شروط الحجاب الشرعي
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحبة: نتحدث عن شروط الحجاب الشرعي حتى تعلم المرأة أنه ليس كل ثوب يجوز أن تخرج به خارج البيت، فإن للحجاب الشرعي شروطاً، ينبغي أن تتعلمها كل امرأة: الشرط الأول: أن يكون الحجاب أو الثوب ساتراً لجميع البدن.
فلا يجوز بحال أن تغطي المرأة رأسها، وأن تغطي المرأة بدنها، ثم يكون الثوب قصيراً لتظهر قدميها أو لتظهر ساقيها، ومن النساء من تتفنن في ذلك لستر هذا الجزء الباقي من أسفل؛ فتلبس حذاء برقبة طويلة لتستر هذا الجزء ثم تدعي وتزعم أنها محجبة.
الشرط الثاني: ألا يكون الثوب زينة في ذاته.
فلا تلفت المرأة الأنظار إلى ثوبها بألوانه الفاقعة، التي تجذب الأنظار، فلا ينبغي أن يكون الثوب في حد ذاته زينة، ولا ينبغي أن يكون معطراً يلفت إليه الأنظار، وهذا شرط مستقل من شروط الحجاب الشرعي.
ثالثاً: ألا يكون الثوب شفافاً.
بل يجب أن يكون الثوب صفيقاً أي: سميكاً لا يشف على بدن المرأة، ومن النساء من تلبس ثوباً صفيقاً أي: سميكاً، وتجعل في محاذاة الصدر أو على الذراعين ثوباً شفافاً يظهر ما تحته، وهذه هي قمة الفتنة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: (صنفان من أهل النار لم أرهما وذكر منهما: ونساء كاسيات عاريات) ومن أوجه التفسير لهذا الحديث: أن تلبس المرأة ثوباً شفافاً يظهر ما تحته.
الشرط الرابع: ألا يكون الثوب ضيقاً؛ لأن الثوب الضيق من أعظم الفتن، ومن أعظم ما يثير الشهوات؛ لأن الثوب الضيق وإن كان صفيقاً وسميكاً لا يشف فإنه يبين حجم عظام المرأة، وهذه قمة الفتنة التي ترسل بها النساء اللائي يلبسن مثل هذه الثياب الضيقة إلى قلوب الشباب، وقلوب الرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الشروط الخامس: ألا يكون الثوب مبخراً أو معطراً أو مطيباً.
والمراد الثوب الذي تخرج به المرأة إلى الشارع، أما أن تتعطر وتتطيب وتتزين لزوجها في بيتها، فالإسلام يأمرها بذلك، وإن همت بالخروج فلا يجوز أن يكون الثوب معطراً؛ لأن العطر من ألطف وسائل المخابرة بين الرجل والمرأة، وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) فما ظنكم إذا خرجت إلى الأسواق والشوارع والطرقات؟! وروى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت فخرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا -أي: زانية- وكل عين زانية) أي: وكل عين تنظر إليها بشهوة فهي زانية، وأسلفنا أن العينين تزنيان وزناهما النظر.
الشرط السادس: ألا يكون ثوب المرأة لباس شهرة.
كأن تلبس المرأة ثياباً غالية جداً في الثمن، ليشار إلى ثوبها بالبنان ويقال: إن فلانة بنت فلان تلبس من الثياب ما قيمته كذا وكذا، فهذا ثوب شهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني وحسنة الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب عليه ناراً).
ولا يشترط بالضرورة أن يكون ثوب الشهرة غالياً، فمن الممكن أن يكون ثوب الشهرة رخيصاً جداً يلبسه الرجل ليظهر التواضع وليظهر المسكنة وليظهر الذل، وهذا من ثوب الشهرة أيضاً.
وكذلك المرأة.
الشرط السابع: ألا يشبه ثوب المرأة ثياب الرجل، فلا يجوز أن تتشبه المرأة بالرجال في لباسها، أو في صوتها، أو في مشيتها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -والحديث رواه البخاري -: (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء) هذا ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه ملعونة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء) فالمرأة التي تريد أن تظهر كرجل، بل وتسعد إن أشير إليها بذلك؛ ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، أما الرجل الذي يتشبه بالمرأة، فهو رجل مخنث يتكسر في مشيته، ويتغنج في لفظه، ويلبس من الثياب ما لا يليق أن تلبسه إلا المرأة، فهذا ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثامن: ألا يشبه ثوب المرأة لباس الكافرات.
وهذه من النكسات النفسية التي أصبنا بها، حتى أصبحت المسلمة تقلد الكافرة في كل شيء، حتى في قصة شعرها، وهذه من الهزيمة النفسية التي أصابت قلوب كثير من النساء، لا يجوز للمسلمة أن تقلد الكافرة في أي شيء أبداً، وفي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) الحديث حسنه شيخنا الألباني، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وصححه الحافظ العراقي.(150/11)
شبهات والرد عليها
يوجد بعض الشبهات ينبغي الرد عليها، فبعض العلماء يقولون بجواز كشف الوجه -ونحن نحسن الظن بهم، ولا نتهمهم والعياذ بالله، فإننا نحب شيوخنا وعلماءنا، ولكن الحق أحب إلينا منهم- ويستدلون بأحاديث منها حديث أسماء الذي رواه أبو داود والبيهقي من حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق -أي: رقيقة- فأعرض عنها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى وجهه وكفيه) هذا الحديث كما معروف لكل طالب علم مبتدئ في علم الحديث لا يصلح بحال للمتابعات والشواهد، ولا يحتج به أبداً؛ لأن فيه ثلاث علل من العلل القادحة: العلة الأولى: أنه حديث مرسل من مراسيل خالد بن دريك عن عائشة، وهو لم يدرك عائشة رضي الله عنها، فـ خالد من أتباع التابعين، ومعلوم عند علماء الحديث أنه لا يحتج بالحديث المرسل، ومن العلماء من قال: لا يحتج إلا بمراسيل كبار التابعين فقط كـ سعيد بن المسيب وغيره، وخالد من أتباع التابعين.
العلة الثانية: فيه سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيف، فقد ضعفه الحافظ الذهبي وكذا الحافظ ابن حجر في التقريب.
العلة الثالثة: من رجال هذا الحديث قتادة وهو مدلس.
فهذا حديث انقطع فيه السند، وفي بعض رواته ضعف، وفيه تدليس، فعند كل طالب علم مبتدئ -فضلاً عن العالم- لا يحتج بهذا الحديث، ولا يصلح أبداً للمتابعات والشواهد.
وكنت أود أن أفند معظم الشبه الباقية؛ ولكن في هذا كفاية، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
ورحم الله من قال: فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا ما أهلي من نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب سليه لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الصواب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً وأن يرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك ومولاه.
وأسأل الله جل وعلا أن يطهرنا وإياكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا.
اللهم بارك في حكام المسلمين، وفي نساء المسلمين، وفي شباب المسلمين.
اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(150/12)
الرياء
الرياء داء عضال، خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وما ذاك إلا لشدة خفائه، ولعظيم خطره، فهو سبب لعدم قبول الأعمال، وقد أضحى مزلة لأقدام كثير من العلماء والعباد، وقد بين أهل العلم أقسامه، وفصلوا في ذلك، ومن رحمة الله بنا أن جعل لهذا الداء دواء، ولهذا المرض علاجاً، ذكره أيضاً أهل العلم.(151/1)
الرياء هو الشرك الخفي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فما زال حديثنا عن القلوب، وأقسامها، وعللها، وأدويتها، وقلنا: بأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله؛ لأن حركات الجوارح.
وأعمال الجوارح تابعة لحركة القلب، وعمل القلب، وإرادة القلب، فإن كانت حركة القلب وإرادته لله جل وعلا وحده، كانت حركة الجوارح وأعمال الجوارح لله جل وعلا وحده، وإن كانت حركة القلب وإرادته وعمله -من عبودية ومحبة ورجاء وتوكل وخشية وإنابة وتفويض- لغير الله جل وعلا كانت أعمال الجوارح وحركات الجوارح أيضاً لغير الله جل وعلا، فانبعثت الجوارح بمعصية الله؛ لأن القلب هو الملك والجوارح هي جنوده ورعاياه، وإن صح وصلح المَلِكُ صح وصلح الجنود والرعايا، وإن فسد الملك فسد الجنود والرعايا، فهم يأتمرون بأمره ويعملون بتوجيهه.
ونحن اليوم على موعد مع عمل سيء تنبعث به الجوارح إذا خبث وفسد القلب ومرض عمل يحبط الأعمال عمل يسبب المقت والغضب من الكبير المتعال إنه داء عضال، ومزلة أقدام العباد والعلماء، إلا ما رحم رب الأرض والسماء، إنه مرض خاف النبي صلى الله عليه وسلم منه على أمته أكثر من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال، فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام ابن ماجة في سننه، وحسن الحديث شيخنا الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي.
قالوا: وما الشرك الخفي يا رسول الله؟! قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه).
وتأتي للصلاة على فتورٍ كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاء أيا عبد! وإن كنت المجالس يوماً قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد! لا يساوي الله معك أنساً تناجيه بحب أو صفاء يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، هذا هو الشرك الخفي، ويوضح ذلك -أيضاً- حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه الذي رواه أحمد في مسنده، والإمام ابن حبان في صحيحه، والإمام البغوي في شرح السنة، وهو حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء).
إننا اليوم على موعد مع هذا المرض العضال، مع مزلة أقدام العباد والعلماء إلا من رحم الكبير المُتَعَال، إننا اليوم على موعد مع هذا المرض الذي يحبط العمل، وهو سبب من أسباب المقت والغضب من الله جل وعلا، وكم من إنسان قد زل في هذا الباب وهو لا يدري؟! وكم زلت في هذا الباب أقدام؟! وكم ضلت في هذا الباب أفهام؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ونظراً لطول الموضوع وخطورته -أيها الأحبة- فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع في أربعة عناصر: أولاً: الرياء لغة وشرعاً.
ثانياً: الرياء محبط للأعمال والأدلة على ذلك.
ثالثاً: أقسام العمل مع الرياء.
رابعاً: ما هو السبيل إلى العلاج؟ فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا بداية أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن، وأن يطهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء صغيره وكبيره غليظه ودقيقه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.(151/2)
تعريف الرياء لغة وشرعاً
أما تعريف الرياء لغة: فهو مشتق من الرؤية، يقول الفيروز أبادي: راءى مراءاة ورياء أي: يُريْ غيره خلاف ما هو عليه.
وحقيقة الرياء شرعاً لا تختلف كثيراً عن معناه اللغوي.
فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها، فيحمدُ الناس صاحبها، فهو حين يظهر العبادة لا يبتغي بها وجه الله، وإنما يبتغي بها الثناء والحمد من الناس، بل ربما إذا حان وقت الصلاة وهو في الخلوة لا يصلي، وإذا رأى أعين الناس تنظر إليه قام إلى الصلاة، بل ومن الناس من يغلظ الرياء منه والعياذ بالله، كأن يكون مع كبير من الكبراء، أو مع حاكم من الحكام، أو مع أمير من الأمراء، ودخل هذا الرجل المسجد -لتصور عدسات التلفاز صلاته- إذا به يدخل مع هذا المسئول الكبير بغير وضوء والعياذ بالله، لماذا؟ لأن الإعلام يريد أن يظهر جزئية معينة للسُّذَّجِ البُلَهَاءِ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالرياء شرعاً: هو إظهار العبادة بقصد رؤية الناس لها؛ ليحمد الناس صاحبها على ذلك، ولينال جاهاً أو مكانة في قلوب الخلق، وأظن أن عقولكم ستذهب الآن بمنتهى السرعة إلى هؤلاء الذين يرشحون أنفسهم لمجالس النواب، أو لمجالس الشعب، أو لغيرها من هذه المجالس التي لا شرعية فيها، وفي أثناء جولاتهم الانتخابية يتصنعون بما ليس فيهم، ويظهرون من الطاعات والعبادات ما هم بعيدون عنه كل البعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(151/3)
الرياء محبط للأعمال
العنصر الثاني: أن الرياء يحبط العمل، فإذا ابتغى العبد بعمله وجه الناس والثناء منهم، والجاه في قلوبهم، والمحمدة على ألسنتهم، ولم يبتغ بعمله وجه الله جل وعلا فعمله حابط ومردود في وجهه؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولقول الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، ولقول الله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7].
فالرياء يحبط العمل -أيها الأحباب- والأعمال يتوقف صلاحها وفسادها وقبولها وردها على نية فاعلها وصاحبها، فإن كانت نية العبد صالحة لله، قبل عمله، ولو كان في أعين الناس حقيراً فهو عند الله عظيم، وكم من الأعمال ينظر الناس إليها على أنها عظيمة، وعلى أنها جليلة، وعلى أنها كبيرة وهي عند الله حقيرة، لا تزن عنده جناح بعوضة؛ لأن صاحبها ما ابتغى بها وجه الله، وإنما ابتغى بها الثناء والمحمدة عند الناس، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فالأعمال يتوقف قبولها على صلاح النية، فإن ابتغيت بعملك الله جل وعلا قبل عملك، ولو كان في أعين الناس حقيراً، ولو ابتغيت غير الله جل وعلا رد عملك في وجهك، ولو كان في أعين الناس عظيماً.
ولذلك ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يغزو -أي: يجاهد- يلتمس الذكر، والرجل يقاتل يلتمس المغنم -أي: الغنيمة-، والرجل يقاتل يلتمس الأجر فما لهم؟ -أو أيهم في سبيل الله؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
وفي رواية النسائي وابن ماجة -والحديث حسنه الحافظ العراقي - أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر -يريد الأجر من الله جل وعلا وفي نفس الوقت يريد أن يذكر بين الناس- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، لا شيء له، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وما ابتغي به وجهه جل جلاله).
وفي الحديث الذي يخلع القلب ويعكر صفو الحياة، والذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد -مات في ميدان الشرف والرجولة والبطولة- فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).
لا إله إلا الله! رجل بذل نفسه في ميدان القتال، ولكنه ما ابتغى بعمله وجه الكبير المُتَعَالِ، والله جل وعلا يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إن كنت تستطيع أن تخدع الناس، فلن تستطيع أن تخادع الله جل وعلا، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:9 - 10].
قال: (رجل استشهد فَأُتِيَ به فعرفه نعمه، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن) عالم ملأ الدنيا علماً وملأ الدنيا فتاوى، عالم أشير إليه بالبنان والتف الناس حوله، إلا أنه ما فعل ذلك إلا ليحصل كرسيّاً زائلاً، وليحصل منصباً فانياً، أو ليكون قريباً من السلطان، فما ابتغى بعلمه وجه الرحيم الرحمن، والله يعلم منه السر وأخفى.
وفي حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تك تأمر بالمعروف وتنه عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).
قال: (ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فَأُتِيَ به فَعَرَّفُه نعمه فَعَرَفَهَا، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل -هذا ما قد نلته في الدنيا- ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).
عالم وقارئ للقرآن لم يبتغ بعمله وجه الرحيم الرحمن، يسحب على وجهه ليلقى في النيران، نسأل الله السلامة والعافية، وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، برحمته وهو أرحم الراحمين.
أما الرجل الثالث أيها الأحباب! (رجل أعطاه الله من أصناف المال فَأُتِيَ به فَعَرَّفَه نعمه فَعَرَفَهَا قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً من أوجه الخير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال: هو جواد -ليقال: المحسن الكبير- فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).
أسمعت -أيها الحبيب- إلى خطورة الرياء؟! رجل مات في ميدان القتال، يسحب على وجهه في النار! ورجل ملأ الدنيا علماً، يسحب على وجهه في النار! ورجل قرأ القرآن بالليل والنهار، يسحب على وجهه في النار! ورجل أنفق في كل أبواب الخير، يسحب على وجهه في النار! لماذا؟ لأنهم لم يبتغوا بأعمالهم وجه العزيز الغفار، وإنما ابتغى كل واحد منهم مأرباً شخصياً وغاية شخصية، فلما حصل عليها في الدنيا حرم الجزاء من الله جل وعلا في الآخرة، فالرياء -أيها الأحباب- محبط للعمل؛ لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، وإلا ما ابتغي به وجهه جل جلاله.(151/4)
أقسام العمل مع الرياء
اعلموا أيها الأحبة! أنه تارة يكون العمل رياءً محضاً، كأن يكون الرياء في أصل الدين -أي: أن يظهر الإسلام، ويبطن الكفر- فهذا أشد أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، إذا أظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار؛ لقول الله جل وعلا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، ولقول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].
فأشد أبواب الرياء أن يكون العمل رياءً محضاً في أصل الدين، فإذا راءى في أصل الدين فأظهر الإسلام وأبطن الكفر فهو مخلد في النار ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كان الرياء بعبادة من العبادات أو بطاعة من الطاعات مع وجود أصل الدين، كأن يكون الرجل مؤمناً موحداً لله جل وعلا، ولا يسجد إلا لله، ولا يوجه العبادة إلا لله، إلا أنه زل في عبادة من عباداته وطاعة من طاعاته فراءى بها الناس والمخلوقين فبالإجماع أن هذه العبادة وهذه الطاعة وهذا العمل حابط ومردود في وجهه، ولا قبول له عند الله جل وعلا؛ لما أسلفته من المقدمات ومن الأدلة.
وقد يكون الرياء مشاركاً للعمل، فإن شارك الرياء العمل من بدايته -أي: من الأصل، ومنذ انعقاد النية- فأيضاً الأدلة الصحيحة الصريحة تقول بإحباط هذا العمل وبعدم قبوله عند الله جل وعلا، بمعنى: لو أن رجلاً خرج ليصلي، وما خرج أصلاً للصلاة إلا مراءاة للمخلوقين، وليرائي بها الناس، فالرياء شريك مع نية العمل، فهذا العمل كله من أوله إلى آخره عمل حابط ومردود في وجه صاحبه، وأكتفي بدليل واحد على ذلك، وهو الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
وفي رواية ابن ماجة: (فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك).
وقد يكون العمل لله جل وعلا في أوله، فيأتي الرجل للصلاة يبتغي بها وجه الله، ولكنه وهو في أثناء الصلاة طرأ عليه طارئ الرياء، فاختلف العلماء في هذه الحالة هل يحبط العمل كله أم لا؟ ولكن الراجح -كما رجحه الإمام أحمد والإمام الطبري -: أنه إذا كان أصل النية لله جل وعلا، وإذا كان أصل العمل لله جل وعلا وطرأ عليه طارئ الرياء، فإن دفعه فلا يضره هذا الطارئ بلا خلاف، أما إن استرسل مع الرياء في العمل، فإن عمله لا يحبط ولا يرده الله، وإنما يجازى على أصل نيته الأولى، وهذا من رحمة الله جل وعلا.
أما حين يكون العمل خالصاً لله جل وعلا وحده، لا تشوبه شائبة من شوائب الرياء ولا من شوائب النفاق، ويلقي الله للعبد الحب في قلوب الخلق وفي قلوب الناس، ويجري ألسنتهم بالثناء عليه، فيفرح العبد بذلك ويستبشر به، فهذا لا يضره بإجماع، وليس هذا من أبواب الرياء، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من أعمال الخير فيحمده الناس عليه، أي: يعمل أعمال الخير مبتغياً وجه الله جل وعلا ومخلصاً لله في عمله؛ فيحمده الناس على هذا العمل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك عاجل بشرى المؤمن)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، قال ابن عباس: أي محبة في قلوب الخلق، ويؤكد ذلك أيضاً حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
وفي الحديث الذي رواه البزار وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد إلا وله صيت في السماء، فإن كان صيته حسناً وضع في الأرض، وإن كان صيته في السماء سيئاً وضع في الأرض)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، وأود أن أنبه إلى أمر وهو أن حسن الثياب وحسن النعل وحسن المظهر ليس من الرياء، والدليل على ذلك ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الكبر بَطَرُ الحق وغمط الناس).
أي: ليس هذا من الكبر وإنما الكبر بطر الحق وغمط الناس.
هذه هي أقسام العمل مع الرياء بإيجاز شديد، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص، وأن يقينا شر الرياء والنفاق، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(151/5)
السبيل إلى علاج الرياء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فأخيراً -أيها الأحباب- ما هو السبيل إلى علاج الرياء، وإلى قلع جذوره من القلب، ألخص لكم ذلك في نقاط عملية فأقول: لابد لعلاج الرياء من علاج علمي، ومن علاج عملي:(151/6)
العلاج العلمي للرياء
أما العلاج العلمي: فهو أن يعلم المرائي عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة، أما عاقبة الرياء في الآخرة: فهو إحباط العمل ورده، وأن ليس له وزن عند الله جل وعلا.
وأما عاقبة الرياء في الدنيا: فإن يظهر الله جل وعلا للناس سريرته: (فمن أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)، وقال أحد السلف: فليحذر أحدكم أن تمقته قلوب الناس وهو لا يدري، قيل: كيف ذلك؟ قال: إذا ما كان مع الناس أظهر الطاعة، وإذا ما خلا بينه وبين ربه بارز الله بالمعصية.
لابد أن يفضحه الله جل وعلا وأن يظهر سريرته، وإظهار ضد القصد أمر ثابت شرعاً وقدراً، والدليل على ذلك ما رواه البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به).
نقل الحافظ ابن حجر قول الإمام الخطابي في معنى الحديث: أن من عمل عملاً ليس خالصاً لله جل وعلا لابد أن يظهر الله للناس سره ويجعله علانية، ونحن نرى الواقع يؤكد ذلك أيضاً، فكم من الناس نسمعهم بآذاننا يقولون: إن فلاناً هذا مراءٍ، وإن فلاناً هذا منافق، سبحان الله! لأن الله جل وعلا قد أظهر سره وجعله علانية، وجعل الله البغض له في قلوب الخلق وفي قلوب العباد.
واعلم -أيها الإنسان- بأن ذم الناس لك لا يبعدك من الله إن كنت قريباً منه، وحمد الناس لك لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه، والناس لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يدفعون عنك رزقاً، ولا يقربون لك أجلاً، فلمَ ترائي الناس وتخادع الله جل وعلا؟! أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه؟! أتستحي من الناس ولا تستحي من الله؟! {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218]، و {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟!! فمن علم أن الناس لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً، ابتغى بعمله وجه الله؛ لأنه ينبغي أن نعلم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا علم المرائي الذي شتت قلبه وشتت عقله وشتت جهده لإرضاء الناس هنا وهناك، إذا علم أن إرضاء الناس غاية لا تدرك كف عن الرياء، وكف عن مراءاة المخلوقين، ولو أرضى أحد كل الناس لأرضى الناس سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم، بل إن من عائلته وأسرته من عاداه، ومن سبه، ومن مشى خلفه ليقول للناس: هذا كاذب فلا تتبعوه! فإرضاء الناس غاية لا تدرك.
فاعلم -أيها الإنسان! وأيها المسلم! وأيتها المسلمة- بأن ذم الناس لا يبعدك عن الله إن كنت قريباً منه، وبأن حمد الناس لا يقربك من الله إن كنت بعيداً عنه جل وعلا، وذم الناس وحمد الناس وكلام الناس لا يدفع عنك رزقاً، ولا يقرب لك أجلاً، ولا يملك الناس لك ضرّاً ولا نفعاً؛ لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً فضلاً عن غيرهم.
الأمر الثاني: اللجوء إلى الله جل وعلا في طلب الإخلاص في القول والعمل والسر والعلن: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]، ولنا في خليل الله إبراهيم الأسوة والقدوة، وهو الذي كان يتضرع إلى الله جل وعلا أن يجنبه وبنيه الشرك الأكبر فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فإذا كان الخليل يتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبه الله الشرك الأكبر، فينبغي أن نتضرع إلى الله جل جلاله أن يجنبنا الشرك الأكبر والأصغر.(151/7)
العلاج العملي للرياء
أما العلاج العملي وهو في كلمة واحدة: لا علاج للرياء أفضل من الإخفاء إخفاء الطاعات إخفاء العبادات، حتى يتدرب القلب على مراقبة الله وحده لا مراقبة الناس، فلا علاج للرياء أنفع من الإخفاء، أن تخفي طاعتك عن أعين الناس، وأن تكون طاعتك لله جل وعلا، هذا إن كانت الطاعة مما لم يأت الشارع بوجوب الجهر به.
وقد فصل القول في ذلك أعظم تفصيل الإمام العز بن عبد السلام في كتابه القيم (قواعد الأحكام): إذا كان العمل الذي شرعه الله جل وعلا مما يؤدى جهراً: كخطبة الجمعة كالأمر بالمعروف كالنهي عن المنكر كالصلاة كالأذان فهذا لا يمكن أن يؤدى سرّاً، ولا يمكن أن يخفى، وإنما لابد أن يؤدى جهراً مع مجاهدة النفس والقلب؛ ليكون العمل خالصاً لله جل وعلا.
أما النوافل أما الصدقات أما سائر الطاعات التي لم يأمر الشرع بالجهر بها فينبغي أن تدرب نفسك على الإتيان بها بينك وبين الله جل وعلا؛ ليتقوى القلب على الإخلاص، ولينشط القلب على مراقبة الله لا مراقبة الناس.
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، اللهم طهر قلوبنا وجوارحنا وأعمالنا من الرياء، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وجسداً على البلاء صابراً.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وارزقنا الصدق في أحوالنا يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا همّاً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثَبَّتَّهُ، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين.(151/8)
ماذا قدمت لدين الله؟
لقد كثر أعداء الإسلام، وأمسى صرحه الشامخ مستهدفاً في كل لحظة وزمان، وأكثر المسلمين اليوم يعيشون في سبات عميق، وكأن ما يحاك لدينهم من مؤامرات لا يعنيهم!! والواجب علينا جميعاً أن ننصر هذا الدين، كل يعمل قدر استطاعته، وفي المجال الذي يرى أنه سينفع به الإسلام، وما بذله أحدنا -ولو كان يسيراً- فلن يضيعه الله تعالى، وسيجزي به أضعافاً مضاعفة؛ لأنه سبحانه ذو الفضل العظيم!!(152/1)
واقع مرير يستفز جميع الهمم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (ماذا قدمت لدين الله؟) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان المخجل في العناصر التالية: أولاً: واقع مرير يستنفر جميع الهمم.
ثانياً: ولكن ما هو دوري؟ ثالثاً: تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة تطوق بها الأعناق.
وأخيراً: فجر الإسلام قادم.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم جميعاً بنصرة هذا الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! أولاً: واقع مرير يستنفر جميع الهمم.
والله إن العين لتدمع، وإنا القلب ليحزن، وإنا لما حل بأمة التوحيد لمحزونون، أهذه هي الأمة التي زكاها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؟! أهذه هي الأمة التي زكاها الله بالوسطية والاعتدال في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]؟! أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالألفة والوحدة فقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]؟! إنك لو نظرت إلى الأمة في القرآن، ونظرت إليها على أرض الواقع لانفلق كبدك من الحزن والبكاء على واقع أمة قد انحرفت كثيراً عن منهج الله جل وعلا، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد غيرت الأمة شرع الله، وانحرفت الأمة عن طريق رسول الله، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فأذل الله الأمة لأحقر وأذل أمم الأرض، ممن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير، من أبناء يهود، حتى من عُبَّاد البشر ساموا الأمة سوء العذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأحقر أمم الأرض، ولأذل أمم الأرض، وحق على الأمة قول الصادق، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: كلا، إنكم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل! وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
لقد أصبحت الأمة الآن -أيها الأخيار- غثاءً من النفايات البشرية، يعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية، تعيش الأمة الآن كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية، وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدورات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه.
ذلت الأمة بعد عزة، وجهلت الأمة بعد علم، وضعفت الأمة بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة الإنسانية بعد أن كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني والعلمي بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام! بل وأصبحت الأمة الآن تتأرجح في سيرها، ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسلكه وأن تسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، والصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون، ما الذي جرى؟ يبين الله سبحانه أن ما وقع للأمة إنما وقع وفق سنن ربانية لله في كونه لا تتبدل هذه السنن ولا تتغير مهما ادعى أحد لنفسه من مقومات المحاباة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].(152/2)
ماذا قدمت لدين الله؟
لا أطيل في تشخيص الواقع المرير فكلنا يعرفه، ولكنني أقول: إن هذا الواقع الأليم يستنفر جميع الهمم الغيورة، ويستوجب أن يسأل كل واحد منا نفسه هذا السؤال، قل لنفسك الآن، وأنا أقول لنفسي الآن: ماذا قدمت لدين الله جل وعلا؟ سؤال مخجل، سؤال مهيب: ماذا قدمت لدين الله جل وعلا؟ سؤال يجب ألا نمل طرحه، وألا نسأم تكراره؛ لنحيي في القلوب قضية العمل لهذا الدين، في وقت تحرك فيه أهل الكفر وأهل الباطل بكل رجولة وقوة لباطلهم وكفرهم الذي هم عليه، انتعش أهل الباطل وتحركوا في الوقت الذي تقاعس فيه أهل الحق وتكاسلوا، والله يا إخوة ما انتفش الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله، ماذا قدمت لدين الله؟ سؤال يجب ألا نمل تكراره؛ لتجييش الطاقات الهائلة في الأمة؛ لتعمل لدين الله جل وعلا؛ للقضاء على هذه السلبية القاتلة المدمرة التي تخيم الآن على سماء الأمة؛ لتحريك دماء الإسلام التي تنبض بالولاء والبراء، والغيرة لدين الله في هذا الجسد الضخم الذي يتكون مما يزيد على مليار من المسلمين والمسلمات، ماذا قدمت لدين الله جل وعلا؟(152/3)
ما هو دور كل مسلم
أيها المسلم! وأيتها المسلمة! واقع يجب أن يستنفر جميع الهمم الغيورة، وهنا قد يسأل كثير من المسلمين بصفة عامة وكثير من شبابنا بصفة خاصة ويقول: أنا أريد أن أقدم شيئاً لدين الله، وأن أبذل شيئاً لدين الله، ولكن ما هو دوري؟ وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: ولكن ما هو دوري؟ سؤال وإن كان يمثل في الحقيقة ظاهرة صحية، إلا أنه ينم عن خلل في فهم حقيقة الانتماء لهذا الدين، إلى الحد الذي أصبح فيه المسلم لا يعرف ما الذي يجب عليه أن يقدمه لدين الله جل وعلا، لماذا؟ لأن قضية العمل للدين ما تحركت في قلبه إلا في لحظة حماس عابرة، أججها في قلبه عالم مخلص أو داعية صادق، فقام بعد هذه اللحظة الحماسية المتأججة ليسأل عن دوره الذي يجب عليه أن يبذله ويقدمه لدين الله جل وعلا، أما لو كانت قضية العمل لدين الله تشغل فكره، وتملأ قلبه، وتحرك وجدانه، ويفكر فيها في الليل والنهار، في النوم واليقظة، في السر والعلانية، لو كانت قضية العمل لدين الله كذلك في قلب كل مسلم ما سأل أبداً هذا السؤال؛ لأنه سيحدد دوره بحسب الزمان الذي يعيشه، وبحسب المكان الذي يتحرك فيه لدين الله؛ لأن قضية العمل لدين الله تملأ عليه همه، وتملأ عليه قلبه، بل وتحرق قلبه في الليل والنهار، ولكن بكل أسف أصبحت قضية العمل لدين الله قضية هامشية ثانوية في حس كثير من المسلمين، بل وأصبح لا وجود لها في حس قطاع عريض آخر ممن يأكلون ملء بطونهم، وينامون ملء عيونهم، ويضحكون ملء أفواههم، بل وينظرون إلى واقع الأمة فيهز الواحد كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنه ما خلق إلا ليأكل ويشرب، وإلا ليحصل الشهادة، أو ليحصل الزوجة الحسناء، هذا كل همه في هذه الحياة!! أنا لا أمنع -أيها الحبيب- من أن تحمل في قلبك هموماً كثيرة، أن تحمل هم الوظيفة، وهم الزوجة، وهم الأولاد، وهم السيارة والعمارة، وهم الدولار والدينار والدنيا، لكن ما هو الهم الأول في خريطة همومك التي تحملها في هذه الدنيا، هل هو هم الدين؟ أم هل هو هم الدنيا؟(152/4)
همة أبي محجن
أيها الشباب! قد يرد علي الآن رجل من آبائنا أو شاب من أحفادنا أو أخت من أخواتنا -وهذا سؤال مثار- ويقول: يا أخي! ولكني أستحي أن أتحرك لدين الله وأنا مقصر وأنا مذنب وأنا عاص أنا أعلم حقيقة نفسي!! أقول: لو تخاذلت عن العمل لدين الله فقد أضفت إلى تقصيرك تقصيراً، وإلى ذنوبك ذنباً، فلا يحملك ذنبك على أن تترك العمل لدين الله، ولا يمنعك تقصيرك، ولا يمنحك إجازة مفتوحة من العمل للإسلام، لا!! خذ هذه الرسالة الرقيقة من أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، رجل مدمن على شرب الخمر، سبحان الله!! مع أنه فارس مغوار، إذا نزل الميدان أظهر البطولة والرجولة! ولكنه ابتلي بإدمانه على شرب الخمر، ومع ذلك تراه جندياً في صفوف القادسية، هل خرج للقتال؟ نعم.
وهو الذي كثيراً ما يؤتى به ليقام عليه الحد.
وفي ميدان البطولة والشرف أتي به لقائد الجيش سعد بن أبي وقاص؛ لأنه قد شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه مرة أخرى، فأمر سعد بن أبي وقاص -خال رسول الله- أن يمنع أبو محجن من المشاركة في المعركة، وأن يقيد حتى تنتهي المعركة؛ لأنه لا تقام الحدود في أرض العدو.
وقيد أبو محجن، وبدأت المعركة، وارتفعت أصوات الأبطال، وقعقعت السيوف والرماح، وتعالت أصوات الخيول!! وفتحت أبواب الجنة لتطير إليها أرواح الشهداء، وهنا احترق قلب أبي محجن الذي جيء به وهو على معصية، لم يفهم أبو محجن أن الوقوع في المعصية يمنحه إجازة مفتوحة من العمل لدين الله، من المشاركة لنصرة لا إله إلا الله، وإنما احترق قلبه وبكى، ونادى على زوج سعد بن أبي وقاص سلمى وقال لها: أسألك بالله يا سلمى! أن تفكي قيدي، وأن تدفعي لي سلاح وفرس سعد؛ لأن سعدا قد أقعده المرض عن المشاركة في القادسية إلا بالتخطيط.
فرقت سلمى لحال أبي محجن، ففكت قيده، ودفعت له السلاح والفرس وقال لها: إن قتلت فالحمد لله، وإن أحياني الله جل وعلا فلك على أن أعود إلى قيدي؛ لأضعه في رجلي بيدي مرة أخرى، وانطلق أبو محجن، وتغير سير المعركة على يد بطل! على يد فارس! حتى قال سعد الذي جلس في عريش فوق مكان مرتفع؛ ليراقب سير المعركة، قال سعد: والله! لولا أني أعلم أن أبا محجن في القيد، لقلت بأن هذا الفارس هو أبو محجن، ولولا أني أعلم أن البلقاء في مكانها لظننت أنها البلقاء، فردت عليه زوجه، وقالت: نعم، إنه أبو محجن وإنها البلقاء، وحكت له ما قد كان!! ولما انتهت المعركة دخل سعد بن أبي وقاص على أبي محجن في موقعه في سجنه، فوجد أبا محجن وقد وضع القيد في رجليه بيديه مرة أخرى، فبكى سعد بن أبي وقاص ورق لحاله، وقال له: قم يا أبا محجن، وفك القيد عن قدميه بيديه، وقال له سعد: والله! لا أجلدك في الخمر بعدها أبداً، فنظر إليه أبو محجن وقال: ربما كنت أزل فيها لأنني أعلم أنني أطهر بعدها بالجلد، أما الآن لا تجلدني، وأنا والله لا أشرب الخمر بعد اليوم أبداً! وصدق مع الله جل وعلا.
فهذه رسالة رقيقة يرسلها أبو محجن الثقفي للعصاة من أمثالي، لأهل الذنوب من أمثالي؛ من أجل ألا تمنحهم ذنوبهم ومعاصيهم إجازة مفتوحة من أن يتحركوا لدين الله، ومن أن تحترق قلوبهم بالعمل لدين الله جل وعلا! حتى الهدهد -ذلكم الطائر الأعجم حين كان في مملكة ضخمة على رأسها نبي، وقد سخر فيها الإنس والجن والطير والريح لهذا الملك النبي- لم يفهم من ذلك أنه قد أخذ إجازة من أجل ألا يعمل لدين الله.
الهدهد؟ إي والله تحرك ليعمل للدين؟ إي والله! بل جاء إلى هذا الملك النبي ليكلمه بكل ثقة: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:22 - 24]، ويعلن الهدهد براءته من عقيدة الشرك والكفر ويقول: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:25 - 26].
هدهد لم يعجز أن يجد لنفسه دوراً في مملكة موحدة لا في بيئات، لا في بلد نحت شريعة الله، بل في مملكة موحدة على رأسها ملك نبي، لم يعجز أن يجد لنفسه دوراً ليعمل لدين الله، فهل تعجز -أيها المسلم وأيها الشاب- أن تجد لنفسك دوراً الآن حتى تعطي نفسك إجازة مفتوحة ألا تتحرك، وألا تعمل شيئاً لدين الله جل وعلا؟!(152/5)
همة نعيم بن مسعود رضي الله عنه
وهذا هو نعيم بن مسعود، رضي الله عن نعيم: ذلكم الفدائي البطل الذي جاء إلى المصطفى في وقت عصيب رهيب، كادت القلوب أن تخرج من الصدور في غزوة الأحزاب، أحاط المشركون بالمدينة من كل ناحية من حول الخندق، وفي لحظات حرجة قاسية نقض يهود بني قريظة العهد مع رسول الله، وشكلوا تهديداً داخلياً خطيراً على النساء والأطفال، وتعاهدوا مع المشركين على أن يحاربوا محمداً معهم.
وهذا هو فعل اليهود، وهذه هي صفتهم، فاليهود لا يجيدون إلا الغدر ونقض العهود، نقضوا العهد مع رسول الله في وقت حرج، ولك أن تتصور الحالة النفسية التي مر بها المصطفى مع أصحابه، وقد وصفها الله في القرآن وصفاً دقيقاً بليغاً، تدبر معي قول الله لهذه الحالة: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:10 - 12].
تصور هذه الحالة! ممن مع رسول الله من يقول: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)، المشركون يحيطون بنا، واليهود نقضوا العهد وسيدمروننا من الداخل، ويقتلون نساءنا وأطفالنا، حالة قاسية! حتى قام المصطفى ليتضرع إلى الله: (اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)، تصور معي هذه الحالة، وفي هذا الوقت الحرج جاء نعيم بن مسعود رضي الله عنه، لماذا؟ أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بين المغرب والعشاء، فالتفت إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: (ما جاء بك يا نعيم؟ قال: جئت أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن ما جئت به هو الحق.
ابسط إلي يديك لأبايعك يا رسول الله!) فبايعه المصطفى، وشهد نعيم شهادة التوحيد، وعلى الفور قال لرسول الله: (يا رسول الله! مرني بما شئت؛ فوالله لا تأمرني بشيء إلا قضيته؛ فإنه لا يعلم أحد من القوم بإسلامي، فقال له المصطفى: يا نعيم! إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة) فانطلق نعيم، ولم يضع النبي له تفاصيل خطة، بل أمره أمراً عاماً: (خذل عنا ما استطعت)، وانطلق نعيم الذي استشعر مسئوليته تجاه هذا الدين، الرجل في مأزق! في فتنة! الإسلام يتعرض لخطر! فلماذا لا أبذل؟! لماذا لا أقدم؟! فكر هذا الفدائي الذي لم يمض على دخوله في دين الله إلا دقائق، ولكنه يستشعر مسئوليته لدين الله، الأحزاب يحيطون بالمدينة، ورسول الله في فتنة خطيرة فليبذل دمه، فليبذل روحه، وهاأنتم ترون الآن الإسلام والمسلمين في محنة، ومع ذلك منا -والله- من لا يفكر في أن يبذل شيئاً لدين الله لا في ليل أو نهار، حتى لو دعونا الناس لمجرد الإنفاق، ترى التقاعس، هذا مسجد مثلاً لله جل وعلا ترون فيه الطابق الثاني منذ متى ونحن نشيده؟ منذ متى ونحن ندعو لتشييده وبنائه؟ والناس يقفون الآن في الشمس، ومع ذلك سيسمع كثير منا هذا اللقاء، وفي جيبه الأموال من فضل الله وسيمضي ولن يساهم ولو بالقليل وكأن الأمر لا يعنيه، لماذا؟ لأن قضية العمل لهذا الدين أصبحت تتمثل في حسه في الخطبة والمحاضرة والندوة، هذا هو العمل للدين، لا، العمل لا ينتهي لدين الله عند خطبة الجمعة، أو عند محاضرة لشيخ، أو عند ندوة لعالم، بل إن الدين يحتاج إلى كل جهد، ولو كان هذا الجهد قليلاً!! نعيم بن مسعود انطلق يفكر كيف يعمل لدين الله.
فتدبروا معي يا شباب، تدبروا معي؛ حتى لا يأتي شاب، فيقول: ماذا أفعل؟ ما دوري؟ لا مانع من أن تستأنس، وأن تسأل إن استشكلت عليك مسألة؛ لكن فكر لدين الله، كيف تعمل وكيف تبذل انطلق نعيم إلى يهود بني قريظة فقال: لقد جئتكم أبذل لكم النصيحة فاكتموا عني.
فقالوا: قل يا نعيم! قال: تعلمون ما بيني وبينكم.
قالوا: لست عندنا بمتهم، وأنت عندنا على ما نحب من الصدق والبر.
فقال نعيم: إن أمر هذا الرجل بلاء، يقصد النبي عليه الصلاة والسلام، فقد استحل نعيم من رسول الله أن يقول ما شاء، فقال له المصطفى: (قل فأنت في حل).
فقال: إن أمر هذا الرجل بلاء، أنتم ترون -يا يهود بني قريظة- ما فعل بيهود بني قينقاع وبني النظير، ولستم كقريش وغطفان، فإن قريشاً وغطفان قد جاءوا من بلادهم ونزلوا حول المدينة، فإن رأوا فرصة انتهزوها، وإن كانت الأخرى عادوا إلى ديارهم وبلادهم وأموالهم، وانفرد بكم محمد؛ ليفعل بكم ما فعل بيهود بني قينقاع وبني النظير، فأنا جئت لكم اليوم أبذل لكم النصيحة.
قالوا: ما هي يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا مع قريش وغطفان حتى تأخذوا سبعين رجلاً من أشرافهم، تستوثقون بهم منهم أنهم لن يبرحوا المدينة حتى يقتلوا محمداً، وحتى يريحوكم من شره.
قالوا: نعم الرأي يا نعيم.
قال: اكتموا عني هذا؛ فإني ناصح لكم.
قالوا: نفعل.
فتركهم نعيم الفدائي البطل، وذهب إلى قائد جيوش الشرك أبي سفيان وقال: يا أبا سفيان! تعلم الود الذي بيني وبينك.
قال: نعم، يا نعيم.
قال: لقد جئتك الآن بنصيحة.
قال: ابذلها! قال: ألا تعلم يا أبا سفيان أن يهود بني قريظة قد ندموا على نقضهم للعهد مع محمد بن عبد الله وذهبوا إليه وقالوا: بأننا لن نقاتل مع قريش ضدك، ولنثبت لك صدقنا سوف نرسل إليك سبعين رجلاً من أشراف قريش وغطفان لتقتلهم، لتعلم أننا قد ندمنا على نقضنا للعهد معك.
ففزع أبو سفيان! فقال نعيم: إياك أن تسلم اليهود رجلاً واحداً من أشرافكم.
قال: أفعل يا نعيم، وشكر له هذه النصيحة الغالية.
وتركه وذهب إلى غطفان، فقال لهم مثلما قال لـ أبي سفيان، وفي الوقت نفسه أرسل اليهود إلى قريش وغطفان ليقولوا: ادفعوا إلينا سبعين رجلاً من أشرافكم؛ لنستوثق بهم أنكم لن تبرحوا المدينة حتى تقاتلوا معنا محمداً، ولن تدعونا؛ لينفرد محمد بقتالنا.
فقالت قريش وغطفان: صدق -والله- نعيم، كذب اليهود عليهم لعائن الله، ولما رفض القرشيون أن يسلموا اليهود الأشراف، وعاد الرسل لليهود قالوا: صدق -والله- نعيم، إنهم يريدون أن ينصرفوا؛ لينفرد محمد بقتالنا، فخذل الله عز وجل بين قريش وغطفان، وبين اليهود على يد نعيم بن مسعود رضي الله عنه، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واستراح قلب النبي داخل المدينة؛ لأن اليهود قد نقضت العهد مرة أخرى مع قريش وغطفان، وقد انشغل قلبه، وانشغلت قلوب أصحابه على ذراريهم ونسائهم وأموالهم داخل المدينة، وهم قد خرجوا ليحاصروا المدينة من الخارج في مواجهة الصف المشرك الذي خندق حولها.
على يد رجل ثبت الله جيشاً، ما وضع النبي صلى الله عليه وسلم له بنود هذه الخطة، بل فكر وعلى قدر الإخلاص والصدق يكون التوفيق من الله جل وعلا.(152/6)
همة الطفيل بن عمرو رضي الله عنه
وهذا هو الطفيل بن عمرو مثال آخر يأتي إلى مكة ورحى الصراع دائرة بين المشركين وبين رسول الله، ويلتقف جهاز الإعلام الخبيث في مكة الطفيل بن عمرو، يستحوذ هذا الجهاز الإعلامي الذي لا يخلو منه زمان ولا مكان على الطفيل بن عمرو، وقال السادة من الزعماء والكبراء ممن يتحكمون في أجهزة الإعلام التي تشوش وتلبس على الناس عقيدتهم ودينهم: طفيل! إنك قد نزلت بلادنا، وقد ظهر فينا هذا الرجل الذي قد مزق شملنا، وشتت جمعنا، وفرّق بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، ونحن نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا في قومنا، فإياك أن تسمع منه كلمة واحدة، أو أن تكلمه كلمة! فإن له كلاماً كالسحر يفرق بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه! قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]، وظلوا يحذرون ويخوفون الطفيل حتى عزم الرجل ألا يقترب من رسول الله، فلما غدا إلى بيت الله الحرام ملأ أذنيه بالقطن، حتى لا يسمع كلمة من رسول الله.
يقول الطفيل: فأبى الله إلا أن يسمعني بعض ما يقول محمد بن عبد الله، يقول: فرأيت محمداً في الكعبة يصلي صلاة غير صلاتنا، ورأيتني قريباً منه، وسمعت آيات القرآن التي يتلوها محمد.
ولك أن تتصور القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لتصدع وتفتت! لك أن تتصور كيف يكون حال هذا القرآن إن خرج بصوت الحبيب المصطفى الذي أنزل الله عليه القرآن!! تحرك قلب الطفيل، ثم قال لنفسه: ثكلتك أمك يا طفيل!! إنك رجل لبيب عاقل شاعر، لا تعجز أن تفرق بين الحسن والقبيح، اسمع للرجل، لا تحكم على الرجل قبل أن تسمع منه، وقبل أن تجلس بين يديه، وقبل أن تراه، وانطلق الطفيل، وتبع النبي صلى الله عليه وسلم حتى خرج من الكعبة إلى بيته، وأخبره بما كان من أمر قريش، وقال له: يا محمد! اعرض علي أمرك، فعرض النبي عليه الإسلام في كلمات يسيرة قليلة جداً، فقال الطفيل: والله! ما رأيت أحسن من أمرك، وما رأيت أعدل من قولك! ابسط إلي يديك لأبايعك يا رسول الله!! وانطلق الطفيل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال الطفيل وهو في موقفه ذاك: يا رسول الله! أرسلني داعية إلى قومي (دوس)؛ فإنهم كفروا بالله، وفشا فيهم الزنا.
ما عندك يا طفيل؟! ما الذي تعلمت يا طفيل؟! إنها المسئولية التي حملها في قلبه مع أول كلمة ينطق بها لسانه لدين الله، ومع أول لحظة حب ووفاء لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ينطق بالشهادة فيعلم أن هذه الشهادة قد أوجبت عليه أن يتحرك لدين الله، لماذا أنت مسلم؟ منذ متى وأنت تصلي؟ منذ متى وأنت تحضر مجالس العلم؟ هل أتيت برجل آخر؟ هل دعوت آخر لدين الله؟ هل نظرت إلى جارك المعرض عن الله جل وعلا فتحسر قلبك ووجهت إليه دعوة لله سبحانه؟ من يحمل هذا الهم؟ لأن قضية العمل لدين الله أصبحت ثانوية هامشية في حس الكثير إلا من رحم ربك جل وعلا، الطفيل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى الفور يستشعر المسئولية لهذا الدين فيقول: أرسلني داعية إلى قومي يا رسول الله! فأرسله المصطفى، ثم قال الطفيل: ادع الله أن يرزقني آية يا رسول الله! فدعا المصطفى ربه أن يرزق الطفيل آية، فما أن وصل إلى مشارف قومه إلا وقد ظهرت الآية التي تتمثل في نور في وجه الطفيل كالقنديل، فقال الطفيل: لا، يا رب؛ حتى لا يقولوا مثلة، حتى لا يقولوا إن الأصنام هي التي فعلت بي ذلك، ولكن اجعل هذا النور على طرف سوطي، فاستجاب الله دعاءه وانتقل هذا النور كالقنديل إلى طرف سوط الطفيل بن عمرو.
وذهب إلى قومه فدعاهم إلى الله، ثم عاد بعد ذلك يقول للمصطفى: يا رسول الله! هلكت (دوس)، ادع الله عليهم! فرفع صاحب القلب الكبير يديه إلى السماء ودعا الله جل وعلا وقال: (اللهم اهدِ دوساً وأت بهم)، فاستجاب الله دعاء المصطفى، وعاد إليهم الطفيل بعد ذلك، ثم عاد بدوس كلها تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى رأس دوس راوية الإسلام العظيم أبو هريرة رضي الله عنه، الذي سيأتي مع قبيلة دوس في ميزان الطفيل بن عمرو يوم القيامة، كما ستأتي الأمة كلها في ميزان المصطفى صلى الله عليه وسلم!!(152/7)
أكبر هم ينبغي لكل مسلم أن يحمله
لابد من مصارحة للنفس، نقب عن الهم الأول في خريطة همومك التي تحملها في هذه الحياة الدنيا، أنت ما خلقت إلا لدين الله ولعبادة الله، ولطاعة الله، قال جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه هي الغاية، وتلك هي الوظيفة التي تحولت في حياتنا إلى فرع بل إلى لا شيء في حس كثير ممن ينتسبون إلى هذا الدين، وظن قطاع عريض من المسلمين أن الدعوة إلى الله، وأن بذل الجهد لدين الله إنما هو أمر مقصور على فئة من العلماء الصادقين، والدعاة المخلصين، وهذا ورب الكعبة وهم كبير؛ فإننا جميعاً أيها الأخيار ركاب سفينة واحدة إن نجت هذه السفينة نجونا، وإن هلكت هلكنا، كما في صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أن البشير النذير صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسلفها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً؛ حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى: لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً).
فنحن جمعياً ركاب سفينة واحدة، إن هلكت السفينة هلك الصالحون مع الطالحين، هلك المتقون مع المفسدين، ويبعث بعد ذلك كل واحد على نيته يبعث كل واحد على ما مات عليه، فالعمل للدين ليس مسئولية العلماء والدعاة فحسب، بل هو مسئولية كل مسلم ومسلمة ينبض قلبه بحب هذا الدين، وبالولاء والبراء، وبحب عقيدة لا إله إلا الله.
بكل أسف فرق قطاع عريض من الأمة بين حقيقة الانتماء لهذا الدين وبين العمل له، لا معنى إطلاقاً لأن تكون منتمياً للإسلام دون أن تبذل للإسلام أي شيء، لا معنى لانتمائك هذا البتة! ما معنى انتمائك للإسلام ولهذا الدين؟ لا تفرق بين انتمائك وعملك، لا تفرق بين انتمائك وجهدك، لا تفرق بين انتمائك وحركتك لدين الله في الليل والنهار على حسب قدرتك وإمكانياتك واستطاعتك.(152/8)
همة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
تعلموا -أيها الأخيار- من أصحاب النبي المختار الذين فهموا أن الانتماء لدين الله جل وعلا يستوجب أن يبذل الواحد منهم أقصى ما في طاقته من جهد لهذا الدين، هذا هو صدِّيق الأمة الأكبر وأسألكم بالله أن تتدبروا هذه النماذج، فأنا لا أسوقها لمجرد الثقافة الذهنية الباردة، ولا من أجل التسلية وتضييع الوقت، بل أسوق هذه الأمثلة ليقف كل واحد منا مع نفسه الآن؛ ليسأل نفسه بعد هذه الخطبة: ماذا قدمت أنا لدين الله جل وعلا؟ هذا صديق الأمة الأكبر، شرح الله صدره للإسلام؛ فنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله، وعلى الفور.
يستشعر مسئوليته تجاه هذا الدين، أنا أسألكم بالله: ما الذي تعلمه أبو بكر في هذه الدقائق من رسول الله سوى الشهادتين؟! مع سماعه لكلمات يسيرة جداً من المصطفى، ومع ذلك يستشعر مسئوليةً ضخمةً تجاه هذا الدين بمجرد أن ردد لسانه الشهادتين، فيترك الصديق رسول الله وينطلق ليدعو، ليدعو بماذا؟ والله ما عكف على طلب العلم سنوات لينطلق بعد ذلك للدعوة، ولكن بالقدر الذي أعطاه الله من النور خرج وهو يستشعر مسئوليته الضخمة لهذا الدين، ليست العبرة بالمحاضرات الطويلة الرنانة المؤثرة، والله يا أخي لو علم الله منك الصدق والإخلاص، وتكلمت كلمة واحدة لحركت كلمتك القلوب، فكم من محاضرات لا تحرك ساكناً، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، فالإخلاص والصدق هما اللذان يحركان القلوب، الكلمة إن كانت صادقة وإن كانت مخلصة ولو كانت يسيرة قليلة تحيي القلوب الموات، قال الشاعر: بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها الأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب يهواها والسر هو: الصدق والإخلاص، تحرك الصديق بكلمات يسيرة جداً، هل تصدق أيها المسلم أن الصديق بهذه الكلمات المخلصة الصادقة قد عاد إلى النبي في اليوم التالي لإسلامه بخمسة من العشرة المبشرين بالجنة؟! إنها بركة الدعوة وبركة الحركة والجهد لدين الله، ما قال: لا، تحرك بالقدر الذي من الله به عليك من علم في الدين، من علم في الدنيا، من علم في أي جانب، استغل مركزك ومنصبك لدين الله سبحانه، المهم أن ترى في قلبك هماً لدين الله، المهم أن تفكر كيف تعمل شيئاً لدين الله سبحانه.(152/9)
تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة
أقول: يجب أن نزيل من قلوبنا وهماً كبيراً يتمثل في أن العمل للدين هو الخطبة والندوة والمحاضرة، لا! بل إن العمل للدين مسئولية كل مسلم ومسلمة على وجه هذه الأرض، وهذا هو عنصرنا الثالث: تبعة ثقيلة وأمانة عظيمة أطوق بها الأعناق.
أيها المسلمون في كل مكان! يا من تستمعون إلي الآن في هذا البيت المبارك أو عبر شريط (الكاست) بعد ذلك! اعلموا بأن كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض نبض قلبه بحب الله، وحب رسول الله، واجب عليه أن يتحرك لدين الله على حسب قدرته واستطاعته وإمكانياته المتاحة، ليس بالضرورة أن ترتقي المنبر هنا، ليس بالضرورة أن تجلس على الكرسي لتحاضر، لكن لابد أن تتحرك لدين الله في موقعك.
أنت طبيب، هل حولت الإسلام في حياتك إلى عمل؟ أنت مدرس، هل حولت الإسلام في فصلك إلى منهج حياة؟ أنت موظف، هل اتقيت الله في عملك وراقبت الله في السر والعلن، وقال الجمهور ممن يتعاملون معك: هذا موظف مسلم يخشى الله جل وعلا، أم أنك لا تقدم شيئاً إلا إن أخذت الرشوة بأسلوب صريح أو غير صريح؟ أين الإسلام؟ أين الإسلام في واقع حياتنا؟ هل شهدنا للإسلام شهادة عملية سلوكية أخلاقية بعدما شهد كلنا شهادة قولية باللسان؟ مع أننا نعلم يقيناً أن القول إن خالف العمل بذر بذور النفاق في القلوب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، ونحن نقول ما لا نفعل إلا من رحم ربك جل وعلا، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن رحم! العمل للدين مسئولية كل مسلم، وهاأنا سأضع لك خطوات عملية فاحفظها، حتى لا تسأل بعد ذلك: ما هو دوري؟ ماذا أفعل؟(152/10)
حول ما تعلمته إلى واقع عملي
الخطوة الثالثة: حملت هم الدين وتعلمت وفهمت؟ يجب عليك بعد ذلك أن تحول هذا الدين الذي تحمل همه والذي تعلمته وفهمته في حياتك إلى واقع عملي وإلى منهج حياة.(152/11)
تحرك لنصرة هذا الدين
الخطوة الرابعة: إن فعلت ذلك فاخط على الطريق خطوات عملية لازمة، تتمثل في: أن تدعو غيرك لهذا الدين الذي تحمل همه، ولهذه القضية التي تعتنقها، والتي تعلمتها وفهمتها وعملتها، تحرك بعد ذلك على الفور لدين الله جل وعلا؛ لتبلغ غيرك، ولتنقل هذا النور، فلا تكن زهرة صناعية -أي: من صنع البشر- لا تحمل من عالم الأزهار إلا اسمها، وكن زهرة كالأزهار التي خلقها الله لا تحبس عن الناس أريجها وعطرها، فإن من الله عليك بالنور فانقل هذا النور إلى غيرك من المسلمين، ولتتحرك الأخت المسلمة لتنقل هذا النور إلى غيرها من الأخوات المسلمات.
تكثيرك لسواد المسلمين الآن في خطبة الجمعة أو في محاضرة من المحاضرات؛ لإغاظة المنافقين، لتبين لهم أننا لا زلنا نحب هذا الدين، وتحترق قلوبنا له هذا عمل للدين.
جلوسك في مجلس علم لتتعلم عقيدة التوحيد، ولتعمل بها ولتعلمها غيرك عمل للدين.
جلوسك في حلقة قرآن بعد العصر لتحفظ القرآن، ولتحفظه غيرك بعد ذلك عمل للدين.
تربيتك لزوجتك وأولادك تربية طيبة على القرآن والسنة عمل للدين.
اهتمامك بدروسك -أيها الطالب المسلم- وتفوقك في جامعتك ودراستك وحصولك على المراكز الأولى عمل للدين.
اهتمامك بزوجك -أيتها المرأة المسلمة- وحفظك لعرضه ولشرفه، ووقوفك إلى جواره في تربية الأولاد تربية طيبة وعدم الإنهاك لظهره بالطلبات والنفقات التي لا يقدر عليها عمل للدين.
التزامك -أيها الموظف والمسئول المسلم- بعملك في مواعيده المنضبطة وإصلاحك وتفانيك في خدمة جماهير المسلمين عمل للدين.
صدقك في كلامك وإخلاصك في وفائك للوعود والعهود عمل للدين، نشرك لشريط استمعته واستفدت منه عمل للدين، إلصاقك لإعلان خطبة جمعة أو لمحاضرة علم عمل للدين.
غيرتك في قلبك على حرمات الله التي تنتهك عمل للدين.
أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر عمل للدين.
صدقك وإخلاصك في أي عمل عمل للدين.
دعوتك لغيرك بالحكمة والرحمة عمل للدين.
رفقك في نصيحة إخوانك عمل للدين.
إنفاقك لمال على فقير أو يتيم أو مسكين عمل للدين.
تخصيصك لجزء من راتبك للدعوة إلى الله أو للإنفاق على طالب علم أو لداعية من الدعاة عمل للدين.
مساهمتك في بناء مسجد كهذا عمل للدين، ماذا تريدون بعد ذلك؟!! والله! لا يترك هذا المجال الفسيح إلا مخذول محروم، ابذل أي شيء، أهل الباطل يتحركون بكل قوة، نتنياهو يعلمنا كيف يكون البذل للعقيدة وهو على الكفر، وأهل الحق وأهل التوحيد في تقاعس مرير، بالله عليكم: ماذا لو تحرك هذا الجمع الذي يتكون من الآلاف بين يدي، ماذا لو تحرك كل هذا الجمع ليتحولوا إلى دعاة صادقين في مواقع الأعمال، ومواطن الإنتاج، وعلى كراسي الوظائف؟ ماذا يكون لو تحولوا جميعاً إلى دعاة صادقين لدين الله جل وعلا؟ أيها الأخيار الكرام! الرسول يحملنا هذه الأمانة: (بلغوا عني ولو آية) والحديث في الصحيحين، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف)، أسأل الله ألا يجعلنا منهم.
فلن تكون من حواريي وأنصار رسول الله إلا إذا حملت هم دعوة النبي في قلبك، وإلا إذا تحركت لها وفكرت لها في النوم واليقظة والسر والعلانية، يقول ابن القيم في تعليقه على قول الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، يقول ابن القيم رحمة الله عليه: لن يكون الرجل من أتباع النبي حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة، فهل دعوت إلى الله؟ هل تحركت لدين الله أيها الحبيب؟ هل تحركت لدين الله يا أختاه؟ تحركوا -أيها المسلمون- من الآن، الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم ومسلمة كل بحسب قدرته، هذا ما قرره علماؤنا في هذا الزمان؛ لأن الكفر انتشر؛ ولأن الإلحاد ظهر؛ ولأن الزندقة كثرت؛ ولأن العلمانيين يهدمون صرح الإسلام في الليل والنهار، فيجب عليك أن تتحرك في حدود قدراتك وإمكانياتك، واعمل ولست مسئولاً عن النتيجة، الله جل وعلا يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
لا أريد أن أشق أكثر من ذلك على أحبابي وإخواني الذين أراهم يقفون في الشمس قبل أن أرتقي هذا المنبر، ولذا فأنا ألزم الجميع الآن ترجمة عملية للعمل لدين الله سبحانه، ألا يفارق هذا المكان أحد صلى معنا إلا وقد ساهم بأي شيء لننهي الدور الأعلى في هذا البيت الكريم المبارك؛ حتى لا نشق على إخواننا بعد ذلك في صلوات الجمعة فيجدون مكاناً يسمعون فيه قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابحث أنت بنفسك عن إخوانك الذين يجمعون، فإن كل تبرعات اليوم لتشييد الدور الثاني في هذا البيت الكريم المبارك الذي يمثل منارة للتوحيد والهدى في محافظة (الدقهلية) بأكملها، أسأل الله جل وعلا أن ينفع به وأن ينفعنا وإياكم بما نسمع وبما نقول، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(152/12)
احمل هم هذا الدين في قلبك
الخطوة الأولى: احمل هم الدين في قلبك، حاول أن تكون لقضية الدين مساحة في خريطة اهتماماتك وبرامجك، وأن يحرك الدين عواطفك، وأن يحرق هم الدين وجدانك، هذه أول خطوة، فمحال أن يتحرك الإنسان لشيء لا يعتقده، لا يحمله في قلبه، فاحمل هم الدين في قلبك لتتحرك له.(152/13)
فرغ شيئاً من وقتك لتتعلم الفرائض
الخطوة الثانية: فرغ شيئاً من وقتك، لابد حتماً حتى ولو ساعة في اليوم لدين الله؛ لتتعلم الدين، لتفهم الدين فهماً صحيحاً على أيدي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، لابد أن تفرغ وقتاً من وقتك لتتعلم، محال أن تنصر شيئاً تجهله.
فرض عين عليك يا مسلم، وفرض عين عليك أيتها المسلمة، فرض عين على كل مسلم أن يتعلم فروض الأعيان؛ ليعبد الله عبادة صحيحة: تتعلم الصلاة، وأحكام الصلاة، وأركان الصلاة، ونواقض الصلاة، ومبطلات الصلاة.
تتعلم قبل الصلاة التوحيد، وحقيقة التوحيد، ومكانة التوحيد، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى الأمة ابتداءً على التوحيد.
وتتعلم كيفية الصيام، وأحكامه، وآدابه، وسننه.
وتتعلم الزكاة، ومقادير الزكاة، وكيف تخرج الزكاة.
وتتعلم البيوع، إذا كنت تاجراً يتاجر بالدرهم والدينار.
وتتعلم مناسك الحج، فرض عين عليك أن تتعلم فروض الأعيان؛ لتعبد الله جل وعلا عبادة صحيحة.
فهل تعلمتها؟ هل فرغت شيئاً من وقتك لتجلس بين يدي العلماء والدعاة لتتعلم دين الله؟ هذه هي الخطوة العملية الثانية.(152/14)
فجر الإسلام قادم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لا أريد أن أفارق الأحبة إلا وقد سكبت الأمل في القلوب سكباً بأن المستقبل لهذا الدين، فإن عنصرنا الأخير هو: فجر الإسلام قادم.
حتى نعلم يقيناً أن الله سينصر دينه بنا أو بغيرنا قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، إن انصرفت عن مجالس العلم فلن تضر الله شيئاً، إن تقاعست عن الإنفاق في سبيل الله فإن الله هو الغني، إن انصرفت عن العمل لدين الله فإن الله لا يريد منك عملاً، أنت الخاسر، الله جل وعلا لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية وهو القادر على كل شيء، ولكنه يأمرك لأنه يريد بك ولك الخير، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
فالله سبحانه ناصر دينه بنا أو بغيرنا، وإن المستقبل للإسلام برغم كيد الفجار والمنافقين والعلمانيين! إن المستقبل لدين الله جل وعلا بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا لا أقول هذا الكلام رجماً بالغيب، ولا من باب الأحلام الوردية، لتسكين الآلام وتضميد الجراح، لا، بل هذا هو قرآن ربنا يتلى، وهذه أحاديث نبينا تُسمع، إن المستقبل لهذا الدين، وإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم بإذن الله جل وعلا! إن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف -أيها الشباب- ليس هو ضخامة الباطل، ولكن الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولاشك أبداً أن معنا الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل، معنا رصيد فطرة الكون، معنا رصيد فطرة الإنسان التي فطرت على التوحيد، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها -والله- من معية كريمة لو عرف الموحدون قدرها، ولو عرف المسلمون عظمتها وجلالها، قال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
فالمستقبل للدين، ونصرة الله لدين الله جل وعلا، هذا وعد منه سبحانه، ووعد من نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، وقال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
وأختم بهذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
فالله ناصر دينه بنا أو بغيرنا، فهل ستتقاعس عن هذا الشرف؟ هيا سابق الزمن قبل أن يأتيك ملك الموت فتندم يوم لا ينفع الندم، هذه أمانة أطوق بها أعناق كل مسلم ومسلمة على وجه الأرض يستمع إلى هذه الكلمات معي الآن أو عبر شريط (الكاسيت) بعد ذلك، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، اللهم باعد بيننا وبين النفاق والرياء كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم لا تجعل خطنا من ديننا أقوالنا، اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، اللهم لا تجعل حظنا من ديننا قولنا، وارزقنا الصدق والإخلاص في نياتنا وأقوالنا وأعمالنا وأحوالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم طهر الأقصى من دنس اليهود يا كريم، اللهم طهر الأقصى من رجس اليهود يا كريم، اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود وعملاء اليهود، اللهم زلزل الأرض من تحتهم يا رب العالمين! اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم ناراً، اللهم حرق قلوبهم وبيوتهم قبل أن يحرقوا الأقصى برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وآمنا روعاتنا، واكشف همومنا واقض حوائجنا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.(152/15)
الحرب على الثوابت [1]
هناك شرذمة من الأقزام تطاولوا على أصول الدين ومبادئه، ونالوا من كل ما هو مقدس في الإسلام، وعدوا ذلك خروجاً من الظلامية والرجعية.
ومن أصول الدين الذين قام هؤلاء بحربه وتشويه صورته مكانة الصحابة وعدالتهم.(153/1)
التحذير من أهل الأهواء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم! اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ودعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت)، سلسة منهجية جديدة قد تحتاج إلى عشرة لقاءات إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء، أفند فيها شبهات حقيرة خطيرة تثار الآن ضد الإسلام، لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الثوابت والأصول والكليات، ولا يتولى كبرها المستشرقون كما كان الحال قديماً، بل يتولى كبرها ويشعل نيرانها الآن رجال من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتسبون زوراً لإسلامنا.
وصدق ربي إذ يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
وقد وصف الصادق الذي لا ينطق عن الهوى هذا الصنف الخبيث وصفاً دقيقاً في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم.
وفيه دخن.
قلت: وما دخنه يا رسول الله؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي: الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم.
دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها.
قلت: صفهم لنا يا رسول الله.
قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وفي رواية مسلم قال: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس).
وبكل أسف يسمون في بلاد المسلمين الآن بالنخبة من أصحاب الفكر والأدب والفن، ويفاض عليهم من الدعاية الكاذبة ما يغطي انحرافهم ويستر جهلهم، وينفخ فيهم ليكونوا شيئاً مذكوراً للي أعناق البسطاء من المسلمين إليهم لياً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال.
فما نال سلمان رشدي جائزة الدولة النمساوية إلا إيماناً بآياته الشيطانية، تلك النخبة من أصحاب الشذوذ الفكري التي رفعت الآن على الأعناق، بل وعلمت أن أقصر طريق للوصول إلى الشهرة الكاذبة هو النيل من ثوابت وأصول الإسلام، وما حصل الطاهر بن جولون على جائزة الجنكور الفرنسية إلا لروايته الخبيثة التي أسماها (ليلة القدر)، وما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل إلا لـ (أولاد حارتنا)، وما نال نصر أبو زيد هذه الشهرة العالمية، وبكى عليه الحاقدون على الإسلام من أمثاله، ما بكوا عليه الدموع مدراراً إلا يوم أن تطاول على ثوابت الإسلام ودك أصوله من أولها إلى آخرها.
نخبة أصيبت بشذوذ فكري، والمصيبة الكبرى أنهم يعلنون الحرب على ثوابت الإسلام وأصوله تحت شعار مزيف يسمى بشعار (حرية الفكر والرأي)، وتحت شعار فتح آفاق المعرفة والخروج من الظلامية والرجعية والانغلاقية والتعصب والتزمت.(153/2)
اتخاذ أهل الأهواء حرية الفكر والرأي ذريعة للطعن في الدين
أهل الأهواء يعلمون يقيناً أن ما يقولونه لا يمت بأدنى صلة إلى حرية الفكر والرأي، فلا يستطيع أحدهم أن يتطاول أبداً على أصول الدولة أو على أمن الدولة أو على قيادة الدولة أو على قسيس من قساوسة الدولة؛ لأن هذا لا يمكن بحال أن يندرج تحت حرية الفكر والرأي، هم يعلمون ذلك جيداً.
فهل التطاول على ذات الله جل جلاله من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على القرآن، والتشكيك في القرآن من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على ثوابت الإسلام وأصوله من حرية الفكر والرأي؟! هل التشكيك في سنة النبي والغمز بعدم قدسية سنة النبي من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على مقام النبي محمد من حرية الفكر والرأي؟ هل الغمز واللمز بأصحاب النبي من حرية الفكر والرأي؟ هل التطاول على الملائكة الكرام البررة من حرية الفكر والرأي؟ هل الدعوة إلى أدب الجنس الفاضح، أدب الدعارة القذرة النجسة من حرية الفكر والرأي؟ فقليلاً من الإنصاف والعدل يا أدعياء الأدب والفكر في أمتنا الإسلامية والعربية، {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22]، لا يُتطاول على قانون الدولة ودستور الدولة وقيادات الدولة، في الوقت الذي يتطاول فيه على الله، وعلى القرآن، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصول وثوابت الإسلام.
فقليلاً من الإنصاف والعدل -يا سادة- لنصل إلى الحقيقة، فما تروجون له لا يمت بأدنى صلة لحرية الفكر والرأي، فنحن مع حرية الفكر وحرية الرأي، لكن بضوابط الإسلام الذي تدين به الأمة، بضوابط الإسلام الذي يحبه أهله، بل إن الإسلام دين الحرية، فهو يدعو إلى الحريات بالضوابط الشرعية المعروفة.
أما أن يتطاول على ثوابت وأصول الدين باسم حرية الفكر والرأي فليس هذا من الدين، بل ولا من الأخلاق، بل ولا هو من الأدب في شيء.(153/3)
الطعن في الصحابة حرب للإسلام
بدأ هؤلاء الذين يسمون بالنخبة بإعلان الحرب على الصحابة، وأود أن أوضح أنني سوف أكرر هذه السلسلة في كل مكان أذهب إليه؛ لأنه مرض العصر الآن.
بدءوا بإعلان الحرب على الصحابة، وهذا هو أول لقاء أستهل به هذه السلسلة التي أسميتها بالحرب على الثوابت، وكعادتي سيكون الحديث في نقاط محددة حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، وهذه النقاط هي: أولاً: حرب سافرة.
ثانياً: مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله.
ثالثاً: وهل يسب الأطهار؟ رابعاً: هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً أيها الأخيار! والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].(153/4)
الطعن في الصحابة زندقة
أولاً: حرب سافرة: ظهرت الآن كتب خبيثة في السوق تشن حرباً على الصحابة بألفاظ قذرة فاجرة يعف اللسان الطيب عن ذكر فقرة من هذه الفقرات، ووالله لولا أننا نود أن نثبت بالدليل خبث عقيدتهم.
وفساد طويتهم لما ذكرت كلمة واحدة من كلماتهم الخبيثة التي شحنت بها الكتب، والتي تطبع الآن وتروج في المعارض والأسواق والمكتبات.
وقبل ذلك: لماذا بدءوا بإعلان الحرب على صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول الحافظ أبو زرعة في جوابه على
السؤال
إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي فاعلم أنه زنديق، وذلك لأن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به النبي من عند الله حق، والذي نقل إلينا كل ذلك هم الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة.
ويقول الإمام مالك إمام دار الهجرة: من وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي فقد أصابه قول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
وقال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.(153/5)
أمثلة لطعن أهل الأهواء المعاصرين في الصحابة
ليس من الفقه ولا من الحكمة أن أذكر أسماء هؤلاء أو أسماء كتبهم حتى لا أروج لأسمائهم ولا لكتبهم من حيث لا ندري.
يقول أحدهم بالحرف: (إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي) هل تتصور أن مجتمع الصحابة هكذا؟! الصحابة الذين رباهم رسول الله، يقول هذا الرتيع الوضيع: (ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة، بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات).
ثم يقول: (ولما كان التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد رفعاً للحرج أن يبيح لهم أن يمروا في المسجد وهم جنب).
هل تدبرتم هذه الكلمات الخبيثة؟ وهكذا تبين كلماتهم الخبيثة فساد طويتهم وخبث عقيدتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويقول هذا الرتيع الوضيع أيضاً: (لما أرسل علي بن أبي طالب ابنته أم كلثوم إلى خطيبها عمر بن الخطاب بادر عمر بمعاينة ساقيها؛ ليتأكد من جودة البضاعة أو جودة الصنف).
أتحدى هذا الأثيم أن يتطاول على قسيس، أو على وزير، أو على رئيس الدولة، لكن التطاول على أطهر الخلق بعد الأنبياء أصبح أيسر الطرق للشهرة الكاذبة، للشهرة الخبيثة، ما على أحدهم إلا أن يملأ قلمه بمداد نجس، بمداد عفن؛ ليتطاول على أطهر الخلق بعد الأنبياء.
أيها الأحبة! أود أن تنتبهوا لهذا التأصيل المهم: لا يجوز البتة لرجل زائف العقيدة، مريض القلب، مجوف الفكر، أن يتطاول أو أن يكتب عن أصحاب النبي؛ لأن الحديث عن الصحابة يتطلب صفاء في العقيدة، وأمانة في النقل، وإخلاصاً في النية، ودقة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذابين والوضاعين.
على أي حال؛ أنا لا أرى لهؤلاء الأقزام الأنذال الذين يتطاولون على أهل الطهر مثلاً إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة تمر عملاقة، فلما أرادت الذبابة الحقيرة أن تطير وتنصرف، قالت لنخلة التمر العملاقة: تماسكي أيتها النخلة؛ فإني راحلة عنك، فردت عليها النخلة العملاقة وقالت: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة! فهل أحسست بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟! هل يضر السماء نبح الكلاب؟! هل يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء؟(153/6)
مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله
الذي رفع قدر أصحاب النبي وزكاهم هو الرب العلي والحبيب النبي، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز: مكانة الصحابة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم:(153/7)
أحاديث في فضل الصحابة
في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني)، شهادات من الله وشهادات من رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
وفي الصحيحين من حديث أنس أنه قال: (مروا بجنازة والنبي جالس بين الصحابة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وجبت، فمروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مرت جنازة فأثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، ومرت أخرى فأثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (أن النبي نظر يوماً إلى النجوم في أفق السماء، فقال عليه الصلاة والسلام: النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
وفي صحيح مسلم من حديث عائذ بن عمرو: أن أبا سفيان مر على نفر من أصحاب النبي فيهم بلال وصهيب وعمار، فلما رأى فقراء الصحابة أبا سفيان قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فلما سمع الصديق رضي الله عنه هذه الكلمة غضب وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟، ثم ترك الصديق الصحابة وانطلق إلى النبي فأخبره بما قالوا وبما قال.
وانظر إلى ما قال سيد الرجال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الرجل الأول في الأمة بعد نبيها، ماذا قال النبي للصديق؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم -أي: أغضبت بلالاً وعماراً وصهيباً وسلمان -؟ فلئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، ولم لا وهؤلاء هم الذين عوتب فيهم رسول الله، ونزل عليه قول الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]؟ فرجع الصديق يجري إلى أصحاب النبي وهو يقول: إخوتاه! أوغضبتم مني؟ فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي.
وأختم بهذا الحديث -وإن كان في سنده مجهول من باب الأمانة العلمية إلا أن متنه تشهد له الأحاديث السابقة-، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله أن يأخذه).(153/8)
آيات في فضل الصحابة
قال الله جل وعلا لأصحاب النبي ابتداء: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
فالصحابة هم المخاطبون ابتداء بهذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وهم المخاطبون ابتداء بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وهم المخاطبون بقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172 - 174].
وهم المخاطبون بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74]، والصحابة هم المخاطبون بقول الله جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
والصحابة هم المخاطبون بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10].
والصحابة هم الذين قال الله في حقهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]، والصحابة هم الذين قال الله في حقهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، والصحابة هم الذين قال الله في حقهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9].
لو أردت أن أبين مكانة الصحابة عند الله بآيات مجردة من كتاب الله لاحتجت إلى لقاءات متتالية متوالية، فمكانة الصحابة عند الله عظيمة، ومكانة الصحابة عند رسوله كريمة.(153/9)
فضائل الصديق
أيها الحبيب! هل يسب هؤلاء؟ هل يسب هؤلاء الذين زكاهم الله وعدلهم وزكاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل يسب الأطهار؟ هل يسب أبو بكر؟ هل يسب عمر؟ هل يسب عثمان؟ هل يسب علي؟ هل يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟(153/10)
الصديق أقرب الصحابة من رسول الله وأعلمهم به
الصديق رضوان الله عليه ذلكم الرجل الكبير في بساطة، القوي في تواضع ورحمة، الصديق رضوان الله عليه الذي بين النبي للأمة مكانته قبل موته بأيام قليلة، يوم ارتقى النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، والحديث في الصحيحين من حديث أبي سعيد ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من الدنيا ما شاء وبين ما عند الله فاختار ما عند الله)، فقام الصديق رضي الله عنه في المسجد وبكى والتفت إلى حبيبه ومصطفاه وقال: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، وضج الناس بالمسجد، وتعجبوا من صنيع أبي بكر وقالوا: عجباً لهذا الشيخ، الرسول يتكلم عن عبد مخير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، فلماذا يقول الصديق هذا؟ إلا أن الصديق -كما قال أبو سعيد - كان أفهم الصحابة لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فلقد علم الصديق أن العبد المخير هو المصطفى، فقال النبي: (على رسلك يا أبا بكر.
ثم قال: أيها الناس! إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر)، وقال: (ما نفعني مال أحد قط مثلما نفعني مال أبي بكر)، وقال: (كلكم كان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق، فإنا قد تركنا مكافأته لله عز وجل)، وقال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة وصحبة، وأمرهم في شأن الأبواب التي تطل على المسجد أن يسدوها من ذلك اليوم إلا باب أبي بكر رضي الله عنه).
وفطن العلماء إلى أن في هذه الكلمة إشارة إلى أن الباب الذي سيظل مفتوحاً بعد موت المصطفى هو باب أبي بكر رضي الله عنه، فهو أجدر الصحابة بلا نزاع ليتقدم ليسد فراغاً رهيباً يتركه المصطفى بموته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(153/11)
أعظم موقف للصديق
من خلال مطالعتي لسيرة هذا الطاهر العملاق أرى أن أعظم وأجل موقف وقفه الصديق لهذه الأمة يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم وطاشت عقول الصحابة، حتى قال الفاروق الأواب عمر: إن رسول الله ما مات، بل ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن فيقطع أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات.
هذا ما قاله عمر الفاروق، فما ظنك بما قاله سائر الصحب الكرام؟ إلا أن الله قد ثبت الصديق رضي الله عنه، وتجلى في هذا اليوم إيمانه، واستوى على عرش اليقين يقينه، فشق الصفوف ودخل على غرفة حبيبه رسول الله في حجرة عائشة، فوجد المصطفى مسجى، وعلم أن الأمر قد تم وأن المصيبة قد وقعت، وأن رسول الله قد مات، فقبل الصديق رسول الله، وفي الرواية التي حسنها الألباني في مختصر الشمائل أنه نادى عليه وهو يبكي ويقول: وا نبياه وا نبياه.
وا صفياه وا صفياه.
وا حبيباه وا حبيباه.
وا خليلاه وا خليلاه.
ثم قال -كما في لفظ الصحيحين-: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم)، وخرج الصديق إلى الناس وهو يقول لـ عمر: على رسلك يا عمر.
أي: اصبر يا عمر فخطب الناس خطبة عصماء، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على حبيبه المصطفى، ثم قال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
وقرأ قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، فعقر عمر وسقط على الأرض، وعلم أن حبيبه قد مات.
أيا عبد كم يراك الله عاصياًً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا إذاً: يا راية الله رفرفي إذاً يا خيل الله اركبي إذاً: يا جند الله سيروا.
فليتقدم الصديق ليرفع الراية وليواصل المسيرة بعد حبيبه ومصطفاه، إن هذا الموقف كان بمثابة الأسوة الحقيقية التي شدت اتجاه التاريخ إلى هذا العملاق، إلى صديق الأمة الذي لم تنته بركاته على أمة الحبيب محمد، بل بعد موت رسول الله أرسل بعث أسامة ليؤدب القبائل التي اعتدت على حدود الدولة الإسلامية.
ومن بركاته على الأمة أنه جمع القرآن بعد معركة اليمامة التي مات فيها عدد كبير من حفاظ القرآن من أصحاب رسول الله، ولم تنته بركاته على الأمة، بل قبل أن يلقى الله اختار عمر بن الخطاب خليفة مكانه لهذه الأمة، وقال: إن سئلت عن ذلك بين يدي ربي أقول: وليت عليهم أقواهم فيما أعلم.
فهل بعد هذا يسب الصديق؟ والله إن القلب ليحترق، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء، والله لا أجد في قواميس لغة أهل الأرض جميعاً ما أستطيع أن أعبر به عن هذا الظلم الذي نحياه، أيسب الصديق؟! أيسب أطهر رجل في الأمة بعد المصطفى؟! ما هذا الذل والهوان؟! يا رب! ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما قال السفهاء منا.(153/12)
الصديق أحب الرجال إلى رسول الله
يسب صديق الأمة رضوان الله عليه، ذلكم العملاق الكبير، وهل تظن أنني أرفع من قدره وأنا أدافع عنه؟! لا وربي، بل أرفع من قدر نفسي ومن قدر إخواني بالذود عن أبي بكر رضي الله عنه وعن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.
هو صديق الأمة، ورفيق النبي في جميع الأحوال، وصاحب النبي في الأسفار، وجار النبي صلى الله عليه وسلم في الروضة المحفوفة بالأنوار، السابق إلى التصديق، المؤيد من الله بالمدد والتوفيق، أحب الناس إلى قلب سيد الرجال، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها.
قال: ثم من؟ قال: ثم عمر).
الصديق الذي لم يتلعثم في إيمانه قط، ولم يتردد طرفة عين، بل كان شعار هذا العملاق الطاهر الكبير إذا تشككت الصدور، وتلعثمت الكلمات والألسنة: (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق)، قال ذلك في الإسراء وفي الإسلام وفي الحديبية.
ولذلك قال عمر -والأثر في مسند أحمد بسند حسن-: (لو وزن إيمان أبي بكر) بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر، هذا هو الذي سبق به الصديق جميع أصحاب رسول الله، لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه.(153/13)
الصديق يدعى من أبواب الجنة كلها
الصديق رضوان الله عليه لم يدع سبيلاً من سبل الخير إلا وسلكه.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أنفق زوجين من الأشياء في سبيل الله يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الجهاد -أسأل الله أن يرفع علمه- دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر: يا رسول الله! وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر).
وفي رواية ابن حبان بسند صحيح من حديث ابن عباس: (قال الصديق: وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها يا رسول الله؟ فقال نعم.
وأنت هو -يا أبا بكر - هذه مكانتك وتلك منزلتك).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة (أن النبي سأل الصحابة يوماً: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: فمن عاد اليوم منكم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).(153/14)
فضل عمر
بعض الناس يسب عمر الفاروق الأواب التواب، أيسب الفاروق عمر؟ عمر الذي قدم للناس أسوة لا تبلى ولن تفنى، إنها قدوة تتمثل في رجل كبير أتت الدنيا كلها على عتبة داره بأموالها وذهبها وزخرفها وسلطانها، بأموال كسرى وبأموال قيصر، خضعت كل هذه الزخارف تحت رجل عمر وتحت قدم عمر، فوالله ما تغير، بل قام وسرحها سراحاً جميلاً، وطلقها طلاقاً لا رجعة فيه، قام ليدرأ عن الناس فتنها وشبهاتها ومضلاتها، وقام لينثر في الناس من هذا المتاع الدنيوي خيراً، ثم لما نفض يديه من هذا المتاع الدنيوي الحقير الزائل قام ليستأنف سيره.
وانظر إليه، ستراه هنالك بعيداً يجري تحت حرارة شمس محرقة تذيب الصخور والحديد والحجارة، وينظر إليه عثمان ويتساءل: من هذا الذي خرج في هذا الجو القائظ القاتل؟ ولما دنا منه فإذا به أمير المؤمنين، إنه عمر بن الخطاب! وينادي عليه عثمان: يا أمير المؤمنين! يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الجو القائظ؟ فيقول عمر الورع التقي النقي الفاروق الأواب العدل: شرد بعير -جمل- من إبل الصدقة -يا عثمان - وأخشى عليه الضياع فيقول عثمان: تعال إلى الظل يا أمير المؤمنين! وتعال إلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتيك بهذا البعير الشارد، فيقول عمر: عد إلى ظلك، عد إلى مائك البارد يا عثمان أأنت ستسأل عنه أمام الله يوم القيامة؟ وتراه هنالك في موكب آخر قد حنى رأسه، ذلك الرأس العظيم الذي تطاول -ورب الكعبة- ليعانق كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل وأنت صادق: التي تواضعت كواكب الجوزاء لتُشَرِّف من قدرها وهي تتوج رأس عمر، عمر يحني رأسه تحت قدر على نار مشتعلة، وينفخ عمر لينضج طعمة طيبة لأطفال يبكون من شدة الجوع.
وتراه هنالك يأخذ امرأته وهي زوجة أمير المؤمنين، فإلى أين يا أمير المؤمنين؟ إلى أين تأخذ امرأتك في هذا الجو المظلم الدامس؟ إلى امرأة مسلمة أدركها كرب المخاض تضع ولا تجد من يساعدها، فيأخذ عمر امرأته لتساعد مسلمة من المسلمين، إنه عمر! وتراه هنالك يمشي ليتفقد أحوال الناس، فيرى إبلاً سمينة عظيمة فيقول عمر: ما شاء الله! إبل من هذه؟ فيقول الناس: إبل عبد الله بن عمر.
وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوف عمر، فقال: إبل عبد الله بن عمر! ائتوني به.
فيأتي عبد الله بن عمر، ومن هو عبد الله بن عمر؟! إمام الزهد، وإمام الورع والتقى، وقائم الليل، وصائم النهار، فيأتي عبد الله ويقف بين يدي والده فيقول له عمر: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فيقول: إبل اشتريتها وهي هزيلة بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وتركتها في الحمى لترعى أبتغي ما يبتغيه سائر المسلمين من الربح والتجارة.
فيرد عمر: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين! إذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين.
فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين.
قال: مرني يا أبت قال: انطلق الآن فبع الإبل وخذ رأس مالك فقط، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين.
سبحانك يا خالق عمر! سبحانك يا خالق عمر! سبحانك يا خالق عمر! سبحانك هل يسب هذا؟! هل يسب عمر؟! هل يسب الذي قدم لأهل الأرض قدوة يجب على كل مسلم أن يفخر بها؟ وأن يرفع رأسه أنه ينسب لـ أبي بكر وينسب لـ عمر وينسب لـ عثمان وينسب لـ علي.
هل يسب عمر؟! هل يسب عمر الذي قال النبي في حقه -والحديث في سنن الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر -: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، شهادة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ليست شهادة من هيئة اليونسكو، ولا من هيئة الأمم، ولا من منظمة مشبوهة خبيثة، ولا من ناد من أندية الروتاري أو الماسونية، بل إن الذي يضع هذا الوسام على صدر عمر هو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال المصطفى: (بينا أن نائم إذ رأيتني في الجنة، يقول: ورأيتني إلى جوار قصر وإلى جواره جارية تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر بن الخطاب، فتذكرت غيرتك -يا عمر - فأعرضت -يعني: أعرضت عن النظر إلى الجارية التي بجوار قصرك- فبكى عمر وقال: أومنك أغار يا رسول الله؟).
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص -جمع قميص- منها ما يبلغ الثديا -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، إذ عرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره.
قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين).
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (بينا أن نائم إذ أتيت بقدح لبن فشربت، حتى أني أرى الري يخرج من بين أظفاري ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى في القدح من اللبن -لـ عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم).
وأختم بهذا الحديث الذي في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله -يعني: زادك الله سروراً، ولم يقل: لماذا تضحك يا رسول الله؟ -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب.
قال عمر: فأنت -يا رسول الله- أحق أن يهبن.
قال عمر: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟ قلن: نعم.
أنت أفظ وأغلظ من رسول الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً -أي: تمشي في طريق- إلا سلك فجاً غير فجك).
يا خالق عمر سبحانك، هذا ما أستطيع أن أعلق به، والله إننا الآن لفي أمس الحاجة إلى عمر ليطهر شوارعنا من الشياطين التي ملأتها، (لو رآك الشيطان سالكاً فجاً لتركه وسلك فجاً غير فجك).
ثم بعد ذلك يسب عمر الذي أذل كسرى، عمر الذي أهان قيصر، عمر الذي أعز الله عز وجل به الإسلام قديماً وحديثاً، إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل يسب عثمان؟ وهل يسب علي؟ أكمل بعد جلسة الاستراحة فأراني قد أطلت، وها هي عقارب الساعة تطاردنا، نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجزي عنا أصحاب سيد الرجال خيراً، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(153/15)
فضل عثمان بن عفان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: بإيجاز شديد سأكتفي بحديث واحد في كل صحابي جليل ممن أود أن أتحدث عنهم فهل يسب عثمان الحيي التقي ذو النورين، وصاحب الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين، وزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ عثمان الكريم المعطاء، الذي ما تعرض الإسلام لهجمة إلا ووجدت لتلك الأزمة عثمانها المعطاء، يجود بكل ما يملك بمنتهى الجود والكرم والسخاء، عثمان الحيي الذي ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة (أن أبا بكر استأذن يوماً على رسول الله وهو في حجرة عائشة، وقد اضطجع النبي على يمينه وكشف عن فخذه أو ساقه، فأذن النبي لـ أبي بكر فدخل الصديق فكلم النبي والنبي على هيئته لم يتغير، ثم استأذن عمر فأذن النبي لـ عمر فدخل فكلمه وانصرف والنبي على هيئته لم يتغير، فلما استأذن عثمان على رسول الله جلس النبي وسوى عليه ثيابه وأذن لـ عثمان فدخل فكلم النبي ثم انصرف، ففطنت عائشة الفقيهة لمثل هذا، وقالت: يا رسول الله! استأذن عليك أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم استأذن عليك عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما استأذن عليك عثمان جلست وسويت ثيابك وأذنت له! فقال النبي: يا عائشة! ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟!).
وعثمان هو الذي وسع المسجد، وعثمان هو الذي اشترى بئر رومة، وعثمان هو الذي جهز جيش العسرة، عثمان الذي ما وجدت أزمة تعصف بالإسلام إلا ووقف لها بكل جود وسخاء وكرم، أيسب عثمان رضوان الله عليه المبشر بالشهادة والمبشر بالجنة من كلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى؟!(153/16)
فضل علي بن أبي طالب
وهل يسب علي رضوان الله عليه وأرضاه؟ اضطر علي يوماً أن يفخر فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر ذاك من يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي علي الفدائي الذي علم الدنيا حقيقة الفداء وشرف البطولة، والذي ظهرت مكانته يوم خيبر عند الله وعند رسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، وفي رواية مسلم: قال عمر: والله ما تطلعت إلى الإمارة إلا يومها، ما تمنى عمر أن يكون أميراً إلا في ذلك اليوم، لعله من قال النبي فيه: (ويحبه الله ورسوله).
وفي الصباح شق السكون صوت النبي عليه الصلاة والسلام وهو يسأل عن هذا القائد الذي سيفتح الله على يديه، والذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: إنه يشتكي عنيه.
قال: أرسلوا إليه.
فأرسلوا إليه فجاء علي فمسح النبي على عينه فبرأ، وكأن لم يكن به وجع، وأعطاه الراية وقال: انطلق.
فقال: علام أقاتلهم يا رسول الله؟! قال: حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وفي لفظ البخاري: (فلئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
حب النبي على الإنسان مفترض وحب أصحابه نور وبرهان من كان يعلم أن الله سائله لا يرمين أبا بكر ببهتان ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولا الخليفة عثمان بن عفان ولا علياً أبا السبطين نعم الفتى وصى به المصطفى في سر وإعلان فهم صحابة خير الخلق خصهم الإله بجنات ورضوان(153/17)
الصحابة قدوة لمن بعدهم
الصحابة هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم أيها الأحبة، قال ابن مسعود: من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً.
اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، يقول ابن مسعود: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته ونبوته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه.
وأختم بهذا الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله.
فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة).
اللهم إنا نشهدك أننا نحب أصحاب نبيك المصطفى، اللهم احشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت بنا أعمالنا، اللهم احشرنا معهم وإن قصرت بنا أعمالنا، اللهم احشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت بنا أعمالنا، اللهم احشرنا معهم بحبنا لهم وإن قصرت بنا أعمالنا.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اقصف أقلام الحاقدين والمرجفين، اللهم اقصف أقلام الحاقدين والمرجفين بقدرتك يا رب العالمين.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تؤاخذنا بما قال السفهاء منا، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المجاهدين لنصرة دينك في كل مكان برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا رب! لا تدع لأحد من إخواننا وأخواتنا -في هذا الجمع الكريم- ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفتيه، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والإيمان وجميع بلاد المسلمين، يا رب! اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين، وارفع عنها الفتن ما ظهر منها وما بطن والغلاء والوباء والبلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، وجميع بلاد المسلمين.(153/18)
الحرب على الثوابت [2]
هناك حرب سافرة ضد ثوابت الإسلام وأصوله تلبس قناع حرية الفكر والرأي، وتدعي أن الإسلام يتناقض مع العلم الحديث، وهي حرب يقوم بها أعداء الإسلام من الكفار وأذنابهم من العلمانيين والمستغربين، وقد تصدى لهم علماء الإسلام فكشفوا زيفهم، وبينوا كذبهم وتدليسهم بما لا يدع مجالاً للشك أبداً.(154/1)
خطر المفكرين المتلوثين بزبالة أفكار الملحدين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت) سلسلة منهجية أفند فيها شبهات خطيرة تثار الآن ضد الإسلام، لا على الفرعيات والجزئيات بل على الثوابت والأصول والكليات، ولا يتولى كبرها الملحدون والمستشرقون كما كان الحال قديماً، بل يتولى كبرها ويشعل نيرانها رجال من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا! وصدق ربي جل وعلا إذ يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
وقد وصف النبي هذا الصنف وصفاً دقيقاً في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟! قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: صفهم لنا يا رسول الله! قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وفي لفظ مسلم قال: (هم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس).
أيها الأحبة! لقد ابتلينا في هذه السنوات الماضية بمجموعة من أصحاب الشذوذ الفكري، ممن يسمون -وبكل أسف- بالنخبة من رجال الفكر والفن والأدب، ممن ملئوا أقلامهم بمداد عفن قذر، ووجدوا في الطعن في ثوابت الإسلام أقصر الطرق للوصول إلى الشهرة المزيفة الحقيرة، فما نال سلمان رشدي جائزة الدولة النمساوية إلا إيماناً بآياته الشيطانية، وما نال الطاهر بن جولون جائزة جنكور الفرنسية إلا بروايته الخبيثة التي أسماها: بليلة القدر، وما نال نجيب محفوظ جائزة نوبل إلا بروايته الخبيثة التي أسماها: بأولاد حارتنا، وما نال نصر أبو زيد هذه الشهرة العالمية، وبكى عليه الحاقدون على الإسلام من أمثاله بكاءً مريراً إلا لأنه طعن في ثوابت الإسلام كله من أوله إلى آخره.
كل ذلك تحت شعارات رنانة كحرية الفكر والرأي، والخروج من الظلامية والرجعية، وفتح آفاق المعرفة، إلى آخر هذه الشعارات، وأنا قررت من اللقاء الماضي أننا جميعاً مع حرية الفكر والرأي، ونبغض من كل قلوبنا العصبية والرجعية والتزمت، ونرفض أن نعيش في الظلامية والانغلاقية والانهزامية والرجعية.
لكن هل التطاول على ذات الله جل وعلا من حرية الفكر والرأي؟! هل الطعن في ثوابت الإسلام وأصوله وكلياته من حرية الفكر والرأي؟! هل السخرية بالملائكة الكرام البررة من حرية الفكر والرأي؟! هل التشكيك في القرآن الكريم من حرية الفكر والرأي؟! هل التطاول على مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم من حرية الفكر والرأي؟! هل الغمز واللمز للسنة والتشكيك فيها من حرية الفكر والرأي؟! هل الطعن في أصحاب النبي الأطهار من حرية الفكر والرأي؟! هل الدعوة إلى الدعارة العلنية والشذوذ الجنسي -حين يسمونه بالأدب المكشوف- من حرية الفكر والرأي؟! نحتاج قليلاً من الإنصاف والعدل -يا سادة- لنصل إلى الحقيقة، هذا إن كنا نريد بصدق أن نصل إلى الحقيقة، فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، وقال الله جل وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، وقال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
وكان لقاؤنا الماضي من لقاءات هذه السلسلة التي سأقدم لها بهذه المقدمة الثابتة في كل لقاء بإذن الله تعالى، كان لقاؤنا الماضي عن الحرب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الثاني من لقاءات هذه السلسلة ألا وهو: (الحرب على السنة) وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في هذه العناصر المحددة السريعة: أولاً: السنة والحرية.
ثانياً: السنة والعقل والعلم الحديث.
ثالثاً: السنة والحضارة.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فإن الموضوع اليوم من الأهمية والخطورة بمكان، لاسيما ونحن نشهد الآن حرباً سافرة فاجرة على الأصل الثاني من أصول الإسلام، ألا وهو: سنة النبي عليه الصلاة والسلام.(154/2)
الحرب على السنة
فإن من المصائب الكبيرة التي تهز القلب وتحطم الفؤاد، أن نعيش زماناً نحتاج فيه إلى أن نوضح مكانة السنة في الإسلام، وهل الإسلام إلا كتاب منزل ونبي مرسل يبين مراد الله جل وعلا، وذلك من خلال تفسيره وتوضيحه لكلام الله المنزل تارة، وبقوله وعمله وهديه وسمته وخلقه تارة أخرى؟! فالمصدران الأصليان الرئيسيان للشريعة هما: القرآن والسنة.(154/3)
مكانة السنة
قد بينت السنة مكانتها مع القرآن، فيقول صاحب السنة كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي والألباني من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فقام رجل فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال في الثالثة: لو قلت نعم لوجبت -وهذا تشريع- ذروني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه).
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته يوم الملائكة وهو نائم، فقال بعضهم -أي: بعض الملائكة-: إنه نائم وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان.
فقال بعضهم: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً، قالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدبة -وضع فيها طعاماً- وبعث داعيه، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة.
قالوا: أولوها له يفقهها -أي: فسروا له هذه الرؤيا أو هذا المثل-.
قالوا: فالدار هي الجنة، والداعي هو محمد، فمن أجاب الداعي دخل الدار -أي: دخل الجنة- وأكل من المأدبة -أي: استمتع بنعيمها- فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس).
والآيات والأحاديث التي تبين حجية السنة كثيرة، ومما يؤيد حجية السنة وأنها ملزمة ومستقلة بالتشريع الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله.
فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
هذه هي حجية السنة بنص القرآن الكريم، وأقول لمن يزعمون أن الإسلام هو القرآن: ها هو القرآن يبين مكانة السنة وحجية السنة، وها هي السنة يبين صاحبها صلى الله عليه وسلم مكانة السنة من القرآن، فإن السنة لا تفارق القرآن أبداً حتى يردا الحوض على النبي عليه الصلاة والسلام.(154/4)
السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه
فرسول الله صادق لا ينطق عن الهوى.
قال الإمام الأوزاعي: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وقال الإمام ابن القيم في كتابه القيم (إعلام الموقعين): السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة موافقة للقرآن من كل وجه، وهذا من باب توارد الأدلة وتظافرها في المسألة الواحدة.
الوجه الثاني: أن تكون السنة بياناً وتفسيراً لما أجمله القرآن، فالقرآن الكريم يأمر بالصلاة، فيقول سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، ويقول سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، فتأتي السنة لتبين كيفية الصلاة وأركان الصلاة وسنن الصلاة وشروط صحة الصلاة إلى غير ذلك، فيقول صاحب السنة: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ويأمر القرآن بالحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] فيأتي صاحب السنة ليبين مناسك الحج بالتفصيل، وأركان الحج وواجبات الحج وسنن الحج إلى آخر ذلك، ويقول عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني مناسككم).
فالوجه الثاني من أوجه السنة مع القرآن: أن تكون السنة بياناً وتفسيراً لما أجمله القرآن.
الوجه الثالث من أوجه السنة مع القرآن: أن تكون السنة موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه، أو محرمة لما سكت القرآن عن تحريمه.
قال المصطفى -كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث المقدام بن معد يكرب -: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة المعاهد)، وفي لفظ: (فإن ما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل).(154/5)
المحاربون للسنة فريقان
ونحن نشهد الآن حرباً عاتية على الأصل الثاني الذي هو السنة، وأستطيع باطمئنان كامل أن أقول: إن الذين يعلنون الحرب على السنة الآن ينقسمون إلى فريقين: الفريق الأول: فريق مرق من الدين مروق السهم من الرمية، وذلك لإنكاره حجية السنة بالكلية، وزعمه أن الإسلام هو القرآن فقط دون سنة سيد البشرية.
الفريق الثاني: لا ينكر حجية السنة، ولكنه بدعوى التمحيص والتحقيق والعقلانية يطعن في بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة في سنة سيد البشرية صلى الله عليه وسلم.(154/6)
حجية السنة
هذان فريقان: فريق ينكر السنة بالكلية، وفريق يشكك في السنة بالطعن في بعض الأحاديث الثابتة الصحيحة بدعوى العقل أو التمحيص أو التحقيق، والله تبارك وتعالى قد بين لنا في قرآنه مكانة السنة، وأنه لا غنى أبداً للقرآن عن السنة، وأن السنة لها حجية ملزمة، قال الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول: إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
قال ميمون بن مهران رحمه الله: الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح:10]، وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
آيات كثيرة تبين لنا حجية السنة ومكانة السنة، وأن رسول الله لا ينطق عن الهوى، وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
وقال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47].(154/7)
السنة والعقل والعلم الحديث
المحور الثاني من محاور الحرب على السنة والتشكيك في السنة هو -بزعم المشككين- أن السنة مشحونة بالأحاديث التي تصطدم اصطداماً مباشراً مع العقول السوية، بل وتنقض من الأساس النظريات العلمية، وهذا هو عنصرنا الثاني: السنة والعقل والعلم الحديث.
وأرجو أن تركزوا معي جيداً في هذا العنصر المهم؛ لأننا الآن نرى إلهاً جديداً يعبد يسمى العلم أو العقل، وأنا لا أقلل أبداً من شأن العلم، ولا من قدر العقل، بل أقول بأعلى الصوت وملء الفم: إن الإسلام دين يقدر العقل، ويدعو إلى العلم، ويكفي أن نعلم أن من أول الآيات التي نزلت على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وهي دعوة إلى العلم، والآيات والأحاديث التي تدعو إلى التدبر والتفكر والتعقل كثيرة.
فأنا لا أقلل من شأن العقل ولا من قدر العلم، لكن لا ينبغي أن يصير العقل والعلم طاغوتاً جديداً ينصب نفسه حاكماً على صريح القرآن وصحيح سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: السنة مشحونة بالأحاديث التي تصطدم مع العقول السوية، وتخالف النظريات العلمية.(154/8)
شبهات على السنة وردود
من طعنهم في السنة قولهم: هل يعقل إذا ولغ الكلب في إناء من الآنية أن نغسل هذا الإناء سبع مرات بالماء وأن نغسله مرة بالتراب؟ ما هذا الانغلاق؟! ما هذا الضيق؟ أنتم تعيشون في عصر الإنترنت، وعصر أتوبيس الفضاء ديسكفري، كيف تقولون مثل هذا الكلام الذي يحول بين الغرب وبين الإسلام؟! هذا القول: إذا ولغ الكلب في الإناء يجب أن نغسل الإناء بالتراب مرة أمر لا يقره العقل! وكذلك إذا وقعت الذبابة في السائل كيف نغمس الذبابة في السائل بدعوى أنها تحمل في جناح من جناحيها الداء، وتحمل في الجناح الآخر الدواء؟! ما هذا؟! أمر لا يقبله العقل، بل ويصطدم اصطداماً مباشراً مع الرقي والحضارة والمدنية! وكان من الواجب أن يكون السؤال هكذا: هل ثبت فعلاً أن رسول الله قال ذلك؟ هذا هو الأدب، ولا حرج على الإطلاق عند من يعبدون العقل ويقدسون العلم أن يمحصوا ويحققوا ويبحثوا بالأصول الحديثية التي وضعها الفحول من أهل الحديث ليتعرفوا على صحة السند والمتن، وعند معرفتهم أن الحديث ثابت وصحيح كان من الواجب عليهم أن يصدقوا كلام النبي ولو لم تدركه العقول، حتى ولو صادم نظرية من النظريات العلمية.
قد تقول: كيف ذلك؟ نقول: ابتداءً هناك اتفاق بين علماء الأرض قاطبة أن النظريات العلمية لا تقدم حقائق يقينية ثابتة مطلقة لا تزيد ولا تنقص، ولا تحتمل التبديل ولا التغيير أبداً، وهذا اتفاق عام بين علماء الأرض أن النظريات العلمية ما هي إلا احتمالات، وليعذرني القارئ إن استشهدت ببعض أقوال العلماء الكافرين؛ لأن المنتسبين لإسلامنا ممن يشككون في السنة إذا جاءهم الوحي من رسول الله كذبوه، وإذا جاءهم الوحي من أوروبا صدقوه.
يقول العالم الإنجليزي الشهير سرجن: (إن كل ما يستطيع العلم الحديث أن يقدمه إلى الآن ما هو إلا احتمالات)، فتخرج نظرية علمية لتهدم نظرية علمية سابقة، أو على الأقل لتنقض أصلاً من أصولها، أو لتزيد عليها أو لتنقص منها، وهذا أمر ثابت متفق عليه، فكان من الواجب أن نبحث: هل قال رسول الله ذلك؟ فإن كان الجواب بـ (نعم)، كان من المحتم اللازم أن نصدق كلام حبيبنا ونبينا وإن لم تدرك عقولنا مراد النبي، حتى ولو خالف نظرية من النظريات العلمية؛ لأن النظريات العلمية ما هي إلا احتمالات، وليست حقائق يقينية مطلقة ثابتة.
فهل قال رسول الله حقاً مثل هذا؟
الجواب
نعم.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب)، وفي رواية: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب).
وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه أو لينزعه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء).
فما الذي قاله العلم الحديث؟ وأرجو أن يفهم الطلاب أنني لا أريد الآن أن أصدق بالعلم الحديث كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كلا، فالمسلم الصادق لا يحتاج إلى دليل من العلم ليصدق به كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، لكن أود أن أبين لعباد العلم والعقل ما الذي توصل إليه العلم الحديث في هاتين القضيتين الخطيرتين الكبيرتين: في قضية ولوغ الكلب، وفي قضية سقوط الذبابة في السائل، فقد كانوا يعلنون الحرب ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها حينما يقول عالم من علماء الإسلام أو الحديث ذلك، فما الذي توصل إليه العلم في السنوات القليلة الماضية؟ تدبر معي وارفع رأسك لأنك تنسب إلى رسول الله.
توصل أشهر عالم من علماء الطفيليات في العالم، وهو البروفسور أليسون -وهو عالم إنجليزي شهير ما زال حياً يرزق-، وهو من الأساتذة الإنجليز الذين يشرفون على أيِّ رسالة لأيِّ طبيب من أطباء العالم يتقدم للحصول على الزمالة البريطانية، فمن بين هؤلاء المتخصصين هذا العالم أليسون، ماذا قال؟ الرجل لما سمع يوماً حديث سيد البشرية في قضية ولوغ الكلب تعجب وأجرى الدراسات والتجارب العلمية، وهو رجل لا يدين بالإسلام، وبعد إجراء التجارب العلمية قال: وجدنا في علم الطفيليات أن الكلب يحمل في لعابه أكثر من خمسين مرضاً.
والعجيب أن الإناء الذي ولغ فيه الكلب لا يطهره الماء من كل الطفيليات والميكروبات التي نزلت مع ولوغ الكلب، فقالوا: نجرب كلام محمد صلى الله عليه وسلم فغسلوا الإناء بالتراب مرة ثم أقاموا الدراسات والتجارب، فلم يجدوا أثراً لميكروب واحد في الإناء بعدما غسلوه بالتراب، فمن الذي علم المصطفى ذلك؟ هذه حقيقة علمية هائلة لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية، مع أن المصطفى قد ذكرها منذ أربعة عشر قرناً، ألم يقل ربنا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]؟ فهذه تجربة علمية أثبتت أن الكلب إذا ولغ فإنه يخرج من لعابه أكثر من خمسين مرضاً، وأن الماء وحده لا يكفي لتطهير الإناء من الطفيليات والميكروبات التي يخرجها الكلب في لعابه، فلما غسلوا الإناء بالتراب لم يجدوا أثراً لميكروب واحد من الميكروبات التي أفرزها الكلب في لعابه، وصدق المصطفى، بل وصدق رب المصطفى الذي يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
وفي عام واحد وسبعين وثمانمائة وألف من الميلاد اكتشف العالم الألماني بريتلد -من جامعة (هال) الألمانية- أن الذبابة تحمل نوعاً من أنواع الجراثيم التي تسبب أمراض الحميات كالتيفود والدوسنتاريا وغير ذلك، ثم أثبت هذا العالم أيضاً أن الذبابة في الوقت ذاته تحمل نوعاً أو طفيلاً من جنس الفطريات سماها هذا العالم - بريتلد - (الموزاموسكي)، وقال: في الوقت الذي تحمل فيه الذبابة الجراثيم التي تسبب أمراض الحميات كالتيفود والدوسنتاريا فإن الذبابة في الوقت ذاته تحمل طفيلياً من جنس الفطريات يسمى الموزاموسكي، هذا الفطر يفرز مادة تحتوي على مضادات حيوية تقضي تماماً على الجراثيم التي تحملها الذبابة في جناحها الأول.
وجاءت التجارب العلمية بعد ذلك لتؤكد صحة ما وصل إليه بريتلد، بل ولتقف على الخصائص العجيبة لهذا الفطر الذي تحمله الذبابة على شكل دوائر، فاكتشفوا خصائص عجيبة لهذا الفطر الذي يقضي على الجراثيم التي تحملها الذبابة في الجناح الأول، وقالوا: إن جراماً واحداً من هذا الفطر الذي تحمله الذبابة على شكل دوائر مستديرة كفيل بحفظ ألفي لترٍ من اللبن الملوث بهذه الجراثيم.
ثم وصلوا إلى حقيقة أعجب، وخذها بقلبك وعقلك لتفخر بأنك من الموحدين، وبأنك من أمة سيدنا النبيين، وصلوا إلى حقيقة علمية مذهلة، فقد قالوا: والعجيب أن هذه المادة التي تخرج من الفطر الذي في جسم الذبابة لا تفرز أبداً إلا بعد غمس الذبابة في السائل.
من الذي علم المصطفى ذلك؟ المصطفى رسول ليس عالم طب، وليس عالم فلك، وليس عالم جيولوجيا، وليس عالم هندسة، بل إن المصطفى رسول من عند الله، لا ينطق عن الهوى بل ينطق عن الله جل في علاه.
قالوا: إن الذبابة لا تفرز المادة للقضاء على الجراثيم التي تفرزها الذبابة من جناحها الأول إلا بعد غمس الذبابة في السائل، وأود أن أفرق بين غمس الذبابة في السائل للتصديق بهذه الحقيقة النبوية وبين أن يجد المرء من نفسه عدم القدرة على تناول السائل، فهذا أمر آخر، لا أنكر عليك إن لم تستطع أن تشرب السائل، فلقد عرض على النبي لحم الضب فلم يأكله، فقالوا: (أحرام هو يا رسول الله؟! قال: لا غير أني أجدني أعافه)، فلا حرج، لكن الحرج في أن تكذب رسول الله، وحين يأتيك الوحي من ألمانيا تصدق بعد ذلك أن ما قاله المصطفى هو الحق الذي لا محيد عنه، من الذي علم رسول الله هذه الحقائق العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟!(154/9)
الإعجاز العلمي في القرآن دليل على أن الرسول حق
أيها المسلمون! من الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن القمر قد محي ضوءه بعدما كان مشتعلاً في أول الأمر، وأن النور الذي نراه منه في الليل ما هو إلا انعكاس لكوكب الشمس، قال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12].
من الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟! ومن الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن كل جبل على سطح الأرض له في باطن الأرض سن مدبب كالوتد؟ قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7]، من الذي علمه هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ ومن الذي علم محمداً صلى الله عليه وسلم أن الأعصاب التي تتألم بالحرق أو بشدة البرد لا توجد إلا في الجلد فقط؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:56]، من الذي علم محمداً هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ ومن الذي علم محمداً أن موج البحر بسطحه المائل يشتت الضوء الذي ينعكس عليه فيكون خلفه ظلمة حالكة؟ قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، من الذي علم محمداً هذه الحقيقة العلمية الهائلة التي لم تكتشف إلا في السنوات القليلة الماضية؟ قال جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5].
وقال جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:38 - 47].
وهكذا يتبين لكل عاقل منصف أن المصطفى لا ينطق عن الهوى، بل لا يصادم كلام الرب العليم ولا كلام الحبيب النبي أي نظرية صحيحة.(154/10)
السنة لا تعارض العلم الحديث
ليصنع الإنسان الإنترنت، ليصنع القنبلة النووية، لكن لا ينبغي أن يتخطى طوره وأن يتعدى حدوده ومكانته، فيجعل من نفسه حاكماً على صريح القرآن وصحيح كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
العقل في الجانب العقدي والإيماني لابد أن يذعن لكلام الرب العلي الذي أنزله على لسان الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا لا يتعرف عليه بالعقل وإنما من خلال الوحي، كيف وأعقل أهل الأرض -بلا نزاع- هو المصطفى صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يستطع النبي صلى الله عليه وسلم بعقله المجرد أن يصل إلى حقائق الإيمان والوحي إلا بعدما نزل عليه كلام الله جل وعلا؟ قال الله تعالى لنبيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
ورحم الله ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للعين البصيرة فاتخذه دليلا فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلا طرق الهدى محدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلا فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فاعلم بأنك ما أردت وصولا يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلا أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(154/11)
السنة والحضارة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: المحور الثالث من محاور الحرب على السنة أنهم يعلنون أن السنة لا تليق إلا لحياة البداوة، ولا تتناسب مع الحياة الحضارية العلمية المادية الحديثة، وهذا هو عنصرنا الثالث السنة والحضارة.
أيها الحبيب: لا خلاف بين أهل العلم أن أيَّ حضارة لا بد لها من عنصرين رئيسيين: ألا وهما العنصر المادي والعنصر الأخلاقي، وتنبه لهذا الكلام جيداً، فإنه يشوش علينا من يسمون بالنخبة، ويزعمون أنهم -فقط- هم الذين يفهمون ويحسنون، أما من ينتسبون إلى الإسلام فهم لا يفهمون ولا يحسنون أي شيء.
من المتفق عليه أن أيَّ حضارة على وجه الأرض لابد لها من عنصرين لا تقوم الحضارة إلا بهما، ألا وهما العنصر المادي والعنصر الأخلاقي، وهناك اتفاق أيضاً على أن الحضارة لا كيان لها ولا كرامة إلا إذا سخرت العنصر المادي لخدمة العنصر الأخلاقي، فما قيمة المادة إذا كانت سبباً في هلاك الإنسان؟! ما قيمة المادة إذا كانت سبباً في شقائه وضنكه وتعاسته؟! إن الحضارة الغربية المادية الآن حضارة مجنونة بكل المقاييس، حضارة تبني وتعمر وتدمر وتهدم بالحروب المتوالية في آن واحد، ثم ينادي أصحاب هذه الحضارة على العالم كله لجمع التبرعات لإعادة تعمير ما دمروه مرة أخرى، إنه جنون رسمي.(154/12)
فضل حضارة الإسلام
انظر إلى حضارة الإسلام، ماذا قال محمد صاحب السنة صلى الله عليه وسلم؟ جاء ليؤصل الحضارة تأصيلاً، وأنت تعلم -ولا ينكر ذلك منصف على وجه الأرض- أن الأوروبيين قد استمدوا الحضارة في عنصرها المادي الأول من المسلمين في الأندلس، كانت الأندلس مضاءة بضوء الكهرباء في الوقت الذي كان فيه أهل فرنسا يعيشون في الوحل والظلام، فالجانب المادي من عندنا أيضاً، لكن المسلمين انتكسوا وتركوا المنهج وحادوا عن الطريق، فزلوا في الجانب الخلقي وفي الجانب المادي، وأنا أقرر ذلك بأعلى صوتي وملء فمي من باب العدل والإنصاف، فإن المسلمين قد تخلوا عن العنصر الخلقي والمادي الآن، فتعرضوا لهذا الذل والهوان على يد ابن الحضارة الغربية التي امتطى جوادها الآن.
سقى ابن هذه الحضارة المسلمين كئوس الذل والهوان أشكالاً وألواناً، بينما جاء المصطفى ليؤصل وليبين معنى الحضارة بمفهومهم هم، فتدبر معي هذه الطائفة الكريمة من الأحاديث- قال عليه الصلاة والسلام: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى).
ولا زالت الحضارة المادية الأرضية كلها تتخبط في تصورها للإله الذي خلق وأبدع ودبر، لا زالت تتخبط في فهمها للحياة الدنيا، وفي فهمها للحياة الآخرة، وفي فهمها لحياة البرزخ، فجاء النبي فوضح لنا كل هذه الحقائق، وقال عليه الصلاة والسلام -كما في الحديث الذي رواه أحمد بسند صحيح: (ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات:13]).
وفي الصحيحين أن امرأة من بني مخزوم سرقت، وكانت شريفة من الأشراف، فقالت قريش: كيف يقطع النبي يد شريفة؟ فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله، قالوا: لا يشفع لها إلا حب رسول الله أسامة بن زيد، فلما انطلق أسامة ليشفع لهذه المرأة غضب النبي وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ وارتقى النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
هذا وتتغنى الحضارة الغربية بأنها أول من أصلت قضية الرفق بالحيوان! لا وألف لا، فقبل أربعة عشر قرناً قال نبينا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث شداد بن أوس: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهو الذي قال كما في الصحيحين: (بينما بغي -يعني: زانية- من بغايا بني إسرائيل تمشي إذ مر عليها كلب يأكل الثرى من العطش، فعادت إلى بئر ماء، فملأت موقها ماء وقدمته للكلب فشرب، فغفر الله لها بذلك)، وهو الذي قال كما في الصحيحين: (دخلت امرأة النار في هرة -قطة- حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض).(154/13)
جهل من زعم أن السنة لا تتفق مع الحضارة
هذا نبينا، وهذه حضارتنا، وهذا إسلامنا، فالذي يقول بأن السنة لا تتفق مع حضارة العصر ولا تتفق إلا مع حياة البداوة، إنما هو جاهل جهلاً عريضاً، بل إن السنة هي التي أصلت معاني الحضارة التي يسعد بها الإنسان في الدنيا، ويسعد بها الإنسان في الآخرة.
والله لولا خشية الإطالة لوقفت مع صاحب هذه الحضارة المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفة طويلة طويلة؛ ليفخر كل موحد لله جل وعلا أن خلقه الله موحداً وأرسل إليه محمداً.
فاللهم كما خلقتنا موحدين، وجعلتنا من أمة سيد النبيين، توفنا على التوحيد يا أرحم الراحمين، واحشرنا في زمرة سيد العالمين، اللهم اختم لنا منك بخاتمة الموحدين، واحشرنا في زمرة سيد النبيين، ورد الأمة إلى السنة بعد القرآن رداً جميلاً يا أرحم الراحمين، اللهم رد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً.
اللهم وكما آمنا بحبيبك المصطفى ولم نره، فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين.
اللهم اجعل كل جمع لنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم انصر إخواننا في الشيشان، اللهم انصر إخواننا في الشيشان، اللهم احفظهم بحفظك يا رحيم يا رحمن، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الشيوعيين الملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الشيوعيين الملحدين، اللهم املأ قلوب الملحدين ناراً، واملأ بيوت الملحدين ناراً، اللهم املأ قلوب الملحدين ناراً، واملأ بيوت الملحدين ناراً، اللهم نج آباءنا وإخواننا ونساءنا وبناتنا من بين أيديهم يا رب العالمين، اللهم سلط الظالمين على الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين.
يا رب! فرج الكرب عن أمة سيد النبيين، يا رب! فرج الكرب عن أمة سيد النبيين، اللهم إنه قد طال الليل فائذن للفجر أن ينجلي، اللهم إنه قد طال الليل فائذن للفجر أن ينجلي، اللهم إنه قد طال الليل فائذن للفجر أن ينجلي، يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وظلم الظالمين، وجحود الجاحدين، ونفاق المنافقين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ارحم ضعفنا، وارحم ضعفنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واكشف همنا، وأزل غمنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وتولَّ أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه.
يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا سامع كل نجوى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! أغثنا يا رب العالمين.
أغثنا يا رب العالمين.
أغثنا يا رب العالمين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وانصر التوحيد والموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، وارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن يا أرحم الراحمين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم.(154/14)
حقيقة الحضارة الغربية
الحضارة الغربية المادية الحديثة وحضارة ذئاب، وحضارة ثعالب، وحضارة أفاعٍ، وحضارة وحوش، بل والله إن ابن هذه الحضارة المادية يفعل الآن بالإنسان ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها في عالم الغابات.
الحضارة المادية هي التي دمرت (هيروشيما) و (ناجازاكي) بالقنابل النووية وسحقتها سحقاً.
الحضارة المادية الحديثة هي التي أبادت تماماً شعب الهنود الحمر.
الحضارة المادية الحديثة هي التي طحنت البوسنة طحناً، واستخدمت -لأول مرة في تاريخ البشر- الأطفال المساكين الصغار كدروع بشرية واقية، بل واستخدمتهم لحرق معسكرات بكاملها بعد تفخيخ الأطفال الصغار المساكين بالأسلحة المتفجرة وعن طريق التحكم عن بعد بما يسمى بالرموتكنترول يفجرون من أطفال المسلمين في البوسنة بالألغام التي يحملونها ليدمروا المعسكرات المسلمة، لأول مرة في تاريخ الإنسانية يستخدم مثل هذا.
الحضارة المادية هي التي تبيد الآن شعب الشيشان بعد البوسنة وكوسوفا، إنها حضارة الذئاب، وحضارة الوحوش، وحضارة الثعالب، وحضارة الأفاعي، وحضارة البربرية، ما قيمة ما توصلوا إليه في الجانب المادي في الوقت الذي يستخدمون فيه هذا الجانب لشقاء الإنسان ولبؤسه وتعاسته؟! ما قيمة هذا الجانب المادي إن لم يسخر للجانب الأخلاقي في الحضارة؟! انظروا إلى الجانب الحضاري في حضارة الغرب حتى لا تنخدعوا بالغرب: قالوا لنا ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يُد أبدى لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على برد الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وإلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقيناً يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا إنها حضارة ذئاب، وحضارة وحوش تحمل الخنجر والرصاص، لكن انظر إليهم في الجانب العقدي والخلقي، لازالت الحضارة المادية الغربية إلى الآن تعبد عيسى بن مريم من دون الله، لازالت تدافع عن العنصرية اللونية البغيضة، لازالت تدافع عن الشذوذ الجنسي، وتتغنى بتحرير المرأة وهي تمتهن المرأة امتهاناً، تتلهى بالمرأة في سن شبابها وجمالها، وترمي بالمرأة في إحدى دور العجائز والمسنين إذا ما كبر سنها في الوقت الذي يتغنى فيه هؤلاء الكذابون بتحرير المرأة وبأن الإسلام قد ظلم المرأة.(154/15)
الحرب على الثوابت [3]
هناك حرب دائرة على ثوابت الدين الإسلامي وأصوله، يدير هذه الحرب أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وهذه الحرب ليست وليدة اليوم، بل لقد بدأت منذ بزوغ فجر الإسلام، فكم أوذي النبي عليه الصلاة والسلام في مكة والطائف! ثم في المدينة من المنافقين واليهود، بل وبعد موته، وإلى الآن يطعن فيه من أعمى الله بصيرته، ولكن أهل العلم لهم بالمرصاد، فقد قاموا بتوفيق الله بنسف شبههم وفضح أكاذيبهم.(155/1)
محاربة المنافقين العصريين للدين تحت شعار حرية الفكر والرأي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم! اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم الحليم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت) سلسلة منهجية جديدة أفند فيها شبهات حقيرة في حرب خطيرة أعلنت على ثوابت وأصول وأركان الإسلام، ومنذ أن بزغ فجره واستفاض نوره، وما زالت هذه الحرب وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالصراع بين الحق والباطل لا ينتهي.
وسر الخطر في هذه المرحلة أن الذي يعلن الحرب على هذه الثوابت ليس المستشرقون والملحدون فحسب كما كان الحال قديماً، ولكن الذي يشعل نيرانها ويتولى كبرها رجال ونساء من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وإن مؤتمراً المرأة في مصر بلد الأزهر في الأيام الماضية لمن أعظم الأدلة العملية على ما أقول.
والذي يؤلم القلب أن هذه الفئة التي تعلن الحرب على الثوابت تسمى في بلاد المسلمين بالنخبة من رجال الفكر والفن والأدب، يهدمون الدين باسم الدين، ويعلنون الحرب على الإسلام باسم الإسلام، وقد أحيطوا في الوقت ذاته بهالة من الدعاية الكاذبة تغطي انحرافهم وتستر جهلهم وتنفخ فيهم ليكونوا شيئاً مذكوراً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف يسمع من بعيد، وباطنه من الخيرات خال.
يعلنون الحرب تحت شعارات خداعة براقة، كحرية الفكر والرأي، وكفتح آفاق المعرفة، وكالخروج من الانهزامية والظلامية والانغلاقية والرجعية، إلى آخر هذه الدعاوى الهلامية والشعارات البراقة.
وأنا أقول: ما علاقة حرية الفكر والرأي بهدم ثوابت وأصول الإسلام؟ هل التطاول على ذات الله من حرية الفكر والرأي؟ وهل التشكيك في القرآن الكريم من حرية الفكر والرأي؟ وهل التشكيك في السنة وإنكار قدسيتها من حرية الفكر والرأي؟ وهل الغمز واللمز في الملائكة الكرام البررة من حرية الفكر والرأي؟ وهل التطاول على مقام النبي صلى الله عليه وسلم من حرية الفكر والرأي؟ وهل الغمز واللمز في الصحابة من حرية الفكر والرأي؟ وهل المناداة بمساواة الرجل مع المرأة في الميراث، والمناداة بإلغاء العدة، والمناداة بإلغاء قوامة الرجل على المرأة من حرية الفكر والرأي؟ قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، وقال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
ويقول جل وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: مالكم لا توحدون الله حق توحيده، ولا تعبدون الله حق عبادته، ولا تقدرون الله حق قدره.
هذه مقدمة ثابتة أقدم بها لهذه السلسلة، ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الثالث من لقاءات هذه السلسلة، وكنت قد تحدثت في اللقاءين الماضيين عن الحرب على الصحابة والحرب على السنة، وحديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن: الحرب على صاحب السنة صلى الله عليه وسلم.
وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر المحددة التالية: أولاً: حرب كاسرة.
ثانياً: هذه طبيعة الطريق.
ثالثاً: انتصار الحق سنة جارية.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(155/2)
الجبهات الحربية التي واجهها النبي في حياته
أحبتي في الله! لقد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في بيئة شركية تصنع الحجارة بيدها وتعبدها من دون الله جل وعلا، فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة وانطلق بعيداً على قمة جبل النور إلى غار حراء، يقضي الليل في التعبد والتبتل والتضرع، ويقضي النهار في التأمل والتفكر والتدبر، وفي ليلة كريمة من ليالي شهر رمضان المبارك يتنزل الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، يتنزل جبريل بكلام الملك الجليل، بقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
ويرجع النبي بهذه الكلمات يرجف فؤاده وتضطرب جوارحه، ويقول لـ خديجة رضي الله عنها: (زملوني زملوني، والله لقد خشيت على نفسي يا خديجة)، فترد عليه رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء لتقول له: كلا والله لا يخزيك الله أبداً.
وتبدأ المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله تعالى، فيقوم النبي يدعو إلى الله سراً، فالأمر جد خطير، فللأصنام جيوش من الغضب، وهي مستعدة لنحر من يعتدي عليها أو يصيبها بأذى.
فهؤلاء قوم يذبح بعضهم بعضاً من أجل ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهة يذبحون لها آلاف النياق!(155/3)
حرب المنافقين للنبي صلى الله عليه وسلم
حين ترك النبي صلى الله عليه وسلم مكة وهاجر إلى المدينة هل توقف مسلسل الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، بل لقد فتحت جبهات جديدة أخرى من جبهات الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تترك قريش رسول الله، بل خرجت بطراً ورئاءً بحدها وحديدها لتحاد الله ورسوله، خرجت للقضاء على النبي شخصياً في بدر وفي أحد وفي الأحزاب، ولكن الله نجى نبيه، وفتحت في المدينة جبهة جديدة حقيرة من جبهات الحرب، ألا وهي جبهة أهل النفاق، أعلن المنافقون الحرب على رسول الله، ولكنها حرب من نوع قذر، من جنس ما يعلن الآن على الإسلام ورموز الإسلام.
اتهم المنافقون رسول الله في شرفه، وأنا لا أسوق مثل هذا التاريخ للاستمتاع السالب ولا للثقافة الذهنية الباردة؛ فإن كثيراً من المسلمين يتعامل الآن مع السيرة تعاملاً ذهنياً باهتاً وتعاملاً ثقافياً بارداً، ولسان حال الكثيرين: كان يا مكان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام.
وكأنه يستمع إلى قصة أبي زيد الهلالي، أنا لا أسرد هذا التاريخ وهذه الحلقات المؤلمة من مسلسل الحرب الطويل للاستمتاع السالب، ولا لمجرد الثقافة الذهنية الباردة، كلا اتهم المنافقون رسول الله في شرفه، وفي عرضه! هل اتهمت في عرضك أيها السالك لطريق النبي؟ هل اتهمت في شرفك لتتخلى عن مبادئك عند أول منعطف من المنعطفات أو محنة من المحن أو ابتلاء من الابتلاءات؟ اتهم النبي في عرضه وفي شهامة بيته، وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على جميع العالمين، اتهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة كل الحرمات في أمته، وفيمن؟! في عائشة التي أحبها من كل قلبه، فلما رأى رأس النفاق الخبيث عبد الله بن أبي عائشة مع صفوان بن المعطل قال الخبيث قولة خبيثة في غير رواية الصحيحين، قال: من هذه؟ قالوا: عائشة.
قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان.
فقال الخبيث الوقح: امرأة نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح! والله ما نجت منه وما نجا منها، وتستشري الإشاعة الخبيثة وتنتشر كانتشار النار في الهشيم.
ويظل النبي شهراً كاملاً يحطم الألم قلبه، ويفتت الحزن كبده، إيذاء إلى هذا الحد! حتى نزل قول الله تعالى ببراءة الطاهرة الصديقة بنت الصديق: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] إلى آخر آيات سورة النور.
والمنافقون هم الذين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7].
والمنافقون هم الذين قالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8].
والمنافقون هم الذين قالوا في حق النبي: سمن كلبك يأكلك.
والمنافقون هم الذين قالوا: غبر علينا ابن أبي كبشة.
حرب قذرة خبيثة، جبهة أخرى من جبهات الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم.(155/4)
حرب اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام
ثم تفتح جبهة ثالثة من جبهات الحرب العاتية على النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت هذه الجبهات موجودة، وستستمر مفتوحة استمرار الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنها جبهة اليهود، فمن اللحظة الأولى التي هاجر فيها النبي إلى المدينة أعلن اليهود الحرب، واشتعل الغل والحقد في قلوب اليهود، وهم الذين كانوا يقولون للأوس والخزرج: إننا ننتظر نبياً يخرج في آخر الزمان وسنؤمن به.
لكن الله عز وجل قد قال في حق اليهود المجرمين الخبثاء: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]، فراحوا يعلنون الحرب على النبي من اللحظة الأولى، فشككوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى بيت الله الحرام، وراحوا يوجهون أسئلة للنبي بنية الإحراج والتعجيز، بل وراحوا يخططون لقتل النبي بالحجر من فوق سطح منزل من منازلهم، وتارة بوضع السم له في الشاة، حرب لم تتوقف لحظة! بل ظلت الحرب حتى حقق الله وعده لنبيه بإظهار الإسلام على الدين كله، فعاد النبي إلى مكة فاتحاً معززاً مكرماً منتصراً، ثم نزل عليه بعد ذلك قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].(155/5)
حرب أهل الطائف للنبي عليه الصلاة والسلام
لما رأى النبي أن أرض مكة أرض صلبة لا تتلقى بذرة التوحيد والإيمان تركها وانطلق يبحث عن أرض جديدة، يبحث عن أمل، يبحث عن يد حانية تحمل راية التوحيد، يبحث عن قلوب صافية تحمل نور العقيدة، فانطلق إلى الطائف -وهو لا يجد راحلة- يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين مسيرة تسعين كيلو متراً لا يركب راحلة ولا دابة حتى وصل إلى الطائف، ثم عرض دعوته على أهل الطائف وهم سادة ثقيف، ولكنهم ردوا النبي رداً منكراً، بل ولم يكتف سادة ثقيف بهذا الرد المنكر، وإنما سلطوا عليه السفهاء والعبيد فرموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، حتى اضطروه إلى بستان لـ شيبة وعتبة ابني ربيعة.
لك أن تتصور في هذه اللحظات حال الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جوع وعطش، صاحب دعوة مطارد، بل ودعوة مشردة، وأصحاب مطاردون في الحبشة، وآخرون معذبون في مكة، هذه طبيعة الطريق أيها الشباب! حال تتمزق لها القلوب الحية، فارتفعت هذه الدعوات وهذه الكلمات الحارة الرقراقة التي تجسد حجم الفجيعة وشدة الألم وحرارة المأساة، قال رسول الله: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
هذا دعاء رقراق جميل، وإن كان شيخنا الألباني -من باب الأمانة العلمية- قد ضعف إسناده، إلا أن الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد قال: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة.
بل قد وقفت على شاهد له من رواية محمد بن كعب القرظي، وهو تابعي ثقة.
أيها الأحبة! هذه كلمات تجسد الأمل، وتبين الفجيعة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتى لأهل الطائف إلا وهو يحمل في قلبه أملاً، ويتمنى أن يجد من أهل الطائف من يرفع راية التوحيد، ويتمنى أن يجد قلوباً صافية تلتقط نور (لا إله إلا الله)، ولكنهم فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أسوأ وأقبح مما فعله به أهل مكة، ويرجع النبي وهو مهموم، فما استفاق من الهم والحزن إلا بعد مسافة طويلة من الطائف، كما في الصحيحين من حديث عائشة.
وتذكروا -يا شباب! - هذا الحديث العجيب الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال الحبيب: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال -وهو من أشراف أهل الطائف- فلما لم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، لم يستفق النبي من الهم الذي يمزق كبده والألم الذي يحطم فؤاده، فالدعوة مشردة، وصاحب الدعوة مطارد، وأصحابه في الحبشة، ومنهم من يعذب في مكة، وفي نفس العام ماتت خديجة، وفي نفس العام مات أبو طالب الذي كان يشكل حائط صد منيع طالما تحطمت عليه سيوف ورماح أهل الشرك، ألم ومأساة.
يقول: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام) أشفقت الحجارة لحال رسول الله سيد الرجال، بل واستعدت الجبال لتنتقم من المشركين ولتمتثل لأمر رب العالمين، تصور وعش بقلبك وكيانك هذا المشهد، يقول: (فرفعت رأسي وإذا بسحابة قد أظلتني ورأيت فيها جبريل عليه السلام، فنادى عليَّ جبريل وقال: السلام عليك يا رسول الله لقد سمع الله قول قومك لك وما ردوا به عليك، وإن الله تعالى قد أرسل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم.
يقول: فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ وقال: يا محمد! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت)، والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة يقال للأول: أبو قبيس ويقال للثاني: الأحمر.
فماذا قال له نبي الرحمة وينبوع الحنان؟ ماذا قال الرحمة المهداة -بأبي هو وأمي-؟ وما زالت دماؤه تنزف، ولكنه ما غضب لنفسه قط، وما انتقم لنفسه قط، ولو خرج النبي إلى الطائف ليحصِّل كسباً مادياً ونفعاً شخصياً لأمر ملك الجبال ليحطم الرءوس الصلبة والجماجم العليلة، بل ولسالت دماء كالبحور والأنهار من الطائف ليراها أهل مكة بمكة، ولكن ماذا قال المصطفى لملك الجبال؟ قال: (لا، إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، بأبي هو وأمي! أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد ألم يقل ربنا لنبينا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟! ألم يقل ربنا لنبينا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]؟! ألم يقل ربنا في حق نبينا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]؟! (إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً)، هذه كلمات النبي صلى الله عليه وسلم، هذه كلمات صاحب الدعوة، هذه كلمات صاحب القلب الكبير، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وعاد النبي إلى مكة مرة أخرى، وهنالك اشتد الإيذاء، واشتدت حلقات الحرب، بل لقد انعقد البرلمان الشركي في مكة ليتخذ أخطر قرار في التاريخ البشري كله، ليتخذ قراراً بالإجماع لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، لقطع تيار نور الدعوة عن الوجود نهائياً، ولكن الله سلم، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، ونجى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وهاجر النبي من مكة إلى المدينة.(155/6)
حرب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام
نزل الوحي الكريم ليأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان الدعوة والجهر بها، فنزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، ونزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ومن هنا بدأت الحرب، فقد استجاب النبي لأمر رب العالمين، فصعد على جبل الصفا -والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة - وظل ينادي بطون قريش حتى اجتمعوا إليه ووقفوا بين يديه حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج بنفسه أرسل رسولاً ليقف على الخبر.
فخرجت قريش وعلى رأسها أبو لهب، والنبي على جبل الصفا يقص عليهم القصة بأسلوب نبوي بليغ، فيقول عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط -وهذه شهادة أولية- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، عند ذلك قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5].
أيها المسلمون! من تلك اللحظة أبرقت مكة وأرعدت، وأرغت مكة وأزبدت، ودقت مكة طبول الحرب وأوعدت، وصبت جام غضبها على ولدها الأمين البار الذي حكمت له -بالإجماع- بالصدق والأمانة قبل أن يبعثه ربه جل جلاله، وراحت ترمي النبي صلى الله عليه وسلم بشتى التهم والشتائم، وتعلن الحرب الضروس السافرة على النبي الصادق صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بالكذب، واتهموه بالسحر، واتهموه بالجنون، واتهموه بالشعر، قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، وقال الله حكاية عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]، بل ازداد الأمر سوءاً حتى تطاولت امرأة عليه، وأرجو أن تتخيل امرأة تطاولت على رسول الله، فما ظنك بما يفعله الرجال؟! تطاولت امرأة على النبي صلى الله عليه وسلم، فداست على أنوثتها، وراحت لتسابق رجال المشركين شراسة ووحشية وإيذاء لسيد البشرية، إنها حمالة الحطب امرأة أبي لهب، التي حملت حجراً بيديها وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لترميه بالحجر وهو جالس إلى جوار صاحبه الصديق في ظل الكعبة، فأخذ الله بصرها عن رسول الله فلم تر إلا أبا بكر رضي الله عنه، فقالت امرأة أبي لهب: أين صاحبك يا أبا بكر؟! فلقد بلغني أنه يهجوني، والله لو رأيت محمداً لضربت وجهه بهذا الحجر.
ثم أنشأت تقول: مذمماً عصينا -تقصد محمداً صلى الله عليه وسلم- وأمره أبينا، ودينه قلينا.
؟ والحديث رواه البيهقي وهو حديث حسن بشواهده.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينما أبو جهل يجلس مع أصحابه عند البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، إذ قال أبو جهل: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان ليلقيه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فجاء بسلا الجزور، وانتظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم فألقاه على ظهر النبي بين كتفيه وهو ساجد، يقول ابن مسعود: وأنا أنظر وما أملك أن أفعل لرسول الله شيئاً.
أرجو أن تتصوروا -أيها الشباب- مراحل الابتلاء، ومراحل الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: وظل النبي ساجداً حتى جاءت فاطمة الزهراء، فأزالت النجاسة من على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع النبي رأسه وهو يقول: (اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش).
وفي صحيح البخاري أن هذا الفاجر الخبيث عقبة بن أبي معيط قام على النبي يوماً وهو يصلي، فخنق النبي خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس النبي صلى الله عليه وسلم أن تخرج، وجاء الصديق رضي الله عنه وأرضاه يدفع عقبة عن رسول الله ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].
إيذاء وابتلاء، وحرب هوجاء ضروس، والله ما جاء يرجو مالاً ولا جاهاً ولا منصباً ولا وجاهة، بل جاء لينتشلهم من ظلم الشرك والوثنية إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل جلاله.(155/7)
الحرب على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته
هل توقفت الحرب على النبي بعد موته؟ كلا.
كلا.
ما توقفت حتى بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أخطر وأخبث وأبرز مراحل الحرب على شخص النبي بعد الموت ما وقع في عام خمسمائة وسبعة وخمسين من الهجرة، فهل تتصور أن الخبثاء المجرمين قد خططوا ودبروا ليخرجوا جثمان النبي الطاهر من القبر، ليفجعوا المسلمين فجيعة لا يقومون بعدها أبداً، هل تتصور ذلك؟! لولا أن الله سلم، فقد رأى السلطان الزاهد العابد نور الدين محمود زنكي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى رجلين خبيثين أشقرين يحفران في الأرض ووصلا إلى جدار الحجرة النبوية الشريفة، فخرج مع وزيره الصالح الزاهد جمال الدين الموصلي إلى مدينة الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس في الروضة بعدما صلى لله وسلم على رسول الله.
فقال الوزير: إن السلطان قد أتى إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يلتقي بالأشراف والأغنياء والفقراء ليوزع عليهم من مال الله ما يسر الله عز وجل، وجاء الأغنياء، وجاء الفقراء، والسلطان يتفرس في الوجوه لعله يرى الوجهين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم له، فلم ير أحداً.
فتعجب الرجل من هذه الرؤيا العجيبة التي تكررت مراراً، فقال السلطان: هل حضر إليَّ كل أهل المدينة؟ قالوا: نعم.
إلا رجلين يجاوران الحجرة الشريفة، وهما من الأغنياء ومن الزهاد، ينفقان الأموال بسخاء على فقراء المدينة.
قال: عليَّ بهما.
فلما دخلا على السلطان صرخ وقال: اللهم صل على محمد، هما والله هما.
وانطلق إلى منزلهما إلى جوار الحجرة النبوية، ودخل البيت بنفسه، فلم ير إلا مصحفين شريفين، ورأى أموالاً طائلة، فظل يدور والناس يعجبون من صنيع السلطان ولا يعرفون شيئاً على الإطلاق، فوجد حصيراً في جانب من جوانب البيت فكشفه فوجد سرداباً تحت الأرض، فنزل في هذا السرداب ومشى فيه حتى وصل إلى جدار الحجرة النبوية، فأمر بقتلهما على جدار الحجرة، وهو يبكي لما ناله من هذا الشرف العظيم.
وقد ذكرت هذه القصة كل كتب التاريخ التي أرخت لتاريخ المدينة النبوية الطاهرة المشرفة، كتاريخ المدينة المنورة للسمهودي، والمطري، والمراغي، ومحب الدين الطبري وغيرهم، كل كتب التاريخ التي أرخت للمدينة ذكرت هذه الحادثة المشهورة.(155/8)
الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام في العصر الحديث
لم تتوقف الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام عند هذا الحد، والحرب التي أعلنها المستشرقون في العصر الحديث لا تحتاج إلى وقفة؛ لأنها ما هي إلا نتاج عقول حقيرة أنهكها التحلل الأخلاقي، وأعجزها أن تستوعب الحقائق الكبيرة، فيغني تصورها عن إبطالها وإفسادها.
لكن أفراخ المستشرقين من العلمانيين في بلاد المسلمين يعلنون الحرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يثبت فساد عقيدتهم وخبث طويتهم، وإن زعموا أنهم يناقشون الأدلة نقاشاً علمياً بعيداً عن التجمد والانغلاق، فأين النقاش العلمي من قول خبيث من هؤلاء الخبثاء: ولما استتب الأمر لمحمد؟ هكذا بوقاحة وسوء أدب! ما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب مرة، كيف وهو يعلن الحرب عليه، وهذا القزم الخبيث الحقير لازال حياً يرزق، بل تنشر مقالاته في الجرائد، بل تنشر قصصه كاملة على صفحات جريدة سوداء تعزف على وتر الجنس والدعارة، قال: وأخذت شوكته تقوى وهو في طريقه لكي يصبح سيد جزيرة العرب كلها: تلا على أصحابه قرآناً ينص على: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]! فهل فهمت المراد -أيها الحبيب- ووقفت على خبث الكلام؟! هذا الخبيث يريد أن يقول: إن محمداً ما قرأ على أصحابه قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)، إلا لما قويت شوكته وأصبح لا يخاف المشركين، وكأن محمداً يأتي بالقرآن من عند نفسه بالمعنى الذي يريد في الوقت الذي يريد.
تدبر الكلمات الخبيثة مرة ثانية، يقول: ولما استتب الأمر لمحمد، وأخذت شوكته تقوى وهو في طريقه لكي يصبح سيد جزيرة العرب كلها، تلا على أصحابه قرآناً ينص على: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28]).
ويقول هذا الخبيث أيضاً: وهكذا قد استبان أن بتر الصلة -يعني: قطع العلاقة- اليثربية -يقصد يثرب- بين الأنصار وبين اليهود هو شطر من خطة القطيعة التي رسمها محمد ونفذها بإحكام بالغ في سبيل صبغ أصحابه بصبغة الديانة التي شربها.
هل وقفت على خبث هذا الخبيث وخطر كلماته؟! هؤلاء لا يعرفون ولاء ولا براءً، لا يعرفون ولاءً لله ورسوله والمؤمنين، ولا براء من الشرك والمشركين، ولذلك هم لا زالوا إلى يومنا هذا يعكفون على هذه الفجوة توسيعاً وتمييعاً وتخليطاً، حتى لا يعرف المسلم من يوالي ومن يعادي، ومن يحب ومن يبغض.
يقول هذا الخبيث: وهكذا قد استبان أن بتر الصلة اليثربية بين الأنصار واليهود هو شطر من خطة القطيعة التي رسمها محمد ونفذها بإحكام بالغ في سبيل صبغ أصحابه بصبغة الديانة التي شربها).
حرب قذرة تعتدي على شخص النبي وعلى سنة النبي وعلى دين النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد شهدت مصر -بلد الأزهر- في الأيام مؤتمراً للمرأة، هذا المؤتمر بكل صفاقة ووقاحة وقلة حياء أعلنت فيه الحرب على الثوابت، فأعلنت فيه المطالبة بإلغاء القوامة، فلا قوامة للرجل على المرأة، والمطالبة بإلغاء العدة، والمطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الميراث.
ثم تقول خبيثة تنتسب إلى الإسلام: إن الرجال يركعون أمام ركبتي مادلين أولبرايت الجميلتين.
وتقول خبيثة أخرى -في كلمات والله أستحي أن أذكرها-: إن الرجال يفعلون كذا -فعلة خبيثة معروفة بين الشباب إلا من رحم ربك- على صور مارلين مونرو.
هذا مؤتمر لنساء ينتسبن إلى الإسلام، ويقلن مثل هذا الكلام الخطير الخبيث الذي يستحي الرجل العادي فضلاً عن المؤمن التقي أن يذكره ورب الكعبة، فكيف لو ذكرتها امرأة داست على أنوثتها؟ لا أقول: داست على دينها فهؤلاء قد دسن على الدين منذ زمن، لكن أقول: داست على أنوثتها، وداست على قيم مجتمعها، وداست على أخلاق مجتمعها، يردن لهذا المجتمع ألا تبقى فيه بقية باقية من خلق للإسلام، ومن دين للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، إنما يردن أن يذبن ذوباناً كلياً في بوتقة الشرق الملحد والغرب الكافر، وقد حذر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى من هذا الذوبان الخبيث الخطير، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم).(155/9)
هذه طبيعة الطريق
أيها الأحبة! حرب منذ اللحظات الأولى، وستستمر استمرار الصراع بين الحق والباطل، فهذه هي طبيعة الطريق، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر الموضوع.
أيها الأحبة! أيها الشباب! أيتها الأخوات المنتقبات العفيفات الفاضلات! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! إن طريق الدعوة إلى الله طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، إن طريق الأنبياء ليس ممهداً بالورود والزهور والرياحين، كلا كلا.
ولكنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك، مليء بالفتن والمحن والابتلاءات، يعوي على جانبيه الذئاب من المجرمين والمشركين والمنافقين، ممن لا يريدون لهذا النور أن ينتشر، ولا يريدون لهذا الخير أن يعم الأرض والآفاق، هذه طبيعة الطريق لابد من معرفتها.
أنا لا أسوق هذه المرحلة الطولية من مراحل الدعوة لمجرد الرصف التاريخي فحسب، كلا إنما لنعرف هذه المرحلة ولنستوعبها ولنفهمها فهماً شمولياً كاملاً، لينطلق الدعاة والسائرون على طريق الدعوة بعد ذلك من ذاك المنطلق الذي انطلق منه صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، وليقيم الدعاة والمسلمون بنيانهم من جديد على الأساس الذي أقام عليه البنيان محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ليعرف كل سالك للطريق طبيعة الطريق حتى لا ينحرف عن الطريق عند أول منعطف من المنعطفات، فلا يتخلى عن الطريق عند أول فتنة من الفتن أو عند أول محنة من المحن أو عند أول ابتلاء من الابتلاءات.
يتعرض الشاب لابتلاء خطير، فسرعان ما يحلق اللحية، وتتعرض الفتاة لمحنة طفيفة فسرعان ما تتجرد من لباس العفة والشرف فتخلع النقاب، ويتعرض المسلم لمحنة فيتخلى عن الطريق، فإذا ما نودي عليه: يا شيخ فلان! يقول: لست اليوم شيخاً، إن أردت أن تنادي فقل: يا كابتن فلان! لا يريد أن ينادى عليه بهذا اللفظ.
يأتي أحدهم من بلد ما ويقال له: ستتعرض في المطار لبعض الأذى، فقد تقف في المطار عشر ساعات.
فيقول: لا أطيق ذلك.
فيتجرد في التو واللحظة من وسام السنة والشرف ويحلق اللحية! صار الدين رخيصاً جداً عند كثير ممن ينتسبون إلى الدين، من أجل التجارة يتخلى عن دينه، من أجل الدنيا يتخلى عن دينه والتزامه، أصبح الدين رخيصاً، فكثير ممن يردد الآن ألفاظ الدعوة.
العقيدة.
الدين.
الالتزام إن تعرض لمحنة -وهو لا يعرف طبيعة الطريق- يتخلى عن الطريق، ويضع الأمانة بلا أمانة، نموذج متكرر في كل حين وجيل، نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، فإن حقق ربحاً من سيره على طريق الدعوة فهو مع السائرين، وإن تعرض لمحنة تخلى عن الطريق وتركه فخسر الدنيا والآخرة.
قال جل في علاه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
فلابد على الطريق من المحن، ولابد على الطريق من الابتلاءات، لابد من محنة في الشيشان، ولابد من محنة في كشمير، ولابد من محنة في فلسطين، ولابد من محنة في أفغان، لابد من محنة في كل مكان، لابد من محن فردية للأفراد هنا على الطريق، ليس عذاباً من الله على أصحاب الدعوات، كلا كلا، وإنما لابد من المحن والفتن والابتلاءات على طول طريق الدعوة ليميز الله بهذه الفتن أصحاب الدعوات الحقة من أصحاب الدعاوى الزائفة، فلن يثبت على طريق الدعوة إلا الصادقون، مهما كانت الفتن ومهما كانت الابتلاءات.
وسيترك الطريق مع أول محنة المهرجون والكذابون والخادعون والمضللون؛ لأنهم لا ينبغي أن يكونوا أصحاب دعوة ولا يستحقوا أن يكونوا أمناء على منهج، فلابد من طردهم من الصف، حتى لا يثبت على الصف إلا الصادقون المؤهلون لرفع الراية والسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
هذه طبيعة الطريق، ولقد احتاج النبي -وهو صاحب الدعوة- إلى أن ينادي عليه ربه جل جلاله، ويأمره ربه بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، ومن ثم يأتي الأمر من الله للمؤمنين الصادقين السائرين على درب النبي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت أنه أتى إلى النبي بعدما اشتد الإيذاء والعذاب، والرسول جالس عند الكعبة، فيقول خباب: (يا رسول الله! ألا تستنصر الله لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟)، تصور حجم العذاب وشدة المأساة من خلال طلب خباب.
وهذا حال كثير من شبابنا الآن: اشتد البلاء، وانتشر الباطل، وضعف الحق، وضاعت العزة، أين الاستخلاف؟ أين التمكين؟ إلى آخر هذه الكلمات التي تنم عن قلوب مريضة وعن يأس وقلق، ولا أريد أن أقول: عن شك في كلام الله ورسوله.
قال: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد النبي وقد احمر وجهه وظهر الغضب عليه، وقال: (والذي نفسي بيده! لقد كان الرجل من قبلكم يؤتى به، فيوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون العظم واللحم ما يصده ذلك عن دين الله، والله ليتمن الله هذا الأمر -أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، نعم (ولكنكم تستعجلون) قالها النبي لأصحابه، وأنا أكرر قول النبي لأصحابي وأحبابي وإخواني من المسلمين والمسلمات فأقول: والله إنكم تستعجلون! أيها الشباب! إياكم أن تظنوا أن الله لا يسمع ولا يرى، إياك أن تظن -أيها الشاب- أنك أرحم بالمعذبين المشردين هنا وهنالك من رب العالمين، ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، إذاً فلماذا هذا؟ لأن الأمة لا تستحق النصرة الآن، وصدق ربي إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وصدق ربي إذ يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
إنَّ الأمة غيرت في جانب العقيدة، وفي جانب العبادة، وفي جانب الشريعة، وفي جانب الأخلاق، وفي جانب المعاملات والسلوك، غيرت الأمة كثيراً، وإن لله في الكون سنناً ربانية لا تحابي أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائد المعركة في أحد، فلما تخلى بعض الصحابة عن أسباب النصر كان ما نعلم، فالله لا يحابي أحداً من الخلق، فالأمة ليست الآن مهيأة للنصر، بل لا تستحق النصر لسنن الله الربانية في الكون، إلا إذا عادت مرة أخرى لتردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
كما أن الله جعل الابتلاء سنة جارية للتمحيص وتمييز الصف، فإن الله قد جعل انتصار الحق في النهاية سنة جارية ثابتة، وهذا هو عنصرنا الثالث والأخير (انتصار الحق سنة جارية)، وأرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(155/10)
انتصار الحق سنة جارية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، وبعد: أيها الأحبة! انتصار الحق سنة جارية، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، إن الذي يفصل في الأمر حتماً -كسنة ربانية ثابتة- في نهاية الطريق ليست ضخامة الباطل، وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولاشك ولاريب ولا خلاف ولا نزاع في أننا نحمل الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، بل ومن أجله أنزل الكتب وأرسل الرسل.
معنا الحق، ومعنا رفيق الفطرة في الكون، فطرة الله التي فطر الناس عليها، معنا رفيق فطرة الإنسان المسلم الطيبة، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويالها من معية كريمة لو عرف المؤمنون قدرها، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
فالحق مهما انزوى وضعف كأنه مغلوب فإنه ظاهر، والباطل مهما انتفخ وانتفش كأنه غالب فإنه زاهق، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فالحق حق والباطل باطل، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
ولقد وقفت على وثيقة التنصير الكنسي التي تخرج من الفاتيكان بتوقيع جونبول الثاني، فقرأت فيها كلاماً يقول فيه البابا للمنصرين -أي: للمبشرين بلغتهم-: هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوروبا.
وأنا حينما أفكر في الجهود التي تبذل للإسلام أكاد أبكي والله؛ لأنك لو قارنت ما يبذل للإسلام من جهود وما يبذل للنصرانية وغيرها من جهود لرأيت العجب العجاب، ولكن الإسلام دين الفطرة، فإنهم يقبلون عليه لأنه دين الفطرة، فهم الذين يبحثون الآن عنه، بل إن الإسلام ينتشر في روسيا الملحدة التي ظلت تحارب الإسلام سبعين عاماً أو يزيد، وكان أحدهم إذا أراد أن يقرأ كتاب الله نزل السراديب تحت الأرض، وبعد هذه المدة وجدنا الإسلام هنالك لم يمت ولن يموت، وهكذا في فرنسا وفي ألمانيا وفي إنجلترا وفي أمريكا وفي كل بقاع الأرض، نرى كوكبة كريمة من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، وإن المشهد الذي نراه الآن من آلاف مؤلفة، بل من عشرات الآلاف من شبابنا وأخواتنا وأمهاتنا لمن أعظم الأدلة العملية على أن فجر الإسلام قادم، وأن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وصدق القائل: ولئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلا ئعاً حرة رغم المكائد تخرج وصدق القائل أيضاً: صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا إني أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر إخواننا في الشيشان، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم احفظهم بحفظك، اللهم اكلأهم بعنايتك ورعايتك، اللهم إنه قد تخلى عنهم الشرق والغرب فلا تتخل عنهم بذنوبهم وذنوبنا، اللهم لا تتخل عنهم بذنوبهم وذنوبنا، اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، وكن لهم معيناً يوم قل المعين، اللهم كن لهم ناصر يوم قل الناصر وكن لهم معيناً يوم قل المعين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الروس الملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الروس الملحدين، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدام الروس الملحدين، يا رب! شتت شملهم، يا رب! مزق جمعهم يا رب! شتت شملهم، يا رب! مزق جمعهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، اللهم يا من نصرت محمداً! يا من نصرت محمداً! يا من نصرت محمداً! اللهم انصر الشيشان واهزم الروس الملحدين، بعظمتك وقدرتك يا رب العالمين! اللهم ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، ارحم ضعفنا، واقبل عذرنا، واقبل عذرنا، واقبل عذرنا، وارحم ضعفنا واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفرج كربنا، واكشف غمنا، ووأزل كربنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وفك أسرنا، وتولَّ أمرنا، وتولَّ أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وارفع مقتك وغضبك عنا، وارفع مقتك وغضبك عنا، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! أغثنا يا رب العالمين، أغثنا يا رب العالمين! أغثنا يا رب العالمين! أغثنا يا رب العالمين! اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعز التوحيد والموحدين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم أذل الشرك والمشركين، وأعز التوحيد والموحدين والإسلام والمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين! ويا كاشف الهم عن المهمومين! فرج كرب أمة سيد النبيين، واكشف هم كربة أمة سيد المرسلين بعظمتك وقدرتك يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً، ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
يا رب! اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا بنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، يا رب ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(155/11)
من السبع الموبقات - الشرك بالله
من أجل تحقيق التوحيد لله خلق الله الجن والإنس، ومن أجله أنزل الكتب وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، فالتوحيد هو الأساس الذي تبنى عليه الأعمال، وبدونه لا يقبل أي عمل، ولهذا لم يأمر الله تعالى بشيء كأمره بالتوحيد، ولم ينه عن شيء كنهيه عن الشرك، فهو أم الكبائر وأعظم الظلم، لا يقبل الله من المشرك صرفاً ولا عدلاً، ولا يستحق المغفرة ولا الرحمة، بل يستحق الخلود في النار وبئس القرار!(156/1)
أعظم الموبقات وأكبر الكبائر الشرك بالله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! قدر الله جل وعلا أن نختم حديثنا عن أئمة الهدى ومصابيح الدجى بالحديث عن الأئمة الأربعة المعروفين، وسأكتفي بهذا القدر في الحديث عن هذه السلسلة الكريمة، سائلاً الحق تبارك وتعالى أن ينفع بها، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
لنبدأ من اليوم -إن شاء الله جل وعلا- سلسلة منهجية جديدة أخرى بعنوان: اجتنبوا السبع الموبقات، وهذه السلسلة شرح لحديث صحيح رواه الإمام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، هذه هي السبع الموبقات التي سنقف معها إن لم يكن في سبعة لقاءات، ففي تسعة أو في عشرة لقاءات إن قدر الله جل وعلا لنا البقاء واللقاء.
(اجتنبوا السبع الموبقات) أي: المهلكات، وسميت بالمهلكات؛ لأنها سبب لإهلاك صاحبها ومرتكبها عياذاً بالله، قال الحافظ ابن حجر: والموبقة هنا هي الكبيرة.
وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم الحديث عن أكبر الكبائر ألا وهو الشرك بالله، والحديث عن الشرك أيها الأحبة حديث طويل بطول رحلته على هذه الأرض من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، ولذا حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في عدة عناصر: أولاً: خطورة الشرك.
ثانياً: رحلة الشرك إلى الأرض.
ثالثاً: أقسام الشرك.
رابعاً: فضل تحقيق التوحيد.
فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار، فإن لقاءنا اليوم من الأهمية بمكان.
أولاً: خطورة الشرك: أحبتي في الله! إن الشرك أظلم الظلم، وأقبح الجهل، وأكبر الكبائر، ومن ثم لم تدع الرسل جميعاً إلى شيء قبل التوحيد، ولم تنه الرسل جميعاً عن شيء قبل التنديد، ولذا لم يتوعد الله جل وعلا على ذنب مثلما توعد على الشرك من الوعيد الشديد، فقال ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، وقال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
أيها الحبيب! ستعجب إذا علمت أن الله جل وعلا قد خاطب صفوة خلقه وهم الرسل بقوله جل وعلا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، بل وسيزداد عجبك إذا علمت أن الله جل وعلا قد خاطب إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، هذا خطاب من الله لإمام الموحدين، وقدوة المحققين محمد صلى الله عليه وسلم، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] أي: من إخوانك من النبيين والمرسلين.
ومن ثم حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشرك تحذيراً شديداً فقال كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن مسعود: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار)، قال ابن مسعود وقلت أنا: (ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة).
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار).
وفي الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنهما قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة وكان عنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عمه أبي طالب، فقال: أي عم، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فالتفت اللعين أبو جهل إلى أبي طالب وقال: يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزل قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]).
هذا هو خطر الشرك، لا يقبل الله فيه استغفاراً، ولا يقبل الله فيه شفاعة ولو كانت من سيد الخلق وحبيب الحق المصطفى صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116].(156/2)
رحلة الشرك إلى الأرض من نوح عليه السلام إلى زماننا هذا
أيها الأحبة في الله! الآيات والأحاديث في خطورة الشرك كثيرة، ولا يتسع الوقت للوقوف عليها كلها أو حتى على معظمها، والسؤال الذي يقفز الآن إلى أذهانكم جميعاً هو: كيف وصل هذا الشرك إلى الأرض؟ وكيف دنس الشرك فطرة التوحيد التي فطر الله الناس عليها؟ والجواب عند جمهور أهل العلم: أن بداية ظهور الشرك كانت في قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما روى ذلك الإمام ابن جرير الطبري شيخ المفسرين بسنده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على شريعة من الحق والهدى، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
كان أولاد آدم من ذريته على ملة أبيهم، على التوحيد الخالص، وعلى العبادة الصحيحة لله جل وعلا، وإن كان وقع بعض المعاصي والذنوب كالقتل وغيرها كما تعلمون جميعاً، ولكن العبادة والتوحيد كان خالصاً لله جل وعلا إلى أن جاء قوم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فجاء الشيطان -لعنه الله- وزين لقوم نوح عبادة الأصنام، أتدرون ما هي أول قصة لهذه الأصنام؟! هذه الأصنام والتماثيل التي عبدها قوم نوح كانت لقوم صالحين، كما قال ابن عباس، والحديث في صحيح البخاري في كتاب التفسير في سورة نوح في: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، قال: (هذه أسماء قوم صالحين من قوم نوح فذهب الشيطان إليهم وقال: انصبوا لهؤلاء الصالحين تماثيل، وضعوا هذه التماثيل في مجالسكم؛ لتظلوا دائماً تذكرونهم بكل خير، ولتظل سيرتهم حية تنبض بالحياة بينكم، ففعل قوم نوح هذا، ولكنهم في أول الأمر ما عبدوا هذه التماثيل ولا هذه الأصنام، وإنما وضعت هذه التماثيل وكانوا يعظمون أهلها ويقدرون أصحابها؛ لأنهم كانوا قوماً صالحين، فلما نسي العلم وهلك هؤلاء جاء من بعدهم فظنوا أن هذه التماثيل هي آلهة آبائهم فعبدوها من دون ربهم جل وعلا).
فلما أراد الله أن ينتشلهم من هذا الشرك، ومن هذه الأوحال والظلمات أرسل الله جل وعلا إليهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم نوح إلى التوحيد، وأمرهم بعبادة الله وحده، وأمرهم أن يتركوا هذه الأصنام وهذه الآلهة المكذوبة، ودعاهم في الليل والنهار، في السر والعلن، ولكنهم عاندوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقالوا على قلب رجل واحد: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23].
فلما يئس نوح عليه السلام دعا الله جل وعلا: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، أي: يضلوا عبادك الموحدين المؤمنين.
فاستجاب الله جل وعلا لدعوة نوح.
وفي سورة أخرى قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:10 - 12]، أي: ماء السماء مع ماء الأرض، قدرناه ودبرناه وأحكمناه، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:12 - 14]، إنها قدرة الله جل وعلا، فأهلك الله قوم نوح بالطوفان.
ثم انتقل الشرك من بعد قوم نوح إلى قوم عاد، فجاء قوم عاد فعبدوا آلهة أخرى مع الله جل وعلا، منها: هدى وصدى وصمود، فأرسل الله إليهم هوداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم إلى توحيد الله، وإلى عبادة الله جل وعلا وحده، فكذبوه وعارضوه وعاندوه، فاستجاب الله عز وجل لنبيه فأهلك الله قوم عاد بريح صرصر عاتية.
ثم جاء من بعدهم قوم ثمود، فأرسل الله جل وعلا إليهم صالحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فدعاهم إلى توحيد الله وإلى عبادة الله جل وعلا وحده، فكذبوه وحاربوه، فأهلكهم الله جل وعلا بالصيحة.
ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى قوم إبراهيم الذين عبدوا الأصنام، وعبدوا الشمس، وعبدوا القمر، وعبدوا الكواكب والنجوم، فأرسل الله إليهم خليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وامتن الله على إبراهيم فجعل النبوة والكتاب في ذريته إلى يوم القيامة، فجميع الأنبياء من بعد إبراهيم من نسل إسحاق، ولم يبعث الله جل وعلا من نسل إسماعيل إلا نبينا وحبيبنا المصطفى، وجعله الله جل وعلا أفضل الأنبياء وسيد المرسلين.
ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى بني إسرائيل، فعبد أولهم العجل الذي حرقه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعبد آخرهم عزيراً والمسيح تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
ثم انتقل الشرك بعد ذلك إلى أرض الجزيرة العربية على يد عمرو بن لحي الخزاعي قبحه الله، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار)، و (قصبه) بضم القاف وسكون الصاد هي: الأمعاء، (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائيب)، وفي لفظ أحمد: (وغير دين إبراهيم).
هذا الرجل هو أول من جاء بالأصنام إلى أرض الجزيرة العربية، وبدأت الأصنام من بعده تكثر وتنتشر حتى ملأت بيت الله الحرام، وكثرت الأصنام حول الكعبة ذاتها، وعبد الناس الحجارة من دون الله جل وعلا، حتى ثبت في الحلية لـ أبي نعيم، وفي سير أعلام النبلاء للذهبي بسند صحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر في الجاهلية فإذا رأينا حجراً أحسن منه ألقينا الأول وأخذنا الثاني فعبدناه من دون الله جل وعلا، فإذا لم نجد حجراً أتينا بكومة من التراب وجئنا بالغنم فحلبناها عليه، وطفنا بهذه الكومة نعبدها من دون الله عز وجل.
فلما أراد الله أن ينتشلهم من هذا الشرك إلى أنوار التوحيد والإيمان، بعث الله فيهم إمام الموحدين، وقدوة المحققين محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام لينقذهم من هذا الجحيم الذي أشعلوه بأيديهم، وعشقوا الاحتراق بناره، فجاء النبي يدعوهم إلى لا إله إلا الله، ويعلمهم بأن هذه الحجارة لا تضر ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن نفسها شيئاً، فمنهم من عاند وأعرض وكفر، وقالت فئة منهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:5 - 7].
ووضعت هذه الفئة الكافرة السدود والحواجز والأشواك والصخور والحجارة أمام النبي صلى الله عليه وسلم والموحدين معه، ولكن هذا كله لم يزد الفئة المؤمنة الموحدة التي ذاقت حلاوة الإيمان وطعم التوحيد إلا إيماناً وإصراراً وثباتاً على الحق وإخلاصاً لهذا التوحيد الذي ذاقوا حلاوته، حتى جاء نصر الله جل وعلا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وظلت الأمة ترفل في ثوب التوحيد التي كساها إياه إمام الموحدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى بدأت الفتن تطل برأسها الظلوم، وبوجهها الكالح الغشوم، وابتعدت الأمة رويداً رويداً عن حقيقة التوحيد، وبدأ الشرك يظهر في كثير من بلدان الأمة المؤمنة الموحدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهاهي صور الشرك ومظاهر الشرك قد أنتنت الأرض والبقاع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولابد أن نعلم -أحبابي- أن الشرك لم يعد يتمثل في هذه الصورة الساذجة التي كانت تتمثل في صورة الصنم الذي يصنعه المشرك الأول بيديه، ويسجد له من دون الله جل وعلا، كلا! بل لقد تعقد الشرك وكثر، وتعددت صوره ومظاهره في مجال الاعتقاد، وفي مجال النسك، وفي مجال التشريع، ولا يتسع الوقت لهذا التفصيل، ومظانه كتب التوحيد لعلماء السلف.
بل يكفي أن نعلم جميعاً أنه إلى يومنا هذا وإلى ساعتي هذه، يوجد في هذا العالم المتحرر المتحضر المتنور في الهند وحدها أكثر من مائتي مليون بقرة تعبد من دون الله.
بل ولو مشت البقرة في شارع من الشوارع العامة؛ لتوقف وراءها سيل من السيارات، لا تجرؤ سيارة مهما كان قائدها أن تخطو خطوة واحدة إلا إذا تفضلت البقرة بالانصراف عن الطريق العام!! وناهيكم إذا ما دخلت البقرة محلاً من المحلات العامة وتبولت -أعزكم الله- لسعد صاحب المحل سعادة غامرة وقال: لقد حلت علي اليوم بركات الإله!! بل وستعجبون إذا علمتم أن في الهند ذاتها معابد ضخمة تقدم إليها النذور والقرابين، ولكن هل علمتم ما هي الآلهة التي تعبد في هذه المعابد الفخمة الضخمة؟! إنها الفئران!! يا للعار على هذا العقل البشري إذا انفك وتحدى نور الوحي الإلهي.
بل وأقول بملء فمي: يا للعار ويا للشنار على أهل التوحيد وعلى أمة التوحيد، ما الذي قدمناه؟ وما الذي فعلناه؟ وما الذي بذلناه؟ بل أقول بمنتهى الحسرة والمرارة: ما الذي قدمناه للمسلمين الذين غاب عن ظنهم ووعيهم وعقلهم مفهوم التوحيد الشامل، وحقيقة التوحيد الخالص؟ ومن باب أولى: ما الذي قدمناه لغير المسلمين من الكفار والمشركين الذين ينتظرون منا أن نعلمهم وأن نسمعهم كلمة التوحيد، وأن نقيم عليهم الحجة الرسالية في الأرض التي قال الله عنها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]؟ أيها الأحبة! إن هذا يلقي بأعظم المسئوليات على عواتقنا وعلى كواهلنا نحن الموحدين، ولتعلموا جميعاً يا شباب الصحوة بأن التوقف لإصدار الأحكام على الن(156/3)
أقسام الشرك
الشرك ينقسم إلى قسمين، ألا وهما: شرك أكبر.
وشرك أصغر.(156/4)
الشرك الأصغر: الرياء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! ويبقى الحديث عن القسم الثاني من أقسام الشرك، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا القسم في حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عمران بن حصين وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جازى خلقه أو عباده: اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا هل تجدون عندهم جزاءً).
فيا من لا تؤدي العبادة لله جل وعلا وإنما لابتغاء المحمدة والثناء عند الخلق، عند المهازيل من البشر؛ اتق الله! واعلم بأنه لا يوجد مخلوق على ظهر هذه الأرض يستطيع أن ينفعك أو يضرك إلا بأمر الله جل وعلا، فوجه عبادتك وتوحيدك لله عز وجل؛ لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو ما كان موافقاً لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
والرياء لغة: مشتق من الرؤية، وشرعاً: هو إرادة العباد بطاعة رب العباد، بأن تبتغي بعملك الثناء عند الناس والمحمدة والشكر ولا تبتغي بعملك وجه الله جل وعلا، اعلم حينئذٍ بأن عملك حابط ومردود على رأسك؛ لأن الله أغنى الأغنياء عن الشرك، لا يقبل ذرة شرك في عمل من الأعمال، بل يترك عملك وشركك إلى من وجهت العمل إليه عياذاً بالله.
فيا أيها الحبيب الكريم! أخلص العمل لله وأخلص العبادة لله، أذكر نفسي وإياك، وأسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين الصادقين إنه ولي ذلك ومولاه، ووالله لو لم نسمع في خطورة الرياء إلا حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام مسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال شهيد وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فيؤتى به فيعرفه الله نعمه فيعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمت، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، بل تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل آتاه الله من أصناف المال، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت سبيلاً من سبل الخير تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت، ولكنك أنفقت ليقال جواد وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه في النار) هذه هي خطورة الرياء أيها الأحبة!(156/5)
الشرك الأكبر
أما الشرك الأكبر فهو: اتخاذ الند لله أو مع الله، بأن يتخذ العبد نداً لله أو مع الله جل وعلا، يحبه كما يحب الله، ويخافه كما يخاف الله، وينقاد له كما ينقاد لله جل وعلا، في جانب الاعتقاد تارة، أو في جانب النسك -أي: العبادة- تارة أخرى، أو في جانب التشريع وهو الجانب المر الحنظل مرة ثالثة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا أيها الحبيب! الشرك الأكبر لا يغفره الله إلا بتوبة صادقة، بالإقرار بالوحدانية لله، وبخلع الشرك على عتبة التوحيد من أول لحظة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وهذا الشرك قال الله عنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167].
وهذا الشرك هو شرك التسوية الذي قال الله عنه على لسان المشركين لآلهتهم في النار قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، إن هذه التسوية هي بالمحبة والتعظيم والعبادة، وفي التشريع، فلقد قبلوا آراءهم وتشريعاتهم وعظموها أكثر من تعظيمهم لتشريعات ربهم جل وعلا، والله تبارك وتعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، وقال الله عن المؤمنين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، شعار أهل الإيمان السمع والطاعة، سمع بلا تردد، وطاعة بلا انحراف.
هذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله جل وعلا، إما أن يتخذ العبد نداً مع الله، وإما أن يتخذ العبد نداً لله نداً يعبده من دون الله أو نداً يعبده مع الله، كشرك هؤلاء الذين يعبدون آلهة أخرى يظنون أنها تشفع لهم عند الله جل وعلا يوم القيامة.
والعجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قطع وسد هذا الباب وقال كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة لما سأله: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ -أتدرون ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام؟ - قال: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، والشاهد أن النبي قد جعل أعظم أسباب الشفاعة: إخلاص التوحيد وتجريد التوحيد لله جل وعلا، فلا يشفع مخلوق عند الله عز وجل، إلا إذا قبل الله الشفاعة ابتداءً، ورضي الله عن الشافع وعن المشفوع فيه أو المشفوع له، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
ولا يقبل الله من الناس إلا التوحيد الخالص والعبادة الصحيحة لله جل وعلا، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
ويبقى الحديث عن القسم الثاني من أقسام الشرك إلى ما بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(156/6)
فضل التوحيد وتحقيقه
وأختم الحديث عن الشرك بأحاديث خفيفة سريعة عن فضل التوحيد وعن فضل تحقيق التوحيد، ليسعد الموحدون وليسجد الموحدون شكراً لله رب العالمين، وليزداد كل واحد منا حرصاً على التوحيد لله وخوفاً من الوقوع في الشرك، وكيف لا أخاف الشرك ولا تخاف الشرك وقد خاف الشرك خليل الله إبراهيم ودعا ربه جل وعلا بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35].
ففي الصحيحين من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل)، هذا فضل التوحيد أيها الموحدون.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وصححه على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وأطال النفس كثيراً الإمام ابن القيم في الرد على من أعل هذا الحديث في تهذيب السنن، وصحح الحديث أيضاً شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي يوم القيامة على رءوس الخلائق، وينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ويقول الله عز وجل: أفلك عذر؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول الله جل وعلا: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول الله عز وجل: احضر وزنك فإنك لا تظلم، فيقول العبد: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله جل وعلا: احضر وزنك فإنه لا ظلم عليك اليوم، يقول: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فإنه لا يثقل مع اسم الله شيء).
ذلكم هو التوحيد لله الذي قال عنه الإمام ابن القيم: إن السر العجيب الذي ثقل بطاقة هذا الرجل وطاشت من أجله السجلات هو التوحيد الخالص، هو التوحيد الخالص الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب والخطايا لبددتها وأذابتها، فإن للتوحيد نوراً يبدد ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة هذا النور، إن السر هو التوحيد الخالص، هو التوحيد الصادق، هو إخلاص العبودية والعبادة لله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام:162]، وليس لأحد، ليس لأي إله من الآلهة المكذوبة المفتراة المدعاة {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
قل بحق وصدق: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين.
أخلص توحيدك لله، أخلص عبادتك لله، ليكن ذبحك لله، ونذرك لله، وحلفك بالله، وطوافك ببيت الله فقط لا بغيره ولا بقبر أحد من الخلق على ظهر هذه الأرض، ولو كان بقبر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، لا ببيت هذا ولا بقبر فلان، ولا تذبح إلا له، ولا تنذر إلا له، ولا تحلف إلا به، ولا تسأل إلا الله، ولا تستعن إلا بالله، ولا تطلب الغوث والمدد إلا من الله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وأرض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله ما لك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله أيها الحبيب الكريم! وأختم بهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم والإمام الترمذي وهذا لفظ الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجنبني وإياكم الشرك، وأن يجعلني وإياكم من المحققين للتوحيد، من المخلصين للعبودية والعبادة لله رب العالمين.
وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم كن للمسلمين الحفاة وكن للمسلمين العراة وكن للمسلمين الجياع في وقت تخلى فيه الجميع عنهم في البوسنة والهرسك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم وفق حكام المسلمين لما تحبه وترضاه، الله احفظ حكامنا وثبت علماءنا وفرج كربنا وكربهم برحمتك يا رب العالمين، اللهم فرج كرب العلماء، اللهم فرج كرب الأتقياء، اللهم فرج كرب الأصفياء، اللهم فك سجن المسجونين وأسر المأسورين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أحبتي في الله! صلوا وسلموا على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والحمد لله رب العالمين.(156/7)
من مقتضيات الحب الصادق
المؤمن الصادق يحب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من كل شيء، حتى من نفسه، والحب الصادق لله ورسوله ليس مجرد ادعاء، إنما هو اتباع وتمسك بكتاب الله عز وجل، وبهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحكيم لشريعته واستجابة لأوامره، وليس الحب بالغلو والإطراء، ولا بالاحتفال والغناء.(157/1)
حب النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي في اتباعه
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات عمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبيناً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (مقتضيات الحب الصادق) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه، فسوف ينتظم حديثنا فيها تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: البراءة من الشرك.
ثانياً: تحقيق التوحيد.
ثالثاً: تحكيم الشريعة.
رابعاً: الولاء والبراء.
خامساً: سمع بلا تردد، وطاعة بلا انحراف.
وأخيراً: حب يفوق حب النفس والمال والأبناء، بلا غلو أو إطراء.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان؛ لأننا نرى الأمة تحتفل بذكرى ميلاد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهي أمة لا تستحي إلا من رحم ربك جل وعلا!! إذ إن الأمة الآن تدعي أنها تحتفل برسول الله في الوقت الذي نحَّت فيه شريعته، وأخرت فيه سنته، وذهبت الأمة لتختار لنفسها من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية ما تنقض به من الأساس زعمها الباهت أنها تكرم سيد البشرية! فخذ مني أيها الحبيب! المقتضيات التي إن حققتها وامتثلتها فأنت ممن أحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً صادقاً، وستحشر مع النبي بالحب الصادق، كما في حديث أنس المخرج في الصحيحين قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! متى الساعة؟! فقال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل إلا أني أحب الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب).
يقول أنس: (فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي: (المرء مع من أحب) ثم قال: وأنا أحب رسول الله وأبا بكر وعمر، وأرجو الله أن أُحشر معهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم) أيها الحبيب الكريم! الحب الصادق له مقتضيات الحب الصادق له شروط، وقال الشاعر: من يدعي حُبَ النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌُ وهُراء فالحب أول شروطه وفروضه إن كان صدقاً طاعةُ ووفاءُ وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فإن أردت أن يحبك الله جل وعلا وأن يحبك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبع أثر النبي، واقتفى أثره واتبع هديه، فإن رفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه اليمنى فضع قدمك اليمنى، وإن رفع النبي قدمه اليسرى فضع قدمك اليسرى، وسر على هذه الآثار الكريمة لترى المصطفى في نهاية هذا الطريق ينتظرك على الحوض إن شاء الله جل وعلا.
قف مع مقتضيات الحب الصادق لنقف على زعم الأمة الباهت أنها تحتفل بالنبي، وكان من الواجب أن يكون قدر النبي في قلوبنا عظيماً كما عظمه وأجله ربه جل وعلا.
فلا ينبغي أن تحتفل الأمة بالنبي في ليلة ساهرة حافلة تحت الطبل والزمر، ومع اختلاطٍ فاحشٍ بين الرجال والنساء والشباب والشواب! ثم تنقضي الليلة قبل الفجر لينفض الجميع وما صلى أحدٌ منهم صلاة الفجر لله جل وعلا إلا من رحم ربك من أفراد قلائل! أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن رحم.(157/2)
مقتضيات حب النبي صلى الله عليه وسلم(157/3)
حب النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب السلف
وأختم بهذه الصورة المشرقة السريعة التي تبين كيف كانت محبة النبي في قلوب الأطهار الأبرار الأخيار؟ تدبر هذا المشهد أيها الحبيب! إنه المغيرة بن شعبة عند أن كان يقف ليظلل على رأس النبي من الشمس في الحديبية -كانوا لا يقبلون أن تلفح وجهه حرارة الشمس، ولا نسمة هواء باردة- فجاء عروة بن مسعود الثقفي رسولاً من قبل قريش ليفاوض النبي في الحديبية، فكان المغيرة واقفاً يظلل ويحمي رسول الله، فمد عروة بن مسعود يده ليداعب بعض الشعرات الطاهرات من لحية الحبيب محمد جرياً على عادة العرب في التودد إلى من يريد هذا المتحدث أن يكلمه، فمجرد ما مد عروة يده ليمسك لحية النبي عليه الصلاة والسلام وإذ بـ المغيرة ابن أخي عروة يضرب يد عمه بمؤخرة السيف ضربة شديدة وهو يقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا سأقطعها، مع أنه مدها مداعبة لشعرات النبي صلى الله عليه وسلم! وأنا أقول الآن: قد يُسب دين الله ودين رسول الله اليوم، في الوقت الذي ترون فيه على شاشة التلفاز أن لاعبي الكرة يرفعون على الأعناق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب، وتصاغ لهم الأمجاد، وتهتف وتصفق لهم الجماهير المخدوعة! وبالله عليك تخيل معي مشهد أبي دجانة رضوان الله عليه في غزوة أحد، وهو يترس على النبي، وقد أخذ النبي في صدره بين أحضانه وأعطى ظهره للسيوف والرماح والنبال؛ خشية أن يصل سهم طائش إلى صدر الحبيب سيد الرجال.
وتدبر معي مشهد طلحة وهو يقاتل أمام النبي يمنة ويسرة، والرسول يقول لـ طلحة: (فداك أبي وأمي يا طلحة! وطلحة يلتفت إلى النبي ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله!).
وتدبر معي هذا المشهد العجيب لشاب من شباب الصحابة كان في أحضان عروسه، إذ لا زالت الليالي الأولى لعرسه الكريم، فيسمع النداء: يا خيل الله اركبي، وسمع: حي على الجهاد، فينسل من بين أحضان عرسه ويتسلل تتسلل القطا، وإن شئت فقل: نزعه من أحضان عرسه حبه لله ولرسول الله، وانطلق مسرعاً لينال شرف الصف الأول خلف رسول الله، ويسقط شهيداً في الميدان وبعد انتهاء المعركة يرفع التقرير الطبي إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقال: يا رسول الله! إنا نرى على حنظلة أثر ماء، فمن أين جاء هذا الماء والحرارة تذيب الحجارة والصخور؟! من أين هذا الماء، وينزل المصطفى بنفسه ليقرر حالة هذه الجثة الموحدة الطيبة الطاهرة ويرى النبي بعينه أثر الماء فيأمرهم أن يسألوا أهله، فتقول: لقد سمع منادي الجهاد يقول: يا خيل الله! اركبي، حي على الجهاد، فلم يمهله الوقت ليرفع عن نفسه الجنابة، فخرج إلى الميدان وهو جنب، فقال المصطفى: (إن الله تعالى قد أنزل ملائكة من السماء بطست من الجنة -بماء من الجنة- فغسلت حنظلة ليلقى الله عز وجل طاهراً)، إنه الحب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم! وآخر يقول له أبو سفيان وهو يعذب: أيسرك أن تكون في أهلك بين ولدك ومحمد في موضعك تُضرب عنقه؟! فقال هذا الصحابي الجليل: والله ما أحب أن تصيب رسول الله شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى، فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً؛ لأنهم جسدوا الحب إلى واقع وعمل.
وأنا أرى أعظم احتفاء بالنبي قولة الصديق يوم أن اتهم المشركون رسول الله بالكذب ليلة الإسراء، فرد الصديق بقوله: (إن كان محمد قال ذلك فقد صدق) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي في قولة فاروق الأمة عمر للنبي: (ألسنا على الحق؟! فقال رسول الله: بلى فقال: أليسوا على الباطل؟! فقال رسول الله: بلى، فقال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وحث الناس على الصدقة، فجاء عثمان فملأ حجر النبي بالذهب والدنانير، ونزل النبي من على المنبر وهو يدعو الله لـ عثمان، ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) هذا هو الاحتفاء.
وأرى الاحتفاء الحقيقي وقع يوم أن نام علي في فراش النبي ليلة الهجرة، وهو يعلم أنه إلى فناء، ولم لا؟ فليغن علي، وليبق حامل لواء الدعوة الحبيب النبي، هذا هو الاحتفاء.
فإن أرادت الأمة أن تحتفي بالحبيب المصطفى فلتتبرأ من الشرك، لتحقق التوحيد، لتحكم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولتوالِ الله ورسوله والمؤمنين، لتحقق من جديد مبدأ السمع والطاعة، ولتسمع أمر ربها وأمر نبيها بلا تردد ولا انحراف، ثم عليها أن تنقب عن مكانة النبي في قبلها، ورحم الله من قال: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعةٌ ووفاءُ(157/4)
أحوال السنة مع القرآن
وتدبروا معي هذا جيداً أيها المسلمون الأخيار! وخذوا مني هذه الهدية، فهي من أدق وأشمل وأنفس ما يُحصل بعد كلام الله وكلام الحبيب، وهذه الهدية هي للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إذ يقول: إن السُنَة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة مؤكدة للقرِآن من كل وجه، وهذا يكون من باب تضافر الأدلة.
الوجه الثاني: أن تكون السنة موضحة لما أجمله القرآن.
فقد أمر القرآن بالصلاة؛ فجاءت السنة لتبين لنا كيفية الصلاة وأركانها وشروطها ونواقضها إلى آخره.
الوجه الثالث: أن تكون السنة موجبة أو محرمة لما سكت عنه القرآن.
فالرسول يحلل ويحرم، فيجب عليك أن تذعن لأمر النبي، وأن تحرم ما حرمه وتحل ما أحله النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(157/5)
حب النبي صلى الله عليه وسلم بلا غلو أو إطراء
المقتضى الأخير: حب يفوق حبك النفس والمال والأبناء بلا غلو أو إطراء.
يجب أن يكون حبك للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يفوق حبك لنفسك ولوالدك ولولدك، بل والناس أجمعين، فقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وأقول: يجب أن يكون حبك للنبي يفوق حبك لوالدك وولدك والناس أجمعين، وسيقول لي الإخوة جميعاً: نشهد الله أننا نحب النبي أكثر من حبنا لآبائنا وأولادنا وأنفسنا، فأقول لك: قدم البرهان على هذه الدعوى، فلو بكى ولدك في الليل وصرخ هل ستتوانى عن تلبية صرخة ولدك؟
الجواب
لا، بل ستسرع وتحتضن طفلك في صدرك، وتجري إلى أقرب طبيب أو إلى أبعد طبيب، وهذه رحمة في قلبك أسأل الله أن يأجرك عليها، لكن لما أمرك المصطفى هل أسرعت لامتثال أمره كما أسرعت لتلبية رغبة ولدك؟! وقد ذكرت سابقاً قصة التلميذ النجيب الذي جاء لأستاذه ليقول له: يا أستاذي! علمني كيف أرى رسول الله في نومي، فقال له أستاذه: أنت مدعو الليلة للعشاء عندي، وأحضر الأستاذ لتلميذه الطعام وأكثر فيه الملح ومنع عنه الماء، فطلب التلميذ ماءً، فقال له الأستاذ: الماء ممنوع، فكل، فأكل التلميذ حتى امتلئت بطنه بالملح، فقال أستاذه: نم، وقبل الفجر استيقظ -إن شاء الله تعالى- لأعلمك كيف ترى المصطفى في رؤياك، فنام التلميذ وهو يتلوى من شدة العطش، فلما استيقظ من نومه، قال له أستاذه: هل رأيت الليلة شيئاً في نومك قبل أن أعلمك؟ قال: نعم، رأيت، قال أستاذه: وماذا رأيت؟ قال التلميذ: رأيت الأمطار تنزل، والأنهار تجري، والبحار تسير، فقال له أستاذه: نعم، صدقت؛ صدقت نيتك فصدقت رؤياك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله! فقدم البرهان على دعواك، وطبق هذا الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، بل خذها مني: لا يكمل إيمانك إلا إذا فاق حبك للنبي حبك لنفسك التي بين جنبيك، فقد روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرسول الله: والذي نفسي بيده! لأنت أحب إلي من كل شيء يا رسول الله! إلا من نفسي، فقال المصطفى (لا يا، عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والذي نفسي بيده! لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله! فقال المصطفى: الآن يا عمر!).
قال أهل العلم: أي: الآن قد كمل إيمانك يا عمر!.
فلابد أن تحب الحبيب أكثر من نفسك التي بين جنبيك، فنقب عن محبة الحبيب في قلبك، وقدم البرهان على هذه الدعوى، وقدم الدليل العملي على دعواك حب النبي.
قال الإمام الخطابي: حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب ونقل هذا القول عنه الحافظ ابن حجر في (الفتح) وهذا من أنفس ما يستفاد.
يعني: أنا أحبك لأسباب، وأنت تحبني لأسباب، أما حبك لنفسك وحبي لنفسي فهذه جبلة طبيعية.
فتدبر هذا الكلام النفيس! والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب من عمر حب الطبع، بل ما أراد منه إلا حب الاختيار؛ إذ لا سبيل إلى قلب الطباع عما جبلت عليه.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلفت نظر عمر إلى أن الله عز وجل قد منَّ عليه فنجاه من النار عند أن أرسل له المصطفى المختار.
وهذا فخر، كما قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي! وأن أرسلت أحمد لي نبياً ولكن هناك فرق أيها الحبيب المحب! بين حب يدور على الاتباع وبين غلوٍ يدور على الابتداع؛ فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني) قال الحافظ ابن حجر: الإطراء هو: المدح بالباطل والكذب، يقول الحبيب: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
بأبي هو وأمي.
واسمع إلى هذا الذي يزعم أنه يمدح النبي فيقول للمصطفى: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم فهل هذا حب للمصطفى؟! والله إن هذا لا يليق به ولا بكرمه ولا بجلال الله، فالحب هو أن تنسب ما لله لله، وأن تنسب ما للرسول للرسول؛ ففرق أيها المحب بين حب يدور على الاتباع وبين غلو يدور على الابتداع.(157/6)
السمع بلا تردد والطاعة بلا انحراف
المقتضى الخامس: سمع بلا تردد وطاعة بلا انحراف.
قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
هذا هو شعار المؤمنين: سمع بلا تردد، وطاعة بلا انحراف؛ لأنهم موصوفون بهذه الآية: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
فاعرض نفسك على الأمر النبوي والنهي النبوي والحد النبوي، وانظر هل امتثلت أمر النبي؟ وهل اجتنبت نهي النبي؟ وهل وقفت عند حدود النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن كنت ممن سمع الأمر فامتثله والنهي فاجتنبه والحد فوقف عنده فاسجد لربك شكراً، وسل الله أن يزيدك حباً على حب لحبيبك المصطفى.
وإن كنت ممن سمع الأمر فلم يمتثل، والنهي فلم ينته، والحد فلم يقف، فاعلم أن زعمك أنك تحب النبي زعمٌ باهتٌ بارد لا ساق له ولا قدم.
فشعار المؤمنين: السمع والطاعة، وشعار المنافقين: السمع والمعصية.
قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، هذا هو شعار المنافقين، ومعنى الآية: ألم تر يا محمد! إلى هذا العجب العجاب إلى قوم يزعمون أنهم آمنوا بك وبما أنزل عليك، بل وبما أنزل من قبلك، ومع هذا الزعم الباهت البارد الفارغ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمرهم الله أن يكفروا به؟! وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ} [البقرة:256]، وقال: {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فشعار المؤمنين: سمعنا وأطعنا، وشعار المنافقين: سمعنا وعصينا.
فتدبر أيها المسلم الحبيب! فوالله ما رُحَمِتْ هذه الأمة إلا ببركة السمع والطاعة.
ولما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] على الحبيب المصطفى شق ذلك على أصحابه، فانطلقوا حتى جثوا على الرُكب بين يديه، وقالوا: يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، ولقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتريدون أن تقولوا ما قاله أهل الكتابين من اليهود والنصارى: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا)، فرد الصحابة على لسان وقلب رجل واحد وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل قول الله جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة:285] الآية.
فيا من تدعي الحب للنبي! لقد أمرك المصطفى بالصلاة في وقتها، فهل أديت الصلاة في أوقاتها؟! وأمرك المصطفى بترك الحرام والربا، فهل تركت الربا؟! وأمرك المصطفى بعدم شرب الخمر، فهل تركت الخمر؟! وأمرك المصطفى بترك الزنا، فهل انصرفت عن الزنا؟! وأمرك ببر الوالدين، فهل امتثلت الأمر؟! وأمرك بالإحسان إلى الجيران، فهل امتثلت الأمر؟ وأمرك بالإحسان إلى الإخوة والأهل والأحباب، فهل امتثلت الأمر؟! وأمرك بإعفاء اللحية، فهل امتثلت الأمر؟! وأمرك بأوامر كثيرة، فهل امتثلتها؟ فاعرض نفسك على أوامر النبي ونواهيه وحدوده، فإن كنت ممن امتثل الأمر واجتنب النهي ووقف عند الحد الذي حده المصطفى فاسجد لله شكراً، وسل الله أن يزيدك حباً على حبك لحبيبك المصطفى.
واحذر هذه الدعوى التي يغني بطلانها عن إبطالها، ويغني فسادها عن إفسادها ألا وهي: أنه يجب أن نعود الآن إلى القرآن فقط؛ لأن السنة فيها الضعيف والموضوع، احذر هذا! واعلم يقيناً بأنك إن عصيت رسول الله فقد عصيت الله، وإن أطعت رسول الله فقد أطعت الله، وإن صدقت رسول الله فقد صدقت الله، وإن امتثلت أمر النبي فقد امتثلت أمر الله، قال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
وقال جل وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132] وقال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
قال ابن عباس: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
قال مجاهد: أي: لا تفتاتوا شيئاً على رسول الله حتى يقضي الله على لسان نبيه.
قال القرطبي: أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً على قول وفعل رسول الله.
قال الشنقيطي: ويدخل في الآية دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله.
فمن كذب المصطفى فقد كذب الله، ومن ضيع السنة فقد ضيع القرآن، ومن كفر بالنبي فقد كفر بالرحمن.
فإن أردت أن تصل إلى الله فاسلك طريق رسول الله؛ ولا نجاة لك إلا إن سلكت هذا الطريق، فاسلك طريق النبي لتسعد في الدنيا والآخرة.
وأحياناً يأتي إليّ أحد الأحبة بأذكار أو بأوراد للطائفة الفلانية أو للجماعة الفلانية أو للشيخ فلان أو للشيخ علان فأقول له: يا أخي الحبيب! هل تحب المصفطى؟! فيقول: والله ما حرصت على هذه الأوراد إلا حباً في المصطفى.
فأقول لك: فلا تسلك إلا طريق المصطفى، فاذكر الله كما ذكر الله حبيبك المصطفى، وصل لله كما صلى لله حبيبك المصطفى، فأكمل الهدي هديه، وأحسن الكلام كلامه، فإن أردت السعادة فاسلك طريق محمد بن عبد الله، واقتف الأثر، وسر على الدرب، وإياك! أن تسمع لأحد يخالف قوله قول النبي، بل اعرض كل قول على قول النبي فإن كان قولي موافقاً لقول النبي فاقبله لأنه الحق، وإن خالف قولي قول النبي فاضرب به عرض الحائط، فمهما كان القائل لهذا القول فلا تقل: من القائل، ولكن قل: ما قوله؟! وماذا قال؟! فطاعتك للحبيب المصطفى هي أصلاً طاعة لله، بل لقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الصنف الخبيث الذي يتغنى بالقرآن وبحب القرآن وبالإعراض عن السنة، فلقد روى أبو داود وصحح إسناد الحديث الألباني في (مشكاة المصابيح) من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) الكتاب أي: القرآن، ومثله أي: السنة، وهذه من معجزات المصطفى، يقول: (ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ثم قال الحبيب: ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله).(157/7)
وجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين والبراءة من الشرك والمشركين
المقتضى الرابع: الولاء والبراء فيا من ادعيت الحب لله ولرسوله! نقب عن هذا الأصل في قلبك، وانظر هل واليت الله ورسوله والمؤمنين وعاديت الشرك والمشركين لتكون بحق ممن أحب سيد النبيين، أم أنت بخلاف ذلك؟ قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120].
وقال جل وعلا: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
آيات كثيرة في هذا الباب.
هذا قرآن ربنا نستدل به حتى لا نتهم بالتطرف أو الإرهاب هذا هو القرآن لازال يتلى علينا في الليل والنهار: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، قرآن الله عز وجل.
فلا يكمل توحيدك إلا بالولاء والبراء، ولا يصح اعتقادك إلا بالولاء والبراء، أي: أنه يجب عليك أن توالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الشرك والمشركين، كما قال الشاعر: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان! أن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان نعم لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ وواليت أهل الحق سراً وجهرةً ولما تعاديهم وللكفر تنصرُ فما كل من قد قال ما قلت مسلمٌ ولكن بأشراط هنالك تذكرُ مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهُم سراً لذاك وتجهرُ فهذا هو الدين الحنيفي والهدى ومِلَةُ إبراهيمَ لو كنت تشعرُ(157/8)
تحكيم الشريعة في كل شيء
المقتضى الثالث: تحكيم الشريعة.
أي أمة تدعي الحب للمصطفى وقد نحَت شريعته فهي أمة كاذبة، وأي أمة تحتفل بالمصطفى في كل ربيع من كل عام وقد حكمت في الأموال والأعراض والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة، ونحت كتاب الله وشريعة رسوله فهي أمةٌ خاسرة لا ساق لها ولا قدم.
وسترى الأمة تتعرض لمزيد من الضربات من إخوان القردة والخنازير ممن كتب الله عليهم الذلة حتى تفيء الأمة إلى منهج ربها، وإلى شريعة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم.
ووالله إنه لا فلاح لها ولا عز ولا صلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا عادت من جديد إلى الله، وأعلنت توبتها إلى الله، وحققت هذه التوبة على أرض الواقع في إذعان لأمر الله وانقياد لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا على لسان نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:39 - 40]، فأبت الأمة التي لا تستحي إلا أن تقول: إن الحكم إلا لمجلس الشعب، والله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فردت الأمة الجريئة وقالت: إن الحكم إلا للبيت الأبيض! الله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فردت الأمة المخدوعة وقالت: إن الحكم إلا للبيت الأحمر! فركبت قارب القوانين الوضعية الجائرة وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة، فخابت الأمة وخسرت وغرقت الأمة وأغرقت أبناءها.
فأين الشريعة؟! يكاد القلب أن ينخلع من هذا، ووالله إن القلب لينزف حين تسمع عالماً يشار إليه بالبنان يظهر أمام شاشة التلفاز ليقول بجرأة وبجاحة: الشريعة الإسلامية في مصر مطبقة بنسبة (99%) وهذا ظلم وكذب؛ وأين الشريعة في الحكم؟! وأين الشريعة في الإعلام؟! أين الشريعة في التعليم؟! وأين الشريعة في الاقتصاد؟! وأين الشريعة على شواطئ البحار العارية؟! وأين شريعة النبي المحكمة؟! قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] قال علماء اللغة: (لا) في الآية نافية، أي: ينفي الله الإيمان عن قوم أعرضوا عن حكم الله وعن حكم رسول الله.
في (مدارج السالكين) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حكمي فيمن قدم حكمه على حكم النبي أن يضرب رأسه بالسيف) فعلق ابن القيم على مقولة عمر وقال: فكيف لو رأى عمر ما حدث في زماننا من تقديم رأي فلان وفلان على حكم رسول الله!! وأنا أقول: فكيف لو رأى ابن القيم ما حدث في زماننا من تحقير شريعة رسول الله وتنقيص قدرها، بل والسخرية منها، بل والاستهزاء بها، بل واتهامها بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر وأنها لم تعد قادرة على مواكبة روح القرن العشرين!! فإن أرادت الأمة أن تعلن حب الله وحب رسول الله فلتسأل الأمة نفسها: أين هي من شريعة نبينها المصطفى؟! وأين شريعة المصطفى منها؟! أما أمة تغني للنبي صلى الله عليه وسلم وقد نحت شريعته فهي كاذبة، أمة ترقص وتَطبل وتَزٌمر وتسمع الكلمات الرنانة، وتسمع الخطب المؤثرة والمواعظ الرقيقة من أعلى المستويات إلى أقل المستويات وإذا نظرت إلى واقعها بكيت دماً بدل الدمع!! لقد أصبحت الأمة أمة تذوب في بوتقة الغرب الكافر، وتركت بين يديها أصل العز ونبع الشرف ومعين الكرامة ومصدر الهداية، تركت القرآن والسنة والشريعة المحكمة المطهرة، وذابت في بوتقة الغرب في أحكامه في أخلاقه في معاملاته ويا ليت الأمة! قد نقلت أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العملي والمادي، ولكن الأمة -بكل أسف- تركت أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي ونقلت أعفن وأقذر ما وصل إليه الغرب في الجانب العقدي والأخلاقي، ولا زلت تقرأ وتسمع إلى الآن أن من بين أبناء الأمة المخدوعين من يتغنى بالغرب!! وكأن الغرب الآن أصبح إلهاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!! قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدا لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا؟! الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا؟! أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهنين يقينا يا مجلساً في جسم عالمنا غدا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا إني أراك على شفير نهاية ستصير تحت ركامها مدفونا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين! إن أرادت الأمة أن تعلن الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم فلتحكم شريعته، أما أن تتغنى بالكلمات والمحاضرات والعبارات والسهرات الحافلة الماجنة، فهذا حب كاذب، كما قال الشاعر: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء(157/9)
البراءة من دعاء القبور والأولياء والاعتقاد فيهم
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
لقد حدثني الإخوة مراراً وتكراراً عما يحدث عند قبور الصالحين، وأنا أود أن أنبه طلاب العلم إلى أنه لا ينبغي أن ننشغل برجل مقبور في مسجد أهو من الصالحين أم من غير الصالحين؟! لا ينبغي أن يشغلنا هذا؛ إذ إن الرجل بين يدي ربه جل وعلا، وقد أفضى إلى الله، لكن الذي ينبغي أن ننشغل به وأن نكثف الجهود من أجله هو ما يحدث من شرك حول قبر هذا الرجل إن كان من الصالحين أو من الطالحين.
واعلموا يا شباب الصحوة! أن إصدار الأحكام على الناس بالتكفير والتفسيق فقط لن يغير الواقع شيئاً، إن حكمك على الناس بالإيمان لن يدخلهم الجنة إن كانوا من أهل النار، وإن حكمك على الناس بالكفر لن يدخلهم النار إن كانوا من أهل الجنة، فليس هذا من شأنك ولا من شأن جميع العبيد، بل هو من شأن العزيز الحميد جل وعلا، فلا تشغلوا أنفسكم أيها الشباب! بإصدار الأحكام على الناس، ولكن اشغلوا أنفسكم بتعليم الناس حقيقة التوحيد ليتغير هذا الواقع المر.
فلما ذكرني الإخوة بما يقع، قلت: أود أن أرى بعيني، وأن أسمع بأذني؛ لأصل إلى السند من أعلاه، فغطيت وجهي وذهبت إلى مولد السيد البدوي بنفسي، وأدخلني إخوانكم في طنطا حتى وصلت إلى القبر، ووقفت لأرى بعيني ولأسمع بأذني، فسمعت امرأة مسكينة تقول: أنا زعلانة منك يا سيد! لأني آتي لك بالنذر لمدة خمس سنين وأنت لا تريد أن تعطيني ولداً!! فتدبر هذا! ثم يخرج علينا بعض العلماء ويتهموننا إذا تحدثنا عن هذا الشرك الغليظ بأننا ممن يعادي أولياء الله جل وعلا، وهذا ظلم فإننا ممن يقر أن المعجزة للأنبياء، وأن الكرامات الطيبة للأولياء، ولا ننكر هذا أبداً، لكن ينبغي أن نفرق بين شرك غليظ يُرتكب حول قبور هؤلاء وبين تكريمنا لأولياء الله جل وعلا؛ فإنه لا يقبل نبي ولا ولي هذا الشرك بأي حال، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
ولا أريد أن أطيل مع كل مقتضىً من مقتضيات الحب الصادق للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأعرج على بقية المقتضيات كلها إن شاء الله تعالى.
فالمقتضى الأول: هو البراءة من الشرك إن أردت أن تنقب عن حبك للنبي في قلبك فسل نفسك: هل تبرأت من الأنداد والأرباب والآلهة والطواغيت؟! فإن كنت كذلك فقد دخلت في المقتضى الثاني ألا وهو تحقيق التوحيد لله العزيز الحميد.(157/10)
تحقيق التوحيد بأقسامه الثلاثة
هذا هو المقتضى الثاني: تحقيق التوحيد.
ويجب عليك أن تحقق التوحيد بأقسامه لله جل وعلا: فيجب أن تقر بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية بإيجاز معناه: أن تعتقد وأن تقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير والإحياء والإماتة، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، فهل حققت توحيد الربوبية لله؟ وستعجب إذا قلت لك: إن توحيد الربوبية قد أقر به المشرك الأول في أرض الجزيرة العربية.
فلو سألت أبا جهل من خالقك؟ لقال: الله.
لو سألت المشرك من رازقك؟ لقال: الله.
كما قال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزخرف:87].
وقال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
بل لقد انفرد الأخنس بن شريق بـ أبي جهل، فقال الأخنس بن شريق: يا أبا الحكم! أستحلفك بالله إذ لا يوجد معنا أحد الآن يسمعنا، فأسألك بالله أمحمدٌ صادق أم كاذب؟! فقال أبو جهل: ويحك يا أخنس! والله إن محمداً لصادق! فنزل قول الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
فهم كانوا يعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال قائلهم: والله! إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة؛ لأن الذي شهد بصدق محمد هو الله.
وأقول: إن من بين من ينتسبون الآن إلى الإسلام من لم يحقق توحيد الربوبية لله الرحيم الرحمن! فهذا زعيم دولة خرجت من برك الدماء والأشلاء يقول: بأنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه!! والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154].
قال الشاعر: يا صاحب الهمَ إن الهم منفرج أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرةً لا تجزعن فإن الخالق الله والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك الله (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)، فعليك أن تقر بتوحيد الإلوهية -توحيد العبادة- يعني: أن تصرف العبادة بركنيها: كمال الحب، وكمال الذل، وبشرطيها: الإخلاص والاتباع، إلى من يستحق العبادة وهو الله وحده لا شريك له.
فسل نفسك أيها الحبيب! هل استغثت بالله وحده؟ وهل استعنت بالله وحده؟ وهل سألت الله وحده؟ وهل ذبحت لله وحده؟ وهل نذرت لله وحده؟ وهل حلفت بالله وحده؟ وهل طفت ببيت الله في مكة فقط؟! وهل قال لسانك وصدق قلبك وترجم عملك هذه الأقوال وهذه الكلمات؟ اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم.
فهل امتثلت قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} أي: وذبحي، {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]؟! وهل آمنت بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها أو لمعانيها؟ وهل أثبت ما أثبته الله لذاته وما أثبته له أعرف الناس به عبده ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ فلا يمكن على الإطلاق أن تدعي الحب للحبيب المصطفى إلا إذا حققت هذا التوحيد لله جل وعلا؛ فنسبت ما لله لله، وما لرسول الله لرسول الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(157/11)
البراءة من الشرك في المحبة
أول مقتضى من مقتضيات حبك الصادق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو: البراءة من الشرك: محال أن تدعي الحب للنبي صلى الله عليه وسلم وقلبك لم ينق ولم يطهر من شوائب الشرك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: النفي المحض ليس توحيداً، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمناً للنفي والإثبات معاً.
قال علماؤنا: لابد من التخلية قبل التحلية.
والتخلية هي: أن تكفر بالأنداد والأرباب والآلهة والطواغيت.
فنقب في قلبك وانظر هل أخليته من هذا؟ وهل تبرأت من الأرباب والأنداد والآلهة والطواغيت وأخلصت القلب لله وحده لا شريك له؟ وهل كفرت بالطواغيت؟ والطواغيت: جمع طاغوت، والطاغوت كما قال عمر: هو الشيطان.
وقال مالك: هو كل ما عبد من دون الله.
وقال ابن القيم: الطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
فأنت مأمور يا من أحببت الله وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم! أن تكفر بالطواغيت على ظهر الأرض، كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256]، ولاحظ أن الله قدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله؛ إذ لابد من التخلية قبل التحلية.
وعليك أن تكفر بالأنداد، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، اللهم ارزقنا حبك، وحب نبيك، وحب من أحبك يا رب العالمين! والمؤمن الصادق هو الذي امتلأ قلبه بحب الله وحب رسوله، ولكن كثيراً من الناس قد امتلأت قلوبهم بمحبة الأنداد من دون الله أو مع الله! ألم تسمع أن امرأة تخلصت من حياتها وانتحرت بسبب موت العندليب الأسود؟!! ألم تسمع عن رجلٍ جلس في استادٍ للكرة فصرخ صرخةً فقد فيها روحه؛ لأن فريقه قد مُنِي بهدفٍ من الفريق الآخر؟ ألم تسمع قول القائل: هبوني ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلامٌ على كفرٍ يُوَحَد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ألم تسمع قول القائل: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة دينًا ما له ثاني ألم تسمع قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً؛ لتظل مصر فرعونية؟!! ألم تسمع قول القائل: لقد عزمنا على أن نأخذ ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم والنجاسات التي في أمعائهم؟!! ألم يقل ربك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
قال رجل للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده).
فهل كفرت بالأنداد؟! وهل كفرت بالأرباب غير الله جل وعلا؟ والأرباب جمع رب، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].(157/12)
البراءة من التحاكم إلى غير ما أنزل الله
لاحظ أننا لا نخرج عن القرآن ولا عن السنة، ولا نقول إلا قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم- فقوله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: اتخذوا العلماء والعبَّاد أرباباً من دون الله، كما روي أن عدي بن حاتم دخل على الحبيب المصطفى وهو يقرأ هذه الآية، فقال عدي: (يا رسول الله! ما عبدناهم من دون الله) أي: لم نتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله؛ ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم الآية، وبين له المعنى، فقال الحبيب (ألم يحلوا لهم ما حرم الله، ويحرمون عليهم ما أحل الله فأطاعوهم؟ فقال: بلى، قال المصطفى: فتلك عبادتهم إياهم).
وقد اتخذت الأمة العلماء والعبَّاد أرباباً من دون الله؛ فإن قلت: كيف ذلك؟! فنقول: إن الأمة قد تركت لهؤلاء التشريع، فشرَّع هؤلاء للأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ إذ عرض على أعضاء مجلس الشعب لأبناء هذه الأمة تشريع الله جل وعلا في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] الآيات، فأبى الأعضاء الموقرون وقالوا: لا، لا يتفق هذا التشريع الآن مع مدنية القرن العشرين! إذاً: ما تريدون؟! قالوا: إذا تم الزنا بالتراضي بين الرجل والمرأة يخفف الحكم إلى أقل درجة، فإذا جاء ولي المرأة الزانية وتنازل عن القضية لا يسجن الزاني ولا تسجن الزانية حتى ساعة واحدة، بل تسقط القضية!! وتقرأ الأمة في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فتسمع الأمة لهذا الأمر الرباني، وفي السورة ذاتها يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فتقول طائفة من الأمة: لا، لن نقبل هذا الأمر أبداً! وتقرأ الأمة في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فتسمع الأمة لهذا الأمر وتتوضأ قبل الصلاة، وفي السورة ذاتها يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقوله: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وقوله: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] فتقول طائفة من الأمة: لا، لا نريد هذا الأمر؟! فنقول: كلا! كلا! قال ربنا جل وعلا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
فهل كفرت بالأرباب من دون الله جل وعلا؟! وهل كفرت بالآلهة المكذوبة المدعاة؟! قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] فهل صرفت العبادة لله وحده؟ وهل امتثلت أمر الله؟(157/13)
قصيدة وعظية
وأكتفي بهذا القدر، وهنا أذكر قصيدة طلبها والد كريم، ولا أرى لها مناسبة، لكن أذكرها تلبية لرغبة الأحبة وعلى رأسهم والدنا الكريم هذا، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الصادقين، وهذه القصيدة هي لـ علي زين العابدين، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يفتح لها القلوب، وأن يرزقنا العمل.
فأذكر جميع أحبابي بأن المحبة الصادقة للنبي عليه الصلاة والسلام تتمثل في العمل، تتمثل في أن تحافظ على الصلاة، وتقرأ القرآن، وتبعد عن الحرام، وتحب الإخوة، وبالجملة أن تستقيم على منهج الله؛ لأن كل واحد وإن عمر مائة سنة أو ألف سنة فإنه في النهاية راحل وذاهب إلى الله عز وجل، فستلقى الله حتماً، فتفكر أين فرعون وهامان؟ وأين النمرود؟ وأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ كما قال الشاعر: أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم؟ وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فالدنيا مهما طالت -أخي الحبيب! فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
فالدنيا يا أخي الكريم! دار ممر، والآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.
قال زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله: سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن ما أحلم الله عني حين أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني كأنني بين جلّ الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقام من كان حبُّ الناس في عجل نحو المغسِل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الما ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وأخرجوني من الدنيا فوا أسفاه على رحيل بلا زاد يبلغني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشََف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياًَ إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً برحمتك يا أرحم الراحمين! والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(157/14)
هذا هو الإسلام يا أمريكا
الإسلام هو دين الله عز وجل الذي ارتضاه لأهل سماواته وأرضه، وهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام، ولا تصلح حياة البشرية من أولها إلى آخرها إلا بهذا الدين؛ فإنه صالح لكل وقت وجيل، ولهذا لما خلت المجتمعات الغربية -مع تقدمها في الأمور الدنيوية- عن الإسلام كانت مجتمعات منحلة أخلاقياً؛ تسودها الجريمة والأخلاق السيئة.
وأعداء الأمة اليوم يتهمون الإسلام بالإرهاب، وينسبون إليه أحداث (11 سبتمبر)، وهو منها بريء، بل أصل الإرهاب هي أمريكا وإسرائيل.(158/1)
عالمية الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: (هذا هو الإسلام) هذا هو عنوان لقائنا، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية: أولاً: عالمية الإسلام.
ثانياً: أخلاق الإسلام.
ثالثاً: من يحمل همّ الإسلام.
وأخيراً: المستقبل للإسلام.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام والمسلمين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: عالمية الإسلام.(158/2)
براءة الإسلام من الإرهاب
ومن الجهل الفاضح والظلم البين أن يُتهم الإسلام بالإرهاب، وأن يُتهم الإسلام بالتطرف والرجعية والجمود والأصولية والتأخر والوحشية والبربرية، إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال الآن للإسلام في الليل والنهار! إن وسائل الإعلام الغربية يتحكم فيها الآن في كل بقاع الأرض أنجس أهل الأرض من اليهود، لقد أصبحوا هم الذين يتحكمون في كل وسائل الإعلام، بل ويتحكمون حتى في السياسة الأمريكية، لا في سياستها الإعلامية، بل في سياستها الرسمية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية، اقرءوا عمن يحكم الآن أمريكا؛ لتتعرفوا على الحقائق.(158/3)
أمريكا واليهود أصل الإرهاب وأساسه
فأنا أتحدى أمريكا أن تثبت بالأدلة الدامغة أن المسلمين كانوا وراء التفجيرات في (نيويورك) وفي (واشنطن)؛ أتحدى أن تثبت بالدليل الدامغ أن المسلمين كانوا وراء هذه العمليات، بل هو من صنع اليهود، حقيقة يعلمها كثير ممن يتخذون القرار هنالك! فاليهود وراء كل مصيبة على وجه الأرض، أرادوا أمام هذا الزحف الإسلامي الهائل في قلب أمريكا، وفي قلب أوروبا -كما سأبين الآن بالدليل من أقوالهم لا من أقوالنا- أرادوا أن يوقفوا هذا المارد العملاق الذي بدأ يتململ من جديد، وبدأ يزحف إلى قلب أمريكا وقلب أوروبا، وأرادوا أن يضربوه بأقوى يد في الأرض، بشرطي العالم، بالسلاح الأمريكي.
وأود أن أنبه هؤلاء الذين يعلنون الحرب الآن على الإرهاب بأنهم طلائع الإرهاب في العالم، ورواد الإرهاب على سطح الأرض.
اقرءوا التاريخ لتتعرفوا على الحقائق، فمن الذي أباد ما يزيد على مائة وسبعين ألفاً في لحظات في هروشيما؟ وبعد ثلاثة أيام في (نجزاكي)؟ ويوم أن دخلت أمريكا الحرب ضد ألمانيا عام ألف وتسعمائة أربعة وأربعين في ضربات جوية غاشمة عشوائية على المدنين في ألمانيا، قتلت أمريكا في يوم واحد ما يزيد على خمسمائة وسبعين ألفاً من المدنيين، وجرحت ما يقرب من مليون في قصف عشوائي عن طريق الطائرات!! في هتلاك قتلت أمريكا ما يزيد على أربعة ملايين!! وفي العراق قتلت ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، من الأطفال الذين لا يملكون حيلة ولا قوة!! وفي كل بقاع الأرض في السودان في أفغانستان قبل ذلك في العراق في ليبيا!! وخرج علينا جورج بوش ليعلن -بنفس الطريقة التي أعلن بها أبوه ذبح العراق- ذبح أفغانستان.
فهؤلاء العزل الذين يعيشون تحت خط الفقر ولا يجدون لقمة الخبز يعاقبون ويقتلون من أجل فرد واحد، كما قال القائل: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر لقد خرج الآن هذا الفرد المطلوب المشتبه فيه الأول، فماذا يريدون؟! وتصور رائدة الحضارة الغربية تطلب مشتبهاً فيه، ولا تقدم الأدلة الدامغة، وتعاقب شعباً كاملاً لا يملك سبيلاً من أجل فرد بدون أدلة!! هذه هي راعية الحضارة في العالم، ثم بعد ذلك تتهم الإسلام بالتطرف والإرهاب! ثم لماذا غضت الطرف عن إرهاب كلاب الأرض من اليهود الذين يذبحون المسلمين في فلسطين، ويقاتلون الشعب الأعزل من المدنيين بأحدث وسائل السلاح الأمريكي؟ لماذا غضت الطرف عن هذا الإرهاب؟ ولماذا غضت الطرف عن إرهاب الصرب ضد المسلمين في البوسنا؟ ولما تدخلت ما تدخلت لم تتدخل من أجل مصلحة المسلمين، بل من باب الخوف على مصالحها في قلب أوروبا، وخوفاً من أن يظهر هذا المارد الجديد في قلب هذه المنطقة، وهي الآن تريد ضرب الإسلام، وتريد السيطرة على منطقة بحر قزوين؛ لأنها المنطقة المؤهلة الآن لأكبر احتياطي نفط في الأرض كلها، بعد تناقص احتياطي النفط في منطقة الخليج.
فهي تريد السيطرة باسم الحرب على الإرهاب على منطقة بحر قزوين، والقضاء على الإسلاميين في أفغانستان.
لقد خرج الصرب بملحمته الخطيرة التي تسمى بإكليل الجبل، والذي تقول كلمتها: سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملئوها رجساً، فلنعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من تلك الأوساخ، ولنبصق على القرآن، ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً، فليذهب غير مأسوف عليه! فلماذا غضت أمريكا الطرف عن هذا الإرهاب؟ لقد اتخذ مجلس الأمن خمسين قراراً ضد إسرائيل لم تلزم أمريكا إسرائيل -طفلتها المدللة- بقرار واحد، في الوقت الذي أصرت فيه عن طريق مجلس الأمن وهيئة الأمم أن تنفذ قراراً واحداً اتخذه مجلس الأمن ضد العراق!! بل وضربت العراق بالصواريخ وتضرب في كل أسبوع تقريباً، فمن هو الإرهاب؟! وأين الإرهاب؟! اتهموا الإسلام بالإرهاب وهم رواد الإرهاب في الأرض؛ لأنهم يملكون إعلاماً خبيثاً يجيد قلب الحقائق.
أما الأمة المسلمة فلا تملك إعلاماً يعرض قضيتها بوضوح، بل ويحبس كل صوت أبي صادق حر يبين الحقائق بلغة الأرقام، لا بلغة العاطفة والصراخ، بل بلغة الأرقام، فهم رواد الإرهاب في الأرض.(158/4)
سبب مشاكل البشرية هو ترك الإسلام ومحاربته
والله! ما أحرق البشرية لفح الهاجرة القاتل، وما أرهق البشرية طول المشي في التيه والضلال إلا لمحاربتها للإسلام، وإلا لمعاداتها للإسلام، وإلا لانحرافها عن دين الله جل وعلا الذي أنزله الله للبشرية؛ لتسعد به في الدنيا والآخرة على السواء.
فإن العالم كله اليوم محروم من نعمة الأمن والأمان، على الرغم من كثرة الوسائل الأمنية المذهلة، وعلى الرغم من التخصص العلمي المذهل المبني على العلوم النفسية والاجتماعية؛ لمحاربة العنف والجريمة في كل مكان، بل وإن العالم محروم من نعمة الأمن والأمان على الرغم من كثرة الأسلحة النووية والبيولوجية والسرية، بل وعلى الرغم من كثرة أحلافه العسكرية، وعلى الرغم من كثرة هيئاته ومنظماته، فبترك الإسلام حرم العالم كله من نعمة الأمن والأمان.
بل إن ملايين البشر ينتظرون الموت الآن في كل لحظة؛ لأن الوسائل الأمنية التي اخترعتها البشرية النكدة البعيدة عن منهج الله تحولت إلى وسائل لإبادة الجنس البشري بين غمضة عين وانتباهتها، فتحولت وسائل الأمن إلى فزع ورعب!! إن ملايين البشر ينتظرون الموت في كل لحظة، فقد ضاقت الدنيا في وجوههم على الرغم من اتساع الأرض هنا وهنالك، بل واسودت الدنيا في أعينهم على الرغم من كثرة أضوائها، بل لا يجدون لقمَ الخبز على الرغم من كثرة الأسواق المشتركة العملاقة، وعلى الرغم من كثرة الأموال، بل ولا يشعر العالم كله الآن براحة النفس واستقرار الضمير وانشراح الصدر وهدوء البال، كل هذا نتيجة لانحراف البشرية المنكودة عن منهج الله جل وعلا، عن هذا الدين الذي رضيه الله للبشرية كلها لتسعد به في الدنيا والآخرة، كما قال جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].
وهذه نتيجة حتمية للبعد عن منهج رب البرية، وللبعد عن منهج سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، وهي نتيجة عادلة للإعراض عن منهج الله تبارك وتعالى.(158/5)
الإسلام دين جميع الأنبياء
أحبتي في الله! الإسلام هو المنة الكبرى، والنعمة العظمى، وهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله جل وعلا لأهل الأرض، بل لأهل السماء، فما من نبي ولا رسول إلا وبعثه الله جل وعلا بالإسلام بداية من نبي الله نوح كما قال ربنا حكاية عنه في سورة يونس: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].
وما بعث الله إبراهيم الخليل إلا بالإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 132].
وما بعث الله يعقوب إلا بالإسلام، كما قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وما بعث الله نبيه يوسف إلا بالإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنه في آخر سورة يوسف: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
وما بعث الله سليمان إلا بالإسلام، فهذا هو كتابه إلى ملكة سبأ، التي قرأته على أتباعها في مملكتها، كما حكى الله عز وجل ذلك بقوله: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31].
وما دخلت في الإسلام إلا يوم أن شرح الله صدرها للحق، فقالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].
وما بعث الله نبيه موسى إلا بالإسلام، كما قال الله حكاية عنه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].
بل وما بعث الله نبيه عيسى إلا بالإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنه: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].
بل إن دين الجن المؤمنين هو الإسلام، كما قال الله تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:14 - 15].
إلى أن بعث الله لبنة تمامهم ومسك ختامهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بالإسلام، قال الله تعالى لنبيه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وخاطبه الله جل وعلا بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].
فالدين الوحيد الذي ارتضاه الله لأهل السماء ولأهل الأرض هو الإسلام، وهو ليس لا للعرب فحسب بل للبشرية كلها، ولذا قال جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].(158/6)
أخلاق الإسلام مع غير المسلمين
أما الإسلام فهو دين الرحمة والتسامح، ودين الوفاء بالعهود حتى للأعداء، وهذا هو عنصرنا الثاني: أخلاق الإسلام: وأنا لن أتكلم عن أخلاق الإسلام بين المسلمين، ولن أتكلم عن أخلاقه العقيدية، ولا عن أخلاقه التعبدية، ولا عن أخلاقه التشريعية، ولا عن أخلاقه السلوكية فيما بين أفراده.
بل سأتحدث عن أخلاق الإسلام مع غير المسلمين، ونحن نعلم يقيناً أن اليهود ما ذاقوا طعم الأمن والاستقرار إلا في ظلال الإسلام، وما تعرض يهودي للأذى إلا يوم أن نقض اليهود العهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وما عرف الصليبيون والنصارى طعم الأمن والأمان إلا في ظلال الإسلام.(158/7)
تعظيم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للوفاء بالعهود
وهذا جندي- ولا أقول: هذا قائد من قادة المسلمين- يعطي عهداً بالأمان لقرية في بلاد العراق وكانت تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وأخبر الجندي قائده أبا عبيدة، فأرسل أبو عبيدة بن الجراح كتاباً على الفور إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ليخبره بما كان، وليتلقى منه الأوامر.
فأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح وقال فيها بعد حمد الله والثناء عليه: إن الله تعالى قد عظّم الوفاء، ولا تكونون أوفياء حتى تفوا، فوفوا لهم بعهدهم، واستعينوا الله عليهم.
وأود أن أقف لأستخرج أمرين من هذه الحادثة: الأول: أن عمر بن الخطاب أراد أن يبين كرامة الفرد ولو كان جندياً، وكان هذا امتثالاً عملياً من عمر لقول النبي كما في صحيح البخاري: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم)، فأثبت عمر كرامة الفرد ولو كان جندياً قد أعطى الأمان لقرية أو لأهل بلد، فوجب على المسلمين -بما فيهم قائد الجيش- أن يفوا بعهد هذا الجندي لأهل هذا البلد.
الأمر الآخر: لقد أثبت عمر عملياً أن معاني الإسلام العظيمة ليست حبيسة الأوراق، وليست حبيسة الأدراج كما فعلت الثورة الفرنسية، أو كما فعل إعلان الحقوق العالمية للإنسان في أمريكا أو في هيئة الأمم.(158/8)
عدل عمر رضي الله وأخلاقه مع أهل بيت المقدس
واقرءوا بنود العهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس يوم جاء من المدينة ليستلم مفاتيح بيت المقدس، فأعطاهم عهداً بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، ومن أراد أن يخرج منهم من أرض (إيلياء) فلابد أن يُعطى الأمان حتى يبلغ مأمنه، ومن أراد أن يبقى منهم في الأرض فلا يؤخذ منه شيء من المال حتى يحصل خراجه.
فهذا هو الإسلام.(158/9)
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم بالعهود للكفار
وفي صحيح مسلم قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي حسيل -رضي الله عنهما- إلا أننا قد خرجنا فأخذنا المشركون، فقالوا لنا: أتريدون محمداً؟ قلنا: لا، بل نريد المدينة، قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة، وألا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال حذيفة: فانطلقت أنا وأبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بما قاله لنا المشركون، وبما قلناه للمشركين، فاسمع ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام وهو في حال حرب لـ حذيفة وأبيه (انصرفا -أي: لا تشهدا معنا المعركة- نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).
ائتوني بلغة على وجه الأرض تجسد هذا الوفاء! هذا هو ديننا، وهذه هي أخلاق نبينا، فالحربي له عندنا معاملة، والذمي له عندنا معاملة، والعدو له عندنا معاملة، والحبيب والقريب له عندنا معاملة.
ولقد وضع الإسلام القواعد والضوابط كلها وبين كل شيء، ومع أنهم في حال حرب إلا أنه يقول صلى الله عليه وسلم: (انصرفا؛ نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم).(158/10)
حقوق الإنسان بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب(158/11)
موقف الغربيين من الإسلام
هذا هو الإسلام، وددت لو أسمعت كل الغربيين هذه الحقائق، وأنا أعلم يقيناً أنهم يعرفونها، لكنه الحقد الذي أنطقهم بأنها حملات صليبية جديدة، وشاء الله جل وعلا أن يظهر المنافقون على زلات ألسنتهم، وعلى صفحات وجوههم، فلابد أن يعرف المسلمون أعداءهم في لحن القول، وإن جملوا بعد ذلك الأقوال من منطلق السياسة الخادعة الماكرة، أو من منطلق السياسة القاصرة، لكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر لذوي البصائر من أهل الإسلام حقائق ما تكنه الصدور، وقد قال ربنا العزيز الغفور تبارك وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].(158/12)
عمر بن عبد العزيز وموقفه من فتح سمرقند
وهذا عمر بن عبد العزيز يوم فتح الإسلام والمسلمون مدينة سمرقند، وعرف أهل سمرقند أن الفتح لمدينتهم فتح باطل؛ سبحانك ربي! لماذا؟ لأن المسلمين دخلوا المدينة عنوة دون أن يبلغوا قومها الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال، هكذا علمهم سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ما فعلوا ذلك.
فأرسل أهل سمرقند رسالة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز طيب الله ثراه، وأخبروه بأن فتحهم الإسلامي لمدينتهم فتح باطل؛ وبينوا له ذلك، فما كان من هذا العملاق الذي تربى في مدرسة النبوة، إلا أن يصدر الأوامر إلى قائد جيشه الفاتح في مدينة سمرقند بالانسحاب فوراً، فخرجت الألوف المؤلفة من أهل سمرقند بين يدي هذا الجيش المنسحب المنتصر ليعلنوا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله!(158/13)
موقف صلاح الدين الأيوبي من عدوه ريتشرد قلب الأسد
وهذا صلاح الدين يوم فتح القدس، قدم يومها درساً عملياً للصليبين الحاقدين من أعظم دروس التسامح، يوم أن أرسل طبيبه الخاص بدواء من عنده، لعلاج عدوه اللدود ريتشرد قلب الأسد.(158/14)
محمد الفاتح وتسامحه مع غير المسلمين
وهذا محمد الفاتح يعلم الدنيا كلها درساً آخر من دروس التسامح الإسلامي مع غير المسلمين، يوم فتح ودخل القسطنطينية.(158/15)
اعتراف كتاب غربيين بتسامح الإسلام
كل هذا تاريخ مسطور؛ ولذا يقول المفكر الشهير غستك لبون قولاً ينصر الحق قبل أن ينصف الإسلام والمسلمين، ليعلنها صريحة ويقول: ما عرف التاريخ ديناً فاتحاً متسامحاً كالإسلام، وما عرف التاريخ أمة فاتحة منتصرة متسامحة كأمة الإسلام!!(158/16)
الإسلام دين التسامح
هذه حقائق واقعية، فالإسلام دين التسامح والرحمة، ويكفي أن نعلم الحديث الذي رواه البخاري في التاريخ، والنسائي في السنن، وصححه شيخنا الألباني في المجلد الثاني من صحيح الجامع من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً).(158/17)
أوروبا وحقوق الإنسان
لقد ظلت هذه القيم النظرية في أوروبا حبيسة الأوراق والأدراج، لكن في اليوم الذي أعلنت فيه الثورة الفرنسية مبدأ حقوق الإنسان وأن الناس جميعاً سواء استبعد القانون الفرنسي نفسه قرابة ما يزيد على نصف الشعب الفرنسي من التصويت في الانتخابات؛ لأنهم يعتبرون المواطن الفقير مواطناً سلبياً!! ولما أعلنت أمريكا مبدأ حقوق الإنسان بنص القانون أبقت استعباد الزنوج قرناً آخر من الزمان بعد إعلان هذا القرار النظري.(158/18)
الإسلام وحقوق الإنسان والحيوان
فالإسلام لا يقدم مثُلاً نظرية، وإنما يقدم مثُلاً منهجية ربانية نبوية واقعية؛ لتتألق في دنيا الناس سمواً وعظمة وروعة وجلالاً.
لقد تحولت هذه المثل في دنيا الناس إلى واقع أعلنه المصطفى صلى الله عليه وسلم مدوياً: (وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
وأعلنها رسول الله في بغي من بغايا بني إسرائيل أدخلها الله الجنة في كلب؛ لأنها رحمت كلباً وأحسنت إليه.
وأعلنها مدوياً: (أن امرأة دخلت النار في هرة)، هذا هو إسلامنا.(158/19)
واجب المسلم تجاه المشركين
أيها الموحد لله جل وعلا! أيها المسلم! يا من تدعي حب الله وحب رسوله! وما زلت توالي الشرك والمشركين: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر(158/20)
من يحمل هم الإسلام
أيها الموحد لله جل وعلا! أيها المسلم! يا من تدعي حب الله وحب رسوله! وما زلت توالي الشرك والمشركين: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر(158/21)
يجب على المسلم أن يعمل للإسلام بقدر استطاعته
أيها الأفاضل! الأمة كلها مطالبة بأن تتحرك الآن برجولة وبصدق وبكل الطاقات والإمكانيات وعلى جميع الأصعدة، وفي كل الأماكن والمستويات؛ لتبين الصورة المشرقة للإسلام.
فإن كنت تعرف زميلاً لك في أمريكا فأرسل إليه رسالة أو اهد إليه شريطاً، المهم أن تبذل شيئاً للإسلام، وإن كنت من الصادقين فلن تعدم أن تجد لنفسك دوراً تخدم من خلاله دين الله تبارك وتعالى؛ لأن الذي يؤلمني غاية الألم أن أرى كثيراً من المسلمين يسأل عن دوره بعد خطبة أو بعد محاضرة! فعليك أن تعيش لدينك قبل المحاضرة وبعدها، وبعد الخطبة وقبل الخطبة، ومع كل نفس من أنفاس حياتك، كما تخطط لتجارتك ولمستقبلك ولمستقبل أولادك ولمستقبل أسرتك، فلابد أن تخطط لهذا الدين، وأن تعيش لهذا الدين، وأن تنام وعيونك مليئة بالدموع، بل والدموع تنهمر على خديك لهمك الذي يحرق قلبك.
أما أن ترى ما يفعله اليهود بإخواننا في فلسطين، وما يفعله عباد البقر في إخواننا في كشمير، وما يفعله الملحدون المجرمون بإخواننا في الشيشان، وما يفعله الصليبيون بإخواننا في أفغانستان، ثم بعد ذلك تأكل ملء بطنك، وتنام ملء جفنك، وتضحك ملء فمك، فعليك أن تبحث عن قلبك، وهل تحمل قلباً أم أنك لا تحمل قلباً بالمرة؟ قال ابن مسعود: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن, وفي أوقات الخلوة، وفي مجالس الذكر، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب.
فإن لم تحمل الآن هم الإسلام فمتى ستحمله؟ وإن لم يحترق قلبك الآن على هذا الدين فمتى سيحترق قلبك؟ وإن لم تتحرك الآن بكل ما تملك من عقل وفكر وكلمة وقلم وامرأة وولد ومال وجهد وطاقة وسكون وراحة وحركة لهذا الدين؛ فمتى ستبذل لهذا الدين؟! إن الأمة الآن كلها يجب عليها أن تبذل أقصى ما تملك لدين الله تبارك وتعالى، وهي على يقين مطلق أن الكون لا يتحكم فيه الأمريكان، ولا يدير دفته الأوروبيون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو ملك الملوك سبحانه!(158/22)
وجوب الثقة بالله عز وجل
لابد أن تمتلئ القلوب ثقة مطلقة في الله، ولابد أن نعلم أن الذي يدير أمر الكون هو الله، ولا يقع شي في الكون إلا بإذنه وأمره وعلمه وحكمته وقدره وإرادته، فلا تظن أن الله قد خلق الخلق وغفل عنهم، حاشا لله! بل لا يقع في كونه إلا ما يريد، والله هو الاسم الذي تقال به العثرات، والله هو الاسم الذي تستجاب به الدعوات، والله هو الاسم الذي تستمطر به الرحمات، والله هو الاسم الذي تدفع به الكربات، والله هو الاسم الذي به ولأجله قامت الأرض والسماوات، والله هو مالك الملك وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض؛ فأين عاد؟ وأين ثمود؟ وأين فرعون؟ وأين قارون؟ وأين هامان؟ وأين أبرهة؟ وأين أصحاب الفيل؟ وأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ قال الشاعر: أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال الرحيم الرحمن: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14].
وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
فلا أحد يتحكم في الكون إلا الواحد الأحد، فلماذا اختل اليقين في قلوبنا؟! ولماذا ضعفت الثقة بربنا؟ ولماذا أصبحنا لا نؤمن إلا بالماديات؟ وقد كنا قبل ذلك ندعو على أعداء الأمة، فتنظر إلينا بعض الأعين نظرات تحمل من المعاني ما الله به عليم، وكأنها تقول: ما يقول هؤلاء الدراويش؟ وما الذي ينتظرونه؟ فشاء الله جل وعلا أن يضمد جراح القلوب القلقة، وأن يذهب شك القلوب المتشككة، وأن يعلم أهل الأرض أن الذي يتحكم في الكون هو الله وحده، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تقضي على دين الله؛ لأن الذي وعد بحفظ هذا الدين هو رب العالمين، وهذا ما سنتعرف عليه في عنصرنا الأخير وذلك بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(158/23)
لا يتحقق للمسلم كمال الاتباع حتى يدعو إلى الإسلام
أما الحضارة الإسلامية وإن تقاعس المسلمون في السنوات الماضية عن أصول هذه الحضارة فلا زالت هي الحضارة المؤهلة لتحل كل مشاكل البشرية، كما سأذكر الآن بالدليل من أقوال الغربيين لا من أقوالنا نحن كمسلمين، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
قال ابن القيم: ولا يكون الرجل من أتباع النبي حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة.
انظر إلى هذا الشرف؛ شرف الانتساب، فلا يكون الرجل من أتباع النبي حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه على بصيرة.
فما هو همك الذي تفكر فيه الآن؟ لابد أن تزول كل الهموم أمام هذا الهم الأكبر، أمام همّ الإسلام، وأنا لا أنكر عليك أن تحمل همومك الشخصية، لكن لابد أن تذوب كل همومك إلى جوار هذا الهم الأكبر، همّ الإسلام همّ الدين، فكل يتقدم الآن بما يملك من كلمة رقراقة من شريط هادف من رسالة نافعة من مساهمة مادية لإخوانه هنا وهنالك.
المهم أن تحمل الآن همّ الإسلام، فإن لم تحمل الآن همّ الدين فمتى؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم أنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
فهل أنت من حواريي رسول الله بحملك لهذا الدين، وتحركك له؟ فوظف منصبك، ووظف طاقاتك كلها، واستثمر جاهك ومكانتك بالاتصال بالمسئولين هنا وهنالك؛ لنبين هذه الصورة المشرقة للإسلام؛ لأن الإسلام الآن متهم شئنا أم أبينا.
فالإسلام متهم بالإرهاب والتطرف، ونريد أن نظهر صورة الإسلام المشرقة، لا بأقوالنا فحسب، بل بأقوالنا وقلوبنا وأعمالنا، فما منا من أحد إلا وقد شهد للإسلام بلسانه، لكن من منا قد شهد للإسلام بجنانه وأعماله؟! إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي أن نشهد له شهادة عملية على أرض الواقع بعدما شهدنا له من قبل جميعاً شهادة قولية بألسنتنا.(158/24)
واجب الإعلام في دول الإسلام
أين المحطة الفضائية التي تبين الصورة المشرقة للإسلام؟ إعلام الأمة إعلام سخيف، إعلام سافل منحط، ففي الوقت الذي تطحن فيه إسرائيل المسلمين في فلسطين تجد إعلام الأمة يذيع مباراة للأهلي مع (رويال مدريد) أو مع غيره، وفي الوقت الذي ترى فيه الصواريخ والطائرات تدك العراق دكاً ترى مسلسلاً هابطاً أو مسرحية ساقطة، أو فلماً داعرا!! فإعلام الأمة إعلام سافل لا يخدم قضية، بل لا يرقب في الإسلام ولا في المسلمين إلاً ولا ذمة، فمن يحمل هم الدين؟ وهذا وقت نفيس يحتاج العالم كله أن يتعرف على الإسلام بصورته المشرقة، ودعك من التصريحات السياسية التي تقال للاستهلاك المحلي، والصدور تكن ما أخبرنا به العزيز الغفور الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
لكن نريد أن نبين الصورة المشرقة لأفراد الشعوب؛ للشعب الأمريكي للشعب البريطاني للشعب الألماني لشعوب أوروبا، فلقد وقف وزير خارجية إيطاليا ليعلن بمنتهى الوضوح والصراحة أن الحضارة الغربية حضارة قد تفوقت على الإسلام.
ورب الكعبة! لا أقول ذلك إنصافاً مني للإسلام بدون عدل وحق، وإنما أقول: إن الحضارة الغربية هي حضارة الذئاب هي حضارة الأفاعي هي الحضارة المتعفنة الروح هي الحضارة المتحللة الضمير هي الحضارة التي شهدت البشرية في ظلها من صنوف البربرية والوحشية والإبادة ما تخشى الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات.
وأنا لا أنكر ما وصلت إليه الحضارة الغربية في الجانب المادي والعلمي، لكن الحضارة لا يمكن أبداً أن تقوم على جانب واحد أو على شق واحد ألا وهو الشق المادي، بل لابد لأي حضارة على وجه الأرض من أن تقوم بشقين لا غنى للأول عن الثاني، ولا غنى للثاني عن الأول، ألا وهما: الجانب العلمي المادي، والجانب الأخلاقي والروحي.
وانظر إلى هذه الحضارة الغربية في جانبها الآخر، لقد وصلت إلى أسفل سافلين، كما قال رب العالمين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4 - 6] الآيات.
فلقد وصلت هذه البشرية في الجانب الخلقي إلى مستنقع آسن عفن.(158/25)
حمل همّ الإسلام واجب على كل مسلم
عنصرنا الثالث هو: من يحمل همّ الإسلام؟ ومن هو الذي بين للعالم كله عظمة وحقيقة هذا الدين؟ لقد آلمني شاب أمريكي في مؤتمر من المؤتمرات التي حضرتها هنالك، وقد أمسك بذراعي وهو يبكي، ثم احتضنني وازداد بكاؤه، وعلا نحيبه، وقال لي في ترجمة شبه حرفية لقوله: والله! سأسلكم يوم القيامة بين يدي الله، لماذا تركتم والدي يموت على الكفر؟! فأين أنتم يا موحدون؟! وأين أنتم يا مسلمون؟! لم نر إلى الآن حتى محطة فضائية تتبنى قضية الإسلام باحترام، أو تخدم قضية الدين بمصداقية ومنهجية، لا بالصياح ولا بالجعجعة ولا بسوء الأدب، وإنما بالحقائق وبالأرقام وبفتح كتب التاريخ؛ فكتب التاريخ ما زالت مفتوحة مسطورة لكل منصف للحقيقة، لكل رجل يريد أن يتعرف على الحق.
لقد نشرت جريدة الأهرام في الأيام الماضية أنه لا يوجد الآن في أسواق فرنسا نسخة من نسخ القرآن الكريم المترجمة.
فكن ممن يخدم قضية الدين بمصداقية ومنهجية، لا بالصياح ولا بالجعجعة ولا بسوء الأدب، وإنما بالحقائق وبالأرقام وبفتح كتب التاريخ، فكتب التاريخ ما زالت مفتوحة مسطورة لكل منصف للحقيقة، ولكل رجل يريد أن يتعرف على الحق.
سحبت كل النسخ من أسواق فرنسا، لا بجهد من المسلمين الذين يتحركون للإسلام، وإنما بجهد ذاتي من غير المسلمين الذين بدءوا يتطلعون لمعرفة هذا الدين، حتى ولو أخذ من أخذ منهم هذه النسخ، من منطلق أن المسلمين بالفعل هم الذين قاموا بهذه العمليات التفجيرية؛ لأن هؤلاء قوم يعشقون القوة والأقوياء.
حتى من أخذ منهم بهذه النية أخذ نسخة القرآن المترجمة؛ ليتعرف على الإسلام، وكذلك في أمريكا.(158/26)
المستقبل للإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً: المستقبل للإسلام، وأنا ألمح رياحاً عاتية من القنوط واليأس والشك والخوف على أهل الإسلام في هذه الأيام المقبلة، لا بملء الصوت، بل بأعلى الصوت وملء الفم، ولكن أقول: لا توجد قوة على وجه الأرض، ولن توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تطفئ نور الله، كما قال عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
ولو حورب دين على وجه الأرض بمثل ما حورب به الإسلام لما بقي له على وجه الأرض من سبيل.
وأكرر: لو حورب دين على وجه الأرض -من الأديان الباطلة- بمثل ما حورب به الإسلام ما بقي له على وجه الأرض من سبيل.
فمن أول لحظة والإسلام محارب، ولكن الله أهلك كل من وقف في طريق الإسلام، وأبقى الله الإسلام شامخاً، وسيبقى بموعود الله وموعد الصادق رسول الله، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال:36]، بالمليارات {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
وقال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
وقال جل وعلا: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111].
وقال جل وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
اللهم ارزق الأمة الإيمان؛ لتستحق نصرتك يا أحكم الحاكمين! ويا رب العالمين!(158/27)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بانتشار الإسلام
وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وروى الإمام أحمد في مسنده، والطبراني بسند صححه الألباني من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وتتدبروا معي هذا الحديث الذي ربما يسمعه كثير من الناس لأول مرة مع أنه في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً وقال (تعرفون مدينة جانب منها في البحر وجانب منها في البر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! -وهذه المدينة هي: القسطنطينية- قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما يقولون في المرة الأولى: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الذي في البحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون في الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر! فيفرج لهم فيدخلونها).
قال الحافظ ابن كثير في تعليقه على هذا الحديث الجليل: (وبنو إسحاق في هذه النبوءة النبوية هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهؤلاء هم الروم).
والروم بلغتنا هم الأوروبيون.
قال الحافظ ابن كثير: (فالنبوءة النبوية تنص على أن الروم سيسلمون في آخر الزمان قبل قيام الساعة، وسيكون فتح القسطنطينية على أيديهم بإذن الله)(158/28)
اعترافات غربية بمستقبل الإسلام
وتدبروا ما تقوله الكلمات الغربية؛ لأن كثيراً من الناس لا يصدقون الوحي إلا إذا كان من أوروبا! قرأت في مجلة التايم الأمريكية وسأنقل خبراً كذلك من جريدة صنداي تلجراف البريطانية، وسأختم بخبر من مجلة لودينا الفرنسية.
تقول مجلة التايم الأمريكية: وستشرق شمس الإسلام من جديد.
وهذه ليست من عندي، وهذا ليس كلامي، بل كلام مجلة التايم ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب، من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تناطح أبراج الكنائس في باريس، ومدريد، وروما، وصوت الأذان كل يوم في هذه البلاد خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة، وأتباعاً وجدوا فيه الطريق.
جريدة (الصندي تلجراف) البريطانية تقول: إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر، إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدءوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدءوا يقرءون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يتَّبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية!! ومجلة (لودينا) الفرنسية- وقد تعمدت أن أختم الخطبة بهذا الخبر؛ لأنه خبر استراتيجي عن خبراء الاستراتجية العسكرية، ودراسة قام بها متخصصون- تقول: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً.
وهذا واضح لنا جميعاً الآن، فالحرب في الشيشان دينية، والحرب في كشمير دينية، والحرب في كوسوفا دينية، والحرب البوسنية دينية، والحرب في فلسطين دينية، والحرب التي في أفغانستان دينية، وكل حروب الأرض باسم الدين.
تقول الدراسة: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيفوز النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة! إنه دين الله الذي لم ينزل للعرب فحسب، بل للبشرية كلها: للأمريكان، وللأوربيين، وللعرب، وللمسلمين، إنه دين الله الذي رضيه لأهل السماء ولأهل الأرض كما قال عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]؛ لتسعد به البشرية في الدنيا والآخرة.
أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام، اللهم انصر الإسلام، اللهم انصر الإسلام، اللهم أعز المسلمين.
اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، واحفظ أهلنا في أفغانستان، واحفظ أهلنا في العراق، وأحفظ المسلمين في كشمير، وأحفظ المسلمين في الشيشان، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم إنك تملك القلوب فحول قلوب أعدائك عن المسلمين.
اللهم يا من تدبر أمر الكون! دبر الأمر للمستضعفين، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأطعمهم.
اللهم سلط الظالمين على الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، اللهم سلط الظالمين على الظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين.
اللهم اشرح صدورنا وردنا إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم اصرف مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا رب! فرج كرب أمة حبيبك محمد، اللهم فرج كرب أمة حبيبك محمد، اللهم اكشف الغمة عن الأمة، اللهم ارحم ضعفها، واجبر كسرها، واغفر ذنبها، واستر عيبها، وتول أمرها، وفك أسرها، وفرج كربها، واختم بالصالحات أعمالها.
اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ به أن أذكركم به وأنساه! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(158/29)
التعبئة الإيمانية قبل التعبئة الجهادية
لا يخفى على مسلم ما تعانيه الأمة من تشتت، وما يفعله العدو من انتهاك لمقدساتها واستباحة لدمائها وأعراضها، ولا يشك مؤمن أنه لا عزة للأمة ولا مخرج لها من هذا النفق المظلم إلا بالجهاد.
لكن سنة الله في الجهاد أنه لا ينصر إلا عباده المؤمنين، ولذا كان لا بد من التعبئة الإيمانية حتى تثق الأمة بربها وتتأهل لاستحقاق النصر.(159/1)
وجوب الإعداد الإيماني قبل الجهاد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم بارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد: ففي الحقيقة أن دروس الدار الآخرة دروس هامة جداً، وقد يظن بعض إخواننا أنها دروس بعيدة عن الواقع، ولكننا ندين الله عز وجل بأن هذه الدروس هي من صلب هذا الواقع المرير؛ لأننا نعتقد أن الأمة لن تعود إلى كرامتها وإلى عزتها وإلى مجدها إلا إذا عادت ابتداءً إلى الله، ووالله! لو قعدت ألف سنة تشجب فغير ممكن أبداً أن تزول المستوطنات التي في القدس الشريف بالشجب، بل ستبنى رغماً عن أنف مليار مسلم؛ لأن الأمة كلها لا تجيد إلا أن تقول في (المانيتات): نشجب ونستنكر، وحتى إن منا من لا يشجب ولا يستنكر! فيا أخي! نحن أمة غابت عن الله أمة ابتعدت عن الله أمة انغمست في الشهوات والملذات أمة أصبحت تعبد الدنيا إلا من رحم ربك.
وأنا أقول لإخواننا دائماً: لو سألنا أنفسنا: من منا يا إخواننا! الذي يدعو في كل سجدة للأمة أن يردها الله إلى الدين، وأن يرد إليها الدين، وأن يرد إليها الأقصى الكريم؟! وفي الجواب أقول: هذه أمة بخلت بالدعاء، فهل تجود بالأموال والدماء؟!
الجواب
ممكن أنها أيضاً لا تجود، إلا من رحم الله.
فيا شبابنا! نريد أن نتعلم أن الجهاد لابد له من إعداد، وأول خطوة على طريق الإعداد هي الإيمان.
وأنا أفهم الواقع فهماً جيداً جداً، لكن ربنا لما أمر بالجهاد أمر المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورسوله} [الصف:10 - 11] فأمرهم بالإيمان مع أنه أثبت لهم الإيمان، وبعد الإيمان قال: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:11] فأثبت لهم عقد الإيمان فقال: يا أيها الذين آمنوا هل تريدون أن أدلكم على تجارة تنجيكم من العذاب والخزي في الدنيا والآخرة: تؤمنون بالله، وبعد الإيمان بالله تجاهدون؛ إذ ليس ممكناً أن يرفع السيف من لا يعرف الله، وأصحاب النبي إنما انتصروا بالإيمان.
وحتى لا يقول قائل: الشيخ في وادٍ والأمة في وادٍ أقول: الصحابة انتصروا؛ لأن الواحد منهم كان يدخل المعركة وهو يبحث عن الموت؛ والذي يدخل معركة وهو ينقب عن الشهادة وينقب عن الموت مؤمن بالله، والدنيا وإن طالت فهي قصيرة، إنما الآخرة هي الباقية.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يقاتلهم اليوم رجل وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، قوموا لجنة عرضها السماوات والأرض)، كان أحد الصحابة قد أخرج تمرات يريد أن يأكلها حتى يقوي نفسه على القتال، فعندما سمع كلام النبي عليه الصلاة والسلام حرك قلبه.
وأنا أقسم برب الكعبة -وأنا أعي ما أقول- إن هناك ممن ينتسبون إلى الإسلام الآن لو خرج إليهم النبي فكلمهم لكذبوه! فانظر إلى الكلمة لما قيلت كيف عمل الصحابي؟! رمى التمرات، وقام وهو يقول: (بخٍ بخٍ؛ جنة عرضها السماوات والأرض؟!) ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأن أنطلق في صفوف القتال لأقاتل فأقتل لأكون من أهلها، فرمى التمرات وقال: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة).
هؤلاء هم أهل الإيمان يا إخواننا! والعلماء كم لهم من سنة وهم ينفخون في قربة مقطوعة؟! لا يوجد إيمان إلا من رحم ربك في أفراد قلائل، أسأل الله أن يجعلنا منهم.(159/2)
التعبئة الحقيقية للجهاد هي برجوع الأمة إلى الدين
إن التعبئة الحقيقة للجهاد هي أن نرد الأمة من جديد إلى الله، هو هذا الطريق الذي ندين الله به: أن تُربى الأمة على القرآن والسنة، حتى لو قعدنا ألف سنة؛ لأنه لا طريق إلا هذا الطريق، فلا برلمانات ولا انتخابات أبداً، الطريق للتغيير هو طريق النبي محمد بن عبد الله؛ فقد بدأ بمجموعة وأفراد قلائل، كان يجتمع بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فرباهم على القرآن وعلى السنة، وعلى الإيمان واليقين؛ حتى أخرج من هؤلاء الرجال الأبطال من أقام على أكتافهم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، أذلت هذه الدولة المسلمة الأكاسرة، وأهانت هذه الدولة القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق! فبهؤلاء وعلى أكتافهم أقام النبي علم الإسلام، فهذا هو الطريق الذي إذا سلكناه وصلنا إلى ما وصلوا.
فعليك يا أخي أن تربي، وليس لك دخل بالنتيجة، حتى ولو قعدت مائة سنة أو مائتي سنة؛ فالنتيجة ليست لك وليست لي وإنما وظيفتك أن تعمل فقط، ولا يهمك هل الشريعة تطبق في مصر أو لا تطبق؟ فإن ربنا لن يسألك عن تطبيق الشرع، وإنما سيقول لك: أنت عملت ماذا؟ أنت بذلت ماذا؟ أنت كنت سلبياً أو كنت إيجابياً؟ بذلت لدين الله على قدر استطاعتك أو كسلت؟ فعليك أنت أن تعمل وتجتهد، فتربيتك لنفسك هي على درب الفتح إن شاء الله، وتربيتك لأولادك بذر في طريق الفتح، وتربيتك لزوجتك بذر في طريق الفتح، وتصحيح العقيدة والإيمان بذر في طريق الفتح، هو هذا السبيل.
فعلينا أن نعمل ولو قعدنا مليون سنة، والواقع الآن خير شاهد؛ فإن كنا دائماً ممن يدندن دائماً على الواقع وعلى فقه الواقع وعلى فهم الواقع فإن الواقع يصدق ما نقوله الآن، فلا طريق إلا هذا الطريق، وأما النتائج فهي على الله، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فعليك أن تكون صحيح الإيمان، وأن تدعو غيرك إلى الرحمن جل وعلا وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام بحكمة ورحمة وموعظة حسنة.(159/3)
مراحل تغيير المنكر
وأريد أن أقول يا إخوان: إن العنف دائماً يهدم ولا يبني، فإذا قال قائل: فماذا أعمل؟ وأنا أريد أن أغير المنكر؛ وقلبي يحترق، فكيف أغيره؟ فنقول: إن قدرت أن تغير بيدك بحيث إن المعروف الذي يترتب على إنكارك يكون أكبر من المنكر نفسه فغير بيدك، فإن كان هذا الولد أو هذه البنت لك عليها سلطان فأنكر عليه ولو بالقوة، أما إذا كان إنكار المنكر سيترتب عليه منكر أكبر فلا تغيره؛ لأن ربنا أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
فلا تحسب نفسك عنترة بن شداد؛ وإنما كن فاهماً للواقع وفاهماً للشرع، فإذا لم تستطع التغيير باليد فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع لك مخرجاً فقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).
فعليك أن تمسك هذا الولد أو هذه البنت وتكلمهما بكلمتين طيبتين، وترغبهما وترهبهما وتذكرهما بالله.(159/4)
الأصل في الكبائر التوبة
وأقول لك أيها الأخ كلمة لو دفعت لي أموال الأرض فإنها لا تزن هذه الكلمة، هذه الكلمة هي لشيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه، يقول: (الأصل في الكبائر التوبة، وليس إقامة الحد!).
يعني: إن وقعت في كبيرة وربنا ستر عليك فاستر على نفسك، وتب إلى الله.
فإن قال قائل: هذا ماعز جاء بنفسه إلى النبي بعدما ارتكب كبيرة الزنا، ولم تأتِ به شرطة ولا هيئة أمر بمعروف، وإنما جاء يقول للنبي: طهرني يا رسول الله! فجاء معترفاً؛ والاعتراف سيد الأدلة، فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه)، فدل هذا على أن الأصل في الكبائر التوبة، وليس إقامة الحد.
فرجع ماعز ولم يقدر، لأنها قلوب تربت على الإيمان؛ أما اليوم فأحدنا يركب الحافلة العامة، وتراه يقطع السفنج، أو يسرق حديدة أو يسرق مسنداً ويقول لك: هذا مال سائب! وآخر يذهب إلى الوظيفة فيقعد ساعة ويعود، ويقول لك: على قدر فلوسهم! سبحان الله! فانظر الفرق الكبير؟! فـ ماعز رجع مرة ثانية وقال: (يا رسول الله! طهرني) فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية: (ويحك! ارجع فاستغفر الله، وتب إليه) فيرجع ماعز ثم يجيء في اليوم التالي ويقول: (يا رسول الله! طهرني).
فيقول له: (ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه) ويرجع ماعز وهو مصر على قوله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبه جنون؟! قالوا: لا، يا رسول! فقال: هل شرب خمراً؟ فقام واحد من الصحابة فاستنكهه فلم يجد منه رائحة الخمر، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإقامة الحد عليه).
فلما وصل الأمر إلى ولي الأمر واعترف بهذه الصورة أقيم عليه الحد.
ومن أعجب ما قرأت أنه جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد هرب يا رسول الله ونحن نرجمه.
فقال المصطفى: (هلا تركتموه؟!) يا سبحان الله! انظر إلى عظمة هذا الدين! فإذا منّ الله عليك بأنك تستطيع أن تغير المنكر بيدك بدون مفاسد فغير، ولكن بالضوابط، فإذا لم تستطع فغير بلسانك بكلمة طيبة رقيقة، فإذا لقيت واحداً في معصية فذكره بالله، وذكره بالجنة والنار.
وأنا أريد أن أقول: جل الناس في قلبوهم الخير يا إخواننا! والله ما من مكان نتحرك إليه إلا ونرى الخير، وما من مكان نذهب إليه إلا نرى الشباب قبل الشيبان يتسابقون إلى الرحمن، والله إننا نجد آلافاً مؤلفة من الشباب يحضرون بين أيدينا في كل مكان نذهب إليه، بل يحضر عشرات الآلاف بدون مبالغة؛ فالناس مقبلة على الله، والناس ملوا من المعاصي والذنوب، وملوا من الكذب والدجل السياسي والإعلامي، وأصبح الناس يريدون أن يرجعوا إلى الله.
فهل يرجعهم غيركم أيها الدعاة؟! القاعدة لو بقيت كلها مسلمة لصلحت أحوال الأمة؛ وتصور لو أن الغالبية في مصر أسلمت لله إسلاماً حقيقياً، وأذعنت وانقادت وآمنت، فإن الحكومة التي نريد أن تطبق فينا شرع الله لن تأتي من المريخ، وإنما تأتي من هذه القاعدة، فإذا كانت القاعدة تقول: إسلام، فلا حاكم على ظهر الأرض يستطيع أن يقول: لا، أنا أريد أن أحافظ على الكرسي، فإذا كانت القاعدة تريد إسلاماً فسيكون إسلاماً، ومن تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فإذا لم تقدر أن تغير بلسانك فغير بقلبك.(159/5)
شروط التغيير بالقلب
التغيير بالقلب يكون بشرطين: الشرط الأول: أن يرى الله منك بغضك لهذا المنكر، فلا تقعد أمام التلفزيون تشاهد الفيلم الداعر أو المسلسل الفاجر وحين يجيء فيه مشهد راقصة عارية تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! لا حول ولا قوة إلا بالله! فأنت بهذا تضحك على نفسك، وهذا كلام لا يليق على الإطلاق.
فأول شرط من شروط الإنكار بالقلب أن يحترق قلبك عند أن ترى منكراً والشرط الثاني من شروط التغيير بالقلب: أن تفارق المكان الذي يرتكب فيه المنكر؛ لأنك عاجز عن تغييره، فإذا كنت قاعداً في مجلس فيه الغيبة والنميمة التي أصحبت فاكهة المجالس فانههم، وقل لهم: اتقوا الله يا إخوان! وكل واحد يمسك لسانه، فإن لم يستجيبوا لك أو لم تستطع أن تغير فقم من هذا المجلس.
وبعض الناس ورع عن الحرام، لكنه لسانه ينهش في أعراض الأحياء والأموات، فاتقوا الله! أيها الإخوة؛ فإن الأمر كما قال جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فكل كلمة تسجل على قائلها.
فإذا رأيت جماعة مصرين على الغيبة أو النميمة فقم فوراً، وانتبه أن تجلس، قال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، ومن رحمة ربنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إنكار القلب جهاداً، وفي هذا تسلية للمسكين الذي لا يقدر أن يغير بيده ولا بلسانه، فمن كان كذلك فليغير بقلبه؛ وهذا رحمة من الله بك أنك لو أنكرت المنكر بقلبك فأنت أيضاً مجاهد في سبيل الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن).
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(159/6)