [المائدة:55] من هم أولياؤنا؟ من هم أحبابنا؟ من هم المقربون إلينا؟ إنهم أولياء الله، إنهم المسلمون المطيعون لله في كل مكان، هؤلاء هم أولياؤنا.
من هم أعداؤنا؟ هم أعداء الله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء:45] كل عدوٍ لله فهو عدونا، وكل عابدٍ لله فهو صديقنا وأخونا وحبيبنا ومقربٌ إلينا، فلابد أن نتولى الله ورسوله والذين آمنوا، ولابد أن نتبرأ من كل كفرٍ وكافر، وكل شركٍ ومشرك، وكل بدعةٍ ومبتدع، ولابد أن نتبرأ من كل معصيةٍ وفسقٍ وظلمٍ، ونجدد الولاء لله، وهذه قضية قلبية، فمحل الولاء والبراء في القلب.
الولاء المقتضي للمحبة: يكون بواسطة القلب، والبراء المقتضي للبغض والعداوة يكون في القلب، ثم تكون أعمال الجوارح بناءً على أعمال القلوب.
فإذاً عندما تضيع الولاءات وتختلط لابد من هزيمة قريبةٍ أو بعيدة، وعندما يتحقق الولاء لله سبحانه وتعالى، فإن الله ناصرٌ أولياءه ولا شك: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21].(15/13)
البصيرة
ومن أعمال القلب أيضاً البصيرة، والبصيرة هي النظر في الواقع من خلال النور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب من يشاء من عباده، فإذا قذف الله نوره في قلب عبدٍ مؤمن، فإنه يرى ما أخبرت به الرسل كأنه رأي عين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فلا أدعو على جهل ولا غفلة، بل أدعو إلى الله على بصيرة، ولا أدعو من منطلقات غيري ومبادئ غيري، بل أدعو إلى الله على بصيرة من ربي: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
البصيرة بالضبط هي معرفة الحق، تمر بالمسلمين مسائل كثيرة -خصوصاً في أوقات الشدة والمحنة- لا يدرون أين الحق فيها، يضطربون من قائلٍ يقول: هذا هو الحق، ومن قائلٍ يقول: هذا العالِم هو الذي معه الحق، وآخر يقول: هذه الفتوى هي الفتوى الصحيحة، وثالث يقول: الرأي هذا هو الرأي الصواب.
يضطرب الناس ويموجون ويختلطون، لكن أين الحق؟ من الذي يدلك على الحق؟ البصيرة.(15/14)
من أين تأتي البصيرة؟
أيها الأخوة: البصيرة التي تأتي بالتفقه بالدين، والتي تأتي بعبادة الله، البصيرة التي تأتي بالإقبال على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي يقوم بهذه الأعمال يقذف الله في قلبه نوراً يعرف به الحق من الباطل.
ولذلك عندما تختلط عليك الأمور فراجع قلبك؛ لأن معناه أن البصيرة فيها خلل.
إذا غبشت عندك الصورة في محنة فلم تدر أين الحق، وتقول: أرى أناساً يقولون كذا، وأناساً يقولون كذا، وأسمع من هذا، ومن مصدرٍ آخر أين الحق؟ ما هو الحق؟ ما هو الصواب؟ إذا اختلفت الأمور فراجع قلبك.
ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، يلجأ إلى الله بالدعاء، حتى يكشف له الحق: (اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم).(15/15)
فائدة البصيرة
إذا كان عندك بصيرة، فإن أي حدث يحدث سيكون عندك فيه وضوح رؤية، حتى في الأحكام الشرعية والفتاوى الفقهية، إذا ما تبينت لك المسألة فالجأ إلى الله وقل: يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، وقبل ذلك قل هذا الدعاء الذي كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ويدعو به: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) لماذا نحن نتخبط ونلجأ إلى هذا وهذا، وننسى شيئاً مهماً جداً وهو اللجوء إلى الله؟ ولذلك أيها الأخوة! البصيرة تقتضي كما ذكرنا عبادة، وتقتضي تفقهاً في الدين، ولذلك أنا أنصح كل أخٍ اختلط عليه حكم مسألة من المسائل وأقول له: ابحث فيها بنفسك، افترض أنك تريد معرفة حكم شرعي، في مسألة فقهية، فارجع إلى كتب العلم، انظر ماذا قال أهل العلم في هذه المسألة، وما هي الأدلة، أليس عيباً أن كثيراً من الشباب يضطربون في مسائل فقهية من الواقع الحادث ويقولون: لا ندري هل هذا الحق أو هذا، هذه الفتوى صح أم خطأ، وبين أيديهم كتب ومراجع يستطيعون الرجوع إليها وبحث المسائل فيها؟! لكن نحن تعودنا على الكسل نقول: نريد كل شيء يأتي إلينا جاهزاً، نحن ما عندنا استعداد للبحث، ووالله لو قرأنا وتفقهنا لعرفنا، فيمكن ذلك بقراءة وتفقه، وبمناقشة أهل العلم، ودعاء لله وإخلاص له وتضرع، بهذه كلها نصل إلى الحق.(15/16)
الاعتبار بالواقع
ومن أعمال القلوب: الاعتبار، الاعتبار: أخذ العبرة من الواقع: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الإسراء:67 - 69].
الآن -أيها الأخوة- إذا حدثت شدة، أو أزمة، المفروض أن نعتبر ومعنى نعتبر أي: أن تحملنا مصيبة غيرنا -مثلاً- على سلوك السبيل السوي، أو تحملنا المصيبة التي وقعت بنا نحن على تعديل مسلكنا ومنهجنا.
يا أخي! أنت تعيش في بلد فحصلت عليك مصيبة، ما هو المفروض عليك؟ عليك أن تعتبر فتتوب إلى الله، وتغير طريقتك، وكذلك جيرانك: واحد نزلت به مصيبة، ماذا ينبغي عليه؟ أن يعتبر فيما نزل به، يتعظ بما نزل به، ويأوي إلى الله، يرجع يتوب ينيب، وماذا ينبغي على جيرانه من حوله؟ ينبغي عليهم أن يعتبروا بمصابه هو، فيقولون: نخشى أن يصيبنا ما أصابهم، فيتوبوا إلى الله هم أيضاً.(15/17)
الله جل وعلا يأمرنا بالاعتبار من واقعنا
وهذه الآيات مهمة بالنسبة للذين لا يعتبرون: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] لا أحد أبداً تدعونه إلا الله عز وجل، {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} [الإسراء67].
انظر الآن إلى المناقشة: أنت يا أيها الذي نجوت الآن من البحر!! يا أيها الناجون الذين أشركوا وأعرضوا بعد نجاتهم -بدلاً من أن يقابلوا نعمة النجاة بشكرٍ لها؛ من الإقبال على الله وترك المعاصي أعرضوا- أنتم أيها المعرضون بعد النجاة: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] هل إذا رجعت إلى البر لا يستطيع الله عز وجل أن يخسف بك البر؟! ويزلزل بك الأرض؟ بل يستطيع سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء قدير: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام65] {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68] أنتم الذين نجوتم وأشركتم، بعد أن خرجتم إلى اليابسة، وقلتم الآن وصلنا إلى بر الأمان، أتضمن ألا يخسف بك جانب البر: {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الإسراء68] مطر فيه حجارة: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً} [الإسراء68].
سبحان الله العظيم! ربنا عندما يناقش هؤلاء الناس فإن المناقشة في الصميم، لكن المشكلة عدم وجود الذي يعتبر ويفهم؟ {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء:69] أي: هل لن تركب البحر أبداً؟ ألن تعرض لك حاجة وتركب البحر مرة ثانية؟! ممكن: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء:69] إي والله قد يرجعك مرة ثانية في البحر، لكن هذه المرة يرسل عليك قاصفاً من الريح، فيهدم صواري السفن، ويغرق المراكب {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} [الاسراء:69] أي: لا تجدوا أحداً يأخذ بثأركم.
ولذلك هناك أناس اعتبروا من هذه المواقف، وإليكم مثالاً على ذلك:(15/18)
عكرمة بن أبي جهل واعتباره عند ركوب البحر
عكرمة بن أبي جهل صحابيٌ جليل كان كافراً وعدواً لله، ومن صناديد قريش الصادين عن دين الله، ابن عدو الله، لكن أراد الله به خيراً.
كيف؟ لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عكرمة فاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتهم ريحٌ عاصف هو ومن معه في البحر، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده -انظر سبحان الله! هؤلاء مشركون- هؤلاء المشركون يقول بعضهم لبعض: إنه لن يغني عنكم شيئاً إلا أن تدعوا الله وحده، مثل ما قال الله في القرآن بالضبط.
فقال عكرمة في نفسه لما سمع هذا الكلام: [والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره] فالآن حصل الاتعاظ، ونحن عندنا أناس نائمون، يغطون في نومٍ عميق، تأتي لهم بالآيات فلا فائدة، عكرمة بن أبي جهل كم مرة سمع القرآن، وكم مرة سمع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكم مرة رأى المسلمين، وكم مرة؟ لكن كان غافلاً نائماً كافراً.
هذه المرة شاء الله أن يهديه، هذه المرة استخدم عقله وفكر، نحن نريد من الناس الآن أن يستخدموا عقولهم فيفكروا، الأحداث هذه لابد أن تهز الناس وتوقظهم من غفلتهم، قال عكرمة: [والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك علي عهدٌ لئن أخرجتني منه سالماً، لأذهبن فلأضعن يدي في يديه -صلى الله عليه وسلم- فلأجدنه رءوفاً رحيماً].
فخرجوا من البحر سالمين، وهنا مرحلة أخرى؛ هل تُرى سيرجع إلى الكفر أم أنه سيواصل على الهداية؟ هذه التي حصلت له الآن، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه.
الاعتبار: لا بد من التفاعل مع الأحداث، لابد أن تكون لنا مواقف قلبية مما يدور على ضوء الكتاب والسنة، ولذلك أيها الأخوة! عندما نتأمل في بعض الأقوال التي وردت، مما حصل من مقابلات كثيرة في الجرائد والمجلات والإذاعات وغيرها مع إخواننا المسلمين الذين هربوا من الكويت، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردهم، فنجد في بعض التعليقات أن أناساً عندهم جمل وكلمات تدل على أنهم اتعظوا من الواقع.
امرأةٌ تقول -باللهجة العامية- تقول: (الله ما سوى فينا إلا شوي) أي: على الأقل نجونا وإلا كان من الممكن أن يخسف بنا خسفاً فيفنينا عن بكرة أبينا، ما قتل منا إلا قلة بالنسبة للناجين.
فعندما ينظر الإنسان إلى ذنوبه الكثيرة والمتراكمة وينوب المجتمع كله، ثم أن الله سبحانه وتعالى يذكر بشيء، فهناك ما هو أصعب منه وأغلظ وأشد بكثير، فلا بد أن يعتبر.(15/19)
اليقظة من لوازم الاعتبار
والقلب من أعماله اليقظة: قلب المسلم لابد أن يكون متيقظاً، لا سهو ولا غفلة، فإذا سها وغفل ذكر الله قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] انظروا إلى هذه الآيات: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْك وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22 - 23].
هذه هي المشكلة الآن عندنا، مشكلة الناس الذين نجوا ومع ذلك فهم مصرون على الباطل، مصرون على المعاصي، مصرون على الفواحش، مصرون على الخمور، مصرون على الربا، مصرون على ترك الصلوات، أي: المشكلة أن الناس لا يتعظون من أول ضربة، وهذه شبه قاعدة، أن الناس ما يتعظون من أول ضربة، بل لا بد أن تأتي أولى وثانية وثالثة ورابعة، ومع كل ضربة يستيقظ أناس، ومع كل محنة يستيقظ أناس، ومع كل شدة يستيقظ آخرون وهكذا لا تستيقظ الشعوب من أول محنة.
ولذلك تجد الناس يدخلون في المحنة وتقع عليهم شدة ومع ذلك يخرجون كأن شيئاً لم يقع، فما زالوا منغمسين في المعاصي والأوحال، نقلوا فسادهم من مكان إلى آخر.
لكن لا يخلو الأمر من أناس اتعظوا، ثم بعد ذلك تأتي محنةٌ أخرى وثالثة ورابعة حتى يستيقظ الناس، والله عز وجل جرت سنته هكذا: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23].
هذه قصة سمعتها عن امرأةٍ بواسطة، تقول: هي امرأة من بلدٍ أصابها الله بالدمار والحروب، ولم تزل الحروب فيها قائمة -في لبنان - تقول بصراحة: نحن كنا نخرج ونغني ونرقص، فإذا جاءت غارة جوية وقصفتنا -مثلاً- دخلنا في الملجأ تحت الأرض، فإذا انتهى القصف والغارة طلعنا وكملنا الأغنية والرقصة.
إيه والله هذا شيء مدهش! نرقص ونغني! وبعد أن تنتهي الغارة نطلع نكمل الرقص والأغنية! معناها: يوجد أناس مهما أصابهم لن يتعظوا.
يا أخي! واحد قلبه ميت، ماذا ترجو من ورائه، نريد أن نذكر أنفسنا ونذكر غيرنا لعل الله عز وجل أن يهدي أُناساً؛ لأنه لن يخلو الناس من منتصحين وأناسٍ يقبلون الكلام: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فلنقم بواجب التذكير، ثم من اهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها.(15/20)
التضرع إلى الله واللجوء إليه
ومن أعمال القلب أيضاً: التضرع إلى الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42].
الله عز وجل رحيم، كان من الممكن أن يقبضهم ويموتوا على الكفر ويدخلوا جهنم، لكن الله عز وجل يمس المدن والقرى والبلدان بعذاب؛ لعل بعض هؤلاء الناس يهتدون من خلال العذاب والمحنة؛ فتصلح أحوالهم فإذا جاءهم الموت كانوا على هداية.
وهذه من رحمة الله كيف يكون العذاب من رحمة الله؟ كيف تكون المحنة من رحمة الله؟ هكذا تكون ناس في غفلة، فيسلط الله عليهم عذاباً من السماء أو من الأرض بواسطة بشر أو بغير واسطة البشر، فإذا سلط الله عليهم رجع أناس، فيهتدون ويموتون على الهداية، وكان من الممكن أن يموتوا على الغواية بدون العذاب، فكان العذاب بالنسبة لهم رحمة، وعلى الأقل يُكَفِّر سيئاتهم بالمصائب الحالة بهم.
فإذاً هذه الشدائد والمحن رحمة من الله، كم اهتدى بها أناس، وكم كفر الله بها سيئات أناس، وكم زاد الله بها أناساً -قلوبهم ميتة- زادهم إثماً على إثمهم؛ ليكون عذابهم في جهنم أشد وأبقى.
وانظر تجد ظالماً ومنتفشاً وطاغية: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] واحد يا أخي يقول: هؤلاء أقوياء؛ هذا قوي؛ هذا جبار، وهؤلاء عندهم أسلحة: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178].
قل لي الآن بعد خمسمائة سنة، الأحداث التي نعيشها نحن الآن، فيها ظالم ومظلوم وفيها كفار ومسلمون، هذه الأحداث بعد خمسمائة سنة ماذا ستكون؟ هذه الأشياء التي أرعبتنا وخوفتنا، والتي طغت على حياتنا، وعكرت أمزجتنا، وأقلقتنا وأقضت مضاجعنا، بعد سنين طويلة، بعد خمسمائة سنة مثلاً ماذا تكون هذه الأحداث؟ يمكن أن تكون سطرين في كتاب تاريخ، إي والله، ويقال عنها: وفي سنة 1411هـ كانت وقعة كذا وكذا حصل فيها كذا وكذا.
ولكن كل شيء مكتوب، صحف الأعمال مكتوبة عند الله، الظالم والمظلوم القاهر والمقهور الجبار الباطش، والمسكين الضعيف المسلم الذي اهتدى والمسلم الذي ظل على فسقه هذا الذي كفر بنعمة الله، والذي زادته المصيبة إيماناً، والذي زادته المصيبة نفاقاً وكفراً، كله مكتوب عند الله عز وجل: {فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52].
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42 - 45].
الجواب
=6000851> قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:63 - 65].
الجواب
=6002748> وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76].
الجواب
=6003523> وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} [السجدة:21]-في الدنيا- {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة:21].(15/21)
حوادث من التاريخ
أريد -أيها الأخوة- في خاتمة هذا الحديث أو في الربُع الأخير منه أن أستعرض معكم بعض الأحداث التي مرت بالأمة الإسلامية، ونرى فيها ماذا حدث في واقع المسلمين، وهل كانت هناك أحداث ضخام! وما مدى ضخامتها! وكيف تصرف المسلمون تجاهها! لأنني على يقين تام بأن دراسة التاريخ الإسلامي مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لنا نحن الآن؛ لأننا نعيش في هذا القرن الخامس عشر الهجري، لأن كثيراً من الأحداث تتشابه، نعم.
قد لا تتشابه بالأرقام والمواقع وأسماء الناس، لكن تتشابه في الظروف والأحوال والمواقف التي عبر بها الناس تجاه الفتنة والمحنة وهكذا لنَصل من خلال هذه الأحداث إلى عبرة ونعرف من خلالها: أولاً: نحن الآن نعيش في أحداث ضخمة لا شك، هل مرت بالمسلمين أحداث ضخمة؛ وربما تكون أضخم مما تمر بنا الآن؟ ثانياً: ما هو موقف المسلمين تجاه هذه الاحداث؟(15/22)
التتار واكتساحهم لبلاد المسلمين
ويمكن أن نعلم من الأحداث ما هي الأخطاء التي وقع فيها المسلمون، والتي يجب علينا أن نتجنبها الآن! عندما نقول: نتضرع إلى الله، كيف كانت إذا نزلت المصيبة بالمسلمين، وماذا كانوا يعملون؟ في فترة من تاريخ المسلمين، تقريباً من سنة 616 هـ إلى سنة 665هـ وما بعدها بقليل، هذه الفترة من التاريخ الإسلامي حفلت بأحداث رهيبة وعاصفة، كان فيها ثلاث أحداث مهمة: اكتساح التتار لبلاد المسلمين في الجهة الشرقية والوسطى، واكتساح النصارى لـ مصر، وشمال بلاد الشام، وفلسطين، وحدوث النار العظيمة التي خرجت بجانب المدينة المنورة، هذه حدثت في وقتٍ واحد، أي: في فترة متقاربة جداً، وكان الوضع الإسلامي في ذلك الوقت في محنة عصيبة جداً من عدوان خارجي، ومن مصائب داخلية، ومن أنواع الغلاء والتفرق والتمزق والطوفانات التي حصلت، والخراب الذي وقع في بلدان المسلمين، فكانت فترة عصيبة جداً، نحن نريد أن نلقي الضوء على هذه الفترة من خلال ما سنقرؤه من بعض أحداث التاريخ التي حدثت في تلك الآونة.
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة: (616هـ) وفيها عبرت التتار نهر جيحون بصحبة ملكهم جنكيز خان من بلادهم -أنا أختصر الكلام اختصاراً- فقصد التتار بخارى، وبها عشرون ألف مقاتل، فحاصرها جنكيز خان ثلاثة أيام، فطلب منها أهله الأمان فأمنهم، ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكراً وخديعة، وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في دفن خندقها، وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق، ففتحوها قسراً في عشرة أيام، فقتل من كان بها ثم عاد إلى البلد، فأخذ أموال تجارها، وأحلها لجنده، فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهلهن، فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج في البلد من النساء والأطفال والرجال، ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت، حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها، ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند، ثم من الجهة الشرقية دخل الفرنج فاحتلوا مدينة دمياط وغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها، فضج الناس وابتهلوا إلى الله.
في فلسطين في المسجد الأقصى حصل اكتساحٌ أيضاً، خاف الناس من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلاً أو نهاراً، وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق؛ حتى قيل أنه يبيع القنطار الزيت بعشرة دراهم، والرطل النحاس بنصف درهم.
سبحان الله! التاريخ أيها الأخوة فعلاً يتشابه، الآن مرت في الأحداث أن رجلاً باع سيارته من هؤلاء الهاربين من جحيم العذاب والظلم بدنانير زهيدة، وبيع الرطل من النحاس بنصف درهم- وضج الناس وابتهلوا إلى الله في المسجد الأقصى.
ثم دخلت سنة (617هـ) وفي هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بـ جنكيز خان، ووصل إلى بلاد العراق وما حولها حتى انتهى إلى إربل وأعمالها، فملكوها في سنةٍ واحدة، وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وبالجملة فلم يدخلوا بلداً إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة والرجال، وكثيراً من النساء والأطفال، وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه، وبالحريق إن لم يحتاجوا إليه، حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه، ويخربون المنازل، وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه، وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع، وكانوا يأخذون الأسارى من المسلمين، فيقاتلون بهم، ويحاصرون بهم، وإن لم ينصاعوا في القتال، إذا المسلم ما دل على الطريق قتلوه، وذكر ابن الأثير رحمه الله عن هذه الحادثة فقال: فلو قال قائلٌ إن العالم منذُ خلق الله آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقاً.
فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها، ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بختنصر ببني إسرائيل من القتل والتخريب في بيت المقدس، لكن هذا كان في مكان معين، أما التتار فقد اجتاحوا أماكن عديدة، في سنة واحدة ملكوا من الأملاك ما لم يملك أحد مثلهم في نفس المدة مطلقاً.
وتأمل كيف يسلط الكفار على المسلمين، بنو إسرائيل كانوا مسلمين أهل كتاب مع موسى، فلما ابتعدوا عن الدين وانحرفوا سلط الله عليهم الكفار، بختنصر كافر فقتلهم وشردهم، والمسلمين الآن في هذا القرن الذي نتكلم عنه الآن كانوا مسلمين، لكن انحرفوا وفشت فيهم من أنواع المنكرات والفواحش أشياء كثيرة -وهذه موجودة في الكتب- فسلط الله عليهم التتار مع أن التتار كفار، لكن الله عز وجل إذا ابتعد عنه من يعرفه سلط عليه من لا يعرفه.
قال ابن الأثير: ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج.
وهؤلاء لم يبكوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ولا حول ولا قوة بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب إذا استدبرته الريح! فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين -هؤلاء التتار- فقصدوا بلاد تركستان، ثم ما وراء بلاد النهر مثل: سمرقند وبخارى، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفةٌٍ منهم -ليس كلهم- إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً وتخريباً وقتلاً ونهباً، ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلاد الجبل وما فيها من حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذربيجان، ويخربونها ويقتلون أكثر أهلها ولم ينجُ منهم إلا الشريد النادر -هذا كله في أقل من سنة- ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحو أربعين ألفاً.
ثم ذهبوا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة آلاف فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين، فانهزم الكرج، وتالله لا أشك أن من يجئ بعدنا -هذا ابن الأثير - إذا بَعُد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، وتترسوا بالأسارى من المسلمين في بلد جاءوا وعلى المسلمين امرأة فيقول ابن الأثير بين قوسين (ولن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة) حديث صحيح، ففتحوا البلد بعد أيام وقتلوا أهله، ثم أنهم كانوا يقتلون في المسلمين لدرجة أن أحدهم يدخل إلى دربٍ من البلد وبه مائة رجل من المسلمين فلا يستطيع واحدٌ منهم أن يتقدم إليه، وما زال يقتلهم واحداً بعد واحد حتى قتل الجميع، ولم يرفع منهم أحد يده إليه، ونهب ذلك الدرب وحده، ودخلت امرأةٌ منهم في زي رجلٍ متنكرة، فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها، ثم استشعر أسيرٌ معها أنها امرأة فقتلها.
ثم ذهبوا إلى أذربيجان ففتحوا أردبيل ثم تبريز فقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً وحرقوها، وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهنّ ويشقون بطونهنّ عن الأجنة، ثم فتحوا بلداناً كثيرة يقتلون ويسبون ويأسرون، ويجعلون الأسرى تروساً يتقون بهم الرمي، ثم يرجعون إلى ملكهم جنكيز خان.
وكذلك فإن هؤلاء قد تكامل شرهم حتى وصلوا إلى بغداد في سنة (665هـ) وفي بغداد لعب ابن العلقمي الخائن ونصير الدين الطوسي الدور الخياني في الاستيلاء على بغداد، ودخل التتار بغداد وقتلوا جميع من قدروا عليه، هذا بعد أن قتل خليفة المسلمين، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكن الحشوش والوسخ وكمنوا أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فيفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجرى الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوفٍ وجوع، وقد اختلف الناس في كمية من قتل بـ بغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف أي: مليون وثمانمائة ألف شخص، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف، أي: مليونين، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وأعمل السيف في أهل بغداد أربعين يوماً، وكان الرجل يُستدعى من دار الخلافة من بني العباس الخلفاء فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى المقبرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويأسرون من يختارون من بناته وجواريه، ولما انقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسبب ذلك الوباء الشديد، حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلقٌ كثير في بلاد الشام من تغير الجو وفساد الريح، واجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون.
ولما نودي بـ بغداد الأمان وأنهى جيش التتار مهمته خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير كأنهم الموتى إذا نبشوا، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذ الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْ(15/23)
الغلاء وهلاك الناس من شدة الجوع
أما من جهة ما حصل في بعض بلاد المسلمين من الغلاء فإليكم نموذجاً في ما حصل في عام (643هـ) فإنه قد حصلت فتنةٌ ونزل كربٌ في دمشق فعدمت الأموال، وغلت الأسعار؛ حتى بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة، وقنطار الدقيق تسعمائة، والخبز كل أوقيتين إلا ربع بدرهم، ورطل اللحم بسبعة، وبيعت الأملاك بالدقيق -أي: البيوت بيعت بالأكل- وأكلت القطط والكلاب والميتات والجيفات، وتماوت الناس في الطرقات، وعجزوا عن التغسيل والتكفين والإقبار، فكانوا يلقون موتاهم في الآبار حتى أنتنت المدينة وضجر الناس، فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال ابن السبط وهو أحد المؤرخين: ومع هذا كانت الخمور دائرة، والفسق ظاهراً، والمكوس -أي: الضرائب- بحالها، وغلت الأسعار في هذه السنة جداً، وهلك الصعاليك -أي: الفقراء- في الطرقات، وكانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابه، ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها مثل الدجاج.
وذكر ابن حجر رحمه الله في حوادث سنة (777) للهجرة قال: وقع في الشام غلاءٌ عظيم، واستمرت الشدة حتى أكلوا الميتات، ووقع أيضاً في حلب حتى بيع المكوك بثلاثمائة إلى أن بلغ الألف؛ حتى أكلوا الميتة والقطط والكلاب، وباع كثيرٌ من المقلين أولادهم، وافتقر خلقٌ كثير، ويقال إن بعضهم أكل بعضاً حتى أكل بعضهم ولده.
ثم عقب بعد ذلك الوباء، ففني خلقٌ كثير حتى كان يدفن العشرة والعشرون في قبر بغير غسلٍ ولا صلاةٍ ويقال: إن ذلك دام في بلاد الشام ثلاث سنين.(15/24)
خروج النار من جانب المدينة المنورة
أما ما حصل بجانب المدينة المنورة من خروج النار فإليكم تفاصيل ذلك في عام (654هـ) وقد أرخ أبو شامة رحمه الله لهذه الحادثة تأريخاً جيداً، فكان مما قاله: حدث في هذه السنة تصديقٌ لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل بـ بصرة).
فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كُتب بتيماء على ضوء النار وهي في المدينة الكتب، قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي كأن في دار كل واحدٍ منا سراج، ولما كانت ليلة الأربعاء ثالث جماد الآخرة في سنة (654هـ) ظهر ب المدينة دويٌ عظيم، ثم زلزلةٌ عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان، والسقوف والأخشاب والأبواب ساعةً بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نارٌ عظيمة في الحرة قريبٌ من قريظة، نُبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نارٌ عظيمة أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أوديةٌ بالنار إلى وادي شظى مسيل الماء، والله لقد طلعنا جماعة نُبصرها فإذا الجبال تسير نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي -الحجاج الذين يأتون من جهة العراق ما لهم طريق إلى المدينة - ورجعت تسيل في الشرق كأنها أنموذجٌ عما أخبر الله تعالى في كتابه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33].
وقد أكلت الأرض، وقال: كُتِبَ هذا الكتاب يوم الخامس من رجب سنة (654) والنار في زيادة ما تغيرت، ثم قال: وأما النار فهي جبال نيران حمرٍ، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيءٍ يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فلا أقدر على وصف النار -هذا واحد يكتب رسالة من المدينة يوجهها لـ دمشق يصف فيها ما يرون أمامهم- قال: ولما ظهرت هذه النار وقع في شرقي المدينة نارٌ عظيمة انفجرت من الأرض وسال منها وادٍ من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت إلى الساعة ولا ندري ماذا نفعل؟ ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى المسجد النبوي مستغفرينَ تائبين إلى ربهم تعالى وهذا دلائل القيامة.
ثم قال أيضاً: والله لقد زلزلت مرةً ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه، وسمعنا صوتاً للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دويٌ مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة، وما أبانت لنا إلا ليلة السبت، وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، يقول: وقمت إلى الأمير فكلمته، وقلتُ له: قد أحاط بنا العذاب ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه، ورد على جماعةٍ أموالهم، ثم هبطنا فهبط معنا، وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنساء وأولادهم ما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا في المسجد النبوي، ثم سالت منها نهرٌ من نار -من هذه النار- إلى أن قطعت الوادي؛ والله يا أخي! إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يُسمع فيها ربابٌ ولا دفٌ ولا شُرب -انتهت الآلات الموسيقية، لا يوجد موسيقى في البلد مطلقاً ولا شرب خمور- وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طرق الحجاج، وخفنا أن يجيئنا -النار هذه- فاجتمع الناس ودخلوا المسجد وتابوا يوم وليلة الجمعة.
وأما هذه النار فإن لها حجارة، ولها دوي لا يدعنا ننام ولا نأكل ولا نشرب، ولا أقدر أن أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال، وأبصرها أهل ينبع، وقد حضر قاضٍ منهم، وفي نفس اللحظات انعكس على بغداد الأمر فأصاب بغداد غرقٌ عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد وغرق كثيرٌ من أهلها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير.
وفي المدينة ضج الناس إلى الله عز وجل، وانتبهوا من مراقدهم، وأخلصوا لله، وأيقنوا بالهلاك والعذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصلٍّ وتالٍ للقرآن، وراكعٍ وساجد وداعٍ إلى الله عز وجل، ومتنصلٍ من ذنوبه، ومستغفرٍ وتائب، ولزمت النار مكانها حتى حدث أن رأى الناس في البصرة أعناق الإبل في ضوء هذه النار.
أيها الإخوة: هذه بعض الأحداث التي حدثت في بلاد المسلمين في هذه الحقبة من الزمن، في أحداث جسيمة جداً، نحن الآن نقول: لا ندري ماذا ينتظرنا، نسأل الله حسن العاقبة، نحنُ يجب أن نرجع إلى الله، يجب أن نتوب إلى الله، يجب أن ننخلع من الذنوب، يجب أن نتضرع إلى ربنا، لا ندري ماذا ينتظرنا أيها الأخوة، لا ندري هل نجتمع أو لا نجتمع؟ هل نتمكن من الصلاة في المساجد أو لا؟ فاغتنموا الفرصة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدفع عنا البلاء كله، والوباء والمحن والفتن، وأن يُسلم بلادنا وبلاد المسلمين، ونحن نرجو الأمن من الله؛ لأننا بالأمن يمكن أن نعبد الله وندعو إلى الله؛ كما أن جميع المسلمين ينبغي أن يهبوا ويعملوا للإسلام في المحنة هذه، ينبغي أن يضاعف الجهد للعمل للإسلام، لأنك لا تدري هل تستطيع أن تدعو في المستقبل أم لا! هل تستطيع أن تتعلم أو لا! الآن ينبغي أن تضاعف طلب العلم والدعوة إلى الله.
نسأل الله أن يقينا وإياكم هذه الفتن، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل عاقبتنا وعاقبتكم إلى خير، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.(15/25)
الحق أحق أن يتبع
إن من حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الصراع قائماً بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، وجعل للباطل مؤيدين، وعن الحق مخذلين من ضعفاء نفوس وغير ذلك، فتجد كثيراً من الناس يسمع الحق ثم يرده لأسباب نفسية أو دنيوية أو غير ذلك من الأسباب.(16/1)
أسباب رفض الحق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فيطيب للجنة العامة للنشاط بكلية إعداد المعلمين، ومركز العلوم والرياضيات أن يتقدم بجزيل الشكر لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح المنجد، ونثني -أيضاً- بالشكر لإخواننا الحضور، فجزاهم الله خيراً، ونعتذر أيضاً لظروف طارئة عن تغير عنوان المحاضرة من: عناية الإسلام بالمشاعر، إلى عنوان: الحق أحق أن يتبع، نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بهذه المحاضرة، ونسأله جل وعلا أن يرزق محاضرنا حسن الأداء، وأن يرزقنا حسن الإصغاء، ولا أطيل عليكم بهذه المقدمة، فأترككم مع المحاضر، والله يحفظكم ويرعاكم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى سبيله القويم.
أيها الإخوة: أحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلساً خيّراً، وأن يجعل ما يقال فيه من مرضاته عز وجل، والموضوع الذي سوف نتحدث عنه إن شاء الله في هذا الليلة، بعنوان: الحق أحق أن يتبع.
وهذا الموضوع متشعب وله أطراف كثيرة، فمنها مثلاً: ما هو الحق؟ ما هي علاماته؟ لماذا يمتنع الناس عن قبوله وهو حق؟ لماذا لا يعترفون به أحياناً؟ والله عز وجل أخبرنا أنه خلق السموات والأرض بالحق، وأنه أنزل القرآن بالحق: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105].
وسوف نركز في كلامنا هذا إن شاء الله بالدرجة الأساسية على موضوع الأسباب المانعة من قبول الحق، وندخل في الموضوع مباشرة فنقول:(16/2)
تقليد القدماء الآباء والأجداد
إن من الأسباب التي تحمل الشخص أحياناً على رفض الحق تقليد القدماء من الآباء والأجداد، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] هذا التصميم على تقليد الأسلاف، تقليد القدماء، تقليد الآباء، قال: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
إذاً بعض الناس لا يُقدّرون، ولا يميزون، ولا يمحصون، فمجرد أن الآباء فعلوا هذا فهم يفعلون مثلهم، وقد يكون الآباء فطرتهم منتكسة، أو على ضلالة، أو قد يكونوا مشركين، أو لم يستخدموا عقولهم في الوصول إلى الحق، أو لم يتفكروا، لكن الأمور عند هؤلاء غير مهمة، المهم هو اتباع الآباء.
وعدم الاهتمام بصفات المتبوع من البلايا التي ابتلي بها الكثيرون في هذه الأيام، المهم هو الشخص، وليس المهم صفات الشخص، هذه من الآفات العظيمة.
وقد رد قوم إبراهيم على نبيهم لما جادلهم وناقشهم: لماذا تعبدون غير الله؟ لماذا تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنكم شيئاً؟ كان جوابهم: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] هذا هو الدليل، هذا هو المستند والمتكأ الذي يتكئون عليه، وقالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين، فمجرد أنهم وجدوا الآباء يعبدون، فقد اعتبروه مستنداً في قضية رفض ما أتى به إبراهيم، والإصرار على ما هم عليه من الباطل.
وقد يرفض بعضهم الحق لأنه لم يسمع به في الأولين، ولأنه قد فوجئ به الآن، فهو جديد عليه: {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] ومن هذا القبيل ما يفعله اليوم بعض كبار السن، إذا رأوا رجلاً حديث السن يعمل أمراً من الأمور، فإنهم يقولون له: أنت أتيت بدين جديد، ونحن قد عشنا سنوات طويلة ورأينا آباءنا وأجدادنا فما كانوا يعملون هذا العمل: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] وعليه فأنت مخطئ، وأنت وأنت وهكذا يسفهون رأيه، وقد يكون هو عين الصواب، وهو الواضح بالأدلة، ولكن: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36].(16/3)
الغلو في الرجال
من أسباب رفض الحق: الغلو في الرجال، وعدم إنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله إياها، أو رفعهم فوق المنزلة التي أنزلهم الله إياها.
والغلو في الرجال من الأمور المنتشرة كثيراً في هذا العصر حتى بين المستقيمين، وبين كثير من الدعاة إلى الله، وطالب الحق لا يهوله اسم معظم كائناً من كان، وليس لهول الرجل يتبع، لا.
وهنا قاعدة ذهبية ذكرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق]، فالحق هو الذي يبين ويقوم، وليس الرجال هم الذين يقومون الحق، فإن الحق موجود، ولكن الحق دليل على صحة الرجال أو خطئهم، فهو المعيار والميزان الذي توزن به الأمور.
وقد يزداد الأمر سوءاً حتى يصل إلى درجة ما أخبر به الرسول صلى الله وعليه وسلم كما في الصحيحين عن حذيفة مرفوعاً: (حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه حبة خردل من إيمان) يصل الأمر بالغلو إلى درجة أن يقال عن الرجل ما ذكر وليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فانظر إلى الموازين عندما تتهدم كيف يقول الناس عن الرجال؟ وهذا المدح الذي يقوله الكثيرون إنما هو من الغلو، ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مدح الرجل في وجهه حتى لايغتر، ومع ذلك فإن ديدن الكثيرين هو إطلاق ألقاب المدح جزافاً على شخصيات ليس في قلبها من الإيمان حبة خردل.
والتعظيم حتى لو كان للصالحين -وتعظيم الصالحين من الآفات الكبيرة- واكتشاف الأمر أصعب؛ لأن عندهم أشياء قد يخدع بها الكثيرون، صلاة، وعبادة، وزهد، وتقوى ظاهرة.
فهذا الأمر يصل إلى التعظيم وادعاء العصمة لهم، ورفعهم فوق مستوى البشرية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
ولذلك يصل الأمر ببعض الغلاة من أصحاب الطرق أنه يسجد لشيخه، وربما يحلق رأسه للشيخ تقرباً له وتعظيماً، الحجاج يحلقون رءوسهم تعظيماً لله، ويزيلون هذا الشعر بالموسى تعظيماً لله، وهؤلاء يعظمون مشايخ الطرق بأن يحلقوا رءوسهم من أجلهم، وتقول لبعضهم: إن الحديث الذي تقوله ضعيف.
يقول: لقد رواه الشيخ.
تقول له: إن هذا الرأي الذي تقول به مخالف للدليل.
يقول: إن الشيخ قد قال به.
فهذا التعظيم الموجود للشخصيات سبب كبير من أسباب الانحراف، وقد خط لنا السلف رحمهم الله في هذا الأمر منهجاً، فـ ابن عباس رضي الله عنه لما سئل عن مسألة، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: له إن أبا بكر يقول كذا، وعمر يقول كذا، قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر.
وكثير من المعظَّمين اليوم والمتبعين، كثير منهم بل كلهم لا يمكن أن يقارنوا بـ أبي بكر وعمر، ومع ذلك يحتج بأقوالهم على الدليل، وتقدم أقوالهم على الحق من القرآن والسنة، لا أقصد تقديم فهم فلان على فهم فلان للدليل، فهذه قضية تتعلق بالفقه، لكن أن رجلاً ليس مستنداً في كلامه إلى أي دليل، يقدم رأيه على الدليل الصحيح الصريح، فضلال عظيم أن يصل الأمر إلى هذا المستوى.
سئل الإمام أحمد مرة -وهذا مثال لا أعنيه لذاته ولما يتضمنه، وإنما أعنيه لما فيه من الدرس العام الذي يؤخذ منه- سئل الإمام أحمد عن كتابة الرأي، قال: لا أراه.
لم ير ذلك، فقيل له: إن ابن المبارك، قد كتبه، فقال: الإمام أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء.
وابن المبارك هو من هو في جلالة قدره، وعلو كعبه في العلم، والزهد والعبادة والتقوى لله عز وجل، ومع ذلك يقول الإمام أحمد: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال المروزي للإمام أحمد رحمه الله: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له المروزي: فقد قال إبراهيم كذا، قال: فصاح بي، وقال: جئتنا ببنيات الطريق، أي: تريد أن تهلكنا؟ ولذلك لما استقر عند السلف هذا الأمر ما هالهم عظمة فلان، وعبادة فلان، وزهد فلان، وورع فلان، إذا كان الذي أتى به فلان هذا مخالفاً للحق، فزهده، وورعه، وتقواه لنفسه، ونحن عندما نتبع، إنما نتبع بالدليل وبالبينة، ولذلك قيل للإمام أحمد: إن سرياً السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقفت الألف وسجدت الباء، فقال: نفروا الناس عنه، ولم يهمه سري السقطي من هو، ولا ما هي العبادة والزهد والورع، وما هو مقيم عليه، فله شأنه الخاص به، ولنا علمه الذي يقول به، نزنه بالحق: نفروا الناس عنه، لأنه قال كلاماً بغير دليل، فالكلام الذي قاله الإمام أحمد صحيح، وهذا هراء.
وليس لأي واحد أن يقول: نفروا الناس عن فلان، فلا بد أن يأتي بالبينة والدليل لماذا ننفر الناس عن فلان؛ أما نفروا الناس عن فلان لهوى، أو لخلاف شخصي، أو لأطماع معينة، فهذه قضية خطيرة، فلا إفراط ولا تفريط، ولا مجاوزة للحد من أحد الجانبين، والحق دائماً وسط بين طرفين، وطريق بين باطلين في كثير من الأمور.
وقد وقر في نفوس كثير من الناس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه الجاهل بالشرع قبله؛ لتعظيم القائل في نفسه، يقول أحد أهل العلم: اسمع مني بلا محابة، ولا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال فلان وقال فلان، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أقوى حجة، على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليها بحسن الظن، أي: لا يعني أن نكره المخطئين على جلالة قدرهم أو ننبذهم، ونشتمهم ونسبهم لأنهم قالوا خلاف الحق، بل نلتمس لهم أعذاراً ونحسن الظن، نقول: لعل الشيخ فلان، أو الإمام الفلاني لم يطلع على الدليل، أو على وجه تضعيف الحديث، أو لعله توهم بالاستدلال أمراً معيناً ليس كذلك، وهذه أشياء بينها أهل العلم، لا كل جاهل يقول: والله لعل الإمام أحمد ما عرف الدليل، لعل أبا حنيفة ما فهم، فهذا الكلام يتبين بمناقشة أهل العلم لبعضهم، والله أخذ عليهم العهد: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].
المشكلة في عهد العلماء السالفين من الأمة في اتباع وتعظيم أناس من المذاهب الضالة، سواء كانوا جهمية أو معتزلة، أو مرجئة، أو طرقية صوفية من أصحاب الوحدة أو الحلول والاتحاد -وحدة الوجود واتحاد الخالق والمخلوق- كانت المشكلة عندهم في زعماء الضلال، والآن تغيرت كثير من الأسماء، وصارت المشكلة في شخصيات نشأت في هذا العصر، وأصبحت أصناماً تعبد وتقدس من دون الله، فالفكرة نفسها موجودة في السابق، لكن تغيرت الشخصيات، ونشأت بعض المذاهب الهدامة وبرزت إلى الوجود، وعلى السطح، وشهودت في الساحة، وأصبح لها دعاة وأناس يتبنونها وينشرونها، ويسهرون ليلاً ونهاراً لإذكاء نار فتنتها، فيجب على أهل الوعي من المسلمين الوقوف أمام هؤلاء، والبيان للناس: ما هو الميزان وكيف نقوم الأشخاص؟ ومن المؤسف أن تجد أقواماً يسخرون من جمود قوم نوح، وهم عاكفون على أقوال كبرائهم، وفتاوى عظمائهم، لا يرون جواز الخروج عنها، يقول: أخرج عن رأي فلان من أنا ومن فلان؟ فلان له كذا وكذا من المآثر، أنا لا أفهم أكثر منه، ولو أتيته بالدليل وبكلام أهل العلم الآخرين، فلا يمكن يغير، ومن البلاء أن يؤتي الله الإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً، ثم يفكر بعقل غيره، ولا يبصر إلا ما رآه غيره، ولا يسمع إلا ما قاله غيره، ولا يؤمن إلا بما تكلم به غيره.
إذاً فما فائدة السمع والبصر والفؤاد؟(16/4)
الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل
من الأشياء التي تصد عن الحق، الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] فمنهم إذاً عالم فاسق فاجر، أو عابد جاهل، يتبعهم بعض أفراد الأمة فيضلون، ويهدم الدين بزلة العالم التي يتابع عليها.(16/5)
العرف والعادة
ومن الأمور التي تصد عن الحق وتمنع الأخذ به: الإلف والعادة التي نشأ عليها الشخص وتربى؛ إذ كيف يغير الإنسان رأيه وقد سار عليه فترة طويلة؟ كيف يغير قناعته وقد تكونت لديه عبر سنوات مديده؟ كيف يخالف الشيء الذي تعود عليه، وألفه، وأحبه، واستمرأه؟ فالمخالفة صعبة؛ لأن فيها تغيير المألوف، والنفس تحب الشيء المألوف الذي اعتادته، فهذه نقطة يعاني منها أهل الحق، وكذلك أهل الباطل في المجتمعات، أهل الباطل يريدون تغيير، عادات الناس الطيبة، وقيمهم الحميدة التي يقرها الشرع، فهم يريدون الثورة على الواقع، نسأل الله أن يفشل مخططاتهم.
أما أهل الحق فإنهم يعانون من هذا النقطة، إذا كان الذي عليه الناس، وتمتمسكوا به وألفوه مخالفاً للحق، لكن شتان بين معاناة هؤلاء ومعاناة أولئك.
بعض الناس تناقشه في أمر من الأمور فيصر على ما هو عليه، تبين له بالأدلة فيصر على ما هو عليه؛ لأنه قد ألف هذا الشيء، وأحياناً يكون هذا الشيء مخالفاً للعقل السليم، ومع أن هذا الرجل يحمل شهادات عليا، ولكنه غير مستعد لأن يخالف، بل إنه يبحث عن وسائل في الإقناع والرد واهية جداً.
أذكر أن واحداً من هؤلاء كان يتكلم عن طرق الذكر الجماعي البدعية، فكان يقول: يا أخي! ما أعظم هذه الرياضة الروحية العظيمة الله أكبر سبحان الله الله حي، تطلع وتنزل، يقول: بدلاً من أن تلعب كرة، وتضيع وقتك في اللعب، فهذا شيء يقوي البدن، والعضلات، والأعصاب، وفيه ذكر انظر إلى عظمة الدين:
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تن تنا تن تنا
قاله ابن القيم رحمه الله في معرض الرد على أولئك المبتدعة في أذكارهم وطرقهم.(16/6)
الكبر
أحياناً يرفض الحق للكبر، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146] ولذلك مهما ناقشته، وجادلته بالتي هي أحسن، وبالأدلة فلا يمكن أن يقتنع.
وبعض الناس تستغرب منه لكبره، والكبر آفة عظيمة، ولذلك فصاحبه محروم من دخول الجنة، لما يورثه الكبر في نفسه من الابتعاد عن الحق الذي يدخل صاحبه الجنة.
وقد حفل التاريخ بأمثلة ممن أوقعهم الكبر في مهاوي، مع أن الواحد أحياناً يستغرب كيف وقع هؤلاء، أنت -مثلاً- إذا تأملت الآن مؤلف كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية، تجد فيه من نصرة العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة أشياء مذهلة، وقد تجد فيه وجوهاً للرد مثل كلامه في آية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] التي استدل بها أصحاب المبتدعة على إتيان الرسول صلى الله وعليه وسلم في قبره بعد موته، وطلب الاستغفار، تجد وجوهاً في الرد ممتازة ومحكمة ربما لا تجدها لمن هو أكبر منه وأعلى باعاً، فقد ألهمه الله إياها فكتبها دفاعاً عن أمة الدعوة.
والبروق النجدية في اكتساح ظلمات الدجوية، وغيرها من الكتب الجيدة، فتستغرب فعلاً كيف انحرف هذا الرجل حتى صار ملحد ثم ألف: محاكمة الكون لله، والرجل انحرف تماماً عن الحق، ونزل من مرتبة العلم القوي الصحيح إلى الإلحاد، ليس صاحب بدعة فنقول: بدعته انحرفت به، ولا هو صاحب شبهة، فنقول شبهته انحرفت به، فالحق واضح عنده، وهو يدافع عنه، ويفري فرياً، لكن في النهاية، انحرف، فلا ندري ما هو السبب.
كل الأمور متوفرة لديه، والبراهين والأدلة واضحة، وطريقة الرجل مستقيمة، وعقيدته صحيحة، ومنهجه طيب، ولكن: الكبر الذي في نفسه.
ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل
رجل وصلت به المسألة إلى هذه الدرجة، قال: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع على الناس لما كان هناك داعٍ لإرسال الرسل، ويقول: وحق لي أن أتكبر لما عندي من الإمكانيات، والطاقات، ولذلك سقط سقوطاً مريعاً، وقد قيض الله من يرد عليه، مثل الشيخ عبد الله بن يايس رحمه الله في الرد القويم، والشيخ ابن سعدي، ومحمد بن عبد الرزاق حمزة، والشيخ صالح السويح، وغيرهم من أهل العلم، الذين بينوا عوار الرجل، وكشفوا أباطيله، لكن تأمل وخذ درساً في عدم الاغترار، وفي أن الكبر يحطم صاحبه تحطيماًَ شاملاً، ونسأل الله الثبات، فالواحد يجد نفسه صاحب عقيدة سيلمة، وصاحب سنة، ويتبع الدليل، وفجأة يقع بسبب الكبر.(16/7)
العصبية والخوف على الجاه
أحياناً يرفض الحق للعصبية، والعصبية توضحها الرواية الآتية عن المسور بن مخرمة وهو ابن أخت أبي جهل، أنه قال لـ أبي جهل: يا خال! هل كنتم تتهمون محمداً بالكذب قبل أن يقول ما قاله؟ فقال: يابن أختي! والله لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم فينا وهو شاب يدعى الأمين، فما جربنا عليه كذباً قط، قال: يا خال! فما لكم لا تتبعونه؟ قال: يابن أختي: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، فأطعموا وأطعمنا، وسقوا وسقينا، وأجاروا وأجرنا، حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي، فمتى ندرك هذه؟ فكان سبباً في ردهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك أسباب أخرى منها: الخوف على الجاه، وخشية الملأ على نفوذهم، وتقليص امتيازاتهم، فهذا من الأسباب، وهذا الحديث ثبت مثله عن المغيرة بن شعبة.(16/8)
الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله
من الأشياء التي تصد عن الحق: الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، قال ابن القيم رحمه الله: وأهل هذه الغربة هم أهل الله حقاً، فإنهم لم يأووا إلى غير الله، ولم ينتسبوا إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يدعوا إلى غير ما جاء به، ومن صفات هؤلاء الغرباء، ترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة، ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وأكثر الناس لائم لهم.
وصدق فأنت لو قلت للناس: أنا لا أنتسب إلى أحد غير الله ورسوله، وأنا أسير على طريقة السلف، وأنا من أهل السنة والجماعة أعتقد اعتقادهم وأسير على طريقهم في جميع الأبواب، في العقيدة، والسلوك، والأخلاق، والسنة، ووجه الاستدلال، أنا على أبواب أهل السنة والجماعة، وهذه طريقتي، فلا أنتسب إلى أحد، فكل المنتسبين سيلومونك أنت مع أنهم متفرقون في انساباتهم، ولكنهم جميعاً يعتبرونك عدواً لدوداً لهم.
ثم لو أن إنساناً سأل وقال: ما علاقة هذه المسألة بالصد عن الحق؟ كيف يعني أن الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، يصد عن الحق؟ فأقول لك: يا أخي! القضية واضحة، فإن من انتسب إلى طائفة من الطوائف، أو حزب من الأحزاب، أو جماعة من الجماعات، فإنه يوالي لها ويعادي عليها، ويحيطها بهالة من التقديس تمنعه من تقبل الحق لو كان مخالفاً لما عليه هذه الطائفة، بل إنه يدافع عنها بالحق وبالباطل، لأن قلبه قد أشرب من حبها، ولذلك هو غير مستعد أن تنتقد طائفته، وهذا يؤدي إلى العصبية وإلى تفرق المسلمين.
ولو أن المسلمين كلهم مشوا على طريقة أهل السنة والجماعة -على طريقة السلف - وعلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والأشياء التي فيها الاختلافات الواردة فيعذر بعضهم بعضاً فيها، أما الأشياء التي في الأصول والتي لا يمكن الاختلاف عليها، فأمرها محسوم، لتجمعوا واجتمعوا كلهم، ولا نعني بهذا الكلام: نسف مسألة التعاون على البر والتقوى، ونسف قضية التعاون على الدعوة إلى الله، ونسف قضية روح الجماعية في الدين، فهذه موجودة، ولا بد من وجودها وإيجادها، ولكن التفرقات والتعصبات للانتسابات هي التي تهلك.(16/9)
حصر الحق على طائفة معينة
ومن الأسباب التي تصد عن الحق كذلك -أيها الأخوة- حصر الحق في طائفة معينة، يعتقد أنما هي عليه حق، وما عليه غيرها فهو باطل، هذا نتيجة الشيء لما ذكر قبل قليل، وتدعي كل فرقة أنها هي الناجية، وأنها هي الطائفة المنصورة، وأنها الطائفة الصحيحة وعلى المنهج الصحيح، وما سواها باطل.
سواها قد يكون من المسلمين، وقد يكون منهجهم صحيحاً، وهذه الادعاءات كثير منها كاذب:
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
ومن الأشياء الطريفة أن إحدى فرق القاديانية سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة، وهذه المسألة قديمة، أعني ادعاء الحق لطائفة واعتبار الآخرين على باطل، مسلمين، يهود، نصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
أحياناً الذي يرفض الحق يقول: لو كان هذا حقاً لكنت أنا أولى به من غيري، ولو أنه حق لكانت طائفتي أولى به من غيرها، ومادامت ليست عليه، فليس هو الحق قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] أي: لو أن هذا الذي تدعونا إليه خيراً ما سبقتونا إليه، وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: لو كان هذا القرآن صحيحاً، لنزل على واحد يستحق، وهو فلان الفلاني.
وهذا المنطق مشهور ومنتشر ومتشعب في نفوس الكثيرين، فمتعصبة المذاهب يقولون: لو كان حقاً لقال به إمامي، وأنتم تعرفون طائفة من أقوال المتعصبين، ومتعصبة بعض الطوائف يقولون: لو كان حقاً لرآه قائدي أو قدوتي، ومادام أنه ما رآه فليس هو الحق، {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11].(16/10)
الحسد
من أسباب رفض الحق الحسد، يرى أنك على حق فيحسدك، ولا يعمل بما أنت عليه.
والحسد قضية قديمة، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109].
فاليهود والنصارى يريدون صدنا عما نحن عليه من الحق، وهم يعلمون أنه حق؛ حسداً من عند أنفسهم، وهناك حادثة رواها ابن إسحاق مع ما فيها من جهالة عين أحد الرواة، لكنها تصور واقعاً ولا تترتب عليها أحكام، فنحن نسوقها للفائدة، قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب -وهي المرأة اليهودية التي أسلمت، وتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا، لأنها أسلمت وصارت أم المؤمنين، والإسلام يجب ما قبله، ولا اعتبار لأي انتسابات أخرى، ونحبها، ونوقرها، توقير آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها من أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم- صفية بنت حيي تقول: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه.
قالت: فلما قدم النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، حتى يعلما علم هذا الرجل، فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، قالت: فأتيا كالِّين، كسلانين ساقطين، يمشيان الهوينا، قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ يقصد الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: أهو هو أي: الذي نعلمه في التوراة، مكتوب أنه سوف يرسل.
قال: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
انظر الآن هو يعترف تماماً أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صفته مكتوبة في التوراة، أهو هو؟ قال: نعم.
لكن النتيجة: عدواته والله ما بقيت.
كانوا يريدون ويتوقعون أن يظهر النبي منهم، فإذا هو من أناس آخرين، فحسداً بعض الناس يرفض الحق؛ لأنه أتى من فلان الفلاني الذي بينه وبينه عداوة شخصية، فهم لا يقبلون منه ما يقول حتى لو كان حقاً، ولو قال به آخر لقبلوا.
وفلان هذا بيننا وبينه مشاكل، واختلافات شخصية وصراعات، فلا نقبل ما يقول، وهذه بلية كبيرة، معناها أن القضية ليست اتباع الحق، فقد صارت القضية اتباع من يقول بالقول، لو قال به فلان الذي نرتاح له، ونحبه أخذنا بكلامه، لو قال به فلان الذي نخالفه ونكرهه فلن نأخذه.
يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الحق من الشيطان، لما جاء منه، والدليل على ذلك الحديث الذي في الصحيحين عن أبي هريرة، في الشيطان الذي كان يأتي بصورة آدمي ويسرق من الحب، وأبو هريرة حارس، فأمسكه أبو هريرة في اليوم الأول والثاني وهو يعتذر إليه فيطلقه، وفي الثالث قبض عليه وهدده بأن يذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلمه آية الكرسي، ثم في الرواية يقول: فقلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك الشيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث ليال؟ قلت: لا، قال: ذاك شيطان) فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: آية الكرسي لا تنفع قبل النوم لأن الشيطان هو الذي قالها؟ وهو كذوب فأقره عليه السلام مع أنه أتى من الشيطان.
والآن أشياء كثيرة من الحق تأتي من أناس ليسوا بشياطين، ولكنها ترفض لعداوة شخصية، واختلافات مذهبية، واختلاف في الرأي، أو يرفض الكلام لأنه أتى من فلان.(16/11)
اعتناق الرافضين للحق أفكاراً ضده
ومن أسباب رفض الحق: اعتناق الرافضين له أفكاراً ضد الحق، مثل الأفكار الإلحادية العقلانية، الوجودية العلمانية، اعتناق هذه الأفكار بطبيعة الحال يصد عن الحق، والمعتنقين لهذه الأفكار يرفضون الحق.
في جاهلية الأمس كان الولاء للآباء والأجداد، وفي جاهلية اليوم صار الولاء لأصحاب المذاهب الفكرية الملاحدة، والشخصيات المسلطة عليها الأضواء ذات الأفكار المنحرفة.
وعامة مثقفي المسلمين ممن درسوا في بلاد الكفار، تبنوا أفكاراً ضد الحق، فرجعوا إلى بلادهم سماً زعافاً يحاربون الله ورسوله، ففي بعض المواقف تستغرب كيف يقفها هؤلاء الناس وكيف يعارضون الحق بجلاء ووضوح، وأذكر مثالاً: استغلت مناسبة من المناسبات في موعظة للنساء من وراء حجاب، وقبل الوليمة أو المناسبة حصلت الموعظة، وبعد الطعام قمت لأغسل يدي، فأخبرني واحد من الجالسين قال: لما قمت قال واحد من الحاضرين لشخص من الأشخاص: الحق، فإن الشيخ يكلم النساء عن الحجاب، قال لي: فقام ذلك الشخص مفزوعاً يجري وراءك، فلما رآك في المغاسل تغسل ارتاح ورجع إلى مكانه، ولكن المحذور قد وقع، فقد حصلت الموعظة، وما أخبر إلا بعد حصوله، فانظروا كيف قام الرجل يركض لئلا تسمع زوجته عن الحجاب، ويجري فزعاً قبل أ، أتكلم عن الحجاب، حتى لا تسمع المرأة الكلام في الحجاب! انظر إلى العداء التي تولده تلك الأفكار المغروسة في كثير من هؤلاء المثقفين.(16/12)
اعتقاد حيلولة الحق بينه وبين جاهه وعزه
ومن الأشياء التي تصد عن الحق: أن يعتقد الشخص أن الحق يحول بينه وبين جاهه وعزه، فيرفض الحق لأجل هذا، ومثاله: فقدان المنصب، أو فقدان الرآسة، كما وقع في حديث البخاري في كتاب بدأ الوحي، في حديث طويل نقتطف منه هذا المقطع حيث وصل خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وتباحث مع صاحب له يوازيه في العلم، حتى تأكد أن هذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاول إقناع قومه، فالمسألة أثرت في نفسه: فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له في حمص، ثم أمر بأبوابها فأغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش لشدة نفرتهم إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان -سواء إيمانه هو أو إيمانهم هم- قال: ردوهم إليَّ.
لأنه الآن يحاول فيهم، ولكن لما رأى أنهم قد نفروا وأنهم سينقلبون عليه الآن، وينتهي الملك ببساطة، وقد يقتلونه قال: ردوهم علي، وقال لهم الأسلوب الخبيث: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت! فسجدوا له ورضوا عنه، وكان ذلك آخر شأن هرقل، والحديث في البخاري.
فانظر إلى هذا الرجل كيف اقتنع بالحق، فحاول أن يقنع به الناس، فلما انقلبوا عليه خشي على ملكه، فقال: أنما كنت أريد أن أختبر شدتكم، وقد رأيت ما يسرني.
من الأمثلة كذلك في فقد الملك حين يحدث فيسبب لصاحبه الذي فقده عداوة للحق ما بقي من حياته: في صحيح مسلم، في حديث عبد الله بن أبي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء يدعوه: لا تغبروا علينا، ثم قال: إن كان ما تقول حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، ثم قال عليه السلام لـ سعد بن عبادة: أي سعد! ألا تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد الله بن أبي - قال: كذا وكذا، قال: اعف عنه يا رسول الله! واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة، أي: المدينة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، ويجعلوه ملكاً عليهم، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك هو، شرق بذلك -غص- فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وما حمل عبد الله بن أبي على كل المواقف التي تعرفونها من الدعوة إلا أنه كان سيصبح ملكاً، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فانتزع منه ذلك، فانقلب رأساً للنفاق.
وكذلك بعض الناس يرفضون الحق لأنه يجردهم من مزايا مادية، أو من أموال لهم، مثلاً: بعض التجار أموالهم أموال ربا، فيرفض الحق في هذه المسألة؛ لأنه يرى بأن أمواله ستذهب، وأن كثيراً من امتيازاته المادية ستذهب؛ لأنها حرام، فلذلك يرفض الحق.
بعض الناس يقبلون الحق إذا كان في مصلحتهم، وإذا كان في غير مصلحتهم لا يقبلونه، مثل المنافقين: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] وإذا ما كان لهم الحق رفضوا.(16/13)
الجهل بالحق
من أسباب رفض الحق الجهل به، ومن جهل شيئاً عاداه، وعادى أهله، والناس أعداء ما جهلوا، وهذا -أيها الأخوة- يبين مسئولية الدعاة إلى الله في التبيين للناس، إذا كان جهل الناس بالحق سبباً لعداء الحق؛ فعلينا نحن الدعاة إلى الله مسئولية التبيين، حتى إذا عرف الناس الحق لم يعادوه، أو على الأقل يزول السبب الذي يجلب العداوة.
كثير من الناس كانوا يجهلون الاستقامة والتدين والأشياء، وينكرون على أولادهم في بيوتهم، فلما تبين لهم الحق، تبينت لهم الحياة الإسلامية الصحيحة، توقفت العداوة، بل أصبحوا يقولون لأبنائهم: والله يا ولدي أني أستحي منك الآن، لأني عاديتك في البداية، وأنا الآن أتعلم منك، لأنه الآن عرف الصحيح.(16/14)
غربة الحق
قد يرد الحق لكونه غريباً: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] بعض الناس تناقشه في مسألة، فيقول: كلام غريب أسمعه لأول مرة، وليس بصحيح أن تجعله خطأ لذلك.(16/15)
أن الحق ثقيل ومخالف لهوى النفس
من أسباب رفض الحق، أن الحق ثقيل، وله تبعات، ويخالف هوى النفس، والنفس تحب الدعة والكسل والراحة، والتخفف من التكاليف، ولذلك بعض الناس لا يستقيمون، ويمكن أن يستقيم فترة، ثم ينتكس، والسبب أن نفسه لا تتحمل هذه التبعات، فهو يريد اللهو واللعب، وعندما يحس بوطأة التكاليف، يقول: اعذروني! أنا لا أستطيع أن أواصل في الطريق.
لماذا؟ لا أتحمل ولا أسمع كذا، ولا أرى كذا، وفوق هذا تريد أن أفعل كذا، وأقوم بالواجبات، فيرفض، ولكن الذي يلوح له فجر الأجر يهون عليه ثقل التكاليف.(16/16)
سوء التربية التي يتلقاها الفرد
ومن الأسباب كذلك: نوع التربية التي يتلقاها الإنسان، فلو رباه أبوه على أن كل ما يسمعه من الأب فهو الحق وغيره باطل مهما كان قائله، فإنك سترى الولد يقول: والله هذا الكلام ليس بصحيح، لأنه يقول: أبي قال غيره، فالأب قدى ربى ولده أن الذي يخرج من فم الأب هو الحق وغيره باطل.
لو تربى الولد في المدرسة على أن كل ما يقوله المدرس هو الصواب وما سواه خطأ، فإنه ينشأ على هذا ويتعصب له، ولو تربى إنسان في وسط حتى لو كان ظاهره إسلامياً، ونشأ على أن كل ما هو في هذا الوسط صحيح، وكل ما يقوله أفراد الوسط صحيح، وما سواه باطل، غرس ذلك في نفسه.
فإذاً التربية هي التي تربي الشخص على اتباع الأشخاص أو على اتباع الحق، وهي التي تحدد النهاية كيف تكون، وتحدد مواقف الشخص هذا من الحق إذا عرض عليه.(16/17)
تحكيم العواطف
من الأشياء التي تصد: أن بعض الناس يحكمون عواطفهم ولا عقولهم، وأقصد بعقولهم المبنية على موازين الشرع، بعض الناس يفكرون بالعاطفة، قد يرى رجلاً يبكي وتدمع عيناه، وهو يعرض عليه، ويقول له: يا أخي! صدقني! أقسم بالله إنه كذا، فيتأثر عاطفياً، وبعض الناس يبكون عن جهل، وبعضهم يدعو إلى باطل وإلى بدعة ويبكي، وبعض الناس يبكون بدموع التماسيح ويتظاهرون أمام العالم أن ما يدعونهم إليه حق، ويتأثرون تأثراً نفاقياً، حتى يتأثر الناس بهم فيتبعونهم، والذي يحكم العواطف ولا يحكم ميزان الشرع سينتهي بانتهاء التأثر.
وقد يقال: هذا فلان ابتلي في الله وعذب في ذات الله، فكلامه إذاًَ صحيح، لأنه رجل ابتلي في الله، نقول: ومن قال: إن الابتلاء في الله والتعذيب في ذات الله هو مؤهل لأن يكون صاحبه هو صاحب الحق، فيمكن أن يعذب شخص في ذات الله ثم تخرج منه أخطاء، فمثل هذه الأشياء العاطفية التي تحمل بعض الناس على الاقتناع، هي في الحقيقة ليست على أساس صحيح.
وبعض الناس متردد في قول الحق، فقد كان يقول بشيء ثم تبين له أنه خطأ وأنه خلاف الحق، وكان قد علَّم الناس هذا الشيء ودعاهم إليه في شتى المجالس وقال به؛ والتراجع صعب جداً؛ لأن الناس سيقولون: إنه جاهل وسطحي، تظل عشرين سنة تعلمنا ذلك ثم تتراجع، أو إذا عرفوا أنه الحق، أو أنك طول الوقت ساكت اعتبروه من الذين يكتمون البينات، فيجد الشخص نفسه في ضائقة، يقول: الناس يقولون عني كذا، إذاً لا أتراجع، ولا أبين لهم حتى لا أفتضح بينهم، وهذه المسألة موجودة في كثير من طلبة العلم الذين ينقلون الأحكام، فتجد خطباء وأئمة مساجد يعلمون الطلاب أشياء خاطئة، فإذا تبين له الخطأ يقول: ماذا يقول عني الطلاب والمصلون والمستمعون إذا تراجعت؟ يقولون: أنا كنت جاهلاً طول الوقت الذي ذهب، فيصده ذلك عن تبيين الحق للناس.(16/18)
التأثر بكلام المغرضين
من أسباب الانحراف عن الحق وأهله: التأثر بكلام المغرضين الذين يكرهون أهل الحق، فيشوهون صورتهم وسمعتهم وطريقتهم، فالشخص الذي يسمعهم يتأثر بهم ويصدقهم، ويرفض كلام أهل الحق للتأثيرات التي حصلت عليه، قد يكون معذوراً في أشياء، لكن عليه أن يتبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} [الحجرات:6] إن فرعون الذي كان على الباطل كان يفتري ويشوه سمعة موسى وهارون: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] أي: أنت تريد الملك، لذلك أنت الآن تعرض عنا وتسفه آراءنا، وتدعونا إلى هذه الدعوة لتكون لكم الكبرياء في الأرض، وكذلك كان يقول لقومه عن موسى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وحملات التشويه تؤثر على كثير من الناس، وأما الملأ فمنهم من يقول: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [الأعراف:127] أي: لا تتركهم.(16/19)
وضع اعتبارات وموازين باطلة يقيم بها الحق
من الأشياء التي تصد عن الحق: أن الواحد يضع اعتبارات غير صحيحة يقيم بها الحق، فتجد اعتبارات وموازين غير صحيحة، مثلاً: أن يعتقد أن الحق هو الذي يكون مع الأكثرية، ويحتج بذلك، والله يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم واصفاً أهل الحق: (أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وحكى الله عن داود عليه السلام {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24].
أو مثلاً يجعل الميزان هو القوة والضعف، فإذا رأى أهل الحق ضعفاء قال: لو كان لديهم الحق لانتصروا ظاهرياً، ولكانت لهم الغلبة والاستعلاء، ومادام أنهم ضعفاء فهم ليسوا على الحق، وهذا منطق قديم، قال به أقوام الأنبياء لأنبيائهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27] عندما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، في الحديث المشهور، قال له: وسألتك أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفائهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
فإذاً ليست القضية أن القوة مع أهل الحق دائماً، أو أن أنصار الحق ضعفاء: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] أو مثلاً: تجعل الثروة دليلاً على الحق، فالذي معه الأشياء المادية هو صاحب الحق {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:34 - 35].
يقول الله راداً عليهم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] لكنه بغى فأهلكه الله وقد كان عنده مفاتيح الخزائن.
وأحياناً تجد الواحد لا يبين الحق؛ لأن الذي قال الباطل بينه وبينه صداقة، فعلاقته به تجعله لا يبين وقد كان الصحابة يبينون ذلك، فمن ذلك حديث أبي موسى رضي الله عنه، أنه سئل عن ابنة وبنت ابن وأخت في الميراث، فقال: [للبنت النصف، وللأخت النصف وائت ابن مسعود فسيتابعني] فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: [لقد ضللت إذاًَ وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بما قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي للأخت] فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: [لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم]، ما قال ابن مسعود: أبو موسى صحابي، وأخ لي، وصديق فلا أبين خطأه أمام الناس، وذاك يقول: وائت ابن مسعود فسوف يتابعني، يعني: صار فيها دافع آخر اذهبوا إلى ابن مسعود فسيتابعني، قال ابن مسعود: [لقد ضللت إذاً وما أنت من المهتدين] أي: كيف أقول خلاف الحق في المسألة؟(16/20)
الظروف الاجتماعية
أحياناً قد يكون هناك ظرف اجتماعي يضغط على الإنسان فلا يعترف بالحق، مثلاً المرأة عندما قذف هلال بن أمية امرأته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، فأقسم هلال أنه برئ وأن الله سوف ينزل براءته، وأنزل الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] ونزلت آية اللعان، فانصرف النبي صلى الله وعليه وسلم، فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (إن الله يعلم أن أحدكما لكاذب، فهل منكما تائب) ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة، وقفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت هذه المرأة، حتى ظننا أنها ترجع وتعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت وأكملت الخامسة، بسبب الضغط وخوف الفضيحة.
والذي حمل أبا طالب على رفض الحق هو ضغط المجتمع:
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
فهو يخشى أن يقال: مات على غير دين آبائه.
وختاماً أيها الإخوة أقول: يجب علينا أن نتجرد، فنضع الحق فوق كل اعتبار، ويجب علينا أن ننقاد لله إذا كنا نريد وجهه، ولا نحاول أن نلف وندور أو نقوم بمناورات في سبيل رفض الحق كما يقع لكثير من الناس، حيث تجده يأتي بأعذار وعجيبة جداً تدل على القصة التي ذكرناها عن مؤلف كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية.
في أحد المجالس كنا نتكلم عن الإسلام، وأحد من العامة يقول: أنا غير مستعد أن أمضي قدماً في أشياء أخرى، أنا لا أتعمق في الدين، يكفيني الأركان الخمسة، فقلت: يا أخي! الدين ليس بالأركان الخمسة فقط، قال: بل الأركان كافية جداً، قلت: ما رأيك أن تسكن في بيت فيه خمسة أعمدة فقط، لا جدران فيه ولا شبابيك، ولا غرف؟ قال: لن أسكن فيه.
قلت: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس) فهذه الخمس عندك ولكن أين باقي البناء؛ أين الجهاد في سبيل الله والأمر المعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وطلب العلم، بر الوالدين؟ أو قال نفس الشخص: التعمق في الدين غير جيد، وانظر هذا مؤلف: الصراع بين الإسلام والوثنية، تعمق في الدين ثم ارتد، فقلت له: هذا الشيخ ابن باز لم يرتد!! وهو متعمق في الدين.
قصة أخيرة أختم بها الكلام: رجل تارك للصلاة، قلت له: اتق الله حرام عليك، كيف تترك الصلاة وهي الركن العظيم في الإسلام؟ هذا خروج عن الملة، وزوجتك حرام أن تجلس معك، قال: والله أنا أريد أرجع إلى الصلاة، ولكن الشيطان فقلت له: لماذا لا تصلي من غدٍ، وكيف تركت الصلاة وأنت تعلم هذه الأحكام؟ قال: يا أخي! أنا لا أصلي الظهر والعصر، فكيف أصلي المغرب والعشاء والفجر؟ قلت له: ولماذا لا تصلي الظهر والعصر؟ قال: لأنني في العمل، فلا أقدر أن أصلي الظهر والعصر، ولذلك تريدني أضحك على ربي وعلى نفسي، أصلي المغرب والعشاء والفجر.
قلت: ولماذا لا تصلي الظهر والعصر في العمل؟ قال: لأن الحمامات فرنجية، وأنا ما أضمن أن تكون عليها نجاسة.
فانظر إلى هذه الأعذار الواهية، فالناس عندهم قضية التفلت بأي عذر، المهم ألا يتبع الحق، وبعض الناس لا يتبعون لكنهم ألطف من غيرهم بقليل يقول: والله أنا مقصر، وأنا عارف أنه خطأ، نسأل الله أن يعيننا، وجزاك الله خيراً أن نصحتنا، وانتهى كلامه هذا أحسن من ناحية الاعتراف.
فعلى العموم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا من هذه الكلمات البسيطة، وأرجو من الله سبحانه وتعالى أن يهدينا وإياكم الحق.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الحق، اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(16/21)
آداب الوليمة
تحدث الشيخ في هذا الدرس عن تعريف الوليمة وأنواع الدعوات من وليمة عرس وعقيقة مولود إلى آخر تلك الأنواع.
وبين حكم إجابة الدعوة إلى الوليمة أو إلى غيرها، سواء كانت الدعوة من امرأة أو رجل، وذكر الحالات التي يسقط فيها حكم الوجوب عن المدعو, وختم الدرس ببعض أخبار الطفيليين.(17/1)
تعريف الوليمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: سنتحدث -أيها الإخوة- في هذه الليلة في سلسلة الآداب الشرعية عن آداب الوليمة.
ومعنى الوليمة في اللغة هو مشتقٌ من الجمع والضم، فيقولون: الولم: هو الجمع والضم، ويقال: أولم الرجل إذا اجتمع عقله وخلقه، وسمي القيد في الرجل ولماً لأنه يجمع الرجلين، واشتهر إطلاق الوليمة على الطعام الذي يُصنع للعرس لأن فيه اجتماع الزوجين، وكذلك فإن فيه اجتماع الناس للطعام، فالوليمة طعام العُرس، وقيل: هي كل طعام، والجمع ولائم.
ولكن اشتهر إطلاقها واختصاصها بطعام العرس، وكذلك قالوا: إن الوليمة تقع على كل دعوة تتخذ لسرورٍ حادث من نكاح أو ختان أو غيره، لكن الأشهر استعمالها عند الإطلاق في النكاح، وتقيد في غيره، فإذا قيل وليمة يُفهم أنها وليمة النكاح، هذا إذا أطلقوا، إذا أردنا غيرها نقول: وليمة الختان، وليمة السفر، وليمة النقيع ونحو ذلك من الأسماء، والدعوة أعم من الوليمة، فالدعوة ما دعوت إليه من طعامٍ وشراب.(17/2)
أنواع الولائم
فالدعوة أعم من الوليمة والوليمة أخص منها، والولائم أنواع، ذكرها الناظم في قوله:
أسامي الطعام اثنان من بعد عشرةٍ سأسردها مقرونة ببيانِ
وليمة عرسٍ ثم خرس ولادة عقيقة مولودٍ وكيرة بان
وضيمة ذي موتٍ نقيعة قادمٍ عذيرٌ أو اعذارٌ ليوم ختانِ
ومأدبة الخلان لا سببٌ لها حذاقة يوم الختم للقرآنِ
وعاشرها في النظم تحفة زائرٍ قرى الضيف مع نزلٍ له بأمانِ
وسنأتي على شرحها بسرعة، ثم نتوسع في مسألة وليمة الزواج أو النكاح، وبعض التفاصيل المتعلقة بها.(17/3)
الوليمة والخرس والعقيقة
أما بالنسبة لوليمة النكاح فهي ما يُصنع من الطعام بسبب النكاح، أما وليمة الخُرس فهو الطعام الذي يُصنع لسلامة المرأة من الطلق في النفاس، وكذلك فإن هناك العقيقة وهو الطعام الذي يُصنع بسبب ولادة المولود، وقيل: إن العقيقة أصلها من الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت بذلك لأنه يحلق عنه في يوم سابعه، وهو اليوم التي تذبح فيه العقيقة، وقال بعض أهل العلم: إن العق هو القطع، والعقيقة هي الذبح نفسه، وهي اسمٌ للشاة المذبوحة عن المولود يوم السابع من ولادته.
وقد اختلف أهل العلم فيها بين الوجوب والاستحباب، وجمهورهم على الاستحباب، ومن أدلة أهل الوجوب: (كل غلامٍ رهينة بعقيقته) أي: مرتهنٌ بها، والسُنة شاتانِ عن الغلام الذكر وشاة عن الأنثى، ويجوز أن يذبح شاة عن الذكر لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عق عن الحسن والحسين شاةً شاةً، والمسألة فيها تفاصيل أخرى.(17/4)
الوكيرة والوضيمة والنقيعة
وبالنسبة لوليمة الوكيرة: هي ما ذبح لإحداث بناء السكن، مأخوذٌ من الوكر، وهو المأوى والمسكن، فيُصنع بسبب البيت الجديد وليمة يدعى إليها الناس.
وأما الوضيمة: فهي ما يصنع من الطعام -بسبب المصيبة- لأهل الميت، وهي سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد جاءهم ما يشغلهم).
أما إذا كان اجتماع على طعام يصنعه أهل الميت، فهو من النياحة المحرمة، وقد جاء النص بذلك عن الصحابي جرير بن عبد الله رضي الله عنه: [كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام بعد دفنه من النياحة].
أما ما يفعله أهل البيت من صنع طعام، وجمع الناس عليه أول يوم وثاني يوم وثالث يوم فهو من النياحة، وهو حرام، ولا يجوز الأكل منه مطلقاً.
فإذا صنعوا طعاماً لأنه أتاهم ما يشغلهم، أو صنعوا للضيوف الذين جاءوا من بعيد، فناموا عندهم وأكلوا معهم، فهذا لا بأس به، أما أن يصنعوا طعاماً يدعى إليه الناس والجيران والمعزون، فهذا من البدع المحدثة وهو حرام.
أما بالنسبة لوليمة النقيعة فهي الدعوة التي تُصنع بسبب قدوم المسافر سالماً من سفره، مأخوذة من النقع وهو الغبار، قال الله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} [العاديات:4].
ويصنعها المسافر أو يصنعها أهله، وقيل: تُصنع للمسافر فرحاً بسلامة وصوله، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرة، فهذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله يدل على مشروعية عمل الطعام بعد القدوم سالماً من سفره.(17/5)
العذيرة والمأدبة
وأما بالنسبة للعذيرة فهي الوليمة التي تُصنع بسبب الختان، وتُسمى أيضاً الإعذار، والإعذار هو الختان، وهو الطعام الذي يُطعم بمناسبة الختان، وقد جاء عن بعض السلف فعل هذه الوليمة، وهل هي للذكر فقط أم تشمل الأنثى؟ للعلماء أقوالٌ في المسألة، ومما قاله ابن الحاج المالكي رحمه الله في كتابه المدخل: إن السنة في الختان للذكور إظهاره، وفي ختان النساء إخفاؤه فإذا كان ذكراً خُتن، فإنه يُصنع له هذه الوليمة إذا جرت العادة بذلك، فلا بأس في فعلها، وقد جاء فعلها عن بعض السلف رحمهم الله تعالى.
فإذا صار ختانه وحلق شعره في اليوم السابع فالعقيقة تغني عن هذا.
وأما وليمة المأدبة فهي الضيافة التي تعمل بدون سببٍ معين، فإذا أراد أحد الناس أن يجمعهم على طعام من أجل أن يكسب أجراً في إطعام الناس، فدعاهم للطعام، كالأصدقاء والأحباب والإخوان والأقارب والجيران.
أراد أن يصنع المعروف من باب أن إطعام الطعام وإفشاء السلام من أسباب دخول الجنة، وليس لوليمته سبب معين، فلا بأس بذلك.
وقد جاء في الحديث أن ملائكة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا: (إن لصاحبكم هذا مثلاً، مثله كمثل رجلٍ بنى داراً، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم فرّق بين الناس) صار الناس فريقين: مؤمنون وكفار، وهذه المأدبة التي تصنع بلا سبب، إذا كانت عامة فتسمى الجَفَلَى (بالألف المقصورة)، بأن قال: يا أيها الناس هلموا، وليأت من يريد من الناس، فهذه دعوة عامة يجوز لكل واحد أن يأتيها، أو فعلها في مكان عام على الشارع مثلاً أو في أرضٍ مفتوحة، ودعا إليها من شاء من الناس أن يأتيها، فتسمى جَفَلَى، يجوز لكل واحد أن يأتيها.
وإذا كانت خاصة فتسمى النَقَرى، فهي خاصة بمن يدعى إليها، فإذاً لا يجوز لغيرهم أن يأتي، وإطعام الأصحاب على أية حال من القُرب، ودعوة الإخوان أيضاً من الطاعات.(17/6)
الحذاقة والقرى
أما الوليمة التي يسمونها الحذاقة فهي الإطعام عند ختم الصبي للقرآن إذا حفظه، فإن حفظ ولد الرجل القرآن وصنع والده وليمة للناس فرحاً بمناسبة ختم ولده للقرآن، وربما صنعت أيضاً إذا نبتت أسنان الصغير ونحو ذلك، وهي مأخوذة من قولهم: (حَذِقَ الصبيُّ يَحْذَقُ حِذْقاً، إذا مهر في الشيء) ويقال لليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن: يوم حذاقة، ويقال: فلانٌ حاذقٌ في صنعته، وجاء عن بعضهم أنهم كانوا يصنعون هذا لغلمانهم.
ويروى عن الحسن أنه قال: "كانوا إذا حذق الغلام قبل اليوم نحروا جزوراً واتخذوا طعاماً" ويُروى كذلك عن حميد أنه قال: "كانوا يستحبون إذا جمع الصبي القرآن أن يذبح الرجل الشاة ويدعو أصحابه".
فهذه الشاة على أية حال هي شكر على نعمة حفظ الولد للقرآن، فإذا ذبح شاة على أية نعمة فلا بأس بذلك، لكن عندما تكون القضية واردة في السنة كالأضحية والعقيقة فإنها تتأكد، لأن لها مستنداً من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو من قوله، فهي لا شك أقوى وأقوى.
أما أشياء جرت من عادات الناس، قد لا تكون واردة في السنة فهي بمنزلة أدنى، وإن كانت من عادات الناس ولم يقصدوا بها السنة، ولم يقصدوا بها التعبد فلا بأس بذلك، وذبح الشاة لأجل النعمة يدل عليه مجموع أحاديث وردت في الشريعة، فنعمة القدوم من السفر ذبحت فيها شاة، ونعمة المولود ذبحت فيها شاة، ونعمة الزواج ذبحت فيها شاة: (أولم ولو بشاة) إذاً ذبح شاة أو ذبيحة أو عمل طعام لمناسبة سارة أو لنعمة أنعم الله بها على الشخص لا بأس به ولا حرج فيه شرعاً، لكن فرق أن يعتقد الإنسان أنه سنة، فهذا لا بد له من دليل، أو أنه لم يعتقد أنه سنة، وإنما هو سنة على وجه العموم فإن في الشريعة ما يدل على ذبح شيء أو دعوة الناس إلى طعام بمناسبة حدوث شيءٍ سار.
مثل لو أن إنساناً ترقى في وظيفته، أو تبوأ وظيفة ونحو ذلك أو تخرج من الجامعة، فعمل طعاماً فلا بأس بذلك، ليس بدعة ولا حراماً ولا مكروهاً ما لم يتضمن منكراً أو محظوراً من المحظورات الشرعية، وأيضاً وليمة القرى وهي الطعام الذي يصنع للضيف، وإكرام الضيف لا شك أنه قد ورد في السنة، ولعلنا نأتي إن شاء الله في هذه السلسلة على آداب الضيافة.(17/7)
الفرع والعتيرة
وكذلك فإن من أنواع الولائم التي ذكرت وليمة الفرع، والفرع هو أول نتاج الناقة، كان أهل الجاهلية يذبحونه لطواغيتهم، فأبطله الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا فرع).
وأما العتيرة: فهي الشاة التي كانوا يذبحونها في رجب، وتسمى الرجبية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عتيرة) وهنا اختلف العلماء هل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عتيرة) إبطال لذبيحة رجب بالكلية، أو لا عتيرة بمفهوم أهل الجاهلية، كأن يكون هناك اعتقادٌ معين عند الجاهليين، كما أنهم كانوا يذبحون لأصنامهم في رجب مثلاً ويسمونها عتيرة، فتكون مشروعة إذا كانت لله؟ قال بعض العلماء: يشرع ذبح شاة في رجب لله عز وجل، وأجابوا عن حديث: (لا عتيرة) أن المقصود ذبحها بمفهوم أهل الجاهلية، أو كما كان أهل الجاهلية يذبحون.(17/8)
حكم إجابة الدعوة
أما بالنسبة لإجابة الدعوة فقد ورد في الولائم والدعوات أحاديث، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس (وفي رواية ست) -وذكر منها- وإذا دعاك فأجبه) وقوله صلى الله عليه وسلم: (فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض).
وبالنسبة للدعوة العامة أيضاً ورد في صحيح مسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) كأن يكون صائماً أو كأن يعاف الطعام أو يكون مريضاً ونحو ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصلِّ وإن مفطراً فليطعم) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: (ائتوا الدعوة إذا دعيتم) رواه مسلم.
أما بالنسبة للوليمة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دُعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عُرساً كان أو نحوه) وقال صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها -الفقراء الذين يريدون الطعام يمنعون والأغنياء الذين لا يريدون الطعام يدعون- ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله).
وقال: (بئس الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليها الأغنياء، ويترك المساكين) وجاء ذلك من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس وهو صائم، وهو الذي روى حديث: (أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها) رواه البخاري رحمه الله.
فيتضح لنا من هذه الأحاديث أن إجابة الدعوة أقل ما يُقال فيها أنها سنة مشروعة أياً كانت الدعوة، ما دامت من مسلم وليس فيها منكرات، ويتأكد إجابة وليمة العرس تأكيداً خاصاً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) فيتأكد ذلك، لأن عدم إجابة وليمة العرس معصية لله ورسوله.
وكذلك أمره عليه الصلاة والسلام في البخاري: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) وهو أمرٌ بالحضور، ولا شك أن الوليمة هنا وليمة العرس.
وقال جمهور العلماء: إن إجابة وليمة العرس فرض عين لمن دعي إليها وهي واجبة، وقال بعض العلماء: فرض كفاية، لكن قول الجمهور أرجح، ويسند قولهم حديث: (ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) بأن الأصل إجابة الدعوة إلى وليمة العرس.(17/9)
حكم إجابة الدعوة في غير وليمة العرس
وأما غير وليمة العرس من الدعوات فما حكم إجابتها؟ قال النووي رحمه الله: فيها وجهان: أحدهما: أنها كوليمة العرس.
والثاني: أن الإجابة إليها ندبٌ وإن كانت في العرس واجبة.
ونقل القاضي عياض رحمه الله اتفاق العلماء على وجوب الإجابة لوليمة العرس، قال: واختلفوا فيما سواها.
وقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها، وأهل الظاهر قالوا: تجب الإجابة لكل دعوة، إذاً عندنا شيء واضح وجوب إجابة دعوة وليمة العرس، ومسألة الدعوات الأخرى فيها خلاف، والأحوط أن الإنسان يجيب إذا لم يكن عنده عمل مصلحته أعلى، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام عموماً إجابة الدعوة، وكأن يأتي إلى وليمة العرس خصوصاً.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك: (أن خياطاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال: فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعيرٍ ومرقاً فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذٍ).
وكلمة المرق مما أجاب به الذين قالوا: لماذا لم يأكل مما يليه؟ لأن الدباء كان في المرق فهو يتتبع، وكذلك أخرج البخاري رحمه الله عن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار يقال له: أبو شعيب، وكان له غلامٌ لحام، فقال: اصنع لي طعاماً أدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة -اعمل حسابك على خمسة أشخاص- فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خامس خمسة فتبعهم رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للداعي لما وصلوا: (إنك دعوتنا خامس خمسة، وهذا رجلٌ قد تبعنا، فإن شئت أذنت، وإن شئت تركته، قال: بل أذنت له).
من فوائد هذا الحديث الذي ذكره ابن حجر رحمه الله: من صنع طعاماً لغيره فهو بالخيار بين أن يرسله إليه أو يدعوه إلى منزله، إذا صنعت طعاماً لغيرك سواء دعوته إليك أو أنك أوصلته إلى منزله، فكلاهما يصبح من الإكرام.
ثانياً: من دعا أحداً استحب أن يدعو معه من يرى من أخصائه وأهل مجالسته، إذا دعوت رجلاً وكان له أصدقاء يجلس معهم باستمرار، فالأفضل أن تدعوهم معه حتى لا تفصل بينه وبينهم، وهو يريد الجلوس معهم.
وكذلك: إجابة الإمام والكبير دعوة من دونهم وأكل طعامهم، هذا النبي عليه الصلاة والسلام أجاب خياطاً، وذهب إليه، وقد جاء عند الحاكم بإسنادٍ صحيح حديث في هذا المعنى، وفيه أيضاً ذكرٌ لأدب من آداب الطعام الذي مر معنا سابقاً، وهو قول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه) بل أربع خصال تدل على التواضع، حديث أنس: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يردف خلفه، ويضع طعامه على الأرض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار) صححه الألباني.
قوله: (ويضع طعامه على الأرض) فيه دليل على وضع الطعام على الأرض، وإن كان يجوز الأكل على المائدة والخوان كما تقدم، والشاهد من الحديث هذا قوله: (ويجيب دعوة المملوك) أن النبي عليه الصلاة والسلام يجيب دعوة الناس ولو كانوا مغمورين أو كانوا ضعفاء، أو كانوا لا يشار إليهم بالبنان وليسوا ذوي شرف ومكانة بين الناس، وكان يجيب إلى الطعام القليل: (لو دعيت إلى كراع لأجبت) يجيب إلى الطعام ولو كان قليلاً، ولا يستحقره أو يحتقر الداعي، لأن هذا جهده، فيجيبه إليه.
ومن فوائد حديث الأنصاري الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة أن من قصد التطفل أي: المجيء إلى الوليمة من غير دعوة لم يمنع ابتداءً، لا يقال له: لا تأت، يقال: ممكن تأتي لكن لا تدخل إلا بإذن، لأن الرجل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرده، لاحتمال أن تطيب نفس صاحب الدعوة بالإذن له، ولعله يأتي بعض الأحكام المتعلقة بالتطفل في النهاية إذا صار هناك متسع من الوقت إن شاء الله.(17/10)
حكم إجابة دعوة المرأة
والمرأة تشترك في وليمة العرس، وينبغي أن تفهم هنا حديث البخاري عن سهل قال: (لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلت تمراتٍ في تورٍ من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي من الطعام أماتته له، فسقته تتحفه بذلك) وفي رواية لمسلم: (تخصه بذلك) وينبغي أن يفهم هذا الحديث فهماً صحيحاً.
النووي رحمه الله قال: إن هذا الحديث كان قبل الحجاب، لأن المرأة أجنبية عنهم، وكانت تقدم لهم الطعام، وقال بعضهم: محمولٌ على أنها مستورة ستراً تاماً، وليس هناك فتنة بطبيعة الحال، فمحل ذلك أمن الفتنة ومراعاة الستر، ولذلك الأحوط أن المرأة لا تخرج على الرجال مطلقاً، خصوصاً إذا ترجح كلام من قال: إن ذلك كان قبل فرض الحجاب.
وأما ما ورد من دعوة المرأة للرجل للوليمة، فقد أخرج البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم نساءً وصبياناً مقبلين من عرسٍ، فقام ممتناً فقال: (اللهم أنتم من أحب الناس إلي) قال القسطلاني في شرح الحديث: فلو دعت امرأةٌ امرأةً أو رجلاً لوليمة وجب أو استحب للرجل الإجابة لا مع خلوةٍ محرمة، فلا يجيبها إلى طعامٍ مطلقاً -أي: في حالة وجود الخلوة- أما إذا بعثت إليه بطعام أو لم يكن هناك خلوة ولا فتنة، فلا بأس بذلك.
فالمرأة لها أن تدعو المرأة لوليمة الطعام، فما حكم إجابة المرأة المدعوة للوليمة هل هي واجبة أم لا؟
الجواب
تستأذن زوجها فإن أذن لها زوجها فإنها تذهب، بل يتعين عليها الذهاب، وإن لم يأذن فإنه لا يجوز لها الذهاب، أما دعوة المرأة رجلاً للوليمة فلا بأس بها إذا لم تكن فتنة، أي: مثلاً امرأة عندها بنت وزوجت البنت، وأبوها ميت، فصارت هي التي تدعو الناس، وهي امرأة كبيرة في السن وليس هناك فتنة، فوجهت الدعوة للرجال، فيحضرون ويطعمون وينصرفون.
ومليكة جدة أنس -وهي امرأة كبير في السن- دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعته، فأتى فأكل ولم يكن هناك خلوة ولا فتنة، أما في الأحوال التي يكون فيها فسادٌ وفتن فلا تدعو امرأةٌ رجلاً أبداً، ولذلك فرق العلماء بين المرأة الكبيرة العجوز وبين المرأة الشابة، وبين المرأة الصالحة والمرأة السوء، ولا يمكن بأي حال أن تجعل الشريعة ستاراً لأعمال الفحش.(17/11)
شروط وجوب تلبية الدعوة للولائم
نعود فنقول: إن وليمة العرس يتأكد إجابتها، والراجح الوجوب في ذلك، والأحوط أن يجيب الإنسان الدعوات الأخرى إذا لم يكن ثم مانعٌ شرعي أو مصلحة أعظم تفوت.
لكن ما هي شروط وجوب تلبية الدعوة؟ ذكر العلماء شروطاً لوجوب تلبية الدعوة، والأصل أنه يجب عليك أن تلبي، ولكن متى لا يجب عليك؟ ما هي الأشياء التي لو حصلت لا يجب عليك أن تلبي، بل ربما لا يجوز لك أن تلبي الدعوة؟(17/12)
ألا يخص الأغنياء
قالوا: أولاً: ألا يخص الأغنياء، بل يعم الداعي بدعوته جميع عشيرته أو جيرانه، أو أهل حرفته أغنياءهم وفقراءهم، فإن وقع التخصيص فلا تجب الدعوة لقوله صلى الله عليه وسلم: (شر الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء) رواه مسلم، وفي رواية: (يمنعها من يأتيها ويدعي إليها من يأباها) ويخرج من هذا التخصيص ما لو دعا جميع عشيرته أو أقربائه أو أهل حرفته، فكانوا كلهم أغنياء.
فهنا يجب على المدعو الإتيان؛ لأنه ما خصص الأغنياء هنا، بل دعا جيرانه، فاتضح أنهم كلهم أغنياء، فهنا تجب الإجابة، لكن لو وجه الدعوة فقط للأغنياء وانتقاهم، واستثنى الفقراء من أقربائه ومن عشيرته وجيرانه، فهنا قالوا: إذا خصت الدعوة بالأغنياء لا تجب الإجابة.(17/13)
أن يكون المدعو مقصوداً بنفسه
ثانياً: أن يخص بالدعوة بنفسه أو يبعث شخصاً، هنا تجب الإجابة، إذا قال لك بنفسه: تعال، أسألك الحضور، أحب أن تحضر، فهنا يجب الحضور، أو أرسل إليك رسولاً منه ببطاقة دعوة لوليمة الزفاف، مرسولاً منه، فعند ذلك يجب الحضور، أما لو فتح باب الدار وقال: ليدخل من شاء، أو أرسل شخصاً فقال له: ادعُ من شئت، فلا يُوجب هذا على الشخص المدعو أن يجيب، لأن الداعي لم يعينه بنفسه، أو بعينه، أو يرسل له مرسولاً هو بالذات حتى يأتي، وإنما قال للرسول: ادعُ من شئت، أو قال لشخص: أنت ادعُ من جهتك، والآخر: أنت ادعُ من جهتك، فهنا لا يجب على المدعو الإتيان، أي: لو لم يجئ لا يكون آثماً ولا عاصياً.
لكن لو وجهت الدعوة لشخصٍ بعينه، أو أرسل رسولاً له بعينه، أن يأتي أو بطاقة بالبريد أو بأي طريقة ولم يكن عند الآخر عذرٌ، فإنه يجب عليه الإجابة.
أما لو قال: يا أيها الناس تعالوا، أو فتح الباب، فلا يجب على كل مار أمام الباب أن يدخل، والسبب واضح، لأنه إذا دعا شخصاً بعينه والشخص لم يجئ، أدى ذلك إلى وقوع الوحشة والنفرة، لكن لو قال: من شاء أيها الناس أن يأتي بدون أن يُعين شخصاً أو أشخاصاً بأعيانهم، فعند ذلك لو لم يجيئوا فلن تحدث هذه النفرة والوحشة.
وكذلك لو تعنى فأرسل رسولاً أو سائقه أو خادمه إلى شخصٍ بعينه، فلا شك أنه يجد في نفسه عليه، ويكون في خاطره شيءٌ عليه، ولذلك فإن الدعوة للمعين تجب الإجابة فيها ولغير المعين لا تجب الإجابة فيها.
وكذلك إذا كانت صيغة الدعوة ليس فيها إلزامٌ بالحضور، كأن قال: إن شئت فاحضر، لم يلزمه ذلك، بل قال الشافعي: إن قال له: (إن شئت فاحضر) فلا أحب أن يجيب، كأنه يقول: لست بعازمٍ عليك ولا بملح، ولست بمشترطٍ حضورك، إذا صار من عندك الدافع أن تأتي فافعل، أما أنا فليس عندي دافع، إن شئت أن تحضر فاحضر، فلا يجب الحضور إذا كان القائل يقصد معناها.(17/14)
ألا تكون دعوته لخوف منه أو طمع فيه
وكذلك من شروط الحضور ألا يكون إحضاره لخوفٍ منه، فلو خاف من شخص كمن يخشى أنه لو لم يدع رئيسه في العمل لأضر به، فدعا رئيسه في العمل لا محبة فيه ولا رغبة في إتيانه، وإنما خشية من أنه إذا لم يدعه فربما يضر به، أو ظالم من الظلمة، يخشى إذا لم يدعه أنه يظلمه، فهنا لا يجب على هذا المدعو أن يأتي، لأنه إنما دعي اتقاء شره، أو خشية ظلمه، فعند ذلك لا يجب عليه الإتيان.
أو إن دعا شخصاً طمعاً في جاهه، أو ليعينه على الباطل، أو ليتزلف إليه وينافق، فعند ذلك لا يتوجب عليه الحضور، ولذلك يجب على الإنسان إذا دعا أن يقصد بالدعوة السنة وإعلان النكاح وإطعام الطعام؛ يقصد مقاصد صالحة، ولا يقصد التزلف إلى فلان، والمنافقة مع فلان، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، ويقصد بالدعوة تقريب ما بينه وبين إخوانه، والتحبب والتودد إلى إخوانه ونحو ذلك.(17/15)
ألا يكون في المجلس من يتأذى به أو منه
وكذلك مما لا يوجب الحضور أن يكون في المجلس من يتأذى به أو منه، كما إذا دُعي إلى المجلس فسقة، أو أناس عندهم مجون وفحش، أتيت إلى المجلس ووجدت فيه ناساً يقولون كلاماً بذيئاً أو طرائف وأضحوكات، لا يليق بك أن تجلس معهم، أنت صاحب دين وملتزم بالدين، ثم يدعوك مع هؤلاء السفلة عند ذلك لا يجب عليك الحضور، ولو لم تحضر لم تأثم، ولو رجعت فما عليك شيء، فمن دعا معه أراذل أو دعا معه فسقه ومجرمين معروفين بأكل الربا والسحت والسلب، فعند ذلك جلوسك معهم مضرة بك، وفيه إيذاءٌ لك، فلا يليق بك أن تجلس في هذا المجلس، فلا يجب عليك الحضور.
والعلماء في الماضي كانوا يضربون أمثلة ببعض الصوفية الذين همهم أن يأكلوا الطعام، ويقولون للناس: ادعونا لتحصل لكم البركة ونحو ذلك، ويتلبسون بلباس أهل الطاعة، وربما قال: قرأت القرآن لميتك وهو قد قرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات، يقصدون بذلك التزلف والمنافقة.(17/16)
ألا يكون في الوليمة منكر
وكذلك من شروط إجابة الدعوة ألا يكون هناك منكر في الدعوة، فلو كان هناك منكر فلا يجب الحضور، بل لا يجوز، كما إذا كان هناك مائدة يُدار عليها الخمر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر) رواه الترمذي وحسنه.
والمنكرات كثيرة في الولائم؛ مثل الملاهي المحرمة -المعازف- كالطبل والعود والطنبور والربابة والمزمار وغير ذلك من آلات المعازف، ومن الآلات الحديثة الأورج والبيانو وغيرها، فوجودها يسقط الوجوب، فمادام في الوليمة منكر سقط الوجوب، ما عاد للمجلس حرمة ولا وجوب لإجابة الدعوة، كذلك لو وضع في المجلس سجاجيد من الحرير، ومعروف أن افتراش الحرير لا يجوز، والجلوس عليه لا يجوز، أو فيه أشياء مأخوذة من مساجد أو مدارس لا يجوز له أخذها، أو أن يكون هناك مغنٍ أو مطرب أو مغنية أو مطربة، أو أن يكون هناك مطعوم محرم، أو مشروب محرم كالخمر كما تقدم، أو صور ذوات الأرواح على الجدران والسقوف والثياب، كما يفعل ذلك كثيرٌ من اللاهين العابثين.
وهذه الأشياء المنقوشة والمصورة والمطبوعة والمنحوتة، إذا كانت من ذوات الأرواح، فهي تسقط وجوب إجابة الدعوة، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يدخل البيت لما رأى في الستر صورة من صور ذوات الأرواح، كذلك ستر الجدران واستعمال الحرير، فقد ورد أن صحابياً لم يدخل البيت وقد ستروا جداره بديباجٍ أخضر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في الحديث الصحيح: (إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة واللبن) وقال ابن عباس: لا تستر الجدران بالثياب، فبعضهم اعتبر أن ستر الجدران وتغطيتها بالقماش ونحوه مما يسقط الوجوب.
أما لو كان هناك أشياء جائزة كصور لغير ذوات الأرواح، من الأشجار مثلاً ونحوها، فإن ذلك لا يسقط الوجوب، أو لُعب البنات إن كانت في البيت فإنها لا تسقط الوجوب، لأن اتخاذ لُعب البنات من الصُوف أو العِهْن جائز، وقالوا: إذا كانت صور ذوات الأرواح على الفراش الذي يوطأ ويهان ويداس عليه فإنه يجوز، وقال بعض أهل العلم: لا يجوز حتى يقطع ويُغير.
وكذلك لو كان هناك مثلاً في الوليمة ملاعق من ذهب أو فضة، أو آنية ذهب أو فضة عموماً، فإن ذلك من أسباب إسقاط الوجوب، وكذلك لو كان المجلس فيه كذب وفحش مما هو منكر، وعلى رأس ذلك الاستهزاء بالدين، فيجب الخروج حينئذ، ولا يجوز الحضور.(17/17)
عدم تكرار الوليمة في أيام متتابعة
وكذلك من الأشياء التي لا تجعله واجباً الدعوة في اليوم الثاني والثالث، دعاهم في اليوم الأول فالإتيان واجب، أما الدعوة في اليوم الثاني فمكرمة، والثالث اختلفوا فيه، فقال بعضهم: إنه فخر فلا يجوز، وقال بعضهم: إنه جائز، والصحيح الجواز، وحديث: (الوليمة في اليوم الأول حق، وفي الثاني معروف، وفي الثالث رياء وسمعة) ليس له إسناد صحيح متصل.
وقد يُحتاج إليه فقد يدعو في اليوم الأول قسماً من الناس وفي الثاني قسماً آخر، وفي الثالث قسماً ثالثاً، لأن الناس كُثُر والمكان ضيق، قد يدعو في اليوم الأول مثلاً أقاربه، والثاني أصدقاءه، والثالث عامة الناس، إذاً قضية الدعوة أكثر من ثلاثة أيام قد وردت أيضاً، وليس بها بأس إذا لم يكن قصده المفاخرة والمراءاة، فإذا دعاك أول يوم، ثم دعاك ثاني يوم فالدعوة الواجبة في اليوم الأول، والثانية لا تكون واجبة.(17/18)
أن يكون الداعي مسلماً
وكذلك أن يكون الداعي مسلماً، فلو دعاك كافر فلا تجب الإجابة، وإذا كان الكافر ممن يحارب الدين فلا تجوز إجابته أصلاً، أو كان مبتدعاً فلا تجوز إجابته، وخصوصاً إذا كان صاحب بدعة كفرية، وكذلك من الشروط التي ذكروها في وجوب الإجابة أن يكون مال الداعي حلالاً، فلو كان ماله من الحرام كرجل يعمل في بنك الربا، أو يأخذ الرشاوى ونحو ذلك فإنه لا يجاب لطعامه.
ومن ذلك دعوة أمراء الجور والظلم وقضاة الرشوة، فهؤلاء لا تجب إجابة دعوتهم، بل إذا كان كل مكسبهم من الحرام لا يجوز الأكل من طعامهم أصلاً.(17/19)
ألا يكون هناك عذر تسقط معه صلاة الجماعة
وكذلك يجب الإجابة ما لم يكن هناك عذرٌ شخصي، ما هي ضوابط الأعذار؟ قد اختلفوا فيها، لكن ذكر بعضهم ضابطاً، قالوا: يُعذر في عدم إجابة الوليمة بكل عذرٍ تسقط معه صلاة الجماعة.
مثلاً المرض على سبيل المثال، يخشى أن يذهب ماله، أو يتلف من شدة الحر والبرد، والمطر الذي يبل الثوب، أو الاشتغال بتجهيز ميت، أو إطفاء حريق، أو رد جملٍ شارد، أو كان ممن يجب عليه السعي إلى الجمعة، فيسعى إليها، أي: قد يكون هناك دعوة لكن للنساء، وهذا الشخص يجب عليه أن يأتي الجمعة فلا يجيب الوليمة، حتى ولو كان من المحارم مثلاً.
وكذلك إذا كان هناك زحامٌ شديدٌ بحيث لا يستطيع الوصول، أو كان شبعان متخماً، وكذلك مما يسقط الوجوب أن يكون عليه حق متعين كأداء شهادة، أو صلاة جنازة، والعبد لا يجب عليه الحضور إلا بإذن سيده، فإذا لم يأذن السيد لم يجز له أن يأتي، وإذا كان الداعي من الذين يطلبون المباهاة والفخر، فإنه أيضاً لا يجاب، ولو كان الداعي سفيهاً، ولم يأذن له وليه بالتصرف، فكذلك لا يجاب.
وقال بعضهم: إن القاضي لا يجب عليه الإجابة، لأن الشبهة موجودة في دعوته.(17/20)
ألا تسبقها دعوة أخرى
وكذلك من الأسباب والأعذار التي تُسقط الإجابة ألا تكون مسبوقاً بدعوة أخرى قبلها، فإذا كُنت مسبوقاً بدعوة أخرى قبلها بأن دعاك شخص قبل ذلك، فإنك تجيب الأول، إذا دعا اثنان فصاعداً أجاب الأسبق، وإذا دعوه معاً كأن جاءت البطاقتان إلى بيتك في وقتٍ واحد في اليوم نفسه، فتجيب الأقرب رحماً أو الأقرب داراً لحق الجوار مثلاً.
القاعدة إذاً أنك تجيب الأسبق، وقال بعض أهل العلم: إذا دعاه اثنان كل واحدٍ منهما إلى وليمة نفسه، فإن أمكن الجمع بينهما بأن تكون إحداهما عند طلوع الشمس والأخرى بعد ذلك مثلاً أجابهما، وإن لم يمكن الجمع بينهما بأن كانت في وقتٍ واحد أجاب السابق منهما، فإن استويا بالسبق أجاب أقربهما رحماً، فإن استويا في الرحم أجاب أقربهما داراً، والآن مثلاً لو دُعي الإنسان إلى ثلاث أو أربع ولائم لا يمكن أن يجيب، قد يستطيع إجابة وليمتين لكن لا يستطيع إجابة ثلاث: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].(17/21)
من مسقطات الوجوب قبول عذرك من الداعي
كذلك مما يسقط الوجوب أن يعتذر المدعو ويقبل الداعي العذر، فإن اعتذر له فرضي عن تخلفه، فإنه لا يجب عليه أن يأتي، ولذلك لو كان عند الإنسان مصلحة أو كان عنده شيء أهم، أو أحس بشيء من الكسل والخمول والفتور، أو أراد أن ينام فاتصل بمن دعاه فاعتذر إليه، أو أرسل من يعتذر عليه، فإن وجده قد قبل ورضي رد رسوله إليه رضا الداعي عن عدم الحضور، وبذلك ينتهي الحرج عنه.
وكذلك المرأة الأجنبية إذا دعت لا تجب الإجابة، وإذا كانت هناك خلوة أو فتنة فإنه لا يجوز، وليس مما يُسقط الوجوب أن يكون بين الداعي والمدعو عداوة شخصية.
وكذلك لا تسقط الإجابة بالصوم، فلو كان صائماً يجيب ويدعو لهم، ولا يشترط أن يُفطر، وإذا أفطر فصام يوماً مكانه إذا كان صوم نفل، فهذا قد جمع بين أمرين حسنين، فله ما فيهما من الأجر والثواب.
وعلى الإنسان بعد الطعام أن يخرج من بيت الداعي ولا يمكث فيه حتى لا يثقل على صاحب البيت، كما قال الله: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53] قال ابن كثير رحمه الله: فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض.(17/22)
حكم الإتيان إلى وليمة لم يدع إليها
أما إذا أتى الإنسان إلى وليمة لم يدع إليها، فالذي يظهر أن هذا الأمر محرمٌ والله أعلم، من دخل بغير إذن وأكل بغير إذن، فهو كالسارق، ولذلك يحذر العلماء من التطفل والتطفيل، والتطفيل قيل: إنه مأخوذٌ من الطفل، وهو إقبال الليل على النهار بظلمته لأن الطفيلي يدخل على القوم بغير استئذان ولا يدرون من دعاه، وقيل: إنه منسوبٌ إلى طفيل رجل من بني غطفان، كان يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها.
وكان هذا الأمر مذموماً حتى في الجاهلية، وإذا أراد الإنسان أن يأتي إلى وليمة ويدعو غيره، فإنه يستأذن من صاحب الدعوة، يقول: معي فلان يأتي؟ فإن قال: نعم فيأتي به معه، أو يأتي به، فإن أراد الدخول قال: معي فلان، هل يدخل معنا؟ فإن رضي من غير إحراج فإنه يدخل ويطعم معهم، وقد ذكرنا بعض الأحاديث فيما مضى مما يتعلق بهذا الأمر.
ولكن الإنسان يحذر أن يأتي إلى وليمة لم يُدع إليها وأن يكون متطفلاً، وإذا كان لرجلٍ صديق قد تأكدت حرمته به، وثبتت مخالطته له فقد رُخص في إتيان طعامه من غير أن يدعوه إليه، إذا علم أنه يؤثر ذلك، ويشتهيه ولا يكرهه، بل يرغب فيه، قال ذلك الخطيب البغدادي رحمه الله.
إذا كنت تعلم أنه يُسر لو أتيته ولو بغير دعوة، وأن عدم دعوته ليست إلا نسياناً، أو أنه قال: فلان ما يحتاج دعوة لأنه صاحب محل، فهنا يجوز لك أن تأتي من غير دعوة، فهو قد اعتبرك من أصحاب البيت، فيجوز لك أن تأتي بغير دعوة.
وأما التلميح بالإتيان عند الحاجة فلا بأس به إن شاء الله، كأن يكون بالشخص جوع فيلمح لرجلٍ أن يدعوه فلا بأس بذلك.(17/23)
حكم التعريض بالحاجة إلى طعام من غير سؤال
وقد جاء ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رضي الله عنه كان يسأل بعض الصحابة عن مسائل أحياناً لا لأجل العلم، ولكن لأجل أن يكفوه الجوع، قال أبو هريرة: (كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطني، حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وألصق بطني بالحصى، وأستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب بي فيطعمني) وقال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية لأنا أعلم بها منه، لا أسأله إلا ليطعمني شيئاً) لأنه كان يخر من الجوع مغشياً عليه حتى يظن الناس أن به جنوناً - صرعاً- فيجثم الواحد على صدره يقرأ عليه، يريد إخراج الجن وهو ليس به صرع، ما به إلا الجوع رضي الله عنه.
ولذلك حفظ هذه الآلاف من الأحاديث، قال: (فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لا يجيبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء أطعميه، وإذا أطعمني أجابني، وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه) ولذلك كان يسمى بـ أبي المساكين رضي الله عنه.
فالتعريض في مثل هذه الحالة لا بأس به إن شاء الله، لأن ذلك مما يُحتاج إليه عند الحاجة إليه، أما أن يأتي الإنسان بغير دعوة ولا حاجة؛ ويفرض نفسه، فهذا هو المكروه.(17/24)
من أخبار الطفيليين
وقد جاءت الأخبار عن الطفيليين أنهم كانوا يحتالون للدخول.
جاء طفيلي إلى عرسٍ فمُنع من الدخول، وكان يعرف أن أخاً للعروس غائباً، فذهب فأخذ ورقة وطواها وختمها وليس في بطنها شيء، وجعل العنوان من الأخ إلى العروس، وجاء فقال: معي كتابٌ من أخ العروس إليها، فأذن له فدخل ودفع إليهم الكتاب، فقالوا: ما رأينا مثل هذا العنوان ليس عليه اسم أحد، فقال: وأعجب من هذا أنه ليس في بطنه حرفٌ واحد، لأنه كان مستعجلاً؛ فضحكوا منه، وعرفوا أنه قد احتال ليدخل.
وقيل لـ نوح الطفيلي: كيف تصنع إذا لم يتركوك تدخل إلى عرس؟ قال: أنوح على الباب فيتطيرون مني فيدعونني، وكان بعضهم إذا أراد أن يدخل ذهب إلى باب النساء، فإذا أراد أن يدخل نادوه، وقالوا: من هنا من هنا، فقال: أنا أعتبرها دعوة، وليست سرقة.
وأيضاً من الأشياء الظريفة التي ذكرها الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب التطفيل قال: عن نصر بن علي أبي عمرو الجهضمي قال: كان لي جار طفيلي، وكان من أحسن الناس منظراً، وأعذبهم منطقاً، وأطيبهم رائحةً، وأجملهم لباساً، فكان من شأنه أني إذا دُعيت إلى مدعاةٍ تبعني، فيكرمه الناس من أجلي، ويظنون أنه صاحبٌ لي، ينتظرني إذا خرجت لدعوة مشى ورائي، والناس يسمحون له بالدخول بناءً على أنه صاحبٌ لي، فاتفق يوماً أن جعفر بن القاسم الهاشمي أمير البصرة أراد أن يختن بعض أولاده، فقلت في نفسي: كأني برسول الأمير قد جاء، وكأني بهذا الرجل قد تبعني، والله لئن تبعني لأفضحنه، فأنا على ذلك إذ جاء رسوله يدعوني، فما زدت أن لبست ثيابي وخرجت، وإذا أنا بالطفيلي واقفٌ على باب داره قد سبقني بالتأهب، فتقدمت وتبعني، فلما دخلنا دار الأمير جلسنا ساعة، ودُعي بالطعام وحضرت الموائد، وكان كل جماعة على مائدة لكثرة الناس، فقُدمت إلى مائدة والطفيلي معي، فلما مد يده وشرع لتناول الطعام قلت: حدثنا رستم بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار قومٍ بغير إذنهم فأكل طعامهم دخل سارقاً وخرج مغيراً) فلما سمع ذلك قال: أنفت لك والله أبا عمرو من هذا الكلام؛ ألا تستحي أن تتكلم بهذا الكلام على مائدة سيد من أطعم الطعام، وتبخل بطعام غيرك على من سواك.
ثم لا تستحيي أن تحدث عن رستم بن زياد وهو ضعيف عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث تحكم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على خلافه؛ لأن حكم السارق القطع وحكم المغير أن يعزر على ما يراه الإمام، وأين أنت من حديثٍ حدثنا أبو عاصم النبيل عن ابن دريد عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) وهو إسنادٌ صحيحٌ ومتنٌ صحيح.
قال نصر بن علي: فأفحمني فلم يحضرني له جواب، فلما خرجنا من الموضع للانصراف فارقني من جانب الطريق إلى الجانب الآخر بعد أن كان يمشي ورائي، وسمعته يقول:
ومن ظن ممن يلاقي الحروب بألا يصاب فقد ظن عجزا
وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أحكام الوليمة، وما يتيسر من الأحكام والآداب المتعلقة بالوليمة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(17/25)
صاحب القبر المنفرد
إن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتهم العظيمة في الأمة الإسلامية، فهم صحابة رسول الله، وحملة الوحي ونقلة الشريعة، ونحن في هذه المادة نعيش مع ثلة منهم في إحدى مواقفهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قصة البئر في حديث أبي موسى الأشعري، وقد ذيلها الشيخ بذكر بعض المسائل المستفادة من الحديث.(18/1)
وقفات مع حديث البئر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول لله.
أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله.
وبعد: ففي هذه الليلة نعيش لحظات طيبة إن شاء الله مع ثلة هم أعظم الناس في هذه الأمة، قصة من قصص الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.(18/2)
نص الحديث وروايته
يرويها لنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (أنه توضأ في بيته، ثم خرج، فقلت: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا، قال: فجاء المسجد، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خرج ووجهه هنا، فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس، فجلست عند الباب وبابها من جريد، حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس، وتوسط قفها، وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت، فجلست عند الباب، فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لـ أبي بكر: ادخل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً -يريد أخاه- يأت به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فجئت، فقلت: ادخل، وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر.
ثم رجعت فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به -يعني: أخاه- فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فجئته، فقلت له: ادخل، يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك، فدخل، فوجد القف قد ملئ فجلس وجاهه من الشق الآخر).
قال شريك بن عبد الله: قال سعيد بن المسيب؛ راوي الحديث عن أبي موسى: [فأولتها قبورهم] رواه البخاري.
وفي رواية له أيضاً عن أبي موسى قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان!) رواه البخاري أيضاً.
وفي رواية له أيضاً عن أبي موسى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن -وذكر القصة إلى أن بشر عمر - ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة أي: النبي صلى الله عليه وسلم -هذه المرة سكت هنيهة لما جاء عثمان - ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه) وفي رواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبتيه أو ركبته، فلما دخل عثمان غطاهما).
هذه الروايات كلها قد رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
وقد روى هذا الحديث الإمام مسلم عن أبي موسى قال: (خرجت أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد سلك في الأموال فتبعته، فوجدته قد دخل مالاً- أي: بستاناً- فجلس في القف وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر) الحديث، وفي رواية لـ مسلم أيضاً قال ابن المسيب: [فتأولت ذلك قبورهم اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان].
وقد روى الحديث أيضاً الإمام أحمد رحمه الله عن أبي موسى الأشعري، قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، فجاء رجل فسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فائذن له وبشره بالجنة، فذهبت، فإذا هو أبو بكر رضي الله عنه، فقلت: ادخل وأبشر بالجنة، فما زال يحمد الله حتى جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فانطلقت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقلت: ادخل وأبشر بالجنة، فما زال يحمد الله عز وجل حتى جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: اذهب فائذن له وبشره بالجنة على بلوى شديدة، قال: فانطلقت فإذا هو عثمان، فقلت: ادخل وأبشر بالجنة على بلوى شديدة، قال: فجعل يقول: اللهم صبراً حتى جلس).(18/3)
شرح ألفاظ حديث البئر ومعانيها
قوله في الحديث: (إنه- أي: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه- توضأ في بيته ثم خرج) يتوضأ الإنسان في بيته، ثم يخرج، فلعله يصادف وقت صلاة، ولعله يذهب إلى مجلس علم، فوضوؤه قبل خروجه من بيته خير، وقد نوى عند خروجه من البيت أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقالوا: خرج ووجهه هاهنا، يعني: توجه إلى هذه الجهة، وقوله في الرواية: (حتى دخل بئر أريس) هذا بستان معروف بـ المدينة بالقرب من قباء، وفي بئر أريس في هذا البستان سقط خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من إصبع عثمان؛ لأن خاتم النبي صلى الله عليه وسلم كان عند الخلفاء، فلما صار الخاتم إلى عثمان ذهب عثمان إلى هذا البئر مرة فوقع منه الخاتم في البئر، ثم لم يعثر عليه.
قوله في الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى البئر توسط قفها، القف: هو المكان المرتفع الذي يجعل حول البئر، وفي رواية مسلم: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حوائط المدينة، وهو متكئ ينكت بعود معه بين الطين والماء) فجلس على هذا القف ومعه عود ينكت به بين الطين والماء، قال أبو موسى الأشعري: (لأكونن بواباً للنبي صلى الله عليه وسلم) وجاء في رواية:) (ولم يأمرني) وجاء في رواية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بحفظ باب الحائط) وفي رواية قال: (يا أبا موسى أملك عليَّ الباب) فكيف نجمع بين هذه الروايات؟ رواية يقول فيها: (لأكونن بواباً للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرني) وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال له: (يا أبا موسى! أملك عليَّ الباب فلا يدخلن عليَّ أحد) كيف نجمع بين هذه الروايات؟ أنه لما جاء بنية أن يحرس النبي صلى الله عليه وسلم من دون أمر -تطوع من عنده- فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالشيء الذي قد جاء من أجله، هو جاء ليحرس من دون أمر، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أمره، فصادف الأمر النبوي رغبة مسبقة عند أبي موسى الأشعري.
هل يعارض هذا حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب)؟
الجواب
لا يعارض؛ لأن عدم البواب هو الأصل وهذا شيء طارئ، لما مر النبي بقبر ووجد عنده امرأة تبكي، فقال: (اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، فتركها عليه الصلاة والسلام ومشى، فقيل لها: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها مثل الموت- يعني: من الرعب، كيف ردت عليه، وهي لم تنتبه أنه النبي صلى الله عليه وسلم- فجاءت إلى بابه فلم تجد عنده بوابين- وهذا موضع الشاهد- فاعتذرت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) حديث صحيح.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده بوابون، وفي هذا الحديث أنه أمر أبا موسى أن يكون بواباً على هذا البستان في هذه المرة، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بواباً قدر ما يقضي حاجته ويتوضأ، حتى لا يدخل عليه أحد وهو يقضي حاجته، ثم إنه استمر أبو موسى في الحراسة من تلقاء نفسه، فجاء أبو بكر فدفع الباب، ولا نتصور أنه دفع الباب من غير استئذان، لأن الروايات تفسر بعضها بعضاً، فقد جاء في رواية أخرى قوله: (فجاء رجل يستأذن) وفي رواية: (فجاء رجل فحرك الباب يستأذن) فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن له وبشره بالجنة.
لما رأى ذلك أبو موسى، ثم في عمر رأى ذلك أيضاً، كان أبو موسى الأشعري قد ترك أخاً له يتوضأ ليلحق به، ترك في بيته أخاً له يتوضأ ويلحق به، وقد كان ل أبي موسى أخوان: أبو رهم، وأبو بردة، وأشهرهم أبو بردة واسمه عامر، قال: فإذا إنسان يحرك الباب وهذا هو الاستئذان، والله سبحانه وتعالى قد قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] فجاء رجل واستفتح؛ فإذاً حركه مستأذناً لا دافعاً له ليدخل بغير إذن، فإن الصديق والفاروق لا يمكن أن يفعلا ذلك.
ثم جاء عثمان، فقلت: على رسلك، وذهب يستأذن له، فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت هنيهة، يعني: قليلاً، ثم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال عثمان: الله المستعان! وقال أيضاً: اللهم صبراً.
وهذه البلوى التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم هي ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار، وثوران المنافقين عليه، وقد جاء عن ابن عمر في حديث صحيح رواه الإمام أحمد وقال ابن حجر: إسناده صحيح: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال عليه الصلاة والسلام: يقتل فيها هذا يومئذٍ ظلماً) النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن فتنة، ومر رجل، فأشار عليه الصلاة والسلام على الرجل المار، وقال: (يقتل فيها- في تلك الفتنة- هذا- الشخص المار- يومئذٍ ظلماً، قال ابن عمر: فنظرت فإذا هو عثمان).
وهذه الفتنة المشهورة التي ألبها وأوقد نارها عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي تنقل في البلدان يؤلب الناس على عثمان ويحرك الطغام، ويحرك الدهماء والسفهاء، ويحرك المنافقين على عثمان رضي الله عنه، ويقول: حرق المصاحف وأبقى مصحفه، ووظف أقاربه واستعملهم، وفعل وفعل، فاجتمع خلق من هؤلاء المنافقين وساروا إلى المدينة وتسلحوا واقتحموا المدينة وعاثوا فيها فساداً وتسوروا دار عثمان يريدون اقتحامه، وكان الصحابة قد حرسوا دار عثمان، ولكن عثمان رضي الله عنه أصدر الأمر للصحابة بأن لا يحرسوه، ولا يقاتلوا دونه وينصرفوا.
أراد عثمان رضي الله عنه أن يفتدي بدمه، حتى لا يحصل قتال بين الصحابة وبين هؤلاء الثوار، فلما أمرهم وهو الخليفة، وكان لزاماً عليهم أن يطيعوه، اقتحم داره هؤلاء، وكان عثمان رضي الله عنه قد نشر مصحفه يقرأ، فضربوه بالسيف فوقع على يد امرأته نائلة فقطع أصابعها، ثم ضربوه بالسيف وهو يقرأ القرآن.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
فقتل عثمان رضي الله عنه مظلوماً وذهب شهيداً إلى ربه، ولو قال قائل: لماذا لم يتنازل عثمان عن الخلافة ما دام أنهم يريدون خلعه؟ فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى عثمان بوصية وهي: (إن الله مقمصك قميصاً، فإن أرداك المنافقون على خلعه فلا تخلعه) هذه وصية نبوية لـ عثمان رضي الله عنه قبل أن يموت، فـ عثمان رضي الله عنه كان يتصرف ويتحرك بناءً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخلعه) وهكذا حدث وصارت البلوى الشديدة التي أصابت عثمان رضي الله عنه.
قال سعيد بن المسيب راوي الحديث: [فأولتها قبورهم] هذا يدل على أن التأويل يقع في اليقظة أيضاً، وهو الذي يسمى الفراسة، الفراسة: التأويل الذي في اليقظة، ما هو قصد سعيد بن المسيب رضي الله عنه؟ الآن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على دكة البئر على القف، وجلس عمر وأبو بكر عن جانبيه وعثمان رضي الله عنه جلس على الجهة الأخرى؛ لأن المكان قد امتلأ.
سعيد بن المسيب قال: [أولتها قبورهم، أولت جلوسهم في الحديث هذا، مآلهم في القبور الذي صاروا عليه بعد ذلك، فإن القبور الثلاثة للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه متجاورة، أما قبر عثمان، فهو بـ البقيع منفصل، والقبور الثلاثة في حجرة عائشة.
] إذاً: كان جلوسهم على حافة البئر متجاورين وعثمان في الطرف الآخر، قال: فأولتها قبورهم أي: اجتمعوا في الدفن وانفرد عثمان في البقيع، وفي رواية سعيد: [فأولت ذلك انتباه قبره من قبورهم] وفي رواية: [اجتمعت هاهنا وانفرد عثمان].
وقد جاء خبر رواه أبو نعيم عن عائشة في صفة قبور الثلاثة أن أبا بكر عن يمينه وعمر عن يساره، لو كان هذا ثبت كان فيه تمام التشبيه، قبورهم متجاورة، قبر أبي بكر عن اليمين، وقبر عمر عن الشمال، ولكن هذا ليس بثابت، والسند ضعيف، وقد عارضه ما هو أصح منه وهو ما أخرجه أبو داود من طريق القاسم بن محمد، قال: قلت لـ عائشة: يا أماه! اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي الحديث، وفيه: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني قبره، فإذا أبو بكر رأسه بين كتفيه، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم.(18/4)
ما يستفاد من حديث البئر(18/5)
شدة حياء عثمان رضي الله عنه
وفي هذا الحديث قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قاعداً في مكان فيه ماء قد كشف عن ركبته، فلما دخل عثمان غطّاها) وورد حديث آخر مشابه عن عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، وفي الحديث: ثم دخل عثمان، قالت: ثم دخل عثمان فاستويت وغطيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) وفي رواية لـ مسلم: (إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحالة لا يبلغ إلي في حاجته) يعني: يأتي إلي فيراني على هذه الحال فيستحي وينصرف، ولذلك غطيت حتى لا يستحي عثمان وينصرف بدون أن يبلغني حاجته، أي: حتى يتكلم عثمان ويأخذ راحته في الكلام والحديث، ويفضي إلي بما يريد.
وهاتان قصتان، لأن مخرج الحديثين مختلف كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، فلا مانع أن يتفق للنبي صلى الله عليه وسلم في واقعتين أن يدخل عليه عثمان وقد كشف عن ساقيه فيغطيهما، في هذه الحالة وفي هذه الحالة.(18/6)
إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام
وقوله في الحديث: (إنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في يده عود يضرب به بين الماء والطين) كان معه عود يضرب به بين الماء والطين فجاء رجل يستفتح، قال ابن بطال رحمه الله: من عادة العرب إمساك العصا والاعتماد عليها عند الكلام وغيره، وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لها الحجة البالغة، إذاً لو أن إنساناً متحدثاً أو خطيباً أمسك عصا بيده واتكأ عليها أو ضرب بها، فإنه لا حرج عليه مطلقاً في ذلك، ولا يقال: هذا من العبث، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله، فلا يعد هذا من العبث المذموم، إنما ذلك يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، ثم إن هذا استعمال لا يضر، بخلاف من يتفكر وفي يده سكين مثلاً فيستعملها في خشبة غيره.
وفرق بين من يأخذ عصا أو يعتمد على عصا أو يطرق بها، وبين من يكون بيده سكين فيفكر وهو يخرب في خشبة غيره، فهذا من العبث المذموم.(18/7)
بيان فضل هؤلاء الصحابة
وكذلك فإن في هذا الحديث فضيلة لهؤلاء الثلاثة، وأنهم من أهل الجنة، وكذلك فضيلة لـ أبي موسى رضي الله عنه لأنه حرس النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث أيضاً: جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب، لأنك لو أثنيت على رجل في وجهه، وكان لا يؤمن عليه يصيبه العجب، فإذا أصابه العجب هلك واغتر وترك العلم، ورأى نفسه شيئاً عظيماً، الأصل المدح في الوجه منهي عنه، فإذا أمنت الفتنة على الشخص، فإنه لا بأس أن يمدح خصوصاً إذا كان هناك مصلحة، كأن يكون مدحه مدعاة لاقتداء الآخرين به.(18/8)
معجزة النبي صلى الله عليه وسلم بإخباره عن الفتنة
وكذلك في هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي إخباره عن الغيب قبل وقوعه في البلوى التي أصابت عثمان، وهذه هي التي رأيناها وحصلت في الواقع أمامنا وأمام الناس وهي البلوى، رأوا فعلاً البلوى الشديدة التي أصابت عثمان رضي الله عنه، وأيضاً من جهة أن الثلاثة الآخرين يستمرون على الهدى إلى الموت، لا ينحرف منهم أحد ولا يزيغ، وقد استمر الثلاثة على الهدى إلى أن ماتوا رضي الله عنهم.(18/9)
ما يقال عند المصيبة
وفي الحديث أن الإنسان إذا أخبر عن مواجهة شيء شديد يقول: الله المستعان، وهي كلمة تقال عندما يخبر الإنسان أنه يواجه أمراً شديداً، فيقول: الله المستعان، أي: الله الذي أستعين به وأطلب منه العون على مواجهة ما سيصيبني.
وكذلك من الفوائد في هذا الحديث: حياء عثمان رضي الله عنه، فإنه كان من حيائه شدة لا يكشف عورته حتى عند الاغتسال، وكان يغتسل وعليه إزاره رضي الله عنه، ولا يكاد يرى شيء من جلده رضي الله عنه من شدة حيائه.
والحياء خير كله، وهو الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن عالم الغيب أن الملائكة تستحي منه.(18/10)
البشارة بالخير
ثم في هذا الحديث: بشارة الشخص بالخبر السار، فإذا حصل لإنسان خبر سار، فمن السنة أن تبشره بذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أبا موسى أن يبشر هؤلاء الثلاثة.
وفي هذا الحديث أيضاً: محبة الإنسان الخير لأخيه، فإن أبا موسى لما رأى التبشير بالجنة، ماذا تمنى في الحال واللحظة؟ تمنى أن أخاه يأتي الآن ليبشر مع هؤلاء،، ولذلك فإن المسلم يحب لأخيه الشقيق أو لأخيه من أبويه أو من أحدهما الخير، ولا يعلم أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون، فإنه لا زال يدعو ربه، ويقول: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه:29 - 34] واستجاب الله دعاء موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي} [طه:29] وهذا من إرادة الخير للأخ، وموسى دعا ربه حتى أعطي ما سأل وصار هارون نبياً معه، فلا يعلم أحد أعظم منة من موسى على هارون من شقيق على شقيقه؛ لأن بعض الناس الآن ربما يكون بينه وبين أخيه حقد وحسد وبغضاء، وعداوة وتنافس، ومشاجرات ومخاصمات، وكثير الإخوان اليوم تقطعت بهم الأحوال، وتقطعت بهم العلاقات وعاب بعضهم على بعض مع أنهم أشقاء من رحم واحد، وأعرف حالة من هذه الحالات، مجموعة إخوان فرق بينهم الحال، تنافسوا فيه وتخاصموا عليه في مؤسسة مالية، فصار يلعن بعضهم بعضاً ويسب بعضهم بعضاً، ويداعي بعضهم في المحاكم وعند القضاة، وسيرتهم تلوكها ألسنة الناس، وكل واحد يدعو على الآخر بالفقر وبالشلل وبالمرض وباللعن، وواحد ذهب في رمضان هذا إلى مكة عمرة ليدعو على أخيه عند باب الكعبة، ورجع وقال: ودعوت عليه عند باب الكعبة، يذهب مشواراً إلى مكة في رمضان لعبادة جليلة وهي العمرة التي تعدل حجة ليدعو عند باب الكعبة على أخيه وشقيقه من أبيه وأمه، وما سبب ذلك إلا الأموال التي فرقت بينهم، وهذا أبو موسى الأشعري يحترق من الداخل ويغلي، ويقول: وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، وقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به، ويريده أن يأتي، ويتمنى أن يأتي ليدرك أخاه بشارة يسعد بها يوم الدين.
لكن هؤلاء يتقاطعون يتدابرون، ويتهاجرون ويتحاسدون ويتباغضون، مع أنهم إخوة وأشقاء، فنسأل الله العافية، والله يا إخوان إن هذه من كبار المصائب، أن يتفكك البيت الواحد ويتشقق ويصبح أهله وأعضاؤه وأفراده أعداءً.(18/11)
حماية أهل العلم والفضل
وفي هذا الحديث كذلك: حماية أهل العلم والفضل، وحراستهم والمحافظة عليهم، ولذلك فإن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه تقرب إلى الله، خرج من بيته ناوياً لعبادة يتقرب بها إلى الله وهي أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم ويكون معه ويحرسه ويخدمه، وهذا من فضله رضي الله عنه، وأبو موسى الأشعري صاحب الصوت الحسن بالقرآن.
وكذلك في هذا الحديث: كيف كان أبو بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد الموت، كانوا قرناء، يقول الصحابي: كثيراً ما أسمع: جاء أبو بكر وعمر، ذهب أبو بكر وعمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، جاء رسول الله وأبو بكر وعمر، ذهب رسول الله وأبو بكر وعمر، الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يذهبون، أخرجهم الجوع معاً، وكانوا في المعارك معاً، أبو بكر وعمر والنبي صلى الله عليه وسلم الذين أخرجهم الجوع دفنوا معاً متجاورين، قبورهم متجاورة، وكلهم أعمارهم ثلاثة وستون سنة، النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين سنة، وأبو بكر الصديق ثلاثة وستين سنة، وعمر ثلاثة وستين سنة، وقبورهم متجاورة، وهما وزيراه في حياته، وجاوراه بعد مماته، وأفضل الناس بعده، ورفقاؤه في الجنة، فهؤلاء الأفاضل رضي الله عنهم.
وكذلك في هذا الحديث البلوى التي أصابت عثمان رضي الله عنه فرفع الله بها منزلته، فإن عثمان ولي من أولياء الله، فكانت البلوى هذه رفعاً لدرجاته، وكانت شهادة له عند ربه، وهكذا بقي على العهد الذي عهد به إليه صلى الله عليه وسلم وهذه البلوى التي تصيبه، وكانت تلك الشهادة التي ختم له بها رضي الله عنه وأرضاه.
وفي هذا الحديث حمد الله على النعمة، فإنه في الحديث لما بُشِّر أبو بكر الصديق وعمر حمد الله حتى جلس، يحمد الله ليس مرة، بل كرر الحمد حتى جلس بجانب النبي صلى الله عليه وسلم.(18/12)
اجتماع الأخيار
وفيه اجتماع الأخيار معاً، وأن الله إذا بعث نبياً جعل له بطانة خير تأمره بالخير وتعينه على الخير، وهؤلاء بطانة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان الذين لعنهم أهل البدع وسبوهم، ولا زالوا يقولون: تبت يدا أبي بكر وتب، تبت يدا عمر وتب، تبت يدا عثمان وتب، سبعين آية يسبون فيها سبعين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون بعد الصلاة ذكر خاص: دعاء لعن صنمي قريش، يقصدون أبا بكر وعمر، ففي هذا الحديث تذكير لنا بفضل هؤلاء ونجاسة الذين يسبونهم، وبغضنا وكراهيتنا لمن يسب الشيخين وعثمان رضي الله عن الجميع.(18/13)
فراسة سعيد بن المسيب
وفي الحديث أيضاً: فراسة سعيد بن المسيب الذي ربط بين الحديث وبين القبور، وهذا ربما لا يخطر ببال أي شخص، لكن الذي رزقه الله بصيرة يربط بين الأحاديث وبين الواقع، فانظر كيف ربط سعيد بن المسيب بين الحديث وبين الواقع، خطر بباله الحديث وأول هذه القصة بالقبور الموجودة، الحديث هذا يدل على أن السلف يستحضرون الأحاديث، وعندما يتفكرون في الواقع تقفز إلى أذهانهم الأحاديث الموجودة في أذهانهم، الحديث من الأحاديث، والدليل من الأدلة، والنص من النصوص المحفوظة، فيربط بين الواقع والحديث، وهذا الربط بين الواقع والحديث لا يؤتاه إلا من أعطاه الله بصيرة.
هذا سعيد بن المسيب ربط بين الواقع والحديث ربطاً واضحاً، ولذلك ابن حجر رحمه الله ذكر فراسته وتأويله للواقع في اليقظة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بهم في جنات النعيم، وأن يرزقنا شفاعة النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام، والله تعالى أعلم.(18/14)
الأسئلة(18/15)
معنى قوله تعالى: (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)
السؤال
نريد شرحاً لآخر سورة الماعون؟
الجواب
{ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] الماعون هو القِدْر والفأس ونحو ذلك من الآلات التي تستخدم في البيت أو في الطبخ، أو كسر الحطب ونحو ذلك، فذم الله تعالى المرائين الذين يمنعون الماعون، فلا يعيرونه لمن يحتاجونه من جيرانهم ونحوهم من المسلمين، فهم من الأنانية والبخل والشح لا يعيرون أغراضهم للآخرين.
نعم.
إن الإنسان لا يلزم أن يعير أغراضه لمن يعلم أنه لا يعتني بها، أي: قد يكسرها ويحطمها ويعبث بها، لكن إذا كان يعلم أن جاره أمين، أو أن أخاه المسلم أمين، ويحتاج إلى هذا الشيء، فإنه يعيره إياه، لأن الله توعد الذين لا يعيرون المحتاج: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] إذاً إذا علمت أنه صاحب أمانة وعناية، فلا تمنعه ما يريد استعارته.(18/16)
حكم التخلف عن العمل بحجة العبادة
السؤال
أحد الإخوة في العمل يبقى في المصلى يقرأ القرآن بعد الصلاة خارج المكتب، ويقول: لا يوجد لدي عمل أقوم به، ولا يستطيع قراءة القرآن لما يحدث من إزعاج من الزملاء؟
الجواب
إذا كان عمله يتطلب أن يوجد في مكان العمل وفي المكتب، فلا يجوز له أن يخرج خارجه، وإذا كان لا يتطلب ذلك يجوز له أن يقعد في هذا المكان، ولا يبرر قيامه بالعبادة تغيبه عن العمل، فيجب عليه أن يكون حاضراً موجوداً في مكان العمل، فإذا لم يوجد عمل استأذن أن يكون في هذا المكان حتى إذا جاء عمل نادوه وطلبوه، ليعرفوا مكانه.(18/17)
حكم السهر المفضي إلى التخلف عن الفرائض
السؤال
هناك أناس يسهرون بالليل فيما لا ينفع، وإذا أتى وقت السحر ناموا نومة عميقة يتخلفون عن الفجر والظهر والعصر، ويستيقظون قبل الإفطار، فما حكم صيامهم؟
الجواب
هؤلاء على خطر عظيم، هؤلاء يُخشى على دينهم، ولذلك الذي يتعمد النوم عن الصلاة قد جاء فيه حديث البرزخ بأنه يشدخ رأسه بحجارة متوالية متتابعة، يشدخ رأسه ثم يعود كما كان ثم يشدخ وهكذا، هذا عذابه من يوم يموت إلى أن يبعث الله من في القبور، إذا أردت أن تعرف ما هو عذابهم هذا عذابهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بالضبط: (وينام عن الصلاة المكتوبة) فالذي يفعل هذا في رمضان أو في غير رمضان ينام عن الصلاة المكتوبة فهذا عذابه في القبر.(18/18)
العقيقة عن الولد
السؤال
لي ولد عمره سنتان لم أعق عنه، هل يجوز أن أخرج مالاً؟
الجواب
اذبح عقيقته الآن متى ما تيسر عندك المال اذبح عقيقته فلا بأس ولو تأخرت، اذبح العقيقة وتؤجر على ذلك.(18/19)
ترديد الأذان
السؤال
هل يشترط ترديد الأذان في نفس المسجد؟
الجواب
لا.
لو كنت خارج المسجد ردد، ولو سمعته من مسجد آخر ردد، ولو سمعته من أكثر من مسجد ردد مع هذا ومع هذا الذي تستطيعه ردد معه.(18/20)
سماع الأذان من الإذاعة
السؤال
سماع الأذان من الإذاعة؟
الجواب
إن كان الأذان مسجلاً تسجيلاً فلا تردد، أما إذا كان يؤذن حياً (يؤذن حاضراً) فردد معه، أما شخص في المسجل سمعته سلَّم أو عطس وحمد الله لا يلزم الجواب، لكن لو سمعته حاضراً عطس وسلم ترد.(18/21)
حكم جماع الصائم في غير رمضان
السؤال
شخص صام صيام فرض مثل صيام نذر وفي نهار الصوم جامع امرأته؟
الجواب
عليه التوبة إلى الله وقضاء هذا اليوم، لأن صيام الواجب لا يجوز إذا شرع فيه أن ينقضه، إذا شرع في صيام الواجب وجب عليه أن يتمه ولا يجوز له أن يفطر فيه إلا لعذر.(18/22)
حكم مخالفة النذر
السؤال
نذرت الاعتكاف في مسجد هل يجوز أن أعتكف في ما سواه؟
الجواب
إذا كان أفضل منه يجوز مثل لو اعتكفت في المسجد الحرام مثلاً.(18/23)
تناول الأملاح في الدواء في رمضان
السؤال
زميلي يرقد في المستشفى بسبب ألم في رجله، وقد قرر الأطباء أن يذوّب له الدواء في محلول ملح الطعام ويحقن له في الوريد، فهل هذا بفطر؟
الجواب
إذا كان هذا يقوم مقام الغذاء، فإن هذا يعتبر مفطراً وبالتالي فإنه يستعمل العلاج ويقضي، فكلمة أملاح مجملة وهي من مغذيات الجسم، والجسم يتغذى على الأملاح.(18/24)
المقصود بالشجرة الملعونة في القرآن
السؤال
ما المقصود بالشجرة الملعونة في القرآن؟
الجواب
المقصود بها شجرة الزقوم؛ لأن الكفار كذبوا بها، قالوا: شجرة في النار، كيف يكون هذا والنار تحرق الشجر؟ {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] هذه الشجرة هي التي ذكرها الله تعالى في سورة الدخان في قوله تعال: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46].(18/25)
جواز الاعتكاف من المغرب إلى الفجر
السؤال
هل يجوز أن أعتكف كل ليلة من المغرب إلى الفجر؟
الجواب
نعم.(18/26)
حكم الأكل في المسجد
السؤال
هل يجوز أن نأكل شيئاً في المسجد؟
الجواب
نعم.
بدون أن يقذره ويتلف فيه فرشاً مثلاً.(18/27)
حكم قص المرأة لشعرها
السؤال
ما حكم قص المرأة لشعرها بحجة أنه يصعب تسريحه في حال طوله؟
الجواب
إذا قصته على نحو لا يشابه الكافرات ولا يشابه الرجال، كأن تقصه قصة قصيرة جداً مشابهة للرجال، أما على نحو لا يشابه الكافرات ولا يشابه الرجال فيجوز ذلك.(18/28)
جواز تسديد مبلغ الذبيحة لمن كان عليه دم لمؤسسة تقوم بذلك
السؤال
هل يجوز تسديد مبلغ الذبيحة لمؤسسة نيابة على من كان عليه دم؟
الجواب
نعم.
إذا كانوا ثقات يقومون بالمطلوب فلا بأس بتوكيلهم.(18/29)
التوفيق بين قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
السؤال
كيف نوفق بين قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]؟
الجواب
لا يمنع أن يكون على خلق عظيم وإن أخطأ مرة، فمثلاً واحد طيلة عمره على خلق عظيم وأخطأ مرة ولم يكن خطأ بدون مبرر، بل إنه عبس لما كان منشغلاً في دعوة صناديد قريش وكان يرجو إسلامهم، وابن أم مكتوم، يقول: علمني مما عملك الله، وهو منشغل بالكفار فعبس، وكان ابن أم مكتوم أعمى لم يره فهل يقال: إن هذا الخلق العظيم يذهب لأجل مرة واحدة كان لها ظروفها؟ لا يمكن فإنه على خلق عظيم، ولا تنتفي هذه بمرة حصلت لظروفها، والله عز وجل قد غفر له ذنبه ما تقدم وما تأخر.(18/30)
حكم أخذ الوكيل الفائض من الزكاة
السؤال
كلفني أحد الإخوان بتوزيع زكاة على أشخاص معينين بأنصبه محدودة، وبعد التوزيع عليهم بقي مبلغ هل يجوز لي أن آخذه لدين علي؟
الجواب
لا.
أنت وكيل، ولا يجوز أن تأخذ لنفسك، وإذا أردت أن تأخذ فلا بد من استئذان الشخص.(18/31)
حكم قصر الصلاة وجمعها بعد الجمعة
السؤال
عند عودتنا من مكة بعد صلاة الجمعة أدينا صلاة العصر قصراً بعد أداء صلاة الجمعة، ولكن بدون نية الجمع.
الجواب
صليت العصر في وقت الجمعة، ماذا تسميه؟ أعد صلاة العصر أحوط لك لأن جمهور العلماء يقولون: لا يجوز جمع العصر إلى الجمعة، لأن الجمع ورد بين الظهر والعصر، والجمعة ليست ظهراً لا من جهة الوقت؛ لأن وقت الجمعة من الصباح إلى العصر فهي أطول الصلوات وقتاً، من وقت صلاة العيد من ارتفاع الشمس يبدأ صلاة الجمعة إلى العصر.
ثانياً: الظهر سرية والجمعة جهرية.
ثالثاً: الجمعة ركعتان والظهر أربع.
رابعاً: الجمعة لها خطبة والظهر ليس له خطبة، والخلاصة أن الجمهور قال: إن العصر لا تجمع إلى الجمعة، فالأحوط لك أن تعيدها.
وقال الشافعية بجمعهما، ونظراً للاختلاف بين الظهر والجمعة فلا تجمع العصر إليها.(18/32)
إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته
السؤال
رجل كان في سفر، فمر على قريب له في أحد البلدان في الطريق ووصل إليه فجراً، ثم صلى الفجر ونام حتى أذان العصر، ثم قام فصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم لبث حتى أفطر وصلى المغرب جماعة في المسجد، ثم صلى العشاء والتراويح، ثم نام قبل الفجر، ثم قام، وقبل أن يصلي الفجر وجد على ثيابه آثار منيٍ ولا يدري متى حصل ذلك؟
الجواب
القاعدة الأصولية تقول: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، بناء عليه يغتسل إذا لم يعرف متى حصل هذا، لأن الجنابة لم يعرف متى حصلت، والأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، وبناء عليه يغتسل ويعيد الصلوات من آخر نومة نامها.(18/33)
عورة الرجل
السؤال
ما هي عورة الرجل؟
الجواب
عورة الرجل ما بين السرة والركبة كما جاء في الحديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عورة الرجل ما بين السرة والركبة) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كاشفاً عن ركبته أو كاشفاً عن ساقه، فاستحيا من عثمان فلا إشكال في ذلك، كشف عن ساقيه ودلاهما في البئر والساقان ليستا من العورة، والركبة ليست من العورة.(18/34)
حكم الزكاة في البضاعة الجديدة
السؤال
قمت بشراء بضاعة جديدة هذه الأيام وأريد إخراج الزكاة، وسؤالي: هل تدخل قيمة البضاعة الجديدة في حساب الزكاة؟
الجواب
البضاعة المتولدة من المال، والمال المتولد من البضاعة هذه دورات، ولذلك فإن الحول واحد، إذا حال الحول أعرف ماذا عندك من البضاعة، وماذا عندك من السيولة وزك على الجميع.(18/35)
حكم الحدث في الطواف
السؤال
إذا أحدث الشخص بعد أن أتم خمسة أشواط من الطواف، فهل يتوضأ ويبني على ما سبق أم يستأنف؟
الجواب
يستأنف فيعيد الطواف من أوله كمن أحدث في الصلاة في الركعة الثالثة يتوضأ ويعيد الصلاة من أولها.(18/36)
وقوف الإمام بين الآيات
السؤال
ألاحظ وقوفك أحياناً في قراءة الفاتحة بين الآيات؟
الجواب
لا علاقة له بسنة ولا بشيء مشروع في هذا، هذه قضية نفس، فأحياناً يحصل كتم للنفس أو استدعاء للنفس، فيكون هذا التوقف، وإلا فإنه ليس هناك وقوف غير معتاد بين آيات الفاتحة، فإن السنة أن الإنسان يقف على رءوس الآيات وإن تعلقت بالمعنى بما بعدها؛ كما روت أم المؤمنين ووصفت قراءته صلى الله عليه وسلم بأنه كان يقطع قراءته آية آية.(18/37)
استعينوا بالصبر والصلاة
إن الأمة الإسلامية اليوم تمر بأسوأ مراحلها، فقد أصبح الدين غريباً، وحملته مشردين بين مطاردٍ ومسجون ومضطهد، وليس لهم كلمة مسموعة إلا فيما ندر، وقد أحاط به الأعداء من كل جهة وجانب، وبكل طريقة ووسيلة، فالواجب على المسلم أن ينظر ويدقق النظر ويطيل التأمل في طبيعة الزمن، ودراسة ملامحه، وأخذ العبرة والعظة من مواقفه وأحداثه.(19/1)
مرحلة الاستضعاف دروس وعبر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد البشير النذير، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
أيها الإخوة: درسنا هو غربة الإسلام الثانية وشدني إلى هذا الموضوع هو ما نعيشه في مراحلة الاستضعاف، التي نرى فيها الدين قد أصبح غريباً بين كثيرٍ من الناس في العالم، وحملته بين مطارد ومضطهد في كثير من أنحاء العالم، ولكن الله سيتم هذا النور، وسيعلي هذه الكلمة -ولابد- كما وعد عز وجل.
ونحن نريد أن نلقي الضوء على مزيد من ملامح هذه المرحلة مرحلة الاستضعاف، الوقت الذي لا يكون فيه لحملة الإسلام كلمة مسموعة إلا فيما ندر، وفي الوقت الذي يحيط فيه أعداء الإسلام ويتربصون بالمسلمين من كل جهة، لابد على المسلم في هذه المرحلة أن يعرف واجبه، وأن ينظر ويتبصر في طبيعة هذا الزمن وهذا الوقت الذي يعيش فيه، لذلك كان عنوان هذا الدرس (استعينوا بالصبر والصلاة).
إنه توجيه مناسب جداً للمسلمين الذين يعيشون في هذا الوقت، إنها أوامر إلهية تناسب طبيعة الحال تماماً، وهي ما نحتاجه فعلاً في هذا الزمن، (استعينوا بالصبر والصلاة) {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128]، وقصة هذه الكلمة (استعينوا بالله واصبروا) عظيمة، عندما أرسل موسى لبني إسرائيل، نظر الله إلى بلاد مصر في ذلك الزمان، فإذا بها تحت هيمنة فرعون الطاغية، والله سبحانه وتعالى يعلم أن فرعون سيأتي قبل أن يخلق السماوات والأرض.
وبعث الله موسى لإنقاذ هؤلاء المستضعفين من بني إسرائيل، لكي يُعدوا لخلافة الطغاة المتجبرين المتكبرين، وأرسل إليهم موسى عليه السلام، فصدع بالحق، وبيّن الرسالة، ودعا فرعون وقومه إلى الله عز وجل، وجمع بني إسرائيل، وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يقودهم وأن يربيهم، وأن يعدهم لوقت النزال الذي تكون فيه المعركة قد قامت بين فرعون وجنده، وموسى ومن معه من المؤمنين.
قال الله عز وجل: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] سبحان الله! قوم فرعون الملأ الطغاة، يقولون لفرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وهل كان موسى مفسداً في الأرض؟ وهل كان قومه المستضعفون يستطيعون أن يفسدوا في الأرض؟ ولكن هذه طبيعة الملأ، وبطانة السوء، وحاشية الفساد، نفخوا في فرعونهم، فقالوا له ليستفزوه ويستحثوه ويوغروا صدره على موسى: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] قيل: إن فرعون كان يعبد آلهة، ذكر بعض المفسرين كما في تفسير ابن كثير، أنه كان يضع عقداً في عنقه يعبده، وقال بعضهم: إنه كلما رأى بقرة جميلة حسنة دعاهم إلى عبادتها.
ولهذا السبب صنع بعد ذلك السامري العجل؛ ليلهي به بني إسرائيل عن التوحيد ويشغلهم بعبادته عن الله.
وعلى أية حال: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وفي قراءة: {وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ} [الأعراف:127] أي: عبادتك؛ لأنه كان يأمرهم بعبادته، فماذا كان رد فرعون؟ قال: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] هذا التأكيد الثاني؛ لأنه كان قد شرع فعلاً في استحياء نساء بني إسرائيل وقتل أولادهم، ولكنه الآن يشدد ويؤكد على المسألة أنه سيفعل ذلك أيضاً مرة أخرى، وهذا هو التأكيد الثاني كما قال ابن كثير رحمه الله، {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
وفي خضم هذه المحنة، وفي أتون هذه الأزمة والشدة التي يواجهها بنو إسرائيل قال موسى لقومه! كيف تكون المواجهة؟ أناس عزل ضعفاء ليس عندهم شيء، وفرعون عنده كل القوة والسيطرة والهيمنة والبطش والإرهاب قال فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف:127]، فماذا سيفعل العزل؟ ماذا سيفعل هؤلاء المساكين؟ وموسى المؤيد بالوحي من الله يملك الجواب، قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
لا أظن أن الواقع الذي نعيشه يحتاج للتعبير بأكثر من هذه الكلمات مما نحتاج إليه لمواجهة الواقع الجديد: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
أيها الإخوة: إننا لو فكرنا انطلاقاً من الموازين الأرضية والمقاييس الدنيوية، لا يمكن أن نأمل بنصرٍ للمسلمين، ولكن عندما نفكر انطلاقاً من السنن الربانية والموازين الشرعية؛ فإنه لابد أن نثق بأن الله سينصر الدين مهما كان أبناؤه ضعفاء قال الله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
أيها الإخوة: إن موسى وبني إسرائيل كانوا لا يملكون سلاحاً مماثلاً لسلاح فرعون أبداً، ولا جنداً يماثلون جند فرعون مطلقاً، ولما تحقق الأمر واستعانوا بالله وصبروا، وجعلوا بيوتهم قبلة، وصاروا يعبدون الله، كافأهم الله عز وجل بأن أغرق فرعون ومن معه، ونصر موسى ومن معه عليهم، بأن ابتلع البحرُ فرعونَ ومن معه.
وإنا لو صدقنا الله، وعبدناه، واستعنا به، وتوكلنا عليه، فلابد أن يرسل الله من نقمته وعذابه على الكفار ما يهلكهم ويشرد بهم، ويجعلهم عبرة للأمم القادمة.
فماذا قال بنو إسرائيل لموسى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] قالوا: نحن نتعرض للأذى قبل أن تأتينا يا موسى ومن بعد أن جئتنا، لم يتغير شيء، قال موسى يصبرهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129].
وكأن موسى يقول لبني إسرائيل: لو جاءكم يوم انتصرتم فيه وملكتم الأرض، فلابد أن تفوا بما عاهدتم الله عليه؛ لأن الله إذا استخلفكم فإنه سينظر كيف تعملون.
أناس في مرحلة الاستضعاف يقول لهم نبيهم: إذا انتصرتم وملكتم البلاد والعباد لابد أن تكونوا صادقين مع الله في تصرفاتكم؛ لأنكم ستكونون في حالة امتحان وابتلاء لكن من نوع آخر امتحان وابتلاء بالسراء بعد أن كنتم ممتحنين ومبتلين بالضراء.
أيها الإخوة! إننا لابد أن نترسم في هذه المرحلة عدة ملامح مرحلة الاستضعاف التي عاشها بنو إسرائيل مع موسى، وعاشها الضعفاء من قوم نوح مع نبيهم، والمسلمون من قوم شعيب مع نبيهم، ومن سائر الأنبياء الذين كان وراءهم مؤمنون اتبعوهم عاشوا مع أنبيائهم فترات استضعاف، وعاش المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فترة استضعاف ثلاثة عشر عاماً، ولكن الله نصرهم، وأذن لهم بالغلبة على عدوهم.
فما هي ملامح هذه المرحلة؟ وما الذي نحتاج إليه؟ وما الذي يجب أن نفعله؟ وما هو واجبنا تجاه الأزمة الحاضرة؟(19/2)
طبيعة الدِّين الذي نحمله
أيها الإخوة: لابد أن نعلم أولاً أن المطلوب منّا هو التغيير، والهدف هو التغيير، ولنعلم أن طبيعة الدين الذي نحمله طبيعة تغييرية تغير الواقع الجاهلي لكي يكون إسلامياً، والإسلام يرفض أي تسلط وأي استعباد للبشر، وأي حكم بخلاف حكم الشريعة، ويرفض الإسلام أي منكر يكون كبيراً أو صغيراً، ويربي الإسلام أتباعه على الصمود أمام الجاهلية وتغييرها لكي يكون الواقع إسلامياً.
إن الجاهليات المعاصرة قد بنت أنظمة وشيدت أبنية، قالوا عنها: حضارية، وقالوا ما شاءوا أن يقولوا، لكنها في الحقيقة مصادمة لدين الله، ومصادمة حتى لفطرة البشر، ورسالتنا نحن رسالة تغييريه، ليست رسالة ترقيعية، أو تغييراً جزئياً، أو إزالة بعض المنكرات، وإنما طبيعة الرسالة التي يجب أن نحملها طبيعة تغييريه، لابد أن تُقتلع الجاهلية من جذورها وأن يحل محلها نظام إسلامي كامل.
لا يمكن أن يرضى المسلم بأنصاف الحلول، أو بتطبيق جزئي للإسلام، ولا يمكن أن يُضحك على المسلم ببعض التغييرات الجزئية الهامشية الجانبية، وتترك الأمور الأساسية بدون تغيير كما يوافق الشرع.
أيها الإخوة: إن هذه المهمة التغييرية تنبؤنا بأننا لا يمكن أن نسكت لقاء بعض المكاسب التي نحققها في الواقع، وإنما لابد أن نطالب بالمزيد، ونستمر في العمل حتى يحدث التغيير الشامل؛ لأننا في الحقيقة أصحاب دين ومنهج، ولسنا أصحاب مكاسب دنيوية ولا أطماع شخصية.
ولذلك فإن المسلمين الصادقين لا يمكن أن يسكتوا ببعض المناصب مثلاً أو ببعض الوجاهات، وهذه نقطة لا يفهمها ولا يعيها كثير من الذين يعملون للإسلام من خلال بعض البرامج التي يظنون أنهم يستغلون الديمقراطية من أجلها، بل الحقيقة أنهم يسكتون ويرضون بأمور جزئية، يظنون أنها مكاسب كبيرة جداً، والحقيقة أن المسلم لا يمكن أن يهدأ إلا بعد أن يرى الواقع أمامه مستقيماً تماماً على شرع الله.
ونحن نعلم -مع يقيننا بهذه القضية- أن التغيير لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة، وأن المسألة لا يمكن أن تحدث بانقلاب مفاجئ يتغير الواقع فيه تماماً من الصفر إلى المائة، ولم يحدث هذا في تاريخ دعوات الأنبياء.
إننا نعلم أن المسألة لابد أن يحدث فيها تدرج، ودعوة مستقيمة جادة؛ لكي تجتمع الجماهير في النهاية على الإسلام، نحن نعلم أن المهمة صعبة، وأن التغيير قد يكون بطيئاً جداً، لكن هناك فرق بين أن يكون التغيير الشامل هو هدفك الأكبر، أو أن يكون تحصيل بعض المكاسب الجزئية هو هدفك الأكبر.
لابد أن يستقر في ذهن ووعي كل مسلم، أن الإسلام دين تغيير، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن التغيير يبدأ من الفرد وينتشر في المجتمع، وهناك تغيير أفراد وهناك تغيير المجتمع، كما أن هناك انحرافاً لدى الأفراد، فهناك انحراف لدى المجتمع، وانحراف المجتمع مكون -ولاشك- من انحراف الأفراد، مما أدى إلى انحراف النظم، فصارت الأنظمة الجاهلية مستقرة في بلدان المسلمين.
أيها الإخوة: إن التغيير هو (تغيير أفراد زائد تغيير المجتمع) ولابد أن يكون للإسلام قاعدة جماهيرية ذات نفوذ عام، وعند ذلك يمكن أن يحصل التغيير المنشود، وأما من جعل مصلحته الشخصية فوق مصلحة الإسلام، وقبل مصلحة الدين، فلا يمكن أن يصل، ولا يمكن أن يغير.
فإذا جعلنا الإسلام ومصلحة الإسلام هي المقدمة على مصالحنا الشخصية، وجعلنا الإسلام هو شغلنا الشاغل، وهمنا الذي يؤرقنا ليلاً ونهاراً، فإننا يمكن أن نعمل وننتج، وأما إذا جعلنا الإسلام شيئاً جانبياً، ومصلحة الإسلام قضية هامشية، وقدمنا لقمة العيش وأكل الخبز -كما يقولون- على مصلحة الإسلام، فلا يمكن أن نغير، وعند ذلك فإن الله سيأتي بقوم {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].(19/3)
الصدع بالحق وإعلان المبادئ
أيها الإخوة: إن من الملامح الأخرى المعاصرة لما نشاهده اليوم ولما نعيشه، أننا الآن في مرحلة صدع بالحق، ومرحلة إعلان مبادئ، ومرحلة توضيح الأفكار الإسلامية، ومرحلة عرض التصورات الشرعية، وهذا العرض لابد أن يكون بأنواع البيان باللسان والقلم، وبجميع الوسائل، لابد أن توضح تصورات الإسلام.
نحن الآن في معركة أفكار، وفي صراع تصورات مع الجاهلية، صحيح أننا لا نقوى على المواجهة بالسلاح في هذه المرحلة، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، ورحم الله مجتمع الدعاة إذا عرفوا طبيعة المرحلة.
فنحن الآن نقارع الجاهلية، ونقارع مفكريهم، وأساطين الكفر ومتكلميهم، ونقارع كل من لديه شبهات ومبادئ جاهلية، نقارعه باللسان وبالقلم، نحن الآن نعيش في صراع فكري، يجب أن نرد على الشبهات، ويجب أن نواجه، وأن ندحض الأفكار الأخرى، ونعلن الحق، ونصدع بالدين، ونبين تصوراتنا للناس، ينبغي إعلان هذا الإسلام، وتوضيح جميع جوانب الإسلام للناس، ولابد أن يكون الإسلام منهج حياة واضح للناس.
لا يكفي أن نقول للناس: إن الدين هو شعائر تعبدية في المساجد، وهو أذكار تتلى في الصباح والمساء، وبر الوالدين وصلة الرحم، لابد أن نوضح طبيعة هذا الدين، وجميع جزئيات هذا الدين، نحن أمناء على الشريعة، لابد أن نبلغها للناس نبلغها كما أنزلها الله عز وجل، لا نبلغ أجزاء وقطع، نحن نبلغ الدين كاملاً، ولابد أن نشتغل بتبليغ الدين بقوة.
إن أعداء الله يطرحون أفكارهم ليلاً ونهاراً في جميع الوسائل، ولا تخرج مطبوعة ولا فيلم، ولا وسيلة من الوسائل الإعلامية، إلا ويطرح أعداء الله فيها أفكارهم وشبهاتهم، فماذا فعلنا نحن من أجل مواجهة هذه الأمور، ولا يجب أن نقف في موقف المدافع، بل يجب أن نغزوا بالأفكار الإسلامية عقول العالمين، ينبغي أن نغزوا بتصورات الشريعة الإسلامية أفئدة العالمين، هذا دين عالمي دين ليس لقطرٍ ولا لبلد، هذا دين عالمي أرسل الله نبيه للعالمين بشيراً ونذيراً لكل الأرض.
ولذلك لو وجدت إنساناً من أي بلد فأنت مكلف أن تبلغه هذا الدين بالطريقة المناسبة، وبالأولوية الشرعية الصحيحة.
إن هذا الدين دين لكل أهل الأرض، ليس ديناً إقليمياً، ولا يحده وطن ولا بلد معين، دين عالمين ينبغي أن ينشر لجميع أهل الأرض.
أيها الإخوة: من هذا المنطلق نقول: إننا كمستضعفين الآن لا نستطيع إعلان الجهاد على أهل الأرض؛ لأننا لا نملك مقومات المواجهة العسكرية مع الكفار، لكننا نملك إسلاماً بمبادئ وتصورات يجب أن نبلغها للناس، انظر لإبراهيم عليه السلام كان مستضعفاً في قومه لم يكن عنده جيش ولا سلاح لكنه برز على قومه وناقشهم وأفحمهم وأسكتهم، قال تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام:80] نظر إلى الشمس والكواكب والقمر، وجلس يقول: هذا ربي، من باب التنزل مع الخصم في النقاش، أي: كأنه يقول: نفترض أن هذا هو الرب: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76] {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77] {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ} [الأنعام:78 - 79].
يعلم التوحيد أصلاً، ولكنه في نقاش معهم، ومع أبيه {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:43 - 45] نقاش مع أبيه ومع المجتمع ومع الملك، يقول للملك: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83].
إبراهيم ظهر عليهم بالحجة والبيان، وهذا ما ينبغي أن تفعلوه الآن أنتم يا أبناء الإسلام، فإن الإسلام الآن يتعرض لهجمات فكرية شرسة، يتعرض لسهام توجه إليه، عليكم أن تكسروا هذه السهام وتردوها، وتغزوا بأفكاركم الإسلامية أفئدة العالمين.
أيها الإخوة: يجب أن نقتدي بقوة وجرأة ووضوح فكرة إبراهيم في عرض الحق.
ويجب أن يكون عندنا هذه المقدرة لنبين، ولابد أن تكون بجميع الوسائل.
ينبغي أن تكون الدعوة الإسلامية في العالم بوسائل تكافئ الوسائل التي يستعملها أعداء الدين في الهجوم على الإسلام، وبعض الناس لو قلت له: ما هي الوسائل لديك لتبليغ الدعوة؟ ربما لا يزيد عن: الخطب والمواعظ فقط، لكن أعداء الإسلام عندما وجهوا سهامهم لأفئدة المسلمين وعقولهم، لم يوجهوها بالخطب والمواعظ فقط بل إذاعاتهم تبث مواعظ وخطب تبشيرية، وعندهم قساوسة يخطبون بالمسلمين، وينادون بالأب والابن وروح القدس، ولم يقتصر عملهم على هذا فقط، بل استخدموا جميع القنوات والوسائل، وأنواع المطبوعات، والوسائل المرئية، والمسموعة، والمقروءة، يستخدمون جميع أنواع البث، فنحن أبناء الإسلام ينبغي علينا أن نكافئ هذه الوسائل بوسائل أخرى، وقد يقول البعض: إننا لا نملك مثل إمكاناتهم، وهذا صحيح إننا لا نملك أقماراً صناعية، ولا نملك وسائل بث مباشر؛ لكن هل استخدمنا جميع الوسائل المتاحة؟ أيها الإخوة: إن وسائل الدعوة تحتاج إلى تطوير لمكافئة ومواجهة هذه الحملة الشرسة، فهل ابتكرنا واستخرجنا جميع ما في جعبتنا من الوسائل التي نكافئهم بها؟ {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن ليس عندنا إلا الخطب والمواعظ! نعم إن الدعوة الآن تعيش نوعاً من الانتعاش في الوسائل الإعلامية التي ابتكرها بعض الدعاة إلى الله، مثل فعل الكتيب الإسلامي والشريط الإسلامي، وهي وسائل مهمة من الوسائل الإعلامية للدعوة، تنقل بها الأفكار والتصورات، وتوضح بها المواقف، ويرد فيه على أعداء الله وسيلة يتربى عليها أبناء المسلمين، وتكشف فيها المؤامرات على الإسلام؛ لكن المسألة لازالت تحتاج إلى تطوير في هذه الوسيلة وفي غيرها من الوسائل تحتاج لتطوير في الطباعة والنشر والتوزيع، والوصول إلى المنافذ كلها، ويحمل ذلك أبناء الإسلام، لا يجوز لنا أن نعيش بوسائل بدائية في حمل الأفكار الإسلامية، لابد من دراسة وتخطيط، وإعداد للوسائل الفعالة، وإذا نظرت إلى المشاريع التجارية لا بد لها من دراسة لجدواها الاقتصادية، وخطط لكل شيء، من تكلفة المشروع، والعمالة، والمواد المستهلكة، والآلات، والأشياء المجلوبة من الخارج، والضرائب عليها، أليست الدعوة أولى بهذه الدراسات وهذا التخطيط من المشاريع التجارية؟ أيها الإخوة: حقاً إننا لازلنا نعيش في مرحلة بدائية، والواجب علينا أن نرتقي بهذه الدعوة مراحل إلى الأعلى وإلى الأمام، ينبغي أن تستغل جميع الإمكانات المتاحة في نشر الدعوة.
أيها الإخوة: إن إعلام الكفرة منظم ومدروس، ومؤتمرات المبشرين على درجة متناهية من الدقة، فماذا فعلنا نحن أبناء الإسلام من أجل ذلك؟ مرة من المرات جلب لي أحد الإخوان ملف مؤتمر تبشيري عُقِدَ في أمريكا من أجل دراسة أوضاع المبشرين في العالم، والبقع التي يراد غزوها، وماذا حصل حتى الآن؟ مناقشة ومراجعة لما حصل، وتقويم للوضع، وإعدادٌ للمستقبل، ويأتون بالأرقام الدقيقة، وأماكن تجمع المسلمين، وأعداد المسلمين في كل ولاية، وما هي نوعياتهم وأجناسهم؟ وما هي لغاتهم وأعمالهم؟ هل هم طلبة، أم فنيون وعمال، أم مهندسون وأطباء؟ ونحو ذلك إحصائيات دقيقة من أجل وضع الشرائح التي سيوجهون إليها سهامهم.
ويقول لك: دراسة حالة واقعية، قام المبشر فلان الفلاني بعرض النصرانية على الطالب فلان الفلاني، من بلد كذا من بلدان العالم الإسلامي، يدرس الهندسة الفضائية أو هندسة الطيران، وأعطاه نشرة كذا وكذا في النصرانية، وفتح معه موضوع كذا وكذا، وأعطاه في الأسبوع الأول كذا، والأسبوع الثاني والثالث والرابع كذا، وانتهت المسألة بفشل المبشر، والشاب المسلم بقي على إسلامه ما هي أسباب فشل المبشر؟ أولاً ثانياً ثالثاً رابعاً، دراسة دقيقة لأسباب الفشل، يدرسون حالات واقعية من النجاح والفشل، ويجربون مراراً وتكراراً، بوسائل لا نقول: إنها وسائل معقدة جداً وتكنولوجية ولا يمكن أن نستوردها ونأخذ بها! لا، إنما هي أشياء فيها أنواع من التنظيم الدقيق والترتيب المدروس.
ينبغي علينا أبناء الإسلام ألا تكون تصرفاتنا عشوائية، وجهودنا مبعثرة، لابد أن يكون عندنا ارتقاء وتطوير في الأساليب؛ من أجل إنجاح هذه الدعوة.
إنما حصل من نشر الكتاب والكتيب، والشريط والمجلة، والنشرة نجاح طيب، لكنه لا يكفي، فالإسلام دين عظيم يحتاج لوسائل أعظم من هذه.(19/4)
معركتنا مع العلمانية
ملمح آخر من الملامح التي نعيشها في هذه الفترة معركتنا مع العلمانية.
العلمانية: هي مذهب فكري إلحادي يرمي إلى نزع الدين من حياة المسلمين، وعزل الدين عن حياة المسلمين، وجعل الدين في جهة وحياة المسلمين في جهة أخرى، إنهم يريدون منا باختصار أن نقول: ما شأن الدين في الاقتصاد، وفي الأمور الاجتماعية، وفي الأمور السياسية، وفي العادات والتقاليد إلخ.
يريدون أن يقدموا لنا الإسلام في قالب معين، أن الدين في المسجد، وأنه مقصور على شعائر معينة، وقد تكون المسألة في عقد النكاح والطلاق ونحو ذلك، يقدمون لنا الدين في قوالب معينة، يريدون حصر الدين في زوايا، ونشر الإلحاد والتمرد على شريعة الله في بقية الأنحاء والأجزاء من جسد الأمة الإسلامية وواقعها، فنحن الآن معركتنا الأساسية مع هؤلاء، ورحم الله مسلماً عرف عدوه، ومعرفة العدو جزء مهم من القضية، ومعرفة مخططات هؤلاء الناس شيء آخر مهم جداً.
أقول لكم قصة الرجل الذي ذهب إلى جامعة من الجامعات في إحدى بلدان العالم الإسلامي، فوجد فيها تيارات علمانية، وغزو فكري مركز وموجود ومسيطر، قد عشعش في هذا المكان، ثم العجب أنه يرجع من هناك ليقول: إنهم أشخاص سوء، إنهم يدخنون! فلا يصلح أن نكون بالسطحية التي لا نرى فيها منكراً أعظم من التدخين.
لابد أن نضع نصب أعيننا، أن أعظم المنكرات هو تنحية الشريعة عن التطبيق في الواقع، من الألف إلى الياء.
والمهمة الواجبة على المسلم هي معرفة أفعالهم في الماضي والحاضر، ومعرفة خططهم المستقبلية وشخصياتهم حتى الأسماء، وقنواتهم التي يصبون فيها سمومهم والوعي بكتاباتهم، والزوايا التي يسطرون فيها أفكارهم، لابد أن نقرأ قراءة نقدية بخلفية شرعية، فنعرف أن هذا خطأ ومخالف للإسلام، على ضوء الخلفية الشرعية التي يجب أن تكون موجودة لدى الفرد المسلم، وإلا فإننا سنكون سذج، إما أن ننقد شيئاً لا يستاهل النقد، أو أن نغفل عن أشياء مهمة جداً في الصميم يُطعن فيها الإسلام، لا يمكن أن نترك المجتمع نهباً للعلمانيين، ويجب أن يبرز من شباب الإسلام قدوات وقادة في المجتمع، ليقطعوا الطريق على قيادات العلمانيين، فإن الجماهير لابد لها من شخصيات تعجب بها، ولابد لها من قادة ميدانيين في المجتمع.
فإذا تخاذل شباب الإسلام عن البروز بتميزهم العقدي والمظهري والعبادي والأخلاقي، إذا تخلف شباب الإسلام عن الظهور في المجتمع كقدوات مؤثرة، وكقادة لجماهير الأمة، فإن أهل العلمنة هم الذين سيتبوءون الأمكنة ويقودون الناس، كما فعلوا في الماضي.
فنقول: لابد أن تنهضوا أنتم يا شباب الإسلام! ويا كهول الإسلام! ويا صغار المسلمين! كل بحسب قدرته وطاقته أن يبرز في المجتمع المدرس في مدرسته، والمدير في دائرته، والمهندس في إدارته، والشيخ والعالم والواعظ والخطيب، لابد أن يبرز كل واحد بما عنده من الدين.
أنت إذا برزت اجتمع حولك الناس، وأخذوا ما لديك بأسلوبك الحسن، ولكن إذا تقوقعت أتحت المجال لأهل السوء أن يبرزوا، وكلما خفت صوت إسلامي، ارتفع صوت النفاق، وكلما توارى قلم إسلامي عن التسطير، حل محله قلم نفاق يكتب ليسمم أفكار وعقول أفراد الأمة، وهذا شيء معروف بالتجربة والواقع، فأين ألسنتكم وأقلامكم؟ وأين مجهوداتكم في نصرة شريعة الله؟ يجب علينا أن نحاصر العلمانيين، وأنا أقول: إن العلمانيين هم المنافقون؛ لأنهم أناس يظهرون الدين ومصلحة الإسلام، ويخفون الحرب الشعواء على الإسلام وأهله، ولذلك تراهم يستشهدون بأشياء شرعية، ونصوص شرعية في كتاباتهم.
ومنهم من يقول: نحن نحترم جداً ابن جرير الطبري، سبحان الله! أنت العلماني الخبيث! ما لك وابن جرير الطبري؟ وما صلتك بـ ابن جرير الطبري؟ وماذا تعرف عن ابن جرير الطبري؟ وما مدى اقتناعك وإيمانك بآراء وكلام وعلم ابن جرير الطبري؟ الآن جئت لتجتزئ من تفسيره شيئاً معيناً تعلق عليه تعليقاً يروق لمزاجك الفاسد، ويكتبون باسم الضرورة والمصلحة الشرعية، ويكتبون باسم مرونة الشريعة وتطوير الفقه، ويستخدمون كلام الأئمة، ويقولون: الإمام مالك يقول: "من شيوخي من أستسقي بهم الغمام ولا آخذ منه"، ويريدون بهذا الحق باطل، أي: أن الدعاة والمشايخ والعلماء للبركة، وليس للأخذ عنهم.
إنهم بهذا القول يريدون أن يقولوا للناس: هؤلاء الدعاة والمشايخ للبركة، لكن لا تأخذ عنهم شيئاً، لأن الذي يؤخذ من عندنا نحن العصريين، والواعين، والمتقدمين، والمتحضرين والمتفتحين، أما هؤلاء فهم رجعيون ومنغلقون.
فهم يتكلمون بأشياء من الإسلام، فهل وعينا تماماً الأبعاد التي تنطوي عليها كلماتهم؟ وماذا يريدون؟ وكيف الرد عليهم؟ لا يجوز أن نجعلهم يسرقون أضواء الإسلام أبداً ويتلبسون بها، ولا يمكن أن يفعلوا ذلك، فمشاعل نور الإسلام بأيدينا نحن دعاة وأبناء الإسلام وليست بأيديهم هم، إنما يأخذوها ليطفئوها، ويضللوا بها الناس.
وهؤلاء أعداء الدين يصطنعون أبطالاً ليلتف حولهم الناس، وقد يقولون كلاماً جريئاً ليعجب بهم الناس، ويفتعلون انتصارات وهمية، مثل ما فُعِلَ لـ أتاتورك لكي يظهر ويبرز، وكان الجيش التركي في هزائم متوالية وأمام جيش اليونان تراجع بعملية مدروسة وانسحاب تكتيكي للجيش اليوناني أمام الجيش التركي بقيادة أتاتورك؛ ليظهر أتاتورك بطلاً شجاعاً أنقذ الأمة من الكارثة، فرفع على أعناق الناس، ولكنه رفعٌ ليضربهم ويضرب دينهم وإسلامهم، فمنع الأذان باللغة العربية، ومنع حجاب المرأة وطمس هوية المسلم.
ولكن الله عز وجل أهلكه، وكشف باطله، وظهر في تركيا اليوم من العناصر الإسلامية وأهل الدين من يبرهن على أن الدين لا يمكن كبته ولا إطفاء نوره.
يقول لي أحد الإخوان: ذهبت إلى هناك، فمشيت في إحدى البلدان، فقيل لي: لا تصدق دعك من العاصمة والمدن الكبيرة، لكن ادخل في الداخل حجاب كامل، قرية عددها ثلاثون ألف نسمة لا تكاد ترى فيها امرأة سافرة.
ورئيس بلدية مسلم، أول ما وصل إلى ذلك المنصب أصدر قراراً بإغلاق ملاهي الدعارة في البلد، فقامت إحدى الداعرات وتكلمت في عرضه بأنه رجعي ومتخلف، ويريدنا العودة إلى الماضي والعصر الحجري! فقال لها بأسلوب جريء وقوي: أنا على استعداد لفتح هذه الملاهي، إذا كنت أنتِ أول داعرة تكونين رأس مال المحل، فأخزاها الله وسكتت.
أيها الإخوة: هذا الدين دين عظيم، ونحن حتى الآن لا ندرك عظمة هذا الدين، هذا الدين لا يمكن أن يطفئ نوره مهما فعلوا، يضرب الإسلام في مكان، وتمر عليه عشرات السنين وإذا به يظهر مرة أخرى، يقتل علماؤه، ويشرد دعاته ويسجنون ويضطهدون، وإذا بأجيالٍ جديدة لم يحسب لها أعداء الإسلام حساباً تهب مرة أخرى، لتعلن أن الإسلام موجود، وأن الهوية الإسلامية موجودة.(19/5)
الإعداد للمعركة بين الإسلام والكفر
مسألة أخرى من المسائل التي تجب علينا في هذا الواقع مسألة الإعداد للمعركة التي تكون بين الإسلام والكفر، قال الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
(وَأَعِدُّوا): فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب.
(مَا اسْتَطَعْتُمْ): ما نكرة، والنكرة في سياق الأمر تفيد العموم، أعدوا عموم أنواع القوة، {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] من ضمن القوة رباط الخيل، كل شيء تستطيعونه.
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] من الكفار.
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] من المنافقين ومن غير المنافقين، أناس ليس عندك فكرة أنهم من أعداء الله، فإذا رأوا قوة الإسلام هابوه، وأنت لا تعلم عنهم، لكنهم خافوا لما رأوا قوة الإسلام وأهله.
وإن هذه الآية تأمر بالإعداد قبل أن تأمر بالجهاد، هناك آيات أمرت بالإعداد وآيات أمرت بالجهاد، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123]، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29].
وآيات أمرت بالإعداد قبل الجهاد ومنها هذه الآية، وأي عاقل يعرف أن الإعداد قبل الجهاد، والآن أكثر بلدان المسلمين لابد أن تكون في مرحلة الإعداد؛ لأنها لا تملك مقومات إعلان الجهاد، وبعض الناس الذين لا يحسبون حسابات الأمور جيداً، لا يتصورون ولا يعرفون ولا يدركون ما هي مستلزمات المعركة، وهؤلاء يمكن أن يجروا بكل سهولة إلى معركة جانبية تستهلك فيها الطاقات والقوة الإسلامية القليلة، ويحصد فيها المسلمون وتنتهي القضية.
هؤلاء المساكين الذين ما فقهوا الواقع، ولا فقهوا شريعة الله أولاً، ولا فقهوا أن مرحلة الإعداد قبل مرحلة الجهاد.
أيها الإخوة: لابد أن نفرق بين مرحلة الإعداد ومرحلة الجهاد.
فهذا صلاح الدين سلك طريق النصر بشكل صحيح، أعدّ الأمة للمواجهة شحذ عزائمهم، وعظهم وذكّرهم بخطبائه وعلمائه وفقهائه إعداد متكامل إعداد العدة والسلاح، ونقل الأسلحة والعتاد من مكان إلى مكان، وحشد الأشياء، وكان إعداده للجهاد يسير جنباً إلى جنب مع إصلاحاته الداخلية، فكان يحارب العقائد الفاسدة، فمن الذي قمع الباطنية؟ صلاح الدين.
من الذي أنهى دولة الفاطميين في مصر؟ صلاح الدين.
من الذي حارب فرق الحشاشين؟ صلاح الدين.
ولقد حاولوا اغتياله لأنه كان يصلح من الداخل، ويعد الأمة للمواجهة في الخارج، حتى الضرائب المضروبة ظلماً أصلحها، وأصلح أفكار الأمة، وشجع العلماء، وأشاع العدل؛ فانقادت له الأمة وكانت الانتصارات العظيمة.
صلاح الدين لم يجاهد من أول ما ظهر، ومن قبل صلاح الدين إعداد العدة في عهد نور الدين، فلما صلحت الأمة جاهد في سبيل الله.
أيها الإخوة: إن هذه الأمة في كثيرٍ من شعوبها تعيش حياة الدعة والترف، وتعيش حياة الذل والهزيمة.
إن كثيراً من الجماهير تريد أكل الخبز، وأكثر ما يفكر أحدهم به هو تأمين مستقبله ووظيفته، وأكل طعامه وشراء بيت وسيارة، ووفرةٍ مالية للمستقبل، واستثمارات وهكذا.
هؤلاء الذين ينغمسون اليوم في حياة الترف والدعة، لابد أن تأتي عليهم أحداث وتهزهم لتوقظهم، ولعل فيما جرى من الأحداث رحمة بالأمة من جهة إيقاظ هؤلاء النائمين، وتنبيه هؤلاء الغافلين.
إن الإسلام الآن مضطهد آلاف المسلمين يقتلون، بعضهم يقتلون بأيدي بعض! نعم، لكن عندما تحصل هذه النكبات لابد أن تستيقظ الأمة، وعندما يشعر الناس بالخوف يستيقظوا، وعندما يعيش الناس تحت الضغوط تصقل شخصيات كثير منهم؛ ولذلك إذا حدثت حروب ونكبات بالمسلمين، من آثارها الإيجابية: أن تهون الأرواح لتقدم إذا وجهت بشكل صحيح في سبيل الله، وعندما يقتل أناس كثيرون في مجتمع فيه ترف ودعة وانحطاط وبرود، جهودهم للإسلام في ثلاجة، والدعوة في إجازة، عندما تحدث هذه المصائب في مكان سيشعرون أن أرواحهم يمكن أن تبذل بسهولة الآن، فلماذا لا يبذلوها في سبيل الله؟ فإذا توجهوا هذه الوجهة دب تيار الجهاد في الأمة؛ ولذلك فإن أعداء الإسلام يريدون شراً، ولكن لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.
متى تحمست الأمة للجهاد وصحا المسلمون؟ لما تكاملت الحملات الصليبية، هذا معه مليون مقاتل، وهذا ريتشارد، وهذا ملك الألمان، وهذا وهذا، وذبح المسلمون في القدس، وخاضت خيول الصليبيين في دماء المسلمين إلى الركب عندها استيقظت الأمة، وانتفضت وقامت.
ولذلك فهذه المصائب المتوالية لها فوائد كبيرة وعظيمة عندما تحدى العلمانيون بشيء من الأمور مشاعر المسلمين، استيقظ كثير من الهائمين والغافلين وتوجهوا، وتنور الناس، واستعدوا حتى ندم هؤلاء على فعلتهم، وقالوا: ياليتنا ما فعلناها وأخرناها، لقد كان توقيتنا سيئاً جداً لماذا؟ لأن ردة الفعل كانت أقوى من المتخيل والمتصور، ولأنه تحرك للإسلام أقوام، وهتف له وخطب له كثيرون، وصارت المسألة في المطالبة بتغيير المنكرات كثيرة وكبيرة، فانتعش الإسلام.
ولذلك فإن الناس الذين ألفوا حياة الترف والدعة، لابد لهم من هزات توقظهم، فإذا شبعت نفوسهم بطلب الموت لإعلاء كلمة الله، قاموا يجاهدون في سبيل الله، ويقدمون أعناقهم لأجل الدين، ويقتلون أفواجاً أفواجاً، ليعز هذا الدين وترتفع رايته.(19/6)
المحافظة على العلم الشرعي
من واجبنا في هذه المرحلة أن نتعلم العلم الشرعي، فالعلم شرط من شروط الإسلام، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فكان العلم بلا إله إلا الله المطلب الأصلي للدخول في الدين، والاستقامة على الشريعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) وكثير من الناس الذين يطالبون بالجهاد قبل العلم أناس مخطئون، فلابد من الإعداد بخطوط متوازية إعداد للجهاد، ومن الإعداد للجهاد التعلم، وتعلم أحكام الجهاد، شروط الحرب والمحاربين، وأحكام الأسرى، والجزية، والمغانم، والعهود والمواثيق، وما افتتح عنوة، والاستعانة بالكفار، ومتى يكون الجهاد فرض عين، ومتى يكون فرض كفاية؟ إلى آخر المسائل الكثيرة جداً الموجودة في باب الجهاد، وأحكامه، فلابد أن تتعلم هذا، ولا يشترط أن يكون كل جندي في الجيش الإسلامي فقيهاً بكل الجزئيات، لكن لا يجوز أن يكون جموع الجيش وعمومه جهلة بأحكام الجهاد.
والعلم الشرعي ضوابط تضبط تصرفات المسلم وسلوكياته، وكلما فكر في شيء يحاول أن يفعله ينظر هل هو في الكتاب والسنة؟ هل هو مخالف للكتاب والسنة أم ماذا؟ وفي الحقيقة فإن هذا العلم يجنبنا مهاوٍ وقع فيها كثير من المتحمسين، ودخلوا في مغامرات ومهاترات قتل فيها عدد من الأبرياء من المسلمين ممن لا ذنب لهم، أحياناً بحجة أنهم يبعثون على نياتهم، وأحياناً أنهم من جنود فرعون وهامان وقارون، فهم مرتدون عن الإسلام.
إن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال من هذه المغامرات والمهاترات والانجراف في مهاو استعراض القوة، في وقت ليس من المناسب استعراض القوة فيه أبداً، والدخول في مواجهات وتفجيرات للموقف، لا يمكن أن يتحملها موقف المسلمين أصلاً، هؤلاء الناس لم يفطنوا دين الله، وكثير من هؤلاء يقودهم الجهل والتعصب الأعمى، ورفض سماع الحق.
أيها الإخوة: للعلم الشرعي ضوابط وقواعد مستندة للأدلة الشرعية من نصوص الكتاب والسنة، مشروحة بكلام العلماء، فكم أخذنا من العلم الشرعي، وكم قرأنا منه، وكم تفقهنا فيه؟ يجب ألا تضيع الأصول الفكرية للمنهج الإسلامي المستمد من الكتاب والسنة في وقت الأزمة، ففي أوقات الأزمات يتصرف الناس بعفوية، وغالبهم يسيرون بلا دليل وبلا بصيرة، إلا الذي عنده علم بالكتاب، قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، وقال تعالى: {قَال الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص:80] ويقول: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6]، ويقول: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهذا القرآن العظيم آياته محفوظة في صدور الذين أوتوا العلم.(19/7)
تحديد الهدف
أيها الإخوة: لابد أن نحدد الهدف الذي نسعى إليه، ما هو هدفنا؟ حتى لو قلنا: الجهاد الجهاد ما هو هدفنا في الجهاد؟ قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] هذا هو الهدف الحقيقي، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة:111]، ويقول الله جل في علاه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] الموت في سبيل الله أو إعلاء كلمة الله والظهور على الكفار.
ليس هدف المسلم طرد غازٍ ولا مستعمر، وإنما المسألة نشر الدين وقتال كل من يقف في وجه الدين.
أيها الإخوة: إن المتأمل لسيرة صلاح الدين يجد أنه لم يكن همه تطهير بقعة معينة، بل صلاح الدين يقول لمستشاره وصديقه القاضي الفاضل في أواخر عمره، يقول: حتى إذا يسر الله فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت وراء هذا البحر إلى جزائرهم -إلى الأماكن التي أتى منها النصارى من أوروبا - أتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
إذاً: الهمة والهدف ليس مكاناً محدداً ولا بقعة معينة، والمسألة هي القتال لنشر الدين في الأرض كلها، وإعداد الأمة قبل ذلك، والمسلمون ليسوا مرتزقة، يأخذون أعطيات لقتالٍ لهدفٍ دنيوي معين، فالمسلمون نيتهم في الجهاد إعلاء كلمة الله، ولا شيء آخر أبداً؛ لأن (أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة منهم: رجل قتل في المعركة، يؤتى به يوم القيامة، فيقول الله له: فيم قتلت؟ فيقول: في سبيلك، قاتلت وقتلت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: فلان جريء وقد قيل، اسحبوه إلى النار، فيسحب إلى النار) هذا الذي قاتل بخلاف الذي تولى وتقاعس أصلاً.(19/8)
تصحيح النية والتوكل على الله
أيها الإخوة: إن تصحيح النية ووضوح الهدف لابد منه، وكذلك فإننا لابد أن نعتقد أن النصر من عند الله، قال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] من ينصركم من بعده؟ لا الشرق ولا الغرب ينصرونكم إن توليتم عن منهج الله {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] لا يمكن أن يأتي النصر من عند غير الله، فإذا نصرتم الله نصركم الله.
أيها الإخوة: لابد من التوكل على الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، ويقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في كتاب فتح المجيد مبيناً أنواع التوكل المحرمة، وذكر منها: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالتوكل على الأموات أو الطواغيت في جلب النفع أو النصر أو الحفظ أو الرزق، فقال: هذا شرك أكبر.
ثانياً: التوكل على الأسباب الظاهرة: كمن يتوكل على أمير أو سلطان في دينا أو في شيء أقدره الله عليه؛ من مال أو دفع أذى ونحو ذلك، فهذا شرك أصغر، فإذا اعتمدت على الطواغيت في الحفظ أو النصر فهو شرك أكبر، وإذا اعتمدت على شخص يملك الشيء، واعتمدت على أسبابه هو فهذا شرك أصغر، فإن اعتقدت أنه هو الذي ينصر من دون الله، ويرزق من دون الله، صرت مشركاً شركاً أكبر.(19/9)
العمل على وحدة المسلمين
هذا ملمح آخر من الملامح والأهداف التي نسعى إليها، ويجب أن نسعى إليها، وهو وحدة المسلمين، فلا يمكن أن ينتصر المسلمون وهم فرق وأحزاب، قال الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
يروى أن رجلاً أوصى أولاده مودعاً الدنيا، أخذ حزمة من العصي، ثم أمرهم أن يكسروها وهي مجتمعة فلم تتكسر واستعصت، ثم فرقها عليهم، فكسروها آحاداً بكل سهولة، فقال لهم مودعاً وموصياً:
كونوا جميعاً يا بني إذا اعترى خطب ولا تتفرقوا آحاداً
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
من السهولة أن تؤكل الأمة عندما تكون شيعاً وأحزاباً، فيضرب بعضها ببعض، ولكن لا يمكن أن تصبح الأمة لقمة سائغة إذا اتحدت في جسد إسلامي واحد إن السبيل الأول لوحدة المسلمين هو التزام المنهج الصحيح منهج أهل السنة والجماعة.
والثاني: نبذ التحزب والتعصب، الضيق الذي يفرق المسلمين، فلابد من سلامة المنهج ووحدة القيادة، فإذا سلم المنهج، وتوحدت القيادة؛ انتصرت الأمة، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].(19/10)
اليقظة والانتباه لما يدبره أعداء الدين
أيها الإخوة: لابد أن نكون في هذه المرحلة في غاية اليقظة والانتباه لما يدبره أعداء الدين، ولأي معركة جانبية نجر إليها ولسنا على مستوى المواجهة الآن، ولأي شيء يريدون إشغال المسلمين به عن القضايا الأساسية، والكليات الشرعية التي يجب أن يسعى إلى تطبيقها، وإلى تمرير الأشياء المخالفة للشريعة بلباس شرعي، وإلى كل من يحاول أن يتسلل إلى الجسد الإسلامي ليبذر فيه بذور الفرقة، ومن يحاول أن يفصم عرى الأخوة الإسلامية، والتسلل بيوتنا وأهلينا وأولادنا، ولعدم الوقوع في أي شيء محرم.
ولقد كان الجيش الإسلامي في الماضي في عهد السلف، إذا استعصى عليهم فتح أتى بهم الخليفة، فسألهم: أولاً: ما هي السنن التي تركتموها؟ ثانياً: ما هي المعاصي التي وقع الجند فيها؟ لأن هذه الأشياء هي التي تسبب الهزيمة، ولابد أن نتحلى بأكبر قدر من ضبط النفس، وهذا مصطلح صحيح يستعمله بعض الساسة، لكننا نستعمله لنبين حقيقة إسلامية مهمة، فالمسلمون لا يجوز لهم أن يُستجروا إلى ما يخططه لهم أعداء الإسلام، من أمور جانبية تستهلك قواهم، وتستنفذ طاقاتهم، وتضعفهم أبداً.
المسلم يضبط نفسه، وكلما أراد أعداء الإسلام أن يستفزوا المسلمين -وأقولها لكم وبكل ثقة وتأكد سيحاولون استفزاز المسلمين- يجب على المسلم أن يضبط نفسه عن أي تهور أو تصرف مستعجل يوافق خطة أعداء الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة تعرض لاستفزازات كثيرة جداً، آذوه وسبوه وشتموه، ألقوا سلا البعير على ظهره، عذبوا أصحابه أمامه وقُتل بعضهم وهو يسمع أخبارهم، قتلوا في مكة يشاهد الصحابة يعذبون ويقتلون وهو يضبط نفسه ويضبط من معه، حتى تحين اللحظة المناسبة، لم يُستجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معركة وهو في مبدأ أمره ولا زالت الخلية طرية، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة ويطوف بها، وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، مع أنه من أقوى الأمة نفساً على الشرك، وأكره العباد للشرك، يصلي عند الكعبة ويطوف بها وحولها ثلاثمائة وستون صنماً، هو يصلي لله لا للأصنام، ويطوف لله لا بالأصنام، وضبط نفسه ولم يفعل شيئاً يجر الأذى عليه وعلى المسلمين باستئصال شأفتهم وحصدهم أبداً، فضبط نفسه وأصحابه عليه الصلاة والسلام، فلم يخرجوا على الكفار بالسلاح في مكة مطلقاً، ولم يستعملوا السلاح في مرحلة الاستضعاف أبداً، ولو قال قائل: من العسير جداً على نفسي أن أبقى بارداً حيال كل المنكرات الموجودة أمامي؟ أقول لك: نعم، ينبغي أن يثور دمك، وأن تغلي غلياناً من المنكرات التي تشاهدها أمامك، لكن ماذا تفعل؟ ستأتي منكرات كما ورد في بعض الآثار: تأتيكم منكرات لا تستطيع التغيير ماذا تفعل؟ هل ترمي بنفسك وبحفنة ممن معك لتهلك، لا يمكن وليست مصلحة شرعية، سترى منكرات كثيرة لا تستطيع تغييرها، وترى في الواقع بملء عينيك أموراً لا يرضاها الله ورسوله، ولكن اضبط نفسك، أنكر بحيث لا يترتب على الإنكار منكرٌ أعظم.
وأقول وأعيد وأكرر في أكثر من مناسبة: الآن المعركة بالكلام مع أعداء الإسلام، والجهر والصدع بالحق والجرأة فيه مطلوبة، الآن الشغل باللسان والقلم الآن الدعوة بالتبيين والتوضيح، هذا هو الأوان الآن، أما التغيير بالقوة في مكان وزمان لا يستطيع المسلمون في ذلك فهو تهور وعدم حكمة، لا يصلح أبداً أن يقع ذلك من المسلمين.
وبالنتيجة فإن الناس الذين يرون المنكرات تستشري أمامهم، سيكونون أحد قسمين، والثالث الوسط بينهما، فقسم متهور قد يفعل من التصرفات ما لا يحمد عقباه، وقد سبق أن شرحت ذلك في محاضرة (فقه المحنة) وقسم ثان سيصاب بالإحباط واليأس ويقعد في بيته، ويقول: لا أمل للإسلام ولا يمكن أن تقوم للدعوة قائمة، فالناس سيكونون إما يائس أو متهور، إلا من فتح الله عليه -وأنتم منهم إن شاء الله- بعلم وبصيرة من الكتاب والسنة، وفهم للواقع وفقه فيه، واسترشادٍ بكلام أهل العلم بالشريعة وبالواقع، لا يكفي العلم بالشريعة فقط ولا العلم بالواقع فقط، واسترشاد واستشارة واستبيان وطلب البيان من أهل العلم بالشرع والواقع، وعند ذلك ستكونون إن شاء الله مقدمة الطلائع الإسلامية التي تقيم للإسلام عزه وعماده بإذن الله.
وإن قال قائل: قد أجد رجلاً يقبل امرأة في السوق ما زلت لم تشف غليلي بالكلام، وتقول: اضبط نفسك! أقول: أنكر وتكلم ولكن بلسانك، أما أن تبطش بيدك لا يمكنك أن تفعل ذلك الآن، وقد تجد رجلاً يحتضن امرأة على الحشائش في قارعة الطريق، ماذا تفعل؟ تقول: عجزت وبكيت وهربت، أو تقول: تهورت فرجمتهما بالحجارة، لكن أنكر وتكلم واصدع بالإنكار باللسان، وبين وعزر لكن بأي شيء؟ بما جاء في الشريعة من أنواع التعزيرات باللسان، قل: يا فاجر! يا فاجرة! يا سافل! يا سافلة! تفعل هذا عليك غضب الله تزجر لكن باللسان، أما أن تستخدم اليد، فإنه لابد من الضوابط الشرعية وإلا ستضيع أموراً كثيرة.(19/11)
الصبر على الابتلاء
ختاماً: لابد أيها الإخوة من الاستعداد لمواجهة الابتلاء، وهذا ملمح مهم من الملامح التي لا بد أن نبينها، والله يبتلي عباده، والله يبتلي بالسراء ويبتلي بالضراء، يبتلي بالضراء في أشياء كثيرة، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186]، ويقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155].
فالابتلاء سنة الله في عباده المؤمنين، ولابد من الابتلاء للتمحيص، ليمحص الله عز وجل عباده، يبلوهم بالشر وبالخير يبلوهم بالضراء والسراء، لا يمكن أن يعيش العبد بغير ابتلاء أبداً.
ونقول: بالسراء وبالضراء، حتى أن بعض الناس عندما يقولون: نحن ما ابتلينا بالضراء، هل يعني أنه ليس فينا خير؟ نقول: لا، هناك من أبناء الصحابة والتابعين لم يبتلوا بالضراء، فلعلهم عاشوا في عصور زاهية، عصور عز للإسلام، لكنهم ابتلوا بالسراء، ثم إن الإنسان لا يعدم أن يبتلى بشيء من الأشياء بفقد ولد أو والد، أو عزيز، أو مال ونحو ذلك، فلابد أن يحصل له ابتلاء من الابتلاءات.
وقد يدفع الله عن الناس الابتلاء بأذكار الصباح والمساء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن اغتال من تحتي) قال وكيع: أي: الخسف.
إذاً: أدعية قد يقي الله بها عباده شرور كثيرة، وآفات عظيمة، واظبوا عليها.
أيها الإخوة: لو وقع الابتلاء فماذا يكون الموقف؟ هذا موضوع طويل كنت أتمنى أن تتاح الفرصة لكي أتكلم عنه بشكل مستقل، ولكن لحاجة في نفسي كنت أقول: إنه يدرج في الموضوع إدراجاً، وإن كنت أرى أنه لابد أن يفرد بشيء، أو تحت عنوان، مثل: (التصرف الصحيح عند الابتلاء) ولعله يحصل، لكنني أقول مجملاً ومختصراً: لابد أن نصبر، ولابد من التربية قبل الابتلاء، ولابد من الصبر معه، ولابد من الإخلاص بعده، فلا نحدث الناس على سبيل التفاخر بالأشياء التي حصلت لنا، وأوذينا وحصل لنا، لا.
فإذا نزل الابتلاء لابد أن تكون هناك تربية قوية، وإلا لا يمكن أن يصبر الإنسان.
ثانياً: لابد من الصبر وعدم الجزع والفزع، فإن بعض الناس إذا ابتلوا فقدوا صوابهم، وطارت عقولهم، وقالوا: من أين أوتينا؟! لابد من الرضا بقضاء الله عز وجل، لو وقع عليك شيء هذا قضاء الله وقدره، وأنت تقدم للإسلام تحتسب هذا عند الله، ولا مانع أن تدفعه ما أمكنك، ولا نقول للمسلم: إذا وقع عليك ابتلاء استسلم تماماً، حاول أن تدفعه عن نفسك بما تستطيع، ولا تخبر به رياء، ولا تشتكي إلى الخلق.
في أحد المجالس كنا عند الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فجاء رجل من بلد من البلدان الإسلامية، قال: يا شيخ! أنا محتاج إلى مساعدة، قال الشيخ: هات أناساً يزكوك، قال: ليس عندي، أنا طلبت العلم، وأنا دخلت السجن وعذبوني، قال له الشيخ: أنت طالب العلم، إذاً أنت تعلم من بديهيات الأشياء أن الشخص لابد له من أناسٍ يزكوه، قال: يا شيخ! أنا عذبت، قال له الشيخ: لقد ابتلي من هو أفضل منك بأكثر من هذا فصبر.
إذاً اسكت من الشكوى إلى الخلق، إذا أوذيت فاحمد لله، فتؤجر إذا أصلحت النية، ونقول: (لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا) والإنسان لا يقول: أين الابتلاء؟ أنا مستعد لمجابهته أنا إيماني قوي وحديد ونار، لا، أنا حديد ونار على من يعتدى لكن تعال أنت الآن واعمل بهذه القاعدة الإسلامية: (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاثبتوا).
فهذه وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لنا، الصبر على الابتلاء، وعدم إيذاء المسلمين، وعدم التسبب في أي شيء يؤذي المسلمين.
ألم تر قول الراهب للغلام: فإن ابتليت فلا تدل علي، لأن الإنسان قد يبتلى ويحصل له أي شيء، لكن لا يتسبب في أذى لأي شخص آخر من المسلمين، ويقي بنفسه إخوانه.
أقول: إن الأمر لعله يكون شيئاً مما كان مع موسى وفرعون، وأختم لكم بهذه الآيات: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:4 - 6] كانوا يخشون أن يظهر غلام من بني إسرائيل يكون على يديه تقويض عرش مملكة فرعون، ولكن إذا قضى الله أمراً فلابد أن يكون.
أيها الإخوة: هذا استضعاف بني إسرائيل، وهذا التمكين حصل لهم بعده، والدعوات من بعدهم، فما يدرينا أن الله سبحانه وتعالى يبتلينا الآن، ويتسلط علينا الأعداء من كل جانب، لكن تكون النتيجة في النهاية نصراً للإسلام والمسلمين، وما ذلك على الله بعزيز، والله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فلا تستبعد يا عبد الله نصراً قريباً للإسلام، ولكن علينا العمل، والمتابعة، وبذل الجهد، والإخلاص، والتربية، والتعلم، والإعداد للجهاد، إن هذه المسئوليات علينا لابد أن نقوم بها لله عز وجل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والحمد لله أولاً وآخرا.(19/12)
الأسئلة
.(19/13)
حكم الاستهزاء بالدين
السؤال
في بعض الرسوم الكاريكاتيرية استهزاء واضح بالمتمسكين بالدين، فما هو الرد؟
الجواب
هناك أشياء مهمة، هذه الصور كثير منها استهزاء بعباد الله المسلمين، لكن في نفس الوقت يجب أن توضع الأمور في مقياسها الصحيح، فلا نحمل الأشياء أكثر مما تتحمل؛ لأن بعض المتحمسين عندما يمتلئ صدره بالعداوة -ولابد أن يمتلئ الصدر بالعداوة- قد يتصور في كل شيء هجوماً على الإسلام والمسلمين، وهو ليس كذلك، فقد يكون الأمر منكراً صغيراً، وقد يكون شيئاً طبيعياً، لكنه يتخيل ويحمّل الأشياء مالا تتحمل، لذلك عندما ننكر لابد أن ننكر الشيء الواضح الجلي الذي ليس به خفاء، والأشياء المظنونة نحذر منها ولا نكون مغفلين.(19/14)
الصبر على الابتلاء
السؤال
أرجو أن توصي الإخوة الكويتيين بالصبر؟
الجواب
نعم ولا شك وغير الكويتيين من المسلمين أجمعين، أي مسلم لحق به أذى واضطهاد فلابد أن يصبر، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجا، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5] والله عز وجل من سنته في الكون أن يعقب الشدة فرج، ويأتي فرج ربك من حيث لا يحتسب الناس، ونقول: إن الله سبحانه وتعالى ينصر المظلوم على الظالم، والمظلوم إذا دعا الله فإن الله لا يرد دعوته، ويقول: (لأنصرنك ولو بعد حين).(19/15)
حكم عروض الأزياء
السؤال
ما حكم عروض الأزياء التي تقدم والسهرات التي تؤدي إلى إفساد العديد من الشباب؟
الجواب
لقد نبهنا في بعض المناسبات على أن هذه الحملات على أهل الإسلام لإدخال الشهوات قد استعرت الآن أكثر من أي وقت مضى، والآن سيكون هناك عشرات ومئات وألوف العروض التي تقدم عن الفواحش، وإظهار العورات؛ لإفساد شباب الأمة وإفساد الأمة عموماً، ولذلك سيجد بعض الناس أنفسهم مضطرين في النهاية -العقلاء بالطبع- إلى إخراج الوسائل التي تعرض الإفساد من بيوتهم.
كان أول يقول: أنا أتحكم وأتحكم، لكن في النهاية صارت المسألة عندك في الصباح وفي الليل وفي الظهر، وكان من قبل أشياء وتقطع منها بعض المقاطع، لكن الآن تعددت القبلات والاحتضانات وصارت الآن مسائل أخرى، ولذلك فإن هؤلاء العقلاء -ونرجو الله أن يجعلنا جميعاً من العقلاء الذين يتبصرون بالدين- سيجدون أنه لابد من حسم الشر وبتره من أساسه.(19/16)
كتب عن الجهاد
السؤال
تكلمت عن الجهاد فارجو ذكر بعض الكتب التي تفيدنا في ذلك؟
الجواب
هناك كتاب عنوانه: أهمية الجهاد في نشر الدعوة إلى الله ونشر الدعوة الإسلامية، للشيخ علي بن نفيع العلياني، وهو كتاب جيد وقيم وأنصح به، وهو لا يغطي كل الموضوع، فموضوع الجهاد طويل جداً، لكنه شيء من الأشياء المهمة في هذا الأمر.(19/17)
الغزو الفكري عبر أفلام الكرتون
السؤال
بعض أفلام الكرتون فيها خبث كبير؟
الجواب
نعم، تصوروا قريباً كنت في نقاش مع أحد الأخوان، الخبر كالتالي: فتى وفتاة يتناقشان، وتأتي له بهدية -هذا كله في فلم كرتون- تأتي له بهدية إلى البيت على أنه مريض، ثم يستقبلها، ويقول لها: تفضلي واصعدي معي إلى الغرفة، وتصعد معه إلى الغرفة ومعه قطة، وتكون غرفته مبعثرة، فتعرض عليه أن ترتبها له، ثم يتحاوران ويتناقشان إلى آخره، ثم يأتي مشهد فيه عرض لبنتين من أصدقاء الفتى والفتاة، تقول إحداهما للأخرى: فلانة ذهبت إلى بيت فلان، فتقول الأخرى: نعم، فترد عليها وتقول: لكن صعدت إلى غرفته، فتقول الأخرى: لا يمكن ذلك، ولكنهما يشاهدانهما من بعيد في الغرفة مع بعض، فتقول إحداهما للأخرى: إن فلانة لا يمكن أن تدخل غرفة فتى لوحدها وليس معها أحد، ثم تقول الأخرى ضاحكة: لا لا إن معها أحد إنه القط الصغير.
عندهم الآن تدريب -لأن هذا تدريب عملي لأولادنا الصغار- أن يتدربوا على العلاقة مع البنات والأولاد، ولا يمكن عرضها لأناس كبار، وإن كان عرضت وانتهت، ولكن بالنسبة للصغار فهو شيء طبيعي، وممكن يحصل النقاش، ويمكن أن يستضيفها في غرفته، وتدخل معه لوحدها وأن القط يزيل الخلوة سبحان الله العظيم! هذا حكم جديد ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ولا الآخرين، الآن فقط سمعنا أن القط يزيل الخلوة.
أنتم قد تدهشون ربما إذا علمتم أن العلماء يقولون في المسائل المتعلقة بالخلوة، قالوا: ولا يجوز لامرأة أن تخلو بحيوان أو بهيمة فيها ميل إلى النساء أو في النساء ميل إليها كالقرد، سداً للذريعة، إذا حصل الفساد والشر، فما بالك الآن.(19/18)
معنى قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)
السؤال
قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] كيف الصحابة أذلة؟
الجواب
نقول: الذل هنا ليس ذل الدين، وليس ذل النفس، وإنما هو أقلة في العدد والعتاد، أي: الذل الدنيوي، وليس الذل الشرعي أو النفسي.(19/19)
وصية للنساء بالصبر
السؤال
بم تنصحون النساء عند الابتلاء؟
الجواب
الابتلاء لابد منه، والمرأة حارسة للقلعة، وقد يبتلى زوجها فينبغي أن تكون هي كذلك مستعدة لجميع الأشياء، والصبر إذا كان عندها قليلاً، فلابد أن تكون مستعدة، وتتربى وتوطن نفسها على ما سيأتي.(19/20)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
أنت لا ننكر باليد، فماذا تقول في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)؟
الجواب
ماذا تقول في الكلمة التي بعدها: (فإن لم يستطع فبلسانه) فإن لم يستطع لا يعني أنه لا يستطيع هو، وإنما تدخل عدم الاستطاعة أيضاً إذا كان سيؤدي إلى منكرٍ أكبر منه، فليست القضية خوف وجبن، لا، وإنما لا يستطيع لأنه يعلم ما يترتب على هذه الأشياء من منكرات، وبالمناسبة أقول أيضاً: هذا لا يعني إذا رأيت منكراً في بيتك لا تغيره باليد، أنا أتكلم عن المنكرات العامة، المنكرات التي يترتب على إنكارها باليد مفسدة أعظم، أما إذا رأيت المنكر في البيت وتستطيع أن تغيره باليد فغيره، كل منكر تستطيع أن تغيره باليد ولا يترتب عليه مفسدة، فغيره باليد.(19/21)
كيفية تطوير وسائل الدعوة
السؤال
كيف نطور وسائل الدعوة؟
الجواب
في بعض المقالات في مجلة البيان -على ما أذكر- هناك ذكر لقضية تطوير وسائل الدعوة، فيمكن للأخ أن يرجع إليها، وإن كان لا يحضرني الآن ذكر الأعداد التي فيها هذا الأمر.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يحسن خاتمتنا أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/22)
لا ترتدوا على أدباركم
الانحراف عن صراط الله المستقيم وجد في عهد أنبياء الله ورسله كما وجد في عصرنا هذا مع الفارق الكبير في صورته وعدد المنحرفين، وقد وجدت كثير من الأسباب المؤدية لهذا الانحراف؛ سواء كانت من الشخص نفسه، أو من فساد بداية الاستقامة، أو من الجو المحيط بهذا الشخص.
وقد نبه الشيخ في بداية كلامه على أمر مهم وهو: أن النكوص لا يعني الانحراف عن الصراط فقط؛ بل هو أيضاً الانزواء على النفس وحيازة الخير لها وحسدها.(20/1)
الردة التي حدثت في عهد النبوة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله؛ ليعلم عز وجل من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، ومن يثبت على منهج الله ممن ينكص ويرتد عن هذا المنهج وعن هذا الطريق: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] فهو إذاً ابتلاء وامتحان للعباد.
وهؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد:25]، وعن حبوط عملهم يقول عز وجل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، وقال سبحانه: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21].
والردة عن الدين أخطر موضوع يمكن أن يواجه الإنسان؛ لأنه ليس هناك شر أعظم من الردة عن الدين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه).
هل حدثت أحداث من الردة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
نعم، إن البشر الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هم من جنس البشر، بينهم الصالح والطالح، والطيب والخبيث، ولذلك كان منهم من آمن، ومنهم من كفر، ومنهم من ارتد بعد إسلامه، ولأن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كان أبرك العصور التي مرت على البشرية، فإن الذين ارتدوا في ذلك العصر كانوا قلة جداً بالنسبة لمن أتى بعده.(20/2)
الردة بسبب الإسراء
ومن الأحداث المشهورة في الردة: ما رواه الحاكم والبيهقي وهو حديث صحيح: (لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد أناس ممن كانوا آمنوا به وصدَّقوه -لماذا ارتدوا؟ لأن عقولهم الضعيفة لم تتحمل هذا الخبر العجيب: كيف يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة واحدة؟ مستحيل! - وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم، إني لأصدقه في ما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة -أي: أصدق أنه يأتيه الخبر من السماء في لحظات فكيف لا أصدقه أنه ذهب إلى البيت المقدس ورجع في ليلة؟! - فلذلك سمي أبو بكر الصديق)، والحديث في السلسلة الصحيحة برقم (1).(20/3)
ردة النصراني الذي كان كاتباً للوحي
ومن الأحداث النادرة لمن ارتد في الزمن الأول، هذه الرواية التي جمعتها من ألفاظ الشيخين: عن أنس قال: (كان رجل نصراني من بني النجار، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبته له -هذا الذي يقوله محمد أنا كتبته له أصلاً- فرفعوه وعظموه، قالوا: هذا كان يكتب لمحمد، فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فأماته، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فعلموا أنه ليس من الناس فتركوه منبوذاً) رواه البخاري ومسلم.
هذا من دفاع الله عز وجل عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ما عهد أن أناساً يدفنون فيلقون خارج الأرض إلا أناس اعتدوا على حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فعند ذلك يعاقبهم الله عقاباً شديداً.
وألف شيخ الإسلام في ذلك كتاباً مهماً جداً، جمع فأوعى، وهو كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول، وقال فيه: بل إنا كنا -ينقل عن بعض الغزاة المسلمين سواء في الشرق أو في الغرب في بلاد الأندلس - يقول: كنا إذا حاصرنا الحصون فاستعصت علينا حتى نكاد نيئس، فإذا وقع القوم في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشرنا خيراً، فما يلبث الله أن يفتح؛ لأن الله يدافع عن رسوله صلى الله عليه وسلم دفاعاً لا يدافعه أحد.(20/4)
ردة عبيد الله بن جحش
من القصص أيضاً التي نقلت: قصة ردة عبيد الله بن جحش زوج رملة بنت أبي سفيان، يقول الذهبي رحمه الله في السير: ومن محاسن النجاشي أن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية أم المؤمنين أسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي قديماً، فهاجر بها زوجها إلى أرض الحبشة، فولدت له حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أدركه الشقاء، فأعجبه دين النصرانية فتنصر، فلم ينشب أن مات بـ الحبشة، فلما فرغت من العدة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، فخطبها، فزوجه إياها، ودفع المهر نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: "أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه؛ وذلك على أثر ما هاجر مع المسلمين إلى أرض الحبشة، فزين له دين النصارى، فصار إليه حتى مات عليه لعنه الله، وكان يعير المسلمين، فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم.
فإذاً: حدثت وقائع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتداد أناس، ولكنها نادرة جداً؛ وذلك لطبيعة التربية النبوية التي لم يرفضها إلا من كان قد طبع الله على قلبه، والله عز وجل بين لنا في القرآن أمثلة عامة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:175 - 176]؛ ولذلك الردة لا تضر في الإسلام، يعني: لا تضر إلا صاحبها، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ليست هناك مشكلة للإسلام، لا ينقص في الدين شيء لو ارتد الناس، الدين باقٍ والله يحفظه، لكن المشكلة مشكلة المرتد نفسه.(20/5)
مدخل إلى النكوص على العقبين للمستقيمين
هذا كان المدخل إلى الموضوع، والموضوع الذي سنتحدث عنه ليس هو موضوع الردة، بل الضعف الذي يصيب المسلم، ويمكن أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام:(20/6)
أقسام الفتور الذي يصيب الإنسان
القسم الأول: منه ما يكون ضعفاً شديداً جداً يخرجه عن ملة الإسلام فيصبح مرتداً؛ وهو أسوء الأنواع.
القسم الثاني: يخرج المسلم من دائرة الاستقامة -يكون مستقيماً ملتزماً بشرع الله- إلى دائرة الفسق، فيصبح فاسقاً فاجراً، لكن لا يزال في دائرة الإسلام.
القسم الثالث: نوع أخف من النوعين السابقين بكثير وهو: الفتور الذي يصيب المسلم.
وهذا الفتور إن كان المسلم في حالة فتوره لا يرتكب المعاصي، أي: هذا الفتور لا يؤدي به إلى ترك الواجبات وفعل المعاصي فإنه لا يزال بخير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى).
أي: إذا صار الفتور إلى درجة يلتقي بالمحرمات أو يترك الواجبات فهو على خطر، لكن لو فتر بشيء بسيط -لأن الإيمان يزيد وينقص- ونقص إيمانه قليلاً لكن لا يزال في دائرة الإسلام والإيمان والتقوى، ولم ينزل إلى دائرة الفسق، فهذا فتور مقبول؛ لأن الإنسان إيمانه يزيد وينقص، ولا يتوقع أننا كلنا نبقى في حالة إيمانية واحدة؛ لأننا ونحن في مجلس الذكر نختلف عندما نخرج -مثلاً- نشتري الأشياء من السوق، أنت فكر في نفسك، عندما تخرج مثلاً من هنا أو من أي مكان فيه حلقة ذكر ثم تدخل السوق تشتري أشياء والمناظر أمامك، هل تكون في نفس الحالة الإيمانية؟ لا.(20/7)
النكوص الحاصل بين صفوف الملتزمين
سوف نتكلم في هذا الدرس عن موضوع النكوص الذي ينزل الإنسان من دائرة التقوى إلى دائرة الفسق، والانحراف الذي يجعله يرتكب بعض المحرمات أو يترك بعض الواجبات.
الآن الذي يدقق في الواقع يرى أن هناك بعض الأشخاص قد هداهم الله سبحانه وتعالى في فترة من الفترات وزمن من الأزمان، وبعد فترة من الزمن تغيرت أحوالهم، شخص كان مستقيماً ملتزماً بشرع الله، ثم تفاجئ بعد فترة من الزمن وقد تغير شكله، وترك المظهر الإسلامي، ووقع في بعض المحرمات، وهو تارك الآن لبعض الطاعات، تغيرت أحواله هذه الحالة موجودة، لكن هل أصبحت ظاهرة؟ هل هي منتشرة جداً بحيث أنك ترى يومياً أشخاصاً كثيرين جداً ينتقلون من معسكر الهداية إلى معسكر الفسق؟ نسأل الله ألا تكون الأحوال بهذه الصورة.
وهناك أشياء تطمئن، وهي: أن الذين استقاموا على الدين أكثر من الذين نكصوا عنه، والذين دخلوا فيه أكثر من الذين خرجوا عنه، وهذه والحمد لله نعمة، وأنت ترى الآن أن الذين يدخلون في الدين أكثر من الذين يخرجون منه، وأن الذين يدخلون ويسلكون سبيل الاستقامة والالتزام أكثر من الذين ينحرفون، ولكن هذه المشكلة موجودة وهي من مشاكل الصحوة الإسلامية في هذا العصر.
وبالطبع فإن هذه الحالة -حالة النكوص والانتكاس- ناتجة عن اتساع رقعة الصحوة الإسلامية، وهذا الاتساع هو الذي يقلل التركيز ويجعل مجالات هذه الصحوة تتعدد والجهود تتوزع في تلك المجالات، فلا بد أن يخف الاهتمام تبعاً لذلك على الداخلين في طريق الاستقامة، وطاقات الدعاة مهما كانت محدودة، فمع ازدياد القادمين إلى طريق الاستقامة لا تعود طاقات الدعاة تستوعب هذا الكم الكبير الذي يتجه إلى الدين، ومن هنا فلا بد أن نتوقع حصول حالات الردة أو الضعف الذي يوصل الإنسان إلى الانحراف، ونتوقع أيضاً اتجاهات غير مرضية في المنهج العلمي أو منهج التحرك في هذا الدين؛ نتيجة عدم وجود التوجيه الكافي.
ولا بد أن نذكر قبل عرض الموضوع أننا سنتكلم عن أسبابه، ومع بعض الأسباب سنذكر العلاج، وهناك علاجات منفصلة سنذكرها في النهاية، وسنمر كذلك بحالة هذا المنتكس نفسياً: كيف يشعر؟ ما هي الأشياء التي تغيرت فيه؟ كيف بدأ يتغير؟ وإلى أين ينتهي حاله؟ وكيف يعود إذا كتب الله له أن يعود؟(20/8)
كيف تحدث الانتكاسة الخفية؟
بعض الناس عندما يتكلمون عن ظاهرة التساقط فإنهم يتكلمون من منظار أو من زاوية التساقط الحزبي، ونحن أيها الإخوة سوف نركز في كلامنا في قضية التساقط والنكوص عن الانحراف عن الجادة الصحيحة التي توقع الإنسان في الفسق أو الفجور أو ترك الواجبات، هذا هو التعريف الذي سنتخذه في أثناء كلامنا ونسير عليه.
إذاً المقصود من الانتكاس هو: الخروج عن طريق الهداية الربانية وهذه هي الخسارة الحقيقية، بعض الناس يظن أنه إذا تركه شخص كان يسير معه فذهب إلى غيره -مثلاً- أن هذه خسارة، والحقيقة -أيها الإخوة- أنها ليست كذلك، الخسارة أن يكون إنساناً ملتزماً بشرع الله، مستقيماً على طريق الله، ثم ينتكس ويترك الاستقامة، هذه هي الخسارة.
ويجب أن نعلم أن النكوص الذي نتحدث عنه هو عن شخص كان مستقيماً في أموره ثم انحرف، وليس لشخصٍ كان أصلاً غير مستقيم في بعض الجوانب ثم انحرف في كل الجوانب، كشخص كان لا يحافظ على صلاة الفجر ويشاهد الأفلام المحرمة، ثم أطلق لحيته مثلاً والتزم ببعض الأشياء، ثم انتكس بالكلية، ليس هذا هو الشخص الذي نتحدث عنه، وهذا الرجل لا يسمى ناكصاً؛ لأنه كان أصلاً منتكساً من قبل، وهو الآن اتسعت رقعة انتكاسته، هذا الذي حدث.
ومن الملاحظ أن كثيراً من الناكصين لم يلجوا حياض التربية الإسلامية، ولم ينهلوا منها، فأنى لهم الثبات؟! وقد يوجد في الوسط الإسلامي رجل فيه انحراف لكن لا يتبين أمره من البداية، ومع مرور الزمن وتوالي الأحداث تنكشف الأمور، وهذا مثال من السيرة النبوية: روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً، غنمنا المتاع والطعام والثياب والغنائم ما حكمها؟ تجمع كلها، ولا يأخذ أحد منها شيئاً، ثم توزع بالطريقة الشرعية في توزيع الغنائم- ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن زيد من بني الضبيب، فلما نزلنا إلى الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله، فرمي بسهمٍ، فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفس محمد بيده! إن الشملة لتلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم فهي تلتهب عليه ناراً، قال: ففزع الناس -أي: فزعوا- فجاء رجل بشراك أو بشراكين، فقال: يا رسول الله، أصبت يوم خيبر، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: شراك من نار أو شراكان من نار).
إذاً: قد يوجد في الوسط المسلم رجل فيه انحراف لكنه في الظاهر ملتزم مستقيم، لكنه يتبين مع الزمن ولو مات؛ فالله أعلم بنيته.(20/9)
من أسباب النكوص
قد يتصور البعض أن موضوع النكوص هو فقط الردة عن الإسلام، أو ترك الواجبات، مثل: ترك الصلاة في المسجد، أو الوقوع في الزنا، أو الفواحش، تصوروا مثلاً هذا هو النكوص، ولكن بعض الناكصين قد يستمرون على التزامهم بمظهرهم الإسلامي، ويؤدون الشعائر، ولا يقترفون الفواحش، ولكنهم يتركون واجباً مهماً من الواجبات مثل الدعوة إلى الله.(20/10)
ترك التواصي بالحق والصبر
قد تجد من هو حاله حال نفسه فقط، لا ينفع المسلمين ولا يدعو إلى الله، ولا يؤثر في غيره، مع أن الدعوة إلى الله عز وجل واجبة، فلا يمكن أن نسمي هذا الشخص مستقيماً بمعنى الكلمة، وهناك حالات كثيرة لهذا النوع في المجتمع، أناس كثيرون ظاهرهم الطيبة والاستقامة، من المسجد إلى البيت، ولا يرتكب المنكرات أو الفواحش، ويعتبر نفسه أنه بخير، وأنه قد وصل إلى الدرجات العلى، لكنه في الحقيقة تارك لواجبات كثيرة، مثل: واجب الدعوة إلى الله، فلا نعتبر هذا الشخص مستقيماً بمعنى الكلمة؛ بل إنه مقصر، وقد ترك واجب التواصي بالحق والصبر إذا أعرض ورفض الأخوة في الله، فكيف يتواصى معه بالحق والصبر وهو الواجب الشرعي المذكور في القرآن؟!(20/11)
التعلق بشخص ما من الناس
وإذا جلسنا ندقق في أسباب النكوص والانتكاس في هذا القسم الذي نتحدث عنه فسنجدها كثيرة جداً، فبعضهم يدخل طريق الاستقامة من باب الارتياح العاطفي، والتعلق بالشخص الداعية الذي دعاه إلى الله، ويتقبل الأحكام الشرعية ويطبقها؛ لأنها خرجت من فلان الفلاني الذي يرتاح لشخصه لا لأنها أحكام الله التي قضى بها، إنه يطبق هذه الأحكام ويلتزم بها؛ لأنه يحب الشخص الذي دعاه إلى تطبيق هذه الأحكام، لا لأنه يحب الله الذي فرض هذه الأحكام، فيصبح هذا الداعية وسيطاً بينه وبين الله، فإذا ابتعد هذا الداعية أو سافر مثلاً أو حدث بينهما إشكال أو خلاف انقلب على عقبيه؛ لأن الذي كان يربطه بطريق الاستقامة قد ذهب، وهذا يؤكد -أيها الإخوة- التربية على الصلة بالله لا بالأشخاص، والارتباط بالله لا بالعواطف، قد يكون للمرأة أو للرجل من يسانده في الاستقامة من أهله داخل البيت أو خارجه، واحد يؤازره ويشد عضده، فلسببٍ من الأسباب يتخلى هذا المساند عن مساندته؛ إما لسفر، أو لابتعاد، أو لتغير قناعاته، فيحدث التزلزل والانتكاس! مرة أخرى: تعلق القلب ليس بالله، وطلب العون ليس من الله، هذا عنده مثل هذه النوعية من الأشخاص، وهذا ركن واهن لا بد أن يغير إلى ركن شديد، (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، ولذلك نعى الله في القرآن على الذين يرتبطون بشخصية في التزامهم واستقامتهم ولا يرتبطون بالله، حتى لو كانت هذه الشخصية هي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يلتزمون فقط لأن الرسول صلى الله عليه وسلم موجود بين أظهرهم هم أناس ما فقهوا حقيقة الاستقامة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] هذه حقيقة مهمة ينبه عليها القرآن: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] سوف يموت كما مات أي رسول، أو يقتل كما قتل أي رسول {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
سبحان الله العظيم! كأن هذه الآية نزلت في المرتدين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما قرأها الصحابة كأنهم لأول مرة يقرءوها، ولما قام عمر يتكلم، ويقول: [إن محمداً ذهب إلى ربه كما ذهب عيسى، وليوشكن أن يرجع فيقطع رقاب أناس من المنافقين.
قال أبو بكر: اقعد يا عمر! فلم يقعد، فقام أبو بكر يتكلم فتحول الناس إليه، فتلا عليهم هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144]] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
إذاً: الدعوة إلى الله والاستقامة على منهج الله ليست مرتبطة بأشخاص، إذا زال هؤلاء الأشخاص زالت الاستقامة، وإذا ابتعدوا ابتعد الإنسان عن الاستقامة! كلا.
وكثير من الناس اليوم ارتباطهم بالدين هو عبارة عن ارتباط بأشخاص لو زال هؤلاء الأشخاص لزال الارتباط بالدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد يستغرب البعض وجود الارتياح العاطفي الشخصي بين فاسق وداع إلى الله يدعوه، ولكن الحقيقة -أيها الإخوة- أن هذا الأمر طبيعي في وسط الجاهلية التي أفرغت قلوب الناس من محبة الله وذكره، فيمكن أن تجد كل عاطفة سلبية مكانها في تلك القلوب الخاوية، وتنشأ العلاقات ويحصل التأثر ليس لله وإنما لأجل الشخص الناصح، فيلتزم لوجه الناصح لا لوجه الله.(20/12)
الالتزام والمصلحة
أن يكون تدين بعض الناس ليس لله، فمثلاً: دخل طالب نشاطاً إسلامياً في مدرسة، واستقام في الظاهر، حتى يحصل على درجات من مدرس الدين أو غيره، هذا التدين ليس لله، فلذلك لو تخرج هذا الطالب من المدرسة فلا يتوقع له أن يستمر على عهده، ولو جاءت العطلة لربما تغير، ولو تغير مدرسه لربما تغير؛ لأن الشخص الذي كان ينتفع بتدينه من جراء التدين ذهب.
أو رجل توظف -مثلاً- في دائرة أو مؤسسة مديرها رجل مستقيم على شرع الله، فهو يستقيم في الظاهر لتتحسن معاملة المدير له، أو يعطيه مزيداً من المزايا لمصلحته الشخصية، وهذا ملاحظ، لو جاء مدير مستقيم في أي مكان تجد بعض الناس يتغيرون تلقائياً وبسرعة عجيب! كيف تغيروا؟ هل الإيمان دخل قلوبهم؟ وبسرعة انقلبت شخصياتهم؟ سبحان الله! إذاً: المسألة فيها سر، وشيء وراءها، وهذه القضية -المصلحة- صار التدين الآن لها.
بعض الدارسين في كليات العلوم الشرعية قد يلتزم ظاهرياً؛ لأنه يدرس الشريعة، كيف لا يطلق اللحية؟! وكيف لا يظهر الناس بمظهر المستقيم وهو يدرس الشريعة؟ وقد يصبح في المستقبل قاضياً، أو مدرساً للمواد الدينية.
إذاً: طبيعة الدراسة تفرض عليه أن يتدين، فهو يتدين لا لله لكن لأن مجال الدراسة يفرض عليه هذا؛ لأنه يصبح في مكان قد يكون مظهره مخالف لما هو مفترض أن يكون عليه، فيفرض عليه الواقع أن يستقيم في الظاهر وهو في الحقيقة غير ذلك.(20/13)
الالتزام وحب التغيير
بعض الناس قد يتدينون ويستقيمون من باب تغيير الجو لا حباً لله، ولكن سئم من حياته التي يعيش فيها فنظر فرأى أعداداً من المستقيمين كثر، فدفعه حب الاستطلاع أن يعرف كيف يعيش هؤلاء الناس؟ هل هؤلاء الناس سعداء أم غير سعداء؟ دعني أنظر كيف يعيشون؟ كيف يكون نمط حياتهم؟ فلأعمل مثلهم، وألتقي بهم، وأسير معهم من باب التغيير.
وقد يحس البعض في البداية بأن حياة الاستقامة والالتزام حياة جميلة؛ لأنها جديدة عليهم، وقد يحس الواحد في أول أمره بفيض من المشاعر يغمره، مثل: مشاعر الأخوة في الله، أو المشاعر التي تنتج عن عمرة، أو حجَّ في البداية يكون له طعم خاص، وبعض جلسات العلم في بداية أمرها يكون لها طعم خاص، وبعض المناسبات الإسلامية مثل الرحلات وغيرها تحتوي على أمور لم يكن يألفها من قبل، ولم تقع عينه عليها، فتلعب عوامل الإثارة دوراً مهماً في انجذاب هذا الشخص في البداية وتحمسه، ولكن بعد ذلك يدب التعب والملل، وتذهب تلك الإثارة؛ لأن الشيء الذي كان جديداً عليه قد أصبح معتاداً، وحب الاستطلاع الذي دفعه في البداية لأن يفعل ما فعل قد أصبح الآن زائلاً؛ لأنه -الآن- قد عرف كيف يعيشون فهو يخرج كما دخل، تأثرات في البداية ثم تنتهي، وهذا من فساد الابتداء.
وبعضهم يدخل في طريق الاستقامة على أن هذه تجربة جديدة فليجرب التدين، ويكون في نهاية أمره يعود منحرفاً كما كان، ومن الناس من يكون فساد ابتدائه بأن يقبل منه في بداية أمره بقاؤه على نوع معين من المنكرات، أو يقبل منه أن يلتزم بجوانب من الدين في المظهر مثلاً ولكن لا بأس أن يفعل بعض المنكرات الأخرى، فهذا لا يلبث أن يستمر طويلاً؛ بل سرعان ما ينتكس ويسقط.(20/14)
الاحتفاظ بشيء من شوائب الجاهلية
ومن الأسباب كذلك: عدم التخلص من شوائب الجاهلية وآثارها عند الاستقامة؛ فقد يكون للشخص المستقيم الذي يتظاهر الآن بالاستقامة علاقات ما زالت مع بعض أهل الشهوات لم يتب منها ولم يقطعها، وربما خفف منها في البداية أو توقف عنها، لكنه لا يزال يحن ويعاوده الشوق إلى ممارسة تلك العلاقات مرة بعد مرة حتى يسقط فعلاً، فهو عند دخوله في طريق الاستقامة لم يكره الشر، ولم يسخط على الإثم، ولم يخلع على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية؛ فتعاوده تلك العلاقات بمبادرةٍ منه، أو بمبادرة من صاحب العلاقة الآخر الآثم، يتصل به ويزين له الشر ويدعوه مرة أخرى، وهنا قد لا يصمد وينتكس ويسقط في هاوية الفاحشة.
والحديث الصحيح الوارد في قصة الصحابي الذي كان بعد إسلامه يهرب المسلمين من مكة إلى المدينة، يذهب إلى مكة ويدخل خفية ويحمل بعض الضعفاء المسلمين الذين لا يستطيعون الهجرة بمفردهم، هذا الرجل كان على علاقة بامرأة في الجاهلية قبل أن يسلم، ولما دخل مكة سراً ليحمل بعض المسلمين ويهاجر بهم إذا بالمرأة التي كانت على علاقة معه تراه، فلما رأته هشت له وبشت، ودعته إلى ما كان منهما من الوصال المحرم في الماضي، ولكن هذا الصحابي الذي عصم الله قلبه بالإيمان لم يستجب لدعوة تلك المرأة، بل رفض العرض، فهددته أن تصرخ بكفار قريش ليأتوا به فيأخذوه، وقد يقتلوه فرفض، فصرخت تنفيذاً للتهديد الذي هددته به، فاجتمع كفار قريش فهرب ذلك المسلم فدخل مغارة، فدخلوا يبحثون عنه، يقول: فأعمى الله أبصارهم فلم يروني؛ جزاء الاستقامة، ثم خرجوا فخرج هو وعاد إلى المدينة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الزمر:61] {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
فقد تعاود الشخص المستقيم أشياء من الماضي لا بد أن يقف لها بالمرصاد؛ وإلا فإن السقوط سيكون عاقبة طبيعية لاستجابته للمحرمات.
ويدخل في ذلك عدم قطع الصلة بالرفقة من أصحاب السوء القدامى، فهو لا يزال يجلس مع هؤلاء ومع هؤلاء، لا يزال يجالس أصحاب السوء الذين كان على علاقة بهم، ولا يزال يجالس -أيضاً- أصحاب الاستقامة الذين تعرف عليهم الآن، فهو كالشاة العائرة بين الغنمين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلا يلبث أن يغلب جانب الشر في نفسه، ولا يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة الشيطان، وكما يقول ابن القيم رحمه الله:
حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان
كيف يجلس مع هؤلاء فيسمع آيات التنزيل، ويسمع أحكام الله وأوامره، ويسمع الرقائق والمواعظ، ثم يجلس مع أولئك الناس الآخرين فيسمع الغناء والموسيقى والطرب ويلعب الورق كيف يجتمعان؟ فلا بد أن يكون عاقبة هذا السقوط عاجلاً أم آجلاً.
ولذلك كان لا بد من هجر أهل السوء بالكلية عند الدخول في طريق الاستقامة، ومن شواهدنا على هذا: حديث قاتل المائة نفس الذي ورد في الصحيح، هذا الرجل الذي قتل مائة نفس عندما ذهب إلى عالم فسأله: هل لي من توبة؟ قال: نعم، وما الذي يحول بينك وبين التوبة؟ ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى القرية الفلانية فإن فيها أناس صالحون يعبدون الله فاعبد الله معهم، قال له: لا تبقى هنا؛ لأن الناس الذين يشجعونك على الشر يوجدون هنا؛ ولذلك فإن بعض العلماء قد عدوا من شروط التوبة: مفارقة مكان المنكر.
وهذه الأمور -أيها الإخوة- التي سردناها آنفاً تؤكد أهمية التربية وتهذيب النفس وتخليصها من كل شوائب الجاهلية، وأهمية التربية الإسلامية المركزة لا التربية القطيعية.
وستبقى المعضلة عند المخلصين: الموازنة بين التربية الإسلامية المركزة وبين استقبال الجموع الوافدة بسلبياتها وإيجابياتها إلى الأوساط الإسلامية واستيعابها وفتح الباب أمامها على مصراعيه.(20/15)
الانشغال عن الوعظ بما يقسي القلب
ومن الأسباب التي تؤدي إلى السقوط: أن يكون الإنسان في بداية الالتزام في حالة ندم شديد على ما فعل في الماضي، فيبدأ الضمير يؤنبه، ويبدأ الرجل يحس بالحاجة إلى المواعظ والرقائق، فهو لا يزال يسمع المواعظ والرقائق الواحدة تلو الأخرى ويستشعر خشية الله في البداية، وبعد فترة من الزمن تبرد الأمور، وينشغل بأشياء أخرى عن الرقائق والمواعظ، وينسى خشية الله.
دائماً في بداية دخول الناس في بداية التوبة تكون توبة حارة، ويكون الإقبال شديداً، وتكون العبادة عظيمة، وبعد فترة من الزمن تبرد هذه الأشياء، ويخف تأثر الإنسان بالمواعظ، وقد لا يسمع موعظة مطلقاً، ويقول: دع المواعظ لغيري ممن دخلوا في الطريق الآن، أنا أمري أعظم من سماع المواعظ؛ فيترك سماع المواعظ وينشغل بغيرها، فيضعف واعظ الله في قلبه.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من منهجه أن يحافظ على المواعظ على أصحابه حتى لو تقدم بهم العمر في طريق الاستقامة، ولذلك يقول الصحابي: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون) بعد كم سنة وعظهم؟ لا يزال يعظهم، مضت عليهم سنوات في طريق الإسلام، لكن موعظة مهمة، وترقيق القلب مهم حتى في آخر لحظات الحياة؛ ولذلك -أيها الإخوة- لا بد أن نركز على قضية الوعظ الرقائق، وعلى قراءة كتب الرقائق والمواعظ، ولا بد أن يركز الدعاة إلى الله بين الناس على الوعظ، وبين أنفسهم كذلك على وعظ أنفسهم بأنفسهم، لا بد أن يتعظوا.
وورد في صحيح البخاري في قصة الخضر: (أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فوعظ الناس وذكرهم، فسالت الدموع، ووجلت القلوب فولى) فاختصر الموعظة، وعظ الناس بشيء مناسب، ولما تأثروا مشى حتى لا يترك المجال لفتح مواضيع أخرى تذهب أثر الموعظة.
فعلينا التركيز على قضية الوعظ والرقائق، وعدم إهمالها أو تركها لمن نعتقد أنهم دوننا في المستوى الإيماني.(20/16)
الالتزام والدافع الشخصي
كذلك فإن التزام بعض الناس بالإسلام التزاماً غير مؤسس على تقوى من الله ورضوان، سرعان ما يزول، أو يكون بتأثير طاعة من الطاعات أو حدث من الأحداث، فهناك أناس يتغير واقعهم بعد الحج مثلاً، أو بعد العمرة في رمضان، يبكي في الحرم ويدعو، وفي الحج يشعر بتغيرات إيمانية كبيرة في نفسه، فيعود متغيراً، أو مثلاً بعد حادث سيارة، أو مرض خبيث نجا منه فيتغير الشخص، فهو تغير بعد طاعة واحدة أو بعد حادث من الأحداث، لم يستغل التأثر الحادث بعد هذا الحدث وبعد هذه العبادة في تنمية الإيمان في نفسه، وإنما جاءت هذه الدفعة من الإيمان فلا زالت تنقص شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن وهو لا يستغل هذا الإيمان الحاصل في نفسه الذي جاء بعد حادث السيارة أو بعد الحج والعمرة، فضعف وضعف وضعف حتى سقط.
إذاً: لا بد من استغلال الفرص والاندفاع والتأثر في لحظات التأثر الأولى؛ لتغذية وتنمية الإيمان في النفس، والمبادرة بالاستمرار لعمل الطاعات والخيرات، ولزوم الرفقة الصالحة حتى يقوى الإيمان، ويصبح على أساسات، لا يصبح مجرد حماسة حدثت بعد حادث ثم انطفأت.
إن انتكاس بعض الناس راجع إلى أن التزامهم بأحكام الدين كان بطريقة فردية، لم تُحط بسياجٍ من الإخوة الإسلامية، وما دامت الشاة بعيدة عن القطيع فإن تسلط ذئاب الشبهات والشهوات عليها يجعلها فريسة سهلة.
إن الحياة الفردية الباردة على شفا جرفٍ هار من الحياة الإسلامية الجماعية التي يغذي بعضها بعضاً، ويدفع بعضها بعضاً، ويحمس بعضها بعضاً، ويستفيد بعضها من بعض، ويكمل بعضها بعضاً.
فاعتقاد الناس أنه يكفيهم الالتزام أو الاستقامة بعيداً عن إخوانهم الآخرين المسلمين اعتقاد خاطئ، وإذا بقي وحيداً فلا بد أن يكون السقوط حليفه يوماً من الأيام ما لم تدركه رحمة الله عز وجل.(20/17)
الابتعاد عن الجو الإيماني
وكذلك من الأمور المسببة للنكوص على الأعقاب: أن يبتعد المسلم عن الوسط الطيب، وأحياناً يكون هذا الابتعاد لسوء معاملة قد لقيها من البعض، وقد يكون لسفر مثلاً في إجازة من الإجازات أو غيرها، فيذهب هذا الشخص إلى مكان لا يوجد فيه أصدقاء طيبين، ولا أناس مستقيمين، فيبقى في ذلك المكان وحيداً فريسة للذئاب البشرية التي تريد أن تجتاله عن طريق الله، فلا يلبث أن يرجع -إن رجع- بعد ذلك إلى موطنه الأول متغيراً منتكساً، وتقع هذه الحالة كثيراً بين الناس الذين يسافرون إلى الخارج لقضاء العطلة، قد يزور أقرباءً له فسقة ويعيش شهوراً في جوٍ من التفسخ والتحلل والاختلاط الذي يؤثر على إيمانه، فيجعل الرجل يترك الطاعات، والمرأة تترك الحجاب وغيره، ويعود هذا إلى مكانه منتكساً بعد أن كان مستقيماً.
وأحياناً يكون انتقاله من منطقة سكنية إلى منطقة أخرى لا يلقى فيها مستقيمين كما كان حاله في سكنه الأول، يكون سبباً مباشراً من الأسباب التي تجعله ينحرف عن الطريق المستقيم.(20/18)
الإعجاب بالنفس
الإعجاب بالنفس من الآفات الداخلية العظيمة التي تسبب السقوط، فقد يدفع الإعجاب بالنفس الإنسان أن يشابه الصوفية في معتقدهم الباطل، الصوفية يقولون: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] حيث يزعمون أن اليقين مرحلة إذا وصلها الإنسان فإنه لا يحتاج إلى العبادة، والذي نعلمه من تفاسير أهل السنة والجماعة: أن اليقين هو الموت اعبد ربك عبادة متصلة تامة حتى يأتيك الموت وأنت على عبادة الله، فبعض الناس يقولون من منطلق الإعجاب بأنفسهم: إنني قد نلت قسطاً وافراً كبيراً من التربية، وقد وصلت إلى مرحلة اليقين في الطريق فلا حاجة لي إلى المزيد، وسوف أتفرغ لمهامٍ جليلة لا يقدر عليها البسطاء، فينحجب عن التربية وأجوائها فيقع في الهلاك؛ بسبب إعجابه بنفسه، واغتراره بقدراته، فلا يلبث أن يسقط.(20/19)
العجب والكبر سبب مباشر للسقوط
ومن الأسباب كذلك: الكبرياء والتعالي على خلق الله، وبالذات على إخوانه المستقيمين، ومما اشتهر في كتب التاريخ حادثة ارتداد جبلة بن الأيهم، وإن كانت قد وردت من طريق الواقدي وغيره، فهذه القصة التي ملخصها: أن جبلة كان نصرانياً من ملوك غسان، فأسلم وجاء يطوف بالكعبة فوطئه رجل على إزاره؛ فصفعه جبلة صفعةً هشمت عينه، فرفع الأمر إلى عمر، فقال: لا بد من القود، فلما رأى الرجل أنه سيقاد منه، وهو ملك من أجل رجل من مزينة ضعيف، فلما عرف أنه سيطبق عليه الحكم هرب في الليل وولى ورجع إلى النصارى، فعاش في أكنافهم حتى مات.
وهذه القصة لها روايات مختلفة.
والمقصود: أن الكبرياء والتعالي من أعظم الأسباب، وهذا الكبر والغرور يؤدي بالإنسان إلى السقوط في مهاوي لا يعلمها إلا الله، ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك: أن عالماً من العلماء ألف كتباً في العقيدة السلفية ندر أن يؤلف مثلها، ومن أعظم كتب هذا الرجل كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية، الذي رد فيه على أناس كثيرين من أهل الضلال، وتجد فيه من قوة الحجة والجودة في الرد ما لا تجده في مكان آخر.
على سبيل المثال: احتجاج البعض بآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] الذي احتج بها بعض المبتدعة على إتيان قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ميت وطلب الاستغفار منه وما يتبع ذلك من الانحرافات استدلوا بهذه الآية، تجد هذا الرجل قد رد في كتابه رداً عظيماً مفحماً على أولئك.
وكذلك له عدة مؤلفات في نصرة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهذا الرجل بعد فترة من الزمن أصبح ملحداً من الملاحدة، وذهب إلى بلاد الكفار وعاش عندهم، وهو قريب العهد جداً بتاريخنا، كان بداية انحرافه ظهرت في كتاب له يسمى: هذه هي الأغلال، هذا الرجل درس في الهند ورحل إلى مصر، وكان رفيق رحلته في إحدى الرحلات الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله، هذا الرجل كان يعيش في القصيم، ويسمى عبد الله بن علي القصيمي، وقصته معروفة مشهورة، وكان أبوه مصرياً من جيش محمد علي، وأمه من البلاد التي عاش فيها من القصيم، ثم إن الرجل ترعرع ونشأ وطلب العلم ونبغ فيه، فألف هذه المؤلفات العظيمة حقيقةً مثل كتاب: الصراع بين الإسلام والوثنية، ولكن الرجل كان عنده من الكبر في نفسه شيئاً كبيراً جداً لدرجة أنه يقول:
ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق لأغنى عن الرسل
يقول: لو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع على الناس كلهم في الآفاق لأغنى عن إرسال الرسل.
ويقول في مواضع: أنا عندي من الطاقات والإمكانيات والنبوغ والذكاء ما يبرر لي تكبري واستعلائي، بدأ ينحرف وألف كتاب: هذه هي الأغلال، ورد عليه مجموعة من خيرة العلماء، منهم الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة، والشيخ صالح السويع في كتاب: بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال، والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، وكان أجود من رد عليه الشيخ عبد الله بن يابس رحمه الله رفيقه في رحلته، وهو يعترف بهذا، يقول: ولم يرد علي أحد مثل عبد الله بن يابس.
هذا الرجل تطورت به الأمور أكثر فأكثر حتى ألحد وألف كتباً، منها: " العالم ليس عقلاً "، " هل لهذا العالم من ضمير "، " الكون يحاكم الله " وكتب أخرى فيها الكفر والزندقة والإلحاد الواضح، وذهب إلى بلاد الكفار؛ لأنه لا يمكن أن يعيش بين المسلمين.
ما هو سبب ردة هذا الشخص؟ قضية الكبر والعجب، هذا الكبر الذي وقر في نفسه، مع أنه لا ينقصه العلم، لكن هذا الذي حدث.
وبعض الناس الآن من صغار طويلبة العلم تجد أنهم يطلقون عبارات عجيبة في أثناء كلامهم، قد يكتب كلاماً بسيطاً، ثم يقول: فاظفر بهذا التحقيق، أو هذا عزيز نفيس قلما تجده، وهذه الجمل قد تعاب على بعض كبار العلماء، فكيف ببعض الصغار الذين ما تمكنوا بعد وكيف يطيروا ولما يريشوا؟! ما نبت لهم ريش على أجنحتهم حتى يطيروا في سماء العلم، فهذه العبارات التي تنبئ عن العجب والغرور، وهي تعبير عن العجب في النفس وهو سبب مباشر للسقوط.(20/20)
الأمراض القلبية
كذلك إحساس المرء أنه كامل، وأنه ليس بحاجة إلى غيره، ولا يحتاج إلى توجيه، ولا يقبل النصيحة من أحد، هذه النفسية لا تلبث أن تؤدي إلى سقوط صاحبها.
ومن الأمراض القلبية: الحسد، وتكرر صورة قابيل وهابيل، عدم الصبر على تفوق الآخرين في شتى المجالات، ويأكل الغيظ كبد الحاسد فلا يستطيع الاستمرار في الوسط الذي هو فيه؛ فيخرج من الوسط الإسلامي، ويخرج إلى أناس من البلهاء يعيش بينهم ليرى نفسه أنه المتميز فيهم، يعني: يرى من حوله طاقات مشتعلة لا يستطيع أن يجاريها ولا يستطيع أن يتفوق عليها وهو حاسد؛ فيترك هذا الوسط ويذهب إلى وسط آخر فيه ضعفاء أو بلهاء يعيش بينهم حتى يشعر بمجد العظمة.
هذه من الطباع السيئة التي تبقى في النفس بعد دخول هذا الشخص في عداد المستقيمين.
ومنها -أيضاً-: اللؤم والحقد وعدم التسامح من الأخطاء، هذه الخصال إذا بقيت في نفس صاحبها بغير تهذيب فإنها ستتفاعل وتظهر على السطح مكونة مشاكل عظيمة بعد مدة قصيرة، وتبدو المواقف التي تنم عن سوء النية وخبث الطوية، فلا يلبث أن يحدث بعدها الانقلاب ويرتد على عقبيه.(20/21)
التوسع في الرخص والمباحات
ومن الأسباب كذلك: التساهل واتباع الرخص واحتقار الصغائر، وهذه المسألة خطيرة تتسع وتمتد، فمرة يسبل إزاره ويقول: هناك من كره الإسبال ولم يحرمه، ومرة يأخذ من لحيته ويقول: هناك من أجاز ذلك، ومرة يسمع إلى الموسيقى والغناء ويقول: هناك من كرهها ولم يحرمها أو أجاز الموسيقى الهادئة وحرم الموسيقى الغربية الصاخبة، ويتساهل بعضهم في الجلوس مع النساء الأجنبيات والاختلاط، وهذا التساهل واحتقار الذنب يؤدي تدريجياً إلى تراكم الذنوب والانتقال من الذنب الصغير إلى الذنب الأكبر منه حتى يحدث الانتكاس والعياذ بالله! ويدخل في ذلك مخالطة العامة بغير تحفظ، والأقرباء غير المستقيمين والاستئناس إليهم، والرضا بالمنكر الذي هم عليه وعدم إنكاره، ومجاراتهم في الحديث، وربما استهزءوا بالدين وهو جالس فلا يلبث أن تضعف عظمة الله في نفسه حتى تتلاشى فيسقط! وكذلك مدخل شيطاني يدخل منه أحياناً على الشخص من باب الدعوة: فيقوم الرجل يزعم أنه يريد أن يدعو امرأة أجنبية مباشرة فيكلمها وتكلمه، أو امرأة تريد أن تدعو رجلاً أجنبياً فاسقاً مباشرةً فتكلمه -بزعمها- تريد أن تدعوه إلى الله ماذا نتوقع أن يحدث بعد ذلك إلا العلاقات المحرمة التي تنتهي إلى نهاية سيئة.(20/22)
الاغترار بالمناصب البراقة
ومن الأمور كذلك: قضية المناصب والوجاهات وما تسببه من الوقوع في كثير من المحرمات؛ فإن بعض الناس الذين يرتقون في السلم الوظيفي وتتحسن أحوالهم من هذه الجهة يأخذهم الكبر والعجب والغرور، ويبدأ يجتمع مع من هو أكبر منه؛ يكون مشرفاً فيجتمع مع المدير، ويكون مديراً فيجتمع مع المدراء، ويكون مديراً عاماً فيجتمع مع أعضاء مجلس الشركة، وقد يكون هؤلاء من الفسقة الفجرة الذين يكون اجتماعهم في معصية الله، فيتأثر بهم، ويجذبه بريق المنصب إلى طاعتهم، ويخاف على منصبه أنه إذا خالفهم في شهواتهم وأهوائهم أن يفقده، وقد يحضر وقت صلاة الجماعة وهو في الاجتماع فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تغادر المكان الآن إلى صلاة الجماعة؟ ماذا سيقولون عنك؟ قد يتهمونك ويلفقون ضدك ما يفقدك هذا المنصب، ويدفع الكثير ممن يختلطون بمثل هذه الطبقة من الناس الثمن من دينه.
وقد يجلس في مكان يعرض فيه فيلم علمي -مثلاً- تصحبه الموسيقى، فيأتيه الشيطان، ويقول: كيف تخرج من هذه القاعة؟ وماذا يقول الناس عنك؟ وقد يحدث أن بعض الطلاب في موضع الدراسة قد يضعف واقعه الدراسي، وقد يحصل نتائج سيئة وهو مستقيم، فيبدأ يضع سبب الانتكاس الدراسي على التدين، والدعوة إلى الله، والمستقيمين، وأنهم السبب في نكسته الدراسية، ويقول: إن هؤلاء أشغلوني، وإن الدعوة إلى الله قد أشغلتني، وطلب العلم أشغلني؛ فوصلت إلى هذه الحالة الدراسية السيئة، فما هو الحل حتى يحسن وضعه الدراسي؟ إنه لا بد أن يتخفف من هذه المهام، ولا بد أن يخرج من هذه الأوساط حتى يصبح حراً طليقاً يدرس كما يشاء حتى يتفوق.
ومن المعلوم أن مثل هؤلاء الناس إنما أوتوا بسبب عدم ترتيبهم وتنظيمهم لوقتهم، وعدم استغلال الأوقات في الأشياء النافعة التي يريدون عملها، فعندها يُحمِّل الدين والاستقامة والدعوة إلى الله وطلب العلم والناس المستقيمين السبب في انتكاسته الدراسية، فيترك كل هؤلاء وينحدر بعد ذلك في طريق الغواية.(20/23)
الانشغال بالمال والتجارة عن الدين
ومن الأسباب التي تسبب السقوط: المال والتجارة، كثير ممن اشتغلوا بالتجارة في بداية أمرهم كان مجالهم ضيقاً نسبياً، فتوسعت أعمالهم، وفتح الله عليهم، وهم يستزيدون من هذه الأموال، ويحرصون على الدخول في مجالات تجارية أخرى حتى يمتلأ وقتهم كله بهذه الأشغال وهذه الأموال، وينشغلون عن أنفسهم وأهليهم أن يقوها ناراً وقودها الناس والحجارة، ويزعمون أنهم سينفقون من هذه الأموال والأرباح على المسلمين، وأنهم سيدعمون القضايا الإسلامية، ولكن هذه الدعاوى لا تلبث أن تكشف عما في قلب صاحبها من الخبايا السيئة، ويتضح أن المسألة جشع في طمع، وأن القضية حب للدنيا هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} فتح عليهم ورزقهم {بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة:76 - 77].
أيها الإخوة: أنتم ترون في الواقع كثيرين من أولئك الذين جذبهم بريق المال وطمع التجارة عن تعلم العلم الشرعي وأداء الوظائف الدينية والدعوة إلى الله عز وجل، والمال فتنة {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:28] ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وما قل وكفى خير مما كثر وألهى).(20/24)
الخوف من الفتن والابتلاءات
ومن الأسباب كذلك: الخوف من الابتلاء والمحنة قبل وقوعها أو عند وقوعها، فالأول جبان رعديد الذي يخاف من الفتنة قبل وقوعها، والثاني مسكين، والمسألة تدل على خشية الناس أكثر من الله، ويخاف قطع الرزق، أو يخاف من الاضطهاد، ولكن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] أما كثيرون من الذين يزعمون الاستقامة اليوم فإنهم مع كلام المرجفين والمخوفين الذين يثيرون هذا الكلام وتلك الأخبار المكذوبة أو الصحيحة في الأوساط حتى يرعبون أولئك الذين يريدون أن يستقيموا، فيتصور الإنسان أن الاستقامة تؤدي به إلى الهلاك؛ فيترك الاستقامة لأنه يخشى الناس أكثر مما يخشى الله.(20/25)
ضغط الأهل والأقارب
ومن الأسباب التي تؤدي إلى السقوط والانتكاس: ضغط الأهل والأقارب، فبعض الأهل والأقارب من الفسقة الفجرة يهاجمون وينتقدون، وقد يصل الأمر إلى الضرب والمحاربة والمقاطعة، وإن المقاطعة تؤثر تأثيراً شديداً خصوصاً في قطاع النساء، فإن الرجل إذا قوطع قد يذهب إلى أصحابه ويخرج من بيته، ولكن المرأة المسكينة ماذا تفعل إذا قاطعها أهلها وبقيت وحيدة؟ فالضغط النفسي الذي يسبب الطوق الذي فرضه أولئك من الحصار عليها إذا ما اعتصمت بالله ولم تصبر، فإنها قد تعود وتسقط نتيجة لهذا الظرف النفسي الشديد الذي تواجهه.
والحبس وقطع المصروف، والحرمان من العطية والهبات، أو الطرد من البيت، هذه أمور يفعلها بعض أولي القرابة اضطهاداً للمستقيمين من أبنائهم في البيوت، وسلمان الفارسي رضي الله عنه قد حصل له شيء من هذا، فإنه عندما أراد أن يبحث عن الحق وعلم أبوه أن الابن سيذهب ويخرج ليبحث عن الحق قيده في البيت، وكبله بالسلاسل حتى لا يخرج، ولكن الله أنجاه، فاستطاع الهرب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عنده في قصة طويلة صحيحة، رواها الإمام أحمد وغيره.
وقد تصل الدناءة ببعض الأقارب أن يضعوا المغريات والفتن أمام المستقيمين من أبنائهم وبناتهم، فيجلبون الأفلام السيئة إلى غرف المستقيمين من العائلة، ويضعون الصور والمجلات الخليعة داخل غرفهم.
ويصل الأمر كذلك ببعض الفجرة أن يحرم ابنته من الحجاب، وبعض الأمهات كذلك تحرم ابنتها من الخروج بالحجاب، وقد تسحب الحجاب، وقد تخفيه، وقد تستهزئ بالبنت وهي تسير في الشارع أمام الناس بحجابها.
وبلغ الأمر ببعض النساء أنها كانت لا تخرج ابنتها من البيت إلا وهي كاشفة عن وجهها وشعرها عنوة وبالقوة، فتضطر أن تخرج من باب البيت كاشفة، حتى إذا خرجت من البيت بالكلية أو من العمارة أرخت على وجهها الحجاب مرة أخرى، ولكن الدناءة تصل بتلك الأم أن تجلس على الشرفة لترى كيف تخرج البنت إلى الشارع: هل هي قد تحجبت بعد أن كشفت عن الحجاب أم لا؟ فإذا كانت قد تحجبت فإن الويل والثبور وعظائم الأمور بالانتظار بالمرصاد عند عودة البنت إلى البيت.
وقد يصل الاضطهاد بهؤلاء إلى حالة أن يخجل الأب أو الأم أو الأقارب المستقيمين والمستقيمات أمام الجيران والجارات، وأمام أصدقاء العائلة، ويقولون على مرأى ومسمع: انظروا إلى ابني، والأم تقول: انظروا إلى ابنتي فعلت كذا وكذا، إنها متشددة إنها تتحجب رغماً عني، والأب يسخر من لحية ولده ومن ثوبه أمام الآخرين في المجالس.
وقد يكرهون الولد أو البنت على السفر معهم في الإجازة حتى يعرضوه لأجواء المحنة والفتنة، وقد يصل بهم الأمر إلى منعه من زيارة إخوانه في الله، أو منعه من حضور حلقات العلم حتى ينقطع عن وسط التأثير والهداية! وقد يحاكم الوالد ولده أمام الأقارب في المجلس، ويتهمه بالجنون والوسوسة، ويقول له: إن عاقبة التدين إلى الجنون، ويقص القصص الخيالية أمام الناس في المجلس يقول: انظر إلى فلان إمام المسجد الفلاني، كان حافظاً للقرآن، عالماً، انحرف وصار يستعمل المخدرات وترك الصلاة.
وعلى فرض أن بعض هذه القصص صحيحة وهي نادرة جداً والحمد لله؛ لأن الذين جاهدوا في سبيل الله لا بد أن يهديهم الله السبيل، فيشعرونه بأن التدين وسوسة، وأن عاقبته إلى الخسارة، وأنه سيجن بعد فترة، وأنه سيصيبه الوسوسة، وهكذا ويقولون له: انظر إلى فلان التزم بالإسلام فحصل له كذا وكذا من الجنون، وفلانة التزمت بالحجاب وكذا وامتنعت عن الغناء وسماع المنكرات فحصل لها كذا وكذا من الخبط والانفصام الشخصي والمرض النفسي والعصبي، وكانت نهاية فلان في مستشفى الأمراض العصبية، كن وسطاً مثل أبيك.
وقد يصل الأمر بالاضطهاد إلى الضرب والشتم، وأب كان يتفل ويبصق على ولده وهو خارج من الدار وهو عائد إليها، وربما كنا نظن أن قضية التعذيب والتنكيل مثل الصحابة خاصة بالصحابة أو شيء، قد لا يتصور البعض، حتى سمعنا أن بعض الآباء وبعض الأهالي قد يحمي حديدة ويضرب بها على جسد ابنته مثلاً أو ابنه حتى يرغمه على ترك الاستقامة، وذكرنا كذلك أمثلة بعض الأباء قد يغلق الباب حتى لا يخرج الولد لصلاة الفجر، يغلق الباب بالمفتاح ويأخذ المفتاح معه، وبعضهم قد يضع مزيل الشعر على لحية ولده وهو نائم عداءً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم! الشاهد -أيها الإخوة-: أن هذه الضغوط شديدة، إذا ما يكن هناك صبر وإحساس بقول الله عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214].
إذاً: احتساب الأجر في هذه الأشياء مهم، وكثير من الذين صبروا نجوا والحمد لله؛ لأن الذين من حولهم يئسوا لما رأوا الثبات واستسلموا للواقع، بل إنهم بعد فترة هم الذين يتأثرون بهؤلاء المستقيمين، ويتندمون على تلك الاضطهادات والإيذاء التي أوقعوها بهم.
ومن أشكال الضغط -كذلك-: الرجل يهدد زوجته بالطلاق إذا هي تحجبت، أو تكون المرأة بعد الخطبة غير متحجبة، ثم يهديها الله عز وجل للحجاب، فتتحجب ولما يدخل بها زوجها بعد، فعندما يعلم الزوج الفاسق أن المرأة تحجبت يقول: إما أن تتركي الحجاب أو أفسخ الخطوبة! فهناك إذاً ضغوط كثيرة تمارس.
وهذه قد تؤدي في أحيان كثيرة إلى السقوط وإلى ترك الاستقامة وترك التدين نتيجة هذا الإيذاء النفسي والجسدي:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
والزوجة قد تكون فتنة لزوجها، فقد تشغله عن طاعة الله وذكر الله والعمل لدين الله، وتشغله بشراء الحاجات والاستغراق في لذات الدنيا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تعس عبد الزوجة، تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) وبعض الأولاد يكونون نكبة على آبائهم وأمهاتهم ويشغلونهم عن طاعة الله.
هذه طائفة من الأسباب التي تؤدي إلى الانحراف والانتكاس والسقوط، وهي تقريباً أسباب داخلية للنفس، وكذلك استجابات داخلية لأشياء خارجية تقع، وهناك أسباب أخرى مع طريقة العلاج، ووصف الحالة النفسية التي يعيش بها المنتكس أو الساقط؟ وكيف يكون وضعه؟ وكيف يمكن أن يعود؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في الدرس القادم إن شاء الله في الجزء الثاني من هذه المحاضرة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
اللهم إنا نعوذ بك من الزيغ والزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم واجعل باطننا صالحاً، وأصلح ظواهرنا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأصلحنا ظاهراً وباطناً، واجعلنا من المستقيمين على شرعك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(20/26)
طالب العلم والرحلة
عرض الشيخ في هذا الدرس قصصاً لأئمة تحملوا المشاق واللأواء في سبيل الله من أجل طلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع سنته.
ثم ذكر آداباً لطالب العلم، وما يجب عليه أن يتحلى به.
ثم تحدث عن بعض معوقات طلب العلم، وما الواجب على طالب العلم لكي يرتقي بعلمه إلى الدرجة التي بها يحفظ السنة.(21/1)
رحلة موسى عليه السلام في طلب العلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ففي هذه السلسلة التي كنا قد ابتدأنا فيها عن طالب العلم والتي تضمنت: طالب العلم والمنهج، وطالب العلم والحفظ، وطالب العلم والقراءة، نتكلم أيضاً في هذه الليلة إن شاء الله عن طالب العلم والرحلة.
ولا شك أن الرحلة في طلب العلم من الأمور العظيمة التي هي من أسباب تحصيل العلم، وهذه الرحلة حكمها يختلف بحسب حال الشخص والعلم الذي يريد أن يتعلمه، فإن كان علم فرضٍ لا يمكن تحصيله إلا بالرحلة، وجب عليه أن يرحل ويأثم لو لم يرحل، والله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)) [التوبة:122].
فطلب العلم فريضة على كل مسلم، وقد أوجب الله الخروج لتحصيل العلم الواجب تحصيله، وقد تكون الرحلة مستحبة إذا كانت للزيادة من علمٍ ليس بفرض تحصيله، وقد تكون مكروهةً إذا كان يمكن أن يكون في بلده يحصل العلم فإذا رحل تألم أهله -مثلاً- وأولاده للفراق، وقد تكون الرحلة محرمة إذا كان فيها تضييعٌ للأولاد والأهل مع عدم وجود ما يوجب عليه الذهاب أو إذا قصد بالرحلة حب الظهور والشهرة، وأن يقال عنه: رحل للقاء فلان أو فلان، ويعدد المشايخ والبلدان ونحو ذلك.
والرحلة في طلب العلم -أيها الإخوة- قديمة؛ فإننا نذكر من الأمثلة التي وردت في القرآن والسنة رحلة موسى صلى الله عليه وسلم في طلب العلم على يد الخضر عليهما السلام، كما روى خبر ذلك الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم، باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر عليهما السلام، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66].
وهذا الحديث العظيم الذي ساقه البخاري رحمه الله والذي يفسر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة موسى مع الخضر كما جاء في القرآن، وفي هذه القصة يقول صلى الله عليه وسلم: (بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى: بلى عبدنا الخضر) يعني عبدنا الخضر أعلم، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه، وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال موسى لفتاه: ((قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً)) [الكهف:64] فقص الأثر إلى مكان فقد الحوت فوجد الخضر، ثم كان من شأنهما الذي قص الله عز وجل في كتابه.
وذهب موسى لملاقاة الخضر، وطلب من الله أن ييسر له الرحلة لطلب العلم، ولذلك قال في الحديث: (فسأل موسى السبيل إليه) وأراد من الله أن يبين له الطريق لملاقاة هذا العالم وهو الخضر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في هذا الباب الذي عقده البخاري: هذا الباب معقود للترغيب في احتمال المشقة في طلب العلم؛ لأن ما يغتبط به تحتمل المشقة فيه.
فالعلم شيءٌ عظيم، ولا شك أن هذا العلم العظيم الجميل الجليل تهون المشاق في سبيل تحصيله.
وكذلك في هذا الحديث من الفوائد: ركوب البحر في طلب العلم، بل في طلب الاستكثار من العلم، ومشروعية حمل الزاد في السفر -لأنه أخذ معه الحوت- ولزوم التواضع في كل حال، وخضوع الكبير لمن يتعلم منه، ولهذا حرص موسى على الالتقاء بالخضر عليه السلام، مع أن موسى أفضل من الخضر ولا شك، وموسى من أولي العزم ولا شك، ورغم ذلك لم يمنعه فضله وارتفاع رتبته على الخضر أن يسافر إليه لطلب العلم، ويتحمل المشاق لطلب علم عند الخضر ليس عند موسى، ولا شك أن هذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن صفيه وكليمه الذي كتب له التوراة بيده أنه رحل إلى رجلٍ عالمٍ يتعلم منه، ويزداد علماً منه، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60] كل ذلك حرصاً منه على لقاء هذا العالم، وعلى التعلم منه؛ فلما لقي موسى الخضر سلك معه مسلك المتعلم مع معلمه، وقال له بكل أدب: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66]، أولاً: بدأه بالسلام، ثم بعد ذلك بالاستئذان على متابعته، وأنه لا يتبعه إلا بإذنه، وقال: {عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف:66] وقال: أنا جئت لأتعلم ولم آت لأناقش وأجادل، وأظهر ما عندي، ولا جئت أمتحنك وإنما جئت أستزيد علماً، وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم، فهذا نبي الله سافر ورحل لتحصيل ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، لما سمع أن هناك من هو أعلم منه ما هدأ له بال حتى ذهب، ولم يقر له قرار حتى سافر لمتابعة التعليم.
وهذا في حال الأنبياء رضوان الله تعالى عليهم.
أما من بعدهم فالصحابة قد ضربوا المثل أيضاً في طلب العلم؛ امتثالاً لأمره تعالى لما قال: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122].
ولذلك جاء أنه كان ينطلق من كل حيٍ من العرب عصابة -يعني: مجموعة- فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه ويتفقهون في أمر دينهم ويقولون: ماذا تأمرنا أن نفعل؟ وماذا تأمرنا في عشائرنا؟ ويبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ليقوموا فيهم بأمر الله سبحانه وتعالى.(21/2)
قصص واقعية لأئمة رحلوا في طلب العلم
كان كثيرٌ من الصحابة يرحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الإمام العظيم أبو ذرٍ الغفاري رضي الله تعالى عنه، الذي جاء في قصة إسلامه كما في صحيح البخاري لما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأخيه أنيس: اركب إلى هذا الوادي -اذهب إلى مكة - فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق أنيس حتى قدم مكة وسمع من قول النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أبي ذر، فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وسمعته يقول كلاماً ما هو بالشعر، فقال أبو ذر: ما شفيتني فيما أردت.
فتزود أبو ذرٍ -رضي الله عنه- وحمل شنة له فيها ماء -قربة- حتى قدم مكة والتمس النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقع عليه وعثر عليه وأسلم على يديه وتحمل في سبيل ذلك أذى أهل مكة حتى إنهم ما تركوا حجرة ولا مدرة ولا عظماً إلا ضربوه به، لما علموا أنه جاء يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال: خررت مغشياً عليَّ فارتفعت حين ارتفعت كأني نصبٌ أحمر يعني: من كثرة الدماء التي سالت عليه وبعد ذلك لزم النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه.
وكان الصحابة يرحلون في طلب العلم، فهذا عمر هو وجاره كانا يتناوبان في طلب العلم، يجلس هذا في المزرعة يوماً، وينزل الآخر يوماً ليتعلم، فيجمعان بين مصلحة طلب العلم، وبين القيام على الأموال واستصلاح الأرض والزراعة.
وكذلك فإنه قد جاء في مناقب أهل اليمن في الصحيح عن عمران بن حصين قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فتاهت، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا مرتين) ظنوا المسألة فيها عطايا مادية، قالوا: ما دامت بشرى فتوجد عطايا مادية، فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم: (ثم دخل عليه ناسٌ من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك من اليمن -يرحلون- لنتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان الله ولم يك شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء).
فهذه رحلة أهل اليمن في طلب العلم، ومنهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وله فضلٌ عظيم، وهذا دليلٌ على الرحلة في طلب العلم.
وكذلك فإن هناك أمراً من الأمور العظيمة التي فاتتنا مع الأسف في هذا الزمان وكانت من أكبر أسباب الرحلة في طلب العلم وهي جمع الحديث.
ولا شك -أيها الإخوة- أن من أكبر الأسباب الدافعة لعلماء السلف للرحلة في طلب العلم هي جمع الحديث، فإن القرآن مجموعٌ معلوم، ولا حاجة إلى الرحلة لجمعه؛ لأنه مجموع، أما الحديث فإنه كان قد تفرق في البلدان بتفرق الصحابة، والصحابة علموا من بعدهم، وتفرق الحديث في البلدان فلما أراد العلماء جمع الحديث وكتابة الحديث رحلوا في طلب الأحاديث وجمعها، بل كانوا يرحلون في طلب الحديث لأجل علو السند، فإذا سمعه من رجل قال: من حدثك به؟ قال: فلان بـ الكوفة، فيسافر إلى فلان بـ الكوفة لكي يسمعه من الشيخ الأصلي لكي يكون سنده أعلى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الشيء الذي نتحسر عليه في هذه الأيام؛ لأن جمع الحديث قد انتهى، ولذلك الرحلة في جمع الحديث انتهت بجمع الأحاديث وكتابة الأحاديث وتدوين الأحاديث، ونقول في أنفسنا: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً.(21/3)
رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على رأس الراحلين في سماع الأحاديث، فإن جابر بن عبد الله رحل شهراً إلى عبد الله بن أنيس في حديثٍ واحد، كما أخرج البخاري رحمه الله في الباب المفرد في باب المعانقة، من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً -من أجل الرحلة اشترى بعيراً- ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت: نعم.
فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني.
فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة أي: يعني غير مختتنين- بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء.
فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة) لا بد من تصفية الحسابات الحديث.
وهذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم رغم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا الأحاديث لكنهم يطلبون المزيد والسماع المباشر، وهذا الحديث الذي يرحل من أجله كان السابقون يقدرون له قيمته، ففي الصحيحين من حديث الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: عبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها)، ثم قال الشعبي: خذها بغيرما شيء -خذ هذا الحديث مجاناً- فقد كان الرجل يرحل في مثلها إلى المدينة، أي: يذهب من الكوفة إلى المدينة من أجل حديثٍ واحد.(21/4)
رحلة بعض التابعين في طلب العلم
كذلك فإن التابعين قد ساروا على نهج الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فهذا التابعي الجليل أبو العالية قال: [كنا نسمع الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـ البصرة فما نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم].
وكذلك قال الإمام مالك رحمه الله عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: [كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد].
وعن الشعبي رحمه الله أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: "لعلي ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
وكان الشعبي رحمه الله من كبار الحفاظ، وكان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي -لا يحتاج إلى كتابة لأن العلم كله محفوظ في الذهن- ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً.
قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وفي رواية: كصبر الحمار- لأنه معروف بصبره على الذل وقلة التفقد، أي: أنه لو ما تفقده أحد فهو يصبر، وبكور كبكور الغراب.
كانت العرب تقول: تعجبنا من أربعة أشياء: من الغراب والخنزير والكلب والسنور، فأما الغراب فسرعة بكوره وسرعة إيابه قبل الليل.
وكذلك قال أبو قلابة الجرمي رحمه الله: أقمت في المدينة ثلاثة أيام ما لي بها حاجة إلا قدوم رجل بلغني عنه الحديث، فبلغني أنه يقدم فأقمت حتى قدم فحدثني به.
وكان مكحول رحمه الله عبداً لـ سعيد بن العاص، فوهبه لامرأة من هذيل بـ مصر، فأنعم الله عليه بـ مصر وأعتق، قال عن نفسه: فلم أدع بها علماً إلا حويته فيما أراه -في ظنه- ثم أتيت العراق فلم أدع بها علماً إلا حويته عليه فيما أراه، ثم أتيت المدينة فكذلك، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النقل.(21/5)
رحلة ابن فروخ إلى الأعمش
وكان الإمام عبد الله بن فروخ رحمه الله يرحل ويسافر، قال: لما أتيت الكوفة وأكثر أملي السماع من الأعمش، فسألت عنه -سأل عن الأعمش - فقيل لي: غضب على أصحاب الحديث فحلف ألا يسمعهم مدة.
هذا جاء إلى الشيخ، والشيخ يبدو أن بعض الطلبة قد ضايقوه، فـ الأعمش حلف ألا يسمعهم مدة، مثلاً قال: والله لا أحدثكم شهراً عقوبة لهم حتى يتأدبوا، هذا الطالب جاء إلى البلد فوجد الشيخ فحلف ألا يحدث.
قال: فكنت أختلف إلى باب داره لعلي أصل إليه فلم أقدر على ذلك -ما استطعت- فجلست يوماً على بابه وأنا متفكر في غربتي وما حرمته من السماع، إذ فتحت جارية بابه يوماً وخرجت منه، فقالت لي: ما بالك على بابنا؟ فقلت: أنا رجل غريب، وأعلمتها بخبري.
قالت: وأين بلدكم؟ قلت: أفريقيا.
فانشرحت إلي وقالت: تعرف القيروان؟ قلت: أنا من أهلها.
قالت: تعرف دار ابن فروخ؟ قلت: أنا هو.
فتأملتني ثم قالت: عبد الله؟ قلت: نعم.
وإذا هي جارية كانت لنا بعناها صغيرة، فسارعت إلى الأعمش وقالت: إن مولاي الذي كنت أخبرك بخبره في الباب، فأمرها بإدخاله، فدخلت وأسكنني بيتاً قبالة بيته، فسمعت منه وحدثني وقد حرم سائر الناس إلى أن قضيت أربي منه.(21/6)
رحلة الإمام أحمد في الطلب
وهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى طلب الحديث وهو ابن ستة عشر سنة، وخرج إلى الكوفة في أول سفرة، وخرج إلى البصرة، وخرج إلى سفيان بن عيينة بـ مكة -وهي أول سنة حج فيها- وخرج إلى عبد الرزاق بـ صنعاء اليمن، ورافق يحيى بن معين في هذه السفرة.
قال أحمد رحمه الله: رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور، والشامات، والسواحل، والمغرب، والجزائر، ومكة، والمدينة، والحجاز، واليمن، والعراقين جميعاً، وفارس، وخراسان، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد، وخرجت إلى الكوفة فكنت في بيت تحت رأسي لبنة -وسادة- فحممت فرجعت إلى أمي رحمها الله ولم أكن استأذنتها، ولو كان عندي تسعون درهماً كنت رحلت إلى جرير بن عبد الحميد إلى الري، وخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج لأنه لم يكن عندي شيء.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند.
وكان من تلامذته إسحاق بن منصور الكوسج، وكان فقيهاً عالماً، جمع مسائل عن الإمام أحمد ثم بلغه أن الإمام أحمد رجع عن تلك المسائل التي كتبها عنه، فجمع إسحاق بن منصور المسائل في جراب وحملها على ظهره وخرج راجلاً إلى بغداد وهي على ظهره، وعرض خطوط أحمد عليه في كل مسألة -استفتاه فيها، قال: هذه كتبتها عنك رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ هذه رجعت عنها؟ - فأقر له بها وأعجب أحمد بذلك.
فهذا رحل في التأكد هل العالم رجع عن مسألة أم لم يرجع.(21/7)
رحلة بقي بن مخلد إلى الإمام أحمد
كذلك فإن من أئمة الدنيا وطلاب العلم الكبار والعلماء الأفذاذ بقي بن مخلد رحمه الله، وهذا من علماء الأندلس، وهذا الرجل رحل من الأندلس إلى بغداد لملاقاة الإمام أحمد رحمه الله، وحصلت له قصة عجيبة مع الإمام أحمد، قال فيما يروى عنه: لما قربت من بغداد اتصلني خبر المحنة التي دارت على أحمد بن حنبل.
والمحنة التي جرت على الإمام أحمد معروفة، وكان مما حصل على الإمام أحمد السجن والضرب، والإقامة الجبرية، ومنع من التحديث والتدريس بقي بن مخلد رحل من الأندلس وجاء إلى بغداد لملاقاة أحمد بن حنبل فوجده مفروضاً عليه الإقامة الجبرية والمنع من التدريس ولا يستطيع أحد أن يقترب من بيت الإمام أحمد، فماذا فعل؟ قال: فاغتممت بذلك غماً شديداً، فلم أعرج على شيء بعد إنزال متاعي في بيت اكتريته -في بعض الفنادق- أن أتيت الجامع الكبير -نزل العفش في الفندق وأتى إلى الجامع الكبير- وأنا أريد أن أجلس إلى الحلق وأسمع ما يتذاكرونه، فدفعت إلى حلقة نبيلة، فإذا برجل يكشف عن الرجال فيضعف ويقوي -فلان ثقة، فلان ضعيف وهكذا- فقلت لمن كان بقربي: من هذا؟ قالوا: هذا يحيى بن معين، فرأيت فرجة قد انفرجت قربه -قرب الشيخ- فقمت إليه، فقلت له: يا أبا زكريا رحمك الله رجل غريب، نائي الدار، أردت السؤال فلا تستخفني.
فقال لي: قل.
فسألته عن بعض ما لقيته من أهل الحديث فبعضاً زكى وبعضاً جرح، فسألته في آخر السؤال عن هشام بن عمار؟ فقال: صاحب صلاة دمشقي ثقة وفوق الثقة إلخ، فصاح أهل الحلقة: يكفيك رحمك الله، غيرك له سؤال، فقلت وأنا واقف على قدمي: أكشفك عن رجل واحد -أريد أن أسألك عن رجل: أحمد بن حنبل؟ فنظر إلي يحيى بن معين كالمتعجب، وقال لي: ومثلنا نحن يكشف عن أحمد بن حنبل؟ إن ذاك إمام المسلمين وخيرهم وفاضلهم.
ثم خرجت أستدل على منزل أحمد بن حنبل فدللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إلي ففتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه -ما عرفني- فقلت: يا أبا عبد الله! رجل غريب الدار، هذا أول دخولي هذا البلد، وأنا طالب حديث ومقيد سنة، ولم تكن رحلتي إلا إليك، فقال لي: ادخل الاسطوان -أي: الممر إلى داخل الدار- ولا تقع عليك عين -غيره تحت- فقال لي: وأين موضعك؟ قلت: المغرب الأقصى.
فقال لي: أفريقيا؟ فقلت: أبعد من ذلك، أجوز من بلدي البحر إلى أفريقيا، الأندلس.
فقال لي: إن موضعك لبعيد، وما كان شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: قد بلغني، وأنا قريب من بلدك مقبل نحوك -وصلني الخبر بمنعك من التدريس وأنا داخل على البلد- فقلت له: يا أبا عبد الله! هذا أول دخولي، وأنا مجهول العين عندكم -أنا غير معروف في البلد- فإن أذنت لي أن آتي في كل يوم في زي السؤال -ألبس ملابس الشحاذين- وآتي إلى بيتك فأقول عند باب الدار ما يقولونه -أي: أقول عند باب البيت ما يقوله الشحاذون- فتخرج إلى هذا الموضع، فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث واحد لكان فيه الكفاية.
فقال لي: نعم.
على شرط ألا تظهر في الحلق ولا عند أصحاب الحديث، فقلت: لك شرطك -حتى لا يعرف، ويبقى هذا غريب مجهول- فكنت آخذ عوداً بيدي -مثل الشحاذ- وألف رأسي بخرقة، وأجعل ورقي ودواتي في كمي -التي يكتب بها في كمه- ثم آتي في بابه أصيح: الأجر رحمكم الله.
فيخرج إلي ويغلق باب الدار ويحدثني بالحديثين والثلاثة والأكثر وهكذا حتى اجتمع لي نحواً من ثلاثمائة حديث، فالتزمت ذلك حتى مات الممتحن له - الخليفة الذي امتحن أحمد مات- وولي بعده من كان على مذهب السنة، فظهر أحمد بن حنبل وسما ذكره إلى آخر القصة.
قال فيها: فكنت إذا حضرت حلقته فسح لي وأدناني، ويقول لأصحاب الحديث: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.
أحمد يقول للناس بعدما رجع إلى التدريس وانفك من المحنة: هذا فعلاً يسمى طالب علم، هذا الذي ركب البحر من الأندلس إلى أفريقيا وجاء إلى بغداد، هذا الذي رضي أن يلبس ملابس الشحاذين حتى يتعلم كل يوم حديثاً أو حديثين، هذا يصلح أن يقع عليه اسم طالب علم، فالآن اسم طالب العلم صار اسماً ممتهناً للكل، يقولون: فلان طالب علم، وما فعل شيئاً مما فعله بقي.
قال: ثم يقص عليهم قصتي معه، كان يناولني الحديث مناولة ويقرأه عليه وأقرأه عليه، فاعتللت علة -يقول: مرضت مرضة- ففقدني من مجلسه فسأل عني فعلم بمرضي، فقام مباشرة عائداً إليَّ -هذا كان قد استأجر غرفة في الفندق- قال بقي وهو مريض في الفندق: فسمعت الفندق قد ارتج بأهله وأنا أسمعه، يقول: هو ذاك أبصروه، هذا إمام المسلمين.
الإمام أحمد رفع الله ذكره، كان إذا دخل حارة أو مكاناً أو فندقاً قام الناس وقالوا: جاء أحمد، جاء أحمد، كان بقي مريضاً في الفندق، فلما دخل أحمد ضج أهل الفندق، فبدر إلي صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك، فدخل فجلس عند رأسي وقد احتشى البيت من أصحابه فلم يسعهم؛ حتى صارت فرقة منهم في الدار وقوفاً وأقلامهم بأيديهم، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن! أبشر بثواب الله، أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها، أعادك الله إلى العافية.
ثم خرج عني فأتاني أهل الفندق يلطفون بي ويخدمونني ديانة وحسبة فأحدهم يأتي بالفراش، وآخر باللحاف وبأطايب من الأغذية، وكانوا في تمريضي أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم لماذا؟ لعيادة الرجل الصالح لي أحمد بن حنبل.
وبقي بن مخلد قد رحل إلى مصر والشام والحجاز وبغداد رحلتين: امتدت الرحلة الأولى أربعة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً؛ ولذلك كتب مجلدات.(21/8)
رحلة الإمام أبي حاتم الرازي
وهذا الإمام أبو حاتم الرازي لما ذكر رحلته في طلب العلم، قال: سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ.
الفرسخ أكثر من خمسة كيلو مترات! أي: أن هذا مشى على قدميه أكثر من خمسة آلاف كيلو متر، والمشي على الأقدام غير الرواحل.
يقول: كنت أسير من الكوفة إلى بغداد ما لا أحصي كم من مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، وخرجت من البحر في المغرب الأقصى إلى مصر ماشياً، ومن مصر إلى الرملة ماشياً، ومن الرملة إلى بيت المقدس، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس، ومن طرسوس إلى حمص، وكان بقي علي شيء من حديث أبي اليمان فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل، ومن النيل إلى الكوفة كل ذلك ماشياً، هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين هذا من رحلته رحمه الله تعالى! كذلك فإن ابن مندة رحمه الله أراد أن يخرج إلى الرحلة، فخرج وكتب شيئاًَ كثيراً جداً، وكانت رحلته خمسة وأربعين سنة، رحمه الله تعالى!(21/9)
علماء تعرضوا في رحلتهم للأذى(21/10)
ابن السمعاني وأسره في رحلته
خرج ابن السمعاني من مرو ودخل بغداد سنة أربعمائة وواحد وستين، وناظر الفقهاء، ثم خرج منها إلى الحجاز على غير الطريق المعتاد -وهذه القصة تبين أن بعض العلماء عندما كانوا يرحلون في طلب العلم يصابون بمصائب وتحصل لهم حوادث ومع ذلك يتحملون- فهذا يقول: خرجت على غير الطريق المعتاد فأسرني عرب البادية، وكانوا يأخذونني مع جمالهم إلى الرعي، ولم أقل لهم: إني أعرف شيئاً من العلم، فاتفق أن رئيسهم أراد أن يتزوج، فقال: نخرج إلى بعض البلدان نبحث عن فقيه ليعقد لنا، فقال أحد الأسرى: هذا الرجل الذي يخرج مع جمالكم إلى الصحراء فقيه خراسان، فاستدعوني وسألوني عن أشياء فأجبتهم وكلمتهم بالعربية فخجلوا واعتذروا، فعقدت لهم العقد ففرحوا، وسألوني أن أقبل منهم شيئاً فامتنعت، وسألتهم فحملوني إلى مكة في وسط السنة، فبقيت فيها مجاوراً لـ مكة؛ ولقي الحافظ الزنجاني رحمهما الله.(21/11)
خيثمة بن سليمان وأسر الروم له
كذلك الحافظ محدث الشام خيثمة بن سليمان القرشي هذا أيضاً ركب البحر وقصد جَبَله، فلقيه المركب فقاتلوه، ثم تسلموا المركب من الإمام فأخذوني ثم ضربوني -كان بعض العلماء يقعون في أيدي الروم، بعضهم يقع في أيدي قطاع الطرق وهم في الرحلة، يتعرضون للإهانات- قال: وكتبوا أسماءنا، فقالوا: ما اسمك؟ قلت: خيثمة.
فقال: اكتب حمار بن حمار -إهانة- ولما ضربت سكرت -أي: أصابني الغشي من شدة ألم الضرب- ونمت فرأيت كأني أنظر إلى الجنة -أي: في المنام- وعلى بابها جماعة من الحور العين، فقالت إحداهما: يا شقي! إيش فاتك؟ -إيش اختصار أي شيء- قالت أخرى: إيش فاته؟ قالت: لو قتل كان في الجنة مع الحور العين.
فقالت لها: لئن يرزقه الله الشهادة في عز من الإسلام وذل من الشرك خير له.
ثم انتبهت، قال: ورأيت كأن من يقول لي: اقرأ سورة براءة، فقرأت إلى قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] قال: فعددت من ليلة الرؤيا أربعة أشهر ففك الله أسري.(21/12)
مكابدة الأئمة لأمراض في رحلاتهم
رحل الحافظ الرواسي حتى سقطت أصابعه من شدة البرد؛ لأنهم كانوا إذا مروا من بلدان باردة لا يكون عندهم شيء للتدفئة، فإن الأعضاء تتساقط من شدة البرودة، فبعض العلماء رحلوا حتى سقطت أعضاؤهم من شدة البرد، وكانوا يرحلون ويقابلون المشايخ حتى إن بعضهم لقي ثلاثة آلاف وستمائة شيخ! وكان بعضهم إذا أراد قصد شيخ عجل إليه، فربما سافر ودخل البلد فوجد الشيخ قد مات، قال بعضهم: إنه سافر إلى نيسابور إلى بيت أحمد بن خلف فكان قد مات لتوه، قال لما سمع خبر موته: فكادت مرارتي تنشق!(21/13)
أبو الوقت الهروي يرحل مشياً هو ووالده
كذلك فإن الحافظ أبا الوقت عبد الأول السجزي الهروي رحمه الله تعالى كان من مشاهير الذين طوفوا البلدان، قال أحد تلاميذه: لما رحلت إلى شيخنا ومسند العصر أبي الوقت قدر الله لي الوصول إليه في آخر بلاد كرمان فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع علي من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي.
فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي لما سلمت علي -هذا من تواضعه- يقول: لو عرفتني على الحقيقة ما سافرت إلي ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلاً وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، ثم قال: يا ولدي! تعلم أني رحلت أيضاً لسماع الصحيح ماشياً مع والدي من هراة إلى بوشنج ولي من العمر دون عشر سنين.
هذا أبوه علمه الرحلة في طلب الحديث، أخذه وعمره عشر سنين، قال: فكان والدي يضع على يدي حجرين -يقول: وأنا عمري عشر سنين كان والدي يعطيني حجرين أحملهما في السفر- أمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي أحد الحجرين فألقيه فيخف عني فأمشي، إلى أن يتبين له تعبي، فيقول: هل عييت؟ فأخاف وأقول: لا.
فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع ساعة ثم أعجز، فيأخذ الحجر الآخر فيلقيه فأمشي حتى أعطب، فحينئذ يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين، فيقولون: يا شيخ عيسى! ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج.
فيقول والدي: معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نمشي.
وهكذا كانوا من الصغر يتعلمون على الرحلة في طلب الحديث، فلا غرابة إذاً إذا كبروا أن يفعلوا ذلك.(21/14)
رحلة السمعاني
وكذلك فإن من الذين طوفوا البلدان أبو سعد السمعاني رحمه الله تعالى، نهض برحلات قاربت عشرين سنة، الرحلة الأولى: كان مدتها عشر سنوات، كانت من خراسان شرقاً إلى الشام غرباً، ومن العراق شمالاً إلى الحجاز جنوباً.
وكذلك فإنه لما أراد أن يخرج لم يرض أهله حتى يخرج مع عمه مرافقة، خرج مع عمه وجلس في البلد يطلب العلم، يريد من عمه أن يطفش ويفارق حتى يكمل هو الرحلة، واختبأ في البلد من هنا إلى هنا ولكن عمه بقي ينتظره، ثم إن الابن قد جاء له بالسفر فسافر ومات في سفره عمه والوصي عليه، وأكمل الرحلة رحمه الله تعالى.
ورحلته الثانية: كان مدتها ست سنوات، زار فيها مدن خراسان، ورحلته الثالثة أربع سنوات زار فيها بلاد ما وراء النهر، وزار مدناً كثيرةً جداً فدخلها وكتب عن العلماء فيها! وكان بعض المحدثين ربما بال الدم في طلب الحديث، من شدة الحر والمشي في الهواجر.(21/15)
الرامهرمزي يصف حال الأئمة في رحلتهم للطلب
هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم.
وقد قال الحافظ الرامهرموزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلاد إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين.
فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، ما في من وسائل المواصلات الحديثة هذه، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.(21/16)
وصف الرامهرمزي حال الأئمة في رحلتهم للطلب
هذه طائفة من سير المحدثين الذين رحلوا في طلب الحديث، وقلنا أيها الإخوة في أول الأمر: إن الدافع والداعي للرحلة في طلب الحديث كان موجوداً في البداية بخلاف ما هو عليه الآن، لكن لقيا العلماء وطلب العلم لا زال الدافع إليه موجوداً في عصرنا ولا شك، أما هؤلاء المحدثين فلا بد من ذكرهم والتعويل على سيرهم لأن لهم حق علينا، لا يوجد حديث في الكتب إلا وهم الذين نقلوه، وهم الذين رووه؛ ولذلك كان لا بد من ذكر حالهم.
وقد قال الحافظ الرامهرمزي في شأن أهل الحديث: يرحلون من بلادٍ إلى بلاد خائضين في العلم كل واد، شعث الرءوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاة، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هماً واحداً، ورضوا بالعلم دليلاً ورائداً، لا يقطعهم عنه جوع ولا ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه، بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فلو رأيتهم في ليلهم وقد انتصبوا النسخ ما سمعوا -في الصباح يسمعون وفي الليل ينسخون- وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم فانتبهوا مذعورين، قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا عن مرقدهم ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم ثم عادوا إلى الكتابة حرصاً عليها وميلاً إليها، لعلمهم أنهم حراس الإسلام، وخزان الملك العلام، فلما قضوا من بعض ما راموا أوطارهم انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين.
فنلاحظ من حال هؤلاء أنهم بالرغم من عدم وجود طائرة ولا قطارات ولا سيارات، لكنهم ساروا مشياً وركوباً وعلى الرواحل الأسفار الشاسعة، والسنوات الطويلة، هجروا الأهل والأولاد والبلدان لأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يخرج من بلده فلا يرجع إلا وقد كبر ولده وشب، ولاقوا مصاعب وربما وقع بعضهم في الأسر كما ذكرنا، وكانت الرحلات تأخذ من عمرهم السنين الطوال، هذا يدل على علو همتهم وصبرهم وتحملهم رضي الله تعالى عنهم.(21/17)
فوائد الرحلة في طلب العلم
إذا أتينا للكلام عن فوائد الرحلة في طلب العلم فإن الرحلة في طلب العلم فيها فوائد كثيرة، فإن الإنسان إذا رحل لطلب العلم فإنه يلاقي أهل العلم وعندهم معارف مختلفة فيأخذ عنهم من معارفهم، ويتحلى من فضائلهم وأخلاقهم؛ لأن العلم يتعلم بأمور، منها: الملاقاة، والمحاكاة والتلقين المباشر، فإذا لقي الشيوخ وجلس إليهم فاحتك بهم يصل إليه من خيرهم ويرسخ في نفسه مما ينطبع فيها من أخلاقهم وشمائلهم؛ فيكون هذا الرسوخ قوياً.
وكذلك فإن العلماء قد رحلوا وقرءوا واستفادوا، فالإنسان إذا لقيهم وجلس إليهم يأخذ عنهم فوائد ربما لا يحصلها في الكتب سنين طويلة، أي: ربما تأخذ فائدة عن عالم لو جلست تبحث الكتب سنين ربما لا تجدها، لكن هو قد سبقك إليها وقرأ الكتب قبلك وحازها، فهو يعطيك نتائج سنوات طويلة من البحث، ويهبك بالمجان فوائد وفرائد قد لا تقع عليها في الكتب إذا قرأت، فلذلك فيها اختصار للأوقات، وفيها الحصول على كنوز وفرائد.
وكذلك فإن عندهم ضوابط وتحذيرات وفوائد علمية تجل عن الحصر، ولا شك أن العلم الذي يؤخذ بصعوبة لا يفلت بسهولة، وهذا مجرب، فالإنسان إذا سافر ورحل وصرف المال ليلقى شيخاً يسمع منه ويأخذ منه فائدة يصعب أن تنسى هذه الفائدة، لكن الشيء الذي يؤخذ في البيت وتحت المكيفات بدون تعب من الصحف قد ينسى بسرعة؛ لأنه لم يتعب في تحصيله، فالمعلومات التي يتعب الإنسان في تحصيلها لا تنسى بسهولة، وهذه فائدة مهمة من فوائد الرحلة في طلب العلم.(21/18)
آداب الرحلة في طلب العلم وموانعه
نتكلم الآن عن بعض الآداب المهمة في طلب العلم:(21/19)
الإخلاص لله تعالى
فمنها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، هذا رأس الأمر؛ لأن بعض الناس يقولون: ذهبنا للقاء فلان دخلنا البلد الفلاني جلسنا مع الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، وبعضهم يتباهى بهذا ويتفاخر ويرائي، وربما لا يكون عنده شيء، ربما لم يقل للشيخ: إلا كيف حالك فقط، وهو يرجع ويقول: دخلت البلدة الفلانية ولقيت الشيخ الفلاني، وزرت كذا بلد، ولا شك أن هذا ينافي الإخلاص (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) فالذي يخرج ابتغاء مرضاة الله فالله عز وجل يعطيه من الأجر العظيم، وتكون رحلته هذه سبب لدخوله الجنة.(21/20)
من آداب الرحلة: استئذان الأبوين في السفر
ومن آداب الرحلة في طلب العلم: استئذان الأبوين في السفر لطلب العلم، فأما إن كان العلم الذي يريد طلبه مفروضاً فإنه لا يتوقف طلبه على الإذن، لكن إن كان ليس بفرض فيجب استئذان الوالدين شرعاً، ولا يجوز له السفر إلا باستئذانهما، حتى إن بعض العلماء لما أصيب بالعمى قال: ربما كان هذا العمى بسبب دموع أمي التي ذرفتها بكاءً على فراقي لما رحلت فعوقبت بها، فإذاً لا بد من الاستئذان إذا كان لا يمكن تحصيل العلم الواجب إلا بالسفر، أما إذا كان عنده في بلده من يعلمه العلم الواجب فلا يجوز له أن يسافر إلا بإذن أبويه.
وعن أحمد بن أصرم المزني قال: سمعت رجلاً يسأل الإمام أحمد: طلب العلم أحب إليك أو أرجع إلى أمي؟ وكان السائل غريباً في بلده، فقال: إذا كان العلم فيما لا بد منه أن تطلبه فلا بأس أن تذهب ولو لم توافق أمك.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع: إذا منع الطالب أبواه عن تعلم العلم المفترض فيجب عليه مداراتهما والرفق بهما حتى تطيب له أنفسهما ويسهل من أمره ما يشق عليهم، ثم ذكر باباً بعنوان "ذكر شيء من وجوب طاعة الوالدين وبرهما وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما"، وكان بعضهم يقيم عند أمه حتى إذا ماتت ذهب فرحل في طلب العلم.
كذلك من الأشياء التي قد تمنع الإنسان عن الرحلة ويكون جلوسه شرعياً بسببها: الزوجة والأولاد، عن حميد بن الأسود قال: قال لي سفيان: تجيء حتى نخرج إلى يونس بن يزيد الأيلي.
قال: قلت: أنت فارغ وأنا علي عيال.
أي: أنت لست متزوجاً ولا عندك عيال، وأنا متزوج وعندي عيال لو سافرت وتركتهم ضاعوا، فلا بد من المقام عندهم؛ فليس بعيب إذاً أن يجلس إذا لم يكن هناك من يقوم بأمر أهله في حال غيابه.
قد يمنع طالب العلم من الرحلة: المال؛ لأن الرحلة تحتاج إلى مصاريف تحتاج إلى تذاكر سفر ركوب تحتاج إلى نفقة طريق تحتاج إلى أجرة فندق تحتاج إلى قيمة كتب وأشياء، فلا بد من مادة، وقد لا يجد الطالب مادة للسفر فيكون هذا أحياناً من أسباب امتناعه، والحيلولة بينه وبين الطلب أو السفر.
عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قال لي أبي: لو كان عندي خمسون درهماً كنت خرجت إلى الري إلى جرير بن عبد الحميد، فخرج بعض أصحابنا ولم يمكنني الخروج؛ لأنه لم يكن عندي شيء.
أما إذا أراد أن يخرج للسفر فإنه يستخير الله عز وجل، ويخرج يوم الخميس، ويستحب التبكير كما هي السنة، وأذكار السفر والدعاء في السفر، ويودع الإخوان والمعارف، عن ابن عباس قال: [من السنة إذا أراد الرجل السفر أن يأتي إخوانه فيسلم عليهم، وإذا جاء من سفر يأتيه إخوانه فيسلمون عليه].(21/21)
من آداب الرحلة: التماس الرفيق قبل الطريق
كذلك من آداب السفر في طلب العلم: التماس الرفيق قبل الطريق يلتمس أهل التقى ويحرص عليهم، عن مبارك بن سعيد قال: أردت سفراً فقال لي الأعمش: سل ربك أن يرزقك أصحاباً صالحين؛ فإن مجاهداً حدثني قال: خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني أصحاباً ولم أشترط في دعائي، فاستويت أنا وهم في السفينة، فإذا هم أصحاب طنابير.
أي: معازف.
والتماس الرفيق في الرحلة مهم جداً؛ لأنه يعين ويساعد، وقد خرج موسى ومعه فتاه يوشع، وقال بعض السلف: "التمسوا الرفيق قبل الطريق" وقيل: "ابتغ الرفيق قبل الطريق فإن عرض لك أمر نصرك، وإن احتجت إليه رفدك" -أي: أعانك- وينبغي للطالب أن يتخير لمرافقته من يشاكله ويوافقه على غرضه ومطلبه، لا يذهب شخص إلى الشرق والآخر إلى الغرب، أو رجل عنده غرض غير الغرض الذي خرج له هذا، لأنهما سيختلفان ويختصمان ويؤدي ذلك إلى الافتراق.
ومراعاة الرفيق مهمة، عن الأصمعي قال: الصاحب والرفيق رقعة في قميص الرجل، فلينظر بمن يرقعه.
وإذا خرج مع رفيقه أو رفقائه فإن عليه أن يحسن المعاشرة، ويكون جميل الموافقة في المرافقة في سفر الطلب، فقد ورد في الأثر: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه).
وقال مجاهد: [صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان هو الذي يخدمني].
وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: للسفر مروءة وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على أصحابك، وكثرة المزاح في غير سخط الله؛ لأن السفر فيه مشاق.
وعن صدقة بن محمد أنه قال: "يقال: إنما سمي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال".
وقال عمر بن مناذر: كنت أمشي مع الخليل بن أحمد فانقطع شسعي فخلع نعليه، فقلت: ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفاء.
ما دام أنه انقطع نعليك وأنا عندي نعلين أخلعهما وأمشي معك حافٍ، أواسيك في الحفاء.(21/22)
من آداب الرحلة: اغتنام الفرصة في السماع من المشايخ
ينبغي للطالب إذا نزل بالبلد الذي رحل إليه أن يقدم لقاء من به من المشايخ، ويتعجل السماع خوف اعتراض الحوادث، وقد يمرض هو، قد يمرض الشيخ أو يموت وقد يزول الأمن؛ فلا بد من انتهاز الفرصة، والفرصة كما قيل: سريعة الفوت، بطيئة العودة".
تفوت بسرعة ولا تعود إلا ببطء.
ولا بد من استغلال الغربة في البلد إذا نزل بها، وليعلم أن شهوة السماع لا تنتهي، والعلم كالبحر، فينبغي أن يستغل الفرصة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال).
ومن العلماء الذين كان يضرب بهم المثل في انتهاز الفرصة في السفر في طلب العلم الحافظ أبو طاهر السِلَفِي رحمه الله تعالى، هذا الرجل رجل عجيب! مصنفاته عجيبة ورحلاته عجيبة! بل إن الله سبحانه وتعالى أمد له في العمر فحدث أجيال وأخذ عنه العلم أجيال.
قال عبد القادر الرهاوي: بلغني أنه في مدة مقامه بـ الإسكندرية - أبو طاهر السِلَفِي - ما خرج إلى بستان ولا فرجة غير مرة واحدة، بل كان عامة دهره ملازماً مدرسته، وما كنا ندخل عليه إلا نراه مطالعاً في شيء، وكان مغرماً بجمع الكتب، وما حصل له من المال يخرجه في ثمن الكتب، وكان عنده خزائن كتب فعفنت وتلصقت لنداوة البلد؛ فكانوا يخلصونها بالفأس من كثرة الكتب! وهذا يقول: لي ستون سنة ما رأيت منارة الإسكندرية -وكانت من عجائب الدنيا السبع- إلا من هذه الطاقة، أي: طاقة حجرته في المدرسة، فكان لا يذهب يتفرج على المناظر والآثار وإنما نزل في البلد وجلس يلازم في الطلب والتعلم، ولم ير منارة الإسكندرية إلا من النافذة.
وينبغي عليه أن يدون الفوائد، ويكتب الشوارد، فإن بعض الأشياء التي يقولها الشيخ لا توجد بسهولة في الكتب ولذلك ينبغي أن تكتب، فإذا كان الشيخ يشرح متناً يكتب على حاشية المتن في كتاب يصطحبه، أو كانت فوائد متناثرة يكتبها في دفتر الفوائد، وكان بعض العلماء يصنفون في فوائد رحلاتهم كما صنف صديق حسن خان رحمه الله رحلة الصديق إلى البيت العتيق، وصنف الشنقيطي رحمه الله كتاباً في رحلته إلى مكة وما جمع فيها من فوائد، وهذه الدفاتر -دفاتر الفوائد- لا شك أنها تكون مرجعاً للشخص ذات قيمة لا توصف.
فإذا بلغ الطالب الغرض وحاز في الرحلة ما قصد له وحقق الهدف، فينبغي أن يرجع إلى وطنه ويعجل الرجوع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه فليعجل إلى أهله) لأن الأهل أيضاً لهم حق، ولا يجوز للإنسان أن يترك زوجته أكثر من أربعة أشهر بحال كما ذكر بعض أهل العلم، وبعضهم قال: ستة أشهر وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وبعض الزوجات في بعض البلدان لا تستطيع أن تجلس لوحدها ولو أسبوعاً؛ ولذلك يجب أن يكون الإنسان حكيماً.(21/23)
الرحلة في طلب العلم في عصرنا الحاضر
ننتقل الآن إلى الرحلة في طلب العلم في عصرنا وملاحظات على هذا الأمر، وهذا أمر مهم بل ربما يكون من الأشياء الحساسة في واقعنا نحن الآن.
قلنا سابقاً: إن جمع الحديث قد انقطع، وإن أهم سبب من أسباب السفر هو جمع الحديث وقد انتهى، لكن لا زال هناك في عصرنا فوائد في السفر لطلب العلم كما قال شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز نفع الله به، قال: إن السفر مطلوب، وما زالت فوائده قائمة في لقي علماء أهل السنة الذين صاروا قليلين في البلدان في هذا الزمان.
وقال: لقد صار في الأسفار خطورة؛ لذلك ينبغي عليه إذا أراد أن يسافر أن لا يقع في أشياء تمنعه من مراده.
وكذلك فإن فيها ملاقاة الإخوان وطلبة العلم والمباحثة والمناظرة، فصحيح أن جمع الحديث قد انقطع لكن لا زالت الرحلة فيها فوائد قلة العلماء في هذا الزمن جعلت -أيضاً- الرحلات في طلب العلم جدواها أقل مع الأسف، وهذا أمر محزن.(21/24)
بعض معوقات الرحلة في هذا الزمن
من الأمور والعوائق الموجودة في هذا الزمان عدم التفرغ للرحلة، كان أحدهم ربما يتاجر سنة يكسب قوت سنة تالية فيذهب طيلة السنة التالية مسافراً، تنتهي الأموال فيرجع ينزل السوق يبيع ويشتري ويتكسب قوت سنة ويسافر وهكذا، لكن الآن هل يستطيع أحد أن يفعل هذا بسهولة؟
الجواب
لا.
هناك عوائق كثيرة تحول دونك ودون الكسب، لم تعد التجارة سهلة كالسابق، وكذا الأوضاع لم تعد كما كانت مثل الأيام الماضية، كذلك الآن أنت موظف مثلاً لو جئت تأخذ إجازة كم يعطوك إجازة لتسافر مثلاً؟ تستطيع تسافر ستة أشهر أو سنة أو سنين كما فعل العلماء القدامى؟ هذا صعب جداً، كذلك لو كنت طالباً في مدرسة أو جامعة تستطيع أن تترك المدرسة وتمشي أو تترك الجامعة وتمشي؟ وهذا يفوت عليك أشياء وربما حرمت من الدراسة وفصلت من الجامعة ونحو ذلك.
بالإضافة إلى ذلك: الثغرات الموجودة الآن كثيرة، والمجتمع يحتاج إلى طاقات كثيرة في الدعوة إلى الله وتعليم الناس، وإنكار المنكر، والتربية، وبر الوالدين، وصلة الرحم، الآن أصبحت العوائل من ضيق الأمور المادية يحتاج البيت أن يكون فيه أكثر من واحد يعمل، في كثير من البلدان يعمل الزوج وتعمل الزوجة، وربما يعمل الزوج دواماً إضافياً، ولابد أن يكون في البيت أحياناً أكثر من رجلين حتى يستطاع الوفاء بحاجات أهل البيت.
ثم إن الأمور قد تشعبت في هذا الزمان، حتى الحاجات المآكل والمشارب والملابس والبيوت، مطالب الحياة الدنيا الآن في هذا الزمان تعقدت وزادت وتشابكت الأمور وليست كما كانت في الماضي في سهولة عيشهم وفي يسر أمورهم، كانت الأمور ميسرة كثيراً، حتى الآن السفر هل هو مثلما كان؟ كان سابقاً يركب ويمشي ولا يوقفه أحد على هذه الراحلة أو مشياً اللهم إلا قاطع طريق، أما الآن فيحتاج إلى تأشيرات وجواز سفر، ويحتاج إلى تصديق وأختام وأشياء، وفي الحدود وفي المطارات، فإذاً تعقيد الأمور في هذا الزمان لا شك أنه من العوائق في قضية الرحلة في طلب العلم، وهذا أمر ينبغي أن يحسب له حسابه.
صحيح أنه عندما نسمع سيرة العلماء والسلف الماضين نتحمس، ونقول: نريد أن نفعل مثلهم، لكن ينبغي أن يكون عندنا حكمة وتعقل في وزن الأمور.
لذلك نقول الآن مراعاة للظروف الموجودة أولاً: يا أخي المسلم، ينبغي عليك أن تحصل العلم الذي في بلدك أولاً هذا شيء مهم جداً وقد يكفيك عناءً كثيراً، قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه الجامع: المقصود في الرحلة في الحديث أمران: أحدهما: تحصيل علوم الإسناد وقدم السماع، والثاني: لقاء الحفاظ والمذاكرة لهم والاستفادة منهم، فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة.
وقال بعض أهل العلم: ينبغي للرجل أن يقتصر على علم بلده وعلم عالمه، فلقد رأيتني أقتصر على علم سعيد بن عبد العزيز فما أفتقر معه إلى أحد.
فالأصل إذاً للطالب أن يأخذ العلم عن أهل بلده فلا يذهب إلى البعيد وعنده قريب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
وكذلك أهل العلم -حتى المعاصرين مثل الشيخ الشنقيطي والشيخ سعد بن حمد بن عتيق رحمهما الله وغيرهم من أهل العلم- متى رحلوا؟ بعد أن أنهوا طلب العلم، حصلوا العلم عن العلماء الذين في بلدانهم.
الرحلة إذاً ليست مطلوبة لذاتها وليست لشهوة؛ فإن السفر قطعة من عذاب، وليس من مصلحة أن يترك أسرته وأولاده ويمشي إلا لشيء أعظم.(21/25)
الاقتصار في الطلب على المشهورين من العلماء
أريد أن أنبه إلى قضية مهمة تعرض لبعض الشباب أو الذين يريدون طلب العلم ألا وهي: أن بعضهم يريد الطلب على المشهورين من العلماء، يقول: أريد أن أسافر إلى البلد الفلاني أو إلى الإقليم الفلاني وآخذ على العالم الفلاني، وقد يكون عنده في بلده من طلبة العلم من يسد حاجته، لكن يريد طلباً ربما يكون مقصده حسناً في الذهاب إلى الأعلم وهذا شيء طيب جيد ولا إشكال فيه، لكن أحياناً يكون العالم المشهور ما عنده حلق علم للمبتدئين وإنما حلق العلم التي عنده للمتوسطين أو المتقدمين، وكثير من حلق علم العلماء المشهورين لا تصلح للشباب المبتدئين في الطلب؛ فلذلك لا يركب رأسه ويقول: أريد أن أذهب إلى الشيخ الفلاني وأستأجر هناك وأجلس وأتغرب وأترك البلد، ثم يذهب ويجلس ولا يفهم، ويريد أن يصعد السلم بالمقلوب وهذا خطأ؛ ولذلك إذا استطاع أن يجد في بلده من طلبة العلم من يكون عنده دروساً للمبتدئين يلزم هذه الدروس؛ لأن هذا هو الوضع الطبيعي في التسلسل في التعلم، ويترقى ويتدرج ويحصل ويحصل حتى إذا تمكن وقوي عوده ذهب للقاء الكبار وطاف وسافر ورحل وهكذا.
ولا يستبعد أن يستفيد المبتدئ أبداً من طالب علم أكثر مما يستفيد من عالم من جهة السهولة؛ على أن بعض طلبة العلم ربما يشرحون شرحاً يجمعون فيه من الأقوال والترجيحات والأشياء ما لا يفعله بعض العلماء في تشعبهم، ولذلك إذا وجدت حلق علم وجلسات ذكر للمبتدئين في طلب العلم في بلدهم فهي البداية الطبيعية.(21/26)
التدرج في الطلب
كذلك فإن بعض العلماء كان لهم حلق علم للمبتدئين، مثل العلامة الشيخ/ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله، والشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، كان له حلق للمبتدئين والمتوسطين والمتقدمين، وكان لو أتى شخص من المبتدئين وجلس عند المتقدمين طرده.
ولذلك فإنه لا بد من التدرج، ثم لا بد من تحقيق فكرة مهمة خصوصاً أنها جربت فنفعت وهي: قضية استدعاء العلماء وطلبة العلم الكبار إلى البلد واستضافتهم، لا بد أن يسعى الشباب في هذا ويحمسوا الجهات التي تستطيع أن تستدعي أهل العلم وتطلبهم فيقيم -مثلاً- في البلد شهراً أو شهرين أو ثلاثة أو الصيف أو غيره مثلاً، فيكون مجيئه للبلد مسهلاً على الطلاب الطلب؛ لأنه قد أتى إليهم ووفد عليهم، فمن العيب أن يترك وقد جاء إليهم وذهبوا إلى غيره بغير سبب وجيه.
وقد يكون أحياناً إتيان العالم إلى بلد للتدريس أسهل من ذهاب الطلاب إلى بلده؛ ولذلك فإن السعي لاستجلاب العلماء واستضافتهم لإعطاء دورات لا شك أن هذا من الأفكار المهمة التي ينبغي تنفيذها لحل هذه المشكلة وهي الصعوبة في الرحلة الآن وضيق النطاق.
وكذلك فإن في بعض البلدان قد عملوا مدارس خيرية علمية، فيؤتى بشيخ يعلم الفرائض، وشيخ يعلم اللغة العربية، قد يكون أستاذاً في النحو، قد لا يكون شيخاً مشهوراً، وآخر يدرس -مثلاً- الأحاديث بالتدريج: الأربعين النووية، فإذا أخذ شهادة فيها انتقل مثلاً إلى عمدة الأحكام، ثم ينتقل إلى بلوغ المرام وهكذا، وكذلك في التجويد يأخذ دورة مبتدئة ثم متوسطة ثم متقدمة، ولا بأس أن تدفع الأجور لتفريغ بعضهم أو لبعض طلبة العلم أو أهل العلم لكي يدرسوا في هذه المدارس، وفكرة المدارس الخيرية من أنجح الأفكار، وقد آتت ثماراً عظيمة.(21/27)
السفر لطلب العلم في جامعة شرعية
كذلك من الأمور المهمة -أيضاً-: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية، يتساءل بعض الشباب: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟
الجواب
لا شك في ذلك، أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكننا ننبه على أشياء: أولاً: ينبغي على الإنسان أن يراعي أهله، فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين.
ثانياً: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يذهب ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها.
ثالثاً: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل هناك قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، فقبل أن يذهب لابد أن يكون عنده قواعد، هذا مهم؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، وأقصد بيموت، أي: يبرد وتفتر همته.
رابعاً: لا بد من الاستشارة استشارة من حوله، لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حوله، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه من الذين عندهم علم وتقى، وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، وأنا عملي كذا، وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن لأدرس في جامعة أم أبقى في البلد؟ فالاستشارة من الأمور المهمة جداً في هذا المجال.
كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات، وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي ولا قلب للسماع، ولا مناقشة، ولا اقتناع، وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث والمقررات، فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا هذا الفصل، احذف لنا هذا واحذف لنا هذا، ويتملقون للمحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم ولكنهم يفرحون بذلك، وفي النتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الهدف من ذهابهم للرحلة لطلب العلم.
وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، وبعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت من أجل الهدف فأين تحقيقه واستمراره؟(21/28)
السفر إلى بلاد الكفار لطلب العلم
كذلك فإن من المصائب العظيمة في هذا الجانب: ابتعاث الناس للدراسة في الخارج في بلاد الكفار، ويقولون: هذا طلب علم، ورحلة في طلب العلم، وما هو إلا طلب الفسق والفجور وانحلال الدين والأخلاق، والسقوط في براثن أهل الكفر، والعودة بعقول ممسوخة، وقلوب خاوية، فيرجعون شخصيات أخرى، وهذا ليس بطلب علم أبداً، ولذلك فإن من الأمور المضحكة جداً أن يقال: فلان أخذ العلم الشرعي من جامعة أو شهادته من جامعة السوربون أو من جامعة أوكسفورد، بعيد وبعضهم يقول: هناك عند المستشرقين أبحاث وأشياء، فيرجع بشبهات وأخطاء، وكثير منهم الآن ابتليت بهم الجامعات في بلاد العالم الإسلامي، بل يرجعون للتدريس في الشريعة بعقول مملوءة شبهات في التاريخ الإسلامي ومطاعن في السنة النبوية، بسبب دراستهم على أيدي الكفرة والمستشرقين، يقولون: ذهبنا لطلب العلم، طلب العلم في بلاد الكفار!! وكلامنا كله في طلب العلم الشرعي، أما الذهاب لطلب الأشياء الأخرى فإنه لا يجوز، والأصل عدم جواز الذهاب إلى بلاد الكفار إلا بشروط: أولاً: أن يكون العلم مما يحتاج إليه المسلمون ولا يوجد في بلاد المسلمين.
ثانياً: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، وعقل يدفع به الشهوات، من أجل أن يجوز له السفر.
ثالثاً: لا بد أن يراعي الإنسان الغربة، فبعض الشباب قد لا يتحمل الغربة، وربما ينشغل بأهله وأولاده، كان في البلد عنده أهل زوجته، يضع أهله وأولاده عندهم ويذهب هو يحضر حلقة أو يدرس أو يقرأ فعندما يذهب إلى بلد يتغرب ويقول: لأطلب العلم، ليس هناك أهلها ولا أقرباؤها ولا جيران تعرفهم مثل السابق، ولذلك ينشغل بهم، لأنهم يشغلون رأسه لا بد نذهب ولا بد نخرج ولا بد نفعل، كل شيء هو لا بد أن يفعله، بخلاف ما لو كان في بلده كان ربما ساعده من أقربائه وأقربائها في أمور كثيرة، لذلك لا بد من دراسة الأمور بشكل جدي.
وعلى أية حال أعود وأقول: أيها الإخوة إن بعض الناس يندفعون بحماس في قضية السفر لطلب العلم دون تقديرٍ للثغرة التي يتركها، أو الجو الذي سيذهب إليه، وقد يترك مسئوليات شرعية، وفروض كفاية هو قائم بها، لا يجوز له تركها، وليس هناك من يسدها وراءه، وإنما يتركها ويذهب، ولذلك نعود ونقول: لا بد من استشارة أهل الخبرة وأولي الألباب، والناس الذين يحبون العلم، لا نقول: استشر أناساً يكرهون العلم، لا ينصحوك والله! وإنما استشر أناساً يحبون العلم الشرعي العلم الشرعي هو منهجهم.
كذلك أحياناً قد يكون الطالب في بلد يُستغرب أن يترك البلد، قد يكون في بلد فيه جامعات شرعية علماء ومشايخ في كل الفروع والفنون: في العقيدة والفقه والحديث والأصول والفرائض واللغة، فهذا يرحل لأي شيء؟ نعم قد يوجد بعض طلبة العلم المتقدمين جداً، ربما يوجد شيخ في شنقيط لم يلقه بعد، فهو يريد أن يسافر إليه ربما يجد عنده شيئاً، لكن بعد أن حصَّل العلم القريب.(21/29)
السفر القصير في طلب العلم
هناك فكرة تطرح في هذا، وهي قضية السفر القصير، الأسفار القصيرة، صحيح ربما لا تخدمنا الظروف في قضية الأسفار الطويلة بالسنين والشهور، لكن يمكن أن الشخص يسافر لمدة أسبوع مثلاً وهذا متيسر، ولذلك فإن عندي رأياً أقوله مع شيء من النظر والتأمل إن شاء الله: أقول: طالب العلم إذا كان في بلده يدرس وهو جاد يقرأ ويطالع ويستمع لشروح المشايخ من الأشرطة، ويحضر الدروس الموجودة مثلاً في بلده، يدون المشكلات التي اعترضته في طلب العلم، ويدون الإشكالات التي واجهته، ويدون ما استغلق عليه مما لم يستطع حله في بلده، أو الاتصال مثلاً هاتفياً لإزالته، يكتب هذه الأشياء وهذه الأسئلة والإشكالات، ثم يسافر مثلاً أسبوعاً بعد أن يرتب أمره ويتصل مثلاً بمشايخ، مثلاً: افترض أنه هنا في المنطقة الشرقية فهو يتصل مثلاً ببعض أهل العلم في الرياض، يقول: أستأذنك يا شيخ أن أزورك، حدد لي وقتاً مثلاً ولو ربع ساعة، أو نصف ساعة، أو عشر دقائق، فيسأله عن مشكلةٍ الشيخ متخصص فيها فيزيلها له، فيكون حصّل ما يريده، ويتصل بشيخ آخر فيقول: أتأذن لي يا شيخ أن أقرأ عليك مثلاً فصلاً في الكتاب الفلاني، أو باباً في الكتاب الفلاني، ينهيه في ثلاثة أيام أو في أسبوع، وفي سفرة أخرى ينهي فصلاً آخر، وفي سفرة ثالثة ينهي فصلاً آخر، وهكذا قد ينهي أشياء.
وهذه الطريقة أقول: إنها إن شاء الله طريقة جيدة، وتناسب الواقع الموجود والتعقيدات الموجودة عندنا، وهذه الأسفار القصيرة هي من طلب العلم، وإن شاء الله يسهل الله لك بها طريقاً إلى الجنة، وتشعر بلذة فيها، وهذا يمكن أن تستثمر فيه أوقاتاً، ويحصل الإنسان فيه أجراً كثيراً وعلماً، خذ دفترك معك وقيد المسائل التي اعترضتك واذهب واجلس إليهم واسألهم، لأن الإنسان في بلده قد يكون له ارتباطات وأعمال وأهل وأولاد ووظيفة، والسفر الطويل ليس بمتيسر له، فأقول: هذه الأسفار القصيرة جيدة للغاية ونافعة إن شاء الله لمن جربها.
وبعض الشباب نجدهم الآن والحمد لله يسافر إلى الرياض أو إلى القصيم ويرجع في نفس اليوم لمشكلة عرضت له، يرجع لسؤال في مسألة واحدة، فيجد الجواب ويرجع، وهذا جيد للغاية بل إنه من سنن السلف بل هو مشي على منوالهم.
هذا ما تيسر جمعه وذكره في هذا الموضوع، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والاستقامة والسير على نهج السلف رحمهم الله تعالى.(21/30)
الأسئلة
كذلك من الأمور المهمة -أيضاً-: السفر للدراسة في الجامعات الشرعية، يتساءل بعض الشباب: هل الذهاب للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم؟
الجواب
لا شك في ذلك، أن السفر للدراسة في جامعة شرعية هو من الرحلة في طلب العلم، لكننا ننبه على أشياء: أولاً: ينبغي على الإنسان أن يراعي أهله، فلا يذهب بدون رعايتهم، أو موافقة الأبوين.
ثانياً: إذا كان على ثغرة لا يسدها إلا هو فلا يذهب ليستزيد وعنده ثغرة لابد من سدها.
ثالثاً: هناك أشياء مهمة في بناء النفس ينبغي أن تحصل هناك قضايا تتعلق بالإخلاص والتربية على الأدب، فقبل أن يذهب لابد أن يكون عنده قواعد، هذا مهم؛ لأنه قد يذهب وينحرف في القصد، أو يذهب ويموت، وأقصد بيموت، أي: يبرد وتفتر همته.
رابعاً: لا بد من الاستشارة استشارة من حوله، لأن هذه القضية تختلف باختلاف أحوال الشباب والناس، واختلاف الواقع الذي حوله، ولذلك ينبغي أن يستشير أقرب الناس إليه وأعرفهم بواقعه من الذين عندهم علم وتقى، وعندهم عقل راجح، يقول: وضع أهلي كذا، ووضعي في الدراسة كذا، ووضعنا الاجتماعي كذا، ووضعنا المادي كذا، وأنا عملي كذا، وما أقوم به من المعروف كذا، هل يناسب أن أسافر الآن لأدرس في جامعة أم أبقى في البلد؟ فالاستشارة من الأمور المهمة جداً في هذا المجال.
كذلك فإن بعض الشباب الذين يذهبون للدراسة في بعض الجامعات الشرعية يكون قصده في البداية طلب العلم، فإذا ذهب إلى تلك الجامعة وسجل فيها وبدأ يدرس المقررات والكتب والمناهج ويمتحن فيها تنقلب النية عنده من طلب علم إلى طلب شهادة، وينسى الحماس الذي خرج به من بلده، وينسى النية التي عقد عليها العزم من بلده، وتصبح القضية الآن اجتياز امتحانات، وكثير من هؤلاء الشباب بالتجربة التي رأيناها تبرد هممهم، ويصبحون أصحاب أغراض دنيوية من شهادة ونحوها، ويأتون إلى الفصول الدراسية وليس عندهم وعي ولا قلب للسماع، ولا مناقشة، ولا اقتناع، وكذلك فإنهم يسعون إلى إسقاط المباحث والمقررات، فيقولون: يا أستاذ خفف علينا، احذف لنا هذا الفصل، احذف لنا هذا واحذف لنا هذا، ويتملقون للمحاضرين والأساتذة، وقد ينجحون عند بعضهم فيسقطون عنهم فصولاً، وهذا يضرهم ولكنهم يفرحون بذلك، وفي النتيجة النهائية فإنهم لا يحققون الهدف من ذهابهم للرحلة لطلب العلم.
وبعضهم قد يكمل الدراسة فيحصل على الشهادة العالية والعالمية والماجستير والدكتوراه، وبعد ذلك ينتهي طلبه، وبعدها يتعين مدرساً وينتهي طلبه، ولا يواصل البحث، فنقول: أنت رحلت من أجل الهدف فأين تحقيقه واستمراره؟(21/31)
كيفية تحصيل العلم الشرعي
السؤال
هل تعتقد أن قراءة كتب الفقه والحديث وحضور المجالس والدروس الفقهية لبعض المشايخ يكفي في تحصيل العلم؟
الجواب
هذا جزء من تحصيل العلم، لكن أيها الإخوة: القراءة الجادة والاهتمام الشخصي هذا هو الذي عليه المعول أكثر، وما يشكل عليك قيد واسأل، مع الطلب في الحلق، ولا بد من القراءة والمراجعة، بل العلماء قالوا في الرحلة في طلب العلم: إذا رجع إلى بلده جمع محفوظاته ومكتوباته وراجعها، لأن بعض الناس قد يرحلون يجمعون فوائد لكن يجعلونها في دفاتر على الرفوف، لا يراجعونها بين فترة وأخرى، فلذلك تُنسى، فما فائدة الرحلة إذا لم يكن هناك مراجعة بعد الرحلة لما حصله في الرحلة؟ والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.(21/32)
طالب العلم والحفظ
وضح الشيخ في هذه المادة أهمية الحفظ في طلب العلم، وماهيته وميزاته، وأنه نعمة من الله قد تكون فطرة وقد تكتسب، ثم تطرق الشيخ إلى الأمور المساعدة على الحفظ واستفاض فيها مبيناً أهمية التكرار وإخلاص النية، والعمل بالمحفوظ، والمذاكرة مع الأصحاب، والتعليم، والمداومة على الحفظ والصلاح وفعل الخيرات وترك المحرمات، والتقلل من الدنيا، والحجامة، والأدعية والأذكار ورفع الصوت بالقراءة والتمهل بها إلى غير ذلك من الأمور المساعدة على الحفظ.
ثم بين وظائف طالب العلم، وما هي الأوقات والأماكن المناسبة للحفظ، مذيلاً إياها بذكر جملة من الأبحاث المتعلقة بالذاكرة، وما هي الأوليات في الحفظ، ثم ختمها بجملة من أخبار الحفاظ.(22/1)
الحفظ نعمة وعبادة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأصلي وأسلم على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه والتابعين.
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا الدين، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي جعل كتابه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فحفظ الله كتابه بأمور كثيرة: منها صدور أهل العلم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
وحفظه بحفظ شرحه وبيانه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لما ألهم أوائل هذه الأمة حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تبين كلام الله.
وقد أنزل الله هذا الكتاب على أمة أمية، وهم العرب الذين ما كانوا يعرفون القراءة والكتابة إلا في النادر، وكانت معيشتهم في جو من الصفاء، جعلت قرائحهم متقدة، وأذهانهم صافية، ولذلك كان الحفظ عليهم سهلاً، حتى إنهم كانوا يسمعون الخطبة والقصيدة الطويلة فيحفظون ذلك، وما روي أنهم استعادوا الخطيب والشاعر شيئاً من كلامهما.
فصفاء أذهانهم وصِحّت أجسادهم، ونقاوة البيئة وقلة الكتابة فيهم كانت من العوامل التي ساعدت على شدة الحفظ، فأنزل الله الكتاب على تلك الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب، وهدى الله من العرب حملة كتابه ووراث نبيه، الذين تلقوا عن النبي الكريم العلم فحفظوه، ثم أدوا ذلك كله إلينا بأمانة، فرضي الله تعالى عنهم وعمن نقل عنهم، ورضي الله عن الحفاظ الذين دونوا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصلت إلينا كاملة متقنة.
والحفظ من النِعم التي أنعم الله بها على الإنسان، ولو لم يكن الإنسان يحفظ لكان في حياته همٌ وصعوبة بالغة، ولكن الله أنعم علينا بهذه الذاكرة التي نحفظ بها.
إن موقع الحفظ في الدين موقع عظيم، ويكفي شرفاً الحافظ لكتاب الله أن الله جعله من أسباب حفظ كتابه، وأن الحافظ من أهل العلم، وينبغي أن يضيف إلى علمه بحفظ الكتاب علماً بفقه الكتاب.
وقد كان حفظ الكتاب وحفظ الحديث من العبادات العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل يُريد الزواج ولم يكن يملك ولا خاتماً من حديد، لم يأمره عليه الصلاة والسلام بالاستدانة، وإنما قال له ميسراً: (ماذا معك من القرآن؟) لما طالب بالمهر وليس عند الرجل شيء، قال له عليه الصلاة والسلام في نهاية الأمر: (ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا، -عدها- قال: أتقرأهن عن ظهر قلب؟ -هذا الحفظ- قال: نعم، قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فكان حفظه سبباً في تيسير زواجه.
والكلام في فوائد الحفظ كثير، ولكن قلنا: إن الحافظ له أجر عظيم، ويكفي في ميزاته أن جسد الحافظ لا تمسه النار يوم القيامة، فإن القرآن إذا جُمع في إهاب -وهو جلد الحافظ، نفس الحافظ التي بين جنبيه- لا تمسه النار، طالما كان قائماً بأمر الله.(22/2)
ماهية الحفظ وميزاته
وحفظ بعض كتاب الله أيضاً له ميزات، فنحن نعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال)، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون هذا الكتاب، كما كان الله عز وجل قد يسر لنبيه حفظه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:17 - 18].
وكان جبريل يراجع حفظ النبي عليه الصلاة والسلام كل سنة مرة، وفي السنة التي تُوفي فيها صلى الله عليه وسلم راجع معه الحفظ مرتين.
وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ندب لحفظها، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب العلم: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويخبروا من وراءهم.
ولذلك جاء في الحديث أنه علمهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن يُعطوا من المغنم الخُمس، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وهي بعض الأواني التي إذا وضع فيها الشراب صار مسكراً، وربما قال: الموقير، وقال -وهذا هو الشاهد-: (احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم).
أما الحفظ فقد سأل مهنا رحمه الله أحمد: ما الحفظ؟ قال: الإتقان هو الحفظ، وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: الحفظ الإتقان.
وسنبين إن شاء الله في هذا الدرس أموراً تتعلق بالحفظ نظراً لأهميته في طلب العلم، وطالب علم بغير حفظ لا يساوي شيئاً، ولعلنا نتكلم بإذن الله عن أهمية الحفظ بالنسبة للكتابة، وكذلك بعض الطرق والوسائل في الحفظ، والأمور المعينة على الحفظ، وأوقات الحفظ، وأماكن الحفظ، وذكر بعض سير الحفاظ فيما يتعلق بالحفظ، ونورد بعض الفوائد من النظريات الحديثة المتعلقة بالحفظ والذاكرة والنسيان.(22/3)
أهمية الحفظ في طلب العلم
ينبغي لطالب العلم أن يكون جُل همته مصروفاً إلى الحفظ والإعادة، فلو صح صرف الزمان إلى ذلك كان الأولى، أهم شيء لطالب العلم أن يحفظ، غير أن البدن مطية، وإجهاد السير مظنة الانقطاع، وكان الخليل بن أحمد رحمه الله يقول مبيناً أهمية الحفظ لطالب العلم: الاحتفاظ بما في صدرك أولى من حفظ ما في كتابك، واجعل كتابك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة.
وقال عبد الرزاق رحمه الله: كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام فلا تعده علماً.
لأن الصفحات والكتب التي فيها ذكر الله لا يُمكن أن تدخل الحمام، لكن الحفظ الذي يكون في صدر الحافظ يذهب معه في كل مكان.
وقال هبة الله البغدادي:
علمي معي أينما همت يتبعني بطني وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق
وقال عبيد الله الصيرفي:
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر
وقال ابن شديد الأزدي:
أأشهد بالجهل في مجلس وعلمي في البيت مستودع
إذا لم تكن حافظاً واعياً فجمعك للكتب لا ينفع
فبعض الناس يكثرون من شراء الكتب، وترى كثيراً من الشباب إذا صارت الفرصة في معارض الكتاب اشتروا الكتب، وهذا أمر مهم لا يمكن التزهيد فيه؛ أن يحوي المراجع عنده، ويشتري من الأمهات والكتب المهمة والرسائل النافعة ما يعينه على الطلب والبحث، ولكن الأهم من هذا كله هو الحفظ.
وبعض الأغبياء يهونون من أمر الحفظ، فإذا رأوا شخصاً حفظ صحيح البخاري مثلاً، قالوا: وماذا استفادت الأمة لما زادت نسخه من صحيح البخاري؟ فهؤلاء ما علموا أهمية الحفظ ولا علموا فائدته.
الحفظ: هو الذي يجعل العلم في صدرك فتستفيد منه، فإذا احتجت إليه كان معك؛ في تعليم، وفي دعوة، وفي نصيحة وفي فتوى، حتى في تحضير الدروس، وعدد من العلماء الكبار لا يحضرون الدروس؛ لأن العلم في صدورهم محفوظ، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، لم يكن يحضر دروسه مطلقاً؛ لأن العلم في صدره مستودع، ومتى احتاجه وجده، فلو كان في سفر ليس معه مكتبته ولا مراجع فعنده العلم في صدره.(22/4)
الأمور المساعدة على الحفظ
والحفظ كما لا يخفى أمر صعب، قال ابن الجوزي رحمه الله: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار له، خصوصاً تكرار ما ليس في تكراره وحفظه حظ مثل مسائل الفقه، بخلاف الشعر والسجع فإن له لذة في إعادته وإن كان صعباً؛ لأن النفس تلتذ به مرة ومرتين، فإذا زاد التكرار صعُب عليها، ولكن دون صعوبة الفقه وغيره من المستحسنات عند الطبع، فترى النفس تخلد إلى الحديث والشعر والتصانيف والنسخ؛ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره فيكون هناك تجديد، فهو في المعنى كالماء الجاري لأنه جزء بعد جزء، لكن الحفظ ما هو إلا إعادة لشيء موجود قد لا يشعر الشخص وهو يعيده بشيء جديد.
وهذا من أسباب الملل، وهذا مما يبين صعوبة الحفظ، ولكن الحفظ لا يأتي إلا بالمران، ومجاهدة النفس، قال الزهري رحمه الله: إن الرجل ليطلب وقلبه شعب من الشعاب -يطلب العلم وقلبه شعب صغير- ثم لا يلبث أن يصير وادياً لا يوضع فيه شيء إلا التهمه.
أول الحفظ شديد يشق على الإنسان، فإذا اعتاده سهل عليه، وكان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق، إلا القلب فإنه كلما أُفرغ فيه اتسع.
وقال بعض أهل العلم: كان الحفظ يثقل عليّ حين ابتدأت، ثم عودته نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن
قال: حفظتها في ليلة.
وهي قريب من مائتي بيت، وكانت هذه انطلاقة.(22/5)
تكرار المحفوظ
ومن أعظم الأمور التي تُساعد على الحفظ، بل هو السبب الحقيقي في الحفظ، بل لا يُوجد سبب يفوقه أصلاً -التكرار، مهما حاولت أن تأتي بوسيلة أو سبيل للحفظ لا يمكن أن تأتي بأعظم ولا أحسن ولا أفضل، ولا أشد أثراً ولا أعظم مردوداً من التكرار، فالتكرار هو الحفظ، وهو الوسيلة الحقيقية للحفظ.
وتكرار المحفوظ وإعادته على النفس يحصل به الإتقان، وهكذا كان العلماء يقرءون المرات الكثيرة، يعيدون مراراً وتكراراً حتى يحفظوا، قال بعضهم: سمعت صائحاً يصيح: والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، والأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، ساعة طويلة، فكنت أطلب الصوت إلى أن رأيت ابن زهير وهو يدرس مع نفسه من حفظه حديث الأعمش.
وعن معاذ بن معاذ قال: كنا بباب ابن عون، فخرج علينا شعبة وعقد عقداً بيديه جميعاً، فكلمه بعضنا، فقال: لا تكلمني فإني قد حفظت عن ابن عون عشرة أحاديث أخاف أن أنساها، فهو لازال يعيد ويكرر حتى يحفظ.
وكان أبو إسحاق الشيرازي يعيد الدرس مائة مرة، إذا أراد أن يحفظ درساً أعاده مائة مرة.
وكان الكيا من فقهاء الشافعية يعيده سبعين مرة.
وكان الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول: لا يحصل الحفظ لي حتى يُعاد خمسين مرة.
لابد من الإعادة، لا تفكر -يا طالب العلم- بأن تأتي بوسيلة أخرى غير التكرار والإعادة مهما اجتهدت وصعدت ونزلت، وبحثت ونقبت، لا يمكن أن تأتي بوسيلة للحفظ غير الإعادة والتكرار، قد تختلف وسائل الإعادة والتكرار، لكن يبقى الأصل هو الإعادة والتكرار، ولما سُئل البخاري رحمه الله تعالى عن سبب حفظه، قال كلاماً معناه: لم أجد أنفع من مداومة النظر، الإعادة ومداومة النظر هما سبيل الحفظ.
وحُكي أن فقيهاً أعاد الدرس في بيته مرات كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد والله حفظته أنا، فقال: أعيديه، فأعادته، فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز! أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: أنا أكرر الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك.
فلابد من تكرير الكلام مراراً وتكراراً، هذا هو سبب الحفظ.
وكلما كان التكرار أكثر ثبتت قاعدة الحفظ، فلا يحتاج إلى أوقات أخرى لاسترجاعه عند النسيان، التأسيس البطيء الذي يكون فيه التكرار الكثير قاعدة للحفظ.
ثم لابد من المراجعة المستمرة بين الحين والحين، لأنهم قالوا: إن القلوب تربٌ والعلم غرسها، والمذاكرة ماؤها، فإذا انقطع عن التُرب ماؤها جف غرسها، فلابد من الإعادة والمراجعة.
ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال -أشد هرباً من صدور الرجال- من النعم من عقلها) أي: الإبل التي تحاول دائماً التفلت.
ولذلك تعاهدوا القرآن: أي كرر وراجع، ثم كرر وراجع، ثم كرر وراجع، دائماً، هذا هو الحفظ.
وكان بعضهم لا يخرج كل غداة حتى ينظر في كتبه، ويتعاهد المحفوظ دائماً، ومراجعة الحفظ السابق أولى من حفظ شيء جديد، لأن المحافظة على رأس المال أولى من جمع الأرباح.
وقال الخليل بن أحمد: تعاهد ما في صدرك أولى بك من أن تحفظ ما في كتبك، ولذلك بعض العلماء كان لهم أوقات مراجعة؛ لا يخرج لأحد، ولا يسمح لأحد أن يأتي إليه، ولا يُعطي موعداً أبداً في وقت المراجعة؛ من السابقين واللاحقين، ومن المعاصرين على سبيل المثال الشيخ علي الزامل النحوي اللغوي، العلامة في القصيم، له بعد الفجر وقت يومي يراجع فيه حفظه من القرآن، وهو ضرير ومعه رجل ضرير آخر يراجع معه، ولا يمكن أن يقبل موعداً أو درساً في هذا الوقت؛ لأنه وقت مراجعة.(22/6)
مذاكرة المحفوظات مع الإخوان
ومن الأمور المهمة في الحفظ: مذاكرة المحفوظات مع الإخوان، والمذاكرة مع الأصحاب، قيل إن ابن عباس كان يقول: يا سعيد! اخرج بنا إلى النخل، ويقول: يا سعيد! حدث، فأقول: حدث وأنت شاهد، قال: إن أخطأت فتحت عليك.
قال إبراهيم رحمه الله: إنه ليطول عليّ الليل حتى ألقى أصحابي فأذاكرهم، يشتاق إلى أصحابه لكي يتذاكر معهم العلم، يقرأ عليهم ويقرءون عليه، ويسرد عليهم ويسردون عليه.
وكانوا أيضاً في هذه التسميعات وهذا السرد المزدوج كان ينبه بعضهم بعضاً على أشياء، ويمتحن بعضهم بعضاً في أشياء، قال أبو بكر بن أبي داود لـ أبي عليّ النيسابوري الحافظ: يا أبا علي! إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم من هم؟ وهذا سند فيه ثلاثة أو أربعة أسماؤهم متشابهة، من هم؟ فقال: إبراهيم بن طهمان عن إبراهيم بن عامر البجلي عن إبراهيم النخعي، فقال: أحسنت.
وينبغي للعاقل أن يكون جُلّ زمانه للإعادة، خصوصاً الصبي والشاب، فإنه يستقر المحفوظ عنده استقراراً لا يزول، وكان من فعل بعض السلف في إعادة العلم ما يلي، وعلى رأسهم الزهري رحمه الله: روي عن الزهري أنه كان يرجع إلى منزله وقد سمع حديثاً كثيراً، فيعيده على جارية له من أوله إلى آخره كما سمعه، ويقول لها: إنما أردت أن أحفظه.
وكان غيره يعيد الحديث على الصبيان، يجلسهم في الطريق ويسرد عليهم حفظه، لأجل الاسترجاع، إذا لم يلق أصحابه ليحفظ معهم فإنه يسرد على النساء والصغار.(22/7)
العمل بالمحفوظ
ومما يعين على الحفظ: العمل بما تحفظ، وهذا من أهم الأمور، وهو ثمرة العلم، ولذلك فإن الله عز وجل نبهنا على العمل مراراً في القرآن الكريم، وأخبر أن العاملين هم الناجون الفائزون يوم الدين، وأن الإثم في ترك العمل بالعلم، وقد تواترت على ذلك الآيات والأحاديث والشواهد الكثيرة في أهمية العمل بالعلم، وألف العلماء وصنفوا في اقتضاء العلم العمل.
ولاشك أن العمل بالعلم يزيد الحفظ (استعمال الآثار وتوظيف السنن) الإمام أحمد رحمه الله ما كان يضع حديثاً في مسنده إلا ويعمل به، حتى إنه احتجم وأعطى الحجام ديناراً، لأجل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إسماعيل بن إبراهيم بن مُجمع بن جارية يقول: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، فإذا عملت بالعلم كان ذلك سبباً عظيماً للحفظ.(22/8)
تعليم العلم
ومن أسباب الحفظ: تعليم العلم للناس، ونشره بينهم، وقد قدمنا قبل قليل قصة ابن شهاب الزهري رحمه الله أنه كان يسمع العلم من عروة وغيره، فيأتي إلى جارية له وهي نائمة فيُوقظها، فيقول: اسمعي، حدثني فلان كذا وفلان كذا، فتقول: مالي ولهذا الحديث؟ فيقول: قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعته الآن فأردت أن أستذكره.
وكان يجمع الأعاريب فيحدثهم، يريد أن يحفظ.
الداعية إلى الله إذا حفظ العلم فإنه يؤديه إلى الناس، وتعليم الناس زكاة العلم، تبليغه إلى الناس، وكلما بلغته كلما رسخ في ذهنك؛ لأن التبليغ نوع من التكرار والإعادة، ولذلك فإن العلماء الذين يفتون الآن، يحفظون أدلة الفتاوى، ففتواهم من أسباب حفظهم للأدلة، رغم تقدم أسنانهم لكنهم كثيراً ما سردوه على مسامع الناس، لقد ألقوه إليهم وسئلوا فأجابوا، فمن كثرة الإلقاء والإجابة عن الأسئلة رسخ العلم في الأذهان.(22/9)
المداومة على الحفظ ولو على القليل
ومن القواعد المهمة في الحفظ: المداومة ولو على القليل، ولعل من الحكمة في نزول القرآن منجماً ومفرقاً، ولم ينزل جملة واحدة أنه أَثبتُ في الحفظ، فحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] وكانت طريقة الصحابة رضي الله عنهم أخذ عشر آيات يحفظونها ويفقهونها ويعملون بها، ثم يأخذون العشر التي تليها وهكذا، وتعلم ابن عمر سورة البقرة في ثمان سنين وقيل غير لك.
قال حماد بن أبي سليمان لتلميذ له: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها.
وكان أحمد بن الفرات لا يترك كل يوم إذ أصبح أن يحفظ شيئاً وإن قلّ.
فإذاً: لابد من المداومة على الحفظ؛ لأن بعض الناس قد يحفظ أياماً ويترك أسابيع لا يحفظ فيها، وهذه الذاكرة كلما استمر المران كلما ازدادت قابليتها للحفظ أكثر، وإذا تركتها انكمشت، ولذلك فإن المداومة مهمة، والمداومة المداومة على الأعمال الصالحة أصل من أصول الشريعة، كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً، وكان حفظك له ثابتاً كثرت المنفعة به ولو كان قليلاً، ولو قرأت أشياء كثيرة جداً، أنهيت كتباً، لكن ما قرأت غير محفوظ لديك قلّت المنفعة، مهما كانت قراءتك واسعة، إذا كانت هذه القراءة غير محفوظة قلّت المنفعة، ولو كان الشيء الذي اطلعت عليه قليلاً، لكنه محفوظ متقن، فإن المنفعة كبيرة.(22/10)
إخلاص النية
ولاشك أن من أكبر الأسباب المعينة على الحفظ وينبغي البدء به، ولكن حتى لا نكون في شيء من التكرار الذي يقلل أهمية هذا الأمر أحياناً فنقوله الآن: وهو النية في الحفظ، ما هي النية؟ هل هي للمباهاة؟ هل هي لمناقشة العلماء وإظهار العلم، أو لمماراة السفهاء؟ أو لتصرف وجوه الناس إليك؟ إن كانت هذه هي النية فالنار النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كان الإنسان أخلص لله كان حفظه أفضل وأشد بركة، قال ابن عباس: [إنما يحفظ الرجل على قدر نيته].(22/11)
الصلاح وترك المحرمات
ومن الأمور المهمة في الحفظ: الصلاح وترك المحرمات، سأل رجل مالك بن أنس رحمه الله: يا أبا عبد الله! هل يصلح لهذا الحفظ شيء؟ قال: إن كان يصلح له شيء فترك المعاصي، وهذا معنى الأبيات التي تنسب إلى الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم فضل وفضل الله لا يؤتاه عاصي
ولهذين البيتين ألفاظ كثيرة، فالمعاصي كما ذكر ابن القيم رحمه الله تُذهب العلم وتُنسي المحفوظات؛ لأن المعصية لها شُؤم، وشُؤم المعصية ينعكس على العلم المحفوظ، وعدد من الناس حفظوا كتاب الله ثم نسوه، من أسباب نسيانهم لآيات كثيرة من كتاب الله المعصية، فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، ولما قست القلوب ذهبت الأشياء المحفوظة، وضيع اليهود والنصارى كتاب الله بالمعاصي، وقد وكل حفظه إليهم: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة:44] فضاع، وكان من عقاب الله لهم: ضياع هذه الكتب منهم بسبب معاصيهم، وقد ذكر الله هذا في كتابه.
ولذلك كلما كان الطالب أتقى لله كان حفظه أحسن، وقد يوجد نماذج من العصاة يحفظون، ولكن حفظهم لا بركة فيه، وقد يكون حفظهم من باب الاستدراج لهم، ولا تجد فيه نفعاً، لكن أهل التقى حفظهم نافع ومبارك.(22/12)
فعل الطاعات
ومن أسباب الحفظ: الطاعات؛ صلاة الليل وقراءة القرآن من أسباب الحفظ، حتى قال بعض العلماء: ليس شيء أزيد للحفظ من قراءة القرآن نظراً، وقد جاء في الحديث الحسن: (من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف) فالقراءة في المصحف نظراً وغيباً وتدبراً من الأشياء المعينة على الحفظ.
ولاحظ أن الحافظ لكتاب الله يسهل عليه حفظ ما بعده، حفظ القرآن يُسهِّل ويُذلِّل الصعوبات في الحفظ، لأن الإنسان إذا جمع القرآن وتذلل لسانه بهذه الآيات، والله ييسر هذا الأمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فإن حفظ ما بعد القرآن يسهل بسبب حفظ القرآن.(22/13)
التقلل من الدنيا
ومن أسباب الحفظ: التقلل من الدنيا، وأنتم تذكرون أن أبا هريرة رضي الله عنه كان متقللاً من الدنيا، وكان ذلك من أهم أسباب حفظه، حتى عدها ابن حجر رحمه الله فائدة في حديث أبي هريرة، قال: وفيه أن التقلل من الدنيا أمكنُ للحفظ.
فإذاً: ترك المعاصي وفعل الطاعات من أسباب الحفظ، وفعل المعاصي من أسباب نسيان العلم، قال عبد الله: إني لأحسب الرجل ينسى العلم بالخطيئة يعملها.
وقيل لـ سفيان بن عيينة: بم وجدت الحفظ؟ قال: بترك المعاصي.(22/14)
الحجامة
ومن أسباب الحفظ التي وردت في الأحاديث: الحجامة، كما جاء في الحديث الحسن عند ابن ماجة والحاكم وابن السني وأبي نعيم مرفوعاً من حديث ابن عمر: (الحجامة على الريق أمثل، وفيها شفاء وبركة، وتزيد في الحفظ وفي العقل).
والحجامة مؤكد عليها في الشريعة، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما مررت على ملأ من الملائكة في المعراج إلا وأمروني أن أوصي أمتي بالحجامة) فالحجامة من الأشياء التي تزيد الحفظ، نعم هي ليست كل شيء، فبعض الناس يفكر أنه لو احتجم اليوم غداً يحفظ صحيح البخاري، هذا لا أساس له، لكن قال عليه الصلاة والسلام: (وتزيد في الحفظ) قال: (فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، فإنه اليوم الذي عوفي فيه أيوب من البلاء، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء، فإنه اليوم الذي ابتلي فيه أيوب الحديث) هذا الحديث حسنه الألباني ورواه ابن ماجة وغيره كما تقدم.(22/15)
الأدعية والأذكار
ومن أسباب الحفظ العظيمة: الأدعية والأذكار، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له) وقد شرب عدد من العلماء ماء زمزم وهم يدعون الله أن يُعطيهم حافظة قوية، وشرب ابن حجر ماء زمزم وسأل الله أن يُبلغه مرتبة الذهبي في الحفظ، فالدعاء وشرب ماء زمزم من أسباب الحفظ.
ولاشك أن من أسباب الحفظ العظيمة: ذِكر الله عز وجل، قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] ذكر الله مما يزيل النسيان، ويُقرب الأشياء في الذهن، وذكر الله من أدوية النسيان، سواء كان النسيان نسيان الذهن والذاكرة، أو كان نسيان غفلة، فإن ذكر الله علاجه.(22/16)
رفع الصوت بالقراءة
ومن الأمور المعينة على الحفظ: الجهر ورفع الصوت بالقراءة فيما يراد حفظه؛ لأن الجهر بالقراءة يجعل حاسة السمع مشتركة في الحفظ مع حاسة البصر، وإن كان الرجل أعمى فإن حفظه يكون شديداً؛ لأجل أن منفذ السمع إلى القلب أقوى وأشد من منفذ البصر، ولذلك قلنا: العرب كانوا يحفظون الخطبة الطويلة والأبيات الكثيرة من أول مرة، ما كانوا يقرءون ولا يكتبون.
وهكذا تلقَّى معظم الصحابة الأحاديث، تلقوها وحفظوها بالسماع، فالسماع مهم جداً، قال الزبير بن بكار: دخل علي أبي وأنا أروي في دفتر ولا أجهر -أروي فيما بيني وبين نفسي- فقال: إنما لك من روايتك هذه ما أدى بصرك إلى قلبك.
فإذا أردت الرواية فانظر إليها واجهر بها، فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك وما أدى سمعك إلى قلبك.
وهم يقولون الآن: إنه كلما اشتركت حواس أكثر في الحفظ كان الحفظ أكثر، وهذه مسألة يختلف فيها الناس؛ بعض الناس لا يحفظ إلا إذا رفع صوته، وبعض الناس يكون عنده الحفظ أحسن إذا كان يقرأ بصمت وينظر، فينطبع في ذهنه، حتى إن بعض الحُفاظ كان يضع يده على صفحة إذا أراد أن يحفظ الصفحة التي تليها، حتى لا تختلط عليه السطور.
وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه، فإن ما سمعته الأذن يرسخ في القلب، ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه، وعن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم فإنه أثبت للحفظ وأذهب للنوم، وكان يقول: القراءة الخفية للفهم -القراءة الخفية إذا أردت أن تتدبر وتفكر وتنظر- والرفيعة -التي فيها رفع صوت- للحفظ.
يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ.(22/17)
التمهل في القراءة
وكذلك من أسباب الحفظ: التمهل في القراءة، وكان بعضهم يقرأ الكتاب ثم يذاكر به حرفاً حرفاً كأن قارئاً يقرأه عليه فيفسره له.
أي: قراءة مبينة، مفسرة، مترسلة، بطيئة، حتى يكون أرسخ علماً، وبعض الناس يحفظ إذا سرد أكثر.(22/18)
حسن الاستماع لما يراد حفظه
وكذلك مما يعين على الحفظ: حُسن الاستماع لما يراد حفظه، عن سفيان قال: كان يُقال: أول العلم: الصمت -أول شيء أن يأتي الطالب ويجلس في الحلقة فلا يتكلم ولا كلمة، المبتدئ يجلس عند الشيخ لا يتكلم ولا كلمة، فقط يسمع، لا يسأل ولا يقاطع ولا شيء، يسمع فقط- والثاني: الاستماع له وحفظه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه.
ونُقل عنه أنه قال: تعلموا هذا العلم، فإذا علمتموه فاحفظوه، فإذا حفظتموه فاعملوا به، فإذا عملتم به فانشروه بين الناس، وقال هذا الناظم:
يا طالباً للعلم كي تحضى به ديناً ودنياً حظوة تعليه
اسمعه ثم احفظه ثم اعمل به لله ثم انشره في أهليه(22/19)
عدم إرهاق النفس وإملالها وحملها على ما لا تطيق
وينبغي لمن يريد الحفظ: ألا يرهق نفسه ويملها، فإذا تعب من الحفظ أخذ قسطاً من الراحة، وكيف كانت راحة العلماء؟ يجعلون أوقات التعب من الإعادة والتكرار، وللنسخ ونقل الأشياء، وكانوا يجعلونها كذلك في قراءة الأشياء التي فيها نوع من الترويح؛ كالأشعار والأمثال، والقصص والطرائف وغير ذلك.
وينبغي أن نعلم أن الناس في الحفظ طاقات متفاوتة؛ فمنهم من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا أراد الذي مقدار حفظه نصف صفحة أن يحفظ عشر ورقات تشبهاً بغيره؛ لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، فليستقر كل امرئ على مقدار ما يستوعبه، وعليه أن يشفق على نفسه من أن يحملها فوق ما تطيق، لكن كيف يعرف الإنسان طاقته؟
الجواب
بالتجربة.
ولا ينبغي للعاقل أن يزج نفسه فيما يستفرغ جهوده، فيتعلم في يوم ضعف ما يتحمل، فهذا وإن تهيأ له أنه حفظها هذه المرة، وأنه ضبطها في هذا اليوم، فإنه في الغد سيثقل عليه جداً إعادة ما مضى وحفظ شيء جديد، وهذا كمن يحمل حملاً ثقيلاً يرهق نفسه في أول يوم، فيحدث ضررٌ، نعم هو حمله، لكن حصل ضرر في جسده، في الغد لا يستطيع أن يحمل شيئاً.
وينبغي أن يجعل الحافظ لنفسه مقدراً كلما بلغه وقف عليه لا يزيد؛ لأجل المراجعة، ويستريح ثم يواصل الحفظ، ولا يأخذ الطالب نفسه بما لا يُطيق، بل يقتصر على اليسير الذي يضبطه ويحكم حفظه ويتقنه، قال سفيان: كنت آتي الأعمش ومنصور، فأسمع أربعة أحاديث وخمسة ثم انصرف كراهة أن تكثر وتتفلت.
وعن شعبة قال: كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين، فيحدثني ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا.
حتى أحفظهما وأتقنهما.
وقال بعضهم: من طلب العلم جملة فاته جملة.
وقال بعضهم: إنما كنا نطلب حديثاً أو حديثين.
وعن الزهري قال: إن هذا العلم -هذه تجارب حفاظ- إن أخذته بالمكابرة عسُر عليك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به.(22/20)
التدرج والاقتصاد
فمن الأمور المهمة في الحفظ: التدرج والاقتصاد وتقليل المحفوظ مع المداومة على الحفظ فهذا أصل عظيم، ولا تشرع في شيء جديد حتى تحكم ما قبله، ومن لم يجد نشاطاً في الحفظ بعد مدة من الحفظ فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح.
وقال ابن الجوزي: اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلاً ونهاراً فإنه لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أياماً ثم يفتر ويمرض، فمن الغلط تحميل القلب حفظ كثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، فمن الناس من يحمل مائة رطل، ومنهم من يعجز عن حمل عشرين رطلاً، فكذلك هذه القلوب أوعية بعضها يستوعب كثيراً وبعضها يستوعب قليلاً، فليأخذ الإنسان على قدر قوته، فإنه إذا استنفذ القوة في وقت ضاعت منه أوقات، والصواب أن يأخذ قدر ما يُطيق ويعيده في وقتين من النهار والليل.
مثلاً: قال: أنا أستطيع أن أحفظ خمس آيات، يقول: أحفظ خمس آيات، نقول: أعدها مرتين بالليل ثم أعدها في النهار.
فكم ممن ترك الاستذكار بعد الحفظ فأضاع زمناً طويلاً في استرجاع محفوظه، أي: أنه ينبغي على الإنسان أن يراجع باستمرار؛ لأنه إذا راجع وحفظ بتأني سهل عليه الاسترجاع، وإذا حفظه دُفعة واحدة الآن صعب عليه أن يسترجعه فيما بعد.
وكذلك ذكرنا أنه لابد من ترفيه النفس مع الإعادة يوماً في الأسبوع، يجعل يوماً في الأسبوع للمراجعة ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة كالبنيان يترك أياماً حتى يستقر ثم يبنى عليه، لا يبنى مرة واحدة وإلا فإنه ينهار.(22/21)
الاهتمام بالغذاء المناسب
وكذلك مما يعين على الحفظ: الاهتمام بالغذاء المناسب، فإن التخمة من الأسباب المانعة من الحفظ، ولذلك كانوا يقللون الطعام؛ لأن كثرة الطعام تتخم النفس وتجعل القلب مشغولاً ومثقلاً، فلا تتمكن النفس من الحفظ، وكانوا يعتنون بأنواع الطعام، وليس فقط بكميته، ومن الأشياء المجربة التي ذكروها مما يزيد الحفظ: شُرب العسل وتناول الزبيب، والرمان الحلو، والحبة السوداء، واللبان على الريق، ليس اللبان الذي تستخدمونه الآن، الذي يعملون منه بالونات للأطفال، وإنما هو نوع من اللبان كانوا يمضغونه على الريق.
وكانوا يجتنبون الأشياء الحامضة، حتى كان الزهري رحمه الله يجتنب التفاح الحامض، وهذا مجرب؛ الحوامض مما يقلل الحفظ، وكان العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله كما حكى عنه بعض أولاده، قال: كان أبي يزجرنا زجراً شديداً إذا رأى مع أحدنا لبناً حامضاً.
وهذه الأشياء نسبتها في الحفظ قليلة، فالزبيب لا يجعل غير الحافظ حافظاً أو اللبان، وإنما هي أشياء معينة ومساعدة، ونحن نذكر العوامل وإن كانت نسبتها في الحفظ كثيرة أو قليلة من باب جمعها وذكرها.
وكذلك إصلاح المزاج من الأصول العظيمة في الحفظ، ولاشك أن بعض الأطعمة تؤثر في الأمزجة فتسبب تعكيراً، وتسبب أشياء في المعدة، وشيئاً من الغثيان، والغثيان يضاد الحفظ.(22/22)
السعي للتذكر
وكذلك من الأمور المهمة: السعي للتذكر، بعض الناس إذا سئل عن شيء وهو لا يتذكره يمضي، لكن ينبغي عليه لكي يمرن ذاكرته أن يتوقف يتذكر، ويعتصر ذهنه وذاكرته حتى يتذكر؛ لكي يدرب الذهن والذاكرة على استرجاع المعلومات، أما كلما نسي شيئاً للوهلة الأولى تركه ومضى فإنه يتعود على النسيان السريع، أما إذا كان يعود نفسه كلما نسي شيئاً أن يحاول جاهداً أن يتذكره فإنه يكون أحسن وأنفع في استرجاع المعلومات.(22/23)
وظائف طالب العلم
ومما يُضعف الذاكرة: كثرة الكتابة والاعتماد على الأشياء المكتوبة.
أما بالنسبة لوظائف طالب العلم فهي كثيرة، يحتاج أن يحفظ وأن يقرأ وأن ينسخ، وربما احتاج أن يُلقي ويُدرس، فعليه أن يُوزع هذه الأشياء على وقتها، قال ابن الجوزي رحمه الله: ولما كانت القوة تُكلفه فهي تحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لابد منه مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين، فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمل النسخ والمطالعة وراحة البدن وأخذهِ لحظِّه، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره، وإن النفس لتحدب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخف عليها، ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد.
فإذاً: حسن توزيع الوظائف -يا طالب العلم! - على الوقت من الأمور المهمة.(22/24)
أوقات الحفظ
فإذا قلت: ما هي الأوقات المناسبة للحفظ؟ إن العمر مراحل: الطفولة والصبا وسن الشباب، ثم الكهولة والشيخوخة والهرم، فلاشك أن أحسن الأوقات للحفظ هو الصبا والطفولة والفترة المبكرة من العمر، فللحفظ أوقات من العمر أفضلها الصبا، وما يقاربه من أوقات الزمان، وقديماً قالوا: حفظ الغلام الصغير كالنقش في الحجر، وحفظ الرجل الكبير كالكتابة على الماء.
وقال علقمة: ما حفظت وأنا شاب كأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة.
وعن الحسن قال: [قدموا إلينا أحداثكم فإنهم أفرغ قلوباً وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه].
وعن معمر قال: جالست قتادة وأنا ابن أربع عشرة سنة فما سمعت منه شيئاً وأنا في ذلك السن إلا وكأنه مكتوب في صدري.
لقد أكملنا سن الطفولة، والعلماء كانوا يحفظون القرآن وهم أبناء ثمان سنين وتسع وعشر، فهل فاتنا القطار أم لا؟
الجواب
لا.
لم يفت القطار، مهما بلغ الإنسان من التقدم في السن فإنه يستطيع أن يحفظ، وليس هناك سن لا يستطيع أن يحفظ فيها شيئاً مادام العقل باقياً، فمادام العقل باقياً فالحفظ ممكن، لكن كلما كان في الصغر كان أسهل.
ولو فاتك أنت وقت الحفظ الجيد، ينبغي ألا يفوتك: أولاً: أن تحفظ فيما بقي من عمرك، وثانياً: أن تتدارك هذا مع ولدك الصغير، فلو فاتتنا أشياء نتيجة لعدم التربية الجيدة في الماضي، فإننا نستدرك هذا مع أولادنا الآن، فنجعلهم يحفظون ونساعدهم على الحفظ، ونجعل لهم الجوائز التشجيعية حتى لا يندموا إذا كبروا، ويكون لك من الأجر نصيب عظيم.
وأما بالنسبة للوقت المناسب للحفظ في اليوم، من ذلك: قالوا من أفضلها: أفضلها أوقات الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع، وقال بعضهم ينصح ولده بالحفظ في الليل: أحب لك النظر في الليل، فإن القلب بالنهار طائر وبالليل ساكن.
وقال أبو بكر الخطيب البغدادي رحمه الله: المطالعة في الليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ.
وعن عبد الرزاق قال: كان سفيان الثوري عندنا ليلة، قال: وسمعته قرأ القرآن من الليل وهو نائم، ثم قام يصلي فقضى حزبي من الصلاة، ثم قعد فجعل يقول: الأعمش والأعمش والأعمش، ومنصور ومنصور ومنصور، ومغيرة ومغيرة ومغيرة، فقلت: يا أبا عبد الله! ما هذا؟ قال: هذا حزبي من الصلاة، وهذا جزئي من الحديث.
وقال الشافعي: الظلمة أجلى للقلب.
أي يستطيع الإنسان أن يحفظ في هدوء الليل أكثر.
وقال أحمد بن الفرات: لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه إلا كثرة النظر، وحفظ الليل غالب على حفظ النهار.
وقال إسماعيل بن أبي أويس: إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم وقم عند السحر -أي: قبيل الفجر- فأسرج سراجك -والآن اضغط الزر- وانظر فيه -في هذا الكتاب- فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله.
أي إن حفظ الأسحار قبيل الفجر من أحسن أنواع الحفظ، فإذا نام مبكراً فإنه يستيقظ نشيطاً ويكون ذهنه صافياً؛ لأنه ليس قبل اليقظة شيء إلا الراحة، ولا يكون مشغولاً بأشياء كثيرة، وسمع أشياء كثيرة، بل قام من النوم وذهنه صافٍ قبيل الفجر وقد نام مبكراً، فهذا يكون من أصفى الأوقات للحفظ على الإطلاق.
وقال ابن جماعة الكناني رحمه الله: الخامس في آداب المتعلم في نفسه: أن يقسم أوقات ليله ونهاره، ويغتنم ما بقي من عمره، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار -جمع بكرة: وهي أول النهار- وللمطالعة والمذاكرة الليل، وللكتابة وسط النهار.
وقالوا في أجود أوقات الحفظ: الأسحار، وبعده وقت انتصاف النهار، وبعده الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أسرع من حفظ النهار.
وقيل لبعضهم: بم أدركت العلم؟ قال: بالمصباح والجلوس إلى الصباح.
وقال آخر: بالسفر والسهر، والبكور في السحر.
والسحر: آخر الليل، وانتصاف النهار: عند الظهيرة، والغدوات: أول النهار.(22/25)
أماكن الحفظ
أما بالنسبة لأماكن الحفظ، فقد قالوا: إنها في الغُرف العالية أحسن من السُفل؛ لأن المكان العالي يكون في الغالب خالياً، لا زوجة ولا أولاد ولا ضوضاء، ولا دخول ولا خروج، وكل موضع بعيد عما يُلهي فإنه يجعل القلب خالياً لأجل الحفظ، وليس بالمحمود أن يتحفظ الرجل بحضرة النبات والخضرة، ولا على شطوط الأنهار، ولا على قوارع الطريق، لكثرة الشواغل والصوارف والأشياء المارة والعابرة، فالعجب من بعض الطلاب الذين يذاكرون في الحدائق العامة أيام الامتحانات.
وقالوا: لا يحمد الحفظ بحضرة خضرة ولا على شاطئ نهر؛ لأن ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خيرٌ من السوافل، والخلوة أصلٌ، وجمع الهم أصل الأصول، لذا ينبغي تفريغ الذهن من الشواغل.(22/26)
أبحاث متعلقة بالذاكرة
ونذكر هنا بعض الأشياء من الأبحاث الحديثة المتعلقة بالذاكرة، وهي أشياء يسيرة جداً لأن الجري وراء هذه متعب، وبعض الأبحاث الطبية والنفسية فيها فوائد، ولكن (اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً)، فهؤلاء العلماء المجربون قد تكلموا.
من الأشياء الموجودة عند المعاصرين ويستفاد منها: 1/ قالوا: الذاكرة في الإنسان مثل العضلة في الجسم، كلما زدت في تمرينها واعتنيت بها كبرت وتوسعت، وإذا أهملتها تضاءلت وضعفت.
2/ وقالوا: إذا استمر أي شخص في الحفظ والمراجعة بقيت ذاكرته قوية ونشيطة، مادام عقله سليماً فاعلاً قادراً على التركيز وإن جاوز الخمسين، أي: يستطيع أن يحفظ وإن جاوز الخمسين مادام مواظباً على المراجعة والحفظ ومادام عقله موجوداً.
3/ وقالوا: إن الذاكرة عند الكثيرين غير مستغلة، وبإمكان الذاكرة أن تتسع لأعداد خيالية من الجزئيات والمعلومات.
وقالوا: ليست كثرة المعلومات هي التي تشوش الذاكرة، وإنما الطريقة الخاطئة في إدخال المعلومات واستخراجها، وضعف القُدرة على التركيز والتفكير.
4/ وقالوا: إن التكرير كان ولا يزال هو الوسيلة التقليدية للحفظ، ولكن التكرار له قواعد ينبغي الالتزام بها.
من هذه الأشياء، وقد مرت معنا، لكن هم يقولون إنها من تجاربهم واكتشافاتهم: قام أحد العلماء الألمان بتجربة جمع فيها مجموعة وأعطاهم نصاً معيناً في يوم واحد، قال: احفظوه اليوم، فاحتاجوا إلى تكراره ثمان وستين مرة حتى حفظوه، ثم طلب منهم حفظ نص آخر مثل ذلك في الطول والصعوبة على فترة ثلاثة أيام، فاحتاجوا لتكراره أربع وثلاثين مرة فقط، أي: النصف.
فإذا كان عندك شيء تريد أن تحفظه، فكررته مثلاً خمسين مرة إلى أن تحفظه اليوم، ولم تفعل شيئاً في الأيام القادمة، هذا أسرع للنسيان وأصعب للحفظ أيضاً من أن تقرأه في كل يوم عشر مرات لمدة خمسة أيام، أي: نفس عدد مرات التكرار لو جعلتها موزعة على الأيام فهو أحسن في الحفظ وأثبت من أن تجعلها في يوم واحد، ثم لا تفعل شيئاً في الأيام التي بعدها.
5/ وقالوا: العقل كالجسم يتعب عند الاستهلاك الشديد، ويحتاج إلى فترة راحة، ومن النادر أن تتعدى فترة التركيز عند أي شخص ساعة أو ساعة ونصف، وبعد ذلك يتوتر الجهاز العصبي، ويبدأ الذهن في رفض المعلومات التي تصل إليه، فلابد أن يتخلل وقت الحفظ فترات قصيرة من الراحة والاسترخاء، وهم يقولون: الموسيقى، ونحن نقول: تجديد الوضوء، ودخول الخلاء، وشرب شيء من المباحات لا بأس.
6/ وقالوا: كلما ازداد الاهتمام بالموضوع، وأحس الشخص بأهميته كان حفظه أسرع وأشد، وكلما كان كارهاً مرغماً كان الذهن أسرع في الشرود، ويكون الحفظ أصعب، ولذلك الطلاب الذين يذاكرون لأجل النجاح ويحفظون، الحفظ عندهم صعب، أما طالب العلم الذي همه العلم؛ يحيا لأجل هذا العلم، لطاعة الله، ليعبد الله على بصيرة، ويعلم قدر جلالة الكتاب العزيز، فإن انصرافه لهذا أشد وأفضل وأعلى وأحسن من انصراف صاحب الدنيا إلى كتبه ودراسته الدنيوية بلا شك؛ لأن صاحب العلم يشعر أن العلم الذي عنده أهم بكثير وأجل، ولذلك العلماء حفظوا أشياء لا يستطيع الآن الكيميائي ولا الفيزيائي أن يحفظ مثلهم.
7/ وقالوا كذلك: إذا تخيلت صوراً لما تحفظ يكون حفظك أثبت، وهم يضربون أمثلة، ونحن يمكن أن نقول مثلاً: إذا أراد إنسان أن يحفظ آيات فيها بناء الكعبة، فلو أنه وضع في ذهنه صورتها مثلاً والطائفين حولها، أو البناء كيف يبنى وهو يقرأ ليحفظ، ربما يكون أثبت له، وكذلك لو قرأ نصوصاً في الجهاد فكان يستحضر في ذهنه صوراً للجهاد والجياد والسيوف والطِعَان، فربما تكون أيضاً الصورة مرتبطة بالمقروء، ولذلك من أصعب الأشياء حفظ الأرقام المجردة، لكن لو قلت: خمس صلوات وكذا فربطت الأشياء بالأشياء صار أسهل.
8/ ولذلك عندهم من القواعد في الحفظ: الترتيب والتصنيف، فلو أخذنا مثلاً عشرين أداة من الأدوات وجعلناها مبعثرة، فإذا أردت أن تحفظها جميعاً يكون أصعب من أن لو صنفتها فوضعت مثلاً أدوات الطبخ جانباً، وقلت: هذه في خانة، وأدوات الكتابة جانباً، وقلت: هذه في خانة، وما يتعلق باللباس في جانب، وقلت: هذه في خانة، وحفظت كل خانة لوحدها، هذا يكون أحسن.
فإذاً: تصنيف الأشياء وترتيبها يُعين على الحفظ.
وكذلك من الأشياء التي تُستفاد في قضية الترتيب: الترتيب في حفظ القرآن، لو أراد إنسان أن يحفظ سورة البقرة مثلاً، من الأشياء المعينة على الحفظ أن يعرف مواضيع السورة، وأن يعرف ترتيب المواضيع في السورة، فمثلاً: بدأ بذكر المؤمنين، ثم المنافقين، ثم اليهود، ثم خلق آدم، ثم بناء الكعبة، وهكذا، فحفظ ترتيب المواضيع من الأمور المهمة، ولذلك يوجد تفاسير تعتني بذكر مواضيع السورة قبل البداية في تفسير السورة، فمثلاً من كتب علوم القرآن في هذا كتاب البقاعي رحمه الله، وكذلك كتاب الفيروزآبادي بصائر ذوي التمييز، فهذان كتابان فيهما ذكر مواضيع كل سورة.
وكذلك من الكتب الحديثة التي تعتني بهذا كتاب الأستاذ سيد قطب رحمه الله يبين في مقدمة كل سورة ماذا تتناول السورة من المواضيع.
وينبغي أن ننتبه إلى أن النظريات الحديثة تُزهد في الحفظ، وتُركز على الفهم، وتقول: المهم الفهم، وربما يُزهدون في الحفظ، فلا تستمع لهم؛ لأننا نعرف أن الأمر مكون من حفظ وفهم، وهذه طريقة علمائنا رحمهم الله تعالى، فإذا قالوا لك: لا داعي لإشغال الصغار والأولاد بحفظ هذه المقطوعات الطويلة، وهذا مُضر تربوياً، فاعلم أنهم هم المأفونة عقولهم، الذين عاقبة أمرهم إلى الزوال وشأنهم في سِفال، وهذه أفكار ضلال، ولكن هذه الطريقة التي سلكها العلماء وجربوها صاروا بها علماء.
ولذلك دعك من هذه النظريات الحديثة التي تقول: إن حشو أذهان الأطفال بالمعلومات مُضر، والمهم أن الولد يفهم.
لا.
كانوا يحفظونهم المتون ولو فهم الصغير بعد ذلك يستعين بحفظه.(22/27)
أولويات الحفظ
ثم نأتي إلى نقطة مهمة، وهي قضية الأولويات في الحفظ، فينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل؛ لأنه أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم، وهذه طريقة الصحابة ومن بعدهم، كانوا يحفظون الكتاب العزيز.
عن الوليد بن مسلم قال: كنا إذا جالسنا الأوزاعي، فرأى فينا حدثاً، قال: يا غلام! قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، وإن قال: لا.
قال: اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم.
وكان يحيى بن يمان إذا جاءه غلام استقرأه رأس سبعين من الأعراف، ورأس سبعين من يوسف، وأول الحديد، فإن قرأها حفظاً حدثه، وإلا لم يحدثه.
وقال أهل العلم: وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل، وأفضل ما تُشوغل به حفظ القرآن الكريم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
فإذا رزقه الله تعالى حفظ كتابه فليحذر أن يشتغل عنه بالحديث أو غيره من العلوم اشتغالاً يؤدي إلى نسيانه، ثم الذي يتبع القرآن من العلوم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، فيجب على الناس طلبها، إذ كانت أس الشريعة وقاعدتها، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وكذلك ينبغي انتقاء الأشياء، فإذا أراد أن يحفظ من السنة ينتقي الأحاديث الصحاح الجياد، وأحاديث الأحكام -مثلاً- من الأحاديث الصحاح الجياد، قال أبو حاتم الرازي: سمعت أبي يقول: اكتب أحسن ما تسمع، واحفظ أحسن ما تكتب، وذاكر بأحسن ما تحفظ.
ويبتدئ بسماع الأمهات من كتب أهل الأثر والأصول الجامعة، قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله: عجبت لمن ترك الأصول وطلب الفصول.
وبعض الطلاب الآن يريد أن يدخل في التفاصيل فقبل أن يحفظ قصيدة رجزية في مصطلح الحديث، يبدأ بحفظ تقريب التهذيب وأسماء الرجال ومراتبهم، وهذا خلل ولا شك.
إن أصح كتب الحديث الصحيحان، وبعدهما سنن أبي داود وسنن النسائي، وكذلك سنن الترمذي وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله.
وينبغي على طالب العلم أن يحفظ من موقوفات الصحابة وأقوالهم؛ لأنها في لزوم العمل بها وتقديمها على القياس ملحقة بالسنن، والموقوفات على التابعين، فيعلم أقوال أهل العلم ولا يشذ عنهم، ويحفظ من أقوال المفسرين ما يلزم في معرفة معاني الآيات، ويحفظ من مغازي وسير النبي عليه الصلاة والسلام في السيرة، ويحفظ كذلك بعد ذلك أشياء ومنها الشعر والحكم والأمثال.
هذه طريقة العلماء، لكن نحن الآن إذا قلنا أن الغالب عدم التفرغ، فماذا يفعل الإنسان؟ لو قلنا له: اذهب واحفظ القرآن ثم تعال، ما تسمع منا ولا مسألة فقهية حتى تحفظ القرآن!! الآن هذا لا يُناسب، فينبغي على الطالب في هذا الزمان أن يُقدم كتاب الله في الحفظ، ويحفظ أحاديث، ويحفظ فتاوى العلماء؛ لكي ينقلها إلى الناس ويستفيد منها هو.
فنقول: صحيح أن هذه الزمان تضاءلت فيه الهمم، وقلّت الأوقات، وكثرت الشواغل والصوارف، وصحيح أن برنامجاً مثل هذا البرنامج الذي يذكره بعض العلماء في حفظ الأشياء لا يكون متيسراً، لكن نحن نُسدد ونقارب، ولا نقول للشخص: هذه هي الصورة المثالية ولابد أن تفعلها، ونحن نعلم أنه لا يستطيع أن يفعل، وأنه يحتاج لحفظ القرآن ربما خمس عشرة سنة، لا نعلمه مسألة فقهية واحدة في خلال هذه السنوات، هذا غير صحيح.(22/28)
من أخبار الحفاظ
ونأتي في ختام المطاف إلى ذكر شيء من أخبار الحفاظ الذين أنعم الله بهم على هذه الأمة، وثقوا -أيها الإخوة- أننا نشعر بالعز والفخار من معرفة سيرهم، وأننا نقارع بهم الأمم، لا توجد أمة عندها حفاظ مثل الأمة الإسلامية مطلقاً، لا الإنجليز ولا الألمان، ولا الأمريكان ولا البيزنطيون، ولا الروم ولا الفرس، لا يوجد ناس عندهم حفاظ مثل الأمة الإسلامية أبداً، هذا شيء يشهد به القاصي والداني، والقريب والبعيد، ويشهد به التاريخ.
ولذلك عندما تسمع الآن أخبار هؤلاء هات مثلهم من الغربيين، إذا صار عندهم هذا فهو ندرة، خزنوا كل شيء في الكمبيوترات وصارت عقولهم خاوية، وإذا توقف الكمبيوتر لا يستفاد لا منه ولا من جهازه، ولذلك نقول: صحيح أننا نستفيد من وسائل حفظ المعلومات، لكن إلغاء الحفظ شيء مضر جداً، ومن أسوأ الأشياء إلغاء الحفظ بالزعم أن هناك طرق تخزين حديثة، وماذا ينفعك الكمبيوتر وأنت بين الصفا والمروة تريد أن تستذكر شيئاً من الأذكار والأدعية، أو إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة، وتريد أن تستذكر الحكم فيها، أين جهازك في الصلاة؟! فإذاً: نرجع ونقول: أولاً وأخيراً الحفظ الحفظ.(22/29)
أبو هريرة رضي الله عنه
وأما الحفاظ فإن على رأسهم بعد الأنبياء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى رأس الصحابة في الحفظ أبو هريرة رضي الله عنه، روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة، قال: [إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى)) [البقرة:159] إلى قوله: ((الرَّحِيمُ)) [البقرة:160]، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم -المزارع- وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشبع بطنه، ويحضر مالا يحضرون، ويحفظ مالا يحفظون].
هذا هو التفرغ وجمع العقل والهم، والهم: هو الحفظ، وقال أبو هريرة: (إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثونا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملئ بطني -لا آخذ إلا ما يكفيني من الطعام- فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناًَ من مساكين الصفة، أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه: إنه لم يبسط أحدٌ ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة عليّ حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت بعد مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء).
هذا أبو هريرة رضي الله عنه، ومع ذلك ما حدث بكل ما حفظ، وهو أكثر الصحابة رواية على الإطلاق، فإنه الذي قال: [حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] ولعل من ذلك حديث: (إن من أشراط الساعة إمارة الصبيان).
ولذلك كان أبو هريرة يقول: [اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين وإمارة الصبيان] ولذلك لما تولى الصبي في عام ستين للهجرة من الأمويين، الله عز وجل قبض أبا هريرة قبلها بسنة، فمات سنة تسع وخمسين للهجرة على قول.(22/30)
الإمام البخاري رحمه الله
ومن الحفاظ الأجلاء وأعظم الحفاظ على الإطلاق، ومن أعظم من أنجبتهم هذه الأمة في الحفظ على الإطلاق الإمام البخاري رحمه الله تعالى بلا منازع، وهو مفخرة في جبين هذه الأمة، وغرة ودرة رحمه الله تعالى.
كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا -هذا كلام حاشد بن إسماعيل - إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب -يأتي للحلقة ولا يكتب شيئاً- حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يوماً بعد ستة عشر يوماً مضت: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا على حفظه -نصحح دفاترنا على حفظ البخاري - خمسة وأربعون يوماً جلس مع الشيخ، هم يكتبون وهو لا يكتب، إلى أن قالوا له: أنت تلهو وتلعب، فلتكتب مثلنا وإلا فارحل!! قال: اسمعوا فسرد علينا خمسة عشر ألف حديث من حفظه، فصرنا نصحح كراريسنا على حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدراً وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وقدم البخاري إلى بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، ركبوا متن هذا على سند هذا، وعملوا لخبطة، ودفعوا إلى كل إنسان منهم عشرة أحاديث، وكانوا عشرة أشخاص، فصار المجموع مائة حديث، ثم جلس البخاري رحمه الله في المجلس وقد جاء الناس وأهل العلم وجلسوا، يأتي واحد يقول: يا أبا عبد الله! إني سائلك عن أحاديث، قال: سل، ويعطيه الأولَ المغلوطَ، يقول البخاري: لا أعرفه، الثاني، يقول البخاري: لا أعرفه، الثالث، العاشر، يقول البخاري: لا أعرفه، يأتي الثاني يقول: سائلك عن أحاديث، فيذكر الأول والثاني فيعرض العشرة التي عنده، والبخاري يقول: كذلك هذا، يقول: لا أعرفه، والثالث والرابع والخامس والعاشر، عرضوا عليه مائة حديث مغلوطة، كل ذلك يقول: لا أعرفه.
أما أهل الغفلة؛ الناس الذين لا يعلمون من هو البخاري، كانوا يقولون: هذه سمعةٌ، جلسنا فما رأينا منه شيئاً، كله: لا أعرفه لا أعرفه، وأما أهل العلم بـ البخاري، قالوا: ما سكت إلا لشيء!! فلما انتهوا، قال: انتهيتم؟ قالوا: نعم، قال: أما أنت فقد قلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، وقلت: كذا وكذا، والصحيح كذا وكذا، فصحح له أحاديثه العشرة كلها، ثم استلم الثاني وصحح له أحاديثه العشرة كلها، إلى أن أكمل مائة حديث.
قال ابن حجر رحمه الله في كلامه: ليس العجب أن يحفظ البخاري الصحيح، ولكن العجب أن يحفظ البخاري الخطأ، أي: يقول: أنت قلت: كذا، والصحيح كذا، وهو الآن قاله لأول مرة! وحِفْظُ أشياء مغلوطة ليس كحفظ الصحيح الذي سمعه مراراً وتكراراً! فسبحان الذي أعطاه هذه الموهبة!! قال البخاري: تذكرت أصحاب أنس، فحضرني في ساعة ثلاثمائة.
حضره هذا العدد فقط وهو يتذكر: من هم تلاميذ أنس؟ ثلاثمائة واحد في الذاكرة.
قال أبو الأزهر: كان بـ سمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل البخاري، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلقوا منه بسقطةٍ لا في إسناد ولا في متن.
وقال محمد بن خميرويه: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، أي: لكي ينبه الأمة على الأحاديث الصحيحة، ويفلي الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
فالرقم هذا قد يبدو للبعض مبالغاً فيه، لكن قال الذهبي رحمه الله: ما على وجه الأرض من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام قرابة عشرة آلاف حديث صحيح، فإن قال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، فإنه يقصد الطرق والشواهد والمتابعات والمقاطيع، وغير ذلك، الطرق بأنواعها وأصنافها.(22/31)
أحمد بن حنبل رحمه الله
أما أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته وأخذت عليه الأبواب.
وقال عبد الله بن أحمد قال لي أبي: خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف، فإن شئت تسألني عن الكلام حتى أخبرك الإسناد، وإن شئت الإسناد حتى أخبرك عن الكلام.(22/32)
إسحاق بن راهويه رحمه الله
وكذلك فإن من العظماء في الحفظ إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى، قال ابن هشرم: كان إسحاق بن راهويه يملي علي سبعين ألف حديث حفظاً.
وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: أعرف مكان مائة ألف حديث كأني انظر إليها، وأحفظ منها سبعين ألف حديث من ظهر قلب صحيحة، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة، فقيل: ما معنى المزورة تحفظها؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة، فليته منها فلياً.(22/33)
بكر بن محمد الحنفي رحمه الله
وكان بكر بن محمد الحنفي إذا طلب منه المتفقه الدرس ألقى عليه من أي موضع شاء من غير مطالعة كتاب، يسرد له من هنا ومن هنا من أي مكان في الكتاب، وسئل عن مسألة، فقال: هذه المسألة أعدتها في برج من حصن بخارى أربعمائة مرة.(22/34)
سليمان بن داود الطيالسي رحمه الله
وسليمان بن داود الطيالسي كان من كبار الحفاظ، قال عمر بن شبة: كتبوا عن أبي داود أربعين ألف حديث وليس معه كتاب.(22/35)
سفيان الثوري رحمه الله
وسفيان الثوري رحمه الله قبل ذلك من أشد الناس حافظة، قال: ما استودعت أذني شيئاً قط إلا حفظته، حتى أمر بكذا، فأسد أذني مخافة أن أحفظها، وفي رواية: أمر بالحائك يغني فأسد أذني.
لأنها لو دخلت لما خرجت.(22/36)
الشعبي رحمه الله
والشعبي كذلك رحمه الله تعالى، قال ابن شبرمة: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، وما حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده عليّ، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه أحد لكان به عالماً.
أي: رغم هذا الحفظ الأشياء المنسية لو أن أحداً آخر حفظها لأصبح عالماً.
وعن الشعبي قال: لا أروي شيئاً أقل من الشعر -أقل محفوظاتي شعر- ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد.
هذا أقل المحفوظات، لو جلس يسرده شهراً فإنه يأخذ وقتاً كثيراً بدون أي بيت معاد.(22/37)
عبد الله بن أبي داود السجستاني رحمه الله
وأما عبد الله بن أبي داود السجستاني، عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن أبي داود رحمه الله تعالى، قال إبراهيم بن شاذان: خرج أبو بكر بن أبي داود إلى سجستان -هذا الولد- فاجتمع إليه أصحاب الحديث، وسألو أن يحدثهم فأبى، وقال: ليس معي كتاب، فقالوا له: ابن أبي داود وكتاب؟!! قال: فأثاروني فأمليت عليهم ثلاثين ألف حديث من حفظي، فلما قدمت بغداد، قال البغداديون: مضى فلعب بالناس -نتحقق- فكتبوا كل ما قيل، وجاءوا بها إلى بغداد، وعرضت على الحفاظ، فخطئوني في ستة أحاديث، منها ثلاثة حدثت بها كما حُدثت -أي: حفظتها أصلاً خطأ- وثلاثة أحاديث أخطأت فيها.
من كم؟ من ثلاثين ألف حديث، هذا الابن فما بالك بـ أبي داود رحمه الله؟!(22/38)
أبو زرعة رحمه الله
وأما أبو زرعة الرازي، قال أبو زرعة: في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة ولم أطالعه منذ كتبته، وإني أعلم في أي كتاب هو، وفي أي ورقة هو، وفي أي صفحة، وفي أي سطر هو، وما سمعت أذني شيئاً من العلم إلا وعاه قلبي، فإني كنت أمشي في سوق بغداد فأسمع من عزف المغنيات، فأضع إصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي.
وسُئل أبو زرعة الرازي عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة الرازي يحفظ مائتي ألف حديث، هل حنث؟ فقال: لا.
وقال أبو زرعة الرازي: أحفظ مائتي ألف حديث كما يحفظ الإنسان (قل هو الله أحد) وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث.(22/39)
أبو عبد الله الختلي رحمه الله
وأبو عبد الله الختلي دخل وليس معه شيء من كتبه، فحدث شهوراً إلى أن لحقته كتبه، أي: جاء إلى بلد مسافراً ولم تصل كتبه بعد، الكتب في الشحن، فحدث، قال: حدثت بخمسين ألف حديث من حفظي، إلى أن لحقتني كتبي.(22/40)
الحافظ الدارقطني رحمه الله
وأما الحافظ الدارقطني رحمه الله، فإنه من صغره كان مشهوراً بالحفظ، حضر في حداثة سنه مجلس إسماعيل الصفار، فجعل ينسخ جزءاً معه وإسماعيل يُملي، الدارقطني يكتب وهو صغير، فقال له أحد الحاضرين: لا يصح سماعك وأنت تنسخ، إذا أرادت أن تكون صحيح السماع، فلابد أن تسمع وتتفرغ للسماع، ولا يصلح أن تنشغل بالكتابة، فقال الدارقطني: فهمي للإملاء غير فهمك، ثم قال: أتحفظ كم أملى الشيخ من حديث إلى الآن؟ فقال: لا، فقال: أملى ثمانية عشر حديثاً فعد، قال: فعددت الأحاديث فكانت كما قال، قال: الحديث الأول عن فلان عن فلان ومتنه كذا، والحديث الثاني عن فلان عن فلان ومتنه كذا، فلم يزل يذكر أسانيد الأحاديث ومتونها على ترتيبها في الإملاء، حتى أتى على آخرها فتعجب الناس منه.
أي: وهو يكتب عن الشيخ يحفظ! والآن كثير من الناس يكتبون، لكن إما كتابة أو حفظاً، لا يستطيع أن يجمع بين الأمرين.(22/41)
الجعابي رحمه الله
والجعابي رحمه الله دخل الرقة وكان له قنطاران من الكتب، فأنفذ غلامه ليأتي بالكتب فضاعت، فرجع الغلام مغموماً، قال: ضاعت الكتب، فقال: يا بني! لا تغتم، فإن فيها مائتي ألف حديث لا يُشكل عليّ منها حديث، لا إسناداً ولا متناً.
فسواء ضاعت الكتب أو ما ضاعت.
هذا حال طائفة من جهابذة هذه الأمة وحفاظها، فأين لهؤلاء الكفرة والذين يدعون الحضارة والعلم مثل هؤلاء؟! وختاماً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا.(22/42)
التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية
إن من يشاهد في هذه الأيام أوساط المسلمين ومجتمعاتهم- يجد حالة المسلمين وعلاقاتهم بين إفراط وتفريط، إما تنافر وتقاطع على أهواء ومصالح دنيوية، أو تجاذب وتوارد على شهوات شيطانية، أو مصالح دنيوية، وقد ذكر الشيخ حفظه لله أسباب التنافر وكيفية علاجه، وأنواع التجاذب والتحاب وكيفية التعامل معه، ثم أتبع ذلك بأسئلة ختامية في الموضوع نفسه.(23/1)
أسباب التنافر في العلاقات الشخصية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أولاً: أعتذر إليكم عن شيءٍ أرجو أنه لا ذنب لي فيه، ولعل لبساً حصل في كيفية الإتيان إلى هذا المكان، فاضطررت أن آتي إليه وأنا لا أعلم مكانه، وهذه المحاضرة كما ترونها أظن الوقت ليس بمتسع لأن نأتي عليها، ولكنني سأتكلم معكم عن موضوعٍ أرجو أن يكون فيه خيرٌ لي ولكم وفائدة إن شاء الله.
وهذا الموضوع أيها الإخوة! يدور حول فقرة من الفقرات التي تضمنها وتناولها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في دلائل الإيمان، وهذه الفقرة هي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) وهذه القضية أيها الإخوة! تتكون من شقين أريد أن أتناولهما بالكلام معكم في هذه الليلة.
الشق الأول: التنافر الذي يحدث بين النفوس عندما تتقابل في وسطٍ واحد.
الشق الثاني: التجاذب الذي يحدث بين بعض النفوس عندما تتقارب في الوسط الواحد.
من أكثر المشاكل التي تواجه فريضة الأخوة في الله في واقعنا، ما يحدث بين بعض الشباب من التنافر أو التجاذب، ولكلٍ منهم إيجابيات وسلبيات، التنافر طبعاً لا خير فيه، ولكن التجاذب هو الذي أقصد بكلامي أن فيه إيجابيات وفيه سلبيات، ونظراً لكثرة المشاكل الحادثة في هذا الموضوع، نريد أن نسلط عليه الضوء.(23/2)
ضعف الإيمان
أما التنافر أيها الإخوة: فإنه يكون بأسباب، منها: ضعف الإيمان، ولذلك تجد أنه لو التقى أخوان شابان مثلاً، اثنان أو اثنتان في وسطٍ واحد فحدث بينهما تنافر، فإن هذا التنافر وهذا الكره الذي يقوم في نفس كل واحدٍ منهما، أو نفس واحدٍ منهما له أسباب، فأنت عندما تنفتح على مجموعة من الناس، تدخل مثلاً مركزاً من المراكز الصيفية، أو مدرسةً من المدارس، أو مجتمعاً من المجتمعات، فإنك تحس بالقرب من أناس، وبالابتعاد من أناس آخرين، بعض الناس لأدنى سبب من أسباب الابتعاد فإنه يهجر أخاه، ولا يبالي بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فهناك الآن من الناس من يحسب على قائمة المتمسكين بهذا الدين، قد هجر أخاً له أو صاحباً ليس في ذات الله، وإنما لهوىً يحدث في نفسه.
فمثلاً: يحدث بينهما اختلاف في وجهة نظر حول قضية من القضايا مثل: كيف نطبق أمراً من الأمور، أو كيف نسلك سبيلاً لحل مشكلةٍ ما، فيكون هذا الخلاف في الرأي مفسداً للود، مفرقاً لهذا الإخاء الذي من المفترض أن يكون في النفوس، مع أن السبب تافه في بعض الأحيان، لكنه يولد مفسدة عظيمة من الفرقة والاختلاف.
أحياناً -كما قلت- يكون السبب ضعف الإيمان في نفس أحدهما أو كلاهما، الأرواح جنود مجندة، وأهل الإيمان يلتقون وينجذبُ بعضهم إلى بعض، ولو لم يعرف بعضهم بعضاً، أليس يحدث هذا أيها الإخوة؟! أحياناً في موسم الحج مثلاً، تلتقي بأخٍ لك من الباكستان أو من الهند أو من إندونيسيا، أو من ليبيا أو من أوروبا، فيحدث أثناء الكلام انجذابٌ فيما بينك وبينه، بسبب الأخوة الإيمانية الحاصلة.
فإذا ضعف الإيمان عند أحدهما فإنه لن ينجذب إلى الآخر الذي قوي إيمانه في بعض الأحيان، وأحياناً قد يحبه من باب أنه يستفيد منه، أو يقتدي به، أو أنه يجده ضالاً ومنقذاً له من حمأة المجتمع السيئ الذي يعيش فيه، ومن لاحظ أن بينه وبين أخيه نوعاً من التنافر، فعليه أن يبحث على السبب ما هو؟ قد يكون الضعف في الإيمان هو الذي أدى إلى هذا التنافر بينهما، لو قوي الإيمان لارتفع هو وأخوه فوق مستوى الخلافات في الآراء، وفوق مستوى النزغات التي ينزغها الشيطان، لذلك الله عز وجل يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53].
من الأسباب مثلاً: سوء الظن، فترى الواحد من هذين الأخوين عندما يرى تصرفاً من أخيه يقول: هذا ما عنى بالتصرف إلا ليضرني، هذا ما تقدم عليّ بالكلام في المجلس إلا لكي يعزلني على جنب، ويستلم هو صدارة المجلس، ويكون هو المتحدث الرسمي باسم الدين مثلاً في ذلك المجلس، ويقول: أخذ علي الوقت كله، ولم يترك لي فرصة للكلام؛ يريد أن يجعلني إنساناً لا قيمة له بين هؤلاء الجالسين، وقد يكون الشخص الأول قصده غير ذلك.
رأى نفسه منطلقاً في الكلام، ورأى الحاضرين تأثروا بكلامه، فجلس يتحدث ويتكلم ولم يخطر بباله لحظة واحدة، أنه يقصد بإطالة الكلام أن يجعل ذلك الشخص معزولاً منبوذاً عن هذا المجلس، فيأتي الشيطان فيسول لهذا الشخص، ما قصد بهذه الحركة إلا كذا، وهذا كثير.
مثلاً: يحدث تصرف من التصرفات؛ كلمة يقولها واحد لآخر، فيسمعها الشخص المقصود الذي يسيء الظن، فيفسرها كل التفسيرات السيئة إلا التفسير الحسن الذي قد يكون هو القريب من الواقع فعلاً، ولذلك نبه الله عز وجل المؤمنين إلى هذه المسألة في سورة الحجرات، فقال الله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].
لأن هناك ظناً شرعياً مثل: غلبة الظن الذي تبنى عليه كثيرٌ من الأحكام الشرعية، مثل أن الإنسان عندما يرجح في الصلاة أن التي صلاها أربعاً وليست ثلاثاً، فإنه لا يأتي بركعةٍ زائدة، وإنما يعتمد على ما غلب على ظنه من رجحان أن تكون التي أتى بها هي الركعة الرابعة فلا يزيد، وهذا ليس موضوعنا، موضوعنا عن ظنٍ سيئ يقوم في بعض النفوس كتفسيراتٌ سيئة لبعض الكلمات والتصرفات، تسبب التنافر والابتعاد.(23/3)
النظرة الطبقية والمادية
أحياناً: يكون سبب التنافر غير شرعي أيضاً، مثل أن يقول: إن فلاناً منظره ليس جميلاً، أو أن هندامه ليس أنيقاً، أو أن مركبه ليس وثيراً، وهكذا، فيحدث نوع من التباعد، وخصوصاً عندما يكون الإنسان من طبقة اجتماعية معينة فيها غنى أو ثراء، فتراه يحس أن الذين دونه في الطبقة الاجتماعية، ودونه في الغنى والثراء بعيدون عنه، وأن هؤلاء تحته بمنازل، كيف يمكن أن تحدث الأخوة في الله بين الذي ينظر هذه النظرة المادية؟ ولذلك ترى بعض الناس يتقاربون ممن هم في طبقتهم الاجتماعية، أو مثلهم في الغنى والثراء تقارباً زائفاً قد يبدو في الظاهر أنهم إخوة في الله وليسوا كذلك.
فهذا أيضاً من الأشياء التي يجب أن تعالج في النفس، ومجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم من عظمته أنك تجد فيه أثرى الناس وأفقر الناس يجتمعون مع بعضهم البعض، يقاتلون صفاً واحداً، ويحضرون مجالس العلم المختلفة، لا يأنف عبد الرحمن بن عوف أن يجلس بجانب بلال وهكذا.
لكن في مجتمعاتنا قد يحدث هذا، وقد يرى بعض المتفوقين دراسياً أنهم أرقى عقولاً أو أذهاناً أو قوةً في التفكير من أناسٍ آخرين من البسطاء المتخلفين في الدراسة، فيجد في نفسه أن يمشي مع هذا الشخص!! لابد أن يمشي مع أشخاص متفوقين دراسياً، ولذلك يبتعد عن الضعفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم بين كما ورد في صحيح البخاري: (ابغوني الضعفاء؛ إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم).
أحياناً: في بعض الأنشطة الإسلامية بعض الشباب يحتقر ناساً من البسطاء الموجودين في هذا النشاط، وقد يكون هؤلاء البسطاء هم من الأسباب الكبيرة في توفيق الله لهذا النشاط الإسلامي، لأن الله مع الضعيف، لماذا يستجاب دعاء المظلوم؟ لماذا يستجاب دعاء المسافر؟ لماذا يستجاب دعاء المريض؟ لأن الذي يجمعهم هو الضعف الذي يحصل لهم بسبب وجودهم في هذه الحالات التي سببت ضعفهم، المسافر بسبب غربة ومشاق السفر يصبح ضعيفاً فيه ذلة، المريض أيضاً فقد صحته، وهو يرى الأصحاء ففيه نوع من الذلة والمسكنة، المظلوم مقهورٌ مغلوب وفيه نوعٌ من الذلة والمسكنة، ولذلك يستجاب لهم، كما بين ابن القيم رحمه الله في تحليلٍ رائع في مدارج السالكين لهذه النقطة.
فإذاً تنافر بعض الشباب عن البعض بسبب تفوقهم في بعض النقاط المادية، سبب ليس بشرعي للتنافر، ولا للإعراض ولا للهجران، ويجب أن تتلمس هذه الأسباب في النفوس، وكل واحد منا مسئولٌ عن النزعات التي تقوم بنفسه.(23/4)
حب الترؤس على الآخرين
أحياناً: يكون سبب التنافر حب الرئاسة، وهذا سببٌ دقيق وهي الشهوة الخفية التي جاء التعبير في بعض الآثار، حب الرئاسة هذا يريد وأن تكون له القيادة والريادة، وأنه يجمع في يده زمام أكبر عدد ممكن من المسئوليات، وقد يكون صاحب شخصية قوية.
والشخصيات القوية في الغالب تنزع هذا المنزع، وعندما يجتمع مجموعة من الناس في وسط، فإن من الأمر أنه لا يخلو أن يوجد أكثر من واحد صاحب شخصية قوية، وأكثر من واحد يريد أن تكون له القيادة ويريد أن يستلم الريادة، ويريد أن يكون هو الذي يوجه ويسير دفة الأمور.
والعادة أن هذه الشخصيات لا تتنازل بسهولة عن آرائها، ولا ترضى بسهولة أن تطبق فكرة شخص آخر، وعندما يجتمع اثنان على الأقل من هذه النوعية، كلٌ منهما يريد أن تكون له الكلمة، يحدث بينهما تنافر وابتعاد، ويرى كلٌ منهما أنه أهلٌ لأن يكون في هذا المكان.
ولذلك ترى حالة هذا الوسط المصغر الذي نتكلم عنه والذي وضعنا الآن شريحته تحت المجهر، إما أن يكون الصراع قائماً محتدماً لفترةٍ طويلة من الوقت حتى يهدي الله أحدهما أو كلاهما، أو أنك تجد واحداً استطاع أن يسيطر على الموقف ويقهر الآخر، فيضطر الآخر إلى الخروج من الساحة، أو أن يقبع ساكتاً طيلة الوقت، ويكون ما بينهما من الضغينة والبغضاء شيء كثير جداً.(23/5)
الحظوظ والأشياء النفسية
هذه طائفة من الأسباب التي تولد التنافر، أحياناً يكون هناك سبب نفسي، تجد تفسير هذا السبب في بعض العبارات التي يطلقها البعض، فتجد واحداً يقول: أنا يا أخي ما ارتاح لفلان ولا لطريقته، ما ارتاح لكلامه، ما ارتاح لإلقائه، أنا عندما يتكلم أريد أن أسد أذني، عندما يأتي للمجلس أود أن أفارقه بأقصى سرعة، لا أريد أن أقع له على أثر، ولا أرى له منظر، ولا أسمع له خبر وهكذا يجب ألا تقف المسألة عند هذا الحد، بعض الناس أحياناً يقولون: ما دام وصلنا إلى هذا الشكوى لله، إذاً اجتنب هذا الشخص، ويذهب كلٌ منكما في طريقٍ وسبيلٍ آخر، لكن المشكلة لم تحل! ولذلك ينبغي أن يدقق وتحلل هذه المواقف وأن ينظر ما هو السبب وراء هذه القطيعة وهذا التنافر، فهل هو مواقف؟ أحياناً يكون السبب موقفاً من المواقف ترتب عليه كره وبغضاء شديدة جداً، أحياناً يكون الموقف فعلاً خطأ، ولكن ينبني على هذا الخطأ خطأ أكبر منه وهو الكره الذي يحصل في نفس هذا المخطئ عليه.
أسألكم سؤالاً: أليس قد حدث لكل واحدٍ منا مثلاً في حياته الدراسية، أنه في حصةٍ من الحصص مثلاً قد يختار المدرس مجموعة أو واحداً واحداً من الطلاب لكي يقول رأيه في مسألة؟ يطرح الموضوع ويقول: تكلم يا فلان، كل الطلاب يرفعون أيديهم، وهو ينتقي، تكلم يا فلان، تكلم يا فلان، تكلم يا فلان، أليس قد حدث مرةً من المرات أو أكثر من مرة، أنك عندما تكون لست الشخص الذي يختارك المدرس للكلام في ذلك الموقف، أن تحس أن هذا المدرس يقصد ذلك، وأنه لا يريدك أن تتكلم عمداً وإلا لانتقاك؟ ويكون في نفسك شيءٌ من البغضاء لهذا المدرس، لماذا سمح لفلان وفلان بالكلام ولم يسمح لي المجال للكلام؟ أليس قد حدث هذا؟! قد يكون المدرس بهواه وميوله الذاتية أو الشخصية قد انتقى الناس الذين يميل إليهم ليفسح لهم المجال للكلام، وقد يقول إنسان: معذور جداً، لأن الوقت المقرر لمناقشة هذا الموضوع في الحصة حقيقةً وواقعاً وعقلاً لا يكفي ولا يستوعب كل طلاب الفصل، ولذلك فهو انتقى انتقاءً عشوائياً مثلاً.
وليس هناك سبب معين لأن يحرم طالباً من الكلام، ولكن الطالب قد لا يكون عنده فقهٌ في المسألة فيتصور أنه مقصود، فيعادي هذا المدرس ويكرهه، ويكون هذا الموقف الواحد سبباً في أن تتراكم الكراهية في نفس هذا الطالب، وأن يفسر كل التصرفات التي تحدث بعد ذلك من هذا المدرس على أنه مقصود فيها.
هذه صورة ولكن ما يحدث في واقع الأخوة في الله! كثيرٌ جداً في هذا الجانب.
ولذلك نحن ندعو دائماً ونقول لك: يا أيها الشاب! إذا أحسست ببعض المواقف مما أذكره لك الآن، فلا تتردد لحظةً واحدة في إجراء عملية مهمة جداً وهي المصارحة، كثير من النفسيات في كثيرٍ من الأحيان تفضل تخزين المواقف في الداخل، ولا تصارح البتة ولا يأتي ويصارح ويقول: يا أخي لقد حدث منك تصرف في وقت كذا وكذا، وأنا أقول لك: الصراحة أنني فهمت منه كذا وكذا، قد يكون هذا من الشيطان، وقد يكون فعلاً أنت قصدته فأنا أريد أن توضح لي الأمر، وأن تبين، كثيرٌ من الناس لا يوجد عندهم هذا الأسلوب وهذا المنهج.
وبسبب فقدان منهج المصارحة؛ فإنك تجد النقاط السوداء تتراكم في النفس حتى تكون بركاناً ينفجر يوماً من الأيام، وعندما نستعرض واقع بعض الصحابة نجد أن الأمر بينهم فيه مصارحة ومعاتبة، فتجد الواحد منهم لو حدث بينه وبين أخيه شيء جاء يعاتبه عما حصل، والآخر يعتذر إليه في كثيرٍ من الأحيان، نحن نفتقد إلى المعاتبة والاعتذار، قد تحدث معاتبة ومصارحة في بعض الأحيان، وقد تجد خطأً آخر وهو عدم الاعتذار وعدم التبرير الواضح، وإذا لم يكن هناك تبرير واضح، فمن أين تأتي الراحة؟! ولذا أوصيكم أن إذا وجد أحدكم شيئاً في نفسه على أخيه في موقف من المواقف، كلمةٍ من الكلمات، حدثٍ من الأحداث، أن يبادر ولا يسكت ولا يؤجل، لأن الأثر يبقى في النفس والموضوع يبرد، وإذا برد الموضوع لن يتجرأ ولن يكون هناك حماس في فتحه مرةً أخرى، ولكن النقطة السوداء بقيت في النفس، فالبدار البدار إلى المصارحة وإلى فتح النفس وتقول له معاتباً: أنا أعتب عليك يا أخي في هذا التصرف، وأنا لك أذن صاغية لأن أسمع عذرك.
بعض الناس قد يخجل -أقول: يخجل ولا أقول يستحي- من المصارحة، وخصوصاً عندما يكون الشخص الذي يظن أنه أخطأ عليه أكبر منه سناً، ويبدأ الكره ينبض في قلبه، ولا يستطيع أن يكلمه ونجد أمثلة كثيرة جداً لهذه النقطة بين بعض الآباء وبعض الأولاد.
كثيرٌ من الأولاد: عندما يجتمع مع أقرانه يبثُ إليه أشجاناً كبيرة وعظيمة، ويفتح له صدره على مكنونات سوداء تجاه أبيه، لماذا لا يصارح الولد أباه؟ يجد أنه لا يمكن أن يفاتح أباه، قد تكون شخصية الأب غير متفهمة، ولكننا في كثيرٍ من الأحيان نفتقد إلى الجراءة، ولو أننا فعلنا المصارحة أو المعاتبة مرةً واحدة؛ لانكسر ذلك الجدار من الخجل أو من الهيبة، نقول: اكسر الحاجز أفضل من أن تتراكم الكراهية في قلبك.(23/6)
علاج قضية التنافر في العلاقات الشخصية
ما هو موقفنا نحن من حالات التنافر؟ نحن قد نرى في الواقع، في الأوساط التي نعيش فيها، في المدارس، وفي الجامعات، وفي البيوت، وفي الديوانيات والمجالس قد نرى حالات تنافر، وفي وسط أقربائنا قد نرى حالات من التنافر، ما هو موقفنا من هذه الحالات؟(23/7)
التوفيق والإصلاح بين الاثنين
من الإنجازات العظيمة -أيها الإخوة، وأقولها وأنا واثقٌ من هذه الكلمة- أن تؤلف أو توفق وتقرب بين اثنين متنافرين، لأن المسألة صعبة جداً، والله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63].
ولذلك المرتزقة الذين يقاتلون في كثيرٍ من الأصقاع ضد الإسلام أو في الصراعات التي تدور في العالم ليسوا بمؤتلفين، ربما لو أنه قُتل صاحبه في جانبه لا يتأسف عليه، لأن المهم أن يستلم الراتب في النهاية أو يستلم هذا الارتزاق الذي يزعمه، ولكن الأخوة في الله، والمجتمع المسلم، ليس فيه شيء من هذا.
أولاً: نجد في الإسلام أشياء تساعد على التقريب بين المتنافرين، مثلاً: وضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه ليس من الإثم أن تكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فمثلاً: لو جاءك واحد وقال لك: يا أخي أنا هذا فلان أكرهه كرهاً شديداً، لماذا؟ قال: بلغني أنه قال في المجلس الفلاني عني: كذا وكذا.
بلغني أنه قال عني في المجلس الفلاني نقداً أو عيباً استهزاء وسخرية، يمكنك في هذه الحالة شرعاً، أن تقول له: وأنت كنت حضرت في المجلس؟ لا يا أخي ليس بصحيح، أنا كنت موجوداً في المجلس فلان صحيح تكلم بكلام لكن ما هو مثل الذي تقوله أبداً، يعني: كلام فيه شيء من النقد، لكنه شيء بسيط ما يذكر، هذا الذي أخبرك نمام، يريد الإفساد بينك وبين فلان، لا، أنا كنت موجوداً، وفي هذه الحالة ينبغي أن ننتبه لأمور: الأمر الأول: أن يكون الإنسان حكيماً عندما يكذب للإصلاح بين المتخاصمين، لأن بعض الناس مثلاً يُعاب في مجلس ويأتيه خمسة أشخاص يقولون له: فلان قال: إنك بخيل مثلاً، وأن القرش لا يخرج من جيبك بسهولة وأنك إنسان إلخ.
ليس من الحكمة هنا أن تقول: لا يا أخي أبداً ما ذكر كلمة بخيل مطلق، بالعكس قال: إنك كريم، الآن هذه الكذبة ليس فيها حكمة؛ لأن أربعة أو خمسة أشخاص يقولون ويؤكدون للشخص أن فلاناً قال عنه بخيل، وبعد ذلك أنت تقول له العكس تماماً برواية من طريقٍ واحد!! هذا ليس فيه حكمة أبداً، ولذلك نجد أن بعض المصلحين، أو الذين يحاولون الإصلاح، يزيدون الأمر تعقيداً، أو على الأقل أنهم يستثنون أنفسهم من الإصلاح، كيف؟ عندما تقول له: فلان ما قال عنك بخيل أبداً، ماذا سيقول في نفسه؟ يقول: إيه أنا أعرف شغلي مع فلان، لأنه يعرف أنك أنت الآن تريد الإصلاح، فإذاً لابد من الحكمة في الإصلاح بين المتنافرين، ولابد من الحكمة حتى في الكذب في الإصلاح، وليست كل كذبة صحيحة ودقيقة أو هي تكون بلسماً على الجرح، وإنما قد تزيد الجرح إيغاراً أو تعميقاً.
بعض الناس المصلحين بين المتخاصمين يزيد الطين بلةً أيضاً، بأشياء أخرى من الكلام، كلام سيء قيل عنه في مجلس، فقد يأتي واحد مصلح يريد الإصلاح لكن ليست عنده حكمه، فيقول: يفسر ويبرر بأسوأ وأسوأ يقول: أنا ما قصدت ربما قصدت كذا، وهذا القصد الثاني أطم وأعظم من القصد الأول، فأيضاً العلاج هذا غير نافع.
بعض الناس قد يلجئون إلى أساليب معينة خصوصاً في أوساط الطلاب، مثلاً: رتبا هذه الغرفة، وهذا إشراك الطرفين في أمرٍ واحد، ليس دائماً تهيئة للأجواء الطيبة، بل قد يكون الكره الذي بينهما شديداً؛ لدرجة لو أنك جمعتهما في مناسبةٍ واحدة لازداد الخطب وعظم، وكل واحدٍ منهما يكظم غيظاً وهو ساكت، ولكنه يغلي من الداخل، لأنه بقرب فلان، ولكنني أذكر لكم مثالاً واقعياً في طريقة حصلت لإصلاحٍ بين متنافرين كان لها أثر واقعي فعلاً: حصل بين زيدٍ وعمرٍ من الناس خصام وكره وبغض، فقال: المدرس لكلا الطالبين: ليأخذ كلٌ منكما سيارة الآخر، وفعلاً استجابا للطلب؛ لأنه من شخص أعلى منهما في المنزلة، فأخذ كل منهما سيارة صاحبه، هذا العلاج وهذه الوسيلة ليس فيها جمع للنقيضين في مكانٍ واحد، وطلب من كلٍ منهما أن يعمل نفس العمل، كلا، وإنما هو أن يشتركا في شيء، ولكن كل منهما بعيد عن الآخر.
أيها الإخوة! نحن نحتاج في علاج القضايا الشائكة إلى خبرة بالنفوس، وهذه الخبرة لا تأتي إلا بالممارسة والاحتكاك بالواقع، والمسألة تحتاج إلى قليلٍ من التركيز، وقليل من الانتباه -لا أقصد قليل، ربما أكون مخطئاً في التعبير- بل تحتاج إلى انتباه وإلى تركيز للاستفادة مما يدور، فالناس أصناف، وأنواع، بعضهم ينظر إلى الواقع، فيستشف منه أشياء ويربط ويحلل، وبعض الناس لا يهمه ماذا يدور في الواقع أبداً، يرى الناس يتخاصمون، ويفترقون ويجتمعون، ويتصالحون ويتنازعون، وهو بعيد عن النظر في المشكلات ومعرفة الأشياء التي أدت إلى التقارب والتنافر وهكذا.(23/8)
الموعظة والنصيحة للمتخاصمين
من الطرق: الموعظة: عندما تعظ كل واحد من هذين المتخاصمين، بالأحاديث التي فيها ذم الهجران والقطيعة، وأنها من أسباب الفشل في المجتمع المسلم: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] حديث عائشة في صحيح البخاري، حديث قيم جداً لما صار بينها وبين ابن الزبير خصام.
ما هي الصلة بين عائشة وبين عبد الله بن الزبير؟ هي خالته أخت أمه، ومن هي أمه؟ أسماء.
هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه في كتاب الأدب، أن عبد الله بن الزبير انتقد على عائشة خالته تصرفاً تصرفته ببيعٍ أو شراء، فاتهمها بأنها لا تحسن التصرف، فلما سمعت بذلك نذرت ألا تكلم عبد الله بن الزبير أبداً طيلة حياتها، الصحابة بشر ويقع في نفوسهم مثل ما يقع في أنفس الناس، قد يخطئون فينتقدون، والمنتقد أيضاً يحدث في نفسه تفاعل مع الموقف فيتخذ موقفاً آخر، ولكن نحن سنعلم من ثنايا القصة، ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة، فبقيت عائشة لا تكلم عبد الله بن الزبير مدة، وطال الأمر وشق على عبد الله بن الزبير.
فتوسط إلى اثنين من القرابة، أن يدخلا على خالته، فجاءا إلى عائشة وعبد الله مختبئ خلفهما، فاستأذن بصوتيهما فقط، فلما عرفتهما عائشة قالت: ادخلا، قالا: كلنا؟ قالت: كلكم، فلما دخلا عليها جعلا يعظانها ويذكرانها بأنه لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، وجعل عبد الله بن الزبير يقبلها ويبكي ويناشدها أن تكلمه، وكان موقفاً مؤثراً جداً اجتمعت فيه الموعظة، مع التناصح، مع التواصل، فكلمته عائشة وأعتقت في نذرها ذلك، كفارة النذر وكانت كلما تذكرت نذرها ذلك؛ تبكي حتى تبل دموعها خمارها، فالصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى الحق، ويفيئون بسرعة، ويتأثرون من تذكر الذنب، أو تذكر المشهد، أو تذكر الخطأ، وكانت عائشة تبكي كلما ذكرت نذرها ذلك حتى تبل دموعها خمارها، لكن من منا اليوم لو حصل بينه وبين أخيه قطيعة وتصالح معه، كلما تذكر لحظات أيام الفرقة والهجران بكى -مثلاً- حتى تبتل لحيته أو ثوبه أو تسيل دموعه على خديه؟! فإذاً لابد من الموعظة، التواصي بالحق والصبر لجميع الأطراف، ولابد أن يأتي كلٌ منهما إلى الآخر، لأن المشكلة أحياناً في من يأتي إلى الآخر، ومن يبدأ، ومن الذي يكون من جهته التواصل، هذه المواقف الآن بين كل اثنين بينهما تخاصم، المشكلة من الذي يأتي أولاً ويطلب المفاهمة أو المصالحة، لأن كل واحدٍ منهما يقول له الشيطان: إذا ذهبت معناها أنك أنت الأضعف، معناها: أنك أنت ضعيف الشخصية، معناها: أنك أذللت نفسك لفلان، طبعاً ليس الواصل بالمكافئ لكن الذي يصل من قطعه، ليس مثل الشخص الذي يكافئ الوصل بوصلٍ مثله، ليس الواصل بالمكافئ.
أكتفي بهذا القدر من أسباب التنافر، وعلاج قضية التنافر التي تحدث أحياناً في أفراد المجتمع الواحد.(23/9)
التجاذب في العلاقات الشخصية وأنواعه
أنتقل إلى مسألةٍ أخرى وهي مسألة التجاذب:(23/10)
علاقة الأخوة في الله
التجاذب والالتقاء ظاهرةٌ أخرى، توجد بين أفراد الوسط الواحد، ولكي نختصر الكلام أقول: إنه في بعض الأحيان تكون قضية التجاذب أخطر في نتائجها من قضية التنافر، قد يستغرب البعض هذا الكلام، ولكن دعونا نستعرض معكم ونحلل ما هي أنواع التجاذب التي تحصل بين الأفراد في المجتمع الواحد.
أحياناً يكون هذا التجاذب، أو هذه العلاقة علاقة التقاء، علاقة أخوة في الله، مبنية على الإيمان الصادق، وهذا هو المطلوب والهدف، وهو الذي ينبغي أن تقطع كل العلاقات إلا هذه العلاقة.(23/11)
علاقة المصلحة المادية
ثانياً: علاقة بين اثنين مثلاً أو أكثر تجمعهما مصلحةٌ مادية، واحد يحب الثاني لأجل أن الآخر غني أو عنده مال، أو عنده سيارة وهذا ما عنده سيارة، وأنه سينفعه بسيارته، أو أن زيداً يحب عمراً؛ لأن عمراً متفوق دراسياً، وزيد الآن في الثانوية العامة، وهو يحتاج لمن يشرح له، ولذلك فهو يتقرب من عمرو، ويقيم معه العلاقات ويتردد إليه، لكي يستفيد من شرحه مثلاً، هذا كل ما بينهما فقط، أو مثلاً أبو عمرو لديه منصب في شركة أو مؤسسة أو دائرة حكومية، وزيد يريد الوظيفة وستخرج بعد قليل، فزيد يتقرب إلى عمرو لكي يتوسط عند أبيه ليوظفه في تلك الشركة أو الدائرة أو المؤسسة، فهذه العلاقة علاقة منفعة مادية، وبعض الناس يسمون أنفسهم في بعض الشركات، مسئول العلاقات العامة.
مسئول العلاقات العامة وظيفته في الغالب كل شيء إلا الأخوة في الله، انفعني وأنفعك، أقيم علاقات مع هذا الطبيب (إذا مرضت عالجنا) أقيم علاقات مع هذا المدير لكي ينجز لي المعاملة، أقيم علاقات مع هذا التاجر لكي يذهب إلى الدكان يعمل لي خصم وهكذا، مبنى العلاقة كلها علاقة مادية.(23/12)
علاقة المشابهة في الطباع
النوع الثالث: علاقة ارتياح تقتضيه المشابهة في الطباع، فتجد مثلاً اثنين من الناس بينهم علاقة حميمة، يسيران مع بعضهما البعض، ويخرجان مع بعضهما البعض، ويدخلان مع بعضهما البعض، ويتكلمان مع بعضهما البعض وهكذا.
السبب: ارتياح شخصي لأن فلاناً يرتاح له.
أعطيكم مثالاً: واحد يسألني هل هذه أخوة في الله أو لا؟ يقول: أنا أشعر بارتياح كثير لفلان لماذا؟ قال: يا أخي عندي أشياء عجيبة، أولاً اسمه مثل اسمي، وسيارة أبيه مثل سيارة أبي، ونفس المستوى الدراسي ونفس الفصل، ونفس المعدل الدراسي، وأتصور أن عنده أخ صغير اسمه محمد، وأنا عندي أخ صغير اسمه محمد، وبيته من الخارج يشبه بيتنا من الخارج، وشكله يشبه شكلي، والأكل الذي يحبه نفس الأكل الذي أنا أرغب فيه، ودائماً نتفق في الأشياء!!! هذه المشابهة أحياناً تسبب علاقة؛ فتجد أن هؤلاء الاثنين مع بعض دائماً في رواح ومجيء وجلوس وكلام، وذلك لمجرد هذا التشابه الظاهر لا لأن هناك أخوة إيمانية، ولا لأن هناك إيمان يربط كل واحد منهما بالآخر، وإنما هي مسألة مشابهة في الشكل العام، أو في مجموعة من الأشياء العامة في حياة كل منهما.(23/13)
علاقة المعصية
النوع الرابع: علاقة معصية، والعياذ بالله تجمعهم المعصية، فيشاهدان المحرمات مع بعضهما البعض، وينظران إليها ويستمتعان بها، ويأتيانها، تجمعهما الأشياء المحرمة مثل ما يجمع واحد مع آخر السفر إلى الخارج، لقضاء الوقت في الأمور المحرمة وعصيان الله ومبارزته ومحادته بأنواع الكبائر، وقد يكون الأمر بينهما أدهى وأخطر من ذلك إلى درجة أن يقع كلٌ منهما في الفاحشة بالأخ، هذا النوع من أسوأ أنواع العلاقات طبعاً.
لأنه علاقة تزيين المعصية، كل واحد منهما يزين المعصية للآخر ويتعاونان عليها، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والناس من هذا النوع كثيرون جداً الآن في المجتمع، والروابط التي تربط كل منهما بالآخر هي المعاصي، عندما تبحث لماذا فلان يتقرب من فلان، ولماذا بينهما علاقة؟ تجد في النهاية مثلاً أن هذا يأتيه بالخمر وهذا يأتيه بالنساء، وهذا يأتيه بالمجلات الفاجرة، وهذا يأتيه بالأفلام السيئة، هذا موجود!!(23/14)
علاقة العشق والتعلق
وهناك علاقة خامسة: وهي علاقة قد تكون في خطورتها أخطر من النوع الذي ذكرناها الآن قبل قليل: وهي علاقة العشق والتعلق لدرجة أنه يحبه مع الله لا يحبه في الله، لدرجةٍ تصل إلى صرف أنواع من العبادة لهذا الشخص، وهذه مشكلةٌ تنشأ بسبب دوافع كثيرة، تكون بدايتها بسيطة، ولكنها تنمو وتنمو وتعظم وتكبر حتى تصبح العلاقة بين هذين الاثنين؛ بحيث أن كلاً منهما لا يستطيع أن يغيب الآخر عن ناظريه أبداً، فلابد أن ينظر إليه دائماً، وأن يتصل به باستمرار، وقد يكلمه الساعات الطويلة هاتفياً يومياً، والأدهى من ذلك أنه يفكر فيه في صلاته، وعندما يقول: إياك نعبد وإياك نستعين، ليس فكره مع الله ولكن مع ذلك الشخص!! وكأنه الهواء الذي يستنشقه، وأنه لو غاب عنه لحظةً واحدة يتألم جداً للفراق حتى يعود إليه، وهذا النوع من التعلق الشديد له درجات، قد تكون في بعضها غلو، وفي نهايتها شركٌ أكبر! وبعض الناس يستبعد هذين ويقول: كيف يحدث؟ ولكنه يحدث، وهنا نعود إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يحب المرء -لاحظوا أيها الإخوة الرسول صلى الله عليه وسلم كلامه وحيٌ، إن هو إلا وحيٌ يوحى، يوحى إليه صلى الله عليه وسلم، لم يقل: (وأن يحب المرء في الله) معنى العبارة صحيح، لكن لأن الله عز وجل الحكيم الخبير العليم يعلم بأنه تنشأ بين العباد علاقات ليست شرعية، وأن هذه العلاقات قد تكون قوية جداً، وأن الشيطان يلبس على بعض الناس؛ أن علاقتك يا فلان مع فلان أخوة في الله، ولكن الحقيقة ليست كذلك، وقد يزين لهم الشيطان القيام بشيءٍ من الطاعات مع بعضهما البعض، ولكن المسألة ما زالت في حقيقتها نوعٌ من العشق المذموم شرعاً، فمثلاً لكي يخرجان من دائرة الانتقاد أو نوع من وخز الضمير، فترى الواحد يقترح على الآخر: ما رأيك أن نقرأ الكتاب، نستمع شريطاً، نحفظ قرآناً، نقوم الليل سوياً، فيفعلان هذا فترةً من الوقت، أو بعضاً من الأحيان، ولكن ما زالت العلاقة في حقيقتها ليست أخوة في الله، وإنما يحاول كلٌ منهما أن يخدع نفسه وأن يظهر أمام نفسه وأمام الآخرين، أنها أخوة في الله، ولكن الحقيقة ليست كذلك، بل ربما لو جلسا يقرآن كتاباً لذهب فكر كل واحدٍ منهما في الآخر، ولم يفقه شيئاً مما يقرأ وهكذا.
فإذاً ما الذي يجرد لنا هذه الصور على حقيقتها ويظهرها واضحة وجلية، تحت مجهر الكشف عن الحقيقة؟ إنه هذه الفقرة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) لاحظ الاستثناء القوي المسبوق بالنفي، وهذا أقوى أساليب الحصر في اللغة، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، نفي ثم استثناء، أقوى أساليب الحصر في اللغة، لماذا؟ لأن القضية موجودة بين العباد فعلاً، علاقات محبة بين العباد لكن ليست لله، كثيرة ومتنامية ومتشعبة، وكثيراً ما تكون مدمرة على بعض الأطراف، وكثيراً ما تفشل مجموعة أو تجمع إسلامي بأكمله، لأنها مرضٌ معدٍ في كثير من الأحيان، تحتاج إلى وقفات صارمة من جميع الأطراف، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم: الجواب الكافي وهذا الكتاب هو عبارة عن جواب على سؤال، كما يتبين لمن يقرأ المقدمة، لكن نحن أحياناً قد نقرأ فلا نستجمع الصورة الكلية للكتاب الذي نقرؤه إذا كان وحدة واحدة، الآن كتاب: الجواب الكافي وحدة متكاملة، لكن عندما لا يجتمع عند الإنسان يكون أشياء متناثرة، يتكلم أولاً: عن الدعاء، اللجوء إلى الله، أضرار الذنوب، قوم لوط، يتكلم عن بعض الناس الذين أهلكوا، ثم تكلم في النهاية عن قصص من العشق.
ولكن عندما تتأمل في منهج ابن القيم رحمه الله في الكتاب، فهو في الحقيقة عظيم لعلاج مشكلة العشق والتعلق، والسؤال الذي ورد إليه يدل عليه، وهو أن مصيبةً وقعت في إنسانٍ كادت أن توبقه وتهلك دنياه، تفسد عليه دنياه وآخرته، هذا آخر قسم تكلمنا فيه وذكرناه في أنواع العلاقات، هذه هي المشكلة التي سأل عنها ذلك الشخص ابن القيم رحمه الله فأجاب عليه بهذا الجواب، وهنا نلاحظ منهج العلماء -أيها الإخوة- في علاج المشاكل، ليس الكلام على نقطة معينة، وإنما الكلام عن نقطة تجمع الأشياء فأنت ترى أنه أولاً يقول له: إلجأ إلى الله، يبين الدعاء وأوقات الإجابة وما هي الأدعية المأثورة، ما هو الاسم الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب!! وهكذا تتوالى، ثم يتكلم له عن أضرار الذنوب والفواحش، وأن عملك هذا عندما ترى مضاره، فإنك إذا كنتَ عاقلاً ينبغي أن تبتعد عنه، ذكر أشياء عجيبة في مظاهر الذنوب في كتاب: الجواب الكافي، وأتبعه بذكر قصة قوم لوط وماذا فعل الله بهم، لأن المسألة قد تؤدي إلى شيءٍ من هذا، وابن القيم رحمه الله، ليس إنساناً سطحياً في علاج القضايا، ولكنه رجل عميق وقد نقرأ ولا نفهم عمق الكلام تماماً، ولكن عندما يقرأ الإنسان عدة مرات يلوح له المنهج وترابط الكلام الذي ذكره، والقصص الواقعية ما قال فقط: الأدلة من القرآن والسنة، لا، وإنما نجد في كتاب الجواب الكافي قصصاً واقعية، قصة حمَّام منجاب، وقصة فلان، وقصة الذين ختم لهم بخاتمة سيئة مثلاً، وأن بعضهم كان متعلقاً بالمال، وبعضهم كان متعلقاً بامرأة، وبعضهم كان متعلقاً بشخص، وبعضهم كان متعلقاً بسلطان، وهكذا من الأشياء، فهو منهج ممتاز جداً، ليس فقط أن نستفيد منه في علاج مشكلة التعلق والعشق فقط، وإنما أيضاً في وضوح المنهج في علاج بقية المشاكل.
وذكر أنواعاً من العلاجات، وكان يذكر بقوة، ويطرح أُطروحات قوية في علاج هذه المشكلة، وكان يقول: فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يبتعد أحدهما عن الآخر حتى يضطر أن يسافر إلى بلدٍ آخر بحيث لا يرى صاحبه ولا يقع له على خبر، ولا حسٍ ولا أثر، فإنه يفعل ذلك، ابتغاء السلامة في الدين.
تُحس أن العلماء المخلصين أصحاب الوعي بالواقع، طرحهم في علاج المشاكل طرح قوي، طرح جذري وطرح متكامل، بخلاف كثير من الحلول القاصرة التي نراها تُطرح لعلاج مشاكل قد تكون أصعب، الآن المشاكل أصعب مما كانت موجودةً من قبل.
فإذاً نحتاج -أيها الإخوة- لمزيد من الوعي والاطلاع، ولمزيدٍ من الإخلاص قبل كل شيء، حتى نصفي مشاكلنا كلها، وحتى نصل إلى مجتمع إسلامي نظيف خالٍ من الشوائب، وإلا فكيف ينصر الله قوماً قد تناوشتهم سهام الشياطين من كل جانب، وقد اعتورت فيهم أنواع الفواحش والمنكرات من كل جانب، كيف ينصرهم الله؟! وأنت قد رأيت من قول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41].
كوارث الطائرات، والسفن، الكوارث الجوية، والبيئية، والتلوث، وفساد البحر، وأنواع من الحيوانات قد تنقرض وتزول، وأماكن خضراء قد تتحول إلى جرداء، وأماكن قد تغطى بالثلوج فتصبح الحياة فيها صعبة، وأمراض جديدة تنشأ في المجتمع لم تكن موجودة من قبل؛ من هذه الطواعين الموجودة الآن، التي لم يتوصل العلم بعد إلى حلٍ لها ولا إلى علاج، ولكن قد يروج اليهود أنهم قد اكتشفوا علاجاً وليس بعلاج، وأنواع القنابل والأسلحة الفتاكة التي تدمر الأرض والإنسان والحيوان، بل إنها تفسد الجو وتصبح المنطقة موبوءة، وانفجارات في أنابيب الغاز، وأشياء من الكوارث تحدث في جميع أنحاء العالم، وتصادم القطارات، والكوارث الجوية بين الطائرات، وغرق السفن، وفساد الثمار، ونوع من التفاح هذا فيه أشياء اكتشف أنها تؤدي إلى مرض السرطان وهكذا.
الآن كوارث في هذا القرن لم تكن موجودة بهذه الكثرة، لو راجعنا تاريخ البشرية لا توجد كوارث وفيضانات تبتلع آلاف البشر، وهزات أرضية، وخسفٌ وبراكين وأشياء عجيبة تحدث في العالم الآن، لو استعرضت التاريخ العالمي في هذه السنوات الأخيرة، تجده مملوءاً بالكوارث، لا تمضي نشرة أخبار إلا وفيها كارثة قد وقعت في صقع من الأرض، ما هو هذا الشيء؟ هو إما قوله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] انظر العموم الذي يسببه الفساد، نتيجة الابتعاد عن شرع الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] ببعدهم عن شريعة الله، وعن الدين، وببعدهم عن منهج الله عز وجل: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] ليذوقوا وبال أمرهم، حتى يعلموا عاقبة الانحراف عن الشريعة، وحتى يعلموا ما هي أهمية تطبيق منهج الله في الأرض.
أيها الإخوة! لو أن منهج الله مطبق في الأرض الآن لما وجدتم هذه الكوارث وهذه المصائب، ولذلك عندما ينزل المسيح بن مريم، ويقوم معه الخليفة الصالح في الأرض، ويطبقان منهج الله، لن يكون هناك كوارث، حتى إن الولد يدخل يده في الحية فلا تضره، ويصبح الذئب في الغنم كأنه كلبها الحارس، ويستظل الناس بقحف الرمانة، فمن أين أتت البركة؟ كيف كانت الثمار فاسدة، وفجأة صارت الثمار مبروكة حتى إن الناس يستظلون بقحف الرمانة؟! إنه تطبيق منهج الله في الأرض!! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يحلُ حلاله، ويحرم حرامه، ويؤمن بكتابه، ويطبق شرع الله في نفسه، ويحكم قانون الله في الأرض، ونسأله عز وجل أن يصلح نياتنا وذرياتنا، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على نبينا محمد.(23/15)
الأسئلة(23/16)
دور الذنوب في عملية التنافر والتجاذب
السؤال
ما دور الذنوب في عملية التنافر والتجاذب؟
الجواب
لقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح: (أنه ما تحاب اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنبٍ يحدثه أحدهما) فلا شك أن الذنوب لها أثر في قطع العلاقات والأواصر بين الأخوة.
ولذلك تجد المذنب بطبيعته مكروهاً منبوذاً مقبوحاً محقوراً ممن حوله، هذا إذا لم يتب إلى الله، لكن إذا تاب إلى الله ولو كانت ذنوبه كثيرة أو متكررة، فإن علاقته بإخوانه تبقى غضة طيبة، وهو يحتاجهم لتقوية نفسه؛ لكي يتغلب على المعاصي من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، وليس معنى هذا -كما يفهم البعض- أن الإنسان إذا كان مصرّاً على ذنب معين، أنه ينبغي أن يقطع علاقته بالناس الطيبين؛ لأنه لا يستاهل أن يكون في هذا الوسط النظيف أو أنه سيكون سبب الفشل والخيبة أو أنه منافق لأنهم ينظرون إليه بأنه شخص مستقيم وهو في الحقيقة في الباطن بخلاف ذلك.
فهذه من مداخل الشيطان؛ الشيطان يفرح جداً إذا ابتعد الأخ عن إخوانه، وهذا عرس من أعراس الشيطان؛ مثل فرحة العرس أن ينفرد بأخٍ عن إخوة في الله يبتعد عنهم، والشيطان دائماً عندما يأتي أو كثيراً ما يأتي من باب الطاعة، فيقول لهذا الشخص: أنت إنسان مذنب مصر على المعصية، وهؤلاء أناس طيبون كيف تسمح لنفسك القذرة أن تبقى بينهم وأن تعكر صفوة إيمانهم وطاعتهم، ولابد أن تخرج من هذا الوسط.
الشيطان الآن جاء من باب الطاعة، يقول له: أنت يجب أن تخرج من بين إخوانك ديانةً، أي: الإسلام يقتضي أن تخرج من بين إخوانك، فإذاً الشيطان يأتي من باب الطاعات أحياناً، ولكن هذه أشياء شيطانية مغلفة بقالب من الطاعة وليست بطاعة أبداً، إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
ولكن لو أن واحداً وجد في نفسه وحشة من إخوانه، وأن هناك هوة فيما بينهم وبينه، فإن الأمر لا يعدو غالباً أن يكون بسبب ذنب يحدثه هو، ولذلك يجد نفرة من الواقع العام، لكن هذا لا يعني أن يخرج عنه، هو ما زال محتاجاً إليهم لكي ينقذوه من براثن الشيطان والمعصية.(23/17)
ضوابط هجر أصحاب المعاصي
السؤال
ما هي ضوابط الهجر لأصحاب المعاصي؟
الجواب
من أحسن من تكلم على هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كما وردت أقواله في: مجموع الفتاوى، وذكر الخلاصة، وأذكر لكم خلاصةً مهمة ذكرها رحمه الله، قال: إن العاصي أو الفاسق أو الفاجر، يُهجر أي: يقاطع لا يُكلم ولا يُسلم عليه، ولا يعاد ولا يشيع ولا يُزار، ولا يؤاكل ولا يُشارب ولا يُناكح؛ إذا كان الهجر مفيداً له، وإذا كان الهجرُ نافعاً ودافعاً له لكي يقلع عن المعصية أو البدعة التي هو واقعٌ فيها.
أما إذا كان الهجرُ ضاراً له، ودافعاً له على الاستمرار في المعاصي والفواحش، وأنه لن يزيده هذا الهجر إلا بعداً عن الطيبين وعن الخير والخيرين، فإن الهجر في هذه الحالة لا يجوز.
وهذا لعمر الله من الفقه الدقيق الذي متع به شيخ الإسلام رحمه الله! فقد متعه الله عز وجل بفقهٍ دقيق، لا يأخذ الأحكام هكذا، وإنما ينظر فيها وفي عللها، وينظر في المصالح والمفاسد، ويقارن ويرجح رحمه الله، ولذلك كانت القراءة لشيخ الإسلام ابن تيمية، من أنفع الأشياء التي تبني في نفس المسلم قواعد مستقرة ثابتة يستطيع من خلالها أن يتعامل مع الواقع من غير تذبذب ولا اضطراب ولا نتائج سلبية، قراءة لكلام شيخ الإسلام رحمه الله، خصوصاً عندما يتكلم في جوانب التعامل مع الواقع مثل: موقفه من التتار، وما حدث مع الناس الذين ناقشهم في العقيدة، وموقفه من أصحاب السلطان وغيرهم فيها فقه نابع من الواقع، ومن الفقه بالقرآن والسنة ومن التجربة الواعية.(23/18)
علاقة المصلحة المادية لا تعارض علاقة الأخوة في الله
السؤال
بعد استماعي للمحاضرة أصبحت أشك في محبتي لجميع أصدقائي فما هو الحل؟
الجواب
لقد ذكرني هذا الأخ جزاه الله خيراً بتنبيهٍ كنتُ سأورده في ثنايا الكلام وهو: أن الإنسان عندما يسمع الكلام، عندما نقول: وبعض الناس يحب شخصاً لأنه ينفعه في الدراسة، وبعضهم يحب شخصاً لأن أباه قد يتوسط له في شيء من الأشياء الدنيوية، وبعض الناس فهو عندما يفكر في الأمر يجد أنه لا يخلو من أحد هذه الأشياء، فيظن الآن أنه لا تنطبق عليه أحاديث الإيمان، وأنه يحب الناس في غير الله، ولكن المقصود أيها الإخوة! أن الشيء المذموم هو أن تكون علاقاتنا فقط علاقات مصلحة، ليس لها علاقة بالإيمان، ولا بالتآخي في الله، ولا بالتواصي على الحق والصبر، ولا بطلب العلم، ولا بالدعوة إلى الله، ولا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بإصلاح عيوب بعضنا البعض، والتناصح، فإذا كانت هذه كلها غير موجودة وإنما كل ما هو موجود في علاقاتنا هو علاقات مادية مع هؤلاء الناس فهذا هو المذموم.
أما كون الإنسان ينتفع من أخيه المسلم بأشياء في الدنيا، فليس بمذموم! لك صاحب في الله، أنت متآخٍ معه في الله، أنتَ معه في مجالس علم وفي حِلَق ذِكر، أنت معه في تعاون على الدعوة إلى الله، ليس عندك سيارة هو يُوصلك بسيارته إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل، هل هذا شيء مذموم؟!! أبداً المفروض أن المسلم يُعين أخاه المسلم: (وأحب الناس إلى الله أنفعهم) (أعظم الأعمال عند الله سرور تدخله على قلب مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً) وبعض الصحابة كان يلجأ إلى بعض الصحابة الآخرين لكي يطرد عنه جوعاً.
فإذاً ليست هذه الأشياء التي تظهر للحاجة ينتفع بها المسلم من أخيه المسلم، ليست مذمومة، لكن المذموم أن تكون كل العلاقة مادية، والله أنا أعرفه عندما أحتاج إليه، وأنا أتجاهله تماماً وأتنكر له عندما لا أحتاج إليه مادياً، هذا المذموم، وهذه موجودة الآن في كثيرٍ من الناس، إذا فزع إلى واحد من الناس المعروفين يتودد له ويعزمه، وتستغرب كيف نشأت العلاقة المفاجئة، ما هي سبب العزائم المتوالية والهدايا والأُعطيات والكلام الطيب؟ تجد أنه يحتاج إلى واسطة في أمرٍ من الأمور، وهذا هو الشخص المناسب، فإذا نفعت الواسطة وأخذ ما يريد من حظوظ الدنيا، رماه وراء ظهره، وأعرض عنه، لا عزائم ولا ولائم ولا كلام طيب، ولا مودة ولا علاقة ولا شيء.
إذاً لماذا أقام معه العلاقة؟ ولماذا افترق عنه؟ لحاجة دنيوية، وهكذا، بعض الشباب مثلاً قد يتودد إلى طالب ذكي مجتهد في الامتحانات، وأيام قرب الامتحانات فحسن علاقاته معه وزيارات وهدايا وكلام طيب، لماذا نشأت العلاقة فجأةً؟ حصل التقارب؟ من أجل الامتحانات، فإذا نجح في الامتحانات وانتهت العمليات وسافر كل واحد منهما إلى مكانه ونسيه، ونسي معروفه، ونسي كل خيرٍ عمله له، إذاً هذه العلاقة الفاسدة المذمومة التي نتكلم عنها، وأعيد وأكرر وأقول: وليس المقصود أن الإخوان في الله ينفع بعضهم بعضاً، أو ينتفع بعضاً من بعض، وهذا قد حصل من الصحابة.(23/19)
لا إنكار ولا هجر في مسائل الاجتهاد
السؤال
هناك ظاهرة انتشرت في الشباب الملتزم وهي: كثرة الاختلاف في أمور بسيطة ينتج عنها الهجر بينهم، مثل عدم السلام عليه والطاعة إلخ، فهل هو من الشيطان؟
الجواب
نعم غالباً ما يكون من الشيطان، مثلاً مسألة فقهية: النزول في الصلاة، أنزل على الركبتين أو على اليدين، أضع يدي بعد الرفع من الركوع على صدري أم أسبلهما ولا أضعهما على صدري، حديث التسليم في الواحدة صحيح وإلا ضعيف.
بعض الناس ما هو موقفه من هذه المسائل؟ يتناقشون، ويتبادلون الأدلة ووجهات النظر ويقلبونها، وهذا شيء طيب جداً وهذا أمر مطلوب، أعطيك قناعتي وتعطيني قناعتك، أناقشك في نقاط الضعف في رأيك، وتناقشني نقاط الضعف في رأيي، هذا شيء طيب جداً، هذا يزيد العلم ويوسع المدارك العلمية في أذهان الأشخاص المتناقشين، وهذه اسمها مباحثة علمية، وكانت المناظرات بين علمائنا معروفة وقديمة، ولكن المهم ماذا يحدث بعد المناقشة؟! إن كان الذي سيحدث هو تفرق واختلاف ومقاطعة ومعاداة ومباغضة يقول: هذا مخالف للسنة في الصلاة، هذه السنة وهذا يخالف، إذاً اخرج، ابتعد عني، أنا لا أكلمك، أنت مبتدع أنتَ أنتَ، والمسألة اجتهادية، وأنتم تعلمون القاعدة التي ذكرها علماؤنا ومنهم ابن القيم رحمه الله في: إعلام الموقعين، الخلاف المقبول: هو ما يكون في مسائل الاجتهاد.
القاعدة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ما هو مباحثة ومناقشة!! لا إنكار يعني: إنكار يفضي إلى استخدام القوة والعنف والشدة والتقاطع والتباغض، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، أي: التي فيها مجال للخلاف داخل الدين، ليس الاختلاف فيها، ليست القضية أن هذه بدعة، والأخرى سنة، أو هذا حلال وهذا حرام، أو بشيء واضح من العقيدة الصحيحة، وشيء من العقيدة الباطلة، هذا الأمر لا يصح أن نقبل فيه الخلاف.
المسائل التي وضح فيها الحق ولا يتسع لها الخلاف في شريعتنا، لا يمكن أن يقبل فيها خلاف، لو جاءنا أحد الناس وقال: يا أخي الربا فيه خلاف، فيه وجه، أن البنك يأخذها ويشغلها ويمكن أن هذا ليس رباً، يمكن أنها أرباح، هذا كلام فارغ، هناك عقد متفق عليه، نسبة محددة ثابتة حتى لو تاجر فيها البنك في عشرين ومائة صفقة، هذه المسألة واضحة لا تقبل الخلاف، لا يمكن أقول: أنا وفلان سنجتمع معاً على قضية الربا، الربا هذه مسألة ثانوية، أو مثلاً نكاح المتعة ممكن مع أنه قد وضح له الحق وعرف الحق الطرف الآخر، وأصر على باطله، لا يمكن أقبله وأجتمع أنا وإياه في صفٍ واحد! أو واحد عنده عقيدة زائغة يقول مثلاً: يجوز البداء على الله، أي: الله عز وجل يبدو له أمر، ويغير رأيه، استغفر الله العظيم يا أخي! هكذا بعض الضلال وبعض الطوائف من الباطنية وغيرهم، يعتقدون هذه العقيدة في الله، لا يمكن أن أجتمع في صف واحد أنا وشخص يؤمن بمثل هذه العقيدة في ربي الذي أعبده، ولكن لو أن هناك علماء ثقاة لهم أدلتهم، قالوا: هذا الشيء مباح، وعلماء ثقاة لهم أدلتهم قالوا: هذا الشيء محرم، مسألة فيها مجال الاختلاف، أنا ما أنكر عليه، لكن أتباحث معه وأتناصح وهكذا.
فإذاً: لا نحول الأشياء التي اختلف فيها العلماء الثقات، ولكلٍ من الطرفين أدلة صحيحة، لا نحولها إلى معارك تشغلنا عن أشياء، وبنفس الوقت لا نميع القضايا العامة والخطوط العريضة في الشريعة والعقيدة، ونقول: لا يهم! هذه ممكن الاختلاف فيها، ولا داعي إلى الاشتغال الآن في قضايا الخلاف في الأسماء والصفات، وهذه أشياء تشغل المسلمين عن الماسونية والشيوعية.
صحيح نحن لا نصرف وقتنا كله لهذه القضايا، وهناك من الأشياء والأفكار العلمانية، ما ينبغي أن نشتغل به أولاً: قبل مواجهة أناس يقولون ببدع قد تكون قديمة موجودة.
والمسلم يصرف جهده في المواجهة والمحاربة وتكريس الجهود، ويظهرها أو يقدمها للمشكلة الكبرى، وللعدو الأكبر هذا صحيح، لكن هذا لا يعني أننا نميع بقية القضايا وننشغل عنها، أو نقول: هذه أشياء تافهة، نعطي كلاً بحسب وزنه.(23/20)
نصيحة لحديث عهد بالالتزام يرتكب المعاصي
السؤال
ينتابني أحياناً أنني لست بكفءٍ من أجل أن أستمر في طريق الالتزام لكثرة المعاصي التي أرتكبها، وأنني حديث عهد بالالتزام، بماذا تنصحني؟
الجواب
إذا كنت حديث العهد في الالتزام، فطبيعي أن تحدث منك معاصٍ وذنوب، ولكن ثق إن شاء الله، أنك إذا سرت إلى الله بثبات وعزيمة مستعيناً بإخوانك في الله، مستنيراً بالعلم الشرعي الذي تقبل عليه، وتعتصم بالله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ووفق إلى أرشد أمر، فثق بأن المعاصي ستقل وتقل حتى ربما تصبح فقط لمم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32].
وأنت تتوب، ومستمر على التوبة إلى الله، كلما أحدثت معصية تحدث وراءها توبة صحيحة، ولا تخطط لعمل المعصية بعد التوبة، تقول: أنا الآن سوف أتوب وغداً سوف أعمل معصية، فأنت تنوي عمل المعصية قبل أن تتوب! هذه مشكلة: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:9].(23/21)
حب العلماء أعظم أنواع الحب في الله
السؤال
لو أحببت عالماً لعلمه هل يكون هذا حباً لله؟
الجواب
إذا كان هذا العالم من علماء الشريعة فهذا من أعظم أنواع الحب لله، وبعض الناس مع الأسف، نحن عندما تكلمنا عن العلاقات، لو قلت له: تحب هذا الشخص -مثلاً- زميلك الذي معك في المدرسة أكثر وإلا الشيخ فلان الفلاني الذي هو من ثقات علماء المسلمين؟ لا يجد في قلبه بحب لهذا الشيخ والعالم الفاضل مثل ما يحب لصديقه قليل العلم، لأن المسألة عنده ليست موزعة، مسألة الحب ليست قضية تتكافأ مع من هو أقرب إلى الله، ومن هو أفضل، وإنما مع من هو أميل لنفسه، ومن هو أقرب لطبيعته، ومن هو الذي يرتاح لأسلوبه وشكله، وظرافته ونكته وطرائفه، وجمال أسلوبه وهكذا، فالمسألة ينبغي أن تكون خارجة عن الهوى، لأن هذه قضية عقيدة، وقضية دين، الحب في الله من أوثق عرى الإيمان.
أظن أنني أكتفي بهذه الأسئلة حتى لا نطيل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والذين يذكرون ربهم إذا نسوا، ويعانوا إذا ذكروا، وأصلي وأسلم على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(23/22)
اتقوا الله في أهليكم
إن الله سبحانه وتعالى قد استرعى كل إنسان رعية، سواءً كانت شعوباً أو أمماً أو زوجة وأولاداً، وكل إنسان مسئول عن رعيته أمام الله سبحانه وتعالى، وإن مسئولية الأولاد والزوجة مسئولية عظيمة عند الله، وبحفظها تكون الوقاية من النار، والفوز بالجنة ورضوان الله سبحانه وتعالى.(24/1)
شرح قوله تعالى: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
هذه الآية -أيها الإخوة- تستنهض همم المسلمين، وتذكرهم بمسئوليتهم أمام الله نحو الأهل، نحو الزوجات والأزواج والأولاد، والآباء والأمهات والأقارب.
ونحن -أيها الإخوة- إذ نتكلم عن هذا الموضوع في هذا الوقت ندرك أننا نعيش واقعاً مراً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وذلك من كثرة المحرمات التي تفشت في مجتمعاتنا، ومن كثرة الانغماس في أوحال المعاصي والابتعاد عن شرع الله عز وجل، وتأملوا هذه الآية العظيمة: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم:6] لأن البداية تكون من النفس دائماً، ولا يمكن أن يصلح حال الآخرين إلا إذا صلح حال المصلح، فإذا كان المصلح في نفسه سيئاً، فأنى يكون الإصلاح؟! وكيف يحدث التأثر؟! {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] هذه نوع من النار، وقودها ليس حطباً ولا بنزيناً أو مادة مشتعلة، وإنما وقودها الناس والحجارة، الناس هم الوقود، وهم الذين تسعر بهم جهنم، هم مادة الاحتراق، قال أهل العلم: أدبوهم علموهم مروهم بالذكر أوصوهم بتقوى الله مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصية الله، وساعدوهم على المعروف، وإذا رأيت لله معصية -أي: يعصى الله في هذا الوسط، في البيت وفي الأهل- فإنك تقدعهم عنها، أي: تكفهم وتمنعهم، وقال الضحاك ومقاتل: حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه.
ويدخل في هذا أمر الصبيان بالصلاة.
فتكون وقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، علموا أنفسكم الخير، وعلموا أهليكم الخير وأدبوهم.(24/2)
مسئولية الآباء والأزواج
واستُدل بهذه الآية على أنه يجب على الرجل أن يتعلم ما يجب من الفرائض وأن يعلمها لهؤلاء، وإن من المعذبين يوم القيامة من جهل أهله -من كان أهله يعيشون في جهل- وهذه الكلمة تشمل الأولاد والزوجة، وتشمل العبيد والإماء أيضاً: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم، وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي توصلهم بالله، وما أروع الحياة في ضلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله! إن تبعة المؤمن في نفسه وأهله تبعة ثقيلة رهيبة، فالنار هناك، وهو متعرض لها هو وأهله، وعليه أن يحول دون نفسه وأهله ودون النار، هذه النار التي تنتظر هناك.
إن المؤمن مكلف بهداية أهله -هداية الدلالة والإرشاد- وإصلاح بيته، كما هو مكلف هداية نفسه وإصلاح قلبه.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهذا الحديث يبين لنا مسئولية المسلم، المسئولية العامة التي لا تستثني أحداً: (كلكم راع وكلكم مسئول، فالإمام راع وهو مسئول، والرجل راع في أهله وهو مسئول، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول) هذا لفظ البخاري.
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
وكان عمر رضي الله عنه له ساعة من الليل يصلي فيها، وكان إذا استيقظ أقام -أيقظ- أهله، فقام وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
وليست هذه المسألة سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقط، بل إنها طريقة الأنبياء من قبل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:54 - 55] فهذا إسماعيل يأمر أهله بالصلاة والزكاة.(24/3)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم النساء والحث عليه
ولذلك الواجب على الإنسان تجاه أهله من زوجة وأولاد وإخوة وآباء وأمهات واجب ثقيل جداً، وبالذات النساء اللاتي أوصى بهن الله خيراً، ووصى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك تجد أهل العلم في مصنفاتهم قد اهتموا بإبراز هذا الأمر، واهتموا بإبراز اهتمام الإسلام بأمر المرأة في وقايتها من النار، قال البخاري رحمه الله: باب هل يجعل للنساء يوم على حدة؟ أي: في التعليم والتذكير والوعظ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: (غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن).
قال ابن حجر: ووقع في رواية سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، بنحو هذه القصة فقال فيها: (موعدكن بيت فلانة، فأتاهن فحدثهن).
إذاً خصص لهن موعداً زمانياً ومكانياً، وفي شرح حديث موعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد، ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى في فوائد الحديث: استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، ويستحب حثهن على الصدقة، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة.
وتعليم الزوجة والبنت هو من جعل وقاية بينهن وبين النار، بل إن الجهل الذي يلحق الزوجة والبنت والأخت بسبب تقصير الرجل قد يصل إلى الرجل في قبره، فعدم القيام والإهمال في شئون النساء من قبل الرجل قد يصل عذابه إلى الرجل في قبره، عن عبد الله أن حفصة بكت على عمر، لما طعن عمر، فقال: (مهلاً يا بنية! ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه).
وللعلماء رحمهم الله مذاهب شتى في هذا الحديث، ومن أقواها أنه يعذب في قبره إذا أهمل تعليمهم أن النياحة حرام، وإذا كان يعلم أن عادتهن النياحة، وأنهن من المتوقع أن ينحن عليه إذا مات، فأهمل أمر تعليمهن حكم النياحة وأنها حرام، ولم ينههن قبل موته، وهو يتوقع أن يحدث ذلك، فإنه يعذب في قبره بما نيح عليه، لأنه أهمل في هذا الأمر، وهذا حمل جيد لهذا الحديث، وجمع بينه وبين قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
فإذاً الاهتمام بشأن الأهل في التعليم، وعقد جلسات الوعظ والتذكير، وتمكين المرأة أياً كان مستواها من تعلم الأحكام الشرعية التي تحتاج إليها، وتوفير الإجابات على أسئلتها الفقهية أمر مهم، الإتيان بالإجابات على تساؤلات أهلك، والفتاوى للوقائع التي تحدث لهن في أمور الصلاة والطهارة والحيض والنفاس، فهناك أمور كثيرة تحتاج إليها المرأة، فمن وقايتهن من النار أن تبذل لهن الوسيلة في التعليم.
قال البخاري رحمه الله تعالى: باب تعليم الرجل أمته وأهله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران -فذكر منهم- ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها فله أجران) قال ابن حجر رحمه الله: مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس.
وهذا الحديث يحث على تعليم الأمة، والأمة هي الرقيقة، فإذا كان أمر بتعليم الأمة، أليس من باب أولى أن يؤمر بتعليم الحرة؟! ولذلك يقول: إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسله آكد من الاعتناء بالإماء.(24/4)
اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم أهله
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفتح لـ عائشة باب النقاش والسؤال، ويوفر لها الإجابة على تساؤلاتها، خذ مثلاً هذا الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، عن ابن أبي مليكة: (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه -أي شيء لا تفهمه تراجع فيه وتسأل حتى تعرفه- وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة من المرات: من نوقش الحساب عذب، قالت عائشة: فقلت: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8]؟ قال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك).
فمن الناس من يحاسبون حساباً يسيراً، فلا يناقشون ويدقق معهم، أما الذين يناقشون ويدقق معهم فهم معذبون، لكن الذي لا يعذب هو الذي يحاسب بسرعة ويمشي إلى الجنة، فلا تعارض إذاً.
الشاهد: أن عائشة سألت عن شيء لم تفهمه، ولو لم تجد إيجابية من الرسول صلى الله عليه وسلم هل كانت ستسأل؟ لو لم تكن عائشة تجد انفتاحاً من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم واهتماماً بأسئلتها وتوفيراً للإجابة هل كانت ستسأل كلما جهلت أمراً، وتتشجع على السؤال؟ ومن آكد الأشياء التي يؤمر بها الأهل الصلاة، فلا يجوز أن يقول الرجل: زوجتي منهكة متعبة دعها تنام، يراها نائمة فيقول لنفسه: دعها نائمة ولا أوقظها للصلاة حتى ترتاح.
والمسئولية عن الأهل تدخل فيها المرأة أيضاً، فالمرأة داخلة في الحديث: (والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).
فلا يجوز أن تقول المرأة: زوجي جاء من الدوام متعباً، فلن أوقظه، فليسترح حتى لو أدى ذلك إلى ضياع وقت الصلاة.
وهذا خطير، بل إن راحة زوجك أن توقظيه للصلاة، وراحة زوجتك أن توقظها للصلاة، وليس أن تبقى ويبقى نائمة أو نائم، وتقول: دعها تستريح، أو تقول هي: دعه يستريح.
كلا.(24/5)
متابعة الزوجة وتفقدها
حث الزوجة على قضاء ما فاتها من الصيام، وهذا كثير.
حثها على إخراج زكاة حليها ومالها، والنساء قد يكون في بعضهن غفلة عن أمور الزكاة، وأمرهن بالصدقة على الفقراء والمحتاجين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) كل ذلك داخل في المسئولية، مساعدتها على الحج والعمرة، خصوصاً الحج والعمرة الواجبة، بعض الرجال لا يهتمون بتوفير المحرم لنسائهم في البيوت من زوجة أو أخت أو بنت، وتجلس السنوات الطوال بدون حج الفريضة، لأنه ليس معها محرم، وهو يستطيع أن يكون محرماً لها، أو أن يرسل معها محرماً، لكن يقصر في ذلك.(24/6)
متابعة الزوجة في أحكام الطهارة والصلاة والمحارم
{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ومنها مسئولية تعليمها أحكام الطهارة والصلاة، كم يسر الإنسان -أيها الإخوة- عندما يسمع برجال يأتون إلى أهل العلم، ويقول أحدهم: زوجتي حصل لها في أمر الطهارة نزل عليها دم في الوقت الفلاني تقطع الدم معها في الوقت الفلاني فهو لا يستحي من هذا، أما المرأة تستحي، فهو يأتي ويقول ويسأل: ماذا تفعل هذه المرأة؟ عندها مشكلة في العادة كذا وكذا، ماذا تفعل؟ إذاً الرجل مهتم بأمر الزوجة، فهو يطبق قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
إذاً هو فعلاً يوقن بالمسئولية وهو يحس بها، ولذلك يسأل عن الأحكام لزوجته، وهو يسأل هل هذا محرم للمرأة أم لا؟ وهو يسأل هل خال الزوج وعمه محرم للزوجة أم لا؟ فهو يسأل ويتأكد من أجل ألا تقع في أمر محرم، ويسأل عن حكم الرضاع بينها وبين رجل آخر، حتى لا تقع في أمر محرم.
فيجب على الرجال أن يهتموا بأمر نسائهم.
تعليمها المحافظة على وقتها، سواءً كانت زوجة أو أم أو أخت أو بنت أو خالة أو عمة، أياً ما كانت، تعليمها المحافظة على وقتها، عدم إضاعة وقتها بالأشياء التافهة، بعض النساء قد تضيع وقتها بالمكالمات الهاتفية الطويلة بدون فائدة تذكر، فإذاً هو يرشدها، ويعلمها، ويراقبها، ويلاحظها، ويقيها النار، ويعلمها أدب الرد على الهاتف، وكيفية محادثة الرجال الأجانب، ما هو الأدب في ذلك؟ وما هي المحاذير؟ وما هي الأشياء التي يجب عليها أن تنتبه إليها؟ وينتبه للمنكرات التي تحدث أثناء تسوقها، وما هو من الممكن أن يحدث لها من الحرام عندما تنزل إلى السوق، وكيف يجنبها هذا الحرام؟ فهو مسئول عن ذلك.(24/7)
متابعة الزوجة في الخروج إلى الأسواق
{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] مخالطة أهل المنكرات وأماكن المنكر، في الأسواق عند الخياطين وفي أماكن النزهة في الحدائق والخلوات، يجب عليه أن ينتبه لزوجته، وبعض الناس عندهم دياثة عجيبة، وتبلد في الإحساس، فإنه أبداً لا يلتفت إلى زوجته في هذه القضايا، ويدع ابنته تذهب كيفما شاءت، لا رقيب ولا حسيب، تذهب مع من تشاء، وتمضي الوقت مع من تشاء، يذهب بها إلى الحديقة والمنتزه، ويفلت لها الزمام تلعب كما تشاء، وهو مسئول عنها، ومثل الإثم الذي اكتسبته يكن على ظهره؛ لأنه كان باستطاعته أن يمنع ذلك ولم يتحرك.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله عز وجل، وكان يغار أن تنتهك أدنى حرمة من حرمات الله، روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل -وفي رواية مسلم: فاشتد ذلك عليه، تقول عائشة: ورأيت الغضب في وجهه، وفي رواية أبي داود: فشق ذلك عليه، وتغير وجهه، وعوداً إلى سياق البخاري - فكأنه تغير وجهه -كأنه كره ذلك- فقال: يا عائشة! من هذا؟ فقالت: إنه أخي -أي: أخوها من الرضاعة- فقال: انظرن من إخوانكن -تحققن وابحثن في الأمر- فإنما الرضاعة من المجاعة) أي: انظري يا عائشة! وابحثي ودققي، هل وقعت الرضاعة في وقت التأثير، أم أنها وقعت خارج ذلك الوقت فلا تؤثر، ولا تنتشر الحرمة بسببها؟ مراقبة المرأة عند خروجها، وكيفية حجابها مسئولية الرجل، هل هو سابغ؟ هل هو ساتر؟ هل هو سميك؟ هل هو خال من الطيب؟ هل هو لا يشابه لباس الرجال ولا لباس الكافرات؟ هل هو فضفاض غير ضيق؟ هذه مسئولية يجب على الرجل أن يراقب زوجته وابنته كيف تخرج.(24/8)
متابعة الزوجة في الأعراس والأخلاق والصديقات
يا أيها المسلمون: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] والمسألة ليست سهلة، والإفراط فيها في هذا الزمن غريب عجيب كثير حاصل شائع ومتفش.
المكياج والزينة ذهاب المرأة إلى الأعراس والولائم إلى أين تذهب؟ ما هو الوضع هناك يا ترى؟ هل الوضع في ذلك العرس والوليمة مرض لله؟ هل تسمح لها بالخروج أم لا؟ يحب عليك أن تتحقق.
يا جماعة: لماذا نفلت نساءنا؟ لماذا نفلت لهن الزمام يعبثن؟ والمرأة خلقت من ضلع أعوج، هناك من النساء من استقامت على شرع الله، تعرف بنفسها الحرام من الحلال، وتجنب نفسها الحرام ربما أكثر من بعض الرجال، ولكن هناك كثير من النساء في الجانب المقابل، لم يحصل عندهن ذلك النوع من التقوى، فمسئولية الرجل أن يحمي ذمته وألا يخفرها، فيراقب لسان الزوجة أو البنت في الغيبة والنميمة، وفي الغيرة والحسد، وفي الأشياء التي تبدر من المرأة، يهيئ لها الجو لتعاشر الصالحات، ويمنع غير الصالحات من دخول بيته، وبعض الناس يوصلون نساءهم إلى أماكن لا يدرون ما هي، ويرمي زوجته هكذا من السيارة أو يجعلها تذهب مع السائق دون أدنى استفسار إلى أين ستذهب؟ أليس هذا أمراً شنيعاً يودي إلى منكرات ومصائب عظيمة في المجتمع؟ ينبغي أن تراقبها فيمن تكشف عليهم من المحارم والناس، هل هو محرم لها تكشف عليه أم لا؟ من هذا الشخص الذي تصافحه أو يريد أن يصافحها؟ قضية الجليسات قضية مهمة جداً، وكثير من المشاكل التي دخلت في كثير من البيوت بسبب جليسات السوء، هل تتصور أن امرأة تأتي وتطلب من زوجها أن يأتيها من الخلف في المكان المحرم؟ لماذا؟ لأنها سمعت امرأة في مجلس تنصحها بهذا الأمر.
انظروا -أيها الإخوة- من تخالط نساؤكم، من هن الجليسات للنساء؟(24/9)
متابعة الزوجة في الخروج للعمل
خروج المرأة خارج البيت كثيراً ما يؤدي إلى الفساد، وعمل المرأة من أبواب الشر العظيمة التي لو لم تجعل إلا في نطاق الضروريات، وفي نطاق النساء التقيات لحصل فساد عظيم، وبين يوم وآخر نسمع عن قصص مأساوية في البيوت بسبب خروج المرأة للعمل ونحوه، ذهبت إلى العمل وتوظفت في شركة، ثم تعرفت على رجل عن طريق العمل، سافر الزوج فكانت النتيجة أن تستقبل ذلك الرجل الأجنبي في بيتها أثناء غياب زوجها، من أين بدأت العلاقة؟ من العمل.
خروج المرأة للعمل أمر خطير جداً، ينبغي أن يضبط وأن يراعى، ومكائد تحاك حول الدين وحول المرأة المسلمة من أعداء الله من العلمانيين ونحوهم، الذين يريدون أن يخرجوا المرأة وأن يهدموا آخر معقل من معاقل المجتمع الإسلامي.(24/10)
تربية الأولاد والاهتمام بهم
ينبغي للأب أن يكون له إشراف على أولاده، فالأولاد داخلون في الأهل دخولاً أولياً، بل إن بعض العلماء يرى أنهم داخلون في النفس، فقالوا: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6] يدخل فيها الأولاد، لأن الولد خرج من صلبك أنت، فيرى بعض العلماء أنهم داخلون في قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم:6].
ينبغي للأب أن يصون ولده عن نار الآخرة كما يصونه عن نار الدنيا، لو قلت للأب: ولدك تضعه في نار الدنيا، يصيح ويقول: لا، كيف هذا؟! هل أنا مجنون؟! لكن قد لا يصونه عن نار الآخرة.
ينبغي تربية الطفل المسلم تربية إسلامية جيدة، فيعلم فروض الأعيان، وبعض فروض الكفاية التي يمكن أن يحتاج إليها، وتنمي المشاعر الإسلامية فيه، وتغرس الأماكن الطيبة: المسجد الخطبة العمرة، القصص الإسلامية، يعلم سير الأنبياء، الصحابة السلف، فيراقبه في صلاته، ويراقب ماذا يقرأ أطفالنا، بماذا يلعب أطفالنا، وماذا يشاهد أطفالنا، تربيتهم على التوحيد وعدم البداية من الشرك وتعليق التمائم في رقاب الأولاد، فينشأ الولد على الشرك منذ نعومة أظفاره.(24/11)
الأولاد ومنكرات البيوت
أيها الإخوة: إن أولادنا وأطفالنا يُجرم في حقهم في هذا العصر إجرام عظيم، ويشاهد الطفل من المنكرات في البيت ما الله به عليم، وتنغرس في نفسه في كل يوم، ويشرب قلبه كل يوم من حب المنكرات والمعاصي أشياء كثيرة بسبب ما يشاهد في البيت.
أستاذ في مرة من المرات يتكلم مع طالب في أول مرحلة من مراحل الدراسة الابتدائية، فيقول الطالب: أنا أبي يشرب الخمر في البيت، لكن إذا جاءه أصحابه ليشربوا الخمر يخرجنا من الغرفة.
يقول المدرس: لعله عصير أو ماء، فقال الطالب: لا.
أنا أعرفه، إنه خمر.
هذا الولد الصغير عمره ست سنوات يقول هذا، ذلك المجرم يظن أنه لما أخرج الولد من الغرفة أن الولد لا يدري ماذا يحدث، والولد يعلم كل شيء، أليس كذلك؟ هذه الحوادث الواقعية هي التي تنبئنا.
أيها الإخوة: عندما يقول ولد صغير: إن أبي يفعل مع الخادمة مثلما تفعل أمي مع السائق، ماذا نرجو من وراء هذا الغرس الذي يغرس في بيوتنا؟ وأي حياة وشقاء ونكد يتوقع أن يكون عليه أولئك الأطفال، وهم يشاهدون هذه المنكرات في البيوت؟ مع الأسف كثير من الأشياء التي يسمعها أطفالنا تصادم الدين والعقيدة، وتغرس فيهم الكفر والشرك، حتى إنك تجد في بعض أفلام الكرتون تغرس في نفس الطفل حب السحر والسحرة والساحرة، وأنه شخص طيب، ويساعد الطيبين، وهو ضد الأشرار، والسحر كفر كما قال صلى الله عليه وسلم.
مرة من المرات كنت أقلب إبرة المذياع، فاستقرت على قصة للأطفال تقولها مذيعة من المذيعات، ماذا يكون في بالكم وماذا يخطر في بالكم أن تكون القصة؟! وهذا شيء سمعته بنفسي: النملة مجتهدة تجمع الطعام وتدخره في جحرها، والصرصور كسلان لا يجمع الطعام ويبعثره ولا يحتاط لأمره، فجاء فصل الشتاء، والنملة في خير، فخرج الصرصور جائعاً، فطرق باب جارته النملة -حتى الآن كلام شبه مقبول- وقال: أقرضيني حبوباً وأردها لك في السنة القادمة، هنا قالت المذيعة: مع الفائدة طبعاً، تقول المذيعة: الصرصور يقترض من النملة ويردها في السنة القادمة مع الفائدة.
ماذا ينغرس في نفس الطفل وهو صغير يسمع هذا البرنامج؟ نحن نفاجئ بانحرافات الأولاد، ثم نقول: عجيب ماذا فعلنا؟! من أين الخطر؟! ومن أين منشأ المشكلة؟ منشأ المشكلة هو ما يسمعه هؤلاء الأطفال وما يشاهدونه، الصرصور يقترض من النملة بالربا -بالفوائد- لأن القصة لا تصلح أن تقال إلا بهذه الطريقة: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
ونحن عندما نقول: استوصوا بأطفالكم خيراً، فإننا لا نعني أن المسألة تكون فقط معلومات تصب على ذهن الطفل ودماغه دون ترو ودون إعطائه الحق في اللعب، أو اللهو المباح البريء، بل من حق الأطفال على الأباء أن يوفروا لهم الألعاب المفيدة، وأنواع اللهو البريء، هل تتصورون أن أباً من الأباء لا يشتري لأطفاله أي نوع من أنواع الحلوى أو البسكويت؟! وهذا لأن الأب لا يحب الحلوى شخصياً، فلذلك هو لا يشتري لأطفاله أي نوع من أنواع الحلوى، ويبخل عليهم بذلك، ويقول: هذه أشياء تافهة غير ضرورية، ولا يحضر لهم ألعاباً عند العيد؛ لأنها ليست مفيدة بزعمه، ويرفض أن يعطي الأم مالاً لتشتري لهم به، فتضطر المسكينة أن تشتري بمالها الخاص، أو أن تقترض من أهلها لتشتري لأولادها ألعاباً، أو تأخذ وتدخر من الضيافة التي تأخذها من الناس أثناء زيارتها لهم، فتدخر حلوى لأولادها لأن الرجل لا يأتي بالحلوى للأولاد: (وإن لأهلك عليك حقاً).
أيها الإخوة: لقد تكلمنا في درس منفصل كامل عن تربية الطفل المسلم، لكن نقول باختصار: إن عدم الاهتمام بالطفل في مقتبل أمره وعمره، يؤدي إلى انحرافه في المستقبل غالباً، فلو ترك الولد دون تدخل سلبي من الأب أو الأم فإنه سينحرف في الغالب، لأن المجتمع فيه قذارات، المدرسة فيها قذارات، الشارع فيه قذارات، الجيران عندهم قذارات، أقران السوء عندهم قذارات، إذا ما انحرف الولد بهذا السبيل سينحرف بالسبيل الآخر.
هذا إذا ترك لوحده هكذا دون أن يعمل الأب والأم له شيئاً، فكيف إذا كان بعض الآباء هو المفسد.
وهذه أشياء واقعية سمعتها بنفسي، رجلٌ يجلب الأفلام الداعرة الخليعة إلى بيته، ويجبر أولاده الصغار أن يقعدوا منذ نعومة أظفارهم ليشاهدوا هذه الأفلام، بنت عمرها سنتين ونصف تفتحت عيناها على هذه الأفلام، وهو يجبرها ويأتي بها ويقعدها أمام الفيديو لتشاهد الأفلام، وتقول: إذا ذهب أبي إلى الخارج، وأخذنا في الصيف أو في العطلة، فإنه يدخل المرقص في بلاد الكفار، ونحن قد كبرنا فيسلمنا إلى الشباب الكفرة الذين يرقصون ليراقصونا، ويفعلون بنا ما يشاءون.
نماذج كثيرة عجيبة غريبة لا تمت إلى دين، ولا إلى خلق، ولا إلى عفة، ولا إلا صيانة، ولا إلى ستر بأي نوع من أنواع العلاقة، موجودة في مجتمعاتنا ليست في مجتمعات الأمريكان والإنجليز والكفرة، موجودون بيننا هنا، هكذا يربون أطفالهم، ثم نقول: لماذا تتفشى الفواحش في المجتمع؟ لماذا المنكرات كثيرة؟ لماذا الزنا كثير؟ لماذا الفاحشة؟(24/12)
لوط واهتمامه بأهله
لوط عليه السلام لما كان في مجتمع قذر رفض أهل ذلك المجتمع الابتعاد عن الفاحشة، فماذا كان لوط عليه السلام يقول؟ كان يقول: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] لوط عليه السلام يشعر بوطأة الجاهلية وثقلها عليه وعلى أفراد أسرته، هؤلاء الذين يفعلون الفاحشة لا يريدون أن يتوبوا، فيقول لوط عليه السلام وقد شعر بذلك الثقل الذي تضغط به تلك الجاهلية الشريرة في عصره على أعصابه وعلى أهل بيته، وهو يجأر إلى الله وينادي ربه ويقول: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169].
فقد كان حريصاً على أهل بيته من الفاحشة، والآن ينبغي لكل عاقل مسلم أن يقول: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] لأن الفواحش موجودة في المجتمع مثل قوم لوط أو أكثر: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:170] وهذه عاقبة الصدق والإخلاص والتوبة والدعوة إلى الله وتغيير المنكر: {إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:171] كانت مجرمة تنقل أخبار أضياف لوط إلى قومه لكي يأتوا ويطالبوه بالضيوف ليفعلوا بهم الفاحشة.(24/13)
حال الأولاد إذا لم يربوا
وعندما يكبر هذا الولد ويترعرع مع تأثيرات المجتمع الفاسدة المنحلة وعدم التربية تخرج منهم أمثال العبارة التي سأقولها لكم في هذه القصة المدهشة، التي تنطوي على هذه العبارة المدهشة، التي تحتاج إلى تفكير طويل حتى تعلم كيف انبعثت! الأب والأم والولد أمام الشاشة، خرجت الممثلة بصورتها الفاتنة الجميلة، وهم ينظرون، والولد يحملق في الشاشة ويبحلق، وعندما ظهرت صورة تلك المرأة في غياب عقله-الآن هو غائب في المنظر- انطلقت منه الكلمات وهو ينظر في وجه المرأة الفاتنة، فيقول: كم تعب ربنا حتى خلقك؟! انظر إلى هذا الحالم والغائص في المسلسل، فهو يفكر الآن في المسلسل وفي المرأة وينظر إليها، وقد يكون نسي أن أباه وأمه بجانبه، سبحان الله! هذه العبارة الواحد يقف أمامها حائراً، الولد في مرحلة المراهقة، ويتساءل: كم تعب الله إلى أن خلق هذه المرأة! وهذه ما قالها شخص شيوعي ملحد، بل قالها واحد من أبناء المسلمين الذين يعيشون هنا.
عقيدة غير موجودة، وأخلاق غير موجودة، عفة لا توجد، احترام الله عز وجل أمر معدوم، تعالى الله عن هذا الكلام علواً كبيراً، اليهود لعنوا لأنهم قالوا: إن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استراح يوم السبت، انظر اليهود يقولون: الله خلق الدنيا كلها السماوات والأرض في سنة أيام ثم استراح يوم السبت، وهذا الآن يقول: كم تعب؟ أليست مقالته أسوأ من مقالة اليهود الذين لعنوا؟! ويواجه بعض الأباء في بيوتهم في هذه المجتمعات تطورات عجيبة من قبل الأبناء طبعاً؛ لأن التربية إذا أهملت من البداية، وخرج الولد وعايش رفقاء السوء في المدرسة كيف تصلحه وقد كبر وتكونت شخصيته؟ فهو يتمرد الآن، ويفوت قطار الإصلاح في كثير من الأحيان.
رجل يشتكي، ويقول للشيخ ابن باز: عندي أولاد لا يصلون أبداً، نصحتهم وكلمتهم ووعظتهم وشتمتهم ولا فائدة، ماذا أفعل؟ كثير الآن من الآباء يقولون ويشتكون مثل هذه الشكوى.
فيقول الشيخ حفظه الله: انصحهم، فإذا بلغوا عشراً يضربهم إلى البلوغ، أما عند البلوغ فلا ينفع الضرب بعده، فالضرب عند البلوغ لا يورث إلا أحقاداً، وربما رد الولد بالصاع صاعين على أبيه، وكم تسمع من أولاد يقول أحدهم -بحنق وغلظة عبارات على أبيه- كنت أريد أن آخذ الكرسي وأضربه، أو آخذ العقال وأضربه، وأعلمه ألا يمد يده عليّ، إذا بلغوا ولم يستقم أمرهم فيبلغ بهم من يقيم عليهم حد الردة -القتل- إذا لم يصلوا، وإن لم يستطع يخرجهم من بيته.
وهذا الكلام يستثنى منه إذا كان إخراجهم من البيت يؤدي إلى مشاكل أكبر، وإلى وقوعهم وأن تسوء أحوالهم أكثر وأكثر، فعند ذلك لا يكون من الحكمة إخراجهم من البيت، لكن إذا كان إخراجهم من البيت سيدفعهم ويضطرهم إلى الرجوع إلى البيت وهم يصلون، لأنهم لا يجدون مأوى ولا مصروف، فيجب على الأب أن يطردهم من البيت، وألا يؤوي في بيته أناساً لا يصلون.
فإذا استنفذ الجهد والطاقة والوسع، ونصح وتكلم وليس هناك فائدة، وكان إخراجهم أقل ضرراً من بقائهم، وكان إخراجهم لا تترتب عليه مفسدة أكبر من بقائهم، فإنه يجب أن يخرجهم من البيت، ولو كانوا أولاده من صلبه.(24/14)
البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم
البقاء مع الأهل وعدم الانقطاع عنهم: يجب أن يكون الرجل المربي الناصح قريباً من أهل بيته، بعض الناس يسافرون سفريات طويلة جداً، وهذه السفريات الطويلة جداً تؤدي إلى مشاكل كثيرة في البيوت، فتسمع أخباراً عجيبة.
فهذه لما سافر زوجها جاءها فلان وفلان، مشاكل متشعبة وشائكة، ولو كان الضرر أقل من هذا، فإنك تجد أن بعض الناس الذين يسافرون في تجارة أو حتى في طلب علم أو دعوة إلى الله، لو كان سفرهم يؤدي إلى تضييع أهلهم فحرام عليهم أن يسافروا، بعض النساء قد يكون فيها خير، لكن زوجها يهجرها أسبوعاً أو أسبوعين وشهراً أو شهرين وثلاثة وأربعة أشهر وهو مسافر مبتعد عنها، تقول: لا أجد ماء أشربه، فضلاً عن الأغراض الأخرى، كيف تشتري الأغراض؟ مرض الولد الصغير من يذهب به إلى المستشفى؟ تضطر إلى الذهاب به أحياناً بسيارة الأجرة، هل هذا واقع صحيح؟ وهل سفر هذا الرجل يبرر مثل هذه الأشياء؟ أم أنه إنسان ظالم لنفسه وأهله عليه من الله ما يستحق لأجل التضييع والتفريط؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي ويقول -انظروا أيها الإخوة الشريعة فيها حكم: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه، فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجل الرجوع إلى أهله) لأن إطالة الابتعاد عن الأهل مضرة، فعليه أن يعجل بالرجوع إلى أهله، ولا يطيل عليهم الغياب، وأقل ما فيها يصحبهم معه إن كان ولابد، أما أن يهجرهم ويسافر عنهم شهوراً فهذا من الجرائم، وكثير من الساقطات المنحرفات في المجتمع، سبب انحرافها أن زوجها غائب عنها لا يأتيها.
واحدة تقول: إن زوجي لا يأتيني من خمس سنوات، وأخرى تقول: أنا معه الآن منذ أكثر من عشر سنين، لكن لا يعاشرني معاشرة الزوجة، فهو يأتي يدخل البيت ويأكل وينام ويمشي.
فهذا سبب من الأسباب التي يتولد عنها انحراف الزوجة، وقد يبتعد أحياناً عن أهله بسبب زوجة أخرى، وهو شيء طيب وحلال، لكن إذا لم يحسن هذا المتزوج توزيع وقته والعدل كما أمر الله تقع المصائب، بل قد يميل إلى زوجته الثانية فيترك زوجته الأولى بالكلية، ويترك أولادها، لا يأتيهم ولا يسأل عنهم، ولا يزورهم، ولا يعطيهم الحنان ولا العطف، وقد يكون ولا حتى المصروف.
ونسمع قصصاً عجيبة، هذا رجل تزوج بأخرى، فصار يسب بناته من الزوجة الأولى ويشتمهن، ويتهمهن بالفاحشة، ويضرب زوجته الأولى في الشارع أمام الناس، وتضطر الأم المسكينة بالتالي أن تعمل، وأن تصرف على الأولاد في البيت، وربما يكون هؤلاء كلهم من البنات، وحالة الجميع سيئة، والسبب أنه لم يفكر أصلاً في قول الله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].(24/15)
عاقبة إهمال تربية الزوجة والأولاد
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) ففي يوم القيامة تصل قضية المساءلة والحساب أن يسأل عن أهل بيته: أحفظتهم أم ضيعتهم؟ وهذا التضييع الذي تنتج عنه كثير من الفتن، وعلى رأسها الخيانات الزوجية، من ماذا؟ من تضييع الأهل تنتج الخيانات الزوجية المتبادلة من الطرفين.
جار عنده مفتاح بيت جاره، فإذا ذهب الجار إلى العمل فتح الباب ودخل وعاشر زوجة ذلك الرجل، وتختلط الأنساب ولا تدري هذا ولد من.
ويحدث من وراء ذلك من المصائب والنكبات وخراب البيوت أشياء نسمع عنها صباحاً ومساء، ناهيك عن الفواحش التي تحدث في البيوت من الآباء أو الأبناء مع الخادمات مثلاً، ومشاكل البنات والزوجات مع السائقين والخدم، ما هو أثر ذلك في البيت؟ وما هي عقوبة الله المنتظرة لهؤلاء الناس؟ بل إن تضييع الأهل، وعدم التربية والملاحظة، ينتج عنه نكبات أكثر من ذلك، ونسمع كثيراً عن جرائم اعتداء الأولاد الكبار في البيوت على أخواتهم، وتقع المشكلة وبعد ذلك يقولون: البنت لم تعد بكراً.
وهل تعلمون أن من وقع على محرم من محارمه فإنه يقتل حداً في دين الله حتى ولو لم يكن قد تزوج؟! فإن هذه جريمة عظيمة، وقصص تشيب لها الرءوس، وتذوب لها القلوب إن كان في تلك القلوب إيمان وإسلام.
أخ يرش على أخته مادة مخدرة ثم يأتيها.
أب متزوج من أكثر من زوجة، وهناك أخ يأتي أخته من زوجة أبيه، وأخوه الأصغر يأتي ويهدده، ويقول: سلم لي أختك.
وهناك حاجات وأشياء ما كان الواحد يتصور أنه في يوم من الأيام يحدث ذلك، إلا بعد أن تسمعها فتفاجئك الحقائق والحوادث بأشياء، أقسم بالله العظيم إنه يتبين للإنسان حلم الله بأن العقوبة والعذاب لم ينزل منذ زمن بعيد.
وبعض الأحيان يصل بعض الأهل والقرابة إلى درجة من السوء لا يصح اعتبارهم بأي حال من الأحوال من الأهل، بل يجب منابذتهم ومعاداتهم وطردهم والتبرؤ منهم، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45 - 46]، ليس من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم، فأولئك المؤمنون من أهلك، لكن هذا الولد الكافر ليس من أهلك، وليس من الناجين.
هذا موقف التبرؤ قد يضطر لاتخاذه أحياناً بعض الناس، لما تسمع قصة مثلاً، أن الرجل الشائب الضعيف المسكين يقول: بنتي تخرج إلى الشارع وتركب مع أي سيارة وتأتي وتذهب، والبنت الأخرى نفس الشيء، وعندما وعظتهم وكلمتهم وكلمت أمهم في البيت، قالوا جميعاً بلسان واحد: هذه طريقة عيشتنا، إذا لم يعجبك فاخرج من البيت، ماذا يفعل؟ هناك حالات كثيرة في المجتمع من هذه الأنواع من المصائب.
وفي بعض الأحيان يكون من مصلحة هذا الشخص، ومصلحة أولئك المجرمين أن تبلغ بهم الجهات الرسمية، كهيئة الأمر بالمعروف أو مكافحة المخدرات مثلاً، لعلهم أن يفعلوا معهم شيئاً، فالمسألة خرجت عن طور التحكم، وصارت الآن خارج الموضوع، وهناك كثير من الناس الذين فقدوا السيطرة والتحكم على بيوتهم وعلى بناتهم وأولادهم.(24/16)
فضل الدعاء
وبهذا يتبين لنا -أيها الإخوة- عظمة الدعاء الذي علمنا إياه عليه الصلاة والسلام، دعاء نردده صباحاً ومساء: (اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي -انظر العفو والعافية في ديني ودنياي- وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي الحديث) يدعو به صلى الله عليه وسلم عليه وسلم صباحاً ومساءً، لعل هذا الدعاء إذا خرج من قلب حي متصل بالله عز وجل، أن يُحفظ الأهل والبنات والأولاد بسبب دعاء أبيهم الصالح أو أخيهم الصالح.
حتى في السفر ماذا كان صلى الله عليه وسلم يقول؟ (اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) كأن الواحد يقول: اللهم اخلفني في أهلي بخير، إني استودعتك أهلي فاحفظهم، والله إذا استودع شيئاً حفظه كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل).
ولذلك الإسلام ينمي في المسلم الغيرة والدفاع عن أهله وعرضه، ويعتبر الإسلام أن من قتل دون أهله فهو شهيد: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شيهد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) حديث صحيح.
وينبغي كذلك ألا يكون الأهل حائلاً بين الإنسان وبين طاعة الله، وألا يشغلوه عن طاعة ربه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ما هي حجة المنافقين لما تخلفوا عن الجهاد؟ {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] هناك أناس عندهم إفراط، وأناس عندهم تفريط، ويحتاج الأمر في كثير من الأحيان إلى وقفات صارمة، أحياناً الزوجة يكون زوجها لا يصلي، فهي تنصحه وتقيم عليه الحجة وتذكره بالله فلا يصلي.
ماذا تفعل؟ لا يجوز لها أن تبقى معه لحظة واحدة أبداً، لأنه مرتد عن الدين، لا يجوز أن يعاشرها، ولذلك عليها أن تفارقه، فهذا رجل من أهل السوء، من أسوأ من خلق الله، مرتد عن الدين، ويهاجم الدين ويهزأ بالدين لا يصلي ولا يفعل أي فرض من الفرائض، تقول له زوجته: اتق الله، صلِّ، رفض، قالت له: أفارقك ولا أقعد معك لحظة واحدة، فقال لها المجرم: وقعي إقراراً بأنك لا علاقة لك بالأولاد وأنك قد تخليت عنهم، وليس لك شأن بهم، وقعت الورقة وقالت: خذ.
ولما رأى إصرارها ورأى موقفها انقلب وصار يصلي: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وحتى لو لم يكن لديها مكان تخرج إليه، بل لم تستطع أن تخرج إلى مكان آخر، فإن الحكم الشرعي أن تتحجب منه، ولا تمكنه من نفسها أبداًً، وتعيش في نفس البيت مكرهة، لكن هو أجنبي عنها، لا تخالطه ولا تعاشره ولا تمكنه من نفسها، ولو ضربها وأكرهها فإن الإثم عليه هو.(24/17)
علاج مثل هذه الكوارث ودور الدعاة
وأخيراً أيها الإخوة! ما هو العلاج لهذه الكوارث؟ هناك أملٌ في الله كبير، في الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تعيشها مجتمعات المسلمين، الأمل في الدين، الأمل في المتدينين، الأمل في المتمسكين بالدين الآن، هم الذين عليهم المعتمد بعد الله في إنقاذ المجتمع من الشرور.
ما هو موقف أولئك المستقيمين على شرع الله؟ كيف ينبغي أن يكون دورهم في علاج ومواجهة مثل هذه المواقف؟ ينبغي أن نتغلغل في أسباب الداء، لماذا لا ينتشر الإصلاح في المجتمع بقوة؟ هناك من أولئك جيل الصحوة أناس عرفوا الله والطريق، وأناس عرفوا الله وأخطئوا الطريق، فتجد من هؤلاء من يحدث عنده تفريط فيتقوقع على نفسه وعلى بعض إخوانه الطيبين، وينزوي عن المجتمع، ويقول: مالي وللناس، مالي وللبيت، مالي ولأهلي، وقد يصيبه الاشمئزاز من بعض ما يفعلونه، فيتركهم ويبتعد عنهم، ويقول: أنا الآن علي بنفسي ولا شغل لي بالآخرين، لو كانوا إخواني أو أخواتي أو أمي وأبي ليس لي علاقة، ويقول: أنا الآن فقط أربي نفسي.
فهذا تفريط وإهمال، لماذا تتخلى عن المسئولية؟ هل أنت تدخل في قول الله عز وجل: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] أم لا تدخل؟ إذاً لماذا تتخلى الآن عن المسئولية؟ ولماذا تنطوي وتنعزل وتتقوقع على نفسك؟ وفي الجانب الآخر يوجد نوع من الإفراط في الأمر، وأخذ المسألة بالعنف، بعض الناس يريدون أن يصلحوا البيوت والمنكرات والانحرافات بالعنف والشدة المنافية للحكمة التي أمر الله بها، فتأتي النتائج غالباً عكسية، ويتضاعف الكره للدين وللمتدينين.
ولذلك أيها الإخوة: يجب أن يكون دور أولئك المستقيمين على شرع الله، الملتزمين بدين الله في بيوتهم دوراً إيجابياً، ويجب على أولئك الناس الذين هم أفراد من جيل الصحوة أن يستشعروا المسئولية التي أناطها الله بهم، والتي شرفهم الله بالقيام بها، ينبغي على كل واحد من هؤلاء أن يبني شخصية قوية داخل بيته، قوية للإسلام واعية، تقوم بواجب الدعوة إلى الله والتوجيه، وتواجه الانحرافات بالحكمة، وبإقامة البرهان والدليل، وباللجوء إلى القوة في الوقت المناسب، وفي الإنكار بدرجات الإنكار حسب المصلحة الشرعية.
على أولئك أن يبدءوا بنشر الوعي الإسلامي في البيت بنشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، وفتح القنوات أمام أهل البيت حتى يذهبوا إلى المحاضرات والدروس، وأن يأتوا لهم بالمجلات الطيبة، والكتب الإسلامية الطيبة، يجب على كل واحد من أولئك الشباب وغيرهم من الكبار ممن هداهم الله عز وجل أن يكون لهم دور إيجابي في بيوتهم، يؤثرون على آبائهم وأمهاتهم، وإخوانهم وأخواتهم، وأن يربطوا إخوانهم -مثلاً- بأصدقاء طيبين، وأن يبعثوهم إلى الأماكن الطيبة، لتبدأ تلك البذور في التفتح، وتختفي الانحرافات التي وجدت في بيئات الشر والفساد.
ويجب على الشاب ألا يحتقر نفسه، وكثيرٌ منهم ولله الحمد بدأ لهم ثقل واضح في المجتمع، وبدأ لهم وزن في الأوساط الاجتماعية، فكثير من أولئك المستقيمين قد تزوج وأنجب، أو هو يعمل في وظيفة محترمة، وربما صار ينفق جزئياً أو كلياً على أسرته، وتغيرت النظرة إلى كثيرين من أولئك، ولم يعودوا ينتقدون ويعاب عليهم مثلما كانت النظرة الأولى.
فعلى أولئك أن يقدروا أن وزنهم في المجتمع قد تغير، وأن نظرة المجتمع إليهم قد تغيرت، وأن الكثيرين من الغرقى بدءوا يمدون أيديهم طلباً ليد العون، ويطلبون منهم المساعدة، وقد لا يطلبونها منهم تصريحاً، ولكن يتمنون في قرارات أنفسهم أن يأتي من أولئك المتدينين المستقيمين من ينتشلهم من تلك الأوحال، ويعلمهم ويوجههم ويرشدهم.
على أولئك من أفراد جيل الصحوة الإسلامية المباركة -إن صحت هذه التسمية- أو قل المستقيمين الذين هداهم الله، أن يبعدوا أهلهم عن مصادر الشر من الأسواق ونحوها، والأجهزة المفسدة المرئية أو المسموعة أو المقروءة، وعن جيران السوء وأقرباء السوء وأصدقاء السوء، وأن يحبوا الخير لأهليهم ولإخوانهم، وألا يقول واحد منهم: الحمد لله أنا على خير، وليذهب أخي في ستين جهنم، انظر ماذا قال العبد الصالح موسى عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29 - 32].
إنه يحب الخير لأخيه، ويطلب إشراكه معه، فما كان أنانياً، وما قال: أنا أتفرد بالأمر، وإنما قال: يا رب! فدعا الله أن أشركه في أمري، كي يصبح معيناً لي على طاعة الله.
أنت إذا دعوت إخوانك وأخواتك في البيت، والتزم منهم بدين الله أفراد، فإنك تكون منهم جبهة داخلية في البيت، ويصبح الرأي العام أو أغلبه معك، وتستطيع من خلاله تكوين الرأي العام في البيت، فتغير المنكرات ولو بالقوة المستندة إلى الحكمة أحياناً.
وهناك كثير من البيوت لما التزم فيها الأولاد، وأخرجوا أجهزة الفساد، لم يجرؤ الأب والأم على إعادتها مرة أخرى، ورضخوا وتحسنت أحوالهم، وكم من أب اهتدى على يد ولده، وكم من أم التزمت على يد ابنتها.
ويجب أن يكون لك -أيها الأخ المسلم- موقف من الخلافات العائلية، وهذا جزء من مسئوليتك، فإنه في كثير من الأحيان قد تؤدي الخلافات إلى طلاق مثلاً، أو إلى انفصال، أو إلى هجر الزوجة لزوجها أو العكس، فعليك أن تقوم بدور في تقريب وجهات النظر، وإزالة الشقاق والخلاف، وأن يحل بمجهودك -بعد فضل الله- وئام وحب بين الأطراف المتنازعة، كثير من أولئك يقفون مواقف سلبية وهم يشاهدون الخلافات العائلية الموجودة، لا يحاولون أن يحركوا ساكناً، ولا أن يتوسطوا لإنهاء الخلافات، على أولئك الإخوة أن ينتبهوا لدورهم، وأن يقوموا بالإصلاح: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] نتيجة ماذا؟ السعي في الإصلاح.
وأختم هذا الدرس بكلمات لصاحب الظلال يرحمه الله: إن الإسلام دين أسرة، ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في أسرته، وواجبه في بيته، والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة، وهو الخلية التي يتألف منها، ومن الخلايا الأخرى ذلك الجسم الحي: المجتمع الإسلامي.
إن البيت الواحد قلعة من قلاع هذه العقيدة، ولا بد أن تكون القلعة متماسكة من داخلها، حصينة في ذاتها، كل فرد فيها يقف على ثغرة لا ينفذ إليها، وإلا تكن كذلك سهل اقتحام المعسكر من داخل قلاعه، فلا يصعب على طارق ولا يستعصي على مهاجم، وواجب المؤمن أن يتجه بالدعوة أول ما يتجه إلى بيته وأهله.
واجبه أن يؤمن هذه القلعة من داخلها، واجبه أن يسد الثغرات فيها قبل أن يذهب عنها بدعوته بعيداً، ولابد من الأم المسلمة، فالأب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة، لابد من أب وأم ليقوما كذلك على الأبناء والبنات، فعبث أن يحاول الرجل أن ينشئ المجتمع الإسلامي بمجموعة من الرجال، لابد من النساء في هذا المجتمع، فهن الحارسات على النشء، وهو بذور المستقبل وثماره، ومن ثم كان القرآن يتنزل للرجال والنساء، وكان ينظم البيوت ويقيمها على المنهج الإسلامي، وكان يحمل المؤمنين تبعة أهليهم، كما يحملهم تبعة أنفسهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6].
هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة إلى الإسلام، وأن يدركوه جيداً.
إن أول الجهد ينبغي أن يوجه إلى البيت إلى الزوجة إلى الأم، ثم إلى الأولاد وإلى الأهل عامة، ويجب الاهتمام البالغ بتكوين المسلمة لتنشئ البيت المسلم، وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم أن يبحث له أولاً عن الزوجة المسلمة، وإلا فسيتأخر طويلاً بناء الجماعة الإسلامية، وسيظل البنيان متخاذلاً كثير الثغرات، وفي الجماعات المسلمة الأولى كان الأمر أيسر مما هو عليه في أيامنا هذه، كان قد أنشئ مجتمع مسلم في المدينة يهيمن عليه الإسلام، يهيمن عليه بتصوره النظيف للحياة البشرية، وكان المرجع فيه من النساء والرجال جميعاً إلى الله ورسوله، وإلى حكم الله ورسوله.
ولكن نحن الآن في موقف متغير، نحن نعيش في جاهلية، جاهلية مجتمع، جاهلية تشريع، وجاهلية أخلاق، وجاهلية تقاليد، وجاهلية نظم وجاهلية آداب، وجاهلية ثقافة كذلك، والمرأة تتعامل مع هذا المجتمع الجاهلي، وتشعر بثقل وطأته الساحقة حين تهم أن تلبي دعوة الإسلام، سواءً اهتدت إليه بنفسها، أو هداها إليه رجلها زوجها أو أخوها أو أبوها، ولذلك فإنها ستجد كثيراً ممن يعاديها.
فلابد من إنشاء البيت المسلم، وإنشاء القلعة المسلمة، ويتعين على الآباء المؤمنين الذين يريدون البعث الإسلامي أن يعلموا أن الخلايا الحية لهذا البعث وديعة في أيديهم، وأن عليهم أن يتوجهوا إليهن وإليهم بالدعوة والتربية والإعداد قبل أي أحد آخر، وأن يستجيبوا لله وهو يدعوهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(24/18)
الأسير الذي أسلم
قصة إسلام ثمامة بن أثال تبدو للقارئ لأول وهلة قصة عادية، إلا أنها تحمل في ثناياها ما لم يكن يتصوره المرء، ولا يدركه إلا من أطال التأمل فيها وقرأ ما بين السطور: لماذا ربط في المسجد؟ ما ظنه برسول الله؟ لم منَّ عليه رسول الله؟ أحداث ومواقف تستحق التأمل والتمحيص.
كل ذلك يدركه من رزقه الله نوراً يكشف به عن مشخصات الأمور وأحداث الوقائع.(25/1)
أحداث القصة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، على آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالقصة التي سنتحدث عنها في هذه الليلة -إن شاء الله- من قصص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام، وهي قصة رجل من زعماء المشركين هداه الله تعالى في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، روى قصته الإمام البخاري ومسلم وأحمد في مسنده.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك؛ إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله حتى كان من الغد فأعاد السؤال وأعاد الجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة.
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وَجهِك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت؟ -في رواية البخاري ومسلم - فقال: لا، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه هي قصة ثمامة بن أثال الحنفي سيد أهل اليمامة رضي الله تعالى عنه.(25/2)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار
لقد بعث النبي عليه الصلاة والسلام -كعادة المسلمين دائماً في جهاد واستعداد- معارك أو سرايا أو جولات استطلاعية تقوم بها خيل المسلمين حول المدينة، لإرهاب أعداء الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] وكذلك تغير على المشركين، وتحبط كل محاولة لغزو المدينة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم ضربات وقائية، وكان هناك مفاجأة للعدو ومباغتة.
فجهاد النبي عليه الصلاة والسلام إذا استطلعناه في عدد من الفنون والمجالات العسكرية، فأما أن تكون حرب مواجهة مع الكفار، مثل: معركة بدر، ومعركة أحد، ومعركة حنين ونحو ذلك، وإما أن تكون غارات مفاجئة على مواقع العدو الذين يستعدون لغزو المدينة فتحبط محاولاتهم واستعدادهم في مهدها، كما حصل في غزوة بني المصطلق، فقد أغار عليهم وأخذهم على حين غرة، وكان قد وصلت إليه أخبار بأنهم يستعدون لقتاله.
أو تكون سرايا استطلاعية، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عدداً من السرايا لاستطلاع الأخبار، ليأتونه بالأخبار، كما بعث عشرة من رجاله عيناً في معركة ماء الرجيع.
وإما أن يكون خروجهم لتنفيذ مهمة معينة كاغتيال كافر، كما حصل في اغتيال سلام بن أبي الحقيق اليهودي، ومقتل كعب بن الأشرف.
وقد تكون المهمات الحربية لتحطيم بعض أوثان الجاهلية، كما أرسل خالد بن الوليد وغيره من الصحابة لتحطيم وتحريق أوثان كان أهل الجاهلية يعبدونها.(25/3)
كيفية التعامل مع المشركين
وقد تكون الغارات التي يرسلها صلى الله عليه وسلم للاستيلاء على قوافل المشركين في حرب اقتصادية، ونهب أموال الكفار التي أباحها الله؛ لأنهم من المحاربين وأموال المحاربين حلال، فإن الكفار عند المسلمين على ثلاثة أنواع: كافر مسالم، وكافر محارب، وكافر ذمي يعيش في بلاد المسلمين تحت حماية المسلمين ويدفع الجزية، والمعاهد مثله، فبينه وبين المسلمين عهد، أو دخل رجل كسفير للكفار يبلغ رسالة، فهذا يعطى أماناً حتى يبلغ الرسالة ويخرج، فمواقف المسلمين من الكفار بحسب أحوال الكفار أنفسهم.
فهؤلاء الكفار المحاربون أموالهم حلال للمسلمين، فلو نهب المسلمون في فلسطين -مثلاً- أموالاً لليهود فهي حلال لهم؛ لأن هؤلاء اليهود محاربون، وكذلك لو نهب المسلمون في كشمير -مثلاً- أموال الهندوس الذين يحاربونهم، وقطعوا القوافل، ونهبوا البضائع، أو نهبوا أموال الجيش الذي يقاتلهم فهي حلال للمسلمين، لكن نهب أموال الكافر المسالم الذي لا يحارب المسلمين، أو الكافر المعاهد لا يجوز، والمعاهد هو الذي أعطاه المسلمون -وليس الكفار ولا المجرمون ولا المنافقون ولا الطواغيت- بل الذي أعطاه المسلمون العهد والأمان فماله محترم، أي له حرمته، ولا يجوز أن ينهب.
وهناك بعض المسلمين الذي يعيشون في بلاد الكفار أو في بلاد الغرب يسرقون أموالاً من شركات اتصالات، وشركات نقل عام بحجة أنهم كفار، وهذا جهل؛ لأن المسلم الذي دخل بلادهم بعهد فلا يجوز له أن ينهب الأموال العامة عندهم، ولا يستطيع أن يثبت أن أصحاب شركة الهاتف هذه، أو أصحاب شركة النقل هذه يحاربون الإسلام، فإن المحارب للإسلام هو الذي رفع السلاح على المسلمين وأعان على حربهم، فقد يتساهل بعض المسلمين بالأخذ من أموال الكفار بحجة أنهم حربيون مع أن المسألة ليست كذلك.
فينبغي أن يُنّزل كل شيء في موضعه، وألاَّ ندخل في ظلم، فهناك أناس حربيون لا شك فيهم كاليهود في فلسطين فهم حربيون (100%) ومحتلون، وغاصبون، وقاهرون، وباغون، ومحاربون، ومقاتلون، وكل ما يمكن أن يقال عن الكافر المحارب فهو فيهم، فهؤلاء كل أموالهم حلال للمسلمين.
وقد يكون بعض الكفار أموالهم حلال، لكن جنس الطائفة أو الديانة التي هو منها أموالهم محترمة، فليس كل نصراني محارب ولا كل يهودي محارب، وكلٌّ بحسب حاله، وفقه هذه المسألة مما يعين في قضية الموقف من أموالهم؛ لأن بعض المسلمين عن جهل وعن هوى يسلبون أموال الكفار بدون حجة شرعية، وهذا حرام لا يجوز.(25/4)
أسر ثمامة والحكمة من ربطه في المسجد
أغارت خيل النبي عليه الصلاة والسلام قِبل نجد، وكانت ديار كفر لم يستول عليها المسلمون بعد، ولم تطبق فيها الشريعة، أغاروا عليها وأسروا رجلاً مهماً وهو ثمامة سيد أهل اليمامة، واليمامة: منطقة معروفة في نجد.
فأتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام لقد كان المسلمون يُرهبون الكفار، وكان الكفار في قلق وانزعاج دائم، لأن المسلمين في غارات وحراسات مستمرة، لا يشعر الكفار بالأمان، وهذا من دوافع دخول كثير منهم في الدين؛ حتى يأمنوا على أنفسهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم).
لقد أسرت خيل المسلمين ذلك الرجل المهم عند الكفار، وهو سيدهم، فكانت تلك ضربة معنوية قاصمة لأولئك الكفرة لأن سيدهم قد أخذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ملئ حكمة وبعد نظر؛ ولذلك أمر بأن يربط ثمامة لكن ليس في خيمة، ولا في بيت مغلق، أو في سجن، وإنما وضع في المسجد، وربط إلى سارية من سواري المسجد.
إن ربط ثمامة إلى سارية من سواري المسجد معناه أنه يرى يومياً ما هي حياة المسلمين في المسجد، كيف يأتون إلى الصلاة مبكرين، وكيف يصلون ويدعون، ويذكرون الله، يُرفع الأذان فيطرق مسامع ثمامة خمس مرات في اليوم، ويسمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، وسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها غاية في التأثير، فهذا جبير بن مطعم يقول عندما سمع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام: ما سمعت قط صوتاً أحسن منه، عندما سمع قراءته بالتين والزيتون، وكذلك سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] الآيات قال: فكاد قلبي أن يطير.
فسماع قراءة النبي عليه الصلاة والسلام وحدها مؤثرة.
ثم إن المسجد مكان للصلح، كما في قصة كعب بن مالك وابن أبي حدرد لما توسط النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، فوضع صاحب الحق شيئاً من حقه، وأمر الآخر أن يبادر بالسداد، ومكان للتزويج وعقد النكاح، والتوفيق بين المسلمين، ومكان استضافة الغرباء، وإكرام من لا بيت له كأهل الصفة، ومكان لجمع التبرعات والصدقات، وذلك عندما جاء قوم مجتابي النمار إلى المسجد، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين بالصدقة، وكان مكاناً لإرسال الجيوش والبعوث، ومكاناً تجلب إليه الغنائم وتقسم على حسب شرع الله، ومكاناً تجمع فيه زكاة الفطر وتقسم على الفقراء، ويؤتى فيه بخراج البحرين ويوضع في المسجد، ومكاناً للفتاوى والأسئلة والإجابات، وحلق الذكر ودروس العلم، والخطب النبوية المؤثرة، وهو المكان الذي يجتمع فيه المسلمون في المدينة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليوقروه، ويعظِّموه، ويطيعوه صلى الله عليه وسلم، وهو المكان الذي يأتي الناس ليصلوا فيه النوافل والتراويح جماعة أحياناً.
وهذه المشاهد الموجودة في المسجد كفيلة بالتأثير في النفوس، ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام من حكمته بربط ثمامة في المسجد، وليس في أي مكان آخر، وحول موضوع دخول الكافر إلى المسجد سنتحدث في آخر الدرس إن شاء الله.(25/5)
ظن ثمامة برسول الله صلى الله عليه وسلم
جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة وقال: ماذا عندك؟ أي: ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ ما تظن يا ثمامة أنني فاعل بك؟ فأجاب بأنه يظن بالنبي عليه الصلاة والسلام ظن خير، وأنه ليس ممن يظلم، وأن ظنه به أن يعفو ويحسن إليه، وأنه إن قتله فإنما يقتل ذا دم، أي: صاحب دم، لدمه موقع يشتفي قاتله بقتله، كأنه يقول: إذا قتلتني تقتل شيئاً كبيراً يحق لك انتقاماً، وتقتل رئيساً وعظيماً من العظماء.
وفي رواية: ذا ذم.
ومعناها: ذا ذمة، لكن لم يكن لهذا الرجل ذمة، ولذلك استبعدها بعض العلماء، وقد حاول النووي أن يوجه هذه الرواية ليكون معنى ذا ذمة: ذا حرمة في قومه، وليس أن ثمامة صاحب عقد ذمة، أو أن المسلمين قد أعطوه عهداً.
قال: وإن تنعم تنعم على شاكر، أي: يشكر لك منتك وفضلك عليه، وفي اليوم الثاني والثالث عرض عليه ما عرض عليه من قبل، وسئل عما سئل عنه من قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى موقف ثمامة كما هو أمر بإطلاقه، قال بعض العلماء: إن ثمامة قد وافق في هذه المخاطبة قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].(25/6)
إطلاقه رضي الله عنه وإسلامه
قال: أطلقوا ثمامة، قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك.
وهذا في رواية ابن إسحاق، وجاء فيها: أن المسلمين قد جمعوا له من طعام ولبن، فقدموه إليه فلم يصب من ذلك إلا قليلاً.
ولما أُطلق الرجل لم يرجع إلى قومه؛ لأن ما شاهده من المشاهد كفيل بأن يجعل الهداية تدخل إلى قلبه، فذهب واغتسل وأسلم ونطق بالشهادتين، ثم بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ومحو ذنوبه وتبعاته السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما أحس به من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة دينه، ومحبة بلده، فانقلب البغض إلى حب وانقلبت الكراهية إلى محبة، واتضح من خلال التأثير كيف تنقلب مشاعر المدعو عكس ما كانت عليه.
لو وُجد المدعو في بيئة سليمة، وتعرض لمؤثرات صحيحة، ووُجد في جو طيب فإنه يتأثر، وهكذا حصل لـ ثمامة، حينما ربط في هذا المكان فتأثر وانقلبت مشاعره، فإنه كان يكره النبي عليه الصلاة والسلام، ويكره دينه، ويكره بلده، فصار أحب الوجوه إليه وجهه عليه الصلاة والسلام، وأحب البلاد بلده، وأحب الدين إليه دينه، زد على ذلك أن المنَّة التي مَنَّ بها عليه الصلاة والسلام على هذا الرجل قد أثَّرت فيه، منَّةٌ شكرها هذا الرجل، وكان شكره الإسلام، فقد أسلم وتابع النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كان مفهوم المسلمين في السابق للإسلام أمراً عجيباً، حتى مع أنهم حديثو عهد به، فإن هذا الرجل كان سيد قومه، وهو مشرك كافر، أخذ ووضع في المسجد، وفي هذه الأيام الثلاثة رأى المجتمع الإسلامي من الداخل، وقد كان هناك إشاعات كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن المسلمين، يطلقها اليهود والمنافقون ومشركو قريش وغيرهم، ولكن الآن رأى ثمامة بأم عينيه المجتمع الإسلامي من الداخل، ورأى النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه وشخصه، لقد زالت كل الهالات الإعلامية السيئة التي نسجها الكفار حول المسلمين، وحول الدعوة، وحول النبي عليه الصلاة والسلام، لقد رأى ثمامة الصورة الحقيقية من الداخل.
ثم صادف ذلك الإنعام من النبي عليه الصلاة والسلام بأن مَنَّ عليه وأطلقه دون قيد ولا شرط، ولا فدية ولا مقابل، إنه كرم نبوي، حيث قال: أطلقوا ثمامة، فهذه الأشياء مجتمعة أثرت في الرجل؛ فقلبت مشاعره، والذي نريد أن نقوله: إن الدخول في الدين ليس فقط كلمة تنطق، بل هو تغيير جذري في المشاعر، لا يؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يؤمن حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، ولا يؤمن حتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
إذاً عملية الدخول في الإسلام والهداية تُحدِث تحولات في المشاعر، فليست القضية قضية نطق بالكلام أو عبارات، وليست شعائر تؤدى بالجسد، وإنما تغيير داخلي -أيها الإخوة- في القلب، وفي الأحاسيس، وفي المشاعر؛ فينقلب الكره حباً، والبغضاء وداً، وهكذا حصل لـ ثمامة رضي الله عنه.
هل انتهت القضية على هذا؟ هل هذا هو الذي ولدّه الإيمان فقط؟ لا.
فالرجل عندما أسلم كان يريد أن يؤدي عمرة، وما حكم العمرة التي كان يريد أن يؤديها؟ عليه أن يستمر في عمل الخير، فإن العمرة عمل خير، والمشركون كانوا يعتمرون ويحجون لكن على مذهبهم الباطل وعلى عقيدتهم الباطلة، فيطوفون حول أصنام الكعبة، وقريش كانت تذهب إلى مزدلفة ولا تتجاوزها؛ لأنهم يقولون: نحن من الحمس، أي: أهل الحرم فلا نتعدى الحرم مثل بقية الناس إلى عرفات، وكان بعضهم يطوف بالبيت عرياناً، فالحج والعمرة كان على مذهبهم الفاسد.
فهذا الرجل أسلم وكان يريد أن يؤدي عمرة، فقال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ تصور أن زعيماً من زعماء الكفار يسلم ثم يأتي مباشرة ليستفتي! وليس من السهل على زعيم قبيلة أو عشيرة، أو سيد مطاع في قومه أن يأتي ليسأل ويستفتي، لكن كان دخول الصحابة في الدين انقلاباً شاملاً في النفس، يقلب كيان الرجل، فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعتمر.
إذاً إذا كان الكافر يريد أن يعمل عمل خير قبل الإسلام وأسلم؛ فإنه يستمر في عمل الخير الذي كان يريد أن يعمله.(25/7)
الإسلام يغير ثمامة تغييراً كاملاً
لم تنته المسألة عند هذا، ونحن نريد أن نفحص عن عملية التغيير التي حدثت لهذا الرجل؛ لأن هذه عملية فيها عبرة؛ بها نكتشف الفرق بين إسلام العامة وكيف كان يسلم الصحابة، كان الواحد منهم إذا أسلم على عهد النبي عليه الصلاة كان إسلامه يعني أشياءً كثيرة يعني انقلاباً كاملاً وتحولاً جذرياً.
الرجل ذهب إلى مكة لأداء العمرة، حتى إذا كان ببطن مكة لبى، فقيل: إنه أول من دخل مكة بالتلبية، وقيل: إن قريشاً قالوا: أجترأت علينا؟ وأخذوه يريدون قتله، فقال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى الطعام من اليمامة، واليمامة منطقة كانت تمون مكة بالقمح (الحنطة) فتركوه.
كما كانوا يريدون قتل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه فقام العباس يدافع عنه ويقول: إن معبر قوافلكم على طريق قوم الرجل، وإن قتلتموه سيمنعون قوافلكم وينهبونها، فتحت ضغط العامل الاقتصادي يتراجع القوم عما كانوا يريدون، وإلى الآن والعامل الاقتصادي عامل له ضغط وتأثير.
لكنهم ما تركوه من جهة الاستهزاء، بل قالوا له: أصبوت؟ والصابئ هو الذي غير دينه، فأي شخص يغير دينه عن دين قومه تسميه العرب: الصابئ.
ولا حظوا كيف ينشئ الإسلام عزة في نفس المسلم إذا كان إسلامه صحيحاً! فلم يسكت لهم على هذه الكلمة وهم جماعة وهو واحد، بل قال: لا.
ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكتفِ بالرد عليهم فقط، بل دفعته العزة إلى أن يهدد بالتهديد التالي؛ يقول: ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
واليمامة منطقة زراعية كانت تصدر الحنطة إلى مكة، والآن فهم ثمامة بإسلامه أن الدين يتطلب منه أن يتخذ مواقف من الكفرة، مواقف فيها مفاصلة، وفيها إرغام لأعداء الله، ومقاطعة اقتصادية.
إنها كلمة خطيرة! ولكنه قالها، فلم يكن إسلامه إسلاماً بارداً، ولا إسلاماً من يحبون الأعداء، ويتآلفون مع الأعداء، ويتأقلمون معهم، ويعيشون معهم في سلام وأمان لا.
بل كانت مواقف مواجهة؛ لأن طبيعة الدين طبيعة تغييرية، والإسلام يريد أن ينقض الكفر والجاهلية، ولا يمكن أن يتعايش مع الكفر، والذي يريد أن يحدث تعايشاً بين الإسلام والكفر مجنون، لأن طبيعة الدين تقتضي نسف الجاهلية، وتحطيم الأوثان، وإزالة المعبودات من دون الله، ونشر الإسلام: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] هذه هي طبيعة الدين، والآن يراد أن يكون الدين رقيقاً، دين سلام وعاطفة، ومحبة للجميع، ودائماً يقولون: الإسلام دين مسالم كيف هذا؟ هل هناك جهاد في الدين أم أنكم قد ألغيتم الجهاد؟ ويقولون: الإسلام ليس فيه إرهاب كيف ذلك؟ وفيه إرهاب لأعداء الله، والله يقول: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] فإذا كنا لا نريد إرهاب أعداء الله، فمعناها أن الدين رخو، وناقص، وقد عطلنا هذه الشعيرة.
إذاً فالذي يقول: هذا دين سلمي، ولا يوجد فيه قتال ولا اعتداء على أحد فمعنى ذلك إلغاء الجهاد، وهذا ما يقصدونه إذا فسروا الجهاد على أنه اعتداء، فنعم فيه اعتداء، لكنه اعتداء بالحق، وهناك اعتداء بالباطل، كأن تذهب إلى كافر مسالم أو لا يحارب الدين، ولا يقف في طريق نشر الدين وتقتله وتستولي على ماله؛ فهذا خطأ، أما إذا وقفوا في طريق الدين ونشره فيقاتلون.
ماذا فعل الصحابة في الفتوحات؟ لقد عرضوا الإسلام على رستم، وعرضوا الإسلام على رسل قيصر وعلى قادة الفرس والروم، أي إذا دخلتم في الإسلام انتهت العداوة والبغضاء بيننا، على أن تخلّوا بيننا وبين شعوبكم ندعوهم إلى الإسلام ولا نقاتلكم، أما إذا منعتمونا فسنقاتلكم ونرهبكم ونعتدي عليكم.(25/8)
الرجوع إلى الدين قبل المواجهة ودعوى التقريب بين الأديان
إن الدين يتعرض في هذا الزمان للتشويه، وإلى حذف أشياء من الدين، وهم يريدون إلغاء أي شيء يتعلق بقضية إرهاب الكفار وجهاد أعداء الله ونحو ذلك، فالذي يقول: إن الإسلام ليس فيه أي مواجهات، ولا اعتداء، ولا قتال، ولا استيلاء على أموال الآخرين مخطئ في قوله، وكيف ليس فيه استيلاء؟ وهذه الغنائم أليست استيلاء على أموال الكفرة المحاربين؟ إذاً الإسلام فيه استيلاء على أموال الآخرين لكن بالحق، والله عز وجل يقول: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] ولذلك قال العلماء: أحل الحلال أموال المحاربين وهي الغنائم، لكن لا يمكن أن تكون الأمة في وضع صعب وهزيمة، والمرتدون فيها كثرة مسيطرون، والمنافقون فيها كذلك، ثم تحارب وتغنم! الأمة لا تستطيع أن تحارب وتجاهد وتغنم إلا إذا قامت على قدميها، وإذا صار الدين فيها محكماً، ورجع الناس فيها إلى الله، وصارت الجبهة الداخلية فيها متماسكة، وتمسَّك المسلمون بالدين، فعند ذلك يمكن الجهاد والغنائم، أما في هذا الوضع، فإن الأمة تحتاج إلى دعوة وإصلاح قبل أن تجاهد، فلا يمكن أن تجاهد وهي بعيدة عن الدين، فإن أكثر المسلمين شاردون عن الدين، ومنغمسون في المعاصي، وفي الفجور، وفي الفسق هذا لا يصلي، وهذا يستهزئ بالإسلام، وهذا لا يعرف السنة، وهذا يعترف ببعض السنة، وهذا أهل بيته في غاية التبرج والفسق والفجور، وهذا بيته مليء بالمنكرات كيف ستجاهد الأمة وهذا وضعها وحالها؟! إذاً فالأمة تحتاج إلى إصلاح وإلى دعوة قبل أن تقوم للجهاد في سبيل الله، وقبل أن تفكر في الغنائم فكِّرْ في الدعوة أولاً، وفي إصلاح المسلمين، حتى يكونوا متهيئين بعد ذلك للجهاد والغنيمة، ومع أننا غير قادرين على القيام بهذا الأمر فإننا لا ننكره، بل إن الجهاد موجود في الدين، لكن نحن غير قادرين عليه.
لقد أحل الله غنائم الكفار، لكن نحن غير قادرين عليها، لأن وضعنا لا يسمح بالجهاد وأخذ أموال الكفار، ولكن لا ننفيه ونقول: ليس في الإسلام جهاد ولا غنائم، ولا أخذ أسرى الكفار؛ قتلاً أو مناً أو مبادلةً أو فداءً لا، هذا موجود في الإسلام، وبعض المنهزمين منا يقولون: الإسلام دين السلام، أما الجهاد فكان في الماضي وقد انتهى، أما الآن فلابد من التعايش السلمي، والتقريب بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، وعقد لقاءات لهذا الأمر كيف التقريب؟ هذا نصراني يقول: الله ثالث ثلاثة، وأنا مسلم أقول: الله واحد لا شريك له كيف يحدث التقريب؟! ومن سيقترب من الآخر؟ ثم السؤال الآخر: كيف سيكون التقريب؟ معني ذلك أنك تسحب الطرفين إلى الوسط، أليس هذا هو التقريب؟ يهودي مسلم، أو نصراني مسلم! كيف يمكن أن يحدث؟ معنى ذلك أننا نتنازل وهم يتنازلون، وهم على كل حال كفار تنازلوا أم لم يتنازلوا فهم لا يختلفون، وسينتقلون من كفر إلى كفر أدنى منه قليلاً أو مثله، ونحن سوف نقترب إليهم، ومعنى ذلك أننا سنداهن في دين الله، والله يقول: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] قالوا: يا محمد نعبد إلهك سنة، وتعبد إلهنا سنة ففكرة التقريب قديمة، فنزل قوله تعالى نسفاً لفكرة التقريب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6] لا يوجد تقريب، هما دينان مستقلان منفصلان لا يمكن التقارب بينهما، إذا كان يريد أن يقترب مني فأهلاً وسهلاً، لكن أن أقترب منه فهذا كفر لا أرضى به.
إن فكرة الحوار بين الأديان، وفكرة التعايش بين الأديان، وزمالة الأديان، وأن نجتمع في شيء اسمه: الملة الإبراهيمية، هذا من مخترعات اليهود، قالوا: هذه الملل السماوية تلتقي في إبراهيم، فإن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم يرجعون إلى إبراهيم، فقالوا: ننشئ شيئاً اسمه: الملة الإبراهيمية، فنحن أصلنا يرجع إلى إبراهيم، ولا أحد يخطئ أحداً، ولا أحد يعتدي على أحد، ولا أحد يكفر أحداً، ولا أحد يضلل أحداً، ولا أحد يقول إن الطائفة هذه في النار ولا شيء، ونعيش في سلام وسبات ونبات، ونخلف بنين وبنات إن هذا يعني الرضا بالكفر، وإقراره، والتعايش والتأقلم معه، ولذلك فهم يسعون بكل طريق إلى هذه الدعوة، وهم يعرفون أنهم إذا تنازلوا عن شيء من الدين فلا يهمهم ذلك، فالنصراني لو قال: أنا لا أقول إن الله هو المسيح، أنا أقول فقط: إن المسيح هو ابن الله، ونقول: إن المسيح ثالث ثلاثة، وأنتم -أيها المسلمون- أيضاً تنازلوا قليلاً، فلا تكفرونا، نحن فقط نطلب منكم ألا تكفرونا، لا تقولوا: إن اليهود والنصارى كفار فنحن إذا قبلنا بهذا كفرنا؛ لأن الله قال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وأنت إذا قلت: نحن لا نكفر النصارى، فمعناه أننا خالفنا القرآن صراحة وكذبناه، نقول: إن الله كفرهم لكن نحن لا نريد أن نكفرهم! ولذلك كان من نواقض الإسلام: من لم يكفر الكفار، أو صحح مذهبهم، أو رضي بهم، أو قال: إنهم يدخلون الجنة وليسوا في النار، فقد كفر.
فلو جاء مسلم وقال: إن النصارى الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ليسوا بكفار، وليسوا من أهل النار فإنه كافر، مكذب مناقض لما أنزله الله، ومصادم لما حكم به الله، ولم يرض يرضى بما حكم به الله.
فاليهود والنصارى يريدون منا في هذه الأيام تنازلاً مهماً جداً، وهو: ألا نكفرهم فقط، نقول: كلنا مؤمنون، وكلنا أهل ديانات سماوية، وكلنا أحباب، ودربنا واحد، لكن أنت تعبد الله بالطريقة الإسلامية، وذاك يعبد الله بالطريقة النصرانية، وكلها طرق ورسائل وأديان سماوية فالذي يقول هذا كافر، وهو تمييع للدين وتمييع للتوحيد.
أمر آخر: إننا إن لم نكفرهم فقد رضينا بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وأن الله لما خلق الخلق تعب فاستراح يوم السبت، كما يقول اليهود في سبهم لربهم عز وجل.
فإذاً لا يمكن التقريب بين المسلمين وغير المسلمين، وهذه فكرة يهودية، وهذا مذهب خبيث باطل، وزمالة الأديان -أيضاً- فكرة كفرية لا يجوز إقرارها أبداً، وإذا كان المقصود بالحوار هو التقارب فهي مصيبة، وأما إذا كان الحوار لإقناعهم بالحق ودعوتهم إلى الله فنعم {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] فنعرف من خلال قصة ثمامة رضي الله عنه أن الإسلام ينشئ في نفس المسلم تلقائياً مناقضة الشرك ومحاربته، وتحدي المشركين، وهذا ثمامة لم يرضَ عندما قالوا له: أصبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تحداهم بالخطر الاقتصادي، ولا تأتيهم حبة حنطة بدون موافقة النبي عليه الصلاة والسلام، فهكذا كان المسلم يُسلِم ويفهم كل هذه الأشياء، واليوم بعض المسلمين يعيشون في الإسلام سنوات طويلة ولا يفهم عشر ما فهمه ثمامة، فإنه أسلم واتخذ كل هذه المواقف مباشرة، فهم ما يقتضيه الدين، فهم معنى لا إله إلا الله وما تقتضيه هذه الشهادة، واليوم كثير من المسلمين لا يفهمون في سنوات طويلة بعض ما فهمه ثمامة، ويرفضون أن يتخذوا مواقف شبيهة بما اتخذه ثمامة رضي الله عنه.(25/9)
من فوائد الحديث
والحديث فيه من الفوائد: المنُّ على الأسير الكافر، وأثر المنّة على الكفار في تحبيب الدين إليهم، وكذلك الاغتسال عند الإسلام، وجمهور العلماء على أن الاغتسال مستحب وليس بواجب، لكن الكافر إذا أراد أن يسلم وقال لك: كيف أسلم؟ تقول: انطق الشهادتين واغتسل؛ لأنه إذا كان بالغاً لا يخلو أن يكون على جنابة، ومادام أنه قد دخل في الإسلام أي أنه سيصلي، وعليه جنابات من قبل، فعليه أن يزيلها بالاغتسال، فإذا كان لأجل الدخول في الدين فالغسل مستحب وإذا كان من أجل الطهارة ورفع الجنابة فلابد أن يغتسل وأن يصلي.
كذلك في هذا الحديث: أن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم؛ فإنه يشرع له أن يستمر في عمل الخير هذا، فلنفترض أن كافراً أراد أن يُنشئ ملجأ للأيتام، وضع الأساسات واشترى الأرض ثم أسلم وقال: ماذا أعمل في المشروع؟ نقول: أكمل، أسلمت على ما أسلفت من خير.
وفي الحديث: ملاطفة الذي يرجى إسلامه من الأسرى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه كل يوم ويسأله عن ظنه، ويهتم به، ولا سيما الرجل الذي إذا أسلم تبعه قوم، فإن المعظمين عند الناس إذا أسلموا يكون لإسلامهم أثر على بقية الذين يتبعونهم.
وفي الحديث: بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد من الكفار خصوصاً الناس المؤثرين.
وفي الحديث: أن لإمام المسلمين الخيار في قتل الأسير، أو المن عليه، أو المبادلة به، أو أخذ الفدية، وقد حدث في بعض المعارك السابقة بين المسلمين والنصارى، فاتفق المسلمون مع النصارى على مبادلة الأسرى، ونصب جسر على النهر، وكانت الطريقة أن ينطلق الأسير الكافر من أول الجسر والأسير المسلم من الطرف الآخر، ويمشي كل واحد إلى معسكر فريقه، ثم ينطلق الأسير الثاني مع الأسير الثاني، وهكذا تتم المبادلة بهذه الطريقة، وفي آخر المبادلة انتهى أسرى المسلمين، وبقي أسرى كفار عند المسلمين، فأطلقهم الخليفة منّةً وإظهاراً لعفو المسلمين وسمو المسلمين وعلوهم، فإن المنة متى تكون مؤثرة إذا كانت من طرف قوي، أما إذا كانت مِنَّة من طرف ضعيف هزيل فلا تعتبر منّة، وإنما تعتبر إلجاء، وتفسر على أنها هزيمة وإرغام، أي: أنهم أطلقوهم مرغمين وخائفين إذا لم يطلقوهم من الانتقام، أما إذا صارت المنّة من طرف قوي ومن موقع قوة، فهذه يكون لها أثر، ولذلك إطلاق ثمامة كان مؤثراً، ليس لأن المسلمين يخافون من قومه، فهم قد وصلوا إلى قومه وأسروا رئيسهم، فهم قادرون على أن يدخلوا ديارهم ويقتحموها ويصلوا إليهم، لكن هنا تم العفو من موقع القوة، ولذلك أثر.
كذلك في هذا الحديث: جواز ربط الكافر في المسجد، وهذه هي مسألة: ما حكم دخول الكافر إلى المسجد؟ والذي يتبين لنا من خلال الأدلة الشرعية التي وردت في الموضوع أن دخول الكافر إلى المسجد إذا كان فيه مصلحة فلا بأس به، كما حدث في قصة ثمامة، أو من بلغ بعض الرسائل من بعض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودخل وسلمها إياه.
وبناءً عليه لو قيل: هل يجوز أن يبني المسجد كفرة؟ نقول: الأولى أن يبنيه المسلمون لأن الكفار غير مؤتمنين، لكن لو كانوا مؤتمنين فبنوه جاز بناؤهم إذا لم نجد من المسلمين من يبينه.
ولو قال قائل: عندنا شخص كافر في الشركة، يحب أن يرى المسلمين في المسجد، ويحب أن يرى الصلاة، فهل يجوز أن نأتي به إلى المسجد ونجعله في الخلف ينظر إلى صلاتنا، ويتأمل أحوالنا في المسجد؟ نقول: نعم.
إذا كان لا ينجس المسجد، ولا يرفع الصوت ولا يحدث، ولا يأتي بالكاميرات ليصور، ولم يأتِ بالشورت، كما يقع في بعض الأماكن، فإذا جاء بدون محاذير شرعية وجلس في الخلف، ونظر إلى صلاة المسلمين فلا حرج في ذلك، لعل الله أن يهديه ولعله أن يتأثر.
وتجد بعض المستعجلين من المصلين ربما يدخل ويراه فيشتمه ويطرده إلى الخارج ويقول: ومن الذي أدخلك؟ وأنت نجس والمسجد لا يدخله نجس؟ ويطرده من المسجد، فينبغي للمسلم أن يكون حكيماً، ونجاسة الكفار نجاسة معنوية، وليس معنى ذلك أنك إذا لمست الكافر صارت يدك نجسة، ويجب عليك أن تغسلها، وإنما المشركون نجس نجاسة الشرك، ونجاسة الكفر، ونجاسة المعتقدات التي يدينون بها، أما جسده وعرقه وجلده فهو طاهر وليس بنجس، إلا إذا دهن نفسه بالنجاسة ولوث نفسه بالنجاسة من بول وغائط فهذه مسألة أخرى.
إذاً: يجوز أن ندخل كافراً إلى المسجد إذا كان لا يؤذي فيه، لكي يرى صلاتنا، ويرى ديننا، ويسمع كلامنا، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ربط ثمامة في المسجد.
أما أن يدخل للتصوير، ولفحص النقوشات، والفن الإسلامي، والكلام الفارغ الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد نهى عن تزويق المساجد وتزيينها؛ فهذه مسألة أخرى تختلف عما نحن بصدده.
أما بالنسبة لآداب المسجد فهي كثيرة، منها: تقديم الرجل اليمنى عند الدخول، كما جاء معلقاً في البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ويقول: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، اللهم صل على محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك) وكذلك إذا خرج يقول عند خروجه: اللهم إني أسألك من فضلك.
وكذلك لا يقذر أحد المسجد بنعليه خصوصاً إذا كان فيه سجاد، فلذلك يجعلهما في مكان لا يؤذي بهما أحداً، أما إذا كان المسجد -مثلاً- مفروشاً بالرمل أو بالحصى -كما كان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم- فإنه إذا دخل بنعليه يجعلهما بين رجليه، لا يجعلهما على يمينه حتى لا يؤذي من عن يمينه، ولا يجعلهما عن يساره حتى لا يؤذي من عن يساره، ولا يجعلهما خلفه حتى لا يؤذي من وراءه، إنما يجعلهما بين قدميه، وإذا كانت المساجد مفروشة كما هو الآن فتجعل النعال خارج المسجد.
كذلك فإن المسجد ينبغي أن يصان عن كل وسخ، وقذر، وقذاة، ومخاط، وبصاق، وتقليم أظفار، ونتف شعر أو إزالته، وقد كانت أرض المسجد حصباء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، وقد غضب النبي عليه الصلاة والسلام وتغيظ لما رأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها بالزعفران صلى الله عليه وسلم.
وينبغي صيانة المساجد عن الصغار الذي لا يميزون، وليس في وجودهم مصلحة ولا فائدة، وكذلك المجانين كما نص على ذلك العلماء قالوا: ويسن أن تصان المساجد عن صغير ومجنون، والمقصود بالصغير: المؤذي أو الذي يصيح ويزعق، والذي ليس في دخوله فائدة، وأما الصبي المميز فإنه يدخل المسجد ولا بأس بذلك.
كذلك لو كان طفلاً صغيراً بيد أمه لكنه لا ينجس المسجد، يقول أحد الأئمة: الصبيان في رمضان اتخذوا مساجدنا مراحيض، تأتي به أمه من غير لباس، ومن غير حفاظات، فيبول على فرش المسجد، وكل يوم نبحث عن أماكن البول ونغسلها، ثم إن السجاد ملتصق بالأرض، ولو كان حصى أو تراباً لصببنا عليه الماء وذهبت النجاسة في باطن الأرض، فبعض النساء والرجال يأتون بالصبيان إلى المسجد، فيأكلون ويشربون على سجاده، ومعلوم أن إتلاف السجاد حرام، فإنها من وقف المسجد، ومن ممتلكات المسجد، فيأكلون عليه ويصبون عليه الأشربة والأطعمة، ويبولون عليه، وهذا منكر واضح.
كذلك فإن المساجد لم تبن للدنيا، فيمنع فيها البيع والشراء، ومن فعل فيقال له: لا أربح الله تجارتك، وكذلك يمنع فيها التكسب بالصنعة كالخياطة وغيرها، ولا يجوز أن يقعد فيها الصنّاع، مثلاً: الذي يصلح الأحذية وكذلك الذي يرقع الثياب أو يخيطها.
كذلك فإن المساجد لا تتخذ مكاناً للإعلان عن المفقودات، وإذا قال أحد فيها: من وجد لي كذا وكذا، فيقال له: لا ردها الله عليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(25/10)
مسابقة في آية المحرمات
المحرمات من النساء على قسمين: القسم الأول: محرمات بالنسب، وهن سبع: الأمهات، الأخوات، البنات، الخالات، العمات، بنات الأخ، بنات الأخت.
والقسم الثاني: محرمات بالسبب وهن على قسمين: القسم الأول بالرضاع، وهن: الأمهات بسبب الرضاعة، الأخوات من الرضاعة.
القسم الثاني بالمصاهرة: وتشمل: أم الزوجة، وبنت الزوجة إذا دخل بأمها، وزوجة الابن وزوجة الأب، ويحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
هذا ما تحدث عنه الشيخ تفصيلاً، ثم جرت مناقشة بين الشيخ وطلابه حول الموضوع.(26/1)
المحرمات من النساء
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين، الحمد لله الذي أنزل علينا الكتاب، وأرسل إلينا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، فعلَّمنا وأحسن تعليمنا، وفقَّهنا في أمور ديننا، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
إن الفقه في الدين -أيها الإخوة- من الأمور العظمية، ومعرفة الأحكام الشرعية من الواجبات الكبيرة، والناس يحتاجون إلى معرفة الأحكام في كثير من الأمور، وخصوصاً الأمور المتكررة، التي تكون الحاجة إليها قائمة باستمرار.
وحديثنا في هذه الليلة ودرسنا عن موضوع علمي فقهي شرعي، وهو موضوع له لذة، وفيه إعمال للعقل والفكر، موضوع نحتاج إليه جميعاً؛ لأننا نعايشه، ونتعرض لكثير من المواقف التي توجب علينا معرفة الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع، لو سأل سائل فقال: هل يجوز لي أن أدخل على زوجة عمي أو زوجة خالي؟ أو: هل يجوز لي أن أرى خالة زوجتي أو عمة زوجتي؟ وتسأل امرأة فتقول: هل يجوز لي أن أرى عم زوجي، أو خال زوجي -مثلاً- وأكشف عليه؟ فإن كثيراً من الناس يتحيرون ويضطربون، ولا يدرون ما هي الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الموضوع، ألا وهو موضوع المحرمات أيها الإخوة، ونحن بصدد معرفة معنى آية عظيمة من كتاب الله سبحانه وتعالى.
وسنناقش وإياكم معنى هذه الآية، وما اشتملت عليه من الأحكام، ثم يكون هناك أسئلة موجَّهة إليكم، متعلقة بما ذكرناه من الأحكام، وبعض هذه الأسئلة تحتاج إلى تفكير؛ إذ أنها ليست أسئلةً مباشِرة، ولكن سيتبين من خلال النقاش كثيرٌ من الأحكام التي ربما كان بعض الإخوة عنها في بُعد، وعدم اطلاع وتبصر.
وسيكون في نهاية الحديث عن هذه الآية والأسئلة إجابات عن أسئلتكم التي طرحت في المحاضرة السابقة؛ إذ إنني أحتفظ بجميع الأسئلة الواردة إليَّ في جميع المحاضرات التي سبق أن حصلت، وأستفيد من هذه الأسئلة، وبعض هذه الأسئلة ربما يكون داخلاً في بعض المحاضرات، بل ربما يكون هو عنواناً لبعض المحاضرات، وإذا كان هناك وقت لنجيب على أسئلة أخرى ترد في هذه المحاضرة، فسنفعل ذلك إن شاء الله.
قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} النساء:23].(26/2)
أنواع المحرمات من النساء
هذه الآية فيها إشارة إلى نوعين من المحرمات: - محرمات إلى الأبد.
- ومحرمات إلى أمد.
تحريم مؤبد، وتحريم مؤقت.
وهذه الآية فيها إشارة إلى: - محرمات بالنسب.
- ومحرمات بالسبب.
المحرمات بالنسب: مثل الأمهات، والأخوات.
والمحرمات بسبب: - إما أن يكون السبب رضاعاً.
- أو مصاهرة.
فالرضاع مثل: الأخت من الرضاع، والمصاهرة مثل: أم الزوجة مثلاً.
وفي هذه الآية -أيضاً- بيان ما هو تحريم عين: كالأم، والأخت، وتحريم جمع: كالجمع بين الأختين.
ولذلك هذه الآية تضمنت فقهاً عظيماً، وربما يقرؤها الواحد منا في ختمه للقرآن، ولا يُلِمُّ بِمَعانيها، ونحن نتعرض يومياً إلى مواقف من الأقارب، ولا يعلم كثير من الناس ما هو الموقف حيال هؤلاء الناس الذين بينك وبينهم صِلات نسبية أو سببية.
فلعلك -أيها الأخ المسلم- ستستفيد فائدة كبيرة -إن شاء الله- من وراء معرفة هذا الموضوع.
قال الله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] وهذه الآية تتضمن سبعة أنواع من المحارم بالنسب، وسبعة بالسبب، سواءً أكان السبب رضاعاً أو مصاهرةً.(26/3)
المحرمات بالنسب
فأما المحرمات السبع بالنسب -والنسب: هو الرحم- فهن سبعٌ محرمات إلى الأبد، لا يجوز لك أن تتزوج بهن في يوم من الأيام.
وأُولَى هؤلاء هُنَّ: الأمهات: قال الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].
والأمُّ: هي كل أنثى لها عليك ولادة، من جهة الأمِّ أو من جهة الأبِ، كل من انتَسَبْتَ إليها بولادة فهي أمٌّ.
- فأمُّك التي ولدتك هي أمٌّ -ولا شك- وإن عَلَت.
- فأمُّ أمِّك داخلة في التحريم، وهي الجدة.
- وأمُّ أبيك داخلة -أيضاً- في التحريم.
- وأمُّ أمِّ الأمِّ، أمُّ الجدة، داخلة في التحريم أمُّ أمِّك، وأمُّ أمِّ أمِّك.
- وأمُّ أمِّ أبيك.
- وجدتا أبيك، أمُّ أمِّه، وأمُّ أبيه.
- وجدات جداتك.
- وجدات أجدادك وإن علون وارثات أو غير وارثات، كلهن أمهات محرمات؛ لعموم قوله تعالى: {حرمت عليكم أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فأبهموا ما أبهم القرآن، فلم يحدد القرآن أي طبقة من الأمهات، وإنما قال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23].
فإذاً: أمُّك محرمة عليك، وأمُّ أمِّك محرمة، وأمُّ أبيك محرمة، وأمُّ أمِّ أمِّك محرمة، وأمُّ أمِّ أبيك محرمة، وهكذا يتفرعن علواً، كلهن أمهات محرمات.
ثانياً: البنات: والبنت: اسم لكل أنثى، لك عليها ولادة، أي: انتَسَبَتْ إليك بولادة، سواءً أكانت بنتك المباشرة من صلبك، أو من جهة ابنك، أو من جهة بنتك.
فعلى ذلك: - بنت الابن محرمة - وبنت البنت -الحفيدة- محرمة.
- وبنت بنت ابنك محرمة.
- وبنت بنت بنتك محرمة.
وإن نزلن، كلهن بنات محرمات.
فحفيدتك، وحفيدة حفيدتك، وحفيدة حفيدة حفيدتك -لو أدركتها- فهي محرمة عليك؛ لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23].
ثالثاً: الأخوات:- والأخت: هي كل أنثى جاورتك أو شاركتك في أصلَيك، وما هما أصلاك؟ الأب والأم، أو في أحدهما.
فتشمل: - أختك الشقيقة؛ والأخت الشقيقة جاورتك في الأصلَين؛ لأنها أختك من أبيك وأمك.
- وأختك من أبيك محرمة.
- وأختك من أمك محرمة كذلك.
ولا تفريع هنا.
فإذاً: الأخت الشقيقة، وأختك من الأم، وأختك من الأب هؤلاء كلهن أخوات محرمات.
رابعاً: العمات:- والعمة: أخت أبيك من الجهات الثلاث، سواءً أكانت: - أخت أبيك الشقيقة.
- أو أخت أبيك من أبيه.
- أو أخت أبيك من أمه.
هؤلاء كلهن عمات محرمات.
- وكذلك أخت الجد مُحَرمة؛ لأنها عمة، ولكنها عمة كبيرة، فعمة جدك مثل عمتك، وعمة أبيك مثل عمتك، كلهن مُحَرمات وسواء كان الجد قريباً أو بعيداً؛ فلا يفرق في الحكم أبداً.
- وكذلك عمة الأم محرمة عليك.
وهي أخت جدك لأمك، أي: أخت أبي أمك، فأخت أبي أمك هي عمتك لأمك، فهي داخلة في العمات الْمُحَرمات؛ لعموم قوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ} [النساء:23].
خامساً: الخالات:- والخالات: هن أخوات أمك من الجهات الثلاث، سواءً أكانت: - أختها الشقيقة، فهي خالة.
- وأختها لأبيها خالة.
- وأختها لأمها خالة.
- وكذلك أخت جدتك تعتبر خالة تكشف عليها، وإن علت الجدات، فكل أخت لجدتك -لجدتك من جهة أمك- فهي خالة محرمة، فكما أن كل جدة أم محرمة، فكذلك كل أخت لجدة هي خالة محرمة.
- وكذلك خالة الأب محرمة، ومَن هي خالة أبيك؟ هي أخت أم أبيك، أي: أخت جدتك لأبيك، هذه خالة محرمة.
سادساً: بنات الأخ:- وبنت الأخ: هي اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة مباشرة، أو من جهة أمها، أو من جهة أبيها، فمثلاً: - بنت أخيك الشقيق محرمة.
- وبنت أخيك من الأب محرمة.
- وبنت أخيك من الأم محرمة.
وإن نزلن، فمثلاً: - بنت ابن أخيك أخوك عنده ولد، والولد هذا عنده بنت فهي محرمة عليك.
- وبنت بنت أخيك محرمة عليك كذلك.
وإن نزلن؛ لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ} [النساء:23].
سابعاً وأخيراً من أنواع المحرمات بالنسب تحريماً مؤبداً: بنات الأخت:- وبنت الأخت: هي كل امرأة انتَسَبَت إلى أختك بولادة، فكل امرأة انتسب إلى أختك بولادة فهي بنت أخت محرمة.
- فبنت أختك الشقيقة محرمة.
- وبنت أختك من أبيك محرمة.
- وبنت أختك من أمك محرمة.
- وبنت بنتِ أختك محرمة.
- وبنت ابنِ أختك محرمة.
وإن نزلن كلهن محرمات؛ لعموم قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء:23].(26/4)
المحرمات بسبب الرضاع
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23].
انتقل الآن من التحريم بالنسب إلى التحريم بالسبب، والسبب هو الرضاع {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23].
فالمرأة التي أرضعتك هي أم لك، مثل أمك من جهة النسب، فالتي أرضعتك تكشف عليها مثل أمك.
وهل لها حكم بر الأم؟ الأم من الرضاع هل تُبَرُّ في الأحكام مثل الأم من النسب؟
الجواب
لا، ليست مثلها في البر، فالأم التي أرضعت ليست مثل الأم التي حملت وولدت ورعت، فلا شك أن هذه الأم التي ولدت منزلتها أعلى بكثير من الأم التي أرضعت فقط.
- وكذلك أم أمِّك التي أرضعتك أرضعتك امرأة ولها أم، فأمها هذه محرمة عليك، وإن علون.
القسم الذي يليه المذكور في الآية: الأخوات من الرضاعة: وأختك من الرضاعة هي التي أرضَعَتْها أمُّك.
وكذلك: التي رَضَعْتَ أنت من أمها.
إذاً: الأخت من الرضاعة تشمل: - المرأة التي أرضَعَتْها أمُّك.
- والمرأة التي أرضَعَتْك أمُّها.
- وكذلك بنات زوج المرضعة.
فلو أنك رضَعْتَ من امرأة، والمرأة هذه دَرَّ لبنُها بسبب الزوج، وهذا علاقتك به أنه يعتبر أبوك من الرضاعة، لأنه صاحب اللبن، الذي در اللبن بسببه، وهذا الرجل الذي هو أبوك من الرضاعة متزوج من زوجة أخرى غير التي أرضعتك، وعنده منها بنت، فهذه البنت أختك من الرضاعة.
- وكذلك لو اشتركت أنت وأنثى بالرضاع من امرأة خارجية؛ فلا شك أنها تكون أختاً لك من الرضاع، فلو أرضعتك امرأة، وأرضعت أنثى أخرى من العمارة التي تسكنون فيها، فإن هذه البنت التي رضعت أنت وإياها من هذه الجارة أختك من الرضاع، وهذه المرأة التي أرضَعَتْ لا هي أمك ولا هي أمها، لكن ما دام أنك اشتركتَ أنتَ وهذه الفتاة بالرضاع من امرأة أيَّاً كانت، أمها أو أمك، أو جارة من الجيران، فإنك تكون بذلك أخاً لها من الرضاع.
- وهنا مسألة: متى يكون الشخص له أب من الرضاعة، وليس له أم من الرضاعة؟! إذا كان رجل له زوجتان، رضعتَ من إحداهما رضعتَين -مثلاً- ومن الأخرى ثلاث رضعات، فصار المجموع خمس رضعات من لبن رجل واحد، من لبنٍ دَرَّ بسبب رجل واحد، فماذا يكون لك هذا الرجل؟ أبوك من الرضاع، وإحدى زوجتيه ماذا تكون لك؟ لا شيء، والزوجة الأخرى لا شيء، فهل تكشف على زوجتيه؟ لا؛ لأنها ليست أماً بالرضاع، لأن الرضاع لا بد أن يكون خمس رضعات فأكثر في خلال السنتين الأوْلَيَين؛ فإذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر في خلال السنتين الأوْلَيَين؛ صار رضاعاً له أحكامه.
إذاً: في هذه الحالة يكون لك أب من الرضاع، ولا يكون لك أم من الرضاع.
نأتي إلى تكملة لموضوع الرضاع لم ينص عليها في الآية؛ لكن نُصَّ عليها في الحديث، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
فإذا أرضعتك امرأة فإنها تصبح أمك من الرضاع.
- وأمها جدتك بالرضاع.
- وأختها خالتك بالرضاع.
- وبناتها أخواتك بالرضاع.
- وبنات ابنها بنات أخيك من الرضاع.
- وبنات بنتها بنات أختك من الرضاع.
كلهن محرمات عليك، (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
ولذلك المرضعة تُنَزَّل منزلة الأم، وكل امرأة حَرُمت من النسب حَرُم مثلها من الرضاع؛ كالعمة، والخالة، والبنت، وبنت الأخ، وبنت الأخت، وهكذا، (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
وزوج المرضعة صاحب اللبن، يكون أبوك من الرضاع.
- وأخوه عمك من الرضاع.
- وأخته عمتك من الرضاع.
- وأبوه جدك من الرضاع.
- وأبو الأب أبو جدك من الرضاع، وهكذا وإن علوا.
- وأمُّ صاحب اللبن جدتك بالرضاع.
- وأمُّ أمِّه كذلك وإن علون.
- وأولاد صاحب اللبن، ولو من امرأة أخرى غير التي أرضعتك إخوانك من الرضاع.
- وبنات صاحب اللبن ولو من امرأة أخرى غير التي أرضعك، أخواتك بالرضاع.
- وإذا كان لصاحب اللبن ابن، وهذا الابن له بنت، فإنها تكون بنت أخيك من الرضاع.
- فإذاً: أولاد صاحب اللبن ولو من امرأة أخرى: إخوة وأخوات من الرضاعة، وأولادهم -أبناء وبنات- يكونون لك أبناء وبنات أخ وأخت من الرضاع.(26/5)
المحرمات بسبب المصاهرة
ثم ننتقل إلى صنف آخر مذكور في الآية، وهو سبب آخر غير الرضاع يسبب التحريم، ألا وهو: المصاهرة:- والمصاهرة: أن تتزوج امرأة من عائلة -مثلاً- فتنشأ علاقة المصاهرة، فتكون أم الزوجة محرمة عليك، بأي شيء؟ بالمصاهرة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23].
- فمن تزوج امرأة حَرُم عليه كل أمٍّ لها، من النسب أو من الرضاعة، قريبة أو بعيدة، بمجرد العقد على الراجح، فلو أنك عقَدْت على امرأة، فإن أمها محرمة عليك ولو لم تدخل عليها، بمجرد أن عقدت على امرأة حَرُمَت عليك أمُّها.
- ولو طلقت هذه الزوجة، فإن أمها تبقى محرمة عليك.
- وإذا كانت زوجتك لها أم أرضعتها، فإنها تحرم عليك {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء:23].
- وجدة زوجتك تحرم عليك، ولك أن تكشف عليها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:23].
إذا تزوجتَ امرأة ودخلت بها، وعندها بنات من رجل سابق، فإنهن يحرمن عليك، وهؤلاء البنات يسمَّين بالربائب؛ فالربيبة هذه تحرم عليك إذا دخلتَ بأمها.
فكل بنت لزوجتك من نسب أو رضاع، قريبة أو بعيدة، وارثة أو غير وارثة، إذا دخلتَ بأمها حَرُمت عليك، سواءً كانت في حجرك أو لم تكن في حجرك.
- وهنا
السؤال
تزوجتَ امرأة وعندها بنت أرضَعَتْها، فهل تحرم عليك؟ نعم، تحرم عليك.
- سؤال آخر: تزوجتَ امرأة وعندها بنت؛ لكن ليست مقيمة عندك في حجرك تربيها، ما زالت موجودة في بيت آخر، فهل تَحْرم عليك إذا دخلت بأمها؟ نعم.
وماذا تقولون في قول الله سبحانه وتعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء:23] ما هو مفهوم هذه الآية؟ مفهوم الآية: أنها إذا لم تكن في حجرك فلا تحرم عليك، لكن هل هذا المفهوم يُعْمَل به؟ لا يعمل به؛ لأن هذا القيد {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23] خرج مخرج الغالب، ولم يخرج مخرج الشرط، فإن الغالب إذا تزوجت امرأة وعندها بنات، أنك ستضم بناتها معك، فيَكُنَّ في حجرك، فإذًا: هذا خرج مخرج الغالب، وليس شرطاً، ولذلك لا يعمل بمفهومها؛ ولأن ما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسك بمفهومه كما يقول الأصوليون، هذه قاعدة أصولية: ما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسك بمفهومه، وهذه الآية قد خرجت مخرج الغالب: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23].
فالخلاصة: سواء أكانت بنت زوجتك في حجرك، أو لم تكن في حجرك؛ فهي محرمة عليك إذا دخلت بأمها.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23].
والحليلة هي الزوجة.
- فزوجات الأبناء محرمات على الأب، زوجة ابنك محرمة عليك.
- وكذلك زوجة حفيدك محرمة، وإن نزلنَ.
وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] أخرج الولد المُتَبَنَّى على عادة الجاهلية، وقيده بالولد بالصلب.
إلى الآن ذكرنا ثلاثة أنواع من بالمصاهرة في الآية: - أم الزوجة.
- وبنت الزوجة إذا دخلت بالزوجة.
- وزوجة الابن.
بقيت واحدة من المحرمات بالصهر لم تذكر في الآية وهي: زوجة الأب وقد ذكرت في الآية التي قبلها.
ولذلك ما بعد هذه الآية: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] أي: كل امرأة محصنة عفيفة، لا يجوز لك أن تكشف عليها، إلا إذا تزوجتها بعقد صحيح.
فزوجة الأب من المحرمات.
- وزوجة الجد إذا كان عند جدك زوجتان، واحدة منهن جدتك، والثانية زوجة أخرى، فهل هي محرمة عليك؟ نعم، فزوجة جدك محرمة عليك أيضاً.
والدليل على تحريم زوجة الأب قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22] فزوجات الآباء محرمات على الأبناء؛ تكرمة للآباء، وإعظاماً للآباء، واحتراماً للآباء، أن يطأها ابنه من بعده، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما وصله خبر أن رجلاً قد نكح امرأة أبيه، أرسل رجلاً من صحابته ليقيم عليه الحد، وهو القتل، فمن تزوج بزوجة أبيه وهو عالم، فإنه يُقْتَل.
ولا بأس أن نعيد الأربعة الأصناف المحرمة بالمصاهرة: - أم الزوجة.
- وبنت الزوجة من غيرك إذا دخلت بالزوجة.
- وزوجة الابن.
- وزوجة الأب.
هؤلاء كلهن محرمات بالمصاهرة.(26/6)
تحريم الجمع
قال الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23]: فنكون هنا قد دخلنا في القسم الثاني من أقسام التحريم؛ وهو تحريم الجمع فإن هناك تحريم عين: أخت، أو أم بعينها، وهناك تحريم جمع، فهي ليست محرمة بعينها، لكن لما جُمِعَت صارت محرمة.
قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23].
- فتحرم عليك إلى أمد مؤقت أخت زوجتك.
- وهل تحرم عليك أخت زوجتك من الرضاع، أم يجوز أن تجمع بين زوجتك وأختها من الرضاع؟ تحرم ولا يجوز أن تجمع بين زوجتك وأختها، لا من الرضاع ولا من النسب.
- وقد أضيف إلى هذا الحكم في الآية حكم ورد في الحديث الصحيح، وهو تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها.
- كذلك الجمع بين المرأة وعمة أبيها حرام، وإن علون - وكذلك الجمع بين المرأة وخالة أمها حرام، وإن علون، وهكذا فإذا طلق المرأة وانتهت العدة، أو ماتت الزوجة مثلاً، فهل يجوز له أن يتزوج بأختها من الرضاع؟ أو من النسب؟ أو بخالتها؟ أو بعمتها؟ نعم يجوز له ذلك.
- وهل يجوز لرجل طلق امرأته، فلما طلقها ودخلت في العدة، أراد أن يعقد على أختها، فهل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ لا يجوز ذلك؛ لأنه قد يراجعها، فكيف يراجعها في العدة ويعقد على أختها؟ فلا يجوز أن يعقد على أختها إلا بعد انتهاء العدة؛ كما أنه لا يجوز للرجل أن يعقد على خامسة وقد طلق الرابعة، والرابعة لا تزال في العدة.
وقد اختلف بعض أهل العلم في مسألة الطلاق إذا كان بائناً: هل يجوز أن يتزوج أم لا بد أن تنتهي عدة الطلاق البائن؟ والأحوط أن ينتظر حتى تنتهي عدة الطلاق البائن.
فلذلك لا يجوز أن يتزوج أخت زوجته المعتدة من الطلاق، فإذا كانت الزوجة تعتد من طلاق؛ فلا يعقد على أختها، ولا على عمتها، ولا خالتها.
لو قال شخص: هل هناك قاعدة تبين لنا من هن النساء اللاتي يحرم عليك أن تجمع بينهن؟ عرفنا أنه لا يجوز أن تجمع بين المرأة وأختها، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؛ فهل يجوز -مثلاً- أن تجمع بين بنتَي عمّ؟ نعم.
يجوز أن تجمع بين بنتَي عمّ إذا لم تكونا أختين.
فلو كان عندك عمَّان، كل واحد له بنت، فإنه يجوز لك أن تتزوج الاثنتين، وتجمع بينهما، وهناك قاعدة لطيفة ذكرها بعض أهل العلم، وهي: يجوز الجمع بين امرأتين، لو كانت إحداهما ذكراً لجاز له أن يتزوج بالأخرى يجوز الجمع بين أي امرأتين لو تصورنا إحداهما ذكراً لجاز له أن يتزوج بالأخرى.
فبنتا العم لو كانت إحداهما ذكراً، لجاز له أن يتزوج بالأخرى، وكذلك بنتا الخال.
- وما حكم الجمع يبن المرأة وبنت أخيها؟ لا يجوز؛ لأنه لو كانت واحدة منهما رجلاً لما جاز له أن يتزوج ببنت أخته، أو ببنت أخيه، ولذلك فإنه لا يجوز الجمع يبن المرأة وابنة أخيها، أو ابنة أختها.
المرأة زوجتك ستصير عمتها، لكن هي ليست عمة زوجتك، زوجتك ستصبح عمتها، أو تصبح خالتها.
ولعلنا قد انتهينا من بيان المذكورات في هذه الآية، وهي قول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:23].
وبذلك تبين لكم -أيها الإخوة- مَن هُم المحارم.(26/7)
أسئلة ومناقشات حول الموضوع
سنعرف الآن مدى الاستيعاب الذي حصل من خلال هذا الدرس.(26/8)
الرضاعة وما يتعلق بها
السؤال
أمك أرضعت امرأة فهل تحرم عليك أمها؟ ولماذا؟
الجواب
لا تحرم.
لماذا؟ لأنك لم ترضع من أمها هي، وما العلاقة بينك وبين أم هذه البنت؟ لا شيء، أنت لك علاقة بالبنت التي رضعت من أمك، وهي أختك من الرضاعة، لكن أمها ليس لك بها علاقة، فأم أختك بالرضاع ليست محرمة عليك.
السؤال الثاني: أرضَعَتْ أمُّك ذكراً، فهل تَحرُم عليك أمه أم لا؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنه ليس لك علاقة بأمه، هو أخوك من الرضاع؛ لأنه رضع من أمك، لكن أمه ما لك علاقة بها.
السؤال الثالث: أرضَعَتْ زوجتُك ولداً، فهل تحرم عليك أخته الشقيقة أم لا؟ الجواب: لا تحرم، لماذا؟ لأنه ليس لك بها علاقة.
السؤال الرابع: أرضعَتْك امرأةٌ فهل تحرم على أبيك؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنه ليس لها علاقة بأبيك، لها علاقة بك أنت، هي أمك من الرضاعة، لكن ليس لها علاقة بأبيك، وهل يكشف أبوك على أمك من الرضاع؟ لا يجوز له ذلك.
السؤال الخامس: أرضعتك امرأة فهل تحرم بنتُها على أبيك؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنه إذا كانت المرضعة لا تحرم على أبيك، فمن باب أولى بنت المرضعة لا تحرم على أبيك.
السؤال السادس: أرضعتك امرأة فهل تحرم على أخيك؟ الجواب: لا تحرم لماذا؟ لأنها أرضعتك أنت، ولم ترضع أخاك، ولذلك فليس لها علاقة بأخيك، فأخوك لا يكشف عليها، أما أنت فتكشف عليها، لأنها أمك من الرضاع.
السؤال السابع: أم زوجتك بالرضاع، هل تحرم عليك؟ الجواب: نعم، تحرم عليك.(26/9)
الربيبة وغيرها من المحارم
السؤال الذي يليه: هل يجوز لك الزواج بابنة زوجة ابنك من غيره؟ ولدك تزوج بامرأة وعندها بنت من غيره، فهي ربيبة ولدك، فهل يجوز أن تتزوج ربيبة ولدك أم لا؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك، لأنها ليس لها علاقة بك، وهل يجوز لولدك أن يتزوجها؟ لا؛ لأنها ربيبته.
نعيد المسألة: ربيبة الولد حرام عليه، لكنها ليست حراماً على أبيه.
ولذلك سنجعل هذا السؤال منفصلاً، حتى يتبين أكثر: هل يجوز لك الزواج من ربيبة أبيك؟ أبوك تزوج امرأة، وعندها بنت من غيره، فهل يجوز لك أن تتزوج من ربيبة أبيك أم لا؟ الجواب: يجوز لماذا؟ لأنها ليس لها علاقة بك، لكنها حرام على أبيك؛ لأنها ربيبتة، وليست حراماً عليك أنت.
السؤال الذي يليه: هل يجوز لك أن تتزوج من أم زوجة أبيك؟ أبوك تزوج زوجة، والزوجة هذه لها أم، فهل يجوز لك أن تتزوج بأم زوجة أبيك؟ ولنحلل المسألة: أم زوجة أبيك حرام على أبيك، فهل هي حرام عليك أم لا؟ لا يجوز لك أن تتزوج بأم زوجة أبيك لماذا؟ لأنها تحرم عليك كما تحرم على أبيك هذه قاعدة لم يذكرها أهل العلم في كتبهم! الجواب: نعم، يجوز ذلك؛ لأنها حرام على أبيك، وليست حراماً عليك لكن من الذي يفعل ذلك؟ من الذي سيتزوج بأم زوجة أبيه؟ أقول: لو أن أباك تزوج واحدة عمرها -مثلاً- ثلاثون سنة، وأمها عمرها خمسون سنة، فهل ستتزوج بأم زوجة أبيك؟ من ناحية الجواز يجوز؛ لكن من ناحية أنه يحصل أو لا، هذا راجع إليك.
السؤال الذي يليه: هل يجوز لك التزوج من أم زوجة ابنك؟ ابنك متزوج وعنده حماة، فهل يجوز لك أن تتزوج من حماة ولدك؟ الجواب: نعم.
يجوز لك أن تتزوج من أم زوجة ابنك.
هذه معقولة، ومن ناحية الواقع ممكنة.
وهنا سيأتي السؤال الذي يوضح ما سبق: لو تزوج رجل امرأة، فهل يجوز أن يتزوج ابنه بنتها؛ فيكون الأب أخذ الأم، والابن أخذ البنت؟ الجواب: نعم يجوز ذلك لماذا؟ لأنها ربيبة أبيه، ولذلك لا تحرم عليه، فسواء الابن تزوج امرأة وأبوه تزوج بنتها، أو الأب تزوجها وابنه تزوج بنتها، كل ذلك جائز.
السؤال الذي يليه: زوجة ولدك بالرضاع، هل تحرم عليك أم لا؟ عندك ولد رضع من لبنك، وليس ولدك من صلبك، لكنه رضع من لبن أنت السبب فيه، وهذا الولد تزوج ثم مات أو طلق، أو تزوجها ثم أرادت أن تكشف عليك، فهل تسمح لها أن تدخل عليك أم لا تسمح لها أن تدخل عليك؟ الجواب: يجوز أن تكشف عليك؛ لأنها محرمة عليك و (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:23].
سؤال آخر: رجل متزوج اثنتين، إحداهما أرضعتك، والأخرى مات عنها مات وترك اثنتين، واحدة أرضعتك والثانية لم ترضعك، فهل يجوز لك أن تتزوج بالتي لم ترضعك أم لا؟ أي: هل يجوز لك أن تتزوج بزوجة أبيك من الرضاعة؟ الجواب: لا يجوز أن تتزوج زوجة أبيك من الرضاعة.
لأنها حرام عليك؛ فيجوز أن تكشف عليها؛ لأن زوجة أبيك من الرضاعة مثل زوجة أبيك من النسب.
السؤال الذي يليه: عمة الزوجة مَحْرَمٌ لك أم لا؟ وهل تكشف عليها؟ الجواب: لا يجوز ذلك، وكذلك خالة زوجتك لا يجوز أن تكشف عليها، وزوجتك لا يجوز أن تكشف على خالك، ولا يجوز أن تكشف على عمك.
وهذا من المصائب التي وقعت في هذا الزمان؛ أن الزوج صار يترك زوجته تكشف على عمه، وعلى خاله، مع أنه ليس بينها وبينه علاقة نسب ولا سبب من رضاع أو مصاهرة ولا شيء، فهو أجنبي عنها، لو مات الزوج يجوز لعمه أن يتزوج الزوجة، ومع الأسف صار الرجل يكشف على عمة زوجته وخالة زوجته، ويقول: هذه مثل عمتي! ليست مثل عمتك، ويقول: خالة زوجتي مثل خالتي! هذا غلط، ليست مثل خالتك، وكذلك زوجتك لا تكشف على عمك ولا على خالك، ولا يقوم مقام خالها، ولا مقام عمها، وإن دجل الدجالون، وكذب الكاذبون والمفترون فإنها محرمة.
سؤال آخر: عقدتَ على امرأة ولم تدخل بها، وهذه المرأة لها بنت، ورغبت في البنت، فطلَّقتَ الأم من أجل أن تتزوج البنت، فهل يجوز لك ذلك أو لا يجوز؟ تزوجت امرأة، ولها بنت من رجل آخر، فلما علمت بالبنت ودينها وجمالها وصغر سنها بالنسبة لأمها، قلتَ: ليس لي حاجة بأمها، أريد البنت، وأنا الآن ما دخلت بالأم، فأطلق الأم هذه، وأتزوج بنتها فهل يجوز ذلك أم لا يجوز؟ الجواب: لو أنه عقد على امرأة لها بنت، ثم قيل له: يا فلان، ماذا تريد بهذه؟ عندها بنت دَيِّنَة وجميلة، وأصغر من أمها بطبيعة الحال، فطلِّق هذه الأم وتزوج البنت، فيجوز له ذك، لكن إذا رضيت أمها! هنا سؤال ستكون جائزته كتاباً بعنوان العقيدة في الله لـ عمر الأشقر.
و
السؤال
متى يقول الشخص: أختي من النسب تزوجت أخي من النسب؟ وليس من الرضاع.
أو متى يقول الشخص: أخي تزوج أختي؟ الجواب: إذا كان عندك أخت من أم وأخ من أب، فهذا يأخذ هذه الجواب صحيحٌ ولذلك يأخذ الكتاب جائزة.
فإذا كان عندك أخ من أب وأخت من أم، الأخ من الأب أخوك من النسب، والأخت التي من الأم أخت من النسب أيضاً؛ لكن هل بينهما علاقة؟ أخوك من أبيك هل له علاقة بأختك من أمك، نسب أو رضاع أو مصاهرة؟ لا يوجد في الأحوال العادية، بدون أن نفترض دخول أي شيء آخر من رضاع أو مصاهرة، أو غير ذلك، ففي هذه الحالة تقول: أخي -أي: من أبي- تزوج أختي -أي: من أمي- ويجوز ذلك.
سؤال آخر: ما هي الحالة التي يكون فيها الشخص خالاً وعماً في نفس الوقت؟ الجواب: نفس الحالة السابقة التي قبل قليل، إذا حصلت هذه الحالة، فعند ذلك يكون الشخص خالاً وعماً في نفس الوقت، إذا تزوج أخوه من أبيه أخته من أمه، فأنجبا ولداً، ولنفترض أن رجلاً اسمه: محمد، وله أخ من أمه اسمه: عبد الله، وله أخت من أبيه اسمها: فاطمة، فتزوج عبد الله فاطمة، فأنجبا ولداً، ولنقل اسمه: سعيد؛ فإن محمداً سيكون خالاً وعماً لسعيد في نفس الوقت.
لماذا يكون خالاً؟ لأنه أخو أمه.
ولماذا يكون عماً؟ لأنه أخو أبيه.
فيكون خالاً وعماً في نفس الوقت.
أظن أننا بهذا نكون قد أتينا على مُعظم الأحكام المتعلقة بالمحارم، ونرجو أن تكون الفائدة قد حصلت في هذا الدرس من هذا الموضوع والحمد لله رب العالمين.(26/10)
الأسئلة(26/11)
المربي لابد أن يكون عفيفاً
السؤال
هل من الضروري أن يكون المربي متزوجاً؟
الجواب
لا يُشترط ذلك، ولكن لا شك أن الزواج من أسباب العفة، فإذا كان الرجل لا يَشعر بالعفة إلا بالزواج، فلا بد أن يتزوج، إذ كيف يشتغل بالتربية وهو واقع في المعاصي، ولا نقول: إنه لا يمكن، بل يمكن أن يشتغل بالتربية وعنده معاصٍ، لكن حتى يكون كاملاً في تربيته، ينبغي أن يكون عفيفاً.(26/12)
الفرق بين القدوة والرياء
السؤال
كيف نفرق بين القدوة والرياء؟ بمعنى: إنسان قام يعمل عملاً من الأعمال الصالحة ليُقتدَى به، فكيف نفرق بينه وبين أن يكون الشخص مرائياً؟
الجواب
يكون ذلك بالنية، فإذا نوى الشخص بعمله أن يهتدي الآخرون ويقلدونه فيه، فإنه يكون قدوة، وأما إذا قام رياءً، ليس من أجل أن ينشط الآخرون ويعملوا بعمله، فإنه يكون مرائياً، ولذلك النية هي التي تفصل بينهما.(26/13)
نصيحة لأصحاب القنوات الفضائية
السؤال
هناك مخططات لإفساد وسلب الهوية الإسلامية من نفوس الشباب، خصوصاً في هذه المنطقة عن طريق القنوات الخليعة التي بدأت تصل تباعاً، فما هي النصيحة في هذا؟
الجواب
أقول: أيها الإخوة: هناك حملات صليبية جديدة؛ ولكنها من نوع مختلف عن الحملات الصليبية القديمة، وهذه الحملات الصليبية -الأمريكية والإنجليزية والفرنسية- في طريقها في الوصول في أول السنة القادمة، في مطلع يناير القادم، لتبث إلينا السموم بأنواعها، سواءً أكان ذلك هدماً في العقيدة، أو دعوة إلى التبشير، أو إدخال التشويش على عقيدة المسلمين، أو تخريب الأخلاق بالمناظر الخليعة، أو الدعوة إلى الأشياء الهدامة.
لقد حدثني أحد الإخوة قائلاً: في أحد البرامج في قناة الـ ( CNN)، مقابلات -وبعض الذين يقابلون يهود مشهورون- يقول: وكانت المقابلة مع رجل وزوجته، والرجل هذا لا يُشبع زوجته جنسياً، فيقول: ما هو الحل الذي أنت تعمله الآن؟ قال: أنا آتي برجل آخر لزوجتي، وأتركه معها في الفراش لكي يقوم بإشباعها، قال: وأنت؟ قال: أنا أصورهم بالفيديو وأنبسط! وكأنه هو الذي يعمل! وهذا البرنامج يُعرض على الهواء مباشرة، ثم تأتي المكالمات من أنحاء العالم ليقول فلان: أنا أؤيد، ويقول فلان: وأنا أيضاً أريد واحداً لزوجتي، وذاك يقول: وأنا مستعد أن أقوم بدور كذا وكذا.
فانظروا -أيها الإخوة- إلى أي درجة وصلت حياة هؤلاء البهائم، ثم هذا يكون على مرأى ومسمعٍ مِن أبناء وبنات المسلمين، هذه دعوة واضحة وصريحة للانحلال، هذا مثال واحد مما وصل إلى علمنا، والله أعلم بالأمثلة الكثيرة الموجودة في مثل هذه الأشياء، ناهيك عما في دعاياتهم من الإباحية، وعما يعملونه من الترويج لأماكن الفسق والدعارة الموجودة في العالم، ولو جلست تتذكَّر وتذكِّر ما هي المحرمات والمنكرات الموجودة في هذا البث المباشر، لطال بك الكلام.
ولذلك فإنني أهيب بكل عاقل ألَّا يترك هذا الجهاز في بيته أبداً، وألَّا يفتحه لأقربائه؛ لأنك يا أخي مسئول عنهم أمام الله سبحانه وتعالى، وإذا كنا من زمان كان الواحد يقول: ممكن أن نراقب، ونعمل عليه مراقبة، إذا كان فيه فقرات جيدة، وإذا كان كذا لكن الآن لا يمكن ولا تستطيع أن تعمل هذه المراقبة، وأنت تضحك على نفسك فعلاً، وما سيأتي فهو أعظم، وهذا الخطر قد نُبِّه عليه، ونَبَّه عليه أهل العلم والفضل، ولكن أين الاستجابة؟ سواءً من جهة إزالة هذه الأشياء من البيوت، أو من جهة تحذير الناس عنها، وهذا أمر خطير جداً، وهذه مسئولية في رقابنا جمعياً، كل واحد في رقبته مسئولية التبليغ، هذا غزو من نوع جديد، غزو من نوع لا يمكن التحكم فيه، وكيف يتحكم فيه؟! وكثير من المخلصين يقولون: لا حول ولا وقوة إلا بالله! وفقط، وبعض الناس قد يزين لهم الشيطان ويقول: تَفَرَّج عليها من باب نصح الناس، تَفَرَّج على البرامج حتى تنصح الناس، وهذا الشاب قد يكون ملتزماً بالإسلام، وقد يكون داعية، وإذا به يتأثر بهذه البرامج، وهذه المناظر، فلا حول ولا وقوة إلا بالله! هذه مسألة -أيها الإخوة- علاجها التوعية، ومع الأسف الأمة الإسلامية الآن ما عندها قناة تبث منها، ما هناك قناة إسلامية في العالم تبث برامج تلفزيونية كاملة على مدار الساعة -مثلاً- وتغطي أهل الكرة الأرضية ببرامج إسلامية، حتى الآن ما وجد، وأهل الكفر ملة ملة، ودولة دولة ينشرون باطلهم وإلحادهم، والمسلمون يغطون في نوم عميق، ما فكروا حتى في إيجاد قناة تبث هذه التعاليم الإسلامية إلى أهل الأرض، ما وُجد -للأسف- حتى الآن، هذه الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة الإسلامية لم يستطيعوا إلى الآن ولو إقامة قناة واحدة تبث إلى العالم شرح الإسلام، وأحكام الإسلام، ومحاسن دين الإسلام، والدعوة إلى الإسلام أبداً، وإنما يعمله أعداء الإسلام في المقابلات، وأنواع البرامج حرام.
وليت المسلمين يقومون بشيء من الجهد الواجب عليهم في نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، في طريق خالٍ من المنكرات والشبهات.(26/14)
الميزان في الزواج هو الالتزام بالإسلام
السؤال
يوجد عندنا بعض الإخوان الملتزمون في منهج الزواج، وإذا أراد الشخص أن يتزوج يسألونه عن منهجه: هل هو طالب علم، هل هو من أهل الخروج، هل من أهل الجهاد، هل هو من كذا، فما تعليقكم؟
الجواب
يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه).
فمسألة الاستفسار هي من أجل معرفة دين الرجل وخلقه، وهذا هو الذي يجب أن يؤكَّد عليه، أما تفريق الناس شيعاً وأحزاباً، فليس من ملة الإسلام، وكون الرجل مجتهداً باجتهاد معين أمر صحيحٌ وسائغٌ.
مثلاً: واحد يركز على التربية، وواحد يركز على الجهاد، وواحد يركز على الدعوة في أقطار الأرض بشكل صحيح موافق للسنة، مع الأخذ -بعين الاعتبار- بالأشياء الأخرى؛ لأنه كيف يكون داعية وهو جاهل؟! كيف يكون مجاهداً وهو جاهل؟! فإذا كان آخذاً بالأشياء الأخرى؛ فإنه في هذه الحالة على خير وعلى صواب.
قد يكون رجلاً مهتماً بمسائل تتعلق باقتصاد المسلمين، يقدم فيها دراسات وأبحاثاً، ويكوِّن هو ومن معه بعض المنشآت أو الشركات البعيدة عن الحرام، لكي يستثمر الناس فيها أموالهم، فهو على خير وعلى دين.
فإذاً: هذا الرجل إذا كان ذا خلق واستقامة، يُزَوَّج مهما كان نشاطه، فإذا كان النشاط مشروعاً، ويركز عليه؛ لأن له إبداعاً فيه، وعنده استقامة في دينه، وليس عنده بدع، ولا منكرات، ولا صاحب أهواء، وخلقه سوي، فإنه يزوَّج.(26/15)
قتال اليهود بقيادة عيسى أو المهدي
السؤال
هل نحن المسلمين سوف نقاتل اليهود بقيادة عيسى ابن مريم أو المهدي، أو أنه سيكون هناك قائد مسلم؟
الجواب
ليس هناك في الأحاديث -بحسب ما أعلم- ما يشترط أن يكون كل قتال لليهود بقيادة المهدي أو عيسى، بل ربما يكون هناك قتال لليهود بغير قيادة المهدي أو عيسى، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ذلك قريباً.(26/16)
غربة الإسلام
السؤال
أنا سأضرب لك مثلاً بما يحصل الآن في هذه الأيام: مجموعة من الناس أرادوا أن يبيعوا بيتاً، وهذا البيت وقف، وهؤلاء الناس يساومون على هذا البيت، ولا يوجد في هذا البلد من يحكمهم من المسلمين صار هذا الآن مثل اللغز، يقول: مجموعة من الناس أرادوا أن يبيعوا بيتاً، وهذا البيت وقف لله تعالى، ليس لأحد حق التصرف فيه، وهؤلاء يساومون عليه أعداء الله، ولا يوجد في هذا البيت من يحكمهم بشريعة الله.
الجواب
هذا -أيها الإخوة- أوان غربة الإسلام، ولكن الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده، ولا يمكن أن يتركنا هملاً، ولا أن يتركنا بغير نصر، ونحن نتخذ أسباب النصر، الله عز وجل يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
والله سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15].
فلا يجوز لمسلم أن يجزم بأن الله لن ينصر المسلمين، مهما عملوا، ويقول هذا النصر في الآخرة فقط، وإنما كتب على المسلمين الذل والخزي في الدنيا والابتلاءات الدائمة، لا لقد حكمنا معظم أقطار المعمورة المشهورة قرابة ألف سنة، والآن عندما تغلب إخوان القردة والخنازير من اليهود والنصارى وغيرهم على الأرض في هذا الزمان، نسينا الحقبة الماضية! كم حكم المسلمون الأقطار المشهورة في الأرض؟! كم حكم المسلمون العالم المعمور الحي الحيوي؟! الأجزاء الحيوية من العالم التي حكمها المسلمون كانت هي مقر الحضارات، والنبوغ العلمي، والتقدم، والسعادة التي حصلت بتطبيق الشريعة كم حكم المسلمون العالم سابقاً؟! كثيراً جداً، مئات السنوات متى سقطت الخلافة؟ سقطت قريباً ولم تسقط منذ زمن بعيد، الخلافة العثمانية التي كان جيوشها على أبواب فينيا، وقريباً من روما وغيرها، ما سقطت منذ فترة بعيدة جداً، وإنما سقطت منذ فترة قريبة.
فإذاً: لقد كان أجدادنا يحكمون العالم، فمن أجل مائة أو مائتين سنة من الوقت يُسْقَط في أيدينا! وننسى تاريخنا! وننسى أننا كنا أمة تهيمن على سائر الأمم وتُخشى ويُحسب لها حسابُها! فكر في تاريخ الدول المعاصرة من الدول الكافرة التي قامت كيف قامت؟! ومتى قامت؟! وكم حكمت؟! قام البرتغاليون في البرتغال، وحكموا استعمروا، أين هم الآن؟! دولة شبه متخلفة في أشياء كثيرة، أسبانيا كانت تحكم كثيراً، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هذا قدر الله، يرفع ناساً ويخفض ناساً {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
فإذاً: لا يمكن أن تستمر الهيمنة لأمة معينة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هذه سنة الله في خلقه، وسنة الله في عباده.
ولا شك أنه سيكون هناك ظهور للإسلام، كما بشرت بذلك النصوص، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فرج المسلمين قريباً.(26/17)
تربية الآخرين وإهمال النفس
السؤال
إنني أحس بنفسي أنها كالشمعة تحرق نفسها، وتنير لغيرها، فأقوم بالدعوة إلى الله؛ ولكن أهمل تربية نفسي، فماذا أفعل؟
الجواب
لقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن رجل هذا حاله، فقال الناس: مثل الذي يعلم الناس وينسى نفسه، كالشمعة، تحرق نفسها وتضيء للآخرين.
فإذاً: ينبغي على الداعية إلى الله سبحانه وتعالى أن يهتم بنفسه، ولا يجعل كل الوقت للآخرين، (إن لنفسك عليك حقاً) فمن أين تدعو؟! تدعو لأي شيء وأنت لا تتعلم المنهج؟! وتربي الناس على أي شيء وأنت ليس عندك علم؟! وكيف تكون مؤثراً وقلبك خاوٍِ من أنواع الإيمانيات الناتجة عن العبادات؛ لأنه ليس عندك وقت تعبد الله فيه؟! كيف؟! (إن لنفسك عليك حقاً) في تربيتها، ودعوة نفسك إلى الالتزام بالأحكام الشرعية، والقيام بالعبادات، والتعلم، حتى تستطيع أن تمارس الأدوار الأخرى.
فلا بد أن يكون هناك توزان؛ لأن بعض الناس يقول: أنا أعتزل الناس عشرين سنة أقرأ وأقرأ وأعبد الله حتى أتقوى ثم أخرج إلى الناس، نقول: ما عندك وقت، ربما تموت قبل هذا.
فلا بد أن يكون عندك نصيب دائم من طلب العلم، ومن الدعوة إلى الله، ومن القيام بالعبادات، ومن تربية الآخرين، عمليات مزدوجة، وعمليات آنيَّة مع بعض، تقوم في وقت واحد، فيمكن أن الإنسان قد يهتم ببعض الجوانب أحياناً في وقت معين، مثلاً يذهب إلى مكة في العشر الأواخر، يقوم بالعمرة ويعتكف، فهو الآن بعيد عن الناس من أجل الاعتكاف، هذا أمر طَيِّبٌ! ليس فيه إشكال، ما اعتكف الدهر، ولا اعتكف سنين وترك الأمة، وترك المجتمع في المستنقع، وإنما هو يعطي نفسه ويكوِّن لها محطات يتزود بها من الوقود الإيماني والعلمي، ويمكن أن يتفرغ -أحياناً- لطلب العلم، مثلاً في إجازة من الإجازات، يأخذ له أسبوعاً -مثلاً- يرحل إلى أحد العلماء، ويجلس عنده، ولكنه لم ينسَ المجتمع، ولم ينسَ أهله ولا أقرباءه ولا جيرانه ولا جماعة مسجده، وأهل حيه، ولا طلابه، ولا قرناءه وزملاءه في الوظيفة والدراسة، بل إنه على اتصال، وإذا انقطع أياماً من أجل اعتكاف أو رحلة لعالِم، فهو لا زال يزاول عمله بعدها مباشرة، وهو في يومه يعبد الله، ويقرأ، ويدعو، ويربي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا؛ فقد كان قائداً للدولة، وزوجاً، وكان أباً حنوناً، تذرف عينه من الدمع على ولده إبراهيم لما مات، وكان معلماً، يشاهد رجلاً يقول في الصلاة: ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ ما لكم تنظرون إلي؟ فيعلمه، فيكون أحسن معلم، لم يُرَ مثل تعليمه قط، وقائداً عسكرياً يخوض غمار الحروب، ورجلاً محنكاً سياسياً في صلح الحديبية وفي غيرها، وفي كتابته للأقوام الأخرى ولكسرى ولهرقل، يكتب إليهم الرسائل يدعوهم إلى الله، ويخطِّط للدعوة، ويرسل ناساً إلى الحبشة، ويرسل ناساًَ من الذين أسلموا في مكة إلى قبائلهم، يعيدهم إلى قبائلهم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يلاطف الصغير، ويقول: (يا أبا عمير! ما فعل النُّغَيْر) ويرحم الكبير، ولما جاء أبو قحافة وقد علاه الشيب، أراد عليه الصلاة والسلام أن يوقره، وأمرهم بتغيير شيبه، حتى يكون على وضع أحسن وأمثل، وكان قدوة عليه الصلاة والسلام، وكان إماماً في المسجد، ويخطب الجمعة بالناس.
إذاً: المسلم يقتفي أثر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأغلب الانحرافات عند الشباب تنشأ من نزعات مثل هذا، يقول: أنا أريد أطلب العلم، وما لي علاقة بالناس، أو أنا داعية، نذرت نفسي للدعوة، ما عندي وقت أعبد الله، ولا نوافل، أنا أقوم بأشياء، ومن هنا تنشأ الانحرافات من هذه النزاعات.
يقول: لا شك أن الدعاة والعلماء هم قادة هذه الأمة، وعليهم مسئولية عظيمة، ولا شك أن ما أصاب هذه الأمة حالياً بسبب بعدها عن الله سبحانه وتعالى، وانعدام التربية بين أفرادها، وفي هذه الأيام تحدُث أمورٌ عظيمة، تُذْهِب عِزَّ هذه الأمة، فلا بد من تبيين هذا للناس واستغلال الفرص، ولا شك في ذلك، وكل واحد منا عليه واجب في هذا الأمر.(26/18)
التحزب الدعوي وحكمه
يقول: ما رأيك في قضية التحزب الدعوي؛ لأنها قد أصبحت تشكل مشكلة في أوساط الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
نعم -أيها الإخوة- هذا حق وصدق، وظاهرة -مع الأسف- موجودة، ومن أسباب تخلف المسلمين: تفرقهم شيعاً وأحزاباً حتى في مجال الدعوة إلى الله، ولو أنهم تخصصوا في تخصصات، وكل مجموعة منهم تعمل دون أن تصادم الأخرى؛ لأن في ميدان الدعوة إلى الله مُتَّسَعاً للجميع، مهما رَمَيْتَ دعاةً في الساحة؛ فالساحة تستوعب، مهما ألقيت جماعات للدعوة إلى الله عز وجل في الساحة؛ فالساحة تستوعب، لكن مع ذلك يحصل -مع الأسف- أن يتصادم بعض هؤلاء مع بعضهم، فماذا نفعل؟ أولاً: لا بد من تنظيم الأعمال، لا بأس أن تتخصص مجموعة من الناس للأيتام، وبعض الناس لنشر العلم، وبعض الناس للدعوة في القرى والهِجَر، وبعض الناس في التركيز على القطاعات النسائية، وبعض الناس للدعوة في أوساط المتعلمين، والمثقفين، والعسكريين، والموظفين، وغيرهم، وبعض الناس يتفرغون للتأليف والنشر.
فإذاً: مجالات العمل الإسلامي كثيرة جداً جداً، ومتسعة، فبدلاً من التصادم لابد من التنسيق، وإذا رأيت غيرك في مجال يعمل فلا بأس، وأنا لو رأيتُ داعية يدعو إلى الله، يدعو شخصاً، وهو على منهج صحيح، وهذا هو المهم: (أن يكون على منهج صحيح) وأنت أتيت لتدعو، فعليك أن تدعو غيره، هناك في الساحة من غيره من الأشخاص الكثر الذين يحتاجون إلى هداية، يحتاجون إلى أن يدخلوا في عالم الالتزام بالإسلام، فلماذا تتقاتلون على رجل واحد، وفي المجتمع كثير من الرجال الذين يحتاجون إلى دعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟! وهذا هو الذي يثير العجب بالمرء المسلم، وهو يتفرج على مثل هذه الظواهر.
ولذلك فينبغي -أيها الإخوة- أن يكون هناك حكمة ووعي، وإذا كان أعداء الإسلام قد اتحدوا على حرب الإسلام، فما أولى بأمة الإسلام، وأهل الإسلام، ودعاة الإسلام أن يتحدوا لمواجهة هذه الهجمة التي تشتد يوماً بعد يوم؟! وسبحان الله! لا يشتد الشر إلا ويزيد الخير، فإنه لم يكن هناك بث مباشر في الستينات مثلاً، لكن لما صار الآن هناك بث مباشر؛ أصبح عدد الواعين وعدد المستقيمين والملتزمين يزداد، وتزداد طرق الدعوة إلى الله، وتُنْشَر الأشرطة والكتب، وتنشر المحاضرات القيمة النافعة، وتصل إلى أناس ما كانت تصل إليهم بنفس السهولة والسرعة من قبل، وهذا يؤكد وجود الخير في الأمة، وأنهم مهما طغى أعداء الإسلام وحاولوا، فإن الخير مزروع في هذه الأمة، لا يمكن استئصاله، وجذوره ضاربة لا يمكن إزالتها.(26/19)
طلب دعاء
السؤال
يقول: لا أسألك سؤالاً؛ لكن أطلب منك ومن الحاضرين أن تدعوا لي دعوة أن يرزقني الله طفلاً ينير حياتي الزوجية؟
الجواب
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى أن يرزق أخانا طفلاً، وأن يجعله ولداً صالحاً، تقر به عينه.
آمين.(26/20)
الفتور في العبادة وعلاجه
السؤال
إنني أحب كل ما يقربني إلى الله من عبادات وقراءة القرآن وأداء الصدقة والزكاة والصوم وغير ذلك؛ لكن أتكاسل عن صلاة الفجر أحياناً، والقرآن أهجره طويلاً، كل ذلك يحدُث وقلبي يؤنبني ويتقطع حسرات، وتسمَعُني إذا تُلِيَت بعضُ الآيات أُخْرِجُ زفرات من أعماق قلبي، قليل الحفظ سريع النسيان، فأرشدني وأنقذني بحل سريع
الجواب
معرفة المرض -أيها الإخوة- نصف العلاج، وكثير من قساة القلوب لا يعرفون أنهم قساة القلوب ولا يسلِّمون ولا يقولون: نحن نحتاج إلى تربية إيمانية، ونحتاج إلى اهتمام بالعبادات، وإنما يظنون أنهم في حالة صحية جيدة، ولذلك فهم لا يتورعون عن أكل الحرام، أو الوقوع في الشبهات، أو النظر إلى امرأة أجنبية، ونحو ذلك.
فنقول: إن الله سبحانه وتعالى قد فتح مسألة التربية الإيمانية متركبة من عدة أشياء: أولاً: هناك تنوع في العبادات، هناك صلوات، هناك صيام، هناك صدقة، هناك حج وعمرة، واعتكاف، هناك سجدة الشكر، وغيرها، وحتى الصلوات متنوعة هناك سنن رواتب، وهناك قيام الليل، وهناك صلاة التوبة، وهناك صلاة الضحى.
فإذاً: العبادة نفسها متنوعة، فنوِّع في العبادات حتى لا تمل نفسك من عبادة معينة.
ثانياً: حذارِ مِن تحوُّل العبادات إلى عادات بعض الشباب لا يعرفون معنى التشهد بالتحيات، تجده يقرأ: (التحيات لله) في الصلاة ولا يعرف معناها من كثرة ما يرددها، تحولت التحيات إلى عادة، ولم تعد عبادة لها معنى يسْتَشْعر، تأمل عندما تقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، يقول عليه الصلاة والسلام في الذي يقولها: (أصاب كل عبد صالح بين السماء والأرض) تصور لو أنك كلما تقول التحيات في ذهنك أنت مستحضِر في قلبك، أنك إذا قلت: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) أنك تصيب بدعوتك هذه كل عبد صالح بين السماء والأرض، من الملائكة وغيرهم، كل عبد صالح بين السماء والأرض تصيبه دعوتك.
فإذاً: لا بد من تنويع العبادات، ولا بد من الإخلاص في العبادات، ولا بد من تحاشي تحوُّل العبادات إلى عادات، حتى تشعر بلذةٍ وطعمٍ لهذه العبادة، ثم ينبغي مع ذلك أن تداوم على العبادة، كما أخبر عليه الصلاة والسلام: (خير الأعمال أدْوَمُها وإن قل) (أحب الأعمال إلى الله أدْوَمُها وإن قل) فعليك بالقليل الدائم أفضل من الكثير المفاجئ المنقطع، الذي تصعد به فجأة، ثم تهوي وتتركه نهائياً بعد حين.
نحن لا نود أن نستمر أكثر من هذا؛ حيث أن الوقت قد تأخر.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، وأن يرزقنا وإياكم اتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(26/21)
ضيوف الصديق
أيها الإخوة: الحديث اليوم عن قصة حصلت للصديق رضي الله عنه تبين كرامته وفضله وعلو منزلته، ألا وهي قصة بركة الطعام، ولقد ذيل الشيخ القصة بالشرح، وتوَّجها بذكر الدروس المستفادة من هذه الحادثة.(27/1)
حادثة بركة طعام الصديق رضي الله عنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد.
الحديث الذي سيكون مدار النقاش في هذه الليلة يتعلق بقصص الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي: قصة حصلت للصديق رضي الله تعالى عنه، كرامة من كرامات الصديق، وآية من الآيات الدالة على فضل الصديق وعلو منزلته عند الله سبحانه وتعالى، هذه القصة رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس أو كما قال).
وأن أبا بكر جاء بثلاثة: (وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال: امرأتي وخادمي بين بيتنا وبين بيت أبي بكر، وأن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء، ثم رجع فلبث حتى تعشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أوعشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، قال فذهبت -يقول عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - فذهبت فاختبأت، فقال: يا غنثر! فجدَّع وسب وقال: كلوا.
وقال: لا أطعمه أبدا).
قال: (وايم الله ما كنا نأخذ من اللقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، حتى شبعوا وصارت أكثر مما كانت قبل، فنظر أبو بكر فإذا به كما هو أو أكثر، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! قالت: لا وقرت عيني لهي الآن أكثر مما قبل بثلاث مرات، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان الشيطان -أي: يمينه الذي حلف- ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده، وكان بيننا وبين قوم عهد، فمضى الأجل ففرقناها لاثني عشر رجلاً، مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل، غير أنه بعث معهم، قال: فأكلوا منها أجمعون) أو كما قال.
هذا الحديث وإن كان قد يبدو في بعض ألفاظه شيء من الصعوبة، لكنه حديث- كما تقدم- يدل على الآيات التي كانت تحدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الأمور الخارقة للعادات، كانت تعد بركة، فشِبع الخلق الكثير بالطعام القليل وهذه آية من الآيات، وقد حدث ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مراراً، ولكن هذه القصة حدثت للصديق رضي الله عنه وهي كرامة من كراماته.(27/2)
معالجة النبي صلى الله عليه وسلم لقضايا المجتمع المدني
يقول عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وقلنا: الصفة مكان في مؤخرة المسجد النبوي، عكس القبلة من جهة الحجرات أو القبر، هذا المكان هو مكان الصفة.
الذي كان يأوي إليه الغرباء الذين لا أهل لهم ولا مأوى، وكانوا فقراء يكثرون ويقلون بحسب من يتزوج منهم أو يسافر أو يموت أو يقدم ونحو ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام لمواجهة الوضع الذي فيه أهل الصفة وهم أناس فقراء لا أهل ولا مال لهم، لحل هذه المشكلة ولمواجهة هذا الوضع كان يقول للصحابة: كل واحد يأخذ واحداً منهم، بحسب قدرته وطعامه:) من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث) وهكذا.
والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (طعام الاثنين يكفي الثلاثة) وفي رواية: (طعام الاثنين يكفي الأربعة) لكن كيف يفهم هذا الحديث؟ أي: الطعام الذي يشبع اثنين يسكت جوع ثلاثة، والطعام الذي يشبع اثنين يسكت جوع أربعة، والطعام الذي يشبع أربعة يسكت جوع ثمانية، وهكذا، فيقول: (من كان عنده طعام أربعة، فليذهب بخامس وبسادس) أو كما قال، يزيد واحداً؛ لأن زيادة واحد لا تضر، تنفع الواحد ولا تضر الأربعة، زيادة الخامس تنفع الخامس، ولا تضر الأربعة، ولا يضيق عليهم.
إذاً: من كان عنده طعام اثنين يأخذ ثالثاً، ومن كان عنده طعام أربعة يأخذ خامساً، لا يضيق عليه، وأيضاً يحصل المقصود، قال: (وإن أبا بكر جاء بثلاثة - الصديق رضي الله عنه جاء بثلاثة أشخاص- وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة)، لماذا قال عن الصديق أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم انطلق؟ لأن المجيء من بُعد، والانطلاق من قُرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم بيته ملاصق للمسجد، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام كان خروجه من بيته دخولاً في المسجد، لم يكن هناك بابان، وإنما هو باب واحد، إذا خرج من بيته صار في المسجد تلقائياً.
لذلك عبر بلفظ المجيء عن الصديق لبعد منزله عن المسجد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم بالانطلاق لقربه منه، وأبو بكر أخذ ثلاثة إلى منزله، وأراد أن يؤثر بطعامه وأن يأكل هؤلاء أضياف النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول عبد الرحمن بن أبي بكر: فهو أنا وأبي وأمي، ولا أدري هل قال امرأتي وخادمي، طبعاً القائل هو الراوي عن عبد الرحمن، كأنه شك، قال: هل يوجد أيضاً في أفراد الأسرة غير أنا وأبي وأمي، هل يوجد أيضاً امرأتي وخادمي؟ وهو قال أيضاً: إن الخادم كان مشتركاً.
نرجع إلى نص القصة، يقول رضي الله تعالى عنه: وخادمي ولا أدري هل قال امرأتي -أي أنه شك هل قال المرأة أم لا- وخادمي من بيتنا وبين بيت أبي بكر، فالخادم هذه خادم مشترك، يقول عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: الخادم بين بيتي وبين بيت أبي، تخدم هنا وتخدم هناك.
وأم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق هي: أم رومان مشهورة بكنيتها، واسمها زينب رضي الله تعالى عنها، كان زوجها الأول الحارث بن سخبرة الأزدي، فلما قدم مكة مات، وخلف منها الطفيل، فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فولدت له عبد الرحمن وعائشة.
إذاً: عبد الرحمن وعائشة شقيقان من أبي بكر وأم رومان زوجته، أم رومان أسلمت قديماً وهاجرت ومعها عائشة، لكن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه تأخر إسلامه وهجرته إلى هدنة الحديبية، فجاء المدينة في سنة سبع للهجرة أو أول سنة ثمان للهجرة، وامرأته أميمة بنت عدي السهمية وهي والدة أكبر أولاده محمد، فإذاً: حفيد الصديق اسمه محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، كنية محمد هذا أبو عتيق.
فالآن يقول: أنا وأبي وأمي، وشك الراوي عن عبد الرحمن هل قال وامرأتي، التي هي أميمة، لا يدري هل قال أميمة معهم أم لا، والخادم مشترك.
قال: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع، فالترتيب أن أبا بكر الصديق لما جاء بالثلاثة إلى منزله، لبث إلى وقت صلاة العشاء، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتعشى عنده، ولكن هذا مخالف لحديث الباب الذي فيه، وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع، أي: إلى منزله.
فالذي حصل أن أبا بكر رضي الله عنه تأخر عند النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار ما تعشى معه وصلى العشاء، ولم يرجع إلى منزله إلا بعدما مضى من الليل قطعة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يؤخر صلاة العشاء.
ثم أنه لما جاء معه بهؤلاء الضيوف، قال لـ عبد الرحمن -ولده- دونك أضيافك، فتضيف رهطاً، استضافهم، وقال لولده عبد الرحمن: دونك أضيافك فإني منطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فافرغ من قراهم -أي: من إطعامهم- قبل أن أجيء.(27/3)
فضل أبي بكر الصديق
فخلاصة الكلام وجمع الروايات: أن أبا بكر الصديق جاء بهؤلاء الضيوف وسلمهم لولده عبد الرحمن، وقال: أطعمهم ريثما أذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعت يكون الضيوف قد أكلوا وطعموا وانتهوا، فذهب أبو بكر الصديق للنبي عليه الصلاة والسلام، فلما رجع اكتشف أن الضيوف لم يأكلوا شيئاً، وقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ لماذا تأخرت عن الضيوف؟ قال أبو بكر: أوماعشيتهم؟ قالت: إن الضيوف هؤلاء عرضنا عليهم العشاء، فأبوا، قالوا: لا نأكل حتى يأتي صاحب البيت -وهو أبو بكر الصديق - فتناقشنا معهم وحاولنا إقناعهم، فغلبونا وامتنعوا عن الطعام.
وهذا هو السبب وراء تأخير عشاء الضيوف، فنحن عرضنا عليهم، لكن الرفض حصل منهم، وهم الذين امتنعوا، وفي رواية: (أن عبد الرحمن أتاهم بالطعام، فقال: اطعموا.
قالوا: أين رب منزلنا؟ قال: اطعموا، قالوا: ما نحن بآكلين حتى يجيء، قال: اقبلوا عنا قراكم، فإنه إن جاء ولم تطعموا لنلقين منه شراً) يقول عبد الرحمن: لأجلنا اطعموا، لأنه لو جاء وأنتم لم تتعشوا سيقع فينا.
لكنهم لم يأكلوا، وأصروا على انتظار صاحب البيت، ولعلهم رأوا أن هذا من باب العرفان للصديق ألا يأكلوا قبله، وهو أفضل منهم فانتظروه مع جوعهم، وهذا يسجل لهم أنهم لم يأكلوا الطعام قبل أن يأتي صاحب البيت وهو الصديق، فماذا فعل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق؟ قال: فذهبت فاختبأت، لأنه يعرف ماذا سيفعل أبوه لو جاء والضيوف لم يتعشوا بعد، فذهب فاختبأ، فلما جاء الصديق وقالت زوجته: ما أخرك؟ وقال: ما عشيتيهم؟ قالت: هم الذين رفضوا، فاستلم رأس ولده يريد أن يجره إليه، فقال: يا غنثر! أقسمت عليك إن كنت تسمع صوتي لما جئته، حلف عليه، إن كنت تسمع صوتي أن تأتي فوراً، قال: فخرجت، فقلت: والله مالي ذنب، هؤلاء أضيافك فسلهم، لا تضع اللوم علي، قالوا: صدقك قد أتانا، جاءنا بالطعام.
أما قوله: جدَّع وسب، فهذا حصل من الصديق في لحظة غضب، والمقصود أنه نزل على ولده باللوم العنيف والتوبيخ والتقريع، أي: قرعه ووبخه وعنفه، لماذا لم يطعم الضيوف إلى الآن؟ ولما قدم الطعام، قال الصديق: كلوا، ولعل ما حصل منه في العتب عليهم؛ لأنهم تحكموا على صاحب المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بإذن ولده، مع أن إذن الولد كافٍ، وجاء بالطعام إلى الضيوف، ولكن من الغضب، قال: لا أطعمه أبداً، وفي رواية مسلم: (والله لا أطعمه أبداً) فهذا حلف، وفي رواية: (أنَّ أبا بكر الصديق قال لهم: فما منعكم؟ قالوا: مكانك، قال: والله لا أطعمه أبداً).
ثم قال: (لم أر في الشر كالليلة، ويلكم ما أنتم، لم تقبلوا عنا قراكم، هات طعامك، فوضعه، فقال: بسم الله، الأول من الشيطان، فأكل وأكلوا) وقال بعض الشراح: إن هذا الخطاب ليس للضيوف وإنما لأهله، أن هذا الكلام وجه لأهله.
أما قوله: وايم الله أو ويم الله، فهو قسم، أصله: ايمن بالنون، لكثرة الاستعمال خففت ووصلت وايم الله، وقد يقال: مو الله، أم الله، ونحو ذلك من الاختصارات لهذه الكلمة.
المهم أن الصديق لما قدم الطعام لاحظ -بعدما حلف ألا يأكل وأكل؛ لأنه عرف أن هذا الحلف كان نزغة شيطان- لاحظ شيئاً عجيباً مدهشاً! وهو أنها لا ترفع لقمة، إلا ويبرز تحتها ما هو أكثر منها، أي: أن الذي يبرز ويخرج أكثر من الذي أخذ، فنظر أبو بكر، فإذا شيء أو أكثر، أن جفنة الطعام إما أنها مثلما كانت بعدما أكل الجميع أو أكثر، فقال متعجباً: يا أخت بني فراس! وهذا الخطاب لامرأته أم رومان.
وقال بعضهم: أن هذه المرأة أم رومان رضي الله عنها من بني فراس، ولعلها كانت نسبت إليهم من باب الانتساب إلى القبيلة، كما تقول العرب تنسب إلى قبيلة على أنه أخوهم، أو يقال: يا أخت القوم المنتسبين إلى بني فراس! على أية حال فهو نسبها إلى قوم لها علاقة بهم، يا أخت بني فراس! أي: ما هذا؟! قالت: لا وقرت عيني، طبعاً قرة العين هو ما يحبه الإنسان ويسر به، والقرار هو: السكون، لأن العين إذا سكنت؛ تعبير عن راحة الإنسان وهدوء باله، وأنه لا يتطلع إلى أشياء أخرى؛ لأنه وجد ما يريده.
وكما يقول بعضهم: أقر الله عينك بهذا الولد، أي: أفرحك به ونحو ذلك، وضده: أسخن الله عينه، أي: الدعاء عليه بالحزن، لأن دمعة الحزن ساخنة، ودمعة السرور باردة، هكذا قالوا.
فتقول: لهي أكثر مما قبل، أكثر مما وضعناها، فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان الشيطان، أي: يمينه، أي: إنما كان الذي حملني على اليمين هو الشيطان؛ لأنه قال في البداية من الغضب، قال: والله لا أطعمه كلوا، وحلف ألا يطعمه، ثم رجع إلى نفسه، قال: هذه الحلف من الشيطان، وأكل وكفر عن يمينه.(27/4)
العدول عن اليمين والتكفير
وفعل الصديق رضي الله عنه مقتضى حديث (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
إذا حلف على شيء، ثم رأى أن الخير مخالفة اليمين، فرجع إلى الخير وأكل، لماذا حرم الطعام على نفسه؟ ليس لشيء من الطاعة، إذاً يخالف يمنيه ويأكل.
وخصوصاً أنه قد رأى الطعام فيه بركة، ما ترفع لقمة إلا ويخرج من أسفلها عوضاً عنها أو أكثر.
إذاً: الأكل من الطعام المبارك طيب، ولذلك رجع الصديق إلى البر وأكل لما رأى البركة ظاهرة رضي الله عنه، لتحصل له البركة بالأكل من ذلك، وليعود السرور إلى الجميع، ولينفك الشيطان مدحوراً، فحنث في يمينه رضي الله تعالى عنه.
أما بالنسبة للتكفير، فإن التكفير في مثل هذه الحالة واجب، لكن كونه ما نقل، لا يعني أنه ما حصل، لكن لو فرضنا أنه ما حصل، فلابد أن نحمل اليمين على حمل معين كأن يقول: حلف مدة معينة ألا يأكل منها مثلاً، أو لا يأكل مع الضيوف ثم أكل بعدهم مثلاً ونحو ذلك، وفي الحالة العادية لو أن واحداً حلف مثل هذا الحلف ألا يأكل من الطعام، ثم أكل، فإنه تلزمه كفارة اليمين.
الآن هذه الجفنة التي فيها الطعام المبارك، ماذا فعل الصديق بها بعد أن طعم أهله وطعم الضيوف؟ حملها وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده على حالها.
فقال: ففرقناها اثني عشر رجلاً مع كل رجل منهم أناس، كل واحد من الاثني عشر معه جماعة، فأكلوا منها أجمعون، أي: بعدما ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرقت الجفنة على اثني عشر رجلاً مع كل رجل مجموعة، والواحد من الاثني عشر هذا مثل العريف أو النقيب يأخذ نصيب جماعته، فكل واحد من الاثني عشر أخذ نصيب جماعة معه أكلوا كلهم وشبعوا منها.
فمعنى ذلك أن هذا الجيش أكل من تلك الجفنة التي أرسلها أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون وقع تمام البركة وحصل من التداول إلى قريب الظهر، يأكل قوم ثم يقومون، ويجيء قوم فيتعاقبون كما جاء في رواية: (حتى إن رجلاً قال: هل كانت تمد بطعام؟ -هل جاء أناس يزيدون عليها- فقال الذي حضر: أما من الأرض فلا، إلا أن تكون كانت تمد من السماء).(27/5)
ما يستفاد من حادثة بركة طعام الصديق
هذا الحديث فيه من الفوائد:(27/6)
جواز التجاء الفقراء إلى المسجد
التجاء الفقراء إلى المسجد عند الحاجة إلى المواساة، وجواز أن يعيش الفقير في المسجد إذا لم يكن له مأوى، بشرط عدم أخذ مكان الصلاة، وعدم التشويش على المصلين، وكذلك في هذه القصة نموذج من نماذج المواساة في المجتمع المدني، كيف كان الفقراء يوزعون على الناس.(27/7)
تصرف المرأة بإذن زوجها
وفي هذه القصة تصرف المرأة فيما تقدم للضيف بالإذن العام من الرجل ولا يلزم الإذن الخاص، أي: لو أن واحداً قال: يا امرأة! يا زوجتي! يا فلانة! يا أم فلان! أي ضيف يأتي تطعميه فهذا إذن عام، أي ضيف يأتي لا تحتاج أن تستأذن منه وترسل له من يستأذنه، أو تتصل عليه يوجد ضيف نطعمه أو لا نطعمه، فالطعام هو ملك لصاحب البيت لا يحل إلا بإذنه، لكن المرأة إذا كان عندها إذن عام فيجوز لها أن تتصرف بناءً على الإذن العام.
وهو مثل الخروج من البيت، إذا قال: متى ما أردتِ الخروج فاخرجي، أنا أثق فيكِ وفي حجابكِ، وأنت زوجتي اخرجي، فلا يحتاج أن تستأذن كلما أرادت الخروج، لكن إذا كان لم يسمح إلا بإذن خاص، فلا يجوز أن تخرج إلا بإذن خاص من هذا الرجل، وقد يكون الإذن عاماً وخاصاً، مثل أن يقول: هؤلاء الجيران وقتما تريدين الخروج إليهم أخرجي، وغير هذا تستأذني، فيكون هذا عاماً في هؤلاء الجيران، متى ما أرادت تخرج، ولابد أن تستأذن في الخروج إلى غير هؤلاء.
وكذلك في هذا الحديث جواز تقريع وتعنيف الولد إذا كان على سبيل التمرين على أعمال الخير وتعاطي ذلك، وعدم تأخير الخير والقيام بالحق ونحو ذلك، مع أن عبد الرحمن رضي الله عنه لم يظهر منه تقصير، لكن كمبدأ تقريع الولد إذا قصر لا بأس به، لئلا يتعود التقصير، أو أنه يستمرئ التقصير.(27/8)
العدول عن اليمين والتكفير
وفي هذا الحديث أن الإنسان إذا حلف على يمين فرأى أن الحنث فيها وكسر اليمين أفضل وأقرب إلى الله، فإنه يكسر يمينه ويخالفه.(27/9)
إثبات كرامات الأولياء
وكذلك في هذا الحديث إثبات لكرامات الأولياء، وهذه كانت كرامة لـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.(27/10)
العمل بغلبة الظن
وكذلك فإن في هذا الحديث: العمل بغلبة الظن، فإن الصديق لما جاء غلب على ظنه أن ولده فرط في حق الضيوف، وبناء على ذلك تكلم عليه ووبخه، بناء على ما غلب على ظنه من أنه قصر مع الضيوف، ويمكن أن يقال أيضاً: إن على الإنسان ألا يستعجل في لوم ولده؛ لأن الولد قد يكون لم يقصر، ولذلك يحتمل من صاحب الفضل العظيم الخطأ مالا يحتمل من أي شخص آخر، وهذا معروف.
والنبي عليه الصلاة والسلام في قصة حاطب رضي الله عنه، سامح حاطباً لأنه كان بدرياً، ربما لو كان غيره لقتله؛ لأنه تجسس على المسلمين، فكذلك صاحب الفضل وصاحب العلم وصاحب الخير لو أخطأ مرة، تغمر في بحر فضائله، لكن لو لم يكن له فضائل وأخطأ، ربما يلام ويؤاخذ مع أن نفس الخطأ يصدر من شخص آخر ولا يؤاخذ، وقد يقول بعض الناس: هذا ليس بعدل، نقول: لا، هذا عدل، لماذا؟ لأن الصحيح أن تأخذ كل الصورة، يعني: الآن عندك موظف أو خادم وأنت سيده أو مديره، يتقن عمله جداً، وفي مرة من المرات -مثلاً- أخطأ في عملية مالية تسببت في خسارة ألف ريال بسببه هو؛ قصر ولم يتأكد من توقيع أو من شيء فضيع ألف ريال على المؤسسة أو الشركة، وشخص آخر مقصر ومهمل جاء مرة وقصر وضيع ألف ريال، لا يقال: إن العدل معاملتهما بنفس المعاملة، لا.
إذا كان صاحب المؤسسة، أو سيد هذا الخادم، أو مدير هذا الموظف قد تجاوز عن الأول، وقال: أنا سامحتك، وآخذ الثاني وخصمها عليه لا يعتبر ظالماً ولا جائراً؛ لأن المعاملة المتماثلة مع المخطئين لابد أن تكون أوضاع المخطئين وأحوالهم متساوية، أما إذا كان هذا الإنسان نشيطاً وجيداً وأخطأ يمكن أن يسامح، ونفس الخطأ يرتكبه آخر لا يسامح.
إذاًَ: لابد من النظر في حال الشخص ككل، وتاريخ وماضي الشخص قبل الحكم عليه ومآخذته.
وكذلك في هذا الحديث أن الصديق رضي الله عنه رجع عما أخطأ فيه من الحلف، وهذه منقبة له في الرجوع عن الخطأ.(27/11)
إعانة الابن لأبيه
وكذلك يؤخذ من هذا الحديث أيضاً أن الولد يجب أن يكون عوناً لأبيه على الطاعات وأعمال البر، والقيام بحق الضيوف ونحو ذلك.(27/12)
تكافل المسلمين
وكذلك في هذا الحديث: التكافل بين المسلمين، وأن يكون بطريقة لا تزعج الشخص، وأيضاً تنفع المحتاج.(27/13)
تلافي فورة الغضب بالاختباء
وكذلك في الحديث أن الإنسان يختبئ لتلافي فورة الغضب، وإذا برد الغضب يخرج، لأن ظهور الشخص في فورة الغضب أمام الغاضب ربما أن يقع فيه أشياء لا تحمد عقباها، وأما إذا اختبأ، فإن فورة الغضب تهدأ ولا يقال إن الولد جبان فلابد أن يأتي ويثبت أمام الأب إن كان رجلاً، يظهر أمام الأب في فورة غضبه، لا، لأن الإنسان في حال الانفعال والغضب الشديد ربما يفعل أشياء لا تحمد عقباها، ولذلك فالاختباء من الغاضب في فورة غضبه وتلافي مواجهته فيه حكمة.(27/14)