منهج الله فيه حكم كل شيء
ثانياً: ولمنهج الله حكم.
أيها المسلمون! لابد أن تعلموا جميعاً أنه ما من شاردة ولا واردة في قضية من القضايا أو مسألة من المسائل القديمة أو الحديثة إلا ولمنهج الله فيها حكم، ولمنهج الله عليها تصور، فقضية تحديد النسل لها حكم في منهج الله.
وقضية الإجهاض لها حكم في منهج الله.
وقضية العلاقات الزوجية لها حكم في منهج الله.
وقضية العلاقات الشاذة بين الرجل والرجل باللواط وبين المرأة والمرأة بالسحاق، لها حكم واضح في منهج الله.
وكذا قضية تعدد أشكال الأسرة، وما معنى تعدد أشكال الأسرة؟ يعني: شكل يكون بين زوج وزوجة، وشكل آخر يكون بين رجل ورجل، وشكل ثالث امرأة مع امرأة، فتعدد أشكال الأسرة، وتوفير الثقافة الجنسية للمراهقين من الشباب لحمايتهم من الوقوع في مرض نقص المناعة المعروف بالإيدز، كل هذا له حكم في منهج الله، ولمنهج الله تصور واضح لكل هذه القضايا.
وعلاقة العبد بخالقه لها حكم في منهج الله.
وعلاقة العبد بالناس لها حكم في منهج الله.
وعلاقة الإنسان بأعدائه لها حكم في منهج الله.
والمعاملات الاقتصادية لها حكم في منهج الله.
والمعاملات السياسية لها حكم في منهج الله.
والمعاملات السياسية في الحرب والسلم لها حكم في منهج الله.
وما من قضية من القضايا أو مسألة من المسائل إلا ولها حكم في منهج الله، فهل يجوز لمسلم يؤمن بالله أن يقدم شرع البشر على شرع الله؟
الجواب
لا، بل يجب أن يعرض تشريع المؤتمرات على تشريع رب الأرض والسماوات.
وما هو الذي يجب علينا أن نقدمه، وأن نعرض كل مؤتمرات الدنيا وكل تشريعات البشر عليه؟ الجواب: إنه تشريعنا وديننا، إنه قول ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو الأصل، وذلكم هو الميزان الحساس الدقيق، وأهلاً ومرحباً بأي قانون يضعه الغرب شريطة أن يعرض هذا القانون على كتاب ربنا وعلى سنة نبينا، فإن أقر القرآن والسنة هذا القانون قبلناه، وإن اعترض القرآن والسنة عليه ورفضا هذا القانون رفضناه، وضربنا به عرض الحائض، ولو شرع هذا القانون البيت الأبيض أو الأحمر أو الأسود! وهذه قضية خطيرة، فنحن أمام حد الإسلام وشرط الإيمان، فيا مسلمون! هذه قضية خطيرة كبيرة، وأنتم أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، بمعنى: إما إسلام بالإذعان لشرع الله، وإما كفر بالاعتراض على شرع الله، إما إيمان بالانقياد لحكم الله ورسوله وإما كفر بالاعتراض على حكم الله ورسوله، هذه قضية يقررها الله بنفسه، ويقسم عليها بذاته، فقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] وليس هذا فقط، بل يجب أن تحكم الله ورسوله، وأن تكون في غاية الحب والرضا عن الله وعن رسول الله وعن حكم الله وعن حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ويؤلم القلب المؤمن أن الفاتيكان ترفض كثيراً من بنود هذا المؤتمر، وترفض كثيراً من توصيات هذا المؤتمر، وترفض أن يشارك في المؤتمر الشاذون جنسياً، ويوجد خمسمائة شاذ يشاركون في المؤتمر! فهل نأخذ توصياتنا عن الشواذ؟! وهل نأخذ تشريعنا من الشواذ؟! وهل نأخذ قانوننا من الشواذ؟! وهل هذا يرضي الله أو يرضي رسول الله؟! ثم بعد ذلك تعلن الحرب الهوجاء على كل من حذر الأمة من هذا الخطر الدامغ والماحق لهذه الأمة، ويوصف بالإرهاب والتطرف! لا ورب الكعبة! بل إن الإرهاب والتطرف بعينه هو أن نأتي للأمة بهذا الخطر الماحق، وبهذا الخطر الدامس الدامغ، ثم بعد ذلك نقول: لا يجوز لأحد أن يحذر أو أن ينذر أو أن يذكر.
فلا نريد شعارات، وإنما نريد عملاً وسلوكاً، ونريد واقعاً، لقد صرخت الأمة طيلة السنوات بالشعارات فماذا فعلت؟! وماذا صنعت؟! إن العالم كله الآن يتحرك برجولة، ويتحرك بجدية وبقوة، ولا زال المسلمون يتغنون؛ ولا يجيدون إلا لغة الشعارات والشجب والاستنكار، وتخرج علينا المجلات والصحف أمام كل كارثة، وأمام كل مصيبة بالخطوط العريضة: نشجب ونستنكر!! ما شاء الله! هذه هي لغتنا، أما العمل، وأما السلوك، وأما أن نقدم لدين الله شيئاً، فلا! إنا نريد أن نثبت للعالم كله أن الإسلام وأن محمداً -كما يقول اليهود- لم يخلف بنات، بل ترك رجالاً أطهاراً يعلمون حقيقة هذه الدنيا وحقيقة هذا الدين؛ فتتحرق قلوبهم كمداً وغيضاً، وتتحرك جوارحهم للعمل لهذا الدين، ويشهدون شهادة عملية لهذا الدين العظيم، ولهذا الإسلام الكريم.
أقول أيها المسلمون الأحبة: ما من قضية إلا ولمنهج الله فيها حكم، نريد أن نعي هذه الحقيقة وهذه القضية الكبيرة ألا وهي: أنه لا يجوز لأحد إن كان مسلماً أن يقدم شرع المهازيل من البشر على شرع رب البشر وسيد البشر صلى الله عليه وآله وسلم، ومرفوض أي تشريع يصدر عن مؤتمرات أو برلمانات أو مجالس شعبية أو برلمانية أو هيئات أو منظمات أو بيوت بيضاء أو سوداء أو حمراء إن كان يخالف تشريع ربنا، ولا يجوز لمسلم على ظهر هذه الأرض أن يقبله، نقول ذلك بملء أفواهنا: لا يجوز لمسلم أن يفعل ذلك إلا إذا كان قد ترك إسلامه، وقد تخلى عن دينه، فله أن يفعل ذلك حينئذٍ، أما وهو يعلن أنه مسلم فلا يجوز له ألبتة أن يقدم تشريع المهازيل من البشر على تشريع رب البشر جل وعلا، قال عز وجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
إذاً: أيها الحبيب الكريم! منهج الله لابد أن يقدم، وتشريع الله لابد أن يقدم، يقول صاحب (الظلال): إن هذه الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم إليها من يد الله، فرحم الله السيد قطب؛ فإنه يلخص المسألة في هذه الفقرات: إن الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله، قال عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].
وهذا هو أخطر عنصر من عناصر المحاضرة، ولا أريد أن أطيل فيه أكثر من هذا، ولكني أقول: منهج الله له حكم لكل مسألة، وله حكم لكل قضية، فيجب أن نعرض القضايا والمسائل على منهج الله ابتداءً، فإن أقرها منهج الله أقررناها وقبلناها، وإن رفضها منهج الله رفضناها وضربنا بها عرض الحائط، حتى ولو قالها أعلم أهل الأرض، ولو لم نخرج من هذه المحاضرة إلا بهذا العنصر لكفى.
فتحديد النسل، والإجهاض -الإجهاض الآمن أو غير الآمن- والعلاقات الأسرية، والعلاقات الزوجية، والعلاقات الاجتماعية، والعلاقات الاقتصادية، والعلاقات السياسية، والعلاقات الحربية، والإعلام والتعليم، وكل صغيرة وكبيرة؛ منهج الله له حكم وله تصور لكل هذه القضايا، ولكل تلك المسائل، فيجب علينا -نحن المسلمين- أن نحكم منهج الله وشرعه في كل قضية وفي كل مسألة، بل وفي كل جزئية، يقول الله عز وجل: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3]، يقول السيد قطب رحمه الله تعالى: يا محمد! ما أنزل الله عليك هذا القرآن لتشقى بأوامره، أو لتشقى بنواهيه، أو لتشقى بتكاليفه، أو لتشقى به أمتك من بعدك، بل ما أنزل الله عليك هذا القرآن إلا لتقيم به أمة، وإلا لتنشئ به دولة، وإلا لتربي به العقول والقلوب والضمائر والأخلاق، وواجب على الأمة أن تعود إلى هذا القرآن، يقول: والعودة إلى القرآن ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، إنما الإيمان أو لا إيمان، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(115/5)
الإسلام قادم
الثالث: من عناصر المحاضرة: الإسلام قادم، بالرغم من كل هذا أيها الأحبة! فإني بكل ثقة وبكل يقين أزف إليكم البشرى بأن الإسلام قادم، فهل تصدقون الله؟ وهل تصدقون رسول الله؟ اسمع إلى الله واسمع إلى رسوله لتعلم يقيناً حتى لا تهب عليك ذرة ريح من رياح القنوط واليأس؛ لتعلم أن الإسلام وإن طال ليله فهو قادم كقدوم الليل والنهار، وأن أهل الأرض ولو اجتمعوا ومهما وضعوا في طريق الإسلام من الحديد والنيران فإن الإسلام دين الله الذي تكفل بنصرته، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون.
فلا تخشوا على الإسلام أبداً، ولا تخافوا على الإسلام أبداً، فإن الإسلام دين الله، وهل تستطيع قوة على ظهر هذه الأرض أن تعلن الحرب على الله؟!
الجواب
أبداً والله! فاسمع إلى الله عز وجل لتستبشر، وليمتلأ قلبك يقيناً بأن الإسلام قادم، فأمة الإسلام قد تمرض، وقد تعتريها فترات من الركود، وربما الركود الطويل، ولكنها بفضل الله لا تموت، ولن تموت بإذن الله جل وعلا، وإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم بإذن الله عز وجل.
وإن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف ليس ضخامة الباطل، وإنما الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف هو قوة الحق، ولا شك على الإطلاق أن معنا الحق الذي من أجله خلقت السماء، وخلقت الجنة والنار، وأنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، معنا رصيد فطرة الكون، ومعنا رصيد فطرة الإنسان، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها والله! من معية كريمة مباركة! يقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
فاسمع إلى الله سبحانه وتعالى، يقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40].
واسمع إلى الله جل وعلا وهو يقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
واسمع إلى الله جل وعلا وهو يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
فهم ينفقون على مؤتمرات، وعلى مؤامرات، ويعملون دعايات، ولكن: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، نعم يغلبون، {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، لتتم هنالك حسرتهم الكبرى في جهنم والعياذ بالله! أيها المسلم! كم أنفق من مليارات لتنصير المسلمين؟! وكم أنفق من مليارات لتحطيم صرح الأسرة وهدم كيانها بالمسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة والقصص الخليعة الماجنة؟! وكم أنفق من مليارات على أندية الأنترنت العالمية؟! وكم أنفق من مليارات على أندية الماسونية العالمية؟! وكم أنفق من مليارات للقضاء على طلائع الجهاد الأبية؟! وكم أنفق من مليارات لإخراج المسلمين عن دينهم بالجملة؟! ولكن ما هي النتيجة؟!! ينبئك عنها اللطيف الخبير: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، وورب الكعبة! إنهم الآن يتحسرون، فبعد كل هذه السنوات من الغزو الفكري من غسيل المخ ومن المؤامرات والضربات والهجمات يرون هذه النبتة الطيبة، ويرون هذه الصحوة العملاقة التي جعلتهم في ذهول، وجعلتهم الآن يرقصون رقصة الموت.(115/6)
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم
أيها المسلمون! اعلموا أن الذي يغرس لهذا الدين إنما هو الله، واسمع إلى هذه البشارة القرآنية لأختم بها، اسمع إلى الله جل وعلا وهو يقول في سورة الصف: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8]، يريدون ليطفئوا نور الله بمؤتمراتهم، فهم يريدون ليطفئوا نور الله بإعلامهم، يريدون ليطفئوا نور الله بمجلاتهم، يريدون ليطفئوا نور الله بكلامهم، ولكن كلا! قال عز وجل: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] فالقائل هو الله رب العالمين، فهل تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله؟! وهل يستطيع ذلكم الدخان الكثيف الأسود المتصاعد تباعاً من أوعية الذل والحقد والحسد في صدور أعدائنا أن يحجب نور الله عز وجل؟! وهل يضر السماء نبح الكلاب؟! وهل تستطيع جميع الطحالب الحقيرة الفقيرة ولو اجتمعت على سطح الماء أن توقف سير البواخر الكبيرة العملاقة؟!
الجواب
كلا! قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28].(115/7)
بشائر نبوية بالنصر والتمكين
اسمعوا هذه البشائر النبوية: روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك، وصحح الحاكم الحديث على شرط الشيخين، وتعقبه الإمام الألباني فقال: بل هو صحيح على شرط مسلم، من حديث تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، وصححه الحافظ العراقي من حديث حذيفة من اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً -وها نحن الآن نعيش هذه المرحلة- فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، اللهم عجل بها يا رب العالمين! وأقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم آمين.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضاً في مسنده، والحاكم في المستدرك، وابن أبي شيبة في مصنفه، وصحح الحديث الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: (كنا نكتب حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله سائل وقال: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم روما؟ فقال الحبيب الصادق المصدوق: مدينة هرقل تفتح أولاً) ومدينة هرقل هي القسطنطينية، وقد فتحت بعد البشارة النبوية بثمانية قرون، وليس بثمان سنين، فتحت على يد البطل الشاب محمد الفاتح، أسأل الله أن يفتح على الأمة بفاتح، فتحت على يد هذا البطل بعد ثمانية قرون تقريباً من بشارة رسول الله، ويبقى الشطر الآخر في البشارة، وعد لا يكذب إن شاء الله، اللهم عجِّل به، آمين يا رب العالمين! وأختم البشائر النبوية بهذه البشارة الكريمة: في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون) هذا كلام الصادق ونحن نعتقده تماماً، (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله!) وليس كما قال واحد مخرف ومحرف: الحجر يقول: يا عربي! وليس معنى هذا أنني أنكر العروبة، كلا! وإنما أقول: ينبغي أن تكون الآصرة هي آصرة الإسلام، وأن تكون الوشيجة هي وشيجة الإيمان، كما قال الشاعر: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم (ينطق الله الحجر والشجر ويقول: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
وستعجبون إذا علمتم أن اليهود يقومون بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد؛ لأنهم يصدقون رسولكم صلى الله عليه وآله وسلم، بل أعجب من ذلك أيها المسلم! إذا علمت أن رسولك قد حدد أرض المعركة، فالصادق صلى الله عليه وسلم حدد أرض المعركة قبل غزوه بدر، والحديث في صحيح البخاري، أخذ النبي عليه الصلاة والسلام عصاه وقال: (هنا مصرع فلان بن فلان، وهنا مصرع فلان بن فلان، وهنا مصرع فلان بن فلان، يقول عبد الله بن مسعود: فوالذي نفسي بيده ما أخطئوا الأماكن التي حددها رسول الله) فالمكان هو المكان؛ لأن الذي يبلغ هو سيد ولد عدنان عن الرحيم الرحمن، قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
حدد النبي أرض المعركة كما في رواية البزار ورجالها رجال الصحيح قال الحبيب: (أنتم - يا مسلمون! شرقي الأردن وهم غربيه) ولم تكن هناك يومها دولة تعرف بالأردن على الإطلاق، لم تكن دولة اسمها الأردن، وإنما كان اسمها بلاد الشام، والنبي سمى الدولة بالضبط: (أنتم شرقي الأردن، وهم غربيه) فهذا وعد الله، وهذا وعد الصادق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(115/8)
وجوب التمسك بالدين لنكون أهلاً لنصر الله
وأختم في عجالة وأقول: وأخيراً فلنكن على مستوى هذا الدين، لأجيب على سؤال عنوان المحاضرة: متى نصر الله؟ وأقول كما قال عز وجل: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، بشرط أن نكون على مستوى هذا الدين، وأن ننبذ هذا الخلاف، وهذه العصبية والفرقة؛ كفاية فرقة، ألا يوجد مصيبة تجمعنا أبداً؟ كل هذا يحصل على الأمة وما زلنا متفرقين! ولا زال كل طرف يتغنى بجماعته! فنريد أن نلتقي على قلب رجل واحد، ونريد أن ننبذ هذه الفرقة وهذا الخلاف، وليقترب كل أخ من أخيه، وليصحح له الخطأ بحب ورحمة وحكمة وتواضع.
إلى متى سنظل على هذه الفرقة يا إخواني؟! إلى متى سنظل على هذا الخلاف؟ وإلى متى سنظل على هذه الأواصر وعلى هذه الموالاة وعلى هذه المعاداة؟ إن لم تكن في جماعتي فأعاديك وإلا أواليك! هذا لا يرضي الله عز وجل ولا يرضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فلتلتقي القلوب على قلب رجل واحد، وليصحح كل أخ لأخيه خطأه بالحكمة والرحمة والمحبة والتواضع.
فقد اتفق الشرق والغرب على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، ولا زال خير الأمة من العلماء والدعاة وطلبة العلم متفرقين! هذا لا يرضي رب العالمين، ولا سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
فلنكن على مستوى هذا الدين، فلننبذ العصبية والفرقة والخلاف، ولتمتلئ قلوبنا بالحب في الله لإخواننا وأحبابنا، وليقترب كل أخ من أخيه؛ فإن رأيت أخاك على خطأ عقدي -وما ظنك إذا كان أخوك على خطأ حركي- فاقترب منه، وذب معه في بوتقة الحب في الله، وقل له: يا حبيبي في الله! هذا خطأ، وليرى أخوك منك الرحمة والحب والحكمة والتواضع، وأنا أعي يقيناً أنه إن رأى منك ذلك فسيذلل الله قلبه للحق الذي أجراه الله على لسانك.
فلننبذ الفرقة والسلبية، ولنكن إيجابيين، وليبذل كل واحد منا عملاً لدين الله؛ فلا نريد كلاماً، بل نريد عملاً، ففكر كيف تخدم الدين؟ ولا نريدكم -يا إخواني- كلكم أن تكونوا دعاة على المنابر، ولا نريد أن تتحول الأمة كلها دعاة على المنابر، كلا! وإنما نريد أن تتحول الأمة كلها دعاة إلى دين الله من موقع الإنتاج، ومواطن العطاء، وأنا أحزن جداً لما يجيء إلي أخ فيه الخير ويقول لي: أنا أريد أن أترك كلية الطب، أو كلية الهندسة! فأقول له: لماذا؟ فيقول: أريد أن أتفرغ للعلم الشرعي! وأقول: يا إخواني! نريد أن نعد الكوادر الإسلامية المتخصصة في كل مناحي الحياة، وكل شئون الدنيا؛ لتسيير نظام الحياة من خلال منظور الإسلام، فمن الذي سيسير دفة الحياة من منظور إسلامي إلا مسلم متخصص في تخصصه، ويعرف دين ربه وسنة نبيه.
وانظر معي -أيها الشاب- نظرة سريعة حتى تطمئن لكلامي، انظر نظرة سريعة إلى الدعاة المؤثرين الآن في الساحة؛ لتعلم يقيناً أن دراستهم التي وفقوا فيها ووصلوا بها إلى أرقى الدرجات لم تكن أبداً دراسة شرعية، وستجد أن هذا خريج طب، وهذا خريج هندسة، وهذا خريج إعلام، وهذا خريج كذا، وهذا خريج كذا، وسبحان الله! أحدهم لم تمنعه دراسته من أن يصرف وقتاً ليحصل فيه العلم الشرعي، وليتحرك لدين الله، ولدعوة الله عز وجل.
يا أيها الحبيب! أخلص في عملك، واجتهد في تخصصك، وفكر كيف تخدم دينك من هذا الموقع؛ فنحن نريد الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والفلكي المسلم، والطيار المسلم، والوزير المسلم، والدبلوماسي المسلم، والجيولوجي المسلم، والمدرس المسلم، والتاجر المسلم، ونريد الكوادر المسلمة الواعية الفاهمة لدين الله، التي تقف في مواقع إنتاجها ومواطن عطائها لتقول بسلوكها وفعلها وعملها: هذا هو الإسلام؛ لأننا الآن نعيش عصراً أصبح يُحكَم فيه على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم.
وأخيراً: فلنتحرك جميعاً لدعوة الله، ولدين الله، بكل جهد وبكل طاقة، وبسلاح من الخلق العلي، والحكمة البالغة، والكلمة الطيبة، لا نريد إلا هذا، ولنتذكر دائماً قول الله لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الوباء، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر واحة للرخاء والاستقرار، اللهم ارفع عن مصر الغلاء، اللهم ارفع عن مصر الوباء، اللهم ارفع عن مصر البلاء، اللهم احفظ على مصر توحيدها، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني أنا ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(115/9)
مع أعظم داعية [1]
كان العالم يتخبط في ظلمات الجاهلية وخرافات الوثنية، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونوراً وهدى للناس، لكن الجاهلية الغاشمة لم تفقه ما أريد لها، فقام كفار مكة في وجهه، فآذوه ومن أسلم معه واضطهدوهم واضطروهم للخروج من مكة، والبحث عن بلاد آمنة للدعوة إلى الله.
وكان ما نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأذى والابتلاء أمراً عظيماً، يسلي الدعاة من بعده، ويحملهم على تحمل الأذى والمشاق في سبيل الله، والاضطلاع بأمور الدعوة مع التحلي بالصبر والجلد والاستمرار.(116/1)
مقدمات الدعوة وبدء الوحي
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمع اللقاء الثاني عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ونحن اليوم على موعد لإجمال ما فصلناه في اللقاءات الطويلة الماضية، وذلك بتقديم صورة عملية مشرقة للدعوة إلى الله عز وجل، لأعظم داعية عرفته الدنيا، لإمام النبيين، وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، فهو قدوتنا، وأسوتنا، وإمامنا، وأستاذنا، ومعلمنا، ولم تكن دعوته ولن تكون ماضياً يحاول أعداؤنا في الليل والنهار أن يقطعوا الصلة بيننا وبينه، كلا، إن دعوته شعلة توقد شموس الحياة، ودماء تتدفق في عروق المستقبل والأجيال.
أحبتي في الله! لقد نشأ أعظم داعية -صلى الله عليه وسلم- في بيئة شركية، تصنع الحجارة بيديها، وتسجد لها من دون الله جل وعلا، فاحتقر هذه الأصنام، وأشفق على أصحاب هذه العقول، فهاهو يرى الواحد منهم ينحت إلهه الذي يعبده بيديه من حجر أو خشب أو نحاس أو حديد، أو حتى من التمر إذا اضطر إلى ذلك، فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام يدس هذا الإله الرخيص في جوفه؛ ليذهب به أذى هذا الجوع بيئة عجيبة! فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة الشركية، واختار العزلة بعيداً في غار حراء، على قمة جبل النور بمكة المكرمة شرفها الله وزادها تشريفاً، خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أصنام مكة، وبعيداً عن سدنتها وكهانها، وذهب بعيداً إلى هذا الجبل، الذي يستغرق الصعود إليه ساعة أو أكثر، يخلو بنفسه ليقضي النهار في التأمل والتفكر والتدبر، ويقضي الليل في التبتل والتعبد والتضرع.
وفي ليلة من هذه الليالي الكريمة المباركة يتنزل الوحي على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى ليبشر النبي صلى الله عليه وسلم بحياة جديدة، بل ويبشر البشرية كلها بحياة جديدة، هاهي النبوة ترفع أعلامها، وهاهي النبوة تدق ناقوسها، وتقول: أنت يا محمد نبي الله لهذه البشرية كلها، ويأتيه الملك كما في الحديث الذي رواه البخاري، في كتاب بدء الوحي من حديث عائشة: (يأتيه الملك ويقول له: اقرأ، فيقول: ما أنا بقارئ -أي: أنا رجل أمي لا أتقن القراءة ولا أحسن الكتابة- يقول صلى الله عليه وسلم: فأخذني وغطني -أي: ضمني ضمة شديدة- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطي الثالثة ثم أرسلني وقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:1 - 3]).
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بها يرجف فؤاده، وترتعد فرائصه وتضطرب جوارحه، رجع إلى من؟ رجع إلى القلب الحنون، رجع إلى العقل الكبير، رجع إلى أمنا خديجة رضي الله عنها وهو يقول لها: (يا خديجة والله لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر) وانطلقت به صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان رجلاً قد تنصر، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت: (يا ابن عمي! اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال ورقة: هذا والله الناموس الذي نزل الله على موسى، يا محمد! والله إنك لنبي هذه الأمة، ليتني كنت فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- لأنصرك ولأحميك ولأدفع عنك، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)، وما لبث أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع فترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيب رسول الله عليه الصلاة والسلام بالحيرة، ما هذا الذي جرى؟ ما هي رسالته؟ ما هو دوره؟ ما هي وظيفته؟ يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر الذي رواه البخاري ومسلم (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً في السماء يقول: يا محمد! يا محمد! فرفعت رأسي فإذا بالملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، يقول عليه الصلاة والسلام: فرعبت منه -وفي رواية مسلم: فجئثت منه حتى هويت إلى الأرض، ورجعت إلى أهلي وأنا أقول: زملوني زملوني، يقول عليه الصلاة والسلام: فدثروني -أي: وضعوا عليه الأغطية- وإذا بالأمر يتنزل على قلب الحبيب من الله جل وعلا لينادي عليه ربه بهذه الآيات ويقول: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]).
قم يا محمد! وأزل عنك هذه الأغطية، وأزل عنك هذه الفرش، فما كان بالأمس حلماً جميلاً أصبح اليوم حملاً ثقيلاً، قم يا محمد! للعبء الثقيل الذي ينتظرك، قم يا محمد! للأمانة الكبرى التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، قم يا محمد! لعبء العقيدة لعبء الدعوة إلى الله لتزيح عن هذه البشرية وعن هذا الوجه الكالح هذا الشرك وهذا الكفر العتيد العنيد، قم يا محمد! لترفع راية لا إله إلا الله، لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فنهض محمد وقام، وظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً، لم يقعد، ولم يكسل، ولم يجلس، ولم يسترح، ولم يعش لنفسه ولا لأهله قط، وإنما عاش لله، وعاش لدين الله، وعاش لدعوة الله، وعاش للا إله إلا الله، وعاش من أجل هذه البشرية المنكوبة تحت سياط الشرك والكفر، قام وظل قائماً.
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:1 - 3]، كبر الكبير المتعال الذي هو أكبر من كل شيء، هو أكبر من السماوات، وأكبر من الأرض، وأكبر من هؤلاء الطواغيت والفجار.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3 - 5]، أي: اهجر هذه الأصنام وهذه التماثيل التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عن نفسها شيئاً.(116/2)
مرحلة الدعوة السرية
وبدأت المرحلة الأولى من مراحل الدعوة لدين الله جل وعلا، في تكتم شديد وسرية كاملة، نعم! إن الأمر جد خطير، إن للأصنام جيوشاً تتلمظ وتستعد لنحر كل من يعتدي عليها، ما بالك بأقوام يعتدي بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضاً على ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهة ينحرون لها آلاف النياق لترضى عنهم بزعمهم! فلابد من التكتم، ولابد من السرية في هذه الآونة.
وانطلق النبي عليه الصلاة والسلام بدعوة في سراديب من التكتم والسرية؛ ليبذر وليغرس جذور التوحيد في باطن الأرض في القلوب، لتؤدي ثمارها وأكلها بعد حين بإذن ربها، إذا ما خرجت على سطح الأرض قوية يافعة لا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تجتثها أو أن تقتلعها؛ لأن الجذر الذي في باطن الأرض غرسه أعظم داعية بيديه صلى الله عليه وسلم، غرس النبي صلى الله عليه وسلم العقيدة الصحيحة الخالصة في القلوب، وينبغي على كل داعية أن يبدأ بما بدأ به حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم، لابد من عودة إلى العقيدة؛ لزرع جذورها في القلوب زرعاً صحيحاً أكيداً قوياً لا تزعزعه الرياح، ولا تؤثر عليه الأهواء والشبهات.
فأسلمت خديجة، وأسلم أبو بكر، وعلي، وزيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وأبو ذر، وأبو عبيدة، وسمية، وعمار، وياسر وغيرهم من السابقين الأولين، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.(116/3)
الجهر بالدعوة
واستمرت المرحلة السرية في الدعوة إلى الله ثلاث سنوات، كان صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله جل وعلا تحت السراديب، يدعو إلى الله جل وعلا تحت باطن الأرض لا على ظهرها، حتى نزل الأمر من الله جل وعلا ثانية يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلن دعوته وأن يجهر بها، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل قول الله جل وعلا: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، يقول ابن مسعود: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه).
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، تبدأ من هنا المرحلة الثانية من مراحل الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهي المرحلة العلنية أو الجهرية، ونزل قول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:214 - 215]، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا بمكة المكرمة، والحديث رواه البخاري وغيره: (صعد على الصفا ونادى على بطون قريش يا بني عدي! يا بني فهر! -وفي رواية-: وضع أصبعيه في أذنيه وظل يصرخ بأعلى صوته، واصباحاه واصباحاه! فاجتمع إليه الناس، واجتمعت إليه بطون قريش، حتى إن الرجل الذي عجز عن أن يذهب بنفسه وكل رسولاً يذهب عنه ليخبره ما الخبر، ووقف الناس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فأقام عليهم الحجة ابتداءً- وقال: (أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً قط، فقال صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، وفي رواية في الصحيح: إنما أنا النذير العريان، أي: الذي لم يمهله الوقت ليرتدي ثيابه، فجاء عرياناً لينذر قومه من النار.
وكان أول من رد عليه عمه أبو لهب نظر إليه نظرة يتطاير منها الشرر الذي قتله وأحرقه بعد ذلك وقال له: (تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟!)، أي: أجمعتنا من أجل هذا الكذب ومن أجل هذا الهراء؟! أنت رسول الله إلينا؟! أنت نذير إلينا من عند الله جل وعلا؟! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله جل وعلا: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5]، يقتص الله جل وعلا فورياً لحبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وهنا كأن صاعقة برقت ورعدت وزلزلت أرجاء مكة، وبدأت طبول الحرب تدق بأعلى قوة على محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ ما جاء يطلب مالاً، ولا يطلب جاهاً، ولا يريد سلطاناً، ولا يريد ملكاً، وإنما جاء بخيري الدنيا والآخرة، جاء ليخرجكم من ظلمات الشرك والكفر والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان، وهكذا كل من يدعو إلى الله يصنع به ذلك.
نعم، إنها سنة قديمة حديثة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29 - 32].(116/4)
بداية المرحلة المكية وإيذاء المشركين للدعوة
وتفنن أهل مكة في إيذاء الحبيب، وسبحان الله! لم يمض على الجهر بالدعوة إلا أشهر معدودة وإذ بموسم الحج يقترب، والعرب كانوا يحجون البيت قبل الإسلام وهم على الشرك، وكانوا يقدسون البيت تقديساً عجيباً.
واجتمع المشركون في مكة وخافوا على العرب من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن كلامه يسري إلى القلوب كسريان الماء بين الشقوق، وكسريان الدماء بين العروق، فاتفقوا على كلمة حتى لا يكذب بعضهم بعضاً، واتفقوا جميعاً على قولة المتكبر المعاند الذي عرف الحق وتكبر عليه وأعرض عنه، وهي مقولة الوليد بن المغيرة، الذي فكر في الأمر وقلبه من جميع جوانبه، {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر:18 - 22]-كشر- {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:23 - 24]، إن الذي جاء به محمد سحر يفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وقبيلته وعشيرته، وانفضوا جميعاً وقد اتفقوا على أن يقولوا: إن محمداً ساحر، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
حتى أقبلت الوفود، فقام النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى لا إله إلا الله، وأبو لهب يمشي خلفه ويقول: لا تصدقوه فإنه صابئ كذاب! اتهموه بالجنون ونادوا عليه وقالوا: يا مجنون! {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4].
وازداد الأمر سوءاً، واشتد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن امرأة تتطاول على صاحب المقام العالي صلى الله عليه وسلم، وتذهب هذه المرأة التي داست على أنوثتها وتطاولت بل وفاقت المشركين شراسة ووقاحة، إنها أم جميل التي تمزق قلبها من الحسرة على ما سمعت من القرآن الذي تلي في حقها وزوجها، وأخذت الحجارة في يديها، وذهبت إلى رسول الله حول بيت الله لتلقي بالحجارة على رأسه وعلى فمه، وذهبت إليه وهو جالس مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه وقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ -لقد أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد بلغني أنه يهجوني، ووالله إني لشاعرة، ثم قالت: والله لو وجدته لرميت فاه بهذا الفهر -أي: بهذه الحجارة-، ثم أنشدت وقالت: مذمم عصينا -أي: محمد عصينا-.
ودينه قلينا.
وأمره أبينا.
وفتحت هذه المرأة الشريرة الباب للمشركين أن يتطاولوا، وأن يصبوا العذاب صباً على أشرف رأس وأطهر رأس وأعظم بدن دب على ظهر هذه الأرض.
وروى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود: (جلس أبو جهل وأصحابه من حوله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فقال أبو جهل عليه لعنة الله: من يقوم منكم إلى سلا جزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد وهو ساجد، فانبعث أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، وجاء بسلا الجزور النجس وانتظر حتى سجد الحبيب صلى الله عليه وسلم وألقاه على ظهره وعلى رأسه، وظل النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه)، أتلقى النجاسة على رأس رسول الله؟! نعم، وظل الحبيب صلى الله عليه وسلم ساجداً لا يرفع رأسه (حتى جاءت إليه ابنته فرفعت الأذى عن أبيها)، ابنة تنظر إلى أبيها على أنه أعظم الرجال، هاهي تدفع الأذى والنجاسة بيديها عن رأسه وعن ظهره الشريف، ويرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه.
وفي البخاري أيضاً: (أن عقبة ذهب مرة أخرى وخنق النبي عليه الصلاة والسلام خنقاً شديداً حتى كادت أنفاسه أن تخرج، ويأتي الصديق رضي الله عنه ويأخذ بمنكبيه ويدفعه وهو يقول له: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟!) ليس له جريمة إلا أنه يقول: لا إله إلا الله، أصبحت كلمة التوحيد جريمة في القديم وفي الحديث! {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28].
أصبح التوحيد جريمة، أصبح التوحيد تطرفاً، أصبح التوحيد إرهاباً، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:28].
بل ويزداد الأمر سوءاً -كما روى الطبري وابن إسحاق -: فيلقي عليه بعض الأنذال الأوباش تراباً على رأسه، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته والتراب على رأسه، فتقوم إليه إحدى بناته لتغسل التراب من على أشرف رأس وأطهر رأس، وهي تبكي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تبكي ولا تحزني يا ابنتي، إن الله مانع أباك إن شاء الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(116/5)
شدة الأذى والهجرة إلى الحبشة
كل هذا يفعل برسول الله، فما ظنكم بما يفعل بالمستضعفين، هذا ما يفعل برسول الله مع دفاع أبي طالب ومع مكانته في قومه، فما ظنكم بما يفعل بالمستضعفين من الموحدين؟! كلنا يعلم أن أول شهيدة في الإسلام سمية رضي الله عنها، لقد عذبها أبو جهل عذاباً شديداً، وفي النهاية طعنها بحربته في فرجها فماتت، فهي أول شهيدة في الإسلام، تطعن بحربة في فرجها؛ لأنها قالت: لا إله إلا الله! ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم بداً أمام هذه الحرب الشرسة الضروس، إلا أن يشير على أصحابه المستضعفين بالهجرة.
سيتركون مكة، ويتركون الأهل، ويتركون الديار، ويتركون الأموال، ويتركون الأوطان، ويتركون الأحباب؛ كل ذلك من أجل الدين، من أجل العقيدة، إنها أغلى ما يملك الإنسان في هذا الوجود، فهي أغلى من وطنه، وأغلى من ماله، وأغلى من أولاده، وأغلى من نفسه، هكذا ينبغي أن تكون.
والهجرة إلى أين؟ إلى أين سيذهب أصحابك يا رسول الله؟ سيذهبون إلى أرض بلال إلى الحبشة، لتغسل شلالاتها دماء ودموع المستضعفين من الموحدين؛ لتطهر شلالاتها جروح المستضعفين من أثر السياط والرماح.
ولماذا الحبشة؟ والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إلى بلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً).
ونتوقف مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يغادرون مكة في غاية الحزن والألم والأسى، وهم يرحلون عن حبيبهم وإمامهم ونبيهم، وهم يتخلون عن ديارهم وعن بيت ربهم، نسأل الله جل وعلا أن يجزيهم عنا خير الجزاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم(116/6)
أثر إسلام حمزة وعمر على الدعوة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! ويخرج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رجب من السنة الخامسة من بعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام، يخرجون إلى أرض الحبشة، ويشتد الأذى ويزيد البلاء والاضطهاد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الموحدين من المستضعفين.
ويشاء الله جل وعلا لهؤلاء المقهورين نصراً يزلزل أرجاء مكة، نعم، فلقد أسلم أسد الله وأسد رسوله حمزة رضي الله عنه، وبعد ثلاثة أيام فقط من إسلام حمزة يبرق ضوء شديد في مكة كلها، يضيء للمقهورين طريقهم -ولأول مرة- إلى بيت الله الحرام ليطوفوا باطمئنان وثقة وثبات، ولم لا وقد أسلم عمر؟! نعم أسلم عمر بعد ثلاثة أيام من إسلام أسد الله وأسد رسوله حمزة رضي الله عنهم جمعياً وأرضاهم، ولأول مرة يخرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه المستضعفين المقهورين في صفين: على رأس الصف الأول حمزة، وعلى رأس الصف الثاني الفاروق عمر، وبين يدي الصفين إمام الهدى ومصباح الدجى محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أين؟ إلى بيت الله الحرام الذي حرمهم المشركون من التمتع به والتلذذ به، والتعبد والصلاة عنده.
نصر جديد من عند الله جل وعلا.(116/7)
حصار الشعب وآثاره على المسلمين ومن معهم
بل ويزداد النصر حينما يصر بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم على منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعدما سمع وعلم أبو طالب أن المشركين قد صمموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم والتخلص منه، ويتفق المشركون جميعاً على مقاطعة كاملة وحصار اقتصادي -شنشنة قديمة حديثة- فرضوا الحصار الاقتصادي الشامل الكامل على بني هاشم وبني المطلب، وأجمعوا على أن لا يؤاكلوهم ولا يناكحوهم ولا يتاجروا معهم ولا يتزوجوا منهم، ولا يسمحوا لهم بطعام أو بشراب، حتى أكل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الجلود وورق الشجر.
واستمر الحصار على رسول الله وعلى الموحدين الأتقياء الأطهار ثلاث سنوات! نعم، وفرج الله الكرب، وأذهب الله الهم والغم.(116/8)
عام الحزن
وبعد ستة أشهر فقط من الخروج من هذا المأزق الحرج، يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بفجيعة مؤلمة، فيموت عمه أبو طالب الذي كان بلا منازع حصناً حصيناً تتحطم عليه رماح المشركين وسهامهم، والذي كان بلا منازع من أول الناس دفعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالرغم من ذلك يموت أبو طالب على دين قومه، ويتنزل فيه قول ربه جل وعلا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
وبعد شهرين أو ثلاثة من وقوع هذه الفاجعة يصاب النبي صلى الله عليه وسلم بفاجعة تفتت الكبد وتمزق القلب، أتدرون ما هي؟ إنها موت زوجته خديجة، ماتت صاحبة القلب الكبير، لا إله إلا الله رحماك رحماك يا الله! مات أبو طالب وماتت خديجة رضي الله عنها بعد شهرين أو ثلاثة، ماتت التي كانت تضم النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدرها؛ لترفع عنه الهم والغم، ولتخفف عنه البلاء، ولتضمد جراحه بأسلوبها العذب الرقيق، ماتت خديجة وعصر الألم قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سمى هذا العام العاشر الذي مات فيه أبو طالب وخديجة، سماه النبي صلى الله عليه وسلم: بعام الحزن، إي والله إنه لعام حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(116/9)
رحلته صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
وبعد موت أبي طالب كشرت قريش عن أنيابها، وضاعفت الأذى والاضطهاد على رسول الله وعلى الموحدين، وترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأرض الصماء، هذه الأرض الجامدة، وخرج يبحث عن أرض أكثر خصوبة؛ ليبذر فيها بذرة التوحيد؛ ليبذر فيها بذرة لا إله إلا الله.
ويخرج النبي عليه الصلاة والسلام يشق الأودية والجبال تحت حرارة هذه الشمس المحرقة، وعلى هذه الرمال الملتهبة المتأججة، يمشي على قدميه المتعبتين الداميتين بلا راحلة، لماذا؟ لأنه كان لا يملك ثمن الراحلة.
يتحرك الحبيب على قدميه، لماذا؟ هل يريد جاهاً، أم يريد مالاً، أم يريد سلطاناً؟ لا، بل يريد الله والدار الآخرة، يريد أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، من الشرك إلى التوحيد والإيمان.
وتوجه إلى الطائف، خرج إلى الطائف يمشي أكثر من سبعين كيلو على قدميه تحت حرارة الشمس وعلى هذه الرمال، لم يركب سيارة مكيفة، ولا طائرة خاصة، وإنما على قدميه الشريفتين بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ويتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد بقية خير في قلوب أناس خارج مكة، يبحث عن أمل، يبحث عن يد حانية تمتد لرفع راية لا إله إلا الله.
مر النبي عليه الصلاة والسلام على أشراف بني ثقيف وساداتها، ولكن القوم كانوا أشد خسة ودناءة مما فعله به المشركون في مكة المكرمة، فسبوه ونهروه وطردوه صلى الله عليه وسلم، وقام -بأبي هو وأمي- يطلب منهم طلباً أخيراً هو أقل ما يطلبه الإنسان من أخيه الإنسان، يقول لهم: (إذ فعلتم بي ما فعلتم فاكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة؛ حتى لا تزداد شماتتهم وظلمهم وعدوانهم)، ولكنهم كانوا أشد خسة ودناءة مما توقعه النبي عليه الصلاة والسلام، فسلطوا عليه الصبيان والعبيد والسفهاء، ووقفوا صفين وأخذوا يرمونه بالحجارة، ويسخرون به، ويسبونه بأقبح السباب والشتائم.
وقام النبي صلى الله عليه وسلم والألم يعصر كبده، والمرارة تمزق قلبه، قام بحالة تفتت الأكباد وتمزق القلوب: جوعان، عطشان، يتألم من ألم السير بالليل والنهار على قدميه، دعوة مطاردة، وأصحاب تتخطفهم أيدي الطغاة، لا إله إلا الله! وألجأ السفهاءُ والصبيانُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى بستان لـ عتبة وشيبة ابني ربيعة، ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بعدما جلس والدماء تنزف من قدميه الشريفتين الكريمتين المباركتين إلا أن يستعيد ذكريات شريط الأحزان، شريط الدعوة الطويل إلى الله جل وعلا، فتذكر أصحابه في الحبشة، وتذكر إخوانه الذين يجلدون ويعذبون في مكة، وتذكر خديجة، وتذكر أبا طالب، فلم يجد بداً من أن يرفع هذه الشكوى إلى من يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، رفع إلى الله هذا الدعاء -وإن كان شيخنا الألباني قد ضعف إسناده- لجأ إلى الله بهذه الدعوات الحارة وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني! أم إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ونتوقف في هذا اليوم أيها الأحباب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف، لنواصل المسير مع أعظم داعية عرفته الدنيا على طريق الدعوة الطويل في اللقاء القادم إن شاء الله جل وعلا إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزيه عنا خير الجزاء، اللهم اجز عنا محمداً خير الجزاء، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت به نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعل كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(116/10)
مع أعظم داعية [2]
جهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ هذا الدين جهاد لا نظير له، فلقد جاهد في الله حق جهاده، وصبر على الأذى، وتحمل البلاء، حتى أذن الله له بالهجرة، فهاجر وأقام أعظم دولة عرفها التاريخ، وخاض المعارك نشراً لهذا الدين، فنصره الله وأظهر دينه على الدين كله، وبعد أن أتم الله به الدين، وأكمل به الرسالة، وأقام به الحجة؛ قبضه الله العلي الأعلى، وأراحه من الدنيا ونصبها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(117/1)
رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين؛ حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار.
فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمع اللقاء الثالث عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا عن أعظم داعية عرفته الدنيا، عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد وقفنا في اللقاء الماضي وهو في الطائف تنزف قدماه دماً، ويتألم قلبه، وقد تبدد الأمل الذي ذهب إلى الطائف من أجله، وتمنى أن يجد في أهل الطائف من يمنعه ومن ينصره؛ ليبلغ دين الله ودعوة الله عز وجل.
ولكنهم فعلوا به أسوأ ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، فلقد قام إليهم وهو جائع عطشان يتألم من السير الطويل على قدميه حيث لا راحلة، ولا سيارة مكيفة ولا غير مكيفة، ذهب على قدميه إلى الطائف لا يريد جاهاً ولا مالاً، وإنما يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشرك إلى التوحيد والإيمان، ثم قام يطلب منهم أن يحيلوا بين مكة وبين خبر زيارته، فأبوا عليه ذلك، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم وحالته تفتت الأكباد، وتمزق القلوب الحية.
عاد وقد حنت عليه السحاب، وأشفقت لمنظره الجبال والأشجار، واستعدت الجبال الصم الرواسي للانتقام له صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فانطلقت على وجهي وأنا مهموم، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني وقال: يا رسول الله! إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فناداني ملك الجبال وقال: يا رسول الله! لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة شرفها الله- لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين، أي: لفعلت) أتدرون ماذا قال ينبوع الحنان؟! أتدرون ماذا قال نهر الرحمة؟ أتدرون ماذا قال الحبيب وما زالت الدماء تنزف من قدميه؟ (قال: كلا، بل إني أرجو الله جل وعلا أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والله لو كان الحبيب ممن ينتقمون لأشخاصهم ولأنفسهم لأمر ملك الجبال أن ينتقم له، فطحنت الجبال تلك الجماجم، وحطمت حجارتها تلك الرءوس الصلبة، ولسالت دماء أهل الطائف حتى يراها أهل مكة في مكة، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما خرج إلى الطائف لنفسه، وما جاء لينتقم لذاته ولا لشخصه، إنما جاء ليحمل إلى الدنيا الرحمة والإيمان والسعادة، جاء إلى الطائف وفي قلبه نور يتلألأ، جاء إلى الطائف وفي قلبه أمل يشرق.
ولعل في أصلاب هؤلاء من يتنفس الإسلام، ولا يعيش إلا بالإسلام، وهو عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعاناً ولا فحاشاً، وإنما بعث رحمة مهداة، اللهم صل وسلم وزد وبارك على ينبوع الحنان، وعلى نهر الرحمة محمد بن عبد الله، يقول: (بل إني أرجو الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد اطمأن قلبه، وثبت هذا النصر الغيبي الكبير الذي أمده الله به من فوق سبع سماوات، عاد ليستأنف رحلته الشاقة الطويلة في الدعوة إلى الله عز وجل.(117/2)
استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
أقبل موسم الحج للعام الحادي عشر من بعثته المباركة، وخرج الحبيب في ظلام الليل الدامس حيث نام المشركون بعد عناء طويل في النهار من تعذيب الموحدين من المستضعفين! ناموا في هذا الليل، وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف النوم الطويل، ولا يعرف الراحة، ولا يعرف الهدوء والاستقرار من يوم أن نزل عليه قول ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فقام ولم يقعد ولم يسترح ولم يهدأ له بال، ولم يستقر له قرار، قام في هذا الليل الدامس حتى لا يحول بينه وبين دعوته أحد من المشركين، قام ليتجول بين خيام القبائل التي أقبلت من كل مكان في أرض الجزيرة، لماذا؟ ليدعوهم إلى الله جل وعلا، ليعرض عليهم دين الله تبارك وتعالى، فمنهم من يسبه، ومنهم من ينهره، ومنهم من يؤذيه، ومنهم من يطرده، والله ما ذهب يطلب مالاً ولا جاهاً، بل لقد ذهب إليهم بنور الدنيا والآخرة، فيطردونه من بين الخيام! ينتقل الحبيب على قدميه المتعبتين من خيمة إلى خيمة، ومن قبيلة إلى أخرى، حتى وصل إلى خيمة بددت الأحزان، وجددت الآمال، وضمدت الجراح، وصل إلى خيمة كريمة مباركة جليلة من بين هذه الخيام الكثيرة المترامية الأطراف، دخل الحبيب إلى خيمة أقوام ورجال من أهل المدينة المنورة شرفها الله، وزادها الله تشريفاً وتكريماً، حيث وجدت دعوته فيها بذوراً صالحة تقية نقية، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات غيرت وجه الدنيا، وحولت مجرى التاريخ.
نعم أيها الأحباب! فلقد جلس الحبيب بين يدي ستة نفر من شباب المدينة، فعرض عليهم الإسلام، فتحركت قلوبهم لدين الله جل وعلا، فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتجدد الأمل، وتبدد الحزن في وسط هذه الصحراء المترامية بالجهالة والشرك والكفر والإلحاد، تبدد الحزن وأشرق الأمل في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال هؤلاء: (يا رسول الله! إنا سنقدم على قومنا، وسندعوهم إلى الإسلام، فإن جمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليهم منك) وعاد هؤلاء بهذا النور الجديد، وبهذا الفجر المشرق، عادوا إلى المدينة المنورة لينفذ نور الإسلام وفجر الإسلام في بيوتها وأرجائها، وأشرق فجر الإسلام على المدينة المنورة على أيدي هؤلاء الأبرار، على أيدي هؤلاء الأطهار الأخيار.(117/3)
بيعة العقبة الأولى والثانية وأثرهما على الدعوة الإسلامية
دار الزمن وأقبل موسم الحج التالي، وخرج من المدينة اثنا عشر رجلاً يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمم هذا الوفد القليل الكبير أن يجتمع برسول الله عليه الصلاة والسلام، وتمت بيعة العقبة الأولى، تلك البيعة التي حطمت الجدران السوداء التي حالت بين نور الإسلام والناس، بين الدنيا ونور الآخرة، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما تمت البيعة أن يبعث معهم رجلاً ليعلمهم دين الله جل وعلا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سفير الإسلام الأول، وداعية الإسلام العظيم، ذلكم الشاب المنعم المدلل، الذي كان بالأمس القريب يلبس الحرير، ويكثر من العطر والطيب فإذا مر في طريق من طرقات مكة قال الجميع: لقد مر في هذا الطريق مصعب بن عمير!.
إنه الشاب التقي النقي الذي استعلى على الشبهات والشهوات، وتعالى على ملذات الدنيا، ولبس الخشن من الثياب، وأكل الجلد مع رسول الله، وأكل ورق الشجر مع أستاذه ومعلمه في شعب مكة حين الحصار الاقتصادي، يختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أول داعية إلى دين الله في المدينة المنورة، ويخرج مصعب بن عمير ليتعهد شجرة الإسلام بنفسه، التي نمت وترعرعت على يديه، حتى عاد في موسم الحج المقبل ليبشر أستاذه ومعلمه بأن فجر الإسلام قد أشرق على المدينة المنورة، واجتمع عدد كبير من الأنصار في هذا الموسم مع رسول الله، وبايعوه صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية، على أن ينصروه إذا قدم إليهم وهاجر إليهم، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وتمت البيعة الكبرى، ونظر أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه إلى رسول الله وقال: (يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -أي: إن بيننا وبين اليهود حبالاً وإنا قاطعوها- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك وأظهرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! فتبسم الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال: كلا، بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أسالم من سالمتم، وأحارب من حاربتم) المحيا محياكم أيها الأنصار الأخيار، والممات مماتكم أيها الأنصار الأبرار، أنا منكم وأنتم مني.(117/4)
الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية العظمى
تمت البيعة الثانية، واستطاع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته الصابرة الحكيمة أن يؤسس للإسلام -ولأول مرة- وطناً وسط صحراء تموج بالكفر والشرك والجهالة، وبدأت طلائع الهجرة المباركة للمقهورين والمعذبين في مكة، وبدءوا يصلون إلى المدينة المنورة زادها الله تشريفاً وتكريماً.
وهنا أحس المشركون -لأول مرة- بالخطر العظيم الذي صار يهددهم بصورة جلية واضحة، وعقد البرلمان الشركي اجتماعاً طارئاً، وهو أخطر اجتماع في التاريخ، وأصدروا قراراً بالإجماع للقضاء على حامل لواء دعوة التوحيد، وللتخلص من محمد بن عبد الله؛ لقطع تيار نور التوحيد عن الوجود بأسره، ولكن: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
وهل تستطيع الطحالب ولو اجتمعت أن توقف سير البواخر العملاقة؟! وهل تستطيع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله جل وعلا؟! وهل يضر السماء نبح الكلاب؟! ويخرج الحبيب من بين أيديهم وأمام أعينهم: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9]، {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]، يخرج الحبيب وصاحبه تحت رعاية الله وتحت عين الله جل وعلا، ومن كان الله معه فمن ضده؟! ومن عليه؟! ووصل الحبيب وأصحابه إلى المدينة المنورة، إلى وطن الإسلام الجديد، واستقبلته المدينة استقبالاً بينت حقيقته تلك الدموع التي سالت على وجوه الرجال والنساء والأطفال، إنها دموع الفرح بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(117/5)
بناء الدولة الإسلامية
في المدينة بدأت مرحلة جديدة للدعوة إلى الله عز وجل، حقاً إنها مرحلة جديدة، فلقد أصبح للإسلام دولة حقيقية من حاكم وقائد وقوة وأرض ووطن، أصبح للإسلام دولة، بل وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل البعوث والسرايا للقيام بحركات عسكرية استطلاعية؛ ليؤذن وليعلم المشركين في مكة واليهود في المدينة أنه أصبح للإسلام قوة تحميه وتدافع عنه، وستقلم أظفار من يتطاول على القضاء عليه بعد اليوم، وعندئذٍ نزل قول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
ما نزل الأمر بالقتال إلا بعدما استكملت القوة، وبعد أن أصبح للإسلام دولة، وبعد أن أصبح للإسلام رجال أطهار أبرار، يقفون في وجه كل من أراد أن ينال منه بعد اليوم؛ لأنه لابد للحق من قوة، قوة بالبلاغ والبيان، وقوة بالسيف والجهاد والسنان، ويوم أن تخلى المسلمون عن القوة، وعن قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا} [الأنفال:60] أذلهم الله لمن كتب الله عليهم الذلة من أبناء القردة والخنازير، وما أحداث الهند بعد أحداث البوسنة والهرسك منا ببعيد، فلقد قام الوثنيون الهندوس بعدما رأوا ما فعل الصرب بإخواننا في البوسنة والهرسك ولم يتحرك منا أحد، فقالوا: ولماذا نقعد نحن؟! المسلمون لا يتحرك منهم أحد، لقد مات المسلمون وكفنوا منذ زمن بعيد! فقام الهندوس الكفرة أهل الوثنية والإلحاد بتحطيم بيت من بيوت الله، حطموا الدين متمثلاً في بيوت الله جل وعلا، للقضاء على المسلمين والمسلمات، فما الذي فعله المسلمون؟! لقد وصلت البلاهة والسفاهة ببعض المسلمين إلى موت الولاء والبراء في قلوبهم، أين الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين؟! أين البراء من الشرك والمشركين؟! ما زلنا إلى يومنا هذا نأتي بالهندوس والسيخ الكفرة إلى بلاد المسلمين ليأكلوا من خيراتنا، ويأكلوا من أرزاقنا، ويقبضوا الأجور من أموال المسلمين، وليرسلوا بها إلى إخوانهم الكفرة والشياطين؛ ليقتلوا بها إخواننا وأخواتنا.
والله! إنها لأكبر جريمة ترتكب في حق الإسلام، أن يكون بعد اليوم في بلاد المسلمين هندي هندوسي كافر أو سيخي كافر، فيجب إخراجهم حتى لو تعطلت الأعمال، ووقفت الشركات، لو كان في قلوبنا ذرة إيمان وذرة ولاء وبراء لرحّلناهم ذليلين شريدين مطرودين، ولا نعطيهم ريالاً واحداً، ولا دولاراً واحداً من أرزاق وأموال المسلمين التي هي أمانة بين أيدينا، وسنسأل عنها بين يدي رب العالمين جل وعلا، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين!(117/6)
معركة بدر وأثرها العظيم على الإسلام والمسلمين
يشاء الله جل وعلا أن يلتقي الفريقان لأول مرة وجهاً لوجه، فريق الإيمان وفريق الشرك، في غزوة بدر الكبرى، في ميدان البطولة، في ميدان الرجولة، في ميدان الشرف، في ساحة الوغى، يوم أن صمتت وخرست الألسنة الطويلة، وخطبت وتكلمت السيوف والرماح على منابر الرقاب والرءوس.
التقى الفريقان وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم يرفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، يناشد الله جل وعلا -كما ورد في صحيح مسلم - يقول: (اللهم هذه قريش أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني).
وقام الصديق رضي الله عنه ليضع الرداء الذي سقط من على كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: والذي نفسي بيده لينجزن الله لك ما وعدك يا رسول الله.
إنه اليقين، إنها الثقة في الله جل وعلا، وأنزل الله جنده من السماء، وأنزل الله نصره على عبده، وأيد الله المؤمنين الصادقين، وفر المشركون من أرض بدر، وتبعثروا في الشعاب والوديان تبعثر الفئران، وعادوا إلى مكة بمنتهى الخزي والذلة والندامة، وقد أذهلتهم المفاجأة الإيمانية الكبرى التي غيرت وجه الدنيا، وحولت مجرى التاريخ.
انتصر المسلمون في بدر، وهم الحفاة العراة الجياع! انتصر بلال الحبشي وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، انتصر هؤلاء المعذبون، انتصر هؤلاء المقهورون.
انتصروا بفضل الله جل وعلا، وقتل السادة والأشراف، قتل أبو جهل وغيره من الصناديد، الذين طالما ساموا هؤلاء المقهورين سوء العذاب، ونصر الله عبده، وأعز الله جنده، وتم النصر الكبير، الذي علم الأقزام في أنحاء الجزيرة العربية أن للإسلام بعد اليوم قوة ستحميه، وستدافع عنه، وستقلم أظفار كل من سولت له نفسه أن ينال بعد اليوم من مسلم فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: أيها الأحباب! لابد للإسلام من قوة، وبعد هذه الغزوة الكبرى ظهرت بوادر هذه القوة في صلح الحديبية، الذي كان هو الآخر نصراً عظيماً لمن سبر غور بنوده وشروطه وأركانه، فلقد تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الفتح الكبير وهذا الصلح العظيم لدعوة الملوك والأمراء، وقام بإرسال الكتب إلى أنحاء الدنيا لدعوة الناس إلى الله جل وعلا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(117/7)
الآثار العظيمة لصلح الحديبية(117/8)
التفرغ للدعوة إلى الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحباب! بدأت الدعوة مرحلة جديدة عظيمة أخرى بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم الكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء في جميع أنحاء الأرض، فلقد ثبت في الصحيحين: (أنه أرسل رسالة إلى هرقل عظيم الروم، وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، وختم النبي رسالته الكريمة بقول الله جل وعلا: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]).
وبعث برسالة أخرى إلى كسرى عظيم فارس، والحديث رواه البخاري في كتاب المغازي فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى.
أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الله، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم المجوس، فلما قرئ على كسرى -أهلكه الله- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله قال: اللهم مزق ملكه) فمزق الله ملكه.
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية.
وأرسل إلى صاحب اليمامة.
وأرسل إلى صاحب دمشق.
وأرسل إلى صاحب البحرين.
وأرسل كتبه إلى الملوك والأمراء في شتى أنحاء الدنيا، ليدعوهم إلى الله جل وعلا، وكان رسول الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل الكتاب، ويسير في هذه الصحراء شهوراً بطولها؛ ليبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما اليوم فقد تحول العالم كله إلى قرية صغيرة بعد هذا التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات، فماذا صنعنا؟! وماذا قدمنا لدين الله جل وعلا؟! وما الذي فعلناه لدعوة الناس إلى الله، ولتوضيح حقيقة الإسلام بين أبناء الكفار؟ بل لقد وجد الكفار بيننا فماذا قدمنا؟! وما الذي فعلناه لنقيم عليهم حجة الله جل وعلا في الأرض؟! والله إنه لعار علينا أن يكون هذا حالنا، لا نتحرك لدين الله، ولا للدعوة إلى الله عز وجل.(117/9)
فتح مكة
ظهرت ثمرة هذه الدعوة الكريمة المباركة في عشرة آلاف صحابي، رباهم رسول الله بيده، خرجوا معه، وزحف هذا الجيش الكبير الجرار الذي لا عهد لأرض الجزيرة به من قبل، خرجوا جميعاً يحيطون برسول الله صلى الله عليه وسلم، تعلوا رءوسهم راية التوحيد والإيمان، قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، ودينهم الإسلام، زحف هذا الجيش إلى بلد الله الحرام، إلى مكة المكرمة؛ ليطهروها من دنس الشرك والكفر، ليحطموا الأصنام التي رفعت رءوسها على بيت الله الحرام، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج بالأمس القريب طريداً جريحاً مضروباً؛ يدخل إلى مكة فاتحاً في وسط هذه الجموع الموحدة، وها هو يحني رأسه تواضعاً وانكساراً لله جل وعلا! إنه فضل الله، إنه نصر الله، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحطم الأصنام التي حول الكعبة وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً).
ويحين وقت الصلاة، فيأمر الحبيب صلى الله عليه وسلم بلالاً رضي الله عنه أن يرتقي على ظهر الكعبة! ذلكم العبد الحبشي الأسود يرتقي على ظهر الكعبة؛ ليرفع كلمة التوحيد خفاقة عالية في أنحاء مكة كلها، يصعد بلال ليرفع أذان التوحيد والإيمان، ليرفع صوته بقوله: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ويعلن وحدانية الله جل وعلا بعدما نكست الأصنام على رءوسها: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، ويثني برسالة محمد بن عبد الله حيث قال: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، وتنصت مكة بأسرها لهذا النداء الحلو العذب الجميل الذي تسمعه لأول مرة! وتفرح الحجارة! وتبكي الكعبة فرحاً بكلمة التوحيد! التي ارتفعت لأول مرة بعد هذه السنوات الطوال.(117/10)
حجة الوداع
بعد فتح مكة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويخرج بعد ذلك إلى حجة الوداع؛ ليلقي النظرة الأخيرة على أحبابه على أتباعه على أمته، فلقد أدى الأمانة، ولقد بلغ الرسالة، ولقد قام بما أمره ربه خير قيام، أمره ربه بالإنذار فأنذر، وأمره ربه بالبلاغ فبلغ، وأمره ربه بالبيان فبين، ووقف ليأخذ هذا العهد وهذا الميثاق الكبير ويسأل الناس جميعاً ويقول: (إنكم ستسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا جميعاً: نقول: إنك قد أديت وبلغت ونصحت، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته إلى السماء ويشير بها إلى الناس ويرفعها ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات)، الحديث رواه مسلم.(117/11)
توديع أعظم داعية للدنيا بعد تمام الدين
بعد حجة الوداع رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ويأتي يوم الإثنين لتبكي المدينة مرة أخرى لا من الفرح ولكن من الحزن، فلقد نام الحبيب صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وخرج في صلاة الفجر والمسلمون يصلون، فكشف ستر غرفة عائشة، ونظر إلى الصحابة ليلقي نظرة الوداع على أحبابه الأطهار الأبرار الأخيار، على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى بلال، وصهيب، وعمار، على هؤلاء الأبرار، وكاد المسلمون أن يفتنوا في الصلاة، فأشار إليهم أن اثبتوا.
لقد أديت الأمانة -يا رسول الله- ولقد بلغت الرسالة، وقد حان الأجل، واقترب موعد لقائك بربك جل جلاله، ويدخل الحبيب بيت عائشة رضي الله عنها وملك الموت في انتظاره صلى الله عليه وسلم، ويزداد الكرب عليه، وتزداد السكرات والكربات، وتدخل زهرته فاطمة الزهراء، فترى الكرب يشتد على أبيها وحبيبها، فتصرخ وتقول: (وا كرب أبتاه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة)، والحديث رواه البخاري.
ويشتد الألم على الحبيب؛ فيأمر بركوة فيها ماء، ويدخل يده في هذه الركوة، ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور، وهو يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات)، وفي رواية أحمد: (اللهم أعني على سكرات الموت)، فتقول عائشة: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، أسندته إلى صدري فرأيته رفع أصبعه السبابة وسمعته يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، تقول عائشة: فعلمت أنه يخير، وأنه لا يختارنا).
ويقبل ملك الموت على الحبيب صلى الله عليه وسلم لينادي على روح المصطفى: أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، وتسقط يد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتخرج عائشة وهي تبكي وتقول: مات رسول الله، مات خير خلق الله، مات إمام النبيين، مات سيد المرسلين، مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويقابلها عمر فيصرخ ويشهر سيفه في الناس ويقول: من قال: إن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا، رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي وأرجل أناس من المنافقين الذين زعموا أنه قد مات.
ويأتي الصديق رضي الله عنه ليدخل على حبيبه، ليدخل على إمام الهدى ومصباح الدجى، ليدخل عليه وقد مات صلى الله عليه وسلم، لن يقوم لك رسولك يا أبا بكر، ولن يرحب بك حبيبك يا أبا بكر، فلقد مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويدخل عليه في غرفة عائشة، ويكشف البردة عن وجهه الكريم الأنور، ويخر على ركبتيه، ويقبل الحبيب بين عينيه، وفي الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني في مختصر الشمائل أنه نادي على الحبيب قائلاً: (وانبياه، واصفياه، واخليلاه؛ وانبياه، واصفياه، واخليلاه)، وقال كما في رواية البخاري: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها يا رسول الله! ولا ألم عليك بعد اليوم).
وخرج الصديق ليعلن هذه الحقيقة الكبرى، لتصل إلى أذن كل سامع، وإلى عقل كل مفكر، فإنه لا يبقى إلا الله الحي الذي لا يموت، خرج وقال: (على رسلك يا عمر! أنصتوا أيها الناس! وتلتف الجموع الملتهبة الباكية حول أبي بكر ليعلن هذه الحقيقة الكبرى: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم وكما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم احشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام، وتمكينه لدين التوحيد، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، اللهم وفقهم جميعاً للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اقبلنا، وتقبل منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
أحبتي في الله! ما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد، فإن الله أمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(117/12)
تذكرة الموت
الموت حقيقة لابد أن يذوقها كل إنسان، وله سكرات وزفرات، وفي لحظة الموت يعاين المرء ما هو قادم عليه من رحمة أو عذاب، ويرى ما أعد له من جنة أو نار، فعلى المسلم أن يستعد له بالأعمال الصالحة، وأن يتزود من التقوى، وأن يسارع بالتوبة إلى الله من كل ذنب.(118/1)
حقيقة الحياة الدنيا
الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة؛ فنقلهم الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنسوان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه، ويقول: أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر لمن الملك اليوم؟ ثم يجيب على ذاته سبحانه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، ولبى داعي ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلب، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان كما تنشر الشمس في سائر الأكوان، رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، وزكاه ربه على جميع الخلق، ومع ذلك خاطبه ربه بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية جديدة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، تبدأ هذه السلسلة بالموت وتنتهي بالجنة، جعلني الله وإياكم من أهلها.
وقد تحتاج منا هذه السلسلة إلى عام ونصف أو عامين، إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، أسأل الله عز وجل أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
تزداد حاجتنا جميعاً بلا استثناء من طلاب علم ورجال ونساء، إلى هذه السلسلة العلمية الجديدة؛ لأننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وأعرض فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، وتمضي الحياة مسرعة ومعظم أهلها في غفلة مريرة عما هو آتٍ.(118/2)
حقارة الدنيا وقصر عمرها
أيها الإخوة والأخوات! أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، أرحام تدفع، وأرض تبلع، مثلهم كمثلِ أمواج بحر متدفقة متلاحقة، إذا انكسرت على الشط موجة تبعتها موجة أخرى، أو كمثل نهر متدفق تراه دائماً يجرى مع أن الماء الذي تراه اللحظة غير الماء الذي رأيته قبل لحظة، وحتماً سيأتي اليوم الذي ينتهي فيه الوجود الإنساني كله، فتنطفئ نجوم الليل، وتتوقف موجات البحر، بل وتجف مياه العيون والآبار، ويقوم الجميع ليقفوا بين يدي العزيز الغفار؛ كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
أيها الأحبة الكرام! أستهل هذه السلسلة اليوم بالحديث عن الموت، فهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الطويلة.
أيها الأخيار! لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التي من أجلها خلقنا فقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وبين لنا حقيقة هذه الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وأكد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في حديثه الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال الحبيب: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
فالدنيا حقيرة عند الله، أعطاها للكافر والمؤمن على السواء، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ لذا كان المصطفى يوصي أصحابه بعدم الركون والطمأنينة إلى هذه الدار، كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري أنه قال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
ورحم الله من قال: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا(118/3)
الدنيا مزرعة الآخرة
الفطناء العقلاء الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في الآخرة تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا وهو الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم الوارد للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل وعلا، فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نقنط أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو كان في الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل الدنيا مزرعة للآخرة.
أيها الأخيار! تدبروا معي قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها، الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله).
فالدنيا مزرعة الآخرة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة).
فلابد من هذا التأصيل، ولابد من هذا الفهم الدقيق بهذا الوعي العميق لحقيقة الدنيا؛ لننطلق من هذه الدار إلى دار تجمع سلامة الأبدان والأديان إلى دار القرار، فلابد قبل أن تعبر إلى دار القرار من المرور بهذه الدار.
فالدنيا دار ممر والآخرة هي دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء وليست دار بقاء، فلابد من وعي هذه الحقيقة لنستغل وجودنا في هذه الدار، ولنزرع هنا ونجني هنالك عند ربنا عظيم الثمار، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.
إذا علمت ذلك أيها الحبيب الكريم! فاعلم هذه الحقائق، وكن على يقين جازم بأن الحياة في هذه الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، فالكل يموت، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة في القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للملك الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي شرب كأسها الأنبياء والمرسلون، والعصاة والطائعون، إنها الحقيقة الكبيرة التي تؤكد لنا كل لحظة من لحظات الزمن قول الله جل وعلا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].(118/4)
سكرات الموت
أيها الحبيب الكريم! تذكر هذه الحقيقة ولا تتغافل عنها؛ إذ إن النبي قد أمرنا أن نكثر من ذكرها، كما في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا ذكر هادم اللذات الموت).
إنها الحقيقة التي سماها الله في قرآنه بالحق فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21].
لا إله إلا الله! إن للموت سكرات، هل علمت أن هذه الكلمات قالها حبيب رب الأرض والسموات وهو يحتضر على فراش الموت، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقتني، وكان بين يديه ركوة بها ماء، فكان يمد يده في داخل الماء ويمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات).
هكذا يقول حبيب رب الأرض والسماوات، قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، فالمصطفى يذوق سكرة الموت ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات).
وفي رواية الترمذي كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت غمرات، وإن للموت سكرات!) وفي رواية: (كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت).(118/5)
عرض الأديان على الإنسان عند السكرات
قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، وما أدراك ما السكرات؟ وما أدراك ما الكربات؟ والله! إن الكرب والهم يزداد في لحظات السكرات.
إذا نمت على فراش الموت يا ابن آدم! ورأيت في غرفتك التي أنت فيها دون أن يرى أحد غيرك، رأيت شيطاناً قد جلس عند رأسك يريد أن يضلك عن كلمة (لا إله إلا الله) ويقول لك: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان! أو يقول لك: مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان! واستدل بعضُ أهلِ العلم على ذلك بشطر حديث صحيح رواه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يحضر كل شيء لابن آدم).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/ 255) عن مسألة عرض الأديان قبل الموت على العبد في فراش الموت، فقال شيخ الإسلام: من الناس من تعرض عليه الأديان، ومنهم من لا يعرض عليه شيء قبل موته، ثم قال: ولكنها من الفتن التي أمرنا النبي أن نستعيذ منها، كما في قوله: (اللهم أنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال).
فمن فتن الموت أن تأتي الشياطينُ لتصدك عن (لا إله إلا الله) ولتصدك عن كلمة التوحيد؛ فهذه من الكربات، وهذه من أشد السكرات على ابن آدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهل علمت أخي في الله! أن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، حينما نام على فراش الموت ذهبت إليه الشياطين لتنادي عليه بهذه الكلمات؟ قال ولده: عبد الله: حضرت الوفاة أبي فنظرت إليه، فإذا هو يغمى عليه ثم يفيق، ثم يشير بيده ويقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق الإمام في لحظة بين سكرات الموت وكرباته قال له ولده عبد الله: يا أبت! تقول: لا بعد، لا بعد! فما هذا؟ فقال لولده: يا بني! هناك شيطان جالس عند رأسي عاض على أنامله يقول لي: يا أحمد! لو فتني اليوم ما أدركتك بعد اليوم، وأنا أقول له: لا بعد، لا بعد! حتى أموت على (لا إله إلا الله).(118/6)
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت
إن كنت من المؤمنين الصادقين الموحدين المخلصين واجتالتك الشياطين ثبتك رب العالمين، وأنزل إليك ملائكة التثبيت، كما في حديث البراء بن عازب الصحيح، ومحل الشاهد فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن المؤمن إذا نام على فراش الموت جاءته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون من المؤمن مد البصر، حتى يأتي ملك الموت، ثم يجلس ملك الموت عند رأسه، وينادي على روحه الطيبة وهو يقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راضٍ عنك غير غضبان، فتخرج روح المؤمن سهلة، تسيل كما يسيل الماء من في السقاء، فلا تدعها الملائكة في يد ملك الموت طرفة عين، ثم ترقى بها إلى الله جل وعلا).
هكذا أيها الأحبة! {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فتنزل ملائكة التثبيت على الموحدين لرب الأرض والسماء جل وعلا بهذه البشارة التي سجلها ربُنا في قرآنه في قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
قال ابن عباس: (القول الثابت هو لا إله إلا الله).(118/7)
سكرة الموت حق
قال عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
وقوله عز وجل: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تخاف، ذلك ما كنت منه تهرب، فكيف تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير والأمير والكبير! ويا أيها الصغير والفقير والحقير! كلكم كما قال الشاعر: كل باكٍ فسيُبَكى كل ناعٍ فسيُنعى كل مدخور سيفنى كل مذكور سيُنسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى وقال الشاعر الآخر: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم! تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب؟! أما أنذرك الشيب؟! وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت؟! أما أسمعك الصوت؟! أما تخشى من الفوت؟! فتحتاط وتهتم فكم تسدر فى السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم! كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح! وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم(118/8)
حال الإنسان عند النزع
وصدق الله جلا وعلا إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
(كلا إذا بلغت التراقي)، أي: إذا بلغت الروح الترقوة، (وقيل من راقٍ)، أي: من يرقى بروحه: ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: أي: من يبذل له الرقية؟ ومن يبذل له الطب والعلاج؟ فهو صاحبُ الجاه صاحبُ الأموال صاحب السلطان صاحب الوزارة، وقد التف الأطباء حوله، بل نقل في سيارة خاصة إلى مستشفىً كبير، فالتف الأطباء من حوله: هذا متخصص في جراحة القلب، وهذا متخصص في جراحة المخ والأعصاب، وذاك في تخصص كذا، وذاك في تخصص كذا، وكلهم يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، قال عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
التف الأطباء من حوله كل يبذل له الرقية ويقدم له العلاج، ولكن حار الأطباء حوله وداروا؛ فما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهرير قارس، فينظر مرة في لحظة السكرة والكربة فيرى الغرفة التي هو فيها قد صارت فضاءً موحشاً، أو تضيق عليه فتصير كخرم إبرة، أو ينظر مرة فيرى أهله يبتعدون عنه ومرة يقتربون، لقد اختلطت عليه الأمور والأوراق، فتراه يسأل: من هذا الذي عند رأسي؟! إنه يعاينه ويراه، إنه ملك الموت! ومَنْ هؤلاء الذين يتنزلون من السماء؟ إنه يراهم بعينيه! إنهم الملائكة! فيا ترى أهي ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! ويا ترى! ماذا سيقول لي ملك الموت؟ وهل سيقول لي: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، أم سيقول: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط الله وعذابه؟! فينظر في لحظة صحوة بين السكرات والكربات فإذا وعى من حوله من أهله وأحبابه، نظر إليهم نظرة استعطاف ونظرة رجاء وأمل، وقال بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: يا أولادي! يا أحبابي! يا إخواني! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي؛ فأنا أبوكم، وأنا الذي بنيت لكم القصور، وأنا الذي عمرت لكم الدور، وأنا الذي نميت لكم التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! افدوني بأموالي، افدوني بأعمالكم: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].(118/9)
لا يرد الموت شيء
نام هارون الرشيد على فراش الموت، فنظر إلى جاهه وماله ثم قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، وقال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى، ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.
قال عز وجل: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
أين الجاه؟! وأين السلطان؟! وأين المال؟! وأين الأراضي؟ لقد ذهب كل شيء! وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
سبحان ذي العزة والجبروت! سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الذي لا يموت! سبحانك يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة! ونقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب! قال عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] أي: من يرقى بروحه، أو من يبذل له الرقية والطب والعلاج.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30].
إنه يومُ المرجع، إنه يوم العودة، انتهى أجلك وانتهت دنياك، وحتماً ستُعرض على مولاك.(118/10)
موعظة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك
سأل سليمان بن عبد الملك عالماً من علماء السلف يقال له: أبو حازم، قال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟! وبعض الناس الآن ربما يتضجر إن ذُكِّر بالموت، وربما يقول لمذكره: ذكرنا بموضوع آخر، وهل ما وجدت إلا الموت لتذكرنا به؟! فقال سليمان بن عبد الملك لـ أبى حازم: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب! في زيارة لي إلى أمريكا نبهني أحد الإخوة إلى رجل منَّ الله عليه بالأموال، ومع ذلك لا يصلي ولا يعرف حقاً للكبير المتعال، فذهبت إليه لأذكره بالله جل وعلا، وهو مسلم عربي وليس أمريكياً، فقال لي: يا أخي! أنا ما أتيت إلى هذه البلاد إلا من أجل الدولار، وأعدك إن عدتُ إلى بلدي ألا أفارق المسجد أبداً! قلت: سبحان الله! ومن يضمن لك يا مسكين أن ترجع إلى بلدك، ومن يضمن لك أن يمر عليك يومُ بكامله، والله! لا تضمن أن تتنفس بعد هذه اللحظات.
فدع عنك ما قد فات من زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب! لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب دنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان بن عبد الملك: يا أبا حازم! كيف حالنا عند الله تعالى؟! قال: اعرض نفسك على كتاب الله.
قال سليمان: أين أجده؟ قال: في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14].
قال سليمان بن عبد الملك: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟! قال أبو حازم: إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين.
فقال سليمان بن عبد الملك: فكيف عرضنا على الله غداً؟ فقال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب في سفر يقدم على أهله، فيستقبله الأهل بفرح، والمسيء كالعبد الآبق يقدم على مولاه.
وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: يا رسول الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال: لا يا عائشة! ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه، كره لقاء الله وكره الله لقاءه).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت، وسمعها كل شيء إلا الإنسان، إن كانت صالحة: قدموني قدموني! وإذا كانت غير صالحة تقول: يا ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ ولو سمعها الإنسان لصعق)، إي والله! لو سمعت جنازة تقول: قدموني قدموني، وسمعت جنازة أخرى لحبيب لك تقول: يا ويلها! إلى أين تذهبون بها؟ لصعقت.
والحديث عن النفس حديث طويل ومكروه، فإنما هي آية ثابتة، وإنما هي أحاديث ثابتة نذكر بها كلما أردنا أن نذكر الآخرين -وأنفسنا قبل الآخرين- بالموت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت لنستعد للقاء الله جل وعلا.
أيها اللاهي! أيها الشاب! أيها الكبير! أيها الصغير! أيها الوزير! أيها الأمير! أيها الصغير! أيها الحقير، ذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيلُ وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(118/11)
وجوب التوبة إلى الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هكذا تبدأ رحلتنا في رحاب الدار الآخرة بالموت بعدما بينا بإيجار حقيقة الدنيا، وتنتهي هذه المرحلة الأولى بالوصول إلى القبر، وهأنذا أقف بكم أمام القبر وعند القبر؛ لنرى في لقائنا المقبل إن شاء الله جل وعلا حقيقة القبر، وما معنى البرزخ؟ وما معنى النعيم؟ وما معنى الجحيم؟ ولماذا لم يذكر الله عذاب القبر صراحة في القرآن؟ وهل ثبتت فيه أحاديث صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما هي حقيقة القبر؟ وما هي حقيقة البعث بعد ذلك؟ لنواصل الرحلة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.
وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي في هذه اللحظات بالتوبة إلى رب الأرض والسموات.
يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! يا من ضيعت الصلاة في بيوت الله! يا من تركتِ الحجاب الشرعي! يا من شغلك التلفاز أو الشيطان عن الله عز وجل! يا من أعرضت عن مجلس العلم وأماكن الخير والطاعة والعبادة! يا من قضيت عمرك على المقاهي وتركت فرض الله عز وجل! تب إلى الله، والله! إنك ستموت والله! إنك ستموت، وغداً يا مسكين! ستتمنى الرجعة، كما قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
فإن كان كافراً سيتمنى الرجعة، وإن كان مسلماً عاصياً سيتمنى الرجعة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي} [المؤمنون:99 - 100] سبحان ربي! هو غير متأكد إن كان سيعمل صالحاً أو لن يعمل صالحاً، مع أنه يتمنى على الله أن يعود! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيأتيه الجواب كالصفعة على خديه: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] أي: كلمة حقيرة، كلمة تافهة لا وزن لها عند الله: {هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فتب إلى الله، وأذكر نفسي وإياك ألا تيأس ولا تقنط مهما بلغت ذنوبك، فعد إلى الملك مهما كثرت معاصيك، واطرق باب الرحمن جل وعلا، والله! لن يغلق الرحمن الباب في وجهك، وإن ارتكبت الزنا، وإن شربت الخمر، وإن قتلت، فعد إلى الله، فإن الله يقبل توبة المشرك إن خلع رداء الكفر على عتبة الإسلام، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فعاهد ربك الآن على التوبة، وعاهدي ربك على التوبة.
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
وأذكرك بهذا الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، فاسجد لربك شكراً يا من خلقت موحداً! وبعث الله إليك محمداً، فإن هذا من فضل الله علينا.
أيها الحبيب! اجتهد في الدنيا، وعمر الكون، وإن استطعت أن تربح مليوناً فافعل، بشرطين: أن تربح من الحلال، وأن تؤدي حق الكبير المتعال، فاجتهد في الدنيا، وازرع للآخرة؛ فأنا لا أريد أن أقنطك من هذه الحياة أبداً، وإنما أريد أن أذكر نفسي وإياك بأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا ينبغي أن تنشغل بالدار الفانية عن الدار الباقية، فغداً سترحل عن هذه الحياة، ولن ينفعك إلا ما قدمت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل) وينادى عليك هنالك في القبر بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفى التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم ارزقنا حسن الخاتمة يا أرحم الراحمين! اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ألا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته.
اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وسددته يا رب العالمين! ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده دوماً تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(118/12)
كيف نستقبل رمضان؟
رمضان شهر الخير واليمن والبركات، وفيه تتنزل الرحمات، وتغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنات، فعلى المرء أن يتأهب ويستعد لاستقبال شهر رمضان، وعليه أن يستغل شهر رمضان في الطاعات والأعمال الصالحة، فإنه من الأوقات الفاضلة التي ينبغي ألا يفرط فيها.(119/1)
رمضان شهر التوبة والإنابة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! تتزاحم علي الأفكار في هذه اللحظات، ولكن أرى أنه من الجفاء ألا نحيي اليوم ضيفاً كريماً قد نزل بنا، إنه ضيف عزيز كريم مبارك، قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ورحماته المباركة الندية، إنه شهر القرآن إنه شهر القيام والصيام إنه شهر الجود والبر والإحسان والعتق من النيران إنه شهر رمضان.
لقد أهل علينا هذا الشهر، وأرى أنه من الجفاء ألا يكون حديثنا هذا عن شهر رمضان، لذا فاسمحوا لي أيها الأحبة الكرام! أن يكون لقاؤنا هذا بعنوان: (كيف نستقبل رمضان؟) وسوف أركز الحديث حول هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: تب إلى الله جل وعلا أيها الحبيب! من جميع المعاصي والذنوب.
أيها المسلم! أيتها المسلمة! إن أهل الباطل يخططون لكم من قبل رمضان؛ ليشغلوا أوقاتكم بالمسلسلات الفاجرة، والأفلام الداعرة، والفوازير الخليعة الماجنة، فاحذر أيها الحبيب! واحذري أيتها المسلمة! من أهل الباطل، وتب إلى الله من هذه اللحظة وأنت جالس في موضعك، وارفع أكف الضراعة إلى الله بقلب خاشع منيب أواب، واسأله أن يغفر لك جل وعلا ما مضى من الذنوب والآثام، واعلم بأن الله عز وجل سيفرح بتوبتك، وسيفرح بعودتك، وهو الغني عن العالمين الذي لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية.
فيا صاحب الخطايا! أين الدموع الجارية؟! يا أسير المعاصي! ألا تبكي على الذنوب الماضية؟! يا متجرئاً على الله! ألا تخشى من هول القيامة؟! يا أسير المعاصي! ابك على ذنبك الآن، يا أسير الذنوب! ابك على خطيئتك الآن، وتب إلى الرحيم الرحمن جل وعلا، فورب الكعبة ما من يوم يمر علينا إلا ويتنزل الملك جل جلاله إلى السماء الدنيا، تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يتنزل جل وعلا كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا مضى ثلث الليل الأول، ثم يقول جل وعلا: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، حتى يضيء الفجر) فالله ينادي عليك كل ليلة أيها الحبيب! والله ينادي عليك أيتها المسلمة! ويقول جل وعلا: (من ذا الذي يدعوني فأستجيب له) فهل يجدك الله وقد وضعت أنفك وجبينك في التراب ذلاً لخالقك؟! أم سيراك الله أمام المسلسلات؟! أم سيراك الله أمام الفوازير؟! أم سيراك الله أمام الأفلام؟!! يا عبد الله! والله! إن العمر قصير، وإن الوقت قليل، وإن أقرب غائب تنتظره هو الموت، فكم ودعت من أحبابك وإخوانك في الأيام الماضية إلى القبور؟! ذهب الأحباب وذهب الأخلاء، وأنت قدر الله لك أن تعيش إلى رمضان، ولا تملك ولا تضمن أن تعيش إلى رمضان المقبل! فهيا أيها الحبيب! تب إلى الله، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) أي: حتى يأذن الله جل وعلا لمراحل الساعة الكبرى فتبدأ، ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وإذا طلعت الشمس من مغربها وقعت العلامات الكبرى للساعة وللقيامة يا عباد الله! أيها الحبيب! هل تعلم أنك إن تبت إلى الله فرح الله بتوبتك؟! قال جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها الطعام والشراب، فأيس من راحلته، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، وبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عند رأسه، فقال: اللهم لك الحمد، أنت عبدي، وأنا ربك! يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: أخطأ من شدة الفرح) فالله يفرح بتوبتك وعودتك أعظم وأجل من فرحة هذا العبد بعودة راحلته إليه مرة أخرى.
فيا أيها الحبيب! من منا لم يذنب؟! ومن منا لم يعص الله؟! فكل بشر على ظهر هذه الأرض خطاء، ولكن ربك جل وعلا هو الغفور الرحيم، فهيا من هذه اللحظة تب إلى الله، وعد وارجع إلى الله جل وعلا.
واسمع إلى ربك وهو ينادي عليك في الحديث القدسي الجليل الذي رواه مسلم والترمذي بسند حسن صحيح واللفظ للترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
هذه هي اللمحة الأولى والعنصر الأول الذي أردت أن أذكر نفسي وأحبابي به، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من التائبين.
ولا تظن أيها الحبيب! أن التوبة لأهل المعاصي فحسب، كلا، بل لقد أمر الله أهل الإيمان بالتوبة، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].(119/2)
تنزل الرحمات في رمضان
ثانياً: أيها الحبيب! إياك أن تحرم نفسك في رمضان من رحمة الرحيم الرحمن، فإن الخاسر ورب الكعبة! هو من مر عليه رمضان ولم يفز فيه برحمة الرحيم الرحمن، ففي الحديث الذي رواه الطبراني -ورواته ثقات- من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا أقبل شهر رمضان يقول: (أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، ينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم في رمضان رحمة الله عز وجل).
أيها الحبيب! فكر في هذا الحديث جيداً من الآن: هل تتنزل عليك الرحمة أمام المسلسل؟! وهل تتنزل عليك الرحمة أمام الفلم؟! وهل تتنزل عليك الرحمة أمام الفوازير الماجنة؟! إنما تتنزل الرحمات في بيئة الطاعات، وفي بيوت رب الأرض والسماوات، وإن جلست في بيتك وجمعت زوجتك وأولادك، وجلست تقرأ القرآن الكريم، أو جلست في بيتك تستغفر الله الرحمن الرحيم، فهذه هي البيئة التي تتنزل عليك فيها الرحمات، فيا أخي في الله! اتق الله في رمضان، وإياك أن تضيع دقيقة في غير طاعة، عليك ألا تمر دقيقة إلا وأنت في طاعة لله، فورب الكعبة! إنك لا تضمن أن تعيش إلى رمضان المقبل، فرمضان شهر الرحمات، فعرض نفسك لرحمة الله، ولن تنال رحمة الله إلا إذا كنت على طاعة لله جل وعلا.(119/3)
وجوب المحافظة على صلاة الجماعة
ثالثاً: أيها الحبيب المبارك! حافظ على الصلوات في جماعة في بيوت الله عز وجل، فلقد كان حبيبك المصطفى حريصاً على الجماعة حتى في مرضه الأخير، وكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وقد نقل الإمام البغوي في (شرح السنة) اتفاق أهل العلم، فقال: اتفق أهل العلم على أنه لا رخصة لأحد في ترك الجماعة إلا من عذر شرعي) فلا يجوز لأحد أن يترك صلاة الجماعة إلا من عذر شرعي، والعذر الشرعي الذي يمنعك من صلاة الجماعة في بيوت الله هو: المرض، والمطر الشديد، والظلام الحالك الذي تخشى فيه على نفسك الهلاك، والبرد الشديد الذي قد يصيبك بأذى أو بمرض، أو وضع الطعام بين يديك في وقت أذن فيه للصلاة، فإذا كنت جائعاً فقدم الطعام أو العَشاء على العِشاء، أما فيما عدا ذلك فلا يجوز لك أن تؤخر الصلاة في بيوت الله جل وعلا عن وقتها.
وكم من المسلمين من يترك صلاة الجماعة في بيوت الله، وعذره: حتى ينتهي الفلم أو المسلسل أو المباراة! فهل هذا عذر شرعي يا عباد الله؟! بل الواجب عليك أن تهرع إلى بيت الله إذا نودي عليك بحي على الصلاة! أيها الحبيب الكريم! اسمع إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والحديث رواه مسلم، يقول عبد الله: (من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله قد شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو صليتم في بيوتكم -أي: لم يترك الصلاة، وإنما يصلي، ولكنه يصلي في بيته- كهذا المتخلف الذي يصلي في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عن صلاة الجماعة إلا منافق معلوم النفاق! -والله! إنها عبارة تخلع القلب الحي- ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين -أي: كرجل عجوز كبير مريض يؤتى به وهو يتمايل بين رجلين: رجل عن يمينه، ورجل عن يساره- حتى يُقام في الصف) أي: ليصلي الجماعة في بيت الله جل وعلا.
فيا أيها الحبيب! الله الله في الصلاة! ولا تضيع صلاة في بيت الله، فإذا نودي عليك وأنت في بيتك إذا نودي عليك وأنت في عملك إذا نودي عليك وأنت في بقالتك أو تجارتك، فقم إلى الله جل وعلا وضع جبينك وأنفك في التراب شكراً لرازقك وخالقك جل في علاه.
أيها الحبيب! لقد توعد المصطفى من أخر صلاة الجماعة وصلى في بيته بأشد الوعيد، وأنا لا أتكلم الآن عمن ترك الصلاة، ولا أتحدث الآن عمن ضيع الصلاة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! لكنني أتحدث عن الذي يصلي، لكنه يصلي في بيته، ويدع الصلاة في بيوت الله، فلم بنيت بيوت الله جل وعلا؟! والله عز وجل يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] فالمساجد هذه ما بنيت إلا ليجتمع فيها الموحدون، وإلا ليركع فيها الراكعون، وإلا ليسجد فيها الساجدون المؤمنون لله رب العالمين، لقد توعد المصطفى من تأخر عن صلاة الجماعة بأشد الوعيد -ونحن نعاهد الله ألا نذكر إلا حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس -أي: في موضع ومكان الحبيب المصطفى- ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من الحطب إلى أقوام يصلون في بيوتهم لأحرق عليهم بيوتهم بالنار) هذا كلام الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
يريد المصطفى أن يأمر بالصلاة فتقام، وأن ينطلق هو في وقت إقامة الصلاة؛ ليبحث عن البيوت التي تخلف أهلها عن صلاة الجماعة من غير عذر شرعي فيحرق عليهم بيوتهم، وهذا وعيد شديد! وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن أبي داود أنه جاء رجل أعمى إلى رسول الله يقول له: (ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل ترخص لي أن أصلي في بيتي؟ فرخص له المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف الرجل نادى عليه رسول الله وقال له: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال المصطفى: فأجب) أي: أجب النداء إلى بيت الله، وفي لفظ أبي داود بسند حسن صحيح، قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (هل تسمع (حي على الصلاة)؟ قال: نعم، فقال المصطفى: فحيَّ هلاً) أي: لب نداء الله إلى بيت الله جل وعلا.
هل علمت أن الله لم يسقط صلاة الجماعة عن المقاتلين في ميدان القتال؟! بل أمر الله المصطفى أن يقسم الجيش إلى فريقين: فريق يحرس في أرض المعركة، ويصلي هو بالفريق الآخر الجماعة، فإذا أنهى الفريق الأول صلاة الجماعة يأتي الفريق الثاني الذي كان يتولى الحراسة ليصلي هو الآخر جماعة مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهل يوجب تعالى صلاة الجماعة على المقاتلين، ويسقطها عن الفارغين غير المنشغلين؟! فيا أيها الحبيب الكريم! احرص في رمضان كله بل وفي كل حياتك وأوقاتك على أن تؤدي الصلاة في جماعة في بيوت الله عز وجل، ولا يكن حالك كحال المنافقين الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء) والحديث في الصحيحين، فانظر إلى بيوت الله في صلاة الفجر تجد المساجد تبكي وتشكي حالها إلى الله جل وعلا، فأين الموحدون؟! وأين المخلصون في صلاة الفجر؟! ولكن كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة الفجر وصلاة العشاء) هذا كلام سيد المرسلين، فيا أيها الحبيب! قد يقضي الواحد منا ساعة أمام مباراة، وقد يقضي الواحد منا نصف ساعة أمام مسلسل أو أكثر، ولكنه إذا دخل الصلاة -وربما لا يقرأ الإمام بربع في الركعتين- ربما يستطيل الصلاة، وأنا أخشى على مثل هذا إن لم يكن عنده عذر، كما قال الشاعر: تأتي إلى الصلاة في فتور كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان منك من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاء وإن كنت المُجالس يوماً أنثى أضعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معك أنثى تناجيها بحب أو صفاء(119/4)
رمضان شهر الإنفاق
رابعاً: أنفق في سبيل الله في هذا الشهر، ولا تبخل، ولا تخش الفقر ولا الفاقة، وأنفق يمنة ويسرة، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم إلا وينزل ملكان إلى السماء، فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
أيها المسلمون! يا من منَّ الله عليكم بالأموال اعلموا أن لكم إخواناً فقراء، ربما لا يتذوقون طعم اللحم في رمضان كله، فيا أيها المسلم! تدخر لمن؟! قال الحبيب صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح البخاري - لأصحابه: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟) أي: من منكم يحب المال الذي سيتركه للورثة أكثر من حبه لماله هو؟ فقالوا: يا رسول الله! كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، فقال الحبيب: (فإن مالك ما قدمت، ومال ورثتك ما أخرت).
وقد أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم عائشة أن تتصدق بالشاة المذبوحة، فقد روى الترمذي بسند حسن صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم عاد إليها وقال: (ما بقي من الشاة يا عائشة؟ فقالت: ما بقي منها شيء أبداً إلا الذراع هذا، تركته لك؛ لأني أعرف أنك تحب الذراع يا رسول الله! أو قالت: ما بقي منها شيء إلا كتفها، فقال الحبيب: بل بقيت كلها إلا كتفها) فما تصدقت به فهو الباقي، وما أكلت فهو الفاني.
وفي الحديث الذي في صحيح البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما لك يا بن آدم! تقول: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟) أي: ليس لك إلا لقمة تؤكل، أو ثياب تبلى، أو صدقة تبقى.
فيا أيها الحبيب! لقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة في رمضان، وما منع النبي صلى الله عليه وسلم سائلاً أبداً، بل لقد ورد في صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى المصطفى فسأله، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى غنم بين جبلين، فقال: (انظر إلى هذه الغنم، سقها فهي لك! فساق الرجل الغنم كلها بين يديه، وذهب إلى قومه قائلاً: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر).
فيا أيها المسلم! أنفق في رمضان، وهيا فكر من الآن، فإن منَّ الله عليك بالمال فلا تنس جارك الفقير، ولا تنس الفقراء والمساكين، فيا أهل الأموال! قدموا الطعام والصدقة، فإن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، ومالك أيها الحبيب! هو ما قدمت، ومال ورثتك هو ما أخرت، فورب الكعبة! لن ينفعك أحد على ظهر هذه الأرض، فيا أيها المسلم! ويا أيها الحبيب! أنفق لله عز وجل في رمضان، ولا تخش الفقر ولا الفاقة، فإن الذي تكفل بالأرزاق هو الرزاق كما قال في كتابه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
وسامحوني على تكرار هذا الحدث، فإنه يحلو لي أن أذكّر به في كل مرة أتطرق فيها للحديث عن قضية الرزق: هذا عبد من عباد الله الصالحين يقال له: حاتم الأصم -ووالله! ما أذكرها هنا إلا لأذكر بها؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين- أراد حاتم الأصم أن يحج بيت الله الحرام، فجمع هذا الرجل الصالح أبناءه وقال: إني ذاهب إلى حج بيت الله، فبكى الأبناء وقالوا: ومن يطعمنا؟! ومن يأتينا بما نريد؟! وكان لهذا الرجل فتاة تقية نقية، فقالت الفتاة لأبيها: يا أبت! اذهب، فإنك لست برازق، فانطلق الرجل، وبعد أيام قليلة نفد الطعام الذي كان في البيت، فقامت الأم لتعنف هذه الفتاة، وقام الأخوات ليعنفن هذه الفتاة، وخلت هذه الفتاة التقية بنفسها، ورفعت شكواها إلى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، إلى من -قال وقوله الحق- {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] رفعت شكواها إلى الله، فاستجاب الله دعاءها، وفي الوقت نفسه كان أمير البلدة يمر ليتفقد أحوال الناس، وعند باب حاتم الأصم أحس بعطش شديد كاد أن يقتله، فقال جندي من الشرطة معه: أدركني بكوب من الماء، فأسرع الجندي إلى أقرب باب إلى باب بيت حاتم الأصم، فأحضر له أهل البيت كوباً نظيفاً، وماءً بارداً، من باب: (أنزلوا الناس منازلهم) وهذا أيها الشباب! ليس من المداهنة وليس من الرياء أو النفاق، فيجب علينا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نقدر الناس قدرهم، وهذا من الدين ومن الإسلام، فلما شرب الأمير الماء، قال: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال: هذا العبد الصالح؟! قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ قالوا: ذهب لحج بيت الله الحرام، فقال الأمير: إذاً: حق علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته -وكانت عملتهم من الذهب- فجاء بكيس مملوء بالذهب وألقاه في بيت حاتم الأصم، ولكن الرزاق أراد الزيادة، فأنطق الله الأمير، فالتفت الأمير إلى الجند الذين من حوله وقال: من أحبني فليصنع كصنيعي، فألقى كل جندي ما معه من الأموال، وامتلأ البيت بالذهب، ودخلت البنت التقية النقية تبكي، وراحت الأم تفرح وتسعد مع الأخوات، فدخلوا عليها وسألوها: لماذا هذا البكاء، وقد أصبحنا من أغنى الناس؟ فقالت لهم: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟! فلا تخش انعدام الرزق، فإن الذي تكفل بالأرزاق هو الرزاق ذو القوة المتين، كما قال سبحانه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23].
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(119/5)
الحرص على الخير والإكثار منه لاسيما في شهر الخير
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الحبيب الكريم! أختم بهذه الكلمة -وتذكروها جيداً- فأقول: إننا اليوم قد أهلّ علينا شهر رمضان.
وبعد انتهائه سنقول جميعاً: قد انتهى رمضان، وهكذا رمضان في كل عام، فإنه يأتينا ثم يمضي من بين أيدينا سريعاً، فيربح الرابح، ويخسر الخاسر.
فيا أيها الحبيب الكريم انتبه! واحمد الله أن وجدت من يذكرك بهذه الحقيقة من الآن، واحفظ وقتك، فإني أتألم كثيراً حينما أسمع من أحبابي من يقول: ذهبنا إلى المكان الفلاني لنضيع الوقت! وقتك غالٍ أيها الموحد! وقتك يساوي جنة أو ناراً، فساعة في الطاعة تقربك من الجنة، وساعة في المعصية تقربك من النار، والعياذ بالله.
فيا أيها الحبيب الكريم! احفظ وقتك، واعلم أن العمر قصير وأن الأجل قريب، وأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
لقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل: كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، فقال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تقطع الطريق إلى الله، يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد، وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل، وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال الفضيل: هي أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
قال الشاعر: تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضباناً اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفاناً نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى إلى النار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا قال عز وجل: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49].
فانتبه أيها المسلم! قال الشاعر: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب كأن سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم وصدق الله إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] ويفتح سجلك أيها اللاهي! ويفتح سجلك أيها الغافل! وإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فذكر نفسك أيها الحبيب! وأذكر نفسي وإياك بقول الشاعر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن فيه عليك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، في هذه اللحظات الكريمة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة الكريمة، ألا يدع لأحد منا ذنباً إلا غفره، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم إنا نشهدك أن العالم الغربي والعالم الإسلامي قد تخلى عن إخواننا في البوسنة والهرسك، وتخلى عن إخواننا في الشيشان، وتخلى عن إخواننا في فلسطين، وتخلى عن إخواننا في طاجيكستان، وتخلى عن إخواننا في أفغانستان، وتخلى عن إخواننا في كشمير، فاللهم كن لهم ناصراً يوم انعدم الناصر، اللهم كن لإخواننا معيناً يوم انعدم المعين، اللهم لا تتخلى عنا وعنهم بذنوبنا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نشكو إليك أعراض أخواتنا التي انتُهكت، ونشكو إليك دماء إخواننا التي سُفكت، ونشكو إليك أرضنا التي نُهبت، اللهم لا تتخلى عنا بذنوبنا يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين! ويا مفرج كرب المكروبين! ويا كاشف هم المهمومين! فرج الكرب عن أمة حبيبك المصطفى يا رب العالمين! اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم ارزق الأمة القائد الرباني الذي يقود الأمة بكتابك وسنة نبيك المصطفى.
اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان، اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا واحة للأمن والأمان، وسائر بلاد الإسلام، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد، ولا تحرم مصر من الأطهار الأبرار برحمتك يا عزيز! يا غفار! أيها الأحبة الكرام! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فلقد أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم تنزيله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويُلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والحمد لله رب العالمين.(119/6)
السعادة الزوجية
هذه مجموعة وسائل شرعية تثمر علاقة زوجية سعيدة، ومحبة نفسية عالية بين الزوجين، ومنها ما هو واجب على الزوجين فعله، منها ما هو مستحب، وهذه -بمجموع تلك الوسائل- هو السحر الحلال الذي به أمر الزوجان، وبه يتم بناء علاقة زوجية إيمانية سعيدة مدى الحياة!!(120/1)
الحياة الزوجية مملكة إيمانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنة ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: الطريق إلى السعادة الزوجية، هذا هو موضوع محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الطيبة، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: الحياة الزوجية مملكة إيمانية.
ثانياً: مفاتيح قلب الزوج.
ثالثاً: مفاتيح قلب الزوجة.
وأخيراً: هذا هو الطريق.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد الآن بيت من بيوت المسلمين على وجه الأرض إلا وهو في أمس الحاجة إلى هذا الموضوع، والله أسأل أن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أولاً: الحياة الزوجية مملكة إيمانية: فملكها وربانها، والمسير لدفة شئونها هو الزوج المسلم، لما جعل الله عز وجل له من القوامة، كما في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، والزوجة هي الأخرى ملكة متوجة في هذه المملكة، فهي شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والرعية في هذه المملكة الكريمة الإيمانية هم ثمرة الفؤاد، ولب الكبد، وزهرة الحياة الدنيا، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
أيها الأحبة! هذه المملكة الإيمانية لو ظلل سماءها منهج رب البرية، وسيد البشرية، وروي نباتها بماء المودة والرحمة الندية، آتت تلك المملكة ثمارها كل صبح وعشية، وأنبتت أرض هذه المملكة كل زهرات الحب والوفاء والأخلاق الندية العلية، ولو ظهر في يوم من الأيام في أرض هذه المملكة الإيمانية نبتة شيطانية فإنها سرعان ما تذبل أو تموت؛ لأن مثل هذه النباتات لا يمكن ألبتة أن تحيا وأن يدوم نباتها في هذه البيئة الزكية.
فورب الكعبة إن سر الضنك الذي تحياه الآن كثير من الأسر المسلمة، هو البعد عن منهج الله جل وعلا، والإعراض عن الغاية التي من أجلها أقيمت الأسرة المسلمة؛ لأننا وبكل أسف نبحث عن الغاية التي من أجلها خلق كل شيء لنا في الكون، ولا نفكر بل ننسى أو نتجاهل أن نبحث عن الغاية التي خلقنا نحن من أجلها، والتي قال الله في حقها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
والله ما شعرت بيوتنا بالضنك إلا لإعراضها عن منهج الله جل جلاله، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].(120/2)
مفاتيح قلب الزوج
أيها المسلمون والمسلمات! إن السعادة الحقيقية في البيوت لا يمكن ألبتة أن تتحقق إلا في ظلال منهج الله، وفي رحاب هدي الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، مع الفهم الدقيق، والوعي العميق للحقوق والواجبات من كلا الزوجين، ولن أتحدث الليلة عن الزواج كآية ربانية، وسنة نبوية، وفطرة إنسانية، وضرورة اجتماعية، وسكن للغريزة الجسدية، بل ولن أتحدث أيضاً عن الزواج وعن حقوقه الظاهرة المعروفة الجلية، فكل هذه الموضوعات قد غطاها إخواننا من الدعاة جزاهم الله خيراً، ولكنني أود الليلة أن أتطرق إلى بعض القضايا المهمة وبعض اللمسات الخفية التي هي في غاية الأهمية، بل إنني أؤكد لحضراتكم بأن هذه اللمسات، وتلك القضايا هي المقومات الحقيقية للسعادة الزوجية، وأستهل هذه المقومات بمخاطبة الزوجة المسلمة الزكية التقية: كيف تسعد زوجك؟ وكيف تتملك مفاتيح قلبه؟ وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز وهو لب الموضوع.(120/3)
حسن الخلق
أولاً: حسن الخلق: فإن سفينة الحياة الزوجية التي تخوض بحر الحياة بهدوء واتزان وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة، يقودها حتماً قائد مسلم تقي ألمعي ذكي، وتعينه على القيادة وتوجيه الدفة كلما انحرفت السفينة زوجة تقية زكية ألمعية نقية، بل إنني أؤكد للإخوة والأخوات أن النجاح والاستمرار، والسكن والاستقرار، وهدوء النفس وراحة البال، وراءه زوجة صالحة تقية زكية عرفت كيف تسعد زوجها، واستطاعت أن تمتلك مفاتيح قلبه، بل ونجحت في أن تحول البيت إلى جنة خضراء، يسعد الزوج حينما يأوي إلى ظلاله الوارفة، وتتبدد كل همومه وأحزانه وآلامه وهو في ظلال هذه الجنة، وإلى جواره زوجة طيبة تضمد جراحه، وتسكن آلامه بحسن خلقها، وعظيم ورفيع أدبها.
أيها الأحبة! إن حسن الخلق من أجمل الزينة التي تتحلى به المرأة لزوجها، وإن حسن الخلق هو أقصر طريق لتأسر فيه الزوجة قلب زوجها، فالمرأة التي تتخذ حسن الخلق والأدب الرفيع العالي منهجاً في التعامل والخطاب، والحوار بينها وبين زوجها امرأة صالحة ذكية ألمعية، استطاعت بحسن خلقها أن تأسر قلب الزوج بلا نزاع.
يا إخوة! ويا أخوات! إن المرأة لو كانت ذات نقص في الجمال أو في المال أو في الحسب أو النسب أو في العلم فإنها تستطيع أن تعوض كل ذلك بحسن الخلق والأدب الرفيع العالي، وإلا ما قيمة الجمال عند المرأة؟ وما قيمة المال؟ وما قيمة حسبها ونسبها؟! وما قيمة شهاداتها وعلمها إن كانت بذيئة اللسان سيئة الخلق، لا تحسن أن تتكلم مع زوجها بالكلمات الرنانة، أو بالكلمات الرقراقة الرقيقة الطيبة؟! إن الكلمة الطيبة، والخلق العالي، والأدب الرفيع هو البلسم الشافي -أيتها الزوجة المسلمة! - وهو الضمادة العظيمة الأكيدة التي تضمدين بها كل جرح ينبت أو يظهر من آن لآخر على جسد العلاقة الزوجية.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وابن حبان من حديث أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وابن حبان وأحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تقوى الله وحسن الخلق)، (وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الفم والفرج).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
فأنا أؤكد لأخواتي المسلمات المتزوجات بأن أول مفتاح تفتح به الزوجة المسلمة قلب زوجها في كل لحظة وحين، إنما هو حسن الخلق والأدب الرفيع العالي! والكلمة الطيبة الرقيقة الرقراقة!(120/4)
الرضا بما قسم الله جل وعلا
ثانياً: الرضا بما قسم الله جل وعلا، فإن الرضا بما قسم الله كنز ثمين يجعل من بيت الزوجية جنة ولو كان فقيراً، ويجعل من بيت الزوجية سعة ورخاء ولو كان ضيقاً، فقد يكون الزوج المسلم من متوسطي الحال في المال في الجمال في الشهادات العلمية في الحسب والنسب والجاه إلى غير ذلك من حظوظ الدنيا، ولا يتمكن الزوج المسلم من أن يحقق لزوجته كل ما تصبو إليه نفسها، فإن رأى الزوج زوجته راضية بما قسم الله لها لا تتضجر ولا تتسخط على قدر الله، ولا تشكو زوجها لأهلها بل تستر عليه عيبه، وتعيش في أمن وأمان، ورضاً واطمئنان.
إن رأى الزوج زوجته على هذه الحال وعلى هذه الصفة يسعد قلبه، وينشرح صدره، ويعيش في غاية السعادة والطمأنينة مع هذه الزوجة الطيبة التقية التي ترضى بما قسم الله جل وعلا لها، وهذا والله يا أختاه! هو الغنى الحقيقي، ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض -أي عن كثرة المال- ولكن الغنى غنى النفس).
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه)، فالزوجة المسلمة الربانية هي التي ترضى بما قسم لها رب البرية، ولا تنظر إلى من فاقها من الأخوات في أمر الدنيا، بل تنظر إلى من فاقها من الأخوات في أمر الدين تنظر إلى أهل الطاعة تنظر إلى أهل السبق في الالتزام تنظر إلى أخواتها من أهل القرآن، تمتثل الزوجة المسلمة الربانية الراضية بما قسم لها رب البرية أمر سيد البشرية، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله جل وعلا).
فيا أختاه! لا تنظري إلى أختك التي من الله على زوجها بالثراء التي من الله عليها بسيارة فارهة، وبأثاث فاخر، وإنما انظري إلى أهل العاهات، انظري إلى أصحاب الأمراض والأعذار، انظري إلى الفقراء والمساكين والمشردين، والمطرودين والمحرومين! انظري إلى من أقعدهم المرض في الفراش، فاحمدي الله على التوحيد، واحمدي الله على الإسلام، واحمدي الله على العافية، احمدي الله أن من عليك بزوج صالح، واحمدي الله على أن من عليك بأولاد طيبين، وجعل الله لك بيتاً يأويك، وطعاماً يكفيك، ولباساً وثياباً تسترك، فاحمدي الله.
اعلمي أختي المسلمة أن المال إلى زوال، وأن متاع الدنيا إلى فناء: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن إن نظرتك -أختي المسلمة- إلى أختك ممن من الله عليها بالدنيا سيملأ قلبك بالأحزان، وسيملأ بيتك بالمشكلات والأزمات، فاحمدي الله وارضي بما قسم الله عز وجل لك، ولا تنظري إلى أهل الدنيا، واعلمي أن من أعظم مفاتيح الزوج أن ترضى الزوجة بما قسم الله لها، وألا تشتكي وتتسخط، وألا تنتقص من قدر زوجها فيحرم عليها ثم يحرم عليها ثم يحرم عليها أن تعير زوجها لفقره أو لنسبه، أو لقلة جاهه، أو لقلة علمه، أو لقلة شهاداته، يحرم عليها ذلك، بل إنها بذلك تتسخط على قدر الله، ولا ترضى بما قسم الله لها.
فلا ينبغي ألبتة لزوجة مسلمة تتقي الله جل وعلا أن تقول لزوجها من آن لآخر: إن فلانة تعيش في رخاء وتعيش في سعادة إن زوجها قد أتى لها بثلاجة كذا وبفيديو كذا وبذهب كذا وكذا وإنني أعيش فقيرة، ما أشقاني! ما أتعسني! أسأل الله أن يخرب بيوت من زوجوني عليك.
لقد كان يوماً تعيساً يوم أن دخلت بيتي، يوم أن نظرت إلى وجهك إلى آخر هذه الكلمات الخطيرة التي تتسخط فيها المرأة على قدر الله جل وعلا، ولا ترضى من خلالها عن قدر الله وقضائه سبحانه وتعالى.
واعلمي يقيناً -أيتها الزوجة المسلمة- أن هذه الكلمات تمزق أواصر المودة والرحمة بين الزوج وزوجه.
إذاً: من أعظم مفاتيح قلب الزوج: أن ترضى الزوجة بما قدر الله لها، وهو اللطيف الخبير، فإن الله قد قسم الأرزاق بين عباده بحكمته ورحمته، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(120/5)
الوفاء
ثالثاً: الوفاء: وما أحلاها ورب الكعبة من كلمة! وما أرقها من خصلة! وما أسماها من صفة! إنها الوفاء!! فالوفاء خلق جميل، وكنز ثمين، فالأيام دول، فكم من غني أصبح فقيراً؟ وكم من عزيز أصبح ذليلاً؟ وكم من قوي أصبح ضعيفاً؟! فالزوج قد تنزل به المحن والمصائب، فتتحول صحته إلى مرض، ويتحول غناه إلى فقر، وتتحول قوته إلى ضعف، وهنا يظهر معدن الزوجة الصالحة الوفية التي تقف إلى جوار زوجها في كل ضيق ومصيبة، وتخفي عيوب الزوج وتستر ذنوبه، ولا تنسى أيام الغنى، وأيام القوة والصحة والسعة، وتردد دوماً قول الله جل وعلا: {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، وتنظر إلى زوجها نظرة رحمة وأدب، ونظرة حنان وتواضع، وهي تقول له: أبشر أيها الزوج الحبيب! أنا لا أنسى أنك فعلت كذا وكذا وقدمت لي كذا وكذا ثم تذكره بقول ربها: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
فوالله إن الزوجة الوفية تأسر بوفائها قلب زوجها، وتحول بوفائها الفقر في البيت إلى غنى، والمرض إلى صحة، بل والضيق إلى سعة، بل والأزمات والمشكلات إلى لحظات طيبة ندية.
ما أحلى الوفاء! وما أقبح الجحود! وما أقبح المرأة الجاحدة! التي تجحد فضل زوجها وكرمه!! جاء في الصحيحين من حديث زينب رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني رأيت النار، ورأيت أكثر أهلها النساء)، فلتحذر كل أخت مسلمة تستمع إليّ الآن أو تستمع إلي عبر شريط الكاسيت بعد هذه المحاضرة، فإنني لا أخاطب الإخوة والأخوات بين يدي، وإنما أخاطب المسلمين والمسلمات على وجه الأرض، وأسأل الله أن يجعل لهذا الشريط سبيلاً إلى كل بيت، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: لكفرهن، قالوا: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ورأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط).
فهل تقبل الزوجة المسلمة التقية الصالحة لنفسها هذه الخصلة الذميمة، وهذا الخلق اللئيم الذي يودي بأصحابه إلى نار الجحيم والعياذ بالله؟! أختاه! إن من أعظم مفاتيح قلب الزوج، ومن أعظم وسائل السعادة التي تسعدين بها قلب زوجك: الوفاء، وأسأل الله أن يرزق نساءنا وزوجاتنا الوفاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(120/6)
الطاعة
رابعاً: طاعة الزوج المطلقة في غير إثم ولا معصية: من أعظم مفاتيح قلب الزوج: أن تطيع المرأة زوجها في كل شيء، إلا إن أمرها زوجها بمعصية لله، فحينئذ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
إن أمرها زوجها بأن تظهر على إخوانه الذكور فترفض، وإن أمرها زوجها بأن تتبرج ترفض، وإن أمرها أن تتخفف في الثياب إن خرجت معه فتعصي الزوجة زوجها، وإن أمرها زوجها أن تضع قليلاً من (المكياج) وهي غير منتقبة إذا ما خرجت معه إلى الشارع فلا طاعة له، وهذه المعصية طاعة لله جل وعلا، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أما إن أمرها الزوج بعد ذلك بأي أمر مادام هذا الأمر في غير معصية لله فيجب على الزوجة المسلمة وجوباً أن تمتثل أمر الزوج، وأن تقف عند الحدود التي حدها لها زوجها، من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وأحذر الزوجة المسلمة من العصيان والجدال والمراء، وطول الحوار وكثرة الكلام، لاسيما إن كان زوجها مغضباً، ولاينبغي أن تستغل الزوجة لين الزوج أو دينه، بل يجب عليها -أي على الزوجة الصالحة الطيبة- أن تطيع زوجها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني والبزار من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت).
ومن أعظم الحقوق على الزوجة لزوجها، والتي يجب على المرأة أن تطيعه فيه فوراً، وفي أي وقت يشاؤه: حق الفراش، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته؛ فبات غضبان عليها، باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها زوجها).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد -أي: حاضر- إلا بإذنه، ولا تأذن لأحد في بيت زوجها إلا بإذنه).
أختي المسلمة! اعلمي أيتها الفاضلة! بأن امتناع المرأة عن فراش زوجها إن دعاها إلى ذلك بغير عذر شرعي وبغير سبب صحي كبيرة من أعظم الكبائر، فلتتق الله الزوجة الصالحة.
ولتعلم الزوجة أن من طاعة الزوج أيضاً: أن ترضيه إذا غضب، فالزوجة المسلمة لا تنام وهي تعلم يقيناً أن زوجها غضبان، ولو كان الزوج غاضباً بسبب خطئها فلتبادر الزوجة المسلمة بالتأسف والندم بأسلوب طيب، فإن من النساء من إذا أغضبت زوجها وأرادت أن تعتذر زادت في غضبه؛ لأنها تعتذر إليه بكبر واستعلاء، وكأنها تمتن عليه بأسفها وندمها، فيتسيط الزوج غضباً بعد غضب، ويزداد قلبه ألماً بعد ألم، ويزداد جرحه جرحاً بعد جرح، فلتذهب المرأة فوراً لتتأسف بأسلوب مهذب يستشعر فيه الرجل ندمها وخلقها وأدبها.
ومن أدب الزوج -كما سأبين- أن يعجل هو الآخر بقبول الأسف والندم، ولا ينبغي أن يتسلط وأن ينتفخ وينتفش، وأن يتكبر كما سأبين الآن في مفاتيح قلب الزوجة إن شاء الله تعالى.
فمن طاعة الزوج أن ترضيه زوجته إن غضب، أما إن كان الغضب -أيتها الأخت- بسبب الزوج نفسه، ومع ذلك فهو غاضب عليك، فأنا أنصحك ألا تلحي في معرفة سبب الغضب، وألا تكثري الجدال، وألا تكثري المراء، بل اتركي الزوج في هذه اللحظات حتى تهدأ نفسه، ويستقر بدنه، وإن اقتربت منه بعد ذلك للحوار والنقاش، فإن النقاش والحوار سيكون جميلاً مهذباً، يعيد البسمة والمودة والرحمة إلى مجرى الحياة الزوجية من جديد، أما الذي أحذر منه أن يكون النقاش والحوار في وقت الانفعال والغضب.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الحلم، وأن يرزق نساءنا الحكمة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(120/7)
الأنوثة والزينة
خامساً: الأنوثة والزينة: فبعد هذه الصفات الخلقية الجميلة أقول لأختي المسلمة: إن من أعظم مفاتيح قلب الزوج الأنوثة والزينة والتطيب، ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله جميل يحب الجمال).
ومما لا شك فيه أن مما يؤثر في قلب الزوج: أن يرى الزوج امرأته في كل لحظة جميلة طيبة نظيفة، لاسيما ونحن نعيش الآن زماناً كثرت فيه الفتن: فتن المتبرجات! فتن الكاسيات! فتن العاريات! إن الرجل الآن يخرج من بيته فتعصف فتن الشهوات بقلبه، وتزداد المصيبة إن عاد إلى بيته فوجد امرأة مهملة وليست نظيفة ولا متجملة ولا متطيبة، ووالله إن هذا لا يكلف الزوجة شيئاً، وإن أهملته كلفه إهمالها لهذا الكثير والكثير، وتزداد الكارثة إن رأى الزوج امرأته تتزين وتتطيب إذا أرادت أن تخرج من البيت، وفي لحظات مكثها في البيت لا يشم من ثيابها إلا رائحة الثوم والبصل، وأنا أحذر كل مسلمة من رائحة الفم، ورائحة العرق، ورائحة الثياب، ولا حرج في الحق إطلاقاً.
كم من بيوت خربت؟! وكم من علاقات أسرية تفككت؟! وكم من حب زال بسبب إهمال المرأة لجمالها وأنوثتها وزينتها وطيبها؟! وقد تقول المرأة: إنني أثق في حب زوجي لي، ولا أشك لحظة في أنه سيتركني يوماً، وهذا وهم، أيتها المسلمة! فقد يزول الحب، وتتلاشى المودة، وتنتهي الرحمة لمجرد أن ينفر الرجل من امرأته لرائحة فمها، أو لرائحة عرقها أو ثيابها، فيجب على الزوجة المسلمة أن تسعد زوجها بأنوثتها وطيبها وطهارتها، وأقول: إن العطر والطيب من ألطف وسائل المخاطرة بين الرجل وامرأته، فعلى المرأة دائماً أن تكون طيبة الريح نظيفة الثياب، جميلة تسريحة الشعر، وهذه هي المسلمة الزكية التقية النقية.
وأرجو أن تنتبه أختي المسلمة إلى أن الإسلام العظيم لا يصادم أنوثتها وزينتها وجمالها، بل أمرها بالتزين للزوج وحرم عليها أن تتزين بالزينة الحرام، كأن تتزين بالوصل أو بالنمص أو بالوشم أو بتفليج الأسنان للحسن، وحرم عليها أن تظهر زينتها أياً كانت لغير زوجها.
تدبري أيتها المسلمة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه: (لعن الله الواصلة) وهي التي تلبس الباروكة لتظهر شعرها بصورة مختلفة عن حقيقته.
(لعن الله الواصلة والمستوصلة) أي: التي تفعل ذلك ويفعل بها ذلك، (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة)، وفي رواية ابن مسعود في الصحيحين: (والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله).
فالإسلام الذي يأمر المرأة بالزينة للزوج يحرم عليها أن تتزين بزينة محرمة، ويحرم عليها أن تتزين لغير زوجها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي موسى الأشعري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة استعطرت -أي وضعت العطر والطيب والريح- فمرت على مجلس رجال ليرى الرجال من ريحها فهي كذا وكذا) أي: زانية والعياذ بالله! (والعين تزني وزناها النظر، والأنف تزني وزناها الشم، والأذن تزني وزناها السمع، واللسان يزني وزناه الكلام، واليد تزني والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.(120/8)
إكرام أهل الزوج
سادساً: من أعظم مفاتيح قلب الزوج -أيتها الزوجة المسلمة الزكية العاقلة- إكرام أهل الزوج، وهذا من باب التعاون على البر والتقوى، ومن حسن العشرة وجميل المعاشرة، فالزوجة المسلمة لا ينبغي لها أبداً أن تكون فتنة لزوجها في حق أبيه، أو في حق أمه، أو في حق أهله، ولا ينبغي للزوجة المسلمة أن توقع العداوة والبغضاء بين الزوج وأمه، أو بين الزوج وأهله ورحمه، ولا ينبغي أن تضع المسلمة نفسها في تلك المقارنة الصعبة، أنا أو أمك، لا، أمي ثم أمي ثم أمي، فالزوجة العاقلة لا تضع نفسها أبداً في هذه المقارنة، في الوقت ذاته لا يجوز للزوج المسلم العاقل الذي يتقي الله أن يظلم زوجته من أجل بره بأمه، فهذا لا يجوز له أيضاً، بل يعطي أمه حقها، ويعطي زوجته حقها، ولا يخلط بين الحقين، فهذا ظلم يقع فيه كثير من الأزواج، يهين امرأته لصالح أمه، وهذا ظلم لا نقره، وتأباه شريعة الله العادلة.
إن الزوجة المسلمة الذكية الألمعية لا توقع زوجها في عقوق لوالديه ألبتة، كيف وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)، أنفك في التراب إن أدركت والديك أو أحدهما ولم تدخل الجنة ببرهم بتقبيل أرجلهما بطاعتهما ولو كانا على الشرك بصحبتهما بالمعروف: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش تقول: وصل الله من وصلني، وقطع الله من قطعني)، (من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله).
فاعلمي -أيتها الأخت الفاضلة المسلمة- أن أعظم الناس حقاً على الزوج أمه، بل خذي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الحاكم والبزار بسند حسن، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟! قال: زوجها، قالت: وأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه).
فلتتحل الزوجة المسلمة بخلق الإيثار، ولتحذر الغيرة من الوالدين والأخوات لتنعم براحة البال، وسكينة النفس، ولتأخر حقها عن حقوق الآخرين، فيحبها الآخرون ويقدرونها، وتفوز بجنة الله جل وعلا في الآخرة.(120/9)
الاهتمام بنظافة وجمال البيت
سابعاً: من أعظم مفاتيح قلب الزوج: الاهتمام بنظافة وجمال البيت، فالمنزل مملكة الحياة الزوجية، وأميرة المنزل هي الزوجة، ووالله ليست العبرة بكثرة الحجرات، ولا بضخامة البيت، فقد يكون البيت واسعاً، وقد يحتوي البيت على أثاث ثمين وفرش وثيرة، ولكن إن أهملت المرأة نظافة البيت هجر الزوج هذا البيت، وشعر بأن أنفاسه تختنق إن دخله؛ لأن الرائحة الكريهة تنبعث من هنا وهناك، ولأن الثياب والفراش والأثاث غير منظم، فتتوتر أعصابه، وتهيج نفسه.
أختي! قد يسعد زوج مع زوجة نظيفة زكية في بيت لا يزيد عن حجرتين، يرى الزوج النظام، بل ويرى الرائحة الزكية العطرة ولو عن طريق البخور العادي البسيط التي تنبعث رائحته في كل وقت وآن من أرجاء هاتين الحجرتين، فيسعد الزوج، ويشعر بالأنس والسعادة، فليست العبرة بسعة البيوت، ولا بضخامتها، فكم من بيوت متسعة متسخة تؤلم القلب! وينفر منها صاحب النفس الزكية! وكم من بيوت ضيقة والله تدخلها فينشرح صدرك، وتعلم يقيناً أن في هذا البيت امرأة مسلمة نظيفة، لا أقول لك من مجرد أن تلقي النظرة على الفراش والأثاث، بل من مجرد كوب الماء الذي يقدم إليك في البيت، تشعر بنظافة المرأة، وجمالها ورقتها ورجاحة عقلها.
إذاً: يجب على المرأة أن تهتم بنظافة وجمال بيتها، فإن هذا من أعظم مفاتيح قلب الزوج، ومن الأسباب التي تجعل الزوج يحن دائماً إلى أن يجلس في البيت أطول فترة.
وهل هجر الأزواج البيوت إلا من أجل هذه الأسباب! فمن أسوأ ما ينغص على الزوج راحته في بيته أن يرى البيت غير نظيف، وأن تنبعث من بيته الروائح الكريهة، والله جل وعلا جميل يحب الجمال، وأنا أظن أن أختي المسلمة جميلة هي الأخرى تحب الجمال، وتحب الطهر والنظافة، كيف لا ودينها دين الجمال، ودين الطهر والنظافة؟! كيف لا وربها يحب الجمال؟! كيف لا ونبيها الجميل يحب كل جمال؟!(120/10)
الاهتمام بتربية الأولاد
ثامناً: الاهتمام بتربية الأولاد: فإن مما يؤلم القلب أن المرأة الآن قد انشغلت بالأسواق، أو بالوظيفة مع عدم حاجتها للوظيفة، فقد من الله عليها بزوج أنعم الله عليه وأكرمها، وهي ليست بحاجة إلى الخروج، ولكنها تتألم غاية الألم إن لم تخرج من البيت، كيف تحبس بين هذه الجدران الأربعة؟! كيف لا تعيش فقط إلا لزوجها وأولادها؟! نفخ أهل الباطل في رأسها وفي عقلها، وتأثرت، وأصيب قلبها بهذه السهام القاتلة، فخرجت المرأة من بيتها ومن مملكتها الإيمانية، وهجرت أشرف وأغلى وأعظم وظيفة، ألا وهي وظيفة التربية، هجرت تربية الأبناء، وتركت الأبناء إلى التلفاز، والشوارع وإلى الطرقات، وأصحاب السوء، والمجلات الخليعة الماجنة، فراح الأولاد يبحثون عن قوتهم التربوي من هذه المصادر العفنة الخبيثة، فشعر الأبناء في البيت باليتم التربوي.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلّفاه ذليلاً إن اليتيم من تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها)، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فيجب على الزوجة المسلمة أن تعلم أن البيت قلعة حصينة، ولبنة عظيمة في هذا المجتمع المسلم، فيجب عليها أن تخّرج من هذه القلعة لدين ربها الأبطال والعلماء والقادة والفاتحين.
كيف تخرج المسلمة هذا الجيل الرباني إن هجرت بيتها، وراحت لتضرب بأرجلها وأقدامها في الأسواق، تلهث وراء أحدث الموضات وأرقى الموديلات وأرقى الملابس لتهجر بيتها ولتهجر تربية أبنائها؟! أختي المسلمة! إن من أعظم مفاتيح قلب الزوج: أن يرى امرأته مهتمة بتحفيظ أولاده القرآن، وبتعليم بناته فضائل الإسلام، فتأمر الزوجة ابنتها بالخمار وبالحجاب، وتعلمها القرآن، وتصطحبها إلى بيت الله جل وعلا، وتصطحب الأولاد إلى بيت الله إن كان الزوج مشغولاً فتعلم الزوجة أبناءه دين الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(120/11)
وصية أمامة بنت الحارث لابنتها
أيها الأحباب! أختم مفاتيح قلب الزوج بهذه الوصية الجامعة التي قدمتها أم عاقلة، إنها أمامة بنت الحارث التي خلت بابنتها أم إياس بنت عوف الشيباني في ليلة زفافها لزوجها، وقدمت لها تلك الوصية الغالية، فقالت الأم العاقلة لابنتها: أي بنية! إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها معونة للعاقل، وتنبيه للغافل.
أي بنية! لو أن امرأة استغنت عن زوجها لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، لكنت أغنى الناس عن زوجك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنية! لقد فارقت العش الذي فيه درجت، والبيت الذي منه خرجت، إلى مكان لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية: فالخضوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواطن عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالإرعاء لماله وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التدبير، وفي العيال حسن التقدير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصي له أمراً، ولا تفشي له سراً، فإنك إن عصيت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإياك والكآبة بين يديه إن كان فرحاً! ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مكتئباً!(120/12)
مفاتيح قلب الزوجة
وبعد هذه الجولة الطويلة التي تسعد الرجال يقيناً، وتسعد الأزواج بصفة خاصة، يبقى
السؤال
كيف يسعد الرجل زوجته؟! وأنا أعلم أن أخواتي الآن ينتظرن هذا السؤال بلهف وشوق، فإن كثيراً من الزوجات يشتكين، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر المحاضرة: مفاتيح قلب الزوجة:(120/13)
حسن الخلق والعشرة
أولاً: حسن الخلق وإحسان العشرة، وإلا فبالله عليكم ما قيمة علم الرجل؟ وما قيمة ماله؟! وما قيمة جماله وما قيمة حسبه ونسبه إن كان سيء الخلق، بذيء اللسان، كثير السب واللعن والطعن، مملوءاً بالكبر، منتفخاً بالغرور، تستشف منه زوجته الكلمة الطيبة، وتتسول منه البسمة الحانية، في الوقت الذي ترى فيه الزوجة المسكينة زوجها نفسه يداعب إخوانه وأخواته، يلاطفهم ويداعبهم ويمازحهم، وهي لا تسمع إلا السب والشتم واللعن والطعن؟! ظلم بشع! وهذا والله زوج ظالم ظالم لنفسه، وظالم لأقرب الناس إليه، وعاص لربه ونبيه.
قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19]، وقال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً).
وفي الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خيارهم لنسائهم).
فالزوج المسلم الصالح التقي النقي، ولو كان فقيراً أو مريضاً أو ضعيفاً يستطيع أن يفتح قلب زوجته بأدبه بحسن خلقه بكلامه الطيب الرقيق العذب.
من الذي يعجز منا جميعاً -أيها الأزواج- أن يلقي السلام على زوجته كلما دخل عليها البيت امتثالاً لأمر ربه، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]؟ وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم يكن -أي: يكن السلام- بركة عليك، وعلى أهل بيتك).
من ذا الذي يعجز من الأزواج أن يمتثل أمر الله وأمر نبيه هذا؟! إذا ما دخل الزوج على امرأته بعد كل صلاة، وبعد كل دخول للبيت ولو كانت مدة خروجه دقيقة واحدة، يمتثل هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأدب السنة، فيلقي السلام على أهل بيته ليكن السلام بركة عليه وعلى أهل بيته.
ومن ذا الذي يعجز من الأزواج أن يقبل على زوجته بوجه طليق؛ ليشعر أهله بالأنس والقرب، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) أي: بوجه مبتسم بوجه تشع منه الفرحة، ويشعر المقابل لهذا الوجه بالسرور والألفة، وأولى الناس بطلاقة الوجه من الزوج هي امرأته وشريكة حياته ورفيقة عمره، أما أن يظل الزوج بعيداً عن البيت طليق الوجه لطيفاً شديد المزاح، كثير المداعبة، فإذا ما دخل البيت لا يدخل إلا بوجه عابس، وبجبين يشعر فيه كل من رآه بالغضب والضيق والنفور، فهذا زوج عاصٍ لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذا الذي يعجز من الأزواج أن يخاطب زوجته بكلمة طيبة رقيقة حانية لا لعن فيها ولا طعن ولا سب؟! إن مما يؤلم القلب أن يسب الرجل أهل امرأته، أو أن يسب الرجل أباها وأمها، أو أن يسب أهلها، أو أن يسب اليوم الذي دخل فيه بيتها، وهذه معصية لله ورسوله، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكلمة الطيبة صدقة)، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)، وأولى الناس بالكلمة الطيبة منك -أيها الزوج المسلم- هي امرأتك، فهي شريكة حياتك ورفيقة دربك.
من ذا الذي يعجز من الأزواج أن يبتعد عن الألفاظ الجارحة والكلمات النابية التي يحقر بها الزوج زوجته ويسئ إليها؟! فلا ينادي عليها إلا بأقبح الأسماء، ولا يصفها إلا بأقبح الصفات.
لتعلم أخي الكريم! أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي على عائشة رضي الله عنها بأحب الأسماء، بل ويدللها، فلقد ثبت في صحيح البخاري أنه كان ينادي عليها بقوله: (يا عائش!)، لا يقول: يا عائشة! بل يقول: يا عائش، بل ويقول لها: (والله إني لأعلم متى تكونين عني راضية، ومتى تكونين علي ساخطة، قالت: كيف ذلك يا رسول الله؟! قال: إن كنت عني راضية قلت: ورب محمد، وإن كنت غير راضية قلت: ورب إبراهيم، فقالت عائشة -الألمعية-: والله لا أهجر إلا اسمك يا رسول الله! أما أنت ففي القلب وفي الكيان كله).
هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
إخوتاه! أسألكم بالله أن تتدبروا معي هذه الكلمات لتعرفوا الفرق الواضح بين زوجين، بين زوج يقول: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وبين زوج يقول: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين شتان شتان بين زوج عبوس غاضب سباب لعان فاحش بذيء، يرى الزوجة بين يديه شيطانة، فيقول: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وبين زوج مسلم تقي نقي يتقي الله في امرأته وأقرب الناس إليه، ويرى المرأة ريحانة أسيرة عنده كما قال المصطفى، فيقول: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين فاحذر -أخي الزوج- من ظلم المرأة، فورب الكعبة إن ظلمتها فإن الذي سينتصر لها هو الله، ولو استطعت أن تخدع المرأة بعلاقاتك، وأن تظلمها باتصالاتك بالقوانين الوضعية الجائرة الفاجرة، فاعلم بأن الذي سيقتص منك للمرأة الضعيفة هو الله جل وعلا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرج على حق الضعيفين، على حق اليتيم، وعلى حق المرأة، فإن المرأة أسيرة عندك، وإن المرأة ضعيفة، فالله الله في حق الضعيفين: اليتيم والمرأة! فامتثل وصية نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم، فوالله مهما أغدقت على زوجتك من الأموال، فإن سوء الخلق وبذاءة الألفاظ والكلمات الجارحة النابية ستفسد المودة، وستقطع أواصر المحبة بينك وبين امرأتك، ولو أغدقت عليها من الأموال ما أغدقت.(120/14)
المعاونة على طاعة الله والنصح والتعليم
ثانياً: من أعظم مفاتيح قلب الزوجة: العون على طاعة الله والنصح والتعليم: ذكرت أن سر الضنك في البيوت هو ابتعاد البيوت عن طاعة الله، وعن منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغفلة عن الغاية التي من أجلها أقيمت البيوت ابتداءً، بل وعن الغاية التي من أجلها خلقت البشرية كلها {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والزوج المسلم الصالح التقي هو الذي يعين زوجته على طاعة الرب العلي هو الذي يحثها على الصدقة ولو من ماله وهو الذي يذكّرها بقراءة القرآن وهو الذي يسألها دوماً عن الصلوات وهو الذي يسألها دوماً عن قراءة الكتب الشرعية عن سماع الأشرطة العلمية للمشايخ والدعاة هو الذي يتابعها ويقوّم عوجها بالأسلوب اللطيف الحسن والكلمة الحانية.
إن الزوج الصالح المسلم لا ينظر إلى البيت على أنه مكان للطعام والشراب، والتناكح والتكاثر فحسب، فليست هذه هي الغاية من إقامة البيوت في الإسلام، فإن الغاية من إقامة البيوت أن نبذر في حقل الإسلام وأرضه بذرة صالحة للعبودية والتوحيد، فالزوج المسلم هو الذي يعين زوجته على طاعة الله، وهو الذي يبين لها أن البيت ليس مكاناً للطعام والشراب والذهب والزينة والفسحة والأولاد فحسب، لا، بل إن البيت مكان للطاعة، فيحث الزوج زوجته على قيام الليل، وما أحلى وأرق وأجمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وابن ماجة وغيرهما، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل، فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء).
فالزوج يفتح قلب امرأته بأن يكون عوناً لها على الطاعة، وأنا أحذرك -أيها الزوج- من أن يكون بيتك دوماً وكراً للمعاصي والشيطان، فأنا أعلم يقيناً ما أقول.
أعلم أن كثيراً من بيوت المسلمين الآن لا تعرف للإيمان طعماً، ولا لليقين حلاوة، ولا للصلاة سبيلاً، ولا للقرآن طريقاً.
أعلم أن كثيراً من بيوت المسلمين الآن -ورب الكعبة- لا يصلي فيها رجل أو امرأة، ولا شاب ولا فتاة، بل تسمع في هذه البيوت في الليل والنهار مزمار الشيطان.
لا ترى في هذا البيت قرآناً ولا قياماً، ولا ذكراً ولا تسبيحاً ولا صلاة، فما الذي ينتظر من نبات ينبت في أرض هذه البيئة؟! هل ينبت الورد؟! هل ينبت الفل؟! هل ينبت الياسمين؟! لا والله، بل لن ينبت في هذه الأرض إلا الشوك، فمحال أن تزرع زرعاً وأن تجني ثمرة، بل إن زرعت شوكاً لا بد أن تجني شوكاً، فيخرج الولد منحلاً، وستخرج الفتاة متبرجة عارية، ومحال بعد فترة أن يسيطر الوالدان على هؤلاء الأولاد.
فلذلك أخي: ازرع من أول لحظة في هذا البيت الطاعة والعبودية لله جل وعلا، لتستطيع بعد ذلك أن تسيطر على هذا البيت بأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه.
فالبيت ليس مكاناً للطعام والشراب والزينة فحسب، بل هو مكان للطاعة مكان للعبادة، فلا ينبغي أن يكون البيت المسلم مقبرة لا يصلى فيه، ولا يذكر أهل البيت فيه ربهم جل وعلا، ولا يقيمون فيه الليل، بل لا ينبغي أن يكون البيت المسلم في كل لحظات الليل والنهار لا تسمع فيه إلا غناء الشيطان، لا تسمع فيه صوت القرآن، فهذا بيت كالمقبرة، أهله أموات وإن تحركوا بين الأحياء.
والله إن بيتاً يقوم أهله الليل لله، ويقرأ أهله القرآن لله، ويقيم أهله الصلاة لله، ويمتثل فيه الزوج أمر الله، ويأمر امرأته بطاعة الله وبطاعة رسول الله، والله إنه لبيت قريب من الله، حبيب إلى الله، حبيب إلى رسول الله، تتمنى أية زوجة مسلمة أن تقر وتعيش فيه، وأن تسعد به، وإن بيتاً لا يعرف الله لا يستحق أن تعيش فيه امرأة تعرف الله جل وعلا.(120/15)
الإنفاق وعدم البخل
ثالثاً: الإنفاق وعدم البخل: فمن أعظم مفاتيح قلب الزوجة: أن يكون الرجل سخياً كريماً، من غير سرف ولا تبذير، فالسخاء بلا تبذير، والإنفاق بلا تقتير من أعظم مفاتيح قلب الزوجة، فالزوجة تبغض بكل قلبها وكيانها زوجها البخيل، لاسيما إن كان ممن أنعم الله عليه بالمال، فإنها تبغضه ولا تحبه أبداً.
ومن رحمة الله جل وعلا أن نفقة الزوج على زوجته واجبة عليه، ولكنه إن صحح النية كان له بها أجر من الله، وهي له صدقة، فلينفق الزوج على امرأته إن كان ميسوراً على أحسن حال، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
واسمع إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول المصطفى: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار أنفقته على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك -انظر إلى هذه الأقسام الأربعة- أعظمها أجراً عند الله الذي أنفقته على أهلك)، سبحان الله! بل وفي الحديث الذي روى البخاري ومسلم من حديث أبي مسعود البدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة).
وفي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر وهو حديث صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، فمن أعظم مفاتيح قلب الزوجة أن يكون الرجل سخياً كريماً، من غير إسراف ولا تبذير، فإن: {الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] وهذا بنص قرآن رب العالمين.(120/16)
حق الفراش
رابعاً: حق الفراش، وهذا من أوجب واجبات الزوج، كما ذهب إلى ذلك جمهور أهل العلم، قال الإمام ابن حزم طيب الله ثراه وغفر له: فرض على الرجل أن يجامع امرأته، وأقل ذلك أن يجامعها في كل طهر مرة، ومن أهل العلم من قال: بأن أقل ذلك أن يجامع الرجل زوجته في كل أربعة أيام مرة، ومنهم من قال: في كل أربعة أشهر مرة، ومنهم من قال: في كل ستة أشهر مرة، والذي أود أن أؤكد عليه الآن، وأبينه لأخواتي وإخواني، أن لقاء الرجل بامرأته ما هو إلا خلوة في لحظات كريمة طيبة في الحلال، يستمتع فيها كل زوج بالآخر؛ للإحصان والعفاف، فإن تم اللقاء في ظلال الهدي النبوي بآداب الحبيب المصطفى كان اللقاء من أعظم أسباب المودة والمحبة، وتدعيم أواصر العلاقة بين الرجل وامرأته، وشتان شتان بين رجل مسلم ذكي ألمعي أوصل امرأته إلى أن تنتظر منه هذه اللحظات، التي يذوب فيها كل زوج في الآخر، ويسكن فيها كل زوج للآخر، ويصبح فيها كل زوج لباساً للآخر.
فرق بين زوج أوصل امرأته إلى أن تنتظر منه هذه اللحظات، وإلى أن تنتظر منه هذا اللقاء، وبين رجل أوصل امرأته إلى أن تنفر من هذه اللحظات، وأن تكره هذا اللقاء؛ لأنها تشعر أنها تقبل على جولة من جولات المصارعة الحرة، تستجير الله جل وعلا ألا تختنق في هذه الجولة أنفاسها، وألا تحطم فيها عظامها.
فلنتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم، ولنتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعجب أخي الكريم! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لنا آداب الفراش واللقاء، بأبي هو وأمي، فورب الكعبة ما ترك خيراً إلا ودلنا عليه، وما ترك شراً إلا وحذرنا منه، فإن تم اللقاء في ظلال الهدي النبوي والخلق النبوي الرفيع العالي كان اللقاء سبباً رئيساً من أسباب المحبة والمودة، والسعادة التي تظلل سماء البيت بين الزوجين.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحكمة والرحمة.(120/17)
التطيب والتجمل
خامساً: التطيب والتجمل: قد يظن بعض الأزواج أن الزينة والتطيب والتجمل واجب على الزوجة فقط، أما هو فلا يعنيه ذلك، وهذا وهم، بل ومعصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من بيوت فسدت ودمرت بسبب إهمال الرجل لرائحته لرائحة فمه لرائحة عرقه لرائحة ثيابه! وكم من شكاوى ورسائل من النساء بخصوص هذا! فما الذي يكلف الرجل إن أراد أن يقبل على امرأته أن يطيب فمه بالسواك أو بالفرشاة، وأن يضع قليلاً من العطر والطيب، فإن العطر من ألطف وسائل المخاطرة بين الرجل والمرأة، وهذا هدي صحابة النبي رضوان الله عليهم وصلى الله على أستاذهم ومعلمهم، فلقد كان الصحابة يحبون أن يتزينوا لزوجاتهم، كما يحب أحدهم أن تتزين له زوجته وامرأته.
كما روى ابن أبي حاتم وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لأحب أن أتزين لامرأتي، كما أحب أن تتزين لي امرأتي)، ومهما كان الزوج قوياً فإن المرأة بلا نزاع تنفر نفوراً شديداً من رائحته الكريهة، وعرقه وعدم نظافته وتطيبه.
فمن مفاتيح قلب الزوجة أن يكون الزوج دائماً نظيفاً طيباً جميلاً، فإن الطيب كما ذكرت من ألطف وسائل المخاطرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب، ويكثر من وضع الطيب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والنسائي من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة).(120/18)
الأمانة وحفظ الأسرار
سادساً: الأمانة وحفظ الأسرار: فمن مفاتيح قلب الزوجة -أيها الأزواج- أن يكون الزوج أميناً، حافظاً لأسرار امرأته، لاسيما ما يجري بينهما في الفراش، فهناك صنف من الأزواج يتباهى بإفشاء أسرار زوجته، وهذا مما لا شك فيه أنه يفسد العلاقة الزوجية بين الزوجين، ففي صحيح مسلم وسنن أبي داود واللفظ لـ أبي داود من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه امرأته، ثم يكشف سرها، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه).
وقد يحدث بين الزوج وامرأته مشاكل، وفي لحظات الغضب قد تنفلت من المرأة بعض الكلمات، وقد تنفلت من الرجل بعض الكلمات، فالزوج الأمين العاقل هو الذي لا يفشي السر، والزوجة العاقلة هي التي لا تهتك السر، ولا تخرج هذا الخلاف خارج حدود الدار، فإن خرج الخلاف خارج حدود الدار ولو لأهل الزوجة لأبيها أو لأمها فإن المشكلة قد يصعب بعد ذلك حلها، لكن مهما كانت ضخامة المشكلة ما دامت محصورة في حدود الدار وفي حدود البيت بين الرجل وامرأته، فإن لحظة عتاب حانية وديعة يزول ويذوب هذا الجليد بين الزوجين، وأما إن خرجت خارج البيت، وتدخلت أم الزوجة أو أم الزوج أو والد الزوجة أو والد الزوج تفاقمت المشكلة، وقد يصعب الحل، ونسأل الله أن يرزقنا الحكمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن أجمل وأرق ما قرأت في حياتي: أن رجلاً من السلف أغضبته امرأته، وفشل المصلحون من الوسطاء العقلاء في الصلح بينهما، وقد أحل الله الطلاق، فصمم الزوج على أن يطلق امرأته، فلما سمع المصلحون ذلك قالوا له: ما الذي يريبك منها؟! أي: ما هي الأسباب التي جعلتك تتخذ هذا القرار في طلاقها؟ اسمع ماذا قال هذا الرجل العاقل.
لما طلقت المرأة ذهب إليه أصحابه في بيته وقالوا له: ما الذي كان يريبك منها؟! لماذا طلقتها؟! فقال الرجل المسلم التقي: (ما لي ولامرأة غيري، لم تعد زوجة لي) أي: فكلامي الآن في حقها غيبة.
أين هذه الأخلاق السامية الرقراقة الراقية؟! أين من يتقي الله في امرأته؟! لا أقول حتى بعد طلاقها، بل وهي معه في بيته.
فاعلم أخي: أن الأمانة وحفظ الأسرار من أعظم مفاتيح قلب الزوجة.(120/19)
إكرام أهل الزوجة
سابعاً: إكرام أهلها: فالزوج المسلم الكريم يكرم زوجته بإكرامه لأهلها، فكما تحب من زوجتك أن تكرم أهلك فواجب عليك أن تكرم زوجتك بإكرامك لأهلها، ففي الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
بل وستعجب إذا علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرم أهل نسائه بل وأصدقاء نسائه، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم مثلما غرت من خديجة -مع أنها لم ترها- تقول: من كثرة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة ويقطعها ثم يقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة) يكرم النبي صلى الله عليه وسلم أهل نسائه وصديقات نسائه بعد الموت! فكيف بإكرامه لهن في حياتهن رضوان الله عليهن؟! إذاً: من مفاتيح قلب الزوجة -أيها الزوج- أن تكرم أهلها، وأن تحسن إلى والديها، وألا تسب أباها وأمها وألا تسب أهلها، فليس هذا من أخلاق الإسلام ولا من أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام.(120/20)
الغيرة المحمودة
ثامناً: الغيرة المحمودة: فمن صفات الزوج كامل الرجولة أن يغار على زوجته، وقد أثنى الإسلام على الرجل المسلم الغيور، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يغار)، لا تعطل صفة الغيرة عند الله، ولا تكيف ولا تمثل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن من غيرة الله أن حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن).
وفي صحيح البخاري أيضاً: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: والله لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فتعجب الناس من كلام سعد، ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (أتعجبون من غيرة سعد؟! والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، ولكن هذه الغيرة لها ضوابط وحدود، فهي تنقسم إلى قسمين: غيرة محمودة، وغيرة مذمومة.
وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي بسند حسن: عن جابر بن عنبرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة).
فليضع الزوج المسلم هذا المقياس النبوي بين يديه، حتى لا يقع في إفراط أو تفريط، وهذا المقياس الدقيق بلا إفراط أو تفريط من أعظم مفاتيح قلب الزوجة.(120/21)
الحلم والعفو
تاسعاً: الحلم والعفو: فمحال أن تعيش البيوت من غير مشاكل على طول الخط، فلقد وقعت المشاكل في بيوت النبي المصطفى، بل من أعجب ما قرأت: ما ثبت في صحيح البخاري أنه حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عائشة كلام، فغضبت عائشة فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (هل تقبلين أبا بكر حكماً بيننا؟! قالت: نعم، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فلما جلس الصديق قال النبي لـ عائشة: تتكلمي أم أتكلم أنا؟ فقالت عائشة: تكلم ولا تقل إلا حقاً؛ فانتفض الصديق رضي الله عنه لهذه الكلمة، ولطم عائشة على وجهها لطمة أدمت فمها -نزف الدم من فمها- فقامت عائشة تجري وتختبئ خلف رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لهذا دعوناك وما بهذا أمرناك يا أبا بكر!).
هذا بيت من بيوت النبي صلى الله عليه وسلم.
فيا من يعيش في أحلام وخيال ويعتقد أن الحياة الزوجية لا يمكن أن تتعكر أبداً، ولا يمكن أن تنتابها من آن لآخر رياح سموم، هذا زوج يعيش في الأوهام والأحلام، لكن إن اعتقدنا أن البيت ربما يعكر من آن لآخر بمشكلة خارجية أو مشكلة داخلية، فالذي يجب على الزوج في هذه الحالة أن يكون حليماً عفواً، فإن أخطأت الزوجة في حقه، وجاءت لتعتذر ولتندم على ما بدر منها فيجب عليه أن يعفو عن امرأته فوراً، ولا ينبغي أن يستكبر وأن يستعلي، وأن ينتفش وينتفخ، وأن يتمرد ولا يترك الزوجة تتودد إليه وهو مكابر عنيد.
وأحياناً -كما أقرأ في الرسائل والمكالمات- تقول المرأة لزوجها: أنا مستعدة أن أقبل قدمك، وهو يستعلي وينتفخ وينتفش، وكلما سمع كلمات الندم والأسف انتفخ، وظن أنه كالبالونة ينبغي أن يطير في الهواء، ولاينبغي أن يساكن هذه المرأة الضعيفة في هذا البيت، وهذا ظلم وكبر! وهذا زوج مملوء بالكبر وهو لا يدري، (فالكبر بطر الحق، وغمط الناس)، أي: ازدراء الناس، وأقرب الناس إليك هي امرأتك، فإن وقعت المشكلة وجاءت المرأة لتتأسف ولتندم، فيجب على الزوج وجوباً أن يكون حليماً عفواً، فإن الكمال لله وحده، وإن العصمة لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه)، وما أحلى وأجمل قول الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].(120/22)
المشاركة في تحمل مسئولية تربية الأبناء
وأختم مفاتيح قلب الزوجة: بوجوب تحمل الزوج مسئوليته في تربية الأبناء: فإن وظيفة الزوج لا تتمثل في أن يكون الزوج ممثلاً لوزارة المالية فحسب، وأن يعتقد أن وظيفته أن يقدم الأموال والطعام والشراب، وأن يهمل تربية الأبناء والبنات، وألا يسأل عن أولاده، ولا عن بناته بحجة أنه مشغول إلى شيشته أو إلى رأسه في العمل، فهذا لا يجوز، فإن هذا تملص من مسئولية كبيرة سيسأل عنها بين يدي الله جل وعلا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وكما في الصحيحين من حديث ابن عمر: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته -ثم قال: والرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته).
وأنا أقول: إن جلوس الرجل في بيته بين أولاده، ولو كان صامتاً لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فكيف لو تكلم، فذكّر بالله، وذكّر برسول الله؟! إن عجز الزوج عن أن ينصح وأن يربي الأولاد لأنه لم يتعلم، ولم يقف على الدليل من كتاب الله وسنة رسوله، فمرحباً بالزوج مع امرأته وأولاده في الأحضان التربوية الطاهرة في بيوت الله، ليجلس الزوج مع امرأته وأولاده بين يدي أهل العلم المتحققين بالعلم الشرعي، ليسمع الزوج وامرأته قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً: هذا هو الطريق، فلا سعادة للبيوت إلا إذا عادت من جديد إلى منهج الله، وإلى هدي رسول الله.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وجزاكم الله خيراً.(120/23)
رمضان موسم الطاعات [1]
لقد فضل الله عز وجل بعض الأماكن على بعض، وبعض المخلوقات على بعض، وبعض الأزمنة على بعض، ومن تلك الأزمنة التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان؛ فهو أفضل شهور السنة، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، إذاً موسم عظيم للطاعات والقربات، فيجب على كل مسلم أن يستغله في طاعة الله، وألا يكون من المحرومين.(121/1)
من فضائل شهر رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا المكان الطيب في هذا اليوم الطيب الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا جميعاً مع سيد النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: رمضان موسم الطاعات، هذا هو عنوان لقائنا في هذا اليوم الكريم الميمون المبارك، في يوم الجمعة الذي وافق أول أيام هذا الشهر الكريم، الذي هو ضيف يحل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ويقبل علينا ومعه الخير كله، ولم لا وهو شهر الرحمات؟! ولم لا وهو شهر البركات؟! ولم لا وهو شهر تكفير الذنوب والسيئات؟! ولم لا وهو شهر الصيام والقرآن؟! ولم لا وهو شهر الجود والإحسان؟! ولم لا وهو شهر العتق من النيران؟! أسأل الله أن يعتقنا من النار، وأن يجعلنا من الفائزين في هذا الشهر الكريم؛ إنه على كل شيء قدير.
أيها الأحبة الكرام! سوف أركز الحديث في العناصر التالية: أولاً: رمضان شهر الخير والبركة.
ثانياً: رمضان شهر القرآن.
ثالثاً: رمضان شهر القيام.
رابعاً: رمضان شهر الإنفاق والإحسان.
وأخيراً: رمضان شهر التوبة.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون من الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].(121/2)
البركات والخيرات في شهر رمضان
أولاً: رمضان شهر الخير والبركة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أقبل شهر رمضان يقول: (أتاكم شهر رمضان؛ شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم).
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة)، وفي رواية مسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الرحمة)، وفي رواية الترمذي: (إذا كان أول ليلة من رمضان غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وذلك حتى ينقضي رمضان) اللهم اجعلنا من عتقائك من النار في هذا الشهر الكريم يا عزيز يا غفار! وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة -أي: وقاية- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم! وفرحنا يوم لقائك يا أرحم الراحمين! فالصائم يفرح بأن يسر الله له الصيام فصام، ويفرح بأن أعانه الله على الصيام فصام، وإذا لقي ربه جل وعلا فيفرح الفرحة الكبرى التي لا شقاء ولا حزن بعدها أبداً، فيتمتع بالنظر إلى وجه ربه الكريم، ومن يسر الله له ذلك فقد سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، نسأل الله أن ينضر وجوهنا بالنظر إلى وجهه الكريم؛ إنه على كل شيء قدير.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) إيماناً بالله جل وعلا واحتساباً للفضل والأجر من عند الله عز وجل، فأبشر أيها الموحد! أبشر أيها الصائم لله في رمضان! ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً فيا من جاذبتك أشواك المعاصي قبل رمضان! ويا من زلت قدمك في بحر الذنوب قبل رمضان! ها هو شهر الطهر قد جاء، وها هو شهر الرحمة قد أهل عليك، وها هو شهر المغفرة قد أقبل عليك، فهيا ضع جبينك وأنفك في التراب ذلاً لمولاك، واطرح قلبك بانكسار بين يدي العزيز الغفار، وقل له: يا رب! يا رب! يا رب ضيعت فيما مضى، واعترف له بذنبك وقل: أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته فزعاً كئيبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فما لي الآن لا أبدي النحيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري فلم أرع الشبيبة والمشيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا ويا خجلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا ويا حزناه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا ويا خوفاه من نار تلظى إذا زفرت وأفزعت القلوبا ألا فاقلع وتب واجهد فإنا رأينا كل مجتهد مصيبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا أنا العبد الفقير ظلمت نفسي وقد وافيت بابكم منيبا أنا المقطوع فارحمني وصلني ويسر منك لي فرجاً قريبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً -بالله- واحتساباً -للأجر من الله جل وعلا- غُفر له ما تقدم من ذنبه) الله أكبر! يا له من فضل! ووالله لا يُرحم منه إلا الهالك الخاسر، ففي الحديث الذي رواه أصحاب السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف عبد أدرك رمضان ثم انسلخ رمضان ولم يغفر له) فمن الآن اصدق الله عز وجل، وعاهده على ألا ينسلخ رمضان من بين يديك إلا وقد غفر الله عز وجل لك، وألا يخرج إلا وأنت حريص مقيم على طاعة الله، وعلى كل عمل يرضي الله جل وعلا في رمضان، وإياك! أن تنشط للعبادة في النصف الأول فإذا أقبل عليك النصف الثاني من رمضان تكاسلت وانشغلت بالمباريات والمسلسلات والأفلام! فأحذر نفسي وإياك أخي الحبيب! وأحذر نفسي وإياك يا أختاه! ألا نضيع العمر أمام المسلسلات، وأمام الفوازير والأفلام، فقد ضيعنا الأيام قبل ذلك، فوالله! ثم والله! لا نضمن أن نصوم رمضان القادم؛ فانظر إلى آبائك وأحبابك وإخوانك الذين كانوا معك في رمضان الماضي أين هم؟! لقد تركوا الأهل تركوا الأحباب تركوا الدنيا، وهم الآن بين يدي الله، ويتمنى الكثير منهم أن يرجع يوماً إلى الدنيا ليصوم لله، أو ليصلي ركعة لله، أو ليفتح كتاب الله، أو ليتصدق على فقير، أو ليزور مسكيناً، أو ليصل رحمه، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:97 - 100].
نام هارون الرشيد على فراش الموت فبكى، وقال لمن حوله من أصدقائه وأقربائه ووزرائه: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى القبر فنظر إليه وبكى، ورفع رأسه إلى السماء وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ثم رفع رأسه إلى السماء ثانية وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.
أيها الأحباب! لا أريد أن أطيل مع كل فقرة من هذه الفقرات؛ لأعرج على بقية العناصر، إن شاء الله جل وعلا.(121/3)
فضل قراءة القرآن في شهر رمضان
ثانياً: رمضان شهر القرآن.
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
أيها الأحبة! كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا دخل عليهم رمضان فرغوا جل وقتهم لقراءة القرآن، حتى قال الزهري: (إذا دخل رمضان فإنما هو لقراءة القرآن، ولإطعام الطعام).
وكان إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذا دخل شهر رمضان فرغ جل وقته لقراءة القرآن، وترك قراءة الحديث النبوي الشريف.
فاقرأ القرآن، ولا يخرج عنك الشهر إلا وقد قرأت القرآن على أقل تقدير مرة؛ فإن السلف رضوان الله عليهم منهم من كان يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليال مرة، فلا تضيع رمضان إلا وقد قرأت كتاب الله كله مرة على أقل تقدير، فإن قرأت القرآن أكثر من ذلك فأنت على خير، واسمع ماذا قال لك حبيبك المصطفى -والحديث رواه الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن مسعود - قال عليه الصلاة والسلام: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة -أي: مع الملائكة- والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فللقارئ أجر على قراءته، وأجر على مشقته وصبره على هذه المشقة.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد -والحسد هنا بمعنى: الغبطة- إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار).
فيا أيها الحبيب الكريم! اجعل لنفسك في رمضان وقتاً لقراءة القرآن، وضع لنفسك -من اليوم- برنامجاً عملياً للطاعة، واعلم أن أعلى هذه الطاعات في رمضان أن تفرغ جل وقتك لقراءة القرآن.
ووالله لقد هجرت الأمة القرآن في هذه الأيام هجراً مروعاً، والهجر أنواع كما قال ابن القيم طيب الله ثراه: هجر التلاوة، وهجر السماع، وهجر التدبر، وهجر العمل بأحكامه، وهجر التداوي به.
ويوم أن هجرت الأمة القرآن أذلها الله لمن كتب الله عليهم الذل والذلة، ولا عزة ولا كرامة لهذه الأمة إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها وشرفها وهو كتاب ربها جل وعلا؛ كما قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124] وها نحن نرى الأمة تعيش عيشة الضنك والشقاء في كل مجال من مجالات الحياة، وما ذاك إلا يوم أن أعرضت عن كتاب الله، أسأل الله جل في علاه أن يرد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(121/4)
فضل الصلاة والقيام في شهر رمضان
ثالثاً: رمضان شهر القيام، فلا تنشغل بالفوازير والمسلسلات والأفلام، ولكن انشغل بطاعة الرحيم الرحمن، ففي هذا الوقت من الليل يصلي المسلمون صلاة القيام، وصلاة التراويح، ومن السنة ألا تنصرف من صلاة التراويح حتى ينصرف الإمام من الصلاة، فلا تصل ركعتين وتنصرف لتتابع مسلسلاً أو فلماً من الأفلام، بل صبر نفسك على طاعة الله، فلقد مضى عمرك وقضيت الساعات الطوال أمام التلفاز قبل ذلك، فلا تضيع دقيقة في هذا الشهر، وكن في كل لحظة في طاعة لله، حتى وأنت في عملك انشغل بالأذكار، وانشغل بكلمة التوحيد، وانشغل بالصلاة على محرر العبيد، ولا تضيع دقيقة، وليكن لسانك رطباً في كل دقيقة بذكر الله عز وجل، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فانظر إلى فضل صلاة التراويح: (من قام) أي: من صلى صلاة القيام، أو صلاة التراويح.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وليلة القدر هي في العشر الأواخر في الأيام الوترية، فاحرص على أن تقيم العشر كلها لله، ليرزقك الله ليلة القدر، فإن رزقت بهذه الليلة سعدت في دنياك وأخراك، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء} [الحديد:21] (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
ولا ينبغي أن أنسى أن أذكر إخواني بالمحافظة على بقية الصلوات في نهار رمضان في جماعة، فلا تتخلف في رمضان عن صلاة في بيت الله إلا لعذر شرعي، واحرص على الجماعة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط!).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ -أي: هل يبقى على جسده شيء من القذر؟ - قالوا: لا، يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).
وفي معجم الطبراني الصغير والأوسط بسند حسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه آله وسلم قال: (تحترقون تحترقون -أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فإذا فعلت ذلك تنام طاهراً مبرأً.
إنه فضل الصلاة!! وأحذر نفسي وأحبابي من تضييع صلاة الفجر والعصر؛ لأن كثيراً من أحبابنا يقضون الليلة أمام السهرات الرمضانية التلفزيونية، ويضيعون صلاة العصر؛ لأنهم يعودون بعد العمل فينامون، فتضيع صلاة العصر طيلة أيام الشهر، فأحذر نفسي وأحبابي من هذا التفريط؛ أما صلاة الفجر فمن ضيعها بصفة مستمرة فيخشى عليه النفاق، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء).
وفي صحيح البخاري من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من ضيع صلاة العصر فقد حبط عمله) وهذا حديث في أعلى درجات الصحة.
أي: من ضيعها من غير عذر شرعي؛ فإن كنت متعباً وضبطت ساعة الوقت على أن تقوم لصلاة العصر فحبس الله روحك ونفسك فلم تستيقظ فلا حرج عليك إن شاء الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفريط في النوم) لكن أرجو ألا تكون معتاداً لذلك، وعليك أن تحرص، والله جل وعلا يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فاحرص على صلاة الفجر والعصر والعشاء في جماعة في بيت الله جل وعلا، فضلاً عن بقية الصلوات، أسأل الله أن يعيننا وإياكم على الصلاة في جماعة في رمضان وفي غيره، وعلى قيام ليله، إنه على كل شيء قدير.(121/5)
فضل الإنفاق والجود والإحسان في شهر رمضان
رابعاً: رمضان شهر الإنفاق والإحسان، فقد روى البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان.
أخي الحبيب! أخرج زكاة مالك في رمضان لتنال الأجر المضاعف من الرحمن، وأكثر من الصدقة في رمضان، وتعرف على بيوت الفقراء والمساكين في رمضان، وعليك أن تجعل ضمن برنامج الطاعة في رمضان نصف ساعة لتذهب إلى بيوت الفقراء والمساكين في الليل البهيم؛ لتدخل إلى قلوبهم البسمة والسعادة والسرور؛ ليملأ الله قلبك سعادة في الدنيا والآخرة، فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فوالله لن يقلَّ مالك من الصدقة.
روى أحمد بسند صحيح من حديث أبي كبشة الأنماري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث أقسم عليهن -الرسول يقسم وهو الصادق الذي لا يحتاج إلى قسم-: ما نقص مال عبد من صدقة، وما ظُلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) فأنفق أيها الحبيب! يا من منَّ الله عليك بالمال، أطعم الطعام في رمضان، وليس بالضرورة أن يكون إطعام الطعام للفقراء فحسب في بيوت الله، وإنما قدم الطعام ليأكل منه الغني والفقير والمسافر والمقيم، فأطعم الطعام فإن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وهذا شطر من حديث معاذ الصحيح الذي فيه: (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة -أي: وقاية- والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) فأكثر من الصدقة والإنفاق، فقد جاء في الصحيحين مرفوعاً: (وما من يوم إلا وينادي ملكان من السماء؛ فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الثاني: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) والله عز وجل يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فمالك يا ابن آدم! تقول: مالي مالي مالي؟، الدولارات، والعمارات، والسيارات! (وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟!).
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه فقال: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ -أي: من منكم يحب مال الورثة بدرجة تفوق حبه لماله الخاص؟ - قالوا: ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر) فهيا نافس أهل الخير على قدر جهدك وطاقتك، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فابحث عن الفقراء والمساكين وأطعمهم؛ فإن هناك من بيوت المسلمين من لا يذوق طعم اللحم في العام إلا مرة أو مرات قليلة، في الوقت الذي يرمى فيه اللحم في كثير من بيوت المسلمين بعد موائد الطعام، ولا أنسى أن أذكر مرة أخرى برجل طيب في مدينة المنصورة الطيبة، وقد ذكرت قصته في شريط (الإسلام وسعادة البشرية) ذلكم الرجل الأستاذ الدكتور الذي أصيب بمرض في قلبه، وانطلق هنا وهنالك عند الأطباء ليبحث عن دواء وعلاج، وأخيراً قرر السفر إلى لندن في بريطانيا، وأجريت له الفحوصات، وبذل له الأطباء العلاج، وقرروا له جراحة عاجلة، فقرر هذا الرجل الطيب المسلم أن يعود مرة أخرى إلى المنصورة ليلتقي بأهله وأحبابه، وكان يقول: ظننت أن هذه الجراحة سينتهي بها الأجل، فأحببت أن أرى الأهل والأحباب قبل أن ألقى الله عز وجل، فعاد إلى المنصورة، وقبل السفر إلى لندن بأيام كان يجلس مع صديق له في مكتبه الخاص إلى جوار رجل يبيع اللحم، وفجأة لفت نظره وشد انتباهه مشهد مؤلم يحطم القلب، رأى امرأة كبيرة في السن تلتقط العظم واللحم النيئ الذي يلقى على الأرض من جوار هذا الرجل الذي يبيع اللحم، فنظر إليها، وتأثر بها! ونادى عليها وقال: ما تصنعين يا أماه؟! قالت: والله يا بني إن أولادي ما ذاقوا طعم اللحم منذ ستة أشهر، فأردت أن أجمع لهم بعض العظام مع بعض اللحم النيئ، فتأثر الرجل، ورقت عينه، وخشع قلبه، وانطلق إلى هذا الجزار وقال: هذه المرأة إن أتتك في أي وقت فأعطها ما تشاء من اللحم، وأخرج له على الفور مالاً يعادل قيمة اللحم الذي ستأخذه في سنة كاملة، فبكت المرأة وتأثرت، وعادت إلى البيت في غاية السعادة والسرور بقطع اللحم الذي ستسعد بها أولادها وأبناءها، وعاد الرجل إلى بيته سعيداً فرحاً، وهو صاحب القلب المريض الذي لا يقوى على الحركة، ولكنه حس بالنشاط والحيوية، وحس بالسعادة والانشراح، ولما دخل البيت قابلته ابنته فقالت: يا أبت! ما شاء الله؛ أراك نشيطاً سعيداً، فقص عليها ما قد كان، فبكت البنت وقالت: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك كما أسعدت هذه الفقيرة وأبناءها، واستجاب الملك دعاء الفقيرة ودعاء الفتاة، والتفت الجميع إلى خفته وحيويته ونشاطه فتعجبوا، وقال: أشعر -ولله الحمد- بأن الله قد عافاني، ولا أشعر بأي عرض من الأعراض التي كنت أشعر بها قبل ذلك، فصمم الجميع على سفره إلى لندن، وهنالك لما نام بين يدي طبيبه ليجري له الفحوصات مرة أخرى فزع الطبيب واندهش، وقال له: عند أي الأطباء في مصر قد تعالجت؟! فقال: تاجرت مع الله فشفاني الله عز وجل! فالصدقة -يا إخوة- تطفئ الخطيئة، وتطفئ غضب الرب جل وعلا، فلا تحتقر أمر الصدقة، والله الذي لا إله غيره! إن الله سيدفع بالصدقة عنك من الأذى والمصائب والبلاء ما لو عرفته لأنفقت لله في الليل والنهار، فضع ضمن برنامج رمضان الصدقة، فتصدق، وأخرج زكاة مالك؛ لأن الله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] والمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، كما قال الشاعر: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبينها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها كم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى من عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها قال جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:45 - 46].
وقال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن فأنفق أيها الحبيب! وتصدق على الفقراء والمساكين؛ فإن رمضان شهر الإنفاق والجود والإحسان، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأواصل ما تبقى من عناصر هذا اللقاء بعد جلسة الاستراحة في عجالة إن شاء الله تعالى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(121/6)
فضل التوبة في شهر رمضان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد.
فيا أيها الأخ الكريم! وأخيراً: رمضان شهر التوبة، فلا تضيع هذا الموسم، ولا تفرط في هذه الفرصة، ويا من أسرفت! تب إلى الله، ويا من ضيعت وفرطت عد إلى الله، ولا تقل: لقد وقعت في كبائر الذنوب، فإن الله عز وجل أطيب وأكبر وأعظم وأجل، فعد إليه، وعاود الطرق على باب التوبة، فإن الله جل وعلا عند ظن عبده به، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍٍ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقرب منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فانظر إلى فضل الله! وانظر إلى جوده وكرمه.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ينزل رب العزة كل ليلة إلى السماء الدنيا) نزولاً يليق بكماله وجلاله؛ فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، كما قال سبحانه عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] (ينزل رب العزة كل ليلة إلى السماء الدنيا ويقول: أنا الملك، من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) لا يزال ربك ينادي عليك وأنت نائم، وأنت في غفلة -إلا من رحم الله جل وعلا- فاستيقظ في الوقت الذي ينادي عليك فيه رب العزة وملك الملوك، فإن قال: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ فقل: عبدك الذليل الضعيف الماثل بين يديك يقر لك بذنبه، ويعترف لك بجرمه، ويطرح قلبه بذل وانكسار بين يديك يا عزيز يا غفار! قم في هذا الوقت؛ فإن الله لا يزال كذلك حتى يضيء الفجر، فلا تقنط ولا تيأس أبداً، لأن الله يعلم ضعفك وفقرك، ويعلم نقصك، والله عز وجل هو الذي خلقك، وهو الذي يعلم فيك كل هذه الصفات من النقائص، فإن رأى الله عز وجل الندم والأوبة والتوبة منك فرح بك، وهو الغني عنك الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ففي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) إذا طلعت الشمس وعاد الكافر إلى الله فحينئذٍ لن يقبل الله منه الإيمان، وإن عاد العاصي إلى الله فلن يقبل الله منه التوبة، فبادر بالتوبة قبل أن تغرغر، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها؛ فإن الباب مفتوح على مصراعيه في الليل والنهار، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
فيا نادماً على الذنوب أين أثر ندمك؟ وأين بكاؤك على زلة قدمك؟! واحسرتاه إذا جاءك الموت وما أنبت واحسرتاه إذا دعيت في أول رمضان إلى التوبة وما استجبت.
أخي: إن لم تتب اليوم فمتى؟! وإن لم ترجع اليوم إلى الله فمتى؟ إن أقرب غائب ننتظره يا إخوتاه هو الموت، فبادر الآن قبل فوات الأوان، وكن على يقين أن ربك الرحمن لن يغلق باب التوبة في وجهك أبداً ما دمت مقراً له بالذنوب والتقصير والعصيان، فأقلع عن الذنوب، ولير الله منك الندم، وداوم على الاستغفار والعمل الصالح، وتحلل من عباد الله، وتحلل من كل ذنب ارتكبته في حق أخ من إخوانك أو أخت من الأخوات، وهذه هي شروط التوبة النصوح.
أخي الحبيب: بادر الآن قبل فوات الأوان، واعلم بأن الله عز وجل ينادي عليك بهذا النداء العذب الندي فيقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا اللهم اغفر لنا ذنوبنا اللهم اغفر لنا ذنوبنا، لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! يا منجي الهلكى! يا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! نعترف لك بذنوبنا، ونقر لك بجرمنا.
اللهم إنا وقفنا على بابك سائلين، اللهم إنا وقفنا على بابك سائلين، ولمعروفك راجين، ولعظيم فضلك طالبين، فلا تردنا خائبين، ولا من رحمتك يائسين، ولا من عفوك خائبين، اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم أغفر لنا أجمعين! إلهنا! إلهنا! إلهنا! إنا وقفنا على بابك فلا تحرمنا من فضلك وعظيم ثوابك، اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر علينا العيوب، وفرج لنا الكروب، واكشف عنا الهموم، وادفع عنا النقم، وادفع عنا النقم، وادفع عنا النقم، واكس المسلمين العراة، واحمل المسلمين الحفاة، اللهم أعنا على صيام رمضان، اللهم أعنا على قيام رمضان، اللهم أعنا على البذل والجود والإنفاق في رمضان، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، برحمتك يا عزيز يا غفار! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام وعز الموحدين، اللهم اجعل مصرنا واحة للأمن والأمان، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء! اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، اللهم فك سجن المسجونين وأسرى المأسورين واربط على قلوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم اهد أولادنا، اللهم اهد أولادنا، اللهم وأصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم استر نساءنا، اللهم احفظ بناتنا، اللهم احفظ بناتنا، اللهم بارك لنا في أولادنا، اللهم اجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اقبلنا وتقبل وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم! اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم! وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه!(121/7)
رمضان موسم الطاعات [2]
الوقت رأس مال الإنسان، فيجب عليه أن يستغل وقته في طاعة الله عز وجل -وخاصة الأوقات والمواسم الفاضلة كشهر رمضان- فيجب على المسلم أن يستغل رمضان في طاعة الله، وأن يجعل له برنامجاً في المحافظة على وقته، ويجب عليه أن يتعلم أحكامه ومسائله حتى يكون صومه صحيحاً.(122/1)
برنامج المسلم في رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! أسال الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وموضوع الخطبة اليوم مقدمة بمثابة برنامج عملي لرمضان؛ لأن أي إنسان عندما يريد أن يعمل مشروعاً وكان من الذين منَّ الله عليهم بالمال، فإنه يعمل دراسة جدوى، ويدرس المشروع، ويضع برنامجاً زمنياً، كما تخطط الدولة وتقول خطة خمسية، وخطة سنوية، وخطط مستقبلية، فالمسلم الذكي الفطن -أسأل الله أن يجعلنا كذلك- هو الذي يستغل هذا الموسم المبارك؛ فيضع لنفسه برنامجاً عملياً.
فعلى سبيل المثال: أداء الصلاة في جماعة، فتسأل نفسك عندما تستيقظ في الصباح: هل ستصلي الصلوات في جماعة هل عندك صدق في النية؟! إن كنت كذلك فإن الله عز وجل سيسر لك، وفي آخر النهار تحاسب نفسك هل صليت الخمس الصلوات في جماعة؟ ثم تكمل البرنامج بعد ذلك؛ فإذا قلت: للأسف لم أصل الفريضة هذه في المسجد؛ فإن كنت في عذر شرعي منعك من أن تصلي الفريضة في المسجد، كأن نمت مثلاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تفريط في النوم) أو كنت مريضاً، أو لم تسمع الأذان ولم تنتبه، أو نسيت، فهذه أعذار، والنسيان عذر؛ لأن الله قد رفع النسيان عن الأمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) فانظر هل صليت اليوم خمس صلوات في جماعة أو لا؟ وهكذا مع القرآن، فعليك أن تعمل لنفسك برنامجاً مع القرآن، وحدد الأجزاء التي ستقرؤها، فإذا قال قائل: كيف أقرأ وأنا في الشغل؟ فنقول: الأصل أن وقت العمل للعمل، فإذا كنت في الوظيفة وعندك عمل فإنهائك لأعمال الجمهور بأخلاق من أعظم العبادات، وهو عمل عظيم جداً.
وكثير من إخواننا إذا كان موظفاً يقول: لا تضايقني؛ لأني صائم، فنقول: سبحان الله! وهل فرض الله الصيام لتضييق أخلاق الناس أو لتهذيب أخلاق الناس؟! إن ربنا عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فيبقى الأصل أن الهدف من الصيام هو التقوى، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم).(122/2)
التحذير من الإسراف في رمضان
أيها الإخوة! قبل أن يدخل رمضان تجد الاستعداد في موائد البيوت، والأصل أن رمضان شهر اقتصاد، وأنا لن أحرم عليكم طيبات أحلها الله لكم، كما قال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] لكن فلنكن كما قال الله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] فخير الأمور الوسط، وليس هناك داعٍ للإسراف.
قد تجد مائدة طعام وأول ما يؤذن المؤذن يأكل الناس ويقومون ليتركوا أكثر ما في المائدة يرفع والأدهى والأمر أن جل ما يرفع يُرمى.
فهل هذا يرضي الله؟! أنت رجل طول النهار في عبادة وطاعة، وتأتي في آخر النهار فتقع في معصية؟! وهذه معصية لقول الله جل وعلا: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ و} [الإسراء:26 - 27] ومن التبذير أن تلقي بلقمة خبز أو بقطعة لحم أو بصحن أرز أو بصحن طبيخ أو نحو ذلك في سلة المهملات؛ وهناك بيوت من بيوت المسلمين في أمس الحاجة إلى هذا الكم من الأرز أو الطبيخ أو اللحم أو الخبز.
يا إخواني! كانوا يقولون منذ زمن: (لا أحد يموت من الجوع)، ونحن كلنا كنا نعرف هذا، ولكن انظر اليوم إلى واقع البوسنة والصومال، والشيشان وطاجكستان وكشمير، فستجد عشرات المئات يموتون الآن من شدة الجوع.
إي والله! يموتون من الجوع، في الوقت الذي يوجد فيه جماعة من الناس مثخنة بالطعام، وعاصية بالتبذير والإسراف؛ ولذلك أحد مشايخنا يقول: (تأكلون الأرطال وتشربون الأسطال، وتنامون الساعات الطوال، وتزعمون أنكم أبطال!) وهذا أمر واقع؛ فالطعام موجود بأرطال وبكميات كبيرة جداً -وأسأل الله أن يوسع علينا من الحلال- لكن يا إخواني ليس من الممكن أبداً أن نفرط في تناول الطعام ثم نصلي القيام بنشاط، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفطر على تمر أو رطب، وإن لم يجد شرب قليلاً من الماء، وكثير من الناس يضيعون صلاة المغرب بحجة أنهم يأكلون؛ فنقول: افطر على تمر وصل ثم ارجع وكل أكلاً خفيفاً واخرج لصلاة التراويح، وبعد ذلك ستشعر بشدة الجوع، وستأكل أكلاً لذيذاً هنيئاً إن شاء الله تعالى، وبهذا تكون قد صليت مستريحاً بفضل الله، ولا تسرف في الأكلة الثانية فإن كثيراً من الصائمين يسرفون في الطعام والشراب، ووالله العظيم إن الواحد ليخشى أن يقع في شيء ليس له أصل، وقد دخلت البيت حاجات غير الذي اعتادت عليه البيت، لدرجة أن هناك أشياء أصبحت كأنها من لوازم هذا الشهر التي لا ينبغي أن تنفك عنه، وأنا لا أقول: إنني أحرم الطيبات -معاذ الله- بل أسأل الله أن يوسع علينا من الحلال الطيب، وأن يطعمنا من الحلال الطيب، لكن لا إفراط ولا تفريط، والزائد عندك عد به على بيت فقير من بيوت إخوانك من المسلمين والمسلمات.(122/3)
حكم استخدام السواك للصائم
أيها الأحباب: أود أن أنبه على بعض الأمور: فإن كثيراً من الناس يظن أنها قد تكون محرمة في رمضان، أو قد تفسد عليه الصيام: الأمر الأول: السواك: قد يقول لك قائل: هل يجوز أن أستخدم السواك في نهار رمضان أو لا؟ قال العلماء: يجوز ذلك لكن إلى الظهر فقط -أي: إلى قبل الزوال- ولكن الراجح: أنه يجوز أن تستخدم السواك في نهار رمضان كله، وليس هناك دليل على منع استخدام السواك بعد الزوال، فللصائم أن يستخدم السواك في أي وقت من أوقات شهر رمضان شاء.(122/4)
حكم غسل الصائم للتبرد
الأمر الثاني: إذا رجعت من سفر في يوم ما وأحسست بالحرارة أو كان الجو حاراً مثلاً، فهل يصح أن تغتسل بنية أن تتبرد من شدة الحر من أجل أن تواصل الصيام؟ ف
الجواب
نعم، يجوز ولا حرج عليك على الإطلاق.(122/5)
حكم استخدام فرشة الأسنان للصائم
الأمر الثالث: استخدام فرشة الأسنان: البعض يقول: هل يجوز أن أستخدم الفرشة؟
الجواب
نعم يجوز، لكن أحذرك أن يتسرب إلى جوفك شيء من المعجون، والأولى أن تستخدم الفرشة بعد الإفطار، أو وأنت تتوضأ لصلاة الفجر، ثم تكف عن ذلك، فإذا قلت: إن رائحة الفم تتغير، فأقول لك: هذه الرائحة أطيب عند الله من ريح المسك، وهي مرادة، وريحة فم الصائم الكريهة المتغيرة ليست من الفم، بل تأتي من الجوف، ولذلك مهما استخدمت لها فإنها بعد فترة ستظهر ولتعلم أن هذه الرائحة عند الله عز وجل أطيب من ريح المسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).(122/6)
حكم استخدام البخاخ والحقن للمريض وهو صائم
الأمر الرابع: قد يقول قائل: أنا مريض بالربو -أسأل الله أن يشفي مرضى المسلمين- ومعي البخاخ، فهل يجوز لي إذا جاءتني الأزمة أن أستخدم البخاخ؟
الجواب
نعم يجوز، ولا يفسد الصوم؛ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
وهكذا الحقن التي في الوريد أو العضل لا تفطر الصائم؛ لأنها ليست طعاماً ولا شراباً، ولا في معنى الطعام والشراب، فإذا كان الإنسان مريضاً واضطر أن يأخذ حقنة في نهار رمضان، فله الرخصة أن يفطر، لقول تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] لكن يحرص على الصيام، وعمر بن عبد العزيز يقول: (أفضلهما أيسرهما).(122/7)
حكم استخدام الحقن المغذية للصائم
أما إذا كانت حقنة مغذية، والذي يستعملها يقول: أنا آخذها لكي أتقوى بها على الصيام، فالراجح من أقوال علمائنا: أنها تفسد الصوم؛ لأنك إذا كنت لا تقدر على الصيام فلا تصم، والله عز وجل قد أعطاك الرخصة؛ والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] فكلمة (يطيقونه) يعني: يصومونه بشق الأنفس وبشدة، وقد لا يقدرون على الصيام فعليهم: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، ومن رحمة الله أنه لم يحدد نسبة للإطعام، وإنما بمثل ما تطعم به نفسك وولدك في بيتك أطعم المسكين، يعني: أنا ممكن أن أطعم مسكيناً وتكلفني الوجبة له -مثلاً- عشرة جنيهات، بينما أخ ثانٍ قد تكون وجبته في البيت بخمسة عشر جنيهاً، وأخ ثالث وجبته في البيت بجنيهين.
إذاً: كل بحسب قدرته، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال جل وعلا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فالحقنة إذا كانت مغذية فالراجح: أنها تفطر، وإذا كان الرجل ضعيفاً لا يقدر على الصيام فمعه الرخصة في أن يفطر.(122/8)
حكم قطرة العين والأذن للصائم
وأما قطرة العين والأذن والأنف فلا تفطر الصائم ولو وجد طعمها في حلقه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم؛ لأنها ليست طعاماً ولا شراباً، وليست في معنى الطعام والشراب، ولم تدخل للإنسان من المنفذ المعتاد للطعام والشراب.(122/9)
الاحتلام في نهار رمضان ليس مفسداً للصوم
مسألة أخرى: شاب نام في نهار رمضان، ولما قام من النوم وجد نفسه محتلماً، فهل يفسد صومه؟
الجواب
لا؛ لأن الاحتلام ليس بيده، وإنما عليه أن يقوم ويغتسل، ويتم الصيام، وصومه صحيح؛ لأن الاحتلام لا يفسد الصوم.(122/10)
حكم من نام من جنابة في ليل رمضان حتى طلع الفجر
مسألة أخرى: رجل متزوج وجامع أهله في ليلة من ليالي رمضان، وأخذه النوم فما استيقظ إلا بعد الفجر، فهل يفسد صومه؟
الجواب
لا، وصومه صحيح، وعليه أن يقوم ويغتسل، ويتم الصيام ولا شيء عليه.
المهم: أن يقلع عن جماع أهله قبل الفجر، كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] والخيط الأبيض والخيط الأسود هو بياض النهار وسواد الليل.(122/11)
استحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور
إن من السنة التعجيل بالفطر، وحين الفطر يسمي الله ويقال: (ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله)، وأنا أذكر بهذا من باب {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
ومن آداب الصيام: تأخير السحور، وقد يقول شخص: أنا أحب أن أتسحر مبكراً، فلا حرج، لكن التمس البركة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أخروا السحور؛ فإن في السحور بركة) حتى ولو تشرب شربة ماء قبل صلاة الفجر.
إذاً: تعجيل الفطر من السنة، فإذا سمعت المؤذن في المغرب يقول: (الله أكبر) فأفطر، وليس بلازم أن تنتظر حتى يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح)؛ فإن هذه ليس لها أصل، فإذا أذن المؤذن فسم الله وكل، فمن السنة أن تعجل الفطر، وأن تؤخر السحور.(122/12)
حكم الطيب للصائم
هل يتطيب الصائم؟
الجواب
هذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والراجح: أنه يجوز للصائم أن يستخدم الطيب في أي وقت من أوقات رمضان، وهناك أقوال مخالفة، لكن ليس عليها أدلة، وعلى هذا فلا مانع أن يستخدم الصائم الطيب في نهار رمضان.(122/13)
حكم قول بعض المؤذنين: يا أمة خير الأنام! ارفعوا وانووا الصيام
وأما قول بعض المؤذنين: (ارفع يا صائم! وانو الصيام) فقل له: لست برافع، وليس لك دخل في هذا؛ لأنهم بهذا يحرمون الطعام والشراب قبل الفجر بربع ساعة أو بنصف ساعة، وإنما لك أن تأكل وتشرب إلى الأذان، وأول ما يقول المؤذن: الله أكبر فأمسك.(122/14)
حكم النية في الصيام
وأما النية فهي ركن من أركان الصيام، فإذا قال قائل: هل يجوز أن أعقد النية للشهر كله؟ ف
الجواب
الراجح من أقوال أهل العلم: أنه يجب عليك أن تنوي كل ليلة في رمضان، فإذا قمت تتسحر فالسحور نية، وليس معنى هذا أنك تقول: نويت صيام يوم غدٍ من شهر رمضان فرضاً علي لربي إيماناً واحتساباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا، وإنما النية محلها القلب، فإذا قمت وأحضرت علبة زبادي وأكلتها فهذه نية للصيام، فإذا نمت ولم تتسحر فعليك أن تعقد النية من الليل أنك ستقوم للسحور، وهذا يُعد نية، فالأمر ميسر من فضل الله عز وجل، وليس هناك حرج.(122/15)
الرخصة في الإفطار للحامل والمرضع
وأما الحامل والمرضع فإذا كان الصوم يشق عليهما فلهما أن تفطرا، ومن أهل العلم من قال: عليها القضاء والإطعام، ومنهم من قال كـ ابن عباس وابن عمر: تطعم كل يوم مسكيناً، فهي بمنزلة من لا يطيق.(122/16)
صيام المسافر
وأما المسافر إذا قال: أنا أقدر على الصيام، فنقول له: لو قدرت أن تصوم فلا ننكر عليك الصيام، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في السفر لا ينكر الصائم على المفطر، ولا المفطر ينكر على الصائم، وقال أبو حمزة الأسلمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أجد مني قوة على الصوم في السفر، فقال له: فإنما هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن لم يأخذ بها فلا شيء عليه) وعمر بن عبد العزيز قال: (أيسرهما أفضلهما) فإن كان ليس عليك مشقة في السفر وصمت فلا حرج عليك.
والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(122/17)
لماذا هزمت الأمة؟
إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق، ومن هذه السنن سنة التغيير وسنة الابتلاء وسنة التداول وسنة النصر، وبمعرفة هذه السنن تعرف أسباب هزيمة الأمة، وتعرف أسباب تمكينها وعزها.(123/1)
واقع الأمة المرير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: حياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! واسمحوا لي أن أخص بالتحية شيخنا المبارك أبا عبد الرحمن الذي أتقرب إلى الله عز وجل بحبه، وأسأل الله سبحانه أن يمتعه بالإيمان والعافية، وأن يبارك له في أهله وولده، وأن يجعله إماماً من أئمة الهدى، وأن يبارك فيه وفي جميع علماء هذه الأمة المخلصين الصادقين، وأن يحفظهم بحفظه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ووالله ما ظننت أن أتحدث الليلة بين يديه، فما أتيت إلا تلميذاً له، لا أقول ذلك على سبيل التواضع، فأنا ممن يعرف قدر الشيخ، فأسأل الله عز وجل أن يرفع قدره في الدنيا والآخرة، وأن يسترنا وإياه في الدنيا والآخرة.
أبى الشيخ بعظيم تواضعه إلا أن أتقدم بين يديه، فأسأل الله أن يتقبل منا ومنه ومنكم جميعاً صالح الأعمال.
أحبتي في الله! لماذا هزمت الأمة؟! لماذا صارت الأمة الآن ذليلة لأذل أهل الأرض من إخوان القردة والخنازير؟! لماذا تحولت الأمة الآن إلى قصعة مستباحة لكل أمم الأرض؟! هل لأن الأمة فقيرة؟! أم لأن الأمة ضعيفة؟! أم لأن الأمة قليلة؟! أم لأنها تفتقر إلى العقول والأدمغة التي تفكر وتبدع؟! أم لأنها تفتقر إلى المناخ أو الثروات أو الموقع الاستراتيجي الهام؟! لا، الأمة ليست فقيرة، وليست قليلة العدد والعُدد والعتاد، وليست فقيرة في العقول والأدمغة التي تبدع وتفكر.
إذاً: لماذا هزمت الأمة، وصار الدم الإسلامي أرخص دم على وجه الأرض، وصار اللحم الإسلامي أرخص اللحم على وجه الأرض، يتناثر كل ساعة على مرأى ومسمع من الشرق والغرب؟! ما هذا الذل والهوان؟! أي مصيبة هذه التي حلت بأمة الإسلام ليتحكم فيها سفاح مجرم كـ شارون وبوش؟! يطالعنا هذا بوجهه الذي يشبه وجه الخنزير، والآخر بوجه يشبه وجه القرد! بتصريحات تفجر الدم من العروق، والأمة الآن تقتل بسكين بارد، وتذبح بسكين بارد، ومازالت الأمة إلى هذه اللحظة لا تسمع من الزعماء والمسئولين إلا ما يجيدون من لغة الشجب والاستنكار! وقد مضى بالفعل زمن لغة الشجب ولغة الاستنكار، مضى زمن الشجب ولغة الاستنكار، انتهى زمن التنظير، ومضى زمن الكلام! كيف والدبابات اليهودية بالصنع الأمريكي المتقن تحاصر أهلنا ونساءنا وأولادنا وبناتنا وأطفالنا، وتدك البيوت على رءوس هؤلاء المستضعفين؟! فلا وقت للتنظير، ولا وقت للكلام.
وأرجع إلى
السؤال
لماذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة من حالات الذل والهوان؟! متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق، أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تنوح البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدن يا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق(123/2)
سنن الله الكونية
لماذا هزمت الأمة وانتبهوا إليّ جيداً؟! إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، وسنطرح هذا التسلسل للسنن: فهناك سنة التغيير، وسنة التداول، وسنة الابتلاء بالتمحيص، وسنة النصر والتمكين.
لقد كانت الأمة العربية قبل البعثة المحمدية مبعثرة لا قيمة لها ولا كرامة، فجاء الإسلام فجعلها خير أمة أخرجت للناس، يوم كسا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة الإسلام ثوب التوحيد، وراحت لترفل في هذا الثوب فأذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، وأقامت للإسلام دولة من فتات متناثر وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء!(123/3)
سنة النصر والتمكين
بعد مرحلة التمحيص وتمايز الصفوف تأتي مرحلة النصر والتمكين، ونحن على أبوابها إن شاء الله تعالى، لا أقول ذلك من باب الأحلام الوردية، ولا من باب الرجم بالغيب، وإنما أقول ذلك من باب فهمي لآيات الله الكونية والقرآنية، وفهم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
بعد مرحلة التمحيص والابتلاء يثبت من يثبت على الصف ليرفع الراية في سبيل الله، لا من أجل أي أمر من أمور الدنيا أو الهوى، وإنما من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فتأتي سنة الله تبارك وتعالى التي وعد بها.
واعتصموا بحبل الله، أي: بجماعة المسلمين، واعتصموا بحبل الله، أي: امتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، وقفوا عند حدوده، كل هذا ثابت عن السلف، يقول ربنا: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78] من اعتصم بالله فقد اعتصم بنعم المولى ونعم النصير، لا مجال الآن أمام الأمة إلا أن تعتصم بالله، إلا أن توظف ما عندها من أسباب ومن طاقات وإمكانيات، ولترجع إلى الله لتردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، روى البخاري وغيره أنه لما انتهت معركة أحد نادى أبو سفيان بأعلى صوته وقال: أفي القوم محمد؟ صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجيبوه) فكررها أبو سفيان ثلاثاً: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ فلما لم يجبه أحد اطمأن إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فنادى ثانية: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي: (لا تجيبوه) فكررها ثلاثاً، فلما لم يجبه أحد اطمأن إلى أن الصديق هو الآخر قد قتل، فنادى في المرة الثالثة: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي: (لا تجيبوه) فكررها ثلاثاً، فاطمأن إلى أن هؤلاء جميعاً قد قتلوا، فالتفت أبو سفيان إلى قومه من المشركين وقال: أما هؤلاء فقد قتلوا.
فلم يتمالك عمر بن الخطاب نفسه فرد على أبي سفيان وقال: كذبت والله يا عدو الله! إن هؤلاء الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يحزنك.
وفي لفظ: ما يخزيك، وفي لفظ: ما يسوءك، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤني ثم أخذ يقول: اعل هبل، اعل هبل! اعل هبل، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبونه؟!) مع أنه قبل لحظات كان يقول: (لا تجيبوه)؛ لأن القضية في المرة الأولى متعلقة بالأشخاص، حتى ولو كانت بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، أما القضية في هذه المرة فهي متعلقة بالعقيدة، متعلقة بذات الله جل وعلا يقول: (اعل هبل! فقال النبي: ألا تجيبونه؟! قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا له: الله أعلى وأجل، الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! فقال النبي: ألا تجيبونه؟! قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا له: الله مولانا ولا مولى لكم!).
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، فمتى ستعرف الأمة هذه المعاني؟! متى ستعرف الأمة نعم المولى ونعم النصير؟!(123/4)
سنة التداول
ثم وقعت سنة التداول {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فالدولة الآن للكفر وأهله، الدولة الآن لليهود، الدولة الآن للهندوس، الدولة الآن للملعونين الملحدين من الروس، الدولة الآن للكفر وأهله.
وتدبر معي! والله ما انتصر الكفر وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله! سنن لا تتبدل! فالله لا يعجل لعجلة أحد، واعلم بأن الله يسمع ويرى ما يجري الآن على أرض فلسطين وعلى أرض الشيشان وعلى أرض أفغانستان، وليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، وليس أحد أرحم بالمستضعفين من الله، لكنها السنن، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائد المعركة في أحد، فتخلى بعض الصحابة عن بعض أسباب النصر فكانت الهزيمة، هزمت الأمة في أحد مع أن قائد المعركة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والهزيمة سنة ربانية لا تتغير ولا تتبدل، عصى بعض الصحابة أمراً من أوامر رسول الله فكانت الهزيمة، فكيف تنصر الأمة الآن وقد ضيعت شريعة الله بالجملة، ونحت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن أمام شرط الإسلام وحد الإيمان بلفظ القرآن {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(123/5)
سنة الابتلاء والتمحيص
الدولة الآن للكفر وأهله، وتأتي بعد سنة التداول سنة الابتلاء، فما تحياه الأمة الآن إنها سنة أخرى من سنن الله في الكون إنها سنة الابتلاء، لماذا أيها الإخوة؟ للتمحيص، واحفظوا عني هذه العبارة جيداً، أقول: إن ما يجري الآن على أرض فلسطين، وما يجري الآن على أرض أفغانستان، وما يجري الآن على أرض الشيشان، وما يجري الآن على أرض الفلبين، وما يجري الآن في الأمة، إنما هو تربية من الله للأمة بالأحداث، إنها مرحلة التربية السماوية، الأمة لا تجد من يربي أفرادها، لا من الزعماء، ولا من العلماء إلا من رحم ربك من أفراد، فنشهد الآن مرحلة شديدة من مراحل التربية لأفراد الأمة، إنها التربية بالأحداث.
فما يجري الآن على أرض فلسطين تربية، ولابد من الابتلاء للتمحيص وللتمييز، أما حالة الخلط والغبش التي تحياها الأمة فلن تنصر لله ديناً، ولن تنصر للتوحيد عقيدة، ولن ترفع للإسلام راية، فلابد من المفاصلة، لابد من إقامة الفرقان الإسلامي، لابد أن تستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، لابد من هذه المرحلة: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
وانتبه! فالله جل وعلا يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، فالله سبحانه لا يعلم الصادق من الكاذب بعد الأحداث، بل الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، وإنما هو علم للأفراد السائرين على الدرب؛ ليثبت على الصف من يستحق شرف السير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك صنفاً يسير على طريق الدعوة إلى الله، يتاجر بالدعوة ويتاجر بالاستقامة يتاجر بالإسلام، يظن أن الدعوة صفقة تجارية! إن حقق الربح فهو سائر على الدرب مع السائرين، وإن تعرض لمحنة أو فتنة نكص على عقبيه وتقهقر: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
لابد من التمايز، لابد من التمحيص، ولن يكون هذا التمحيص إلا بعد الابتلاء والمحن والفتن.
فما يحدث الآن إنما هو نوع من أنواع التربية، لقد علمت الأمة كلها الآن أن الكفر لا ينصر للأمة قضية، ومن الحكم العظيمة في تأخير الله للنصر -وتدبروا هذه الحكمة البالغة- ألا يبقى في صف العدو سمة من سمات الخير، حتى لا يغتر بهذه السمة ضعاف الفهم وضعاف الإيمان، فلقد شاء الله لنا الآن أن نرى العدو على حقيقته.
من سنوات قليلة مضت كنا نسمع على ألسنة كثيرٍ من الكتاب والمفكرين والأدباء، العدالة الأوروبية والعدالة الأمريكية! وأن أوراق القضية على مائدة الأمريكان، وأنه لابد من التدخل الأوروبي، إلى آخر هذه الكلمات.
فشاء الله أن نرى في هذه الأيام القليلة الماضية أن الكفر لا ينصر إيماناً، وأن الشرك لا ينصر توحيداً.
فحال أمتنا حال عجيب! وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها طوفان المؤامرة الرهيبة! ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة! وسيحفرون لها قبوراً ضد خطتهم رهيبة! قالوا: السلام السلام قلت يعود الأهل للأرض السليبة! وسيلبس الأقصى غداً بعد السلام أثواباً قشيبة! فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة! فبئس سلامهم إذاً وبئست هذه الخطط المريبة! شاء الله أن يرى كل عاقل وكل منصف حقيقة الغرب وحقيقة الكفر، لقد سمعت امرأة علمانية تقول بالحرف: (هذا ليس سلام شجعان، وإنما هو سلام فئران) شاء الله بهذه الأحداث أن يظهر العدو على حقيقته، بدا من العدو السافر للإسلام الحقد والبغض، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بطلان وقال آخر: لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة وكيف تواليهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن إذا جاءك النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر فما يحدث الآن إنما هو تربية للأمة بالأحداث، فلقد شاء الله أن يربي الأمة بالأحداث في غزوة بدر، وبالأحداث في غزوة أحد، وبالأحداث في غزوة الأحزاب، وبالأحداث في صلح الحديبية وغيرها من الأحداث، نزل في أحد قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وكأن الله جل وعلا أراد أن يعلم الأمة أن الدعاة إلى الله يجيئون ويذهبون ويخطئون ويموتون وتبقى الدعوة وستبقى خالدة على مر الأجيال والقرون، لو قتل النبي صلى الله عليه وسلم فواجب عليكم يا أتباع النبي أن ترفعوا الراية، وأن تواصلوا السير على الطريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء ليخلد في الأرض، وما جاء ليبقى بين الناس، بل جاء مبلغاً دين الله، وليبلغ دعوة الله ثم يمضي إلى ربه، والناس بدعوة الله وبالعروة الوثقى متمسكون، فالأمة الآن تربى بالأحداث، رأينا الآن على أرض فلسطين تسطير البطولة فوق القدس.
رأينا أمثلة ونماذج تحاكي السلف، لا أقول ذلك من باب العاطفة، والله لقد خرج طفل في العاشرة من عمره فسأله رجل كبير من الشيوخ حينما رآه يلبس زياً عسكرياً يشبه زي الجنود، فقال له: إلى أين يا بني؟! وهو طفل في العاشرة، فقال: إلى الجهاد، وهذا على أرض فلسطين.
قال: إلى الجهاد؟ قال: نعم، قال: ما اسمك؟ قال: محمد، قال: كم عمرك يا محمد؟ قال: عشر سنوات، قال: أين أبوك؟ قال: استشهد قبل أربعين يوماً! قال: ألك إخوة؟ قال: رزقني الله بست أخوات وأنا الابن الوحيد! قال: هل استأذنت أمك يا محمد للخروج إلى الجهاد؟ قال: نعم استأذنت أمي! قال: وماذا قالت لك؟ فقال محمد ابن العاشرة: قالت لي أمي وأنا خارج: انطلق يا محمد للجهاد، وأسأل الله أن يلحقك بأبيك!! رأيت بعيني أماً فلسطينية تحمل رضيعها على ذراعها الأيسر وتنحني على الأرض لتأتي بحجر إلى ولدها الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره وتأمر الأم ولدها أن يقذف دبابة لا تبتعد إلا عشرة أمتار، تأمر الأم ولدها أن يقذف الدبابة بالحجر!! إنها التربية بالأحداث، لقد علم هؤلاء أن الغرب لن ينصر لهم قضية، بل وأن العالم الإسلامي الهزيل المهزوم لن ينصر لهم قضية، فلجئوا إلى الله جل وعلا، واعتصموا بالله تبارك وتعالى، وقدموا أرواحهم في سبيل الله جل جلاله فرأينا العجب العجاب، حتى صرح أكابر جنرالات اليهود الآن أنهم صاروا يخشون كل شيء على أرض فلسطين! يقول الجنرال الكبير: صرت أخشى صندوق القمامة، صرت أخشى الحقيبة حين أفتحها، صرت أخشى الباص حين يمر بجواري، أصبحوا ينتظرون القتل والموت في كل لحظة! وأبشروا! فلقد تحولت انتفاضة إخواننا هنالك إلى انتفاضة مسلحة، صنع إخواننا الصواريخ بأيد مسلمة على أرض فلسطين، صنع إخواننا القنابل، ومع هذه الأسلحة أعظم الأسلحة وهو سلاح الإيمان واليقين، دب الرعب في قلوب إخوان القردة والخنازير، وصدق ربي إذ يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].(123/6)
سنة التغيير
ثم تدبروا معي! بدأت الأمة تنحدر وتغير، فوقعت سنة التغيير فغير الله عليهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
وسنتطرق إلى هذا التفصيل المهم حتى لا نصطدم بالواقع إذا تدبرنا آيات القرآن: ففي جانب العقيدة غيرت الأمة وبدلت، فذبحت العقيدة في الأمة شر ذبحة، وهجرت الأمة عقيدة التوحيد بشمولها وكمالها وصفائها، ففي الأمس القريب كانت العقيدة إذا مس جانبها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق يزمجر! ورأيت المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس.
لكن العقيدة الآن تذبح في الأمة شر ذبحة، فمن هذه الأمة نرى الملايين المملينة التي لا تعرف الله جل وعلا، ولا تعرف قدره، ولا تعرف جلاله، بل ومازال كثير من أفراد هذه الأمة إلى هذه اللحظة يثق في بعض دول الغرب أكثر من ثقته برب السماء والأرض، وسمعنا زعيماً لدولة خرجت من بين الدماء والأشلاء، ومازالت في هذا الوحل إلى هذه اللحظات، سمعناه يقول: إنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه! وسمعنا هنا من يقول -على مرأى ومسمع وممن يشار إليهم بالبنان أنهم من أهل العلم- إننا نحتفل الليلة بمولد السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب.
وسمعنا من أفراد هذه الأمة ومن رموزها من يقول: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! وسمعنا من رموز هذه الأمة من يقول: إن تطبيق الشريعة الإسلامية ردة حضارية بكل المقاييس! إلى آخر هذه الكلمات الخطيرة.
نحت الأمة عقيدة التوحيد والإسلام، عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم.
غيرت الأمة في مجال العقيدة، وغيرت الأمة في مجال العبادة، صرفت العبادة في كثير من صورها إلى غير الله تبارك وتعالى، بركنيها: من كمال حب وكمال تعظيم، وبشرطيها: من إخلاص واتباع، صرفت لغير الله، والله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وغيرت الأمة في جانب التشريع، فنحت الأمة شرع الله جل وعلا بالجملة، واستبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، وركبت الأمة قوارب الشرق الملحد تارة فغرقت وأغرقت، وركبت قوارب الغرب الكافر تارة فغرقت وأغرقت، وركبت قوارب الوسط الأوروبي فغرقت وأغرقت، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] وفي جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك غيرت الأمة وبدلت، انظر إلى أخلاقيات المسلمين -إلا من رحم ربك- ترى انحرافاً مزرياً عن أخلاق الإسلام، وعن أخلاق النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
غيرت الأمة في كل المجالات، فكانت السنة الحتمية لهذا التغيير كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ماذا حدث؟! ذلت الأمة بعد عزة، وجهلت الأمة بعد علم، وضعفت الأمة بعد قوة، وأصبحت الأمة في ذيل القافلة البشرية، بل وأصبحت الأمة تتأرجح في سيرها، ولا تعرف طريقها، لا تعرف من توالي، ولا تعرف من تعادي، لا تعرف شيئاً عن عقيدة الولاء والبراء، لا تعرف شيئاً عن حقيقة الإرهاب.
الأمة في اجتماعها الأخير في ماليزيا، وهو اجتماع يتكون من خمسين دولة، لم تستطع الأمة بهذا العدد الضخم أن تعرف الإرهاب، واختلفت الأمة في حقيقة الإرهاب، واعترض وزير خارجية أكبر دولة إسلامية في ماليزيا على ما يحدث الآن في أرض فلسطين وقال: إن قتل المدنيين من اليهود هذا هو الإرهاب! قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا بل كان حقاً في الكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا فالأمة مازالت مختلفة في تعريف الإرهاب على أيدي أكابر مسئوليها! الأمة تحولت من حالة العلم إلى الجهل، ومن العز إلى الذل، ومن القوة إلى الضعف؛ لأنها سنة ربانية أودعها الله كونه، لا تتبدل ولا تتغير {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].(123/7)
ماذا تنتظر الأمة؟!
الأمة تضع الخطط السنوية والخمسية، وإلى الآن ما وضعت ضمن خطة واحدة قدرة وعظمة رب البرية! إلى متى؟! متى ستفيق الأمة بحكامها وعلمائها؟! متى ستفيق؟! ماذا تنتظر هذه الأمة؟! هذه الخطة الأولى: اعتصام بالله، يقين في الله، ثقة في الله، توكل عليه، رجاء فيه، تفويض إليه، تجديد للإيمان، تجديد للتعبد، تحكيم للشريعة، كل هذا يندرج في إطار العقيدة.
أنا قد أصلت أن الإسلام عقيدة، تنبثق من هذه العقيدة شريعة، تنظم هذه الشريعة بعد ذلك كل شئون الحياة.
ولا يقبل الله من أمة شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فلترجع الأمة إلى الله، ولتمتثل أمره، ولتجتنب نهيه، ولتقف عند حدوده، ثم بعد ذلك فلترفع الأمة راية الجهاد في سبيل الله، هذا ما ندين الله به في هذه المرحلة، تجديد للإيمان، تصحيح للعقيدة، تصحيح للاعتصام به، تجديد لليقين فيه، تجديد للثقة فيه، تجديد للتوكل عليه، تجديد للرجاء فيه، تجديد للعقيدة بشمولها وكمالها، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ووقوف عند حدوده، هذا هو تحكيم الشرع.
أنا لا أفهم من آية قرآنية ولا من سنة إلهية أن الله ينصر أمة نحت دينه، وخذلت شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليبدأ حاكم من حكام المسلمين بمعنى هذا التأصيل الذي ذكرت، معنى تأصيل العقيدة وتحكيم الشريعة والعودة إلى دين الله، وليرفع بعدها راية الجهاد في سبيل الله، وليقل: حي على الجهاد! وليدع الفرصة للعلماء ليجيشوا ملايين الشباب، أستغفر الله! بل ملايين الشيوخ! بل ملايين النساء والأطفال! بل والله إن الأمة الآن تحترق منها القلوب، والواحد منها يتمنى أن يبذل روحه ودمه لدين الله تبارك وتعالى، بل ورب الكعبة يتمنى أن يسد بصدره فوهات مدافع أعداء الله! ليعلم كلاب الأرض من اليهود أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف رجالاً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله! أنا لا أفهم أبداً أن ترفع الأمة راية للجهاد قبل أن ترفع الأمة راية العقيدة، وقبل أن تحكم الأمة الشريعة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تدبروا هذا النداء، فالله يثبت لهم في صدر الآية الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ويأمرهم بالإيمان بعد أن أثبت لهم عقد الإيمان في صدر الآية في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا)، ومع ذلك يقول: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) تدبر القرآن!: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11].
ماذا تنتظر الأمة بعد هذا؟! إلى هذه اللحظة لم تتخذ الأمة حتى قرارات سياسية، فلتطرد الأمة سفراء اليهود من بلادها، ولتسحب الأمة سفراءها من بلاد اليهود وبلاد الغرب، ولتوقف الأمة بترولها عن الشرق والغرب، ولنقاطع المنتجات الأمريكية التي وضعت رءوسنا في الوحل والتراب، والله سنأكل التراب ونعيش بعزة وكرامة واعتصام بالله تبارك وتعالى، ويقين فيه وثقة فيه وتوكل عليه ورجاء فيه، ثم نرفع راية الجهاد في سبيل الله، الشباب يريدون الشهادة، لماذا لا تفتح الحدود لهم؟! لماذا لا نمد إخواننا على أرض فلسطين بالسلاح إن كنا لا نريد أن نفتح الحدود بيننا وبينهم؟! لماذا لا نمد هؤلاء بالسلاح؟! فإن اليهود الآن يستعملون كل أنواع الأسلحة ذات الصنع الأمريكي ضد هؤلاء العزل! لا حل إلا بالعقيدة ثم رفع راية الجهاد في سبيل الله، هذا هو الحل ورب الكعبة! وكل أهل الشرق والغرب لا يريدون أبداً أن تظلل الساحة بمظلة الجهاد.
لا يريدون لهذه اللفظة أن تتردد؛ لأنهم يعلمون أنه إذا تحولت الحرب إلى حرب عقدية؛ فستنقلب كل الموازين، فالصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكنه صراع عقيدة ووجود!(123/8)
دور المسلم والمسلمة في هذا الواقع المرير
دورك أيها المسلم! وأيتها المسلمة! أن تحمل في صدرك قلباً يحترق، فوالله لو بكى كل مسلم ومسلمة على الأرض دمعاً مدراراً في آن واحد لأغرقت دموع الأمة اليهود! ولو بصق وتفل كل مسلمة ومسلمة على وجه الأرض على قلب رجل واحد لأغرق بصاقهم اليهود! لكنها الهزيمة النفسية، صرنا نرى الدم يسفك واللحم يتناثر، وينظر أحدنا إلى هذه المأساة، ويهز كتفيه ويمضي، وكأن الأمر لا يعنيه، فتراه يحمل قلباً بارداً لا يتأثر.
فأول خطوة على الطريق أن تحمل هذا القلب التأثر الذي يحترق لهذا الواقع المرير، أن تحمل في صدرك دماء تغلي حنقاً على أعداء الله تبارك وتعالى، إن لم تجد الآن في صدرك قلباً يحترق على هذا الواقع فعد الليلة إلى بيتك، وتضرع إلى الله عز وجل أن يمن عليك بقلب حي فإنه لا قلب لك! ثم متى ستربي نفسك وأولادك وبناتك ونساءك على عقيدة الولاء والبراء إن لم تفعل الآن؟! من منا جمع أولاده الآن، وغرس في قلوبهم بغض اليهود، والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الكفر والكافرين والشرك والمشركين؟ من منا جلس بين أولاده وهو يأكل الطعام وقال: يا أولادي! تدبر يا بني! تدبري يا بنيتي! لو أن صاروخاً يهودياً من صنع أمريكي سقط الآن على شقتنا، أو على بيتنا فمات أبوك وماتت أمك وتمزقت أشلاء أبيك وتناثرت دماء أمك أمام عينيك وبين يديك ماذا تصنع؟! ماذا تفعل؟! هل تعلم أن اليهود الآن يفعلون ذلك بأخيك وأبيك وأمك وأختك على أرض فلسطين؟! ربه على عقيدة الولاء والبراء من خلال الأحداث، رب امرأتك على عقيدة الولاء والبراء من خلال الأحداث، متى ستجلس مع امرأتك وأولادك على جزء من كتاب الله إن لم تفعل الآن؟! متى ستجلس مع امرأتك وأولادك على حديث من أحاديث رسول الله إن لم تفعل الآن؟! متى ستقيم الليل أنت وأسرتك إن لم تفعل الآن؟!(123/9)
وجوب الدعاء للمسلمين
من منا يتضرع إلى الله في الليل؟! من منا قام الليل ليتضرع إليه سبحانه بالدعاء بالتذلل بالخضوع؟! فالدعاء سهام الليل، والله ربما لا يدعو كثير من المسلمين الآن إلا إذا دعا إمامهم فأمنوا عليه! أمة بخلت بالدعاء هل تجود بالأموال والدماء؟! إذا كان يحال بينك وبين الجهاد بالنفس فجاهد بمالك إن استطعت بالدعاء بالكلمة في الأماكن العامة في الأماكن الخاصة، فكل هذا جهاد، كل ما تستطيع أن تقدمه ستصبح بين يدي الله نادماً إن قصرت فيه، أما إن كنت مكلفاً بواجب وعجزت عن أدائه فقد سقط هذا الواجب عنك، فالواجب يسقط بالعذر كما قال شيخ الإسلام وغيره، فالواجب يسقط بالعذر، أما إن كنت قادراً على فعل شيء، وقصرت في فعله فستندم إن لم تفعله.
الأمة أيها الإخوة لن تحرر الأقصى، ولن تعود إلى مكانتها وعزتها بالمظاهرات الساخنة! ولا بالمؤتمرات الصاخبة -ولست بصدد الحكم الشرعي على المظاهرات الآن- ولا بحرق الأعلام ولا بالشجب! وإنما برجوع الأمة إلى الله، لتصحح العقيدة، لتصحح العبادة، لتحكم الشريعة، لتصحح ما فقدت من الأخلاق، لتربي الجيل جيل النصر على الكتاب والسنة، على عقيدة الولاء والبراء، ثم لنثق جميعاً بوعد الله تبارك وتعالى {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
كل يجب عليه أن يؤدي واجبه الآن في حدود قدراته وإمكانياته وألا يتخلف، الأمة الآن في حاجة إلى كل جهد، إلى كل كلمة، بحاجة إلى تجييش كل الطاقات لتعمل لدين الله، نريد أن تتحول كل بيوتنا إلى بيت يحاكي بيت أبي بكر الصديق، الزوج يعمل فيه لدين الله، الزوجة تعمل فيه لدين الله، الولد يعمل فيه لدين الله، البنت تعمل فيه لدين الله، حتى الراعي في هذا البيت يعمل لدين الله تبارك وتعالى.(123/10)
إصلاح النية
أيها الأفاضل! عقد الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باباً بعنوان (باب: من حبسه العذر عن الغزو) فمن رحمة الله بنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) هل تعلم أنك تستطيع أن تحصل أجر الشهادة كاملاً وأنت في مسجدك، ولم تشرف بأن تكون على ساحة الجهاد؟ نعم، إن صحت نيتك وصدقت (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء) (إن في المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شركوكم الأجر، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟! قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر) يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا أسأل الله جل وعلا أن يعجل بالنصر، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم احقن دماءهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم احفظهم بحفظك واكلأهم بعنايتك ورعايتك، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جياع فأطعمهم، اللهم إنهم مغلوبون فانتصر لهم، اللهم إنهم مغلبون فانتصر لهم، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه.
يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامعاً لكل نجوى، يا عظيم الإحسان، ويا دائم المعروف.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وتول أمرنا، وفك أسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف المسلمين، وضعف المسلمين، وضعف المسلمين، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك.
اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد.
اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، اللهم ارزقنا الصبر واليقين، اللهم اقبلنا وتقبلنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.(123/11)
ما هي العبادة؟ ومن نعبد؟
العبادة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجلها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، والعبادة تسع الحياة كلها، فحياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية، وكانت العبادة الظاهرة أو الباطنة موافقة لهدي النبي عليه أفضل الصلاة والتسليم.(124/1)
معنى العبادة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إن الغاية العظيمة التي من أجلها خلقنا قد بينها لنا ربنا جل وعلا في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والعبادة -أيها الأحبة الكرام- ليست أمراً على هامش الحياة، ولكنها الأصل الأول الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الكتب، وأرسل جميع الرسل، ومع ذلك فإن كثيراً ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية التي من أجلها خلقوا، ولأجلها ابتعثوا! فأردت في هذه الأيام الطيبة المباركة أن أذكر نفسي وأحبابي بهذه الغاية العظيمة، وفي زمان الفتن والشهوات والشبهات تحولت تلك الغاية العظيمة في حياة كثير من الناس إلى أمر هامشي في الحياة.
فما هي العبادة؟ ومن نعبد؟ ولماذا نعبد؟ وبماذا نعبد؟ الإجابة على هذه الأسئلة الأربعة هو موضوع كلمتنا في هذه اللحظات بإيجاز شديد.
أولاً: العبادة في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد، أي: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، ولكن العبادة التي أمرنا بها الله عز وجل تقتضي إلى جانب الذل: الحب، فهي كما قال شيخ الإسلام: كمال الذل لله مع كمال الحب لله جل وعلا، وقد عرفها رحمه الله تعالى بقوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وجهاد المنافقين والمشركين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والتوكل والتفويض والرجاء والإنابة والخشية والاستعانة كل هذا من العبادة.
إذاً: العبادة التي خلقنا لها تسع الحياة كلها، فحياة المؤمن كلها عبادة إن صحت النية، وكانت العبادة الظاهرة أو الباطنة موافقة لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم الأدلة النبوية على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أصحابه فقالوا: (يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور أي: أصحاب الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -سبقونا بالصدقة والبذل والإنفاق والعطاء- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل لامرأته صدقة- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك لو وضعها في الحلال فله فيها أجر).(124/2)
شروط صحة العبادة
حياة المؤمن كلها عبادة بهذين الشرطين: الأول: أن تصح النية.
الثاني: أن تكون العبادة موافقة لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، ومن خلال هذا الفهم الشامل الكامل لمفهوم العبادة يتبين لنا أن كثيراً من الناس قد انحرفوا عن مفهوم العبادة الحق انحرافاً مزرياً، فمنهم من فهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، وظن أن العبادة لا تتعدى الشعائر التعبدية المعروفة كالصلاة والصيام والزكاة والعمرة والحج فحسب، فهو في المسجد متعبد لله بشرعه، فإن خرج من المسجد يتعامل بالربا، ويعاقر الزنا، ويشرب الخمر، ويعق الوالدين، ويسيء إلى زملائه في العمل، وإلى مرءوسه في الوظيفة، وترى امرأته وبناته متبرجات كاسيات عاريات، فهو في المسجد مع الله بوجه وخارج المسجد مع الله ومع الناس بوجه آخر، فهو يمتثل أمر الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، ولا يمتثل أمر الله في السورة ذاتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، يمتثل أمر الله في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ويضيع أمر الله في سورة المائدة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وهذا فَهْمٌ مبتور للعبادة، وفهم ناقص، والله جل علا يقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، قصور في فهم العبادة.
ونرى صنفاً ثانياً قد صرف العبادة لغير الله جل وعلا، فهو يذعن لغير شرع الله، ويذبح لغير الله، ويحلف بغير الله، ويطوف بغير بيت الله تعظيماً لغير الله، ويقدم النذر لغير الله، ويستغيث بغير الله، ويستعين بغير الله، ويلجأ إلى غير الله، ويفوض الأمر إلى غير الله، ويتوكل على غير الله، ويثق في بعض دول الأرض وأمم الأرض أكثر من ثقته في خالق السماء والأرض، منهم من يقول: إذا تعسرت الأمور فعليكم بأصحاب القبور! ومنهم من يقول: إنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظام الكون وتسير شئونه!! والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، ومنهم من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب، والله جل وعلا يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، أئله مع الله يجيب المضطر في البر والبحر؟! والله جل وعلا يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].
ومن الناس من صرف العبادة لله -وهذا هو الصنف الثالث- يبتغي بالعبادة وجه الله، لا نشكك في إخلاصه، ولكنه تعبد لله على غير هدي المصطفى، وعلى غير السنة، فعبادته مردودة على رأسه لا قبول لها عند الله جل وعلا، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا -أي: في ديننا - هذا ما ليس منه فهو رد) مردود على رأسه لا قبول له عند الله جل وعلا.
من أجل ذلك -يا إخوة- شن الإسلام حملة شديدة على الشرك، وعلى صرف العبادة لغير الله، وأصّل تأصيلاً لتوحيد الألوهية في كلمة واحدة، فتوحيد العبادة هو إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة بلا منازع أو شريك؛ امتثالاً عملياً لقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(124/3)
وجوب عبادة الله وحده وخطورة الشرك
شن الإسلام حملة شديدة على الشرك، وبين أن الشرك هو الذنب الوحيد الذي لا يغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) وفي الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فجلس النبي إلى جوار عمه وقال: يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب يا أبا طالب؟! قال: بل على ملة عبد المطلب، فخرج النبي من عنده وهو يقول: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك، فنزل عليه قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]).
من أجل ذلك ينبغي أن يحدد كل واحد منا الجواب بدقة على هذا
السؤال
من نعبد؟ وقد يستعجب بعض الإخوة من طرحي مثل هذا السؤال: من نعبد؟! وهل هذا سؤال يستحق الطرح؟! وسيزول عجبك واستنكارك وغرابتك إذا علمت أن العالم مليء بركام هائل من التصورات الفاسدة، والعقائد الباطلة، والآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت التي عبدت في الأرض من دون الله جل وعلا، فمن الناس من عبد القمر من دون الله، ومن الناس من عبد الشمس من دون الله، ومن الناس من عبد الجن من دون الله، ومن الناس من عبد الكواكب من دون الله، ومن الناس من عبد الحجارة والأصنام من دون الله عز وجل، بل ومن الناس من عبد التراب، هل تصدقون ذلك؟! روى أبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً أحسن من الأول ألقينا الأول وأخذنا الثاني لنعبده من دون الله جل وعلا! فإذا لم نجد حجراً جمعنا كومة من التراب، وأتينا بغنم لنا فحلبنا على هذا التراب من اللبن ثم طفنا بها! أي: لنعبدها من دون الله جل وعلا! انظر إلى فساد عقول هؤلاء ومقدارها، يعبدون التراب من دون الله عز وجل! ومن الناس من عبد البشر، قال فرعون لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وعبد اليهود عزيراً من دون الله، وعبد النصارى ولازالوا يعبدون المسيح ابن مريم من دون الله، كل طوائف النصارى، ودعك من الدجل الإعلامي، فالملكية واليعقوبية والنصطورية والمارونية كلهم يعبدون عيسى من دون الله جل وعلا، وهذا قانونهم المشهور عندهم بقانون الأمانة الذي يسمونه: سنهوداً، منهم من يقول: عيسى هو الله، ومنهم من يقول: عيسى ابن الله، ومنهم من يقول: عيسى ابن زوج الإله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولله در ابن القيم إذ يقول: أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجب لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسع من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك فهل هذا إله تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، والراجح من أقوال المحققين من أهل التفسير وهو قول جمهور المفسرين: أن مريم حملت بعيسى تسعة أشهر كاملة، وإن كنا لا ننكر أن الله عز وجل قادر على أن تحمل مريم بعيسى وتلده في ساعة واحدة، فنحن لا ننكر إمكان ذلك بقدرة الله، ولكن الصحيح أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، فلما رأى يوسف النجار -الذي اتهم بأنه قد فعل بها الفاحشة- بوادر الحمل تظهر على مريم يوماً بعد يوم عرَّض لها في القول وقال لها: يا مريم! إني سائلك عن شيء فلا تعجلي علي.
فقالت مريم: سل يا يوسف عما شئت، ولا تقل إلا حقاً.
فقال لها: يا مريم! هل يكون زرع بغير بذر؟! وهل يكون نبات بغير مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟! فقالت مر يم: نعم يا يوسف.
قال: كيف ذلك يا مريم؟! قالت: يا يوسف أنسيت أن الله تعالى خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر، وخلق النبات يوم خلقه من غير مطر، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم.
قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
لقد خلق الله آدم من غير أب ومن غير أم، وخلق حواء من أب دون أم، وخلق عيسى من أم دون أب، وخلقني وخلقك من أب وأم لتكتمل قدرة الله، وليتبين للخلق جميعاً أن الله على كل شيء قدير.
فمن الناس من عبد عزيراً، ومن الناس من عبد عيسى ابن مريم، ولا زالوا في عصر الذرة يعبدونه من دون الله جل وعلا! ومن الناس إلى الآن من يعبدون الأيدلوجيات والنظريات والقوميات والوطنيات والبعثيات، ألم تسمع قول القائل: هبوني ديناً يجعل العرُبْ أمة وسيروا بجثماني على دين برهمي أي: على دين إبراهيم الخليل.
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم ألم تسمع قول القائل: آمنت بحزب البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثان ألم تسمع قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً؛ لتبقى مصر فرعونية؟! أقوال خطيرة.
إذاً: يزول الإشكال وتزول الغرابة إذا طرحنا هذا السؤال: من نعبد؟(124/4)
غنى الله عن العالمين
حدد
الجواب
من تعبد؟ لمن تسمع؟ من تطيع؟ سؤال مهم يحتاج إلى تكرار، بل ولا ينبغي أن نمل من طرحه؛ من أجل ذلك شن الإسلام حملة ضارية على الشرك، وبين خطر الشرك، وبين أن التوحيد هو طريق النجاة الأوحد، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأنا أقول لكم أيها الأحبة: والله لو تخلى الخلق على وجه الأرض عن عبادة الله جل وعلا ما ضروا إلا أنفسهم، فإن الله غني عن خلقه، لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، بل إن الكون كله يسبح الله ويوحد الله، انظر إلى السماء وارتفاعها، انظر إلى الأرض واتساعها، انظر إلى الجبال وأثقالها، انظر إلى الأفلاك ودورانها، انظر إلى البحار وأمواجها، انظر إلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن، فوالله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن الشكر لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا من كفر من الإنس والجن ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، كل شيء في الكون يسجد لله ويوحد الله عز وجل، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي وفيه: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجداً خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه).(124/5)
لماذا نعبد الله؟(124/6)
نعبد الله طلباً لجنته وخوفاً من ناره
ثالثاً: نعبد الله عز وجل طلباً لجنته وخوفاً من ناره، وقد قال بعض أهل التصوف حكاية عن رابعة: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها! وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني فيها! وإن كنت أعبدك لأنك تستحق أن تعبد لذاتك فلا تحرمني من النظر إلى وجهك الكريم! فقالوا: من عبد الله طلباً لجنته وخوفاً من ناره فهو كأجير السوء، إن أخذ الأجرة عمل، وإن لم يأخذ الأجرة لم يعمل.
فرد عليهم أهل التحقيق والعلم وقالوا: إن أعرف الناس بالله وبجلاله وبكماله هم الأنبياء والرسل، أليس كذلك؟! بلى، الأنبياء والرسل أعرف الناس بجلال الله، وبقدره، وبكماله، وبعظمته، ومع ذلك عبدوا الله عز وجل وهم يسألونه الجنة، ويستعيذون به من النار، قال قدوة الموحدين وإمام المحققين وخليل رب العالمين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في دعائه لربه: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85]، وقال أيضاً: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87]، وهل هناك خزي أخزى من النار يوم يبعثون؟! وهذا إمام الموحدين وقدوة المحققين وأعرف الخلق قاطبة برب العالمين، سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوماً صحابياً من أصحابه فقال له: (بم تدعو الله في صلاتك؟ قال: يا رسول الله! أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، بل أدعو الله بدعوتين اثنتين، قال: ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فإني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي: حولها ندندن) وفي رواية: (وهل تصير دندنتي أنا ومعاذ إلا أن نسأل الله الجنة، ونعوذ به من النار؟!).
وقد جمع الإمام ابن القيم بفهمه الراقي القولين، وأزال الخلاف بين الفريقين، بأسلوب رائع قلما تقف عليه لغير ابن القيم فقال رحمه الله: وسر الخلاف ناتج عن فهم مغلوط لحقيقة الجنة، فالفريق الأول ظن أن الجنة هي دار للنعيم المادي فحسب، الذي هو الأنهار والأشجار والحور والذهب والفضة والحرير إلى آخره.
ثم قال ابن القيم: ولكن الجنة اسم لدار النعيم المطلق، وأعلى درجات هذا النعيم هو النظر إلى وجه الرب الكريم، فنعيم الجنة الحقيقي ليس في خمرها ولا في ذهبها ولا في فضتها، ولا في أنهارها ولا في قصورها، ولا في حريرها ولا في حورها، ولكن أعلى نعيم الجنة في النظر إلى وجه الله؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] أي: أكبر من الجنة بما فيها من نعيم، روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة، ونجيتنا من النار؟! فيقول الله عز وجل: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
ولله در القائل: قليل منك يكفيني ولكن قليلك لا يقال له قليل وفي حديث صهيب وأبي سعيد: (ثم يكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا)، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، أي: الجنة، والزيادة هي: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في جنات النعيم.
إذاً: أيها الأحبة الكرام! نحن نعبد الله طلباً لجنته وخوفاً من ناره.(124/7)
العبادة غذاء الروح
ثانياً: نعبد الله تعالى؛ لأن العبادة غذاء لأرواحنا نحن، ليست لربنا جل وعلا، الإنسان بدن وروح، والبدن له طعام وله غذاء وله شراب، وكذلك الروح لها غذاؤها وشرابها، فإن أعطيت البدن كلما يشتهيه بقيت الروح في أعماق البدن تصرخ تريد غذاءً ودواءً، وهذا ما يعانيه الغرب الآن، أعطى الغرب البدن كلما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماق البدن تصرخ تريد دواءً وتريد غذاءً، فوقف الغرب أمام الروح عاجزاً؛ لأن الروح لا توزن بالجرام ولا تقاس بالترمومتر الزئبقي، ولا توضع في بوتقة التجارب في معامل الكيمياء أو في معامل الفيزياء، ومن هنا وقف الغرب عاجزاً أمامها؛ لأنه لا يعلم غذاء الروح إلا خالقها، ولن يتوصل العبد إلى غذاء الروح إلا من طريق الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فهم قد قفزوا قفزات هائلة جداً في الجانب العلمي المادي، لكن علمهم في الآخرة في الحضيض كما قال الله تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، وقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فوقعوا في الضنك والشقاء، فلا تظنوا أن الغربي سعيد، لا والله، بل يذوق الضنك كما قال الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].
كنت ألقي محاضرة في يوم من الأيام في المركز الإسلامي في لوس أنجلس في أمريكا، وقاطعني وأنا ألقي المحاضرة أخوان مسلمان سوريان، ومعهما رجل أمريكي ثالث، وقالا لي: نريد أن يردد هذا الأمريكي من خلفك الشهادتين.
قلت: أهلاً وسهلاً تفضل يا أخي! وقبل أن يشهد أن لا إله إلا الله أردت أن أسأله، لماذا أتيت لتسلم وأحوال المسلمين لا تسر عدواً ولا حبيباً؟! ما الذي جاء بك إلينا ومصيبتنا عظيمة؟! فقال لي هذا الأمريكي: إنه ملياردير يمتلك الأساطيل والأموال والشركات الكثيرة، ثم قال لي: ولكن والله يا أخي! ما ذقت طعم السعادة قط، بل وانتشلت من محاولات الانتحار أكثر من عشر مرات.
وسأنتقل بكم لنلقي نظرة على حياة هذا الرجل في عجالة، فبعد أن شرح الله صدره للإسلام دعاني لتناول الغداء معه في قصره، فدخلت قصراً على المحيط مصنع من الزجاج! ونصف القصر في الماء! إن نزلت إلى الجانب الذي في المحيط تشعر أنك من بين الأشياء التي تعيش في المحيط! ترى الأسماك وترى الشعاب، ثم تنتقل إلى الشاطئ الآخر، ملك عجيب! وجلسنا لتناول الغداء، وكنا في برد قارس، فضغط على زر إلى جواره فأذاب الجليد الذي تراكم على السيارة وفي أرضية الممر، ثم ركبت جواره، وضغط على زر آخر فامتدت ذراع إلكترونية لتلمع له حذاءه وهو جالس على كرسي السيارة! أرجو أن تتصور أنت حياة بهذه الكيفية، ومع ذلك يقول: ما شعر بطعم السعادة، لا إله إلا الله!! ما شعر بطعم السعادة؛ لأن البدن أخذ كلما يشتهيه: نساء وخمور وسفر وو لكن بقيت الروح، وعلى قدر ما يأخذ البدن من شهوات على قدر شقاء الروح إن لم تأخذ شيئاً من غذائها ودوائها، قد لا يشعر بهذا الشقاء الروحي كثير منا؛ لأنك تصلي تقرأ القرآن تصلي الليل تجلس في مجلس علم، فلا تشعر بشقاء الروح.
يقول لي هذا الرجل الأمريكي: لفت نظري هذا الأخ، وأشار إلى أخ من الأخوين السوريين، يقول: ما دخلت يوماً الشركة إلا وأنا مخمور ومهتز، ودائماً أرى هذا الرجل سعيداً مبتسماً نشيطاً، ثم لفت نظري أنه يغسل قدمه في حوض الماء الذي أغسل فيه وجهي، فتعجبت منه وقلت: ماذا تصنع؟ قال: أتوضأ.
قلت: لماذا الوضوء؟ قال: لأصلي.
قلت: لمن الصلاة؟ قال: لله.
قلت: من الله؟ فبين له بكلمات بسيطة جداً، والرجل ليس داعية ولا عالماً ولا شيخاً، كلمات سهلة.
فقال له الأمريكي: ما دخلت يوماً عليك إلا ورأيت البسمة على وجهك، ورأيت النشاط في جسمك.
قال: أنا مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم علمني حديثاً يقول فيه: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فأنا صابر وسعيد في كل الأحوال.
وأنا أؤكد أن الأمريكيين لا يعتقدون شيئاً، أؤكد لكم أن قلوبهم خاوية، وأنا أقول لإخواني دائماً في الشرق والغرب حينما أسافر إليهم: إن الذي سيكسب هو الذي سيسبق، الأمريكي مستعد ليتلقى العقيدة السيخية والبوذية واليهودية والشركية والإلحادية والإسلامية، من يسبق إليه ليبين له معتقداً يربطه بقوة خارقة من وجهة نظر هذا الأمريكي سيؤمن بها، ما عنده شيء على الإطلاق.
فقال له: هل لو دخلت دينك الذي أنت فيه سأشعر بالسعادة التي تشعر بها الآن؟ قال: نعم.
قال: أدخلني فيه.
قال: اغتسل، فاغتسل وجاء به إلى المركز، وقدر الله لي هذا الرزق من غير سبب، وقام الرجل ليردد خلفي الشهادتين، وقال: كنت لأول مرة أشعر بثقل الشهادة، يردد الرجل الحروف خلفي، وكأنه ينقل حجارة من جبل إلى آخر، فلما انتهى من النطق بالشهادتين بكى، وارتج جسمه بالبكاء، فلما أراد الإخوة أن يسكتوه قلت: اتركوه، دعوه، فلما هدأ قلت له: يا أخي! لماذا بكيت؟! فأجابني في ترجمة حرفية تقريباً: أشعر الآن بسعادة ما ذقت طعمها قبل الآن! قلت: إنها نعمة شرح الصدر بالإسلام، ومحال أن تتذوق طعمها إلا إن دخلت إلى الإسلام بصدق وإخلاص، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124].
فالعبادة -إذاً- لتغذي أرواحنا، لتقربنا من ربنا جل وعلا، فنحن نحتاج إلى العبادة، قال أحد السلف: مساكين والله أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله والأنس به، لا تشعر بحلاوة ولا بلذة ولا بسعادة ولا بطمأنينة إلا في رحاب الله، إلا مع الله، إلا في طاعة الله.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد(124/8)
العبادة حق الله على عباده
قد تقول: نحن معك، ونوافقك على أن الله عز وجل غني عن خلقه، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، ولا يزيد في ملكه حمد الحامدين، ولا شكر الشاكرين؛ ولا ينقص ملكه إعراض المعرضين، ولا كفر الكافرين، ولا إنكار المنكرين، ولا جحود المكذبين، إذاً: لماذا أمرنا بعبادته؟! هذا هو عنصرنا الثالث: لماذا نعبد الله؟ والجواب يا إخوة في نقاط محددة أيضاً: نعبد الله عز وجل؛ لأن العبادة حق الله على عباده، ففي الصحيحين من حديث معاذ قال: (كنت دريف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟! قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً).
فليس بمستنكر ولا بمستغرب أن يكون لله حق علينا، لكن المستنكر والمستغرب أن نجحد حق الله علينا.
أخي الكريم! لو أتاك الليلة رجل إلى بيتك في جوف الليل وقال لك: أخي في الله! لقد سمعت أنك تمر بضائقة مالية، ثم قدم لك عشرة آلاف ريال، أنا أسألك: هل ستنسى إحسان هذا الرجل إليك طوال حياتك؟! لا والله لن تسنى إحسانه إليك أبداً.
ونحن غارقون من رءوسنا إلى أقدامنا، ومن حياتنا إلى مماتنا في إحسان ربنا، ومع ذلك نجحد إحسانه إلينا، وكن على يقين بأن هذا الرجل الذي أتاك إلى دارك، ما أتاك إلا لإحسان الله سبحانه إليك، من الذي حرك قلبه، ولين مفاصله وجوارحه ليأتيك في بيتك في جوف الليل؟! إنه الله، فتذكر إحسان عبد إليك، وتنسى إحسان خالقك إليك! إننا غرقى في نعم الله وفضله، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
والله -يا إخوة- لقد دعاني إخوانكم في منطقة المعادي في القاهرة لإلقاء محاضرة، ولجمع تبرعات لصالح إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، ودعوت الناس لجمع التبرعات، وجمعنا في تلك الليلة مبلغاً يصل إلى خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات، وأنا أؤكد بأن الناس ما أصيبوا بأزمة بخل، ولكنهم أصيبوا بأزمة ثقة فيمن يدفعون إليهم أموالهم، واشترينا الملابس والطعام والهدايا، وأصر الإخوة أن أذهب معهم إلى إخواننا فذهبت، ودخلنا العنبر الأول وكان للنساء، فجاءت فتاة علمت بعد ذلك أنها خرجت من كلية الطب، فأخذت هذه الغترة وجرت، ثم ألقتها على الأرض، ثم ضحكت، ثم بكت، ثم تركتنا وذهبت إلى ركن من أركان العنبر، وتجردت من ثيابها كيوم ولدتها أمها! وقد من الله عليها بجمال خلقي منقطع النظير، فبكيت والله وكأني لم أبك من قبل، وقلت لإخواني الذين معي: يا إخوة أشهد الله ثم أشهدكم أنني ما فكرت في نعمة العقل إلا في هذه اللحظة، فهل فكرت في نعمة العقل قبل ذلك؟! هل شكرت الله على نعمة العقل؟! كثير منا يظن أن النعمة هي المال فقط، فإن منّ الله عليه بالمال فهو في نعمة، وإن سلب الله منه المال وأعطاه كل النعم فما أنعم الله عليه بشيء! النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن كان أحد السلف إذا دخل الخلاء على قدميه، وطهر نفسه بيده، خرج وهو يقول: يا لها من نعمة منسية، غفل عن شكرها كثير من الناس! دخل ملك من ملوك الدنيا يوماً على ابن السماك الواعظ، وألح عليه في طلب كوب من الماء البارد، فلما أحضر له ابن السماك كوب الماء البارد قال له: أسألك بالله يا سيدي لو منع منك هذا الكوب من الماء فبكم تشتريه الآن؟ قال: والله بنصف ملكي.
قال: أسألك بالله! ولو حبس فيك هذا الماء فبكم تشتري إخراجه؟ قال: بالنصف الآخر.
فبكى ابن السماك وقال: اشرب هنأك الله، وأف لملك لا يساوي شربة ماء.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6]، تجحد إحسان الله إليك، وفضل الله عليك، وأنت غارق في نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
إذاً: ليس بمستغرب أن نعبد الله لنوفي حق الله، ولكن المستغرب والمستنكر أن ننكر حق الله! وأن ننكر فضل الله عز وجل، وألا نمتثل أمره، وألا نجتنب نهيه، وألا نقف عند حدوده!(124/9)
بماذا نعبد الله؟
وأخيراً: بماذا نعبد الله؟ والجواب في كلمات قليلة -فلقد أطلت عليكم- نعبد الله عز وجل بما شرعه لنا على لسان نبيه ورسوله المصطفى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وجماع الدين أصلان: الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له.
والأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله، وهذان الأصلان هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فبالشهادة الأولى يعرف المعبود عز وجل، وبالشهادة الثانية يعرف الطريق الذي تصل من خلاله إلى المعبود عز وجل، إذ إن كل الطرق إلى الله مسدودة إلا طريق المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
ولله در القائل: من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء ما العبادة؟ من نعبد؟ لماذا نعبد؟ بماذا نعبد؟ أسئلة مهمة تحتاج إلى جواب دقيق صادق من كل مسلم ومسلمة، فهيا حدد لنفسك من الآن جواباً على هذه الأسئلة، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم من الصادقين المخلصين، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة سيد النبيين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(124/10)
من أنا؟
لقد أنشأ أهل الزيغ والضلال والإلحاد من العلمانيين والاشتراكيين وغيرهم معتقدات باطلة، ونظريات ملحدة كافرة، فأنكروا وجود الله، وأنكروا أنه خلقهم، وأنهم إذا ماتوا سيبعثون إليه؛ ولذا نشأ عن هذه النظريات حيرة في العقول عند بعضٍ فجعل يتساءل: من أنا؟ ومن أين جئت؟ ولماذا جئت؟ فهذه شكوك وأسئلة نتجت عن تلك العقائد والنظريات، ولكن القرآن قد وقف لتلك المعتقدات بالمرصاد، فنقضها وبين بطلانها، وأجاب عن هذه الأسئلة، فمن بعد عن القرآن حري به أن يتغير عقله وتفسد فطرته بملابسة هذه الأفكار.(125/1)
بيان حقيقة الإنسان، وبيان الكمة التي من أجلها خلق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! من أنا؟!! ولأهمية الجواب على هذا السؤال أؤصله بمقدمة مهمة جداً بين يدي الجواب، وأستهل هذه المقدمة بهذه الكلمات، فأقول: إن كل جهل مهما عظمت نتائجه قد يغتفر، إلا أن يجهل الإنسان خالقه سبحانه وتعالى، وسر وجوده، والغاية التي من أجلها خُلق، فالجهل في جانب العقيدة لا يغتفر، وهو أن يجهل الإنسان خالقه، وأن يجهل الإنسان الغاية التي من أجلها خُلق، فأكبر عار على هذا الإنسان الذي آتاه الله عز وجل العقل والإرادة وميزه على سائر المخلوقات في الكون أن يعيش غافلاً عن الله، فيأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، ولا يفكر في خالق، ولا يبحث عن الغاية، ولا عن الوظيفة التي من أجلها خُلق، ولها ابتعث، ولا يبحث عن طبيعة دوره في هذه الأرض، حتى يأتيه الأجل والموت دون أن يستعد لهذا اليوم، فيجني ثمرة الغفلة والجهل والانحراف في عمره الطويل أو القصير، وحينئذ يندم يوم لا ينفع الندم، وهو بين يدي الله تبارك وتعالى يرى نفسه أخس من البهائم والحيوانات، فإن البهائم والحيوانات كلها عرفت ربها وسجدت له، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
وقال تعالى في شأن هذا الصنف الذي هو أخس من البهائم، الذي يجهل خالقه، ويجهل غاية وجوده وسر ابتعاثه في هذه الأرض: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فهذا الصنف صنف خبيث، يقول قائله: جئت لا أعلم من أين؟ ولكني أتيت! ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت! وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت! كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري، لست أدري!! إنه كالبهيمة! لأنه لا يعرف غاية وسر وجوده في هذه الأرض، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] فأي جهل أبشع وأفظع من أن يجهل الإنسان -الذي يتعالى بعقله، ويتعالى بإبداعاته المادية- ربه عز وجل؟! وأي جهل أجهل من أن يجهل هذا الإنسان المتعالي ربه وخالقه الذي خلقه وبعثه وأوجده سبحانه وتعالى؟! هذا هو الجهل المدقع الذي لا يغتفر.
ولهذا كان لزاماً على كل إنسان عاقل أن يبادر ليسأل نفسه هذا
السؤال
لماذا خُلقت؟ وما هي الغاية من خلقي؟ وحتماً قبل طرح هذين السؤالين لابد وأن تطرح على نفسك سؤالين مهمين آخرين: السؤال الأول هو: من أين أنا؟ ومن أنا؟ ومن أوجدني؟ ومن خلقني؟ السؤال الثاني: ما هو المصير؟ وإلى أين نسير؟ لابد من أن تطرح على نفسك هذين السؤالين لتتعرف على الغاية التي من أجلها خلقت، فإن عرفت من خالقك، وعرفت الغاية التي من أجلها خلقت، فحينئذ ستعرف من أنت، وستعرف مصيرك ومسيرك، فلابد من الإجابة على هذه الأسئلة: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذ؟ أي: ولماذا خلقت؟ هذه الأسئلة الثلاثة هي التي صاحبت الإنسان في كل فترات حياته، وفي كل مكان وجد فيه، وهي تطلب من أي إنسان الجواب الشافي لها في كل مرحلة من مراحل العمر، وفي كل مكان على وجه البسيطة من يوم خلق الله عز وجل آدم عليه السلام.
و
الجواب
أقول: أما السؤال الأول: فهو عقدة العقد عند الماديين الملحدين في كل زمان ومكان؛ فعليهم أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال: من أين أنا؟ ومن الذي خلقني؟ ومن الذي أوجدني؟ ولكن هؤلاء لا يؤمنون إلا بما تقع عليه الحواس، أي: إلا بما تراه الأعين، فأحدهم يؤمن بالمصباح؛ لأنه يراه بعينه منيراً مضيئاً، لكنه في الوقت ذاته يغض الطرف عن التيار الكهربائي الذي لا يراه بعينه والذي هو سر إضاءة هذا المصباح!! فهو مادي أعمى لا يؤمن إلا بما تراه عينه، حتى ولو كذبه عقله، لكنه لا يؤمن إلا بما تحسه الأيدي وبما تراه العيون، وهؤلاء يتخذون منطق العقل -زعموا- دليلاً على الوصول إلى الحق والحقيقة، ويصرون في عمى عجيب على أن هذا الكون بما فيه ومن فيه وُجِدَ وحده، وكل ما في هذا الكون من إحكام وترتيب إنما هو صنع المصادفة العمياء!!(125/2)
نداء الفطرة يجيب عن أسئلة الماديين
وأما الذين يستجيبون لنداء الفطرة في كل زمان ومكان فهؤلاء يقرون حتماً بأن لهذا الكون إلهاً ورباً حكيماً عظيماً جل جلاله، تتجه قلوبهم إليه سبحانه وتعالى بالتعظيم، والرجاء، والخشية، والتفويض، والتوكل، والإنابة والعبادة بصفة عامة، ويشعرون بخالق هذا الكون، ويتجهون إليه سبحانه بفطرهم السليمة النقية التي لم تعكرها الماديات والشبهات والشهوات، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
لكن هذا الصوت - أعني: صوت الفطرة - قد يخفت في قلب وعقل إنسان، أو قد يكبت هذا الصوت صاحبُه عمداً عن كبر، فالمشركون لم ينكروا أن الله عز وجل هو الخالق، بل كفروا به سبحانه وتعالى كبراً وعناداً، كما قال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].
وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14] فهؤلاء يقرون بهذه الحقيقة، لكنهم قد يرفضونها كبراً وعناداً -وهذا كلام مهم جداً - فالفطرة قد تخفت في قلب وعقل إنسان عن قصد وعن عمد من صاحبه، فإذا نزلت بهذا الإنسان نفسه أزمة أو أحداث مريرة أو مشكلة، واهتز هذا الإنسان أمام هذه الأزمة وأمام هذه الشدة، وخاب أمله في كل الناس من حوله، تراه ينطلق مرة أخرى مستجيباً لهذا الصوت الذي يعلو في أعماقه، ألا وهو صوت الفطرة، فيتجه مرة أخرى -رغم أنفه- لله جل وعلا.
وتدبر معي هذا الحوار النفيس الجميل! بين رجل وبين الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه، وقد بينت من قبل أننا لا ننكر ما لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من مناقب بدعوى أن الروافض قد رفعوهم إلى مرتبة الألوهية، ونحن لا نسقط ما لهم من مناقب بهذه الدعوى، بل نثبت لهم ما ثبت من الحق بدليله، وقد بينت ذلك وأنا أرد على الشيعة، وقلت بأنهم يتمسحون بالإمام العالم العلم جعفر الصادق وهو بريء من كل ما يؤصلونه مخالفاً لقرآن الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء من أعلم الناس ومن أكثر الناس اتباعاً لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلقد سأل هذا الرجل الإمام جعفراً الصادق رضي الله عنه عن الله؟! فقال له جعفر: ألم تركب البحر؟! -يعني: هل ركبت باخرة أو مركباً أو سفينة؟ قال: بلى، فقال جعفر: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟! قال: نعم، قال جعفر: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك وانقدح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟! قال: نعم، قال: هذا هو الله سبحانه وتعالى.
وهذه الحقيقة تثبتها آيات كثيرة جداً في القرآن، وتدبر معي قول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر:8]، بل وتدبر آية هي أوضح من السابقة، قال الله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء:67] ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذه طبيعة الإنسان، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
فإذا كان منطق الفطرة يهدي إلى الله تعالى، والفطرة ليست وجداناً خالصاً، بل وليست عقلاً خالصاً، ولكنها مزيج بين الوجدان -وهو القلب- وبين العقل.(125/3)
العقل السليم يؤمن بقانون السببية
أقول: إن العقل السوي فقط هو الذي يرى الإيمان بالله تبارك تعالى ضرورة لا يستطيع الإنسان على الإطلاق أن يعيش بدونها، وأقول: إذا كانت الفطرة مزيجاً بين الوجدان والعقل فإن العقل وحده فقط يرى الإيمان بالله تبارك وتعالى ضرورة يستحيل أن يعيش الإنسان السوي بدونها، فإن العقل بغير تعلم وبغير اكتساب يؤمن حتماً بقانون السببية، هذه الورقة في يدي الآن تهتز لسبب، وهذا هو قانون السببية؛ لأنني أحركها، فالعقل بدون تعلم وبدون اكتساب يؤمن بقانون السببية، ويؤمن بهذا القانون إيمانه بكل البدائيات والأولويات التي لا تحتاج إلى دليل، يعني: أنه لا يبنبغي لعاقل إذا رأى الشمس ساطعة فى أفق السماء أن يقول: ما هو الدليل على أن الشمس طالعة؟ فإذا كان كذلك فيجب أن يسأل: ما هو الدليل على وجود عقله في رأسه؟ دخل بعض الملاحدة يوماً على طلابه، وأراد بهذا القانون أن يثبت الضد، فقال لهم: يا أولاد! هل ترون أستاذكم؟ قالوا: نعم، فقال: هل ترون السبورة التي أكتب لكم عليها؟ قالوا: نعم، فقال: هل ترون الكرسي الذي أجلس عليه؟ قالوا: نعم، وتدرج بهذه الأسئلة إلى أن قال: هل ترون الله؟!! قالوا: لا، قال: إذاً: هو غير موجود!! وهؤلاء هم الماديون الأغبياء الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس المرئي، فقيض الله تلميذاً صغيراً من تلاميذه، فاستأذن أستاذه ووقف إلى جواره، واتجه التلميذ إلى زملائه وقال: يا أولاد! هل ترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذاً: هو غير موجود!! أي: أنه مجنون، والمجنون ليس له قيمة! فالعقل بدون تعلم وبدون اكتساب يؤمن بقانون السببية إيمانه بالأمور الأولية الابتدائية التي لا تحتاج إلى دليل على وجودها، فلا يقبل العقل السوي فعلاً بغير فاعل أبداً، ولا يقبل العقل السوي صنعة بغير صانع، بل هذا مستحيل! وهذا القانون هو الذي عبر عنه الأعرابي الأول ببساطة شديدة، حيث لم يتخرج في جامعة من الجامعات، ولا في كلية من الكليات، وإن شئت فقل: ما تخرج إلا من جامعة الفطرة، فحينما سئل عن الله عز وجل قال مستدلاً بعقله الذي آمن بقانون السببية البدائية: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟! هذا هو القانون ببساطة شديدة، هذا هو الذي عبر عنه إمام أهل السنة أحمد بن حنبل طيب الله ثراه حينما أمسك البيضة يوماً وقال: هنا حصن حصين، أملس ليس له باب، وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، وبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن، وصوت مليح.
هذا هو القانون الذي عبر عنه الشافعي عندما أمسك ورقة التوت يوماً فقال: ورقة التوت، تأكلها الغزالة فتعطينا مسكاً، وتأكلها الشاة فتعطينا لبناً، وتأكلها دودة القز فتعطينا حريراً، إن الطعام واحد ولو كانت الأمور بالمصادفة العمياء لكانت عصارة الطعام للطعام الواحد واحدة، ولكنها كانت في الشاة لبناً، وكانت في الغزالة مسكاً، وكانت في الدودة حريراً.
ولكن هؤلاء الملاحدة كما قال الله عز وجل: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].(125/4)
علماء الغرب واعترافهم بوجود الله
وهناك عالم الطبيعة المشهور إسحاق نيوتن، وأنا لا أستشهد بقول هؤلاء لأثبت الحق الذي نحن عليه، كلا! فإنه لا يجوز لمسلم ألبتة أن يستشهد بكلام مخلوق على وجه الأرض على صدق الله وصدق رسوله، وأنا لا أستشهد بأقوال أهل العلم -علماء الطبيعة والجيولوجيا والفلك والرياضيات- على صحة وصدق قول الله وقول الرسول، ولا أستشهد بالنظريات العلمية على صدق كلام رب البرية وكلام سيد البشرية، إنما أنا أثبت للناس ممن -وبكل أسف- يصدقون ما يأتي من علماء الغرب لا أقول: كتصديقهم لكتاب الله، بل أشد من تصديقهم لكلام الله ورسوله! وهذا صنف موجود، وأنا لا أبالغ ولا أغالي، ولا أجيش العواطف بكلام فارغ أجوف، كلا! بل هذا صنف موجود يصدق كلام علماء الغرب أكثر من تصديقه لرب السماء والأرض، وأكثر من تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم رسول رب السماء والأرض! وقد ضربت قبل ذلك مثالاً بحديث الذباب: (إذا ولغ الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءً) فكم ممن ينسبون إلى الإسلام قد ردوا هذا الحديث وأنكروه بدعوى أنه لا يعقل! ويقولون: كيف يعقل أن الذبابة إن سقطت في سائل كهذا أن يغمسها عاقل بدعوى أنها تحمل في أحد جناحيها الداء وفي الآخر الدواء؟ فلما قدم البحث من جامعة (هارفرد) وقام هذا العالم الشهير برثيلد وبحث هذا الحديث، ووجد أن الذبابة بالفعل تحمل في جناح من جناحيها داءً خطيراً عن طريق فيروس معين في جناح الذبابة، فإذا سقطت تفرز هذا الفيروس، ثم اكتشف هذا العالم أن الذبابة في الوقت ذاته تحمل على الجناح الآخر وعلى باطن الذبابة من أسفل نوعاً من أنواع الفطريات سماها هو (أميوزا موسكي) هذا الفطر الذي يمثل نوعاً واحداً من أنواع المضادات الحيوية لهذا الفيروس قال: بأن جراماً واحداً من هذا الفطر الذي يشكل مضاداً حيوياً على جناح أو على جسم الذبابة كفيل بأن يحمي ألفي لتر من اللبن المبستر من الجراثيم، والعجيب أن هذا العالم اكتشف أن الذبابة لا تفرز هذا الفطر الذي يشكل مضاداً حيوياً للفيروس إلا إذا غمست كلها في السائل، فمن الذي علم المصطفى ذلك؟! ولكن الذي يدمي القلب أن هذا البحث عندما قدم صدق كل من رد الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا خلل! فيجب عليك أن تصدق وإن لم يقتنع عقلك، بشرط أن تثبت صحة الرواية إلى رسول الله، يعني: إن ثبتت نسبة هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقواعد التي وضعها الصيارفة النقاد، والجهابذة الأعلام من علماء الحديث فيجب عليك حينئذ أن تسلم، وأن تستسلم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يدركه عقلك؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، قال جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5].
فأنا أستدل بهذه الأقوال لعلماء الغرب من علماء الطبيعة والفلك والجيولوجيا لا لأصدق بكلامهم كلام ربنا وكلام نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما لأثبت لأصحاب هذه العقول الضعيفة -لا أريد أقول المريضة-أن الحق ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم من عند ربنا جل جلاله.
ومنهجنا أننا نقبل الحق على لسان أي أحد، ونرد الباطل على لسان أي أحد، هذا منهجنا الذي ندين لله به، ولو كان من شيوخنا الذين نتتلمذ ونتربى ونتلقى العلم على أيديهم، من هذا المنطلق أقول: يقول إسحاق نيوتن عالم الطبيعة المشهور: لا تَشُكّوا في الخالق -والكلام لما يأتي من عالم من هؤلاء العلماء يكون له طعم، وهذا ليس من رجل موحد مؤمن يقول هذه عقيدته، ولكن لما يقول هذا الكلام عالم من غير المسلمين يكون له مغزىً- فإنه مما لا يعقل أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود!! فليس بممكن أبداً أن تكون المصادفات وحدها هي قاعدة هذا الوجود، وليس بممكن أبداً أن تكون الصدفة هي التي خلقت هذا الوجود بهذا الإبداع والجمال والجلال، والله العظيم! الله العظيم! لو نظر عالم من هؤلاء العلماء الذين يؤمنون بالله إلى حبات الذرة لوحد الله وعبده؛ لو نظر إلى هذه الحبات اللؤلؤية البيضاء كيف رصت بهذا الجمال والإتقان والتناسق والإبداع -والله! لو أنصف- لوحد الله وعبده، ومستحيل أن ترص هذه الحبات بهذا الجمال والتناسق والإبداع على السنبلة صدفة! ويقول سبنسر نقلاً عن عالم آخر يقال له هرشل: كلما اتسع نطاق العلم ازدادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي لا حد لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم، وهو صرح عظمة الله وحده إلى آخر هذه الأقوال الخطيرة التي قد ذكرت كثيراً منها.
وأنا أتحدث عن قضية الاستنساخ التي بدأت تطفو على السطح مرة أخرى من جديد، لكننا نؤكد ونكرر أنهم لن يتمكنوا من أن يخلقوا ذبابة، والاستنساخ ليس خلقاً يضاهي خلق الله عز وجل، وإنما هم يعملون على خلق لله، ألا وهو الحيوان المنوي والبويضة، فإن أرادوا أن يزعموا الخلق فعلاً فليخلقوا حيواناً منوياً واحداً! وصدق ربي حيث يقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] سبحانه وتعالى.
ويقول سبنسر: إن العالم الذي يرى قطرة الماء، فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة -كم ذرة أكسجين؟ وكم ذرة هيدروجين؟! نسب دقيقة جداً- بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر.
أي: لو اختلفت هذه النسبة لتحولت إلى نار مشتعلة متأججة، قال الله عز وجل: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] فهذه البحار التي نراها تتحول إلى نار مشتعلة يوم القيامة؛ لأن النسب التي هي موجودة بين الأكسجين والهيدروجين تختل، فيبقى الماء في اشتعالات ونار متأججة، فالنسبة الآن موضوعة بدقة لكي تكون ماءً، يقول: إن العالم الذي يرى قطرة الماء فيعلم أنها تتركب من الأكسجين والهيدروجين بنسبة خاصة، بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر غير الماء، يعتقد عظمة الخالق وقدرته وحكمته وعلمه الواسع بصورة هي أقوى وأعظم من هذا الذي لا يرى في قطرة الماء إلا أنها نقطة ماء فحسب.
انظر إلى العالم الذي يدرك الحقائق، فالعالم عندما ينظر إلى نسب الأكسجين والهيدروجين في الماء يعرف لماذا نسبة الأكسجين زادت، ولماذا نسبة الهيدروجين قلَّت، فينظر إلى هذه الآية فيزداد إيماناً بالله سبحانه وتعالى، وهذا الإيمان يختلف عن إيمان العبد الذي ينظر إلى قطرة الماء على أنها قطرة ماء.
ويقول فرنسيس بيكون: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد.
فما هي هذه الفلسفة؟ هذه الفلسفة طريق للإلحاد، مثل ما كانوا يعلمونا في الثانوية العامة وما زال، أول قاعدة: (أنا أشك، إذاً: أنا موجود) ومثل ما قلت في خطبة (صفحات سود): لو صدقوا لقالوا: (أنا أشك، إذاً: أنا دبوس) لكن ما هي علاقة الشك بالوجود؟ أنه بدأ حياته بالشك ابتداءً، والشك لا يمكن أبداً أن يوصل إلى حقيقة مطلقة أبداً، بل إن عصفت رياح الشكوك بالإيمان في القلوب ضل الخلق، ولذلك رب العزة سبحانه وتعالى يصف المؤمنين بأن رياح الشك لا تهب ولا تعصف بقلوبهم أبداً، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يتشككوا.
إن من يبدأ بالشك لكي يصل إلى الحقيقة قد يضل، ومثل هذا إضلال لعقول أبنائنا وأولادنا، وكم من الناس اقتنع بهذه النظريات الفلسفية الباهتة الفارغة، التي يغني بطلانها عن إبطالها.
لكننا بكل أسف كنا نسلم العقول والقلوب لهؤلاء على أنهم لا ينطقون عن الهوى، فإذا جاء القول من عالم غربي سلمنا العقل والقلب وكأن هذا لا يخطئ!! ثم جاء بعد ذلك صنف خبيث ممن ينسبون إلى الإسلام في بلاد المسلمين فضخموا هؤلاء، ونفخوا فيهم؛ ليكونوا شيئاً مذكوراً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف، يُسمَعُ من بعيد وباطنه من كل الخيرات خالٍ، فيقال مثلاً: عميد الأدب العربي والاجتماعي الأول للأزهر، والأستاذ الدكتور، ونحو ذلك، فنفخ في هذا الصنف الذي نسج على هذا الدرب المظلم -درب العلمانيين، ودرب علماء الغرب الملحدين- وقالوا كلمات خبيثة، وأنا لا أقول ذلك من باب الدعوى، كلا! وإنما هي حقائق.
وهل تتصور أن يقول رجل ينسب إلى العلم ويشار إليه بالبنان لطلابه في كلية الآداب: ارفعوا القداسة عن القرآن، واقرءوه كتاباً بين أيديكم كأي كتاب من الكتب التي تستحق النقد والثناء؟!! فأنا لا أقول ذلك من باب الدعاوى، أقول: هذه حقائق، ثم يقول: ليس للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وعن إسماعيل فهذه أسطورة لا تستحق التصديق!! إلى آخر هذه الأقوال الكفرية.
يقول فرنسيس بيكون: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد.
فالإنسان إذا تفلسف يصل إلى طريق مسدود مستحيل؛ لأن هناك حقائق لا يتوصل لها بالعقل أبداً، وهذا لأجل أن يختصر على نفسه الطريق، وهناك من الحقائق ما لا يستطيع بشر أن يصل إليها بعقل مجرد أبداً.
فرب العزة سبحانه وتعالى لا تصل بعقلك إلى صفات كماله وأسماء جلاله! ولابد من الوصول إلى هذه الحقيقة عن طريق الوحي، فهناك حقائق لا تستطيع التوصل إليها بالعقل، فأقول: إن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها -أي: التعمق بالعقل في هذه الأشياء بإنصاف- ينتهي بالعقول إلى الإيمان، وذلك لأن عقل الإنسان قد يقف عندما يصادفه شيء من أسباب ثانوية مبعثرة، وهنا قد ينكر فلا يتابع السير إلى ما وراءها، ولكنه إذا أمعن النظر شهد سلسة الأسباب وكيف تتصل حلقاتها، ثم لا يجد بداً من التسليم بالله سبحانه وتعالى.
فهذه شهادة أولئك الذين رسخوا في علم الكون -الطبيعة والفيزياء- وأنا لا أريد أن أستطرد في أقوالهم، ورحم الله القائل: لله في الأفاق آيات لعل أقلها هو م(125/5)
الإيمان بالله تعالى ضرورة عقلية
وأخلص من هذه الكلمات الدقيقة المهمة إلى هذه الحقيقة الكبيرة ألا وهي: أن الإيمان بالله تبارك وتعالى ليس غريزة فطرية فحسب، ولكنه ضرورة عقلية أيضاً، وبدون هذا الإيمان سيظل هذا السؤال يحتاج إلى جواب.
ذلكم هو السؤال الخالد فى قول الله تبارك وتعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36].
وسيظل هذا السؤال مطروحاً يحتاج إلى جواب من هؤلاء المعاندين،
و
الجواب
لا يقول عاقل بأنه خُلق من غير شيء.
والسؤال الثاني: فهل خلقوا أنفسهم؟ والجواب: لا، ولم يزعم عاقل على وجه الأرض على طول التاريخ أنه خلق نفسه أو خلق الأرض أو خلق السماوات، فيبقى السؤال مطروحاً ويحتاج إلى جواب من كل عاقل منصف على وجه الأرض: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] فهم يقولون ببساطة شديدة في مصير هذا الإنسان بعد رحلة هذه الحياة الدنيا: إنه الفناء والعدم المطلق، أي: أن الأرض تطويه في بطنها كما طوت ملايين الحيوانات الأخرى، ثم تعيد هذا الجسد مرة أخرى إلى عناصره الأولى فيعود تراباً ثم تذروه الرياح، وهكذا!! هذه هي قصة الحياة عند هؤلاء الماديين الظالمين، فهم يقولون: أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا جزاء ولا حساب، ولا نعيم ولا عذاب!! ويستوي في ذلك عند هؤلاء من أحسن غاية الإحسان ومن أساء غاية الإساءة!! ويستوي في ذلك من عاش عمره للناس على حساب شهواته، ومن عاش عمره لشهواته على حساب الناس!! ويستوي في ذلك من ضحى بحياته في سبيل الحق ومن ضحى بالحق فى سبيل حياته!! ويستوي في ذلك من اعتدى على حياة الآخرين فى سبيل الباطل ومن عاش من أجل أن يرد وأن يدفع الباطل!! ويستوي في ذلك من عبد الله وحده لا شريك له ومن عبد آلهة أخرى باطلة مدعاة!! ويستوي في ذلك الموحدون والمشركون!! ويستوي في ذلك الظالمون والمظلومون!! ويستوي في ذلك القاهرون والمقهورون والمعذبون والمعذبَون!! وكل هذا ظلم، فأما المؤمن الذي مَنَّ الله عليه بالإيمان، وكرمه بالقرآن، وبرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يتلعثم في الجواب طرفة عين، فالمؤمن يعرف مصيره، ويعرف إلى أين يسير، فهو يؤمن بقول الملك القدير: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وشتان بين مادي ملحد وبين مؤمن يعرف أن الله عز وجل هو العدل وهو الحق، فالمؤمنون يعلمون أنهم خلقوا لحياة الخلود ودار البقاء، وهم في هذه الحياة الدنيا إنما يستصلحون وينقون، ويهذبون، ويعدون في هذه الدار إعداداً ليؤهلهم للعيش في دار البقاء؛ ليطيبهم الله تبارك وتعالى، وليكونوا أهلاً لدار طيبة، وليكونوا أهلاً لسلام الملائكة عليهم إذا دخلوا جنة ربهم جل وعلا، بأن يقولوا لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73].
إنه لعسير على العقل السوي أن يؤمن بخالق عليم حكيم عظيم أحسن هذا الكون خلقاً وصنعاً، وقدر فيه كل شيء تقديراً بحكمة، ووضع كل شيء في هذا الكون بميزان وحساب، ثم بعد كل ذلك يؤمن بأن سوق الحياة سينفض بالموت، وقد سرق فيه من سرق، ونهب من هب، وكفر من كفر، وظلم من ظلم، وأساء من أساء، واعتدى من اعتدى، ثم لا يقف بعد ذلك هؤلاء جميعاً بين يدى الله تبارك وتعالى ليقتص للمظلوم من الظالم، وليثيب الموحد على توحيده، والعابد على عبادته، لا يصدق عقل سوي مثل هذا أبداً، وما أروع كلام الله سبحانه وتعالى حيث قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وما أروع قول الله تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].
يعني: مهملاً لا سؤال ولا حساب ولا عقاب، كلا! وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:27 - 28]، فهذا محال يا أخي! وهذا ظلم يستحيل على الله الحق العدل سبحانه وتعالى.
وقال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:39 - 40].
ولا يمكن أبداً أن تنتهي الحياة إلى الموت أو عند الموت، ولا أن السارق سرق وانتهى، والظالم ظلم وراح، وظلم من ظلم دون أن ينتصر له، كل ذلك ليس صحيحاً.
من ألطف وأجمل ما قرأت الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه من مهاجري الحبشة عن أعجب ما رأوا بأرض الحبشة فقال: (حدثُوِنى بَأَعَاجِيبِ مَا رَأَيُتم بِأَرضِ الحَشَبةِ؟ فقال أحدهم: رأيت امرأة عجوزاً تحمل جرة ماء على رأسها، فجاء شاب فدفعها في ظهرها بين كتفيها من الخلف دفعة فأوقعها على الأرض، فخرت على ركبتيها وقد انكسرت جرتها أو قلتها، فلما استوت المرأة على الأرض نظرت إلى هذا الشاب وقالت: سوف تعلم يا غدر! أي: يا غادر! يا ظالم! - إذا وضع الله الكرسي يوم القيامة واقتص للمظلوم من الظالم، سوف تعلم مكاني ومكانك عنده غداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت صدقت! لا يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم).
فانظروا إلى فطرة هذه المرأة، وكيف أبرزت مشهداً من أعظم مشاهد يوم القيامة، ألا وهو مشهد الحساب، ومشهد الميزان، ومشهد الحق، نعم إنه مشهد حق، فسوف يعلم الظالم إذا وضع الله الكرسي يوم القيامة واقتص للمظلوم من الظالم أنه لابد من قصاص.
أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائماً بين الأنام أيها الظالمون! اظلموا فإنا متظلمون، وإنا إلى الله شاكون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فلا بد من وقفة يقف فيها الجميع بين يدي الله تبارك وتعالى، ليجازي الله كل واحد بعمله، كما قال عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
وقال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]، فالمؤمن يعرف المسير، ويعرف المصير، ويعرف أن المؤمنين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وأن الكافرين إلى نار، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنان، وأن يحرمنا على النيران؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(125/6)
الغاية التي من أجلها خلق الإنسان
إذاً السؤال الثالث والأخير والمهم بعدما عرف الإنسان خالقه، وبعدما عرف الإنسان مسيره ومصيره، يجب عليه أن يسأل نفسه هذا
السؤال
لماذا خُلقت؟ وما هي الغاية التي من أجلها خُلقت ووجدت؟ والجواب عند المؤمنين حاضر لا يحتاج إلى تفكير، فكل صانع يعلم سر صنعته لماذا صنعها؟ فالمؤمن حينما يبحث عن هذا السؤال عند خالقه يرى الجواب واضحاً، فإن سأل: لماذا خلقت؟ فسيأتي الجواب من الخالق الذي يعلم الغاية من الخلق، فهو الذي خلق الخلق لغاية يعلمها ويريدها سبحانه، سيأتي الجواب واضحاً: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
وتدبروا معي هذه الآية الجميلة التي قلّ من فكر فيها منا، قال الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12] فهذه الآية جعلت معرفة الله سبحانه وتعالى هي الغاية من خلق السموات والأرض، وتدبر الآية مرة أخرى! قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]، فالغاية هي أن تعرف الله، وأن تعرف أسماء جلاله، وأن تعرف صفات كماله، وأن تعرف قدره وعظمته، وأن تعرف أنك ما خلقت إلا لتوحده، وأنك ما خلقت إلا لتعبده، وأنك ما خلقت إلا لتخشاه وترجوه وتتوكل عليه، وإلا لتخلص العبادة له وحده بلا منازع أو شريك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
فالإنسان وبكل أسف يسأل عن الغاية التي خلق من أجلها كل شيء في الكون، مع أن كل شيء في الكون خُلق من أجلك أنت أيها الإنسان! فأنت تسأل: لماذا خُلقت السماوات؟ ولماذا خُلقت الأرض؟ ولماذا شق الله البحار؟ ولماذا أجرى الأنهار؟ ولماذا خلق الله الأزهار؟ ولماذا كذا؟ ولماذا كذا؟ في الوقت الذي لا يسأل الإنسان عن سبب خلقه هو، وعن غاية خلقه، ولا يقول: لماذا خُلقت أنا؟ فالله عز وجل خلق الماء للأرض، وخلق الله عز وجل الأرض للإنبات وللحياة، وخلق الله عز وجل النبات للحيوان وللإنسان، وخلق الله عز وجل الحيوان للإنسان، وخلق الله عز وجل الإنسان له وحده، فأنت مخلوق لله وحده، وأنت مربوب لله وحده، ولا يجوز لك ألبتة أن تصرف العبادة لغير خالقك سبحانه وتعالى، فالإنسان مخلوق لله؛ ليفرد الله خالقه بالعبادة وحده بلا منازع أو شريك؛ وهذه العبادة يا إخوة! لا يجوز أن تكون إلا لله وحده، وهي العهد والميثاق العظيم الذي أخذه الله على الخلق، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173].
فلا عجب يا إخوة! أن تكون العبادة هي الصيحة الأولى لكل نبي، وهي التوجيه الأول لكل رسول، فما من نبى ولا رسول بُعث في قومه إلا ودعا قومه أول ما دعاهم إلى عبادة الله وحده: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) فهذه دعوة آدم، وهذه دعوة إبراهيم، وهذه دعوة موسى، وهذه دعوة نوح، وهذه دعوة عيسى، وهذه دعوة محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل:36].
وقال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال الله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، فالعبادة أمر الله بها كل الخلق، وأمر بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، قال تعالى لنبيه المصطفى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، واليقين هنا هو الموت.
فالتكليف بالعبادة لازم للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل بشر على وجه الأرض حتى يلحق بربه تبارك وتعالى، بل وبين الله عز وجل أن المسيح عيسى بن مريم الذي عبده النصارى وجعلوه إلهاً من دون الله أنه لن يستنكف أن يكون عبداً له سبحانه وتعالى، فقال جلا وعلا: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172] وعبادة الله هي الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق.
وأكتفي بهذا القدر، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(125/7)
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد زكى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم تزكية كاملة، ظاهراً وباطناً: زكى باطنه وطهره من الشرك والكفر، وزكى ظاهره فجعله في أبهى صورة وأجملها.
وقد وصف الصحابة لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفصلوا وأجملوا في وصفه، فوصفوا وجهه وأنفه وجبينه وحاجبيه وعرقه وصدره وعنقه وبطنه وكفه ورجله، حتى مشيته وهيئة جلوسه ووقوفه.(126/1)
تزكية الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، واستن بسننه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفى الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ودار كرامته، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إننا في هذه الليلة على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أحلى أن يكون اللقاء معه! وما أجمل أن تكون الكلمات عنه! ورب الكعبة مهما أوتيتُ من فصاحة البيان وبلاغة الأسلوب والتبيان، فلن أستطيع أن أوفي الحبيب قدره، كيف لا وهو حبيب الرحيم الرحمن؟! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
فلقد خلق الله الخلق واصطفى من الخلق الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً على جميع خلقه.
زكاه ربه، ومن زكَّاه ربه فلا يجوز لأحد من أهل الأرض قاطبةً أن يظن أنه يأتي في يوم من الأيام ليزكيه، بل إن أي أحد وقف ليزكي رسول الله، وليصف رسول الله، وليتكلم عن قدر رسول الله، فإنما يرفع من قدر نفسه، ومن قدر السامعين بحديثه عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
زكَّاه ربه في كل شيء: زكَّاه في عقله فقال جل وعلا: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، وزكَّاه في بصره فقال جل وعلا: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكَّاه في صدره فقال جل وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وزكَّاه في ذكره فقال جل وعلا: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكَّاه في طهره فقال جل وعلا: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وزكَّاه في صدقه فقال جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكَّاه في علمه فقال جل وعلا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وزكَّاه في حلمه فقال جل وعلا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكَّاه في خلقه كله فقال جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الله أكبر! ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً من أنا؟! ومن أنت؟! لنتشرف بأن يكون حبيبنا ونبينا ورسولنا هو ابن عبد الله المصطفى صلى الله عليه وسلم.(126/2)
أهمية معرفة شمائله صلى الله عليه وسلم
أيها الأحبة! هذا الحبيب يحلو لكل مسلم محب أن يتذكره، وأن يتصوره، وأن يتخيله، وأن يعيش بقلبه مع هذا الحبيب، ليعرف كيف كانت حياته؟ كيف كان وجهه؟ كيف كان شعره؟ كيف كانت لحيته؟ كيف كان صدره؟ كيف كانت يده؟ كيف كانت قدمه؟ كيف كانت مشيته؟ كيف كانت نومته؟ كيف كان طعامه؟ كيف كان شرابه؟ كيف كان أكله؟ كيف كان ذكره؟ كيف كان الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم؟ ولم لا؟! وقد أمرنا الله جل وعلا أن نقتفي أثره، وأن نسير على دربه، وأن نقلده في كل شيء، قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
أنت مأمور أيها المسلم الموحد! أن تسير على دربه، وأن تقتفي أثره، وأن تتبع سنته، تعرف كيف كان يأكل لتأكل مثله، وكيف كان يجلس لتجلس مثله، وكيف كان ينام لتنام على هيئته، وكيف كان يتكلم لتتكلم على طريقته، وكيف كان يمشي لتمشي على طريقته، فهو حبيبك وقدوتك وأسوتك، ولن تصل إلى الله جل وعلا إلا من طريقه، ومن الباب الذي دلك عليه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.
إن رسول الله -أيها الأحبة- بشر: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} [الكهف:110]، ولكنه لم يكن بشراً عادياً.
فمبلغ العلم فيه أنه بشر ولكنه خير خلق الله كلهم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110]، وهذه هي التي رفعت قدره، وأعلت شأنه، ورفعت مكانته عند الله جل وعلا وعند الخلق، ولن تنال رفقته في الجنة وشفاعته يوم القيامة إلا إن اتبعت سنته، وسرت على طريقته، واقتفيت أثره: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
رسول الله لم يكن بشراً عادياً أيها الأحبة؛ لأنه شرف بالوحي الذي أنزله الله عليه.
ألم تعلم أخي الحبيب! أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث جابر: (أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا نام تنام عينه ولا ينام قلبه): (جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم: إن لصاحبكم هذا مثلاً فاضربوا له مثلاً: فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقال بعضهم: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقال بعضهم: أوِّلوها له يفقهها -فسروا له الرؤيا هذه- فقال بعضهم: إنه نائم، وقال البعض: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: الدار هي الجنة، والداعي هو محمد فمن أجاب محمداً دخل الجنة، ومن لم يجب محمداً لم يدخل الجنة، ومحمد فرَّق بين الناس).
فمن آمن بالحبيب، وسار على درب الحبيب، واتبع سنة الحبيب، نال شفاعة الحبيب يوم القيامة، ونال رفقته وصحبته في الجنة، ومن خالف هدي الحبيب لم ينل الشفاعة، وحُرِمَ من هذه الرِّفعة وتلك الصُّحبة.
أسأل الله جل وعلا أن يمتعنا وإياكم بصحبته بحبنا له، إنه ولى ذلك والقادر عليه.(126/3)
صفات النبي صلى الله عليه وسلم الخلقية
في هذه الليلة نعيش مع النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يقول قائل: كيف ستصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يصف النبي لابد أن يكون صحابياً عاش مع النبي، ونظر إلى النبي، وكلم النبي، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأقول: قد نقلت إلينا سنة الحبيب ونقلت إلينا أوصاف الحبيب، فكما نقل لنا الصحابة سنته وأحاديثه الشريفة، فإنه نقل إلينا بعضهم وصفه صلى الله عليه وسلم.(126/4)
صفة صدره صلى الله عليه وسلم وعضلاته
كان النبي صلى الله عليه وسلم عريض الصدر، وهذا يدل على الفتوة والقوة، وكان له في صدره شعرات، وكان الشعر نازلاً ممتداً حتى السرة، يعني: كان الشعر كالقضيب من الصدر حتى السرة، وكان مشدود العضلات، فإذا كان في أرض المعركة، وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، وفي ساحة الوغى، كان الحبيب المصطفى يرفع صوته وينادي في وسط المعركة ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) وهذا علي بن أبي طالب فارس الفرسان، وقائد القواد، رضوان الله عليه، الذي قال له النبي يوم خيبر: (سأعطي الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) علي رضوان الله عليه كان يفخر ويقول: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي فـ علي فارس الفرسان وهو الذي فتح الله على يديه حصون خيبر كان يقول رضي الله عنه: (كنا إذا حمي الوطيس، واشتدت المعركة، اتقينا برسول الله) أي: كنا نحتمي برسول الله صلى الله عليه، فكان الحبيب مشدود العضلات قوياً، إذا دخل في أرض المعركة وميادين النزال، كان الصحابة رضوان الله عليهم يتقون به من شدة الضربات، وأنتم تعلمون ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وماذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر.(126/5)
صفة مشيه صلى الله عليه وسلم والتفاته
كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب يعني: كأنه حجر كبير نازل من فوق، وكان إذا التفت التفت جميعاً يعني: كان لا ينظر من طرف بل كان يلتف كله، وهذه من علامات التواضع، فأنت إذا نادى عليك أحد فلا تنظر من طرف، (ثاني عطفه) لا، بل التفت بكليتك على من يناديك كما كان يفعل الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على تواضعه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تواضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأتي الصحابي ويركبه وراءه على حمار واحد، تواضع ما بعده تواضع، تجد الواحد في عصرنا وفي زمننا راكب عربية أو طيارة وهو راكب في الكرسي الخلفي لوحده، ويستعظم أن يركب معه شخص آخر! وهذا حمار يركبه النبي صلى الله عليه وسلم ويردف وراءه الفضل بن العباس، وكذلك عبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل يقول: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل).
وكان صلى الله عليه وسلم يخفض طرفه، يعني: كان نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، انظر إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم!.
فأنت أيها المسلم! انتبه لا تتعال ولا تتبختر، كن متواضعاً، كن ذليلاً لله، اللهم ارزقنا الذل لك، كن منكسراً لله حتى يرفعك الله؛ لأنه من تواضع لله رفعه، فإذا منّ الله عليك بمال فتواضع كثيراً، وإذا من عليك بعلم فانكسر واخضع له سبحانه، وإذا من عليك بحب في قلوب العباد فقل: يا رب سلم سلم، يا رب أحسن الخاتمة، احذر الغرور بالنفس، فالنفس أمارة بالسوء كما قال الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] اجعلها دائماً ذليلة لله، كلما تحدثك بأمر فيه خطر فقل لها: لا، فلا غرور، لا عجب، لا كبر، ولا تمتن على الناس، يقول الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94].(126/6)
صفة عرقه صلى الله عليه وسلم ورائحته
أخرج الإمام أحمد والبيهقي عن علي بن أبي طالب قال: (كان العرق في وجهه صلى الله عليه وسلم كحبات اللؤلؤ)، وكذلك عندما كان الوحي ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان شديداً، ففي مرة من المرات نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وركبة النبي صلى الله عليه وسلم على ركبة أحد الصحابة، فقال ذلك الصحابي: (أحسست أن جبلاً نزل علي من ثقل ما يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكذلك في اليوم شديد البرودة عندما ينزل الوحي ترى العرق يتناثر على وجه النبي صلى الله عليه وسلم كحبات اللؤلؤ، وهذا مع شدة البرد! أما ريح عرقه صلى الله عليه وسلم فقد كان أطيب من ريح المسك، فعلى المسلم أن يكون حريصاً على نظافة ثوبه، وجمال لحيته، وترجيل شعره، وطيب رائحة بدنه، فأنت بهذا تقتدي بالحبيب صلى الله عليه وسلم، النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يخرج إلى الناس إلا بعد أن يتجمل ويتزين ويتطيب عليه الصلاة والسلام، وينظر في المرآة ويسرح شعر اللحية، وكان إذا سافر أخذ معه السواك والمرآة والمشط والمكحلة، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كان له شعر فليكرمه) انظر! الإسلام دين جمال! ليس ديناً مهملاً للنظافة، فيا أخي! كن جميل المنظر، طيب الرائحة دائماً، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان جميلاً في كل شيء، ولما سئل قال: (إن الله جميل يحب الجمال) فكان عرق النبي صلى الله عليه وسلم أطيب من ريح المسك؛ لأنه كان يكره أن تشم منه رائحة خبيثة، روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عندنا -يعني: نام عندنا وقت القيلولة- فعرق النبي عليه الصلاة والسلام، فجاءت أم سليم رضوان الله عليها بقارورة، وجعلت تسلت العرق في القارورة، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أم سليم! ما هذا الذي تصنعين؟! قالت: يا رسول الله! عرقك نجعله في طيبنا، هو أطيب طيبنا) يعني: أطيب الطيب عرقك! فهي فعلت ذلك لأجل أن تدهن وتطيب بعرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد روى الإمام مسلم أيضاً عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي، فوجدت ليده برداً ورائحة، كأنما أخرج يده من جؤنة عطار) وكان سيدنا جابر شاباً صغيراً، فمن السنة إذا لقيت طفلاً صغيراً أن تمسح رأسه وتلاعبه، قوله: (كأنما أخرج يده من جؤنة عطار) يعني: كأنه أخرج يده من وعاءٍ فيه طيب.
وهذا ابن عباس بات عند خالته ميمونة ذات ليلة؛ لينظر إلى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، فتظاهر ابن عباس بالنوم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قام وتوضأ وصلى، فقام ابن عباس وتوضأ وصلى خلف النبي عليه الصلاة والسلام، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وجعله عن يمينه، فلما أوقفه عن يمينه قام ابن عباس ورجع للوراء، فبعد أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إيه يا ابن عباس! ما لي أجعلك بإزائي فتخنس؟! فقال له: يا رسول الله! لا يجوز لأحد أن يقف بإزائك وأنت رسول الله)، يعين: كيف أقف بجانبك وأنت رسول الله؟! فـ ابن عباس مع صغر سنه يصنع هذا الصنيع! فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مد يده إلى أذن ابن عباس وفركها فركاً يسيراً ودعا له، ففي رواية البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقه في الدين) وعند أحمد: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) وفي رواية أخرى يقول ابن عباس: (فضمني النبي إلى صدره وقال: اللهم علمه التأويل) فاستجاب الله لحبيبه صلى الله عليه وآله وسلم.
وكذلك عندما وضع النبي صلى الله عليه وسلم على صدر الشاب الذي استأذنه في الزنا فأحس الشاب ببرد كفه صلى الله عليه وآله وسلم على صدره.
وفي الصحيحين من حديث أنس قال رضوان الله عليه: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة قال الناس: لقد مر اليوم من هاهنا رسول الله)، ولم يكن ذلك إلا لـ مصعب بن عمير قبل أن يسلم بمكة، فما بالك بأستاذ مصعب صلى الله عليه وسلم، كان مصعب زهرة شباب قريش، وسيد الفتيان في مكة، وكان يضع على بدنه وثيابه أرقى أنواع العطور، فلما كان يمشي في طريق يقولون: مر من هذا الطريق مصعب بن عمير.
فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا مشى في طريق من طرق المدينة، عُلِمَ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مر من هذه الطريق؛ وذلك لما يجدونه في الطريق من رائحة طيبة.(126/7)
صفة لحيته وعنقه صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، أي: ذا وفرة، وكانت لحيته تملأ صدره صلى الله عليه وآله وسلم، فهيا أيها المحب لحبيبك المصطفى قلده في كل شيء دون خوف من أحد، ورزقك على الله، وأجلك بيد الله، والأمر كله بيد الله جل وعلا، لا تظن أن إعفاءك للحية سيعوق تحركك في الدعوة لدين الله عز وجل، لا والله، لو كان الأمر كذلك لما فعله المصطفى صلى الله عليه وسلم في وقت كان أحوج فيه إلى أن يدعو الناس لدين الله عز وجل، فلا تتنازل أبداً عن أمر من أمور هذا الدين، ونحن لا نقسم الدين إلى قشور ولباب، ولكنني أتفق تماماً مع أحبابي وإخواني الذين يقولون بفقه الأولويات في أمر الدعوة إلى الله عز وجل، إذ إنه لا يجوز لك أبداً أن تمر على أناس جلسوا يشربون الخمر، فإذا ما قاموا بين يديك ووجدت ثوب أحدهم طويلاً يجرجره على الأرض، فهنا ليس من الفقه أن تقول له: يا أخي! ثوبك طويل قصر الثوب؛ لأن إطالة الثياب حرام، لكن وهو يشرب الخمر الواجب أن تحذره من شرب الخمر، وتبين له حرمته؛ لأنها أعظم، وهذا اسمه: فقه الأولويات.
كذلك إذا رأيت علبة سجائر مع شخص وكأس خمر، فليس من الفقه أن تقول: يا أخي! الدخان حرام، بل تبدأ بنهيه عن شرب الخمر أولاً.
فأنا مقتنع تماماً مع أحبابي وإخواني الذين يقولون بفقه الأولويات، ولكنني أود أن أقول: شتان بين فقه الأولويات، وبين التحقير والسخرية من الفرعيات والفقهيات! فإن الذي جاء بالكل هو الذي جاء بالجزء صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: يا أحباب! النبي صلى الله عليه وسلم كانت له لحية كبيرة تملأ صدره، فما عليك إلا أن تتوكل على الله ولا تخف، وأطلق لحيتك ولا تحتج بأي شيء، وكن على يقين بأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك.
وكذلك لو أكرمك الله بابن ملتزم وأطلق اللحية، فاترك الخوف عليه، ولا تقف حجر عثرة أمامه، لا تكن حجر عثرة في طريق التزام ولدك، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاتباع بكل صوره وأشكاله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما عنق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان عنقه كإبريق فضة من شدة البياض صلى الله عليه وسلم.(126/8)
صفة حاجبيه صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان طويل الحاجبين من غير التقاء، يعني: أن حاجبي النبي صلى الله عليه وسلم كانا غير ملتقيين، أي: كان هناك فراغ بينهما، فمن كان حاجباه هكذا فليحمد الله.
وكان بين حاجبيه عرق، وهذا العرق كان يظهر إذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم.(126/9)
صفة أنفه صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف، أي: طويل الأنف مع دقة الأرنبة، والأرنبة: هي الجزء الأسفل من الأنف أو الأعلى، يعني: لم يكن أنفه غليظاً ولا دقيقاً، ولم يكن طويلاً متدلياً إلى أسفل.(126/10)
صفة فمه وخديه وشاربه صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم أسلت الخدين، يعني: ليس فيه تجعدات، وكان ضليع الفم يعني: فم النبي عليه الصلاة والسلام كان فيه سعة، وإذا كان الرجل ضليع الفم فإنه يكون بليغاً مفوهاً، كان النبي أسلت الخدين، ضليع الفم، أشنب، يعني: كان له شارب.
أما حكم الشارب من الناحية الفقهية فبعض أهل العلم كالإمام مالك يقول: لا يجوز حلق الشارب، بل قال: حالق الشارب يؤدب، لكنه قد خالف في ذلك كثيراً من أهل العلم، وأدلتهم صحيحة في هذه المسألة، إذ إنه ثبت عن عبد الله بن عمر رضوان الله عليه أنه كان يحلق الشارب حتى تظهر لحمة شفته العليا، وكان يتأول عبد الله بن عمر في ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب) والجز في لغة العرب معناه: الاستئصال، فكان يستأصل الشعر، ويترك شاربه محلوقاً يظهر لحم الشفة العليا، أما بعض أهل العلم فقد تأول حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (قصوا الشوارب) فترك الشارب على حالته هذه، وقصه من أسفل حتى تظهر الحافة العليا للشفة العليا، حتى لا يتشبه باليهود والنصارى، فهم يطلقون الشوارب ولا يحفونها.
والأمر فيه سعة، والخلاف في مسألة الحلق والترك خلاف معتبر كما يقول علماء الأصول، أما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يحفه دائماً من أعلى، بحيث تظهر حافة الشفة العليا له صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: كان ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان يعني: الأسنان كانت غير متلاقية، بين كل سن وسن فرق جميل، وهذا أطيب للفم وأجمل.
وكان إذا رئي وهو يتكلم ظن الناظر إليه أن نوراً يخرج من بين ثناياه صلى الله عليه وسلم، وهذا الوصف رواه الإمام الترمذي من حديث ابن عباس وهو حديث حسن.(126/11)
صفة عينيه صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم أدعج العينين يعني: شديدة سوادهما، كأن في عينيه كحلاً عندما تراه من بعيد، وإذا اقتربت منه فإنك لا ترى شيئاً من الكحل.
فهذا جابر بن سمرة رضي الله عنه وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً كاملاً، يقول: (كنت إذا نظرت إلى رسول الله قلت: أكحل العينين وليس بأكحل) يعني: تراه كأنه مكحل وليس بأكحل.
وبالمناسبة لا حرج على الرجل أن يضع كحلاً في عينيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكتحل بالإثمد، وورد في معجم الطبراني بسند حسنه بعض أهل الحديث أنه قال: (عليك بالإثمد) وهو نوع من أنواع الكحل لونه أحمر.
(عليكم بالإثمد؛ فإنه أجلى للبصر، وأنبت للشعر) إذاً: فلنكتحل بالإثمد من باب العلاج حتى لا يتساقط الشعر، ولا تتعب العيون، ما دام فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلنفعل، (عليكم بالإثمد؛ فإنه أجلى للبصر، وأنبت للشعر).(126/12)
صفة شعره صلى الله عليه وسلم
كان شعر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بالجعد القطط -أي: خلاف السبط من الشعر- وليس بالناعم الملفت للنظر، وتوفاه الله عز وجل وهو ابن ثلاث وستين سنة، وليس في شعر رأسه ولا في شعر لحيته إلا عشرين شعرة بيضاء، والحديث رواه مسلم، انظر إلى السيدة عائشة رضي الله عنها تعد الشعرات البيض في لحية ورأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم! وفي ليلة من الليالي وكانت الليلة لـ عائشة رضوان الله عليها، نامت وقام النبي عليه الصلاة والسلام يصلي، فقامت عائشة من النوم وقامت تبحث عنه صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان له أكثر من زوجة، وظنت أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى زوجة أخرى في ليلتها؛ فتحسست النبي عليه الصلاة والسلام فوجدته ساجداً يبكي بين يدي الله عز وجل قالت: (أنا في شأن وأنت في شأن يا رسول الله! فالنبي لما انتهى قال: أغرت يا عائشة؟! فقالت: أو لا يغار مثلي على مثلك يا رسول الله! وليلتي ما أفرط فيها أبداً)، يعني: كيف لا أغار على مثلك يا رسول الله! وابيض من شعر رأسه وشعر لحيته صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة، وفي رواية: لما سئل قالوا له: (يا رسول الله! ما الذي أظهر فيك الشيب؟! فقال صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود وأخواتها) ما الذي نزل عليه في سورة هود؟ نزل عليه قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112] الله أكبر! الله ربنا يقول للنبي: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) هذه آية شيبت رسول الله: (شيبتني هود وأخواتها) أخواتها مثل سورة التكوير: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1]، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الانفطار:1] (الحاقة) (القارعة) (الواقعة) هذه السور هي التي شيبت النبي صلى الله عليه وسلم، النبي يا إخوان! كان إذا سمع رعداً أو برقاً يخاف ويرتعد، ففي سنن الترمذي بسند حسن من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع رعداً يدخل ويخرج ما يقعد، كانت تنظر إليه عائشة وهو على هذه الحال فتقول: يا رسول الله! مالك؟! فيقول: أخشى أن يكون الله عز وجل قد أمر إسرافيل بالنفخ في الصور)، أنا أخاف أن تقوم القيامة، إنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذلك يخاف! وفي رواية: (والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً) يعني: لو تعرفون الذي أعرفه لخفتم ولبكيتم من خشية الله؛ وذلك لأنه رأى الجنة والنار.(126/13)
صفة وجهه صلى الله عليه وسلم
نبدأ بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أخي الحبيب! عش معي بروحك وقلبك لعل الله أن يجعلنا نعايشه بأرواحنا وقلوبنا وأبداننا.
صفة وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورد فيه الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير).
لن نقف الآن عند الطول والقصر ولكن سنقف عند وجهه صلى الله عليه وآله وسلم.
(كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً) يعني: كان وجه الحبيب مشرقاً منيراً.
ابن عباس يقول: (إن للحسنة نوراً في الوجه)، هذا في الرجل العابد عندما يقوم بفعل طاعة، وبفعل حسنة؛ يكون له نور في وجهه وإشراقة، وكأن عليه مسحة من النور والضياء.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها -أو فوعاها- وبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) يعني: تبقى هناك نضرة على وجه الطائع، والنضرة: هي الإشراقة والنور.
ومستحيل أن يكون وجه الطائع الذاكر الزاكي كوجه العاصي المذنب الذي يتجرأ على الله بالمعاصي في الليل والنهار، محال ورب الكعبة! انظر إلى وجه قسيس يحمل لحية كثة، وإلى وجه موحد يحمل لحية ولو كانت قليلة، سترى الفارق الكبير بين وجه تعفر في التراب ذلاً لله، وبين وجه تجرأ على ملك الملوك جل وعلا بالمعصية في الليل والنهار، فما بالك بوجه الحبيب الذي فطره الله على التوحيد وجبله الله على الطاعة؟! بل وأكرمه وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلذلك كان وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم أحسن الوجوه.
وفي صحيح البخاري أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا سر -أي: فرح- استنار وجهه كأنه قطعة قمر) سنعيش في هذه الليلة مع الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم اجمعنا به في الجنة.
وأخرج الدارمي والبيهقي عن جابر بن سمرة -والحديث حسن بشواهده- قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أضحيان -أي: في ليلة مقمرة- فجعلت أنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر، وأنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر، وأنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر، ثم قال رضي الله عنه: فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في عيني أحسن من القمر) إي والله! لأن القلوب امتلأت بحب الحبيب صلى الله عليه وسلم، كانت قلوب طاهرة وأوعية نقية ملئت بحب الحبيب.
يا أخي! ما كان الواحد فيهم يصبر على أن يمر اليوم ولم ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بعض الناس لما يخطب فتاة ويتعلق قلبه بها تراه كل يوم يريد أن يرى محبوبته، فما ظنك بهؤلاء الذين ملأ قلوبهم حب الحبيب صلى الله عليه وسلم، كان الواحد منهم يكون في البيت قاعداً مع زوجته ومع أولاده، ثم ما يلبث أن يتذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيلبس ملابسه ويقوم خارجاً، فتقول له زوجته: إلى أين؟ فيقول: أريد أن أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تاقت نفسي لرؤيته، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا رسول الله! إذا كنت في بيتي فتذكرتك لا أصبر حتى آتي لأنظر إليك، وتذكرت موتك يا رسول الله! وعلمت أنك إذا مت رفعت في الجنة مع النبيين، وخشيت أني إذا دخلت أن أكون في منزلة أقل فلا أراك، فنزل قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]) الله أكبر! لا تخف إذا أطعت الله وأطعت الرسول فستكون معه في الجنة.
ففي حديث أنس الذي في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر المرء مع من أحب)، وكان أنس بن مالك يقول: (اللهم إنك تعلم أني أحب رسولك وأحب أبا بكر، وأحب عمر؛ فاحشرني معهم وإن لم أعمل بعملهم) الله أكبر! احشرني مع هؤلاء وإن كانت أعمالي ليست مثل أعمالهم، ولكن بحبي له صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] هل تستنكر على الصحابة أن امتلأت قلوبهم بحب الحبيب صلى الله عليه وسلم؟!! جذع النخلة يحن ويبكي لفراق الحبيب صلى الله عليه وسلم! وذلك عندما صنع له منبر من ثلاث درجات، ليراه الناس حين الخطبة، فلما صعد النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر، وترك الجذع الذي كان يستند عليه بكى الجذع؛ لفراق رسول الله! إي والله يا إخوة! والحديث في الصحيح، تخيلوا حتى الجذع يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، والحجارة أيضاً تعرفه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (أحد جبل يحبنا ونحبه) الله أكبر!! حتى الحجارة؟! نعم.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
إذاً: الحجارة وغيرها من الجمادات تعرف رب العزة وتوحده، انظر إلى السماء وارتفاعها، انظر إلى الأرض واتساعها، انظر إلى الجبال وعظمها، انظر إلى الأفلاك ودورانها، انظر إلى كل ما هو متحرك وإلى كل ما هو ساكن، والله إن الكل يقر بتوحيد الله، ويعلن الخضوع لله، ولا يغفل عن ذكر مولاه إلا كفرة الإنس والجن.
كل شيء في الكون يعرف رب العزة، ويعرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله إني لأعرف حجراً بمكة كنت إذا مررت عليه سلم علي قبل البعثة وقال: السلام عليك يا رسول الله) الله أكبر! الحجارة أحبت الحبيب، وكل المخلوقات إلا كفرة الإنس والجن.
المؤمن العادي يحبه الله تعالى ويحببه إلى عباده المؤمنين كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل وقال: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلان بن فلان فأحبوه، فيحبه أهل السماء)، فمن أحبه الله يكون محبوباً في السماء، ومعروفاً عند أهل السماء.
كذلك من أحبه الله ذكره في الملأ الأعلى، النبي عليه الصلاة والسلام أمره الله أن يقرأ سورة البينة على أبي بن كعب، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي وقال له: (يا أبي! قال: نعم يا رسول الله! قال: لقد أمرني ربي أن أقرأ عليك سورة البينة، فنظر أبي إلى رسول الله، وقال: يا رسول الله! وهل سماني باسمي؟! قال: نعم، فبكى أبي، يقول بعض الصحابة: والله ما علمنا أن الفرح يبكي إلا من يومها! بكى من الفرح)، (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل وينادي: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء)، ولم يكتف بذلك، بل يقوم جبريل وينزل إلى الأرض وينادي: (يا أهل الأرض! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل الأرض)، وفي رواية: (فيوضع له القبول في الأرض) اللهم اجعلنا وإياكم ممن يوضع له القبول في الأرض.
أحد الشباب قال لي: هل أهل الأرض كلهم يحبونه؟! قلت له: لا، يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] قال ابن عباس: وداً أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، هل تريد من المنافقين وأهل المعاصي أن يحبوا أهل الإيمان؟! لا، ما يبغض المؤمن إلا منافق.
إذا سمعت شخصاً يصرح ببغض المؤمن التقي الورع الصالح فاعلم أنه من أهل النفاق والعياذ بالله؛ لأنه لا يبغض أهل الإيمان إلا أهل النفاق، أعاذنا الله وإياكم من النفاق، وجعلنا الله وإياكم من أهل الإيمان والتوحيد.
فالمؤمن الله عز وجل يحبه، ويحببه إلى عباده، فكيف يكون حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم؟! فسيدنا جابر يقول: (فجعلت أنظر إلى النبي وأنظر إلى القمر فوالله لقد كان النبي عندي أحسن من القمر).
وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أيضاً قال: (كان وجه رسول الله كالشمس مستديراً) وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدور مشرق عليه الصلاة والسلام.
وأخرج الدارمي والبيهقي والطبراني وأبو نعيم والحديث حسن بالشواهد من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها أنه قيل لها: صفي لنا رسول الله فقالت: لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: إن الشمس طالعة! الله أكبر! وصفته رضي الله عنها كلمتين مختصرتين، يعني: لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لقلت: إن الشمس أشرقت علينا بنورها وضيائها، وصف جامع مانع.
أما لون وجهه صلى الله عليه وسلم فقد وصفه لنا الصحابة رضوان الله عليهم بقولهم: كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، يعني: كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشرب بحمرة، وأظن أنه يوجد الآن منا من رأى الحبيب صلى الله عليه وسلم في المنام، وقد قال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي) أسأل الله أن يمتعنا برؤيته وإياكم في الدنيا والآخرة.(126/14)
وصف أم معبد للنبي صلى الله عليه وسلم
أختم الحديث بوصف أم معبد، وذلك أنه مرّ النبي عليه الصلاة والسلام عليها ليلة الهجرة هو والصديق، ففي الهجرة جاع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وهما في طريق المدينة، فمرا على خيمة فوجدوا فيها امرأة وعندها نعجة مريضة هزيلة، فقام الصديق وقال لها: هل يوجد عندك أكل؟ قالت: لا والله ما عندي أكل، وكان من عادة العرب إكرام الضيف، هل عندك شراب؟ قالت: والله ما عندي، فالنبي عليه الصلاة والسلام نظر إلى النعجة فقال: (هل يوجد في هذه النعجة لبن؟ قالت له: لا، ليس فيها لبن، وإنما لم ترع مع الغنم لأنها مريضة غير قادرة على المشي، فقال لها: هل تأذني لي بحلبها؟ قالت: نعم، إن وجدت بها لبناً، فمسح عليه الصلاة والسلام على الضرع، وهمهم بكلمات؛ فدر اللبن في الضرع بأمر الله، وأمر أبا بكر أن يحلب والمرأة تتعجب! كيف درت باللبن مع أنه لم يقربها الفحل؟! وبعد أن حلبها قال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق أم معبد فشربت، ثم قال: اشرب يا أبا بكر فشرب ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم آخرهم) وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وهذا عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يقول: (إنكم لتعدون الآيات عذاباً، وكنا نعدها بركة على عهد رسول الله، فوالذي نفسي بيده! لقد كنا نجلس لنأكل مع رسول الله فنسمع تسبيح الطعام بين يديه)، إي والله! والحديث في صحيح مسلم.
وأبو هريرة عندما خرج في يوم من الأيام وكان قد ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع، يقول أبو هريرة: فمر علي الصديق فسألته عن آية من كتاب الله، والله ما سألته عنها إلا ليستتبعني فلم يستتبعني، وإنما أجابني عن سؤالي ومضى؛ لأنه لم يعلم بجوعي، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، والله ما سألته عنها إلا ليستتبعني، فأجابني ومضى ولم يفعل، يقول: فكنت جالساً فمر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فقال لي: (أبا هريرة قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق بي، يقول: فتبعت رسول الله فدخل إلى بيته فقال: هل عندكم من طعام؟ فقالت عائشة: نعم يا رسول الله! عندنا قدح فيه لبن أهدي لنا من فلان، يقول: ففرحت بذلك فرحاً شديداً، فقلت: سأشرب اللبن ويذهب ما بي من الجوع فقال لي: يا أبا هريرة ادع أهل الصفة) أهل الصفة: هم مجموعة من فقراء الصحابة كانوا يسكنون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كلما جيء بطعام للنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم منه، وأهل الصفة هم أضياف الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة: (ائتني بأهل الصفة، يقول أبو هريرة فحزنت لذلك حزناً شديداً، وقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! ثم إنه دعاهم فأتوا؛ فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! فقال: لبيك يا رسول الله، قال له: خذ القدح وأعطه واحداً واحداً حتى وشربوا جميعاً، يقول أبو هريرة: ثم نظرت في القدح فوالذي نفسي بيده وجدت القدح لم ينقص منه شيء، فقال لي الحبيب: أبا هريرة! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: اجلس يقول: فجلست، قال: اشرب، قال: فشربت، ثم قال: اشرب مرة ثانية، فشربت ثم قال: اشرب؛ فشربت للمرة الثالثة، فبعد الثالثة قال لي: اشرب فقلت له: والله لا أجد له مسلكاً يا رسول الله! يقول: فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم القدح فجلس وشرب يقول أبو هريرة: فوالله بعدما شرب رسول الله رأيت القدح وكأنه قد زاد عن أوله!).
إنها بركة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، فلقد قام أكثر من ثلاثمائة صحابي وتوضئوا من قدح صغير كما في الحديث الصحيح من حديث أنس قال: (فوالله رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا من بركة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم.
نعود إلى أم معبد تقول: لما رجع زوجي رأى أشياء غريبة، فقالت له زوجته: لقد مر بي رجل شكله كذا وعمل كذا فحكت له القصة.
فلنسمع إلى أم معبد وهي تصف النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، يعني: عليه نور، حسن الخلق أي: أن شكله جميل، مليح الوجه، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، أبهى الناس وأجملهم من بعيد، وأحلى الناس وأحسنهم من قريب، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً -انظر إلى بلاغتها- له رفقاء يحفون به -قيل: هم الصديق رضي الله عنه وعبد الله بن أريقط وابن فهيرة الذين كانوا معه في الرحلة، وعبد الله بن أريقط كان مشركاً- إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر ابتدروا أمره، صلى الله عليه وآله وسلم.
من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء محبة النبي صلى الله عليه وسلم لها أركان يا إخوة! ومن أركان المحبة طاعة النبي في كل ما أمر، والانتهاء عن كل ما نهى عنه وزجر، وتصديق النبي في كل ما أخبر.
ومحبة النبي يجب أن تكون أكثر من النفس والمال والولد، دون غلو وإفراط ودون تفريط.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن أحبوا الحبيب، واقتفوا أثر الحبيب، وساروا على دربه، واتبعوا سنته، وأسأل الله أن يحشرنا في زمرته، وأن يحشرنا تحت لوائه، إنه ولي ذلك ومولاه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(126/15)
صفحات سود من تاريخ يهود
تاريخ اليهود تاريخ أسود مظلم منذ قديم الزمان؛ فهم قتلة الأنبياء، وهم الذين نسبوا إلى الله عز وجل النقائص، فقد نسبوا لله الولد، واتهموا الله عز وجل بالبخل وبالفقر، إلى غير ذلك -تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- ولا زال تاريخهم أسود إلى اليوم، فيجب الحذر والبراءة منهم.(127/1)
مراحل الصراع بين أهل الحق واليهود
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع الطيب المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (صفحات سود من تاريخ يهود) هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف ينتظم حديثنا تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: اليهود ومراحل الصراع.
ثانياً: أسئلة مريرة.
وأخيراً: ما السبيل؟! فأعيروني القلوب والأسماع جيداً؛ فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان.
أولاً: اليهود ومراحل الصراع.
أيها الأحبة في الله! إن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم بقدم الحياة على ظهر هذه الأرض، والأيام دُول، كما قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
ولا شك أننا نعيش الآن مرحلة الدولة فيها للباطل وأهله، وقد كان لهم هذا يوم أن انشغل عن الحق أهله؛ حيث تمكن أنجس وأحقر وأذل أمم الأرض من أبناء اليهود من إقامة دولتهم اللعينة الحقيرة على الثرى الطاهر في الأرض المباركة، وسيطروا على مسرى الحبيب محمد، وحرقوا منبر صلاح الدين، بل وهم يقومون الآن بحفريات خطيرة تحت المسجد الأقصى لهدمه وتدميره وإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم!! وقد صرح أكبر حاخاماتهم في القدس بأنه لابد من هدم المسجد الأقصى؛ لإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم، ثم قال: إن العرب سيغضبون أول الأمر، ولكن الأمر سيصبح عادياً بعد ذلك!! ورئيس الوزراء نتنياهو يصرح بمنتهى الوضوح ويقول: لا مجال الآن للحديث عن تقسيم القدس؛ فإن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل!! يعلن بذلك الهوية اليهودية بمنتهى الصراحة والوضوح؛ في الوقت الذي لا زال فيه الكثيرون ممن ينتسبون لهذا الدين يجهلون هذه الطبيعة اليهودية أو يتجاهلونها على حد سواء.(127/2)
التعريف باليهود
أريد أن أبين للجميع من هم اليهود؟! فأعيروني القلوب والأسماع جيداً: اليهود هم نسل الأسباط الإثني عشر: يوسف عليه السلام وإخوته، نزحوا إلى مصر بدعوة من نبي الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأبوا أن يندمجوا مع الشعب المصري، وعزلوا أنفسهم عن المصريين على اعتبار أنهم من نسل الأنبياء، فتكاثر نسلهم، وهم يوصون بعضهم البعض بعدم الاختلاط، وبالعزلة؛ ليبقى لكل سبط من الأسباط نسله المتميز المعروف، فكرههم الشعب المصري ونبذهم، وزادت الهوة بين الشعب المصري وبين أبناء اليهود يوماً بعد يوم حتى سامهم فرعون مصر سوء العذاب.(127/3)
اليهود واحتلال فلسطين
وفي الثاني من نوفمبر سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر صدر (وعد بلفور) بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين استطاع اليهود بخيانة مفضوحة أن يحتلوا ما يزيد على (78%) من الأرض، كل هذا كان في عام ثمانية وأربعين فقط، احتل اليهود هذا القدر من أرض فلسطين بحركة خيانية مفضوحة، وهكذا أسست لليهود دولة في قلب العالم الإسلامي، وساعدهم في ذلك الشرق الملحد والغرب الكافر، والأنظمة العربية الخائنة الضالعة في الخيانة، فأسست هذه الدولة، وأفرزت هذه الغدة السرطانية في قلب العالم الإسلامي!(127/4)
حرص اليهود على إثارة النعرات القومية
انظروا إلى الواقع على أرض أفغانستان، فما الذي دمر قوة أفغانستان؟! إنها النعرات القومية؛ فهذه طائفة كذا، وهذه قبيلة كذا!! إن النعرات القومية من أعظم الأخطار التي تبدد القوى؛ ولهذا استطاع اليهود عن طريق الجمعية الماسونية اليهودية العالمية التي تعرف بـ (جمعية الاتحاد والترقي) أن يثيروا النعرات القومية لعزل السلطان البطل عبد الحميد؛ لإخلاء الطريق، ولتلميع اليهودي العميل الخائن الوقح كمال أتاتورك -لا طيب الله ثراه- الذي مثل رأس الأفعى اليهودية في القضاء على الخلافة الإسلامية.
ووقع هذا المجرم العميل الخائن معاهدة الذل والعار المعروفة بـ (معاهدة لوزان)، وقضى بذلك على الخلافة الإسلامية، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهكذا أيها الأحبة الكرام! انقضت الخلافة، ولمع هذا اليهودي على أنه بطل قومي! حتى حاكاه كثير من زعماء العرب، وتمنوا أن يكونوا كأتاترك لا طيب الله ثراه، ولا ثرى كل من عاند وحارب دين الله جل وعلا.(127/5)
النبي صلى الله عليه وسلم ويهود خيبر
وفي السنة السابعة انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر المجرمين الذي تحصنوا بحصونهم المنيعة المنيفة، إلا أن الله عز وجل قد فتح الحصون على يد أسد الله الغالب علي بن أبي طالب الذي قال عنه النبي يومها: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، وفي الصباح قال: أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يا رسول الله! إنه يشتكي وجعاً في عينيه، قال: ائتوني به، فجاء علي بن أبي طالب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عينيه، فبرأت بإذن الله جل وعلا)، فاستلم الراية وانطلق، ففتح الله على يديه الحصون، ويومها هتف الحبيب المصطفى: (الله أكبر! خربت خيبر الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)، والحديث في الصحيحين.
أيها الأحبة الكرام! وهكذا أجلى الله عز وجل اليهود من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، ومع ذلك لم يكتف اليهود بهذا، وإنما دبروا مؤامرة حقيرة لسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيبر، إلا أن الله عز وجل قد نجى حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.(127/6)
اليهود والدولة العثمانية
أيها الحبيب! لا زلت معك في مراحل الصراع الطويلة التي بلغت أوجها في العصر الحديث، وتدبر معي وانتبه جيداً! لم ينته العنكبوت اليهودي الوقح عن نسج خيوطه الدقيقة، وحبك مؤامراته الرهيبة التي بلغت أوجها في العصر الحديث بإفراز هذه الغدة السرطانية الخبيثة، وبوضع هذا المولود اللقيط الذي يُعرف الآن بدولة إسرائيل فوق الثرى الطاهر للأرض المباركة مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
وضُعت هذه الدولة غُصة وشوكة في قلب العالم الإسلامي بعد أن نجح اليهود في القضاء على الخلافة الإسلامية، والقضاء على السلطان البطل عبد الحميد طيب الله ثراه، ذلكم الرجل الذي شوهت الصهيونية الحاقدة صورته، وانطلقت الببغاوات العجماء لتحاكي ما يمليه الأسياد من الشرق والغرب دون وعي أو إدراك! هذا الرجل العظيم الذي حاول معه اليهود بكل الوسائل والسُبل أن يبيع لهم أرض فلسطين فأبى؛ وباءوا بالفشل الذريع.
لقد أرسل اليهود إلى السلطان عبد الحميد أول الأمر اليهودي الماسوني الثري قره صوه، فذهب إليه هذا اليهودي، وقال لسلطان الخلافة التي ضاعت: إني مندوب إلى جلالتكم عن الجمعية الماسونية؛ وجئت لأرجو جلالتكم أن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية -انظروا إلى وسائل اليهود؛ فإنها لا تتغير بتغير الزمان والمكان- لتقبل جلالتكم خمسة ملايين ليرة ذهبية إلى خزينتكم الخاصة، ولتقبل مائة مليون ليرة ذهبية لخزينة الدولة؛ على أن تمنحوا لنا بعض الامتيازات في دولة فلسطين، فاستشاط السلطان غضباً، ونظر إلى الجالسين معه في مجلسه وقال لهم قولة عجيبة: أو ما تعرفون ما يريده هذا الخنزير؟! والتفت إليه بقوة وقال: اخرج عن وجهي أيها السافل! فخرج اليهودي, ولكن اليهود لا يملون، فقرر مؤسسُ الصهيونية العالمية الأول هيرتزل أن يذهب إلى السلطان بنفسه فذهب إليه هيرتزل بنفسه، وعرض عليه أن يبيع له فلسطين بأي ثمن، فرد عليه السلطان رداً عجيباً وقال: إن هذه الأرض قد امتلكها المسلمون بدمائهم، وهى لا تباع إلا بنفس الثمن!! ثم قال السلطان البطل: انصحوا الدكتور هيرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع؛ فإنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبرٍ واحدٍ من هذه الأرض؛ فهي ليست ملكي، ولكنها ملك شعبي الذي ضحى في سبيلها، وروى ترابها بدمائه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، فإذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني أهون علي من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من إمبراطوريتي، فإنني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن لا زلنا على قيد الحياة!!! هذا هو السلطان البطل الذي شوهوا صورته، ودرَّسوا صورته المقلوبة لأبنائنا وبناتنا، ولا زالت! وانطلق الببغاوات العجماء يرددون هذه الصورة المقلوبة في حق هذا السلطان خليفة المسلمين الذي أبقى الخلافة مدة طويلة لا يمكن أن تصدقونها اليوم بحال من الأحوال، إلا أنهم ما ملوا، واستطاعوا من خلال إثارة النعرات القومية أن يسقطوا السلطان عبد الحميد، وإثارة النعرات داخل البلاد خطر عظيم.(127/7)
حكم النبي صلى الله عليه وسلم في يهود بني قريظة وسبب ذلك
وبعد ذلك أيها الأحبة! لعب يهود بني قريظة دوراً قذراً حقيراً داخل المدينة، فلقد حاصر الأحزاب المدينة من كل ناحية، وفي وقت حرج خطير نقض يهود بني قريظة العهد؛ فشكلوا تحدياً خطيراً للجبهة الداخلية في المدينة، فلما علم الرسول والمسلمون بذلك زُلزلوا زلزالاً عظيماً، حتى قام النبي يرفع يديه إلى الله، ويتضرع إليه بدعاء حار، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قام النبي يلجأ إلى الله ويقول: (اللهم منزل الكتاب! سريع الحساب! اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم).
واستجاب الله دعاء حبيبه المصطفى؛ فأرسل الله جنوداً من عنده، ويا لها من قوة لا يعرف المسلمون إلى الآن قدرها! في زيارة لي إلى أميركا هاجت عاصفة من الريح فرفعت هذه العاصفة السيارات إلى عمارات في الطابق الرابع، قال القوي العزيز: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، ولكن المسلمون اليوم يخططون ويضعون الخطط السنوية والخطط الخمسية، ولكنهم يركعون للشرق والغرب! ولا يضعون ضمن خططهم أبداً قوة الملك جل جلاله!! أرسل الله على الأحزاب جنداً من الريح فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، وأنزل الله الملائكة فألقت الرعب في قلوب الأحزاب، فتبعثروا في الصحراء كتبعثر الفئران! ونصر الله عبده، وأعز الله جنده، وهزم الله الأحزاب وحده، وانتهت المؤامرة، ونزل جبريل على النبي وهو لابس لباس الحرب، فقال جبريل عليه السلام: (يا رسول الله! أوقد وضعت لباس الحرب؟! فوالله! إن الملائكة لم تضع لباس الحرب بعد؛ فإني سائر أمامك الآن، قم -يا رسول الله! - بمن معك إلى يهود بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل حصونهم، وأقذف الرعب في قلوبهم -والحديث في الصحيحين- فقام المصطفى وأرسل منادياً أن ينادي في الناس: من كان طائعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة).
فانطلق الصادقون المؤمنون من أصحاب سيد النبيين صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، فحاصروا يهود بني قريظة حصاراً طويلاً، وأخيراً نزل اليهود المجرمون على حكم سعد بن معاذ الذي حكم فيهم بقتل الرجال، وسبي الذرية، وتقسيم الأموال، فلما حكم فيهم سعد بن معاذ بذلك التفت إليه المصطفى وقال: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات) وهكذا أخزى الله يهود بني قريظة.(127/8)
إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير وسبب ذلك
وفي السنة الرابعة دبر يهود بنو النضير مؤامرة حقيرة لاغتيال البشير النذير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيوم أن انطلق إليهم النبي لتحصيل الدية جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوار جدار من جدران اليهود، وخلا اليهود المجرمون ببعضهم البعض وقالوا: لن نجد الرجل في مثل هذه الحالة، فمن منكم يقوم إلى صخرة كبيرة فيلقيها من فوق سطح هذه الدار على رأس هذا الرجل ليريحنا منه! فانبعث أشقى القوم عمرو بن جحاش بن كعب، وقال: أنا لها، فقام عمرو بن جحاش وصعد إلى سطح هذه الدار، وأتى بصخرة كبيرة ليلقيها على رأس سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، ولكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فأطلع الملك عز وجل نبيه على المؤامرة، فقام النبي مسرعاً في الحال، وقام معه أصحابه رضوان الله عليهم.
فلما أخبرهم بالخبر قالوا: يا رسول الله! لابد من إجلاء هؤلاء، فانطلق النبي مع أصحابه البررة الأطهار فحاصروا يهود بني النضير؛ فأخزاهم الله، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أنزل الله جل وعلا سورة الحشر بأسرها، وفيها يقول الحق جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر:2 - 3].
وهكذا أجلاهم الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.(127/9)
إجلاء النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قينقاع وسبب ذلك
بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة؛ ليقيم للإسلام دولة وسط صحراء تموج بالكفر، انتقل اليهود من الحرب السرية للنبي ولدعوته إلى الحرب السافرة المجرمة، فأعلنوا العداء للإسلام، بل وعلى دعوة الإسلام، بل وعلى رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم.
وتدبر معي! ففي أول معركة كبرى من معارك الإسلام والشرك وهي غزوة بدر الكبرى نصر الله المسلمين نصراً مؤزراً، وأعز الله جند التوحيد، وهزم الله جند الشرك، وتبعثر الجيش المشرك وسط الصحراء كتبعثر الفئران.
وهنا غلت مراجل الحقد والغل والحسد في قلوب اليهود في المدينة، فقاموا بحملة إعلامية -وهذه طبيعتهم، وهذا أسلوبهم- خبيثة حقيرة للنيل والتقليل والتحقير من النصر الإسلامي في غزوة بدر، بل وقاموا ليثيروا الفتن والقلاقل، وليحرضوا المشركين في مكة للثأر من محمد وأصحابه.
فتدبروا معي -يا شباب الصحوة- هذا التاريخ، واحفظوه واعلموه جيداً، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بمكر اليهود انطلق إليهم، وجمعهم في سوق بني قينقاع، وقال لهم المصطفى: (يا معشر يهود! أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشاً) فرد اليهود على النبي باستعلاء واستهزاء شديدين وقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أنك هزمت أقواماً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال؛ فإنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن القوم، وإنك لم تلق مثلنا! انظر إلى هذا المكر اليهودي المتمثل في قولهم: يا محمد! لا يغرنك أنك هزمت أقواماً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، فإنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن القوم، وأنك لم تلق مثلنا! فقام النبي صلى الله عليه وسلم وتركهم، وما لبث اليهود أن قاموا بمؤامرة حقيرة؛ فيوم أن انطلقت مسلمة أبية تربت في مدرسة النبي، وقد غطت وجهها وتسربلت بسربال الحياء والمروءة فجلست إلى صائغ يهودي في المدينة؛ لتشتري منه ذهباً، فأراد اليهود المجرمون من المسلمة أن تكشف عن وجهها، فأبت أن تكشف لليهود عن وجهها، فتسلل الصائغ اليهودي الوقح إلى المسلمة الأبية فعقد طرف ثوبها في ظهرها، فلما قامت المسلمة انكشفت سوأتها؛ فاليهود متخصصون في كشف السوءات والعورات!! فلما انكشفت سوءة المسلمة ضحك اليهود، وصرخت المرأة، وسمع صرخة المرأة رجل مسلم أبيّ تقي، فقام هذا المسلم إلى اليهودي فقتله.
والله! إن القلب ليحزن، وإن العين لتبكي، وإنا لما حل بالمسلمين لمحزونون؛ فهذا رجل مسلم أبيّ يسمع صرخة مسلمة -لا أقول: انتهكت عورتها، بل انكشفت سوءتها- فقام على الفور؛ لأن دماء الرجولة ودماء الغيرة تحركت في عروقه، فقتل اليهودي، فشتان شتان بين مسلمة أبت أن تكشف لليهود عن وجهها، وبين متمسلمة في هذه الأيام كشفت عن معظم جسدها، وصارت ألعوبة في أيدي اليهود المجرمين من مصممي الأزياء على مستوى العالم، فأنزلوا المسلمة من على عرش حيائها، وأخرجوها من خدرها الطاهر الكريم؛ فصارت ألعوبة، فكشفت عن شعرها، بل وعن صدرها، بل وعن مفاتن جسدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وشتان شتان بين هذه المسلمة الأبية التي أبت أن تكشف عن وجهها لليهود وبين المسلمات الآن اللائي ارتمين في أحضان اليهود، واللائي ارتمين في أحضان الموضة اليهودية العالمية في هوليود!!! وشتان شتان بين رجل أبي سمع صراخ مسلمة فانقض على اليهودي المجرم فقتله وبين رجال رأوا أعراض أخواتهم تنتهك، ولكنهم كما قال الله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فإنا لله وإنا إليه راجعون! وهكذا أيها الأحبة! انقض المسلم على اليهودي فقتله، فانقض اليهود على المسلم فقتلوه؛ فقام الحبيب المصطفى وقام الصادقون معه من الرجال الأطهار فحاصروا يهود بني قينقاع، وكان ذلك في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة المباركة، حاصروهم خمسة عشرة ليلة؛ حتى نزل اليهود المجرمون على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغنم المسلمون أموالهم، وأخرجوهم إلى أذرعات الشام.(127/10)
اليهود ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم
من الأراضي المباركة التي ابتليت بشرذمة قذرة نتنة عفنة من شراذم اليهود الممزقة: المدينة الطيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد انطلق اليهود إلى المدينة، وهنالك في المدينة أعلنوا أن الله عز وجل قد وعدهم في التوراة أنه سيبعث نبياً، وبينت التوراة صفة النبي، بل وبينت الأرض التي سيبعث فيها هذا النبي، واستعلى اليهود بمبعثه، بل تعالوا بذلك على الأوس والخزرج، وانتظروا مبعث النبي، ظناً منهم أنه سيبعث منهم؛ فهم شعب الله المختار! وظلوا يتربصون هذه البعثة؛ ليرد لهم النبي المنتظر الملك من جديد، فبعث الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم من العرب لا من اليهود.
وقام النبي يدعو الناس كافة إلى: (لا إله إلا الله)، ومن هذه اللحظة كفر اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وأعلنوا الحرب والعداء لدعوته منذ اللحظات الأولى، قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
وقال جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146] أي: يعرفون المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم: {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
فكفروا برسول الله وكذبوا به، ولما ذهب عبد الله بن سلام حبر اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في وجهه؛ علم أنه وجه نبي ليس بوجه كذاب، فآمن بالنبي، وقال: يا رسول الله! اجمع بطون اليهود واسألهم عني، فجمع النبي اليهود وقال: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟) قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا، فقام عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقام اليهود وقالوا على لسان رجل واحد: هو سفيهنا وابن سفيهنا!! فاليهود لا عهد لهم ولا ذمة، فهم متخصصون في نقض العهود والمواثيق في التو واللحظة؛ إذ لا يستحي اليهودي أن يغير ميثاقه أو ينقض عهده، فلابد من معرفة هذه الطبيعة اليهودية الماكرة.(127/11)
اليهود ونبي الله موسى عليه السلام
لما أرسل الله نبيه موسى إلى فرعون بقوله سبحانه: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:17 - 19] رأى اليهود من بني إسرائيل في موسى حبل النجاة؛ فآمن به بنو إسرائيل، لعل الله ينجيهم من فرعون وملئه، فنجاهم الله جل وعلا، وشق لهم في البحر طريقاً يابساً، وأغرق فرعون وجنوده، وامتن الله عليهم بهذه النعمة فقال سبحانه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:49 - 50].
فأكرمهم الله غاية الإكرام، ورزقهم بالمن والسلوى، ولما تركهم نبي الله موسى لمناجاة ربه جل وعلا؛ كفروا بالله سبحانه، وتمردوا على نبي الله هارون، وعبدوا العجل الذهبي من دون الله العلي جل وعلا!! فلما انطلق نبي الله هارون ليقول لهم: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90] ردوا عليه: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91] فلما عاد إليهم نبي الله موسى ردوا عليه باستعلاء واستكبار وقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:55] ثم بعثهم الله جل وعلا من بعد موتهم لعلهم يشكرون، ولعلهم يتوبون إلى الله جل وعلا، ولكنهم عاندوا وأعرضوا وازدادوا كفراً، فرفع الله جل وعلا فوق رءوسهم جبل الطور كأنه ظلة تهديداً ووعيداً، فارتعدت قلوبهم، واضطربت نفوسهم، وأعطوا العهود والمواثيق من جديد، ولكنهم سرعان ما نقضوا العهود! فهذه -أيها المسلمون- هي طبيعتهم وجبلتهم التي لا تفارقهم ولن تفارقهم إلى قيام الساعة؛ فقد نقضوا العهد مع الله جل وعلا، ونقضوا العهد مع نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، واعتدوا يوم السبت، فعاقبهم الله عز وجل فمسخهم قردة وخنازير كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:65 - 66].
وقال سبحانه في سورة المائدة: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
ثم أمرهم الله أن يدخلوا الأرض المقدسة مع نبي الله موسى، فكذبوا وعاندوا وأعرضوا وأبوا ورفضوا أمر الله عز وجل، فحكم الله عليهم بالتيه في الأرض أربعين سنة.
وبعد هذه المدة الطويلة منّ الله عليهم فأدخلهم الأرض المقدسة، ولكنهم سرعان ما نقضوا العهد مرة أخرى مع الله جل وعلا؛ فبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم.
فاليهود لا عهد لهم ولا ذمة؛ فقد نقضوا العهد مع الله، ونقضوا العهد مع رسول الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم توالت عليهم الأنبياء تترى بعد نبي الله موسى، فكذبوا فريقاً من الأنبياء، وقتلوا فريقاً آخر، قال الله جل وعلا: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:87 - 88].(127/12)
اليهود ونبي الله عيسى عليه السلام
أرسل الله عز وجل إليهم نبيه عيسى، فاتهموه منذ اللحظات الأولى بأنه ولد زنا، وأجمعوا على قتله، بل أعلنوا ذلك في صراحة ووقاحة، قال الله عز وجل حكاية عنهم في سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
ولم يكتف اليهود المجرمون بما فعلوه مع نبي الله عيسى في حياته، بل دونوا افتراءاتهم عليه لأجيالهم المتلاحقة في كتابهم الخبيث الموسوم بـ (التلمود).
وأكتفي بذكر فقرة واحدة من هذا الكتاب الفاجر الجنسي الوقح في حق نبي الله عيسى، تقول هذه الفقرة بالحرف الواحد: يسوع النصارى في لجات الجحيم بين الزفت والقطران والنار! وأمه مريم قد أتت به من الزنا!! وأعلن اليهود الحرب على التوحيد الذي جاء به نبي الله عيسى، وأعلنوا الحرب على الموحدين من أتباع عيسى عليه السلام؛ فسلط الله على اليهود من لا يرحمهم، فسامهم الرومان سوء العذاب، ومزقهم الرومان شر ممزق؛ فإذا هم أشتات وشراذم مبعثرة لا يخلو منهم مكان؛ لأنهم ساحوا في الأرض بعد ضربات الرومان المتلاحقة.(127/13)
حقيقة اليهود
يا شباب الصحوة! احفظوا مني هذا جيداً، واسمعوا هذا الشريط مراراً وتكراراً، وعمموا هذا الشريط على جميع أبناء الأمة؛ لتعرف الأمة تاريخ اليهود، فهؤلاء هم اليهود دون عهر سياسي أو دجل إعلامي.
والله! ما وعد استالين هؤلاء اليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين إلا ليتخلص من شرهم!! وما بحث لهم هتلر عن صندوق قمامة عالمي إلا ليطهر ألمانيا من رجسهم وقذرهم!! وأمريكا تعاني منهم اليوم ما تعاني!! ولكنها مغلوبة على أمرها؛ فاللوبي الصهيوني يخنق أنفاسها تماماً!! فهؤلاء هم اليهود الذين أفسدوا العالم ودمروه!! فاليهودي كارل ماركس كان وراء الشيوعية الملحدة التي أفسدت فطرة الإنسان!! واليهودي دور كايم كان وراء علم الاجتماع الذي قوض الأسرة!! واليهودي فرويد كان وراء علم النفس الذي أسس بنيانه على الجنس الفاضح!! واليهودي ساتر كان وراء الوجودية الإباحية الملحدة!! هؤلاء هم اليهود الذين فضحهم القرآن، وعرى نفسياتهم الخبيثة تعرية واضحة، وعددَ القرآن صفاتهم الدنيئة، والقرآن لا زال بين أيدينا يُتلى، لكن أين من يتدبر القرآن؟! لقد وضعت الأقفال على القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله علام الغيوب.(127/14)
بعض صفات اليهود المذكورة في القرآن الكريم
أيها الحبيب! هذه بعض الصفات التي ذكرها القرآن في اليهود: - اليهود متخصصون في الكذب على الله، قال عز وجل عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
- اليهود اتهموا الله بالبخل فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] واتهموا الله بالفقر فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]- اليهود متخصصون في تكذيب الأنبياء وقتلهم، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:87 - 88].
- اليهود متخصصون في أكل الربا والحرام والسحت، قال تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:62 - 63]- اليهود متخصصون في نقض العهود والمواثيق، قال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].
- اليهود متخصصون في الإفساد في الأرض، قال جل وعلا: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].
- اليهود أحرص الناس على حياة بأي ثمن، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].
- اليهود متخصصون في كتمان الحق والتلبيس والتضليل، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
- اليهود أجبن خلق الله عز وجل، قال الله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14].
- اليهود ملعونون على ألسنة الأنبياء، قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
أيها الأحبة! هذه هي بعض صفات اليهود في قرآن الله جل وعلا؛ ولا يُنَبئِكَ عن اليهود مثلُ خبير، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فهؤلاء هم اليهود يا زعماء العرب! يا زعماء المسلمين! فلابد من معرفة طبيعة اليهود قبل أن نمد إليهم أيدينا بالسلام المزعوم، وأنا أتساءل معكم أسئلة مريرة، وهذا هو عنصرنا الثاني.(127/15)
سبب نسيان المسلمين لتاريخ اليهود المظلم
أسئلة مريرة: لماذا نسيت الأمة تاريخ اليهود والتاريخ بين أيدينا مسطور؟!! لماذا نسيت الأمة والحقائق معلومة للأحياء، بل وللأموات داخل القبور؟!! هذا سؤال يحتاج إلى
الجواب
لماذا نسيت الأمة أو تناست تاريخ اليهود؟! والجواب -واحفظه جيداً، وعض عليه بالنواجذ- في كلمات قاطعة محددة: لأن المؤامرة على هذا الدين وعلى هذه الأمة قد حبكت تعليمياً وإعلامياً حبكاً دقيقاً محكماً!! فهم الذين وضعوا المناهج الدراسية لنا ولأبنائنا وضعاً دقيقاً؛ فشوهوا العقيدة، وزيفوا مفهوم لا إله إلا الله، ونحوا عن الحكم شريعة الله، وشوهوا التاريخ الإسلامي، ومجدوا في هذه المناهج الجاهليات الأرضية!! مجدوا جاهلية حورس!! وجاهلية مينا!! وجاهلية " خوفو "!! وما أدراك ما خوفو؟! إنهم لا زالوا يعبدون خوفو.
علمونا في المناهج أن ماجلان عبقري وبطل الزمان، ولم نعلم أنه هو الذي أضرم في المسلمين النيران!! علمونا أن العلمانية هي الصراط المستقيم!! ومن يعرض عنها فإن له معيشة ضنكاً!! علمونا أن التمسك بالدين رجعية، وأن التمسك بالدين تخلف، وأن خليفة المسلمين هو الرجل المريض!! علمونا فلسفة الشك منذ نعومة أظافرنا، وحفظونا (أنا أشك، إذاً: أنا موجود) ولو صدق المجرمون لقالوا: (أنا أشك، إذاً: أنا دبوس!!).
علمونا منذ اللحظات الأولى في هذه المناهج الدراسية حب جبران، والسوبر مان، وشكسبير، وسارتر وسيمون، وديبوفوار، وكل الوجوديات وما بها من أفكار، وأن هؤلاء هم الذين يقولون الحق وبه يعدلون!!! علمونا كيف يكون الاستسلام بذلٍ وعار!! بل وكيف يكون القبول للخروج من الأرض والديار!! ولا زال مسلسل خروج المسلمين من الأرض مستمراً إلى هذا النهار!! وقد بدأت أولى حلقات المسلسل -مسلسل خروج المسلمين من الأرض- في بلاد الأندلس، ثم في بلاد مورو في الفلبين، وهكذا في بخارى، وفي طشقند، وفي طاجكستان، وفي تركستان، وفي كشمير، وفي الصومال، وفي البوسنة، وفي الشيشان، وفي فلسطين، ولا زال المسلسل مستمراً إلى الآن!! إنه مسلسل دقيق كنتاج مسلسل دالاس، ولكن الفارق بين المسلسلين أن مسلسل خروج المسلمين من أرضهم وديارهم لا تتحرك له مشاعر الرأي العام العالمي؛ ولم لا؟! وقد وضع هذا المسلسل بدقة.
إنه من تأليف وسيناريو الصهيونية والصليبية العالمية الحاقدة، ومن ألحان أبناء الماسون وأتباعهم العلمانيين، ومن إنتاج وإخراج الفاتيكان!!! والهدف من هذا المسلسل إخراج المسلمين من دينهم أو من على سطح الأرض، ولابد من معرفة هذه الحقائق، فلماذا نسيت الأمة تاريخ اليهود؟!(127/16)
سبب انتصار اليهود على المسلمين
سؤال مرير آخر يملأ قلبي مرارة، وحلقي غصة، هذا السؤال هو: لماذا انتصر اليهود وانهزم المسلمون؟! لماذا انتصر اليهود وهم لا يزيدون على بضعة ملايين، وانهزم المسلمون وهم يزيدون على ألف مليون؟!! والجواب -يا شباب الصحوة- في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا، وهي قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فلما غيرت الأمة دين ربها وشريعة نبيها، وتخلت عن أصل عزها؛ أذلها الله لإخوان القردة والخنازير من أبناء اليهود.
إنه الذل لليهود الذين يتلاعبون لا بالعالم الإسلامي بل بالعالم كله!! فاستوى المسلمون مع اليهود في المعاصي والبعد عن الملك، فترك الله المسلمين لليهود، فأذل اليهودُ المسلمين.
وهذه سنة ثابتة، فإن الله لا يحابي أحداً من الخلق بحال مهما ادعى المدعي لنفسه من مقومات المحاباة.
إنها سنن ربانية في الكون لا تتغير ولا تتبدل، ولابد أن يعيها المسلمون من جديد.
أسأل الله جل وعلا أن يقينا جميعاً حر جهنم، وأن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(127/17)
طرق الخلاص من تسلط أعداء الله على المسلمين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه أتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! بعد هذا العرض المر المؤلم لهذا التاريخ المسطور المعلوم يتساءل الشباب بل والمسلمون: ما السبيل؟! وما الحل؟! وأين الطريق؟! وهأنذا أوجز هذا السبيل أو مشروعَ الخلاص، وأتمنى أن يتبنى زعماء العرب الذين يعقدون كل عام قمة هذا المشروع؛ ليسعدوا في الدارين: في الدنيا، والآخرة، ولتسعد بهم أمتهم، وليسعدوا أمتهم، وليعيشوا في عز وشرف وكرامة وشهامة ومروءة ورجولة، وأتمنى أن لو أسمعت هؤلاء جميعاً هذا المشروع؛ فإن هذا المشروع هو للخلاص من هذا المأزق الحرج، والواقع المر الأليم! أوجز الكلام في نقاط محددة: أولاً: أن ترجع الأمة إلى الله جل وعلا بتصحيح العقيدة والعبادة، وتحكيم شريعة الملك التي غابت أو غيبت، وتقويم الأخلاق، وتحويل الإسلام إلى منهج عملي وواقع حياة؛ إذ لابد أن تصطلح الأمة مع الله، وأن تعود الأمة إلى الله، وأن تتوب الأمة إلى الله، وأن تصحح عقيدتها وعبادتها، وأن تحكم شريعة الملك المغيبة، وأن تصحح وتقوم أخلاقها.
ثانياً: أن تصطلح الأمة مع شبابها الطاهر المتوضئ المؤمن الذي تصب الأمة الآن على رأسه جام غضبها، في الوقت الذي تكرم فيه الساقطين والتافهين ممن سيفرون ساعة الجد كفرار الفئران! فلابد أن تعرف الأمة قدر الشباب الطاهر الذي سيقف في الميدان إذا جد الجد، فلابد من الصلح معه؛ فإن أمة تتحدى شبابها الطاهر أمة خاسرة لا كيان لها ولا بقاء.
هذا الشباب هو المحرك الحقيقي، وهو الذي دفع اليهود المجرمين أن يجلسوا مع عرفات على مائدة المفاوضات؛ وقد صرح بذلك علناً فقال: لولا حماس لما جلس اليهود معي على مائدة المفاوضات.
هذا الشباب وهذه الصحوة وهذه الألوف المؤلفة هي مصدر الفزع والقلق والرعب لأعداء الله جل وعلا؛ بل قد صرح اليهود بذلك وقالوا: لقد استطعنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في المنطقة أن يظل الإسلام بعيداً عن حلبة الصراع، ولابد أن يبقى الإسلام بعيداً عن حلبة الصراع!!! فيا إخوة! ويا مسلمون! الصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكنه صراع عقيدة ووجود؛ فهم يقولون: لابد أن يبقى الإسلام بعيداً عن حلبة الصراع، ولابد أن يكبل الشباب المسلم، وأن يبتعدوا تماماً عن أرض المعركة؛ لأنهم يعرفون أن هؤلاء هم الصادقون الذين إن دخلوا المعركة سدوا فوهات المدافع بصدورهم، فهم يريدون الشهادة في سبيل الله جل وعلا.
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد برحمتك يا أرحم الراحمين! فلابد من أن تصطلح الأمة مع شبابها؛ فإذا ما جد الجد؛ وقف هؤلاء الأطهار، وبينوا للأمة من الذي ينبغي أن يرفع فوق الأعناق والرءوس، ومن الذي يجب أن يقام عليه حد الله جل وعلا.
ثالثاً: لأجل الخلاص لابد أن ترفع الأمة علم الجهاد، والله! لا عز للأمة إلا بالجهاد، فليرفع راية الجهاد حاكم مسلم واحد، وليترك التلفاز يوماً واحداً لداعية صادق أو لعلماء الإسلام المخلصين؛ فوالله! لو أن هذا الحاكم رفع راية الجهاد، وتعاون مع العلماء؛ لجيش له العلماء ملايين الشباب ممن تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله، فليرفع راية الجهاد حاكم واحد، ولا يخش قوة الشرق ولا قوة الغرب، والله! إن هؤلاء من أجبن خلق الله، قال الله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فعلى الأمة أن ترفع راية الجهاد؛ لأنه لا عز للأمة إلا بالجهاد ضد هؤلاء المجرمين؛ لأنهم هم يعلمون قبل غيرهم حقيقة الجهاد؛ ولذا اجتهدوا طيلة السنوات الماضية على تنحية قضية الجهاد، وعلى إلغاء فريضة الجهاد، وعلى أن تقتل روح الجهاد في قلوب الأمة؛ لأنهم يعلمون أن مجلس الأمن وهيئة الأمم وحلف الأطلسي وجميع المحافل الدولية لن تعيد للأمة المكلومة جراحها، ولا بناءها، ولا أرضها، ولن يعيد للأمة عزها وشرفها إلا إذا رفعت الأمة ذروة سنام الدين: الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).(127/18)
الغلبة والظهور للحق
وأخيراً: فإني مع هذا كله أبشركم بوعد الله، فمهما انتفخ الباطل وانتفش وظهر كأنه غالب، ومهما انزوى الحق وضعف وظهر كأنه مغلوب؛ فإن الدولة في نهاية المطاف للحق وأهله؛ فإن هذا وعد الله، وهذا وعد رسوله المصطفى، قال جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
وفي الصحيحين عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر فيقول: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود).
فهذا وعد الله عز وجل ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم، فما علينا فقط إلا أن نكون جنداً لله، وهأنذا أقول لكم أيها الشباب: احرصوا كل الحرص على أن تكثروا عدد المسلمين في المحاضرات واللقاءات العامة؛ فهذا أعظم دليل على وجود الصحوة، وعلى وجود الحركة للإسلام، وهذا المشهد لا تستهينوا به مطلقاً؛ فإنه يرعب أعداء الله جل وعلا، إن هذا المشهد غصة في حلوق المجرمين والمنافقين؛ فاحرصوا عليه، ليس لي فحسب، بل لكل إخواني من الدعاة، ولكل إخواني من العلماء الفضلاء المتضلعين بالعلم الشرعي الصحيح، فاحرصوا على الحضور، وجيشوا الطاقات بالنساء بالبنات بالشباب بالأطفال بكل ما تملكون من طاقة؛ لتبرزوا لأعداء الله أنه مهما وضعوا في طريقنا العقبات والحواجز والسدود فإننا نستلذ العذاب في سبيل الله، ونشهد الله جل وعلا على أننا نقوم في الليل ونتضرع إليه أن يرزقنا الشهادة في سبيله، فإننا لا نخشى -والله- الموت في سبيله، كما قال الشاعر: من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد اللهم العن اليهود، اللهم العن اليهود، اللهم العنهم بقولهم وفعلهم، اللهم العنهم بقولهم وفعلهم، اللهم شتت شملهم، اللهم مزق صفوفهم، اللهم مزق صفوفهم، اللهم املأ قلوبهم رعباً، اللهم املأ قلوبهم رعباً، وبيوتهم ناراً.
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود ومن وراء اليهود.
اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا، اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! يا رب المستضعفين! يا رب المستضعفين! يا رب المستضعفين! اللهم انصر الموحدين، اللهم انصر الموحدين، اللهم انصر الموحدين.
اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وإجرام المنافقين.
اللهم اشف صدورنا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم اشرح صدور زعماء العرب للإسلام، اللهم اشرح صدور زعماء العرب للإسلام، اللهم اشرح صدور زعماء العرب للإسلام، اللهم وفقهم لتحكيم شريعتك، اللهم يسر لهم تحكيم شريعتك، اللهم يسر لهم تحكيم شريعتك.
اللهم وفق علماء المسلمين لقولة الحق، اللهم وفق علماء المسلمين لقولة الحق.
اللهم احفظ شبابنا، اللهم احفظ شبابنا، واستر نساءنا، وآمن روعاتنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين، ولا مضيعين، ولا مغيرين، ولا مبدلين.
اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمن، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا؛ إنك أنت التواب الرحيم.
أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم! وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه! والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(127/19)
الحرب على الثوابت - دفاع عن الصحابة
يقوم أعداء الإسلام بحرب شرسة على ثوابت الأمة ومبادئها، وقد استأجروا لذلك شرذمة خاسرة من أبناء هذه الأمة؛ لتبرز في هذه الحرب بمظهر الناصح المشفق! إمعاناً في الكيد والمكر! وقد صوبوا سهامهم في مرحلتهم الأولى من هذه الحرب ضد رموز هذه الأمة وقادتها، ضد حملة الشريعة وحراسها، ضد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم.(128/1)
الهجمة الشرسة على الثوابت
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا، الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (الحرب على الثوابت) سلسلة منهجية جديدة أستهلها من اليوم بإذن الله تعالى، لأفند فيها شبهات حقيرة خطيرة تثار في عصر (الإنترنت) على أصول وكليات وثوابت هذا الدين، ومكمن الخطر أننا كنا قديماً نرد الشبهات على المستشرقين وعلى الملحدين، ولكننا اليوم نرد شبهات حقيرة وخطيرة على أيدي أناس كثيرين ممن يتكلمون بألسنتنا وينتسبون إلى الإسلام! فمكمن الخطر في هذه المرحلة، أن الذي يعلن الحرب على أصول وكليات وثوابت الإسلام هم رجال ينتسبون إلى الإسلام! بل ينتسبون من طرف خفي إلى العلم الشرعي! رجال من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا يثيرون شبهات حقيرة وخطيرة، لا على الفرعيات والجزئيات بل على الثوابت والأصول والكليات.
فاستخرت الله رب الأرض والسماوات، لأبين هذه الشبهات، لا من منطلق أن الإسلام متهم، كلا، ولا من منطلق أنني أود أن أرفع من قدر الإسلام، كلا، وإنما لأرفع من قدر نفسي وقدر إخواني وأخواتي؛ لأن الإسلام باق، ومات أعداؤه منذ زمن، وسيموت الحاقدون الحاسدون على الإسلام، وسيبقى الإسلام شامخاً؛ لأن الذي وعد بحفظه وإظهاره على الدين كله هو الحي الباقي الذي لا يموت جل جلاله.
وأستهل هذه السلسلة -التي أسأل الله أن ينفع بها وان يجعلها خالصة لوجهه الكريم- بالدفاع عن الأطهار، عن أصحاب النبي المختار صلى الله عليه وسلم؛ لأن هؤلاء بدءوا بإعلان الحرب على الصحابة؛ لغاية خبيثة سأبينها الآن لحضراتكم، وسأركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل في العناصر المحددة التالية: أولاً: دعاة على أبواب جهنم.
ثانياً: مكانة الصحابة في القرآن والسنة.
ثالثاً: وهل يسب الأخيار؟! وأخيراً: هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم.
فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار الكرام! والله أسأل أن يجعلنا ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.(128/2)
دعاة على أبواب جهنم
أيها الأحبة! إن الدعاة ينقسمون إلى قسمين، وهذا التقسيم ليس من عندي، إنما هو من كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: دعاة على أبواب الجنة، أسال الله أن نكون منهم، ودعاة على أبواب جهنم، أعاذنا الله وإياكم من حرها.
فمكمن الخطر أن الذي يعلن الحرب على ثوابت الدين هم دعاة على أبواب جهنم، وهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني -فقه عال رفيع من حذيفة - فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير -أي: بالإسلام-، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت -والقائل حذيفة -: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه يا رسول الله؟! قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي: الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: صفهم لنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام -وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وكأن النبي يعيش عصرنا وقرننا، قرن الشبهات والشهوات، ويبين لنا هذا الصنف الخبيث النكد-: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، ليسوا من المستشرقين، لا، قد مضى زمنهم، وليسوا من الملحدين، لا، قد مضى زمنهم، بل هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
وفي لفظ مسلم، وتدبر هذا اللفظ البديع في رواية مسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس) ينكرون عذاب القبر تارة، وينكرون الأحاديث المتواترة في المهدي تارة، وينكرون نعيم القبر تارة، وينكرون شفاعة الحبيب تارة، بل وينكرون السنة بالكلية تارة، بل ويشككون ويثيرون الشبهات على القرآن تارة، بل ويشككون في الله تارة! وسأبين لحضراتكم بالدليل في كل لقاء مستقل شبهاتهم الحقيرة الخطيرة على هذه الأصول، على الصحابة، على السنة، على القرآن، على رب العزة، على عذاب القبر ونعيمه، على الأحاديث الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، على كل النصوص، سأبين لحضراتكم بالدليل أقوالهم وشبهاتهم الحقيرة الخطيرة على ثوابت هذا الدين.
يثيرون الآن شبهات عفنة على من؟! على أطهر الخلق بعد الأنبياء، على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقفت على كتابين، لا أقول: على مقالين بل على كتابين، لشيخ من شيوخ الضلالة، لشيخ أفاك أثيم، ولست في حاجة إلى أن أذكر اسم الكتابين الآن، وهذا فقه متين علمنا إياه الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه المبارك.
مادام الكتاب ليس مشهوراً بين المسلمين، ولا بين كثير ممن يستمعون إلي الآن، فليس من الفقه ولا من الحكمة أن اذكر اسم الكتابين، فربما وقع على هذين الكتابين رجل مريض القلب، أو على الأقل رجل لا يحسن التعامل مع الأدلة ولا ما يناقضها، ولا يستطيع أن يقف على الأصول العلمية والقواعد الشرعية الثابتة، فيضل من حيث ندري أو لا ندري، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأل الله أن يجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
في هذين الكتابين الخبيثين يقول شيخ الضلالة هذا في حق الصحابة رضي الله عنهم بالحرف، وأنا أعي ما أقول تماماً حينما أقول: بالحرف، يقول في أحد كتابيه: (إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً!).
يقول عن مجتمع الصحابة، مجتمع الطهر: إنه مجتمع متحلل!: (إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي!).
تصور! أن الصحابة الذين استولوا على نصف الأرض في وقت قصير من الزمان، لا يساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، ثم يدعي أن هؤلاء الأطهار كانوا محبين للرذائل والهوس الجنسي! يعني: لا هم لهم إلا النساء، تصور أن هذا يقال عن الصحابة! ثم يقول هذا الدنيء الوضيع: (ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة، بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات!).
ثم يقول في كتابه الثاني: (ولما كان التصاق الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد -رفعاً للحرج- أن يبيح لأصحابه أن يمروا بالمسجد وهم جنب).
انظروا إلى كلماتهم الخبيثة التي تبين عقيدتهم وفساد طويتهم، ويأتي الإعلام العلماني الذي لا يرقب في الإسلام ولا في المسلمين إلاً ولا ذمة، يأتي على شاشات التلفاز وعلى صفحات الجرائد والمجلات بهذه الرءوس العلمانية التي أعلنت الحرب على الإسلام فيضخمها ويلمعها! ثم يأتي في المقابل ببعض رجال الدين ممن لا يحسنون عرض القضية، ممن يدافعون عن الشبهة من منطلق أن الإسلام متهم في قفص الاتهام! فتبدوا الشبهة للناس وكأن أصحاب الفكر العلماني أصحاب الشبهة هم المنتصرون، وكأن الإسلام برجاله قد هزم، وأنه بالفعل أن الإسلام متهم في قفص الاتهام، وهو يحتاج من العلماء من يذب عنه هذه الشبهات الحقيرة الخطيرة، التي لم يستطيعوا أن يقفوا للرد عليها أمام هؤلاء العلمانيين، أو إن شئت فقل: المثقفين والمتنورين، وممن يسمون الآن في بلاد المسلمين بالنخبة التي تشكل عقول الأمة الآن في عصر تقدم فيه الذئاب لرعي الأغنام! وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب؟! وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفاً دقيقاً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم، من حديث أبي هريرة: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، صدق المصطفى ورب الكعبة (وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه) وفي لفظ: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة).
لم يعد التافهون يتكلمون في أمر العوام، بل أصبح التافهون الآن يتكلمون في أمر الإسلام، لا بل في أصول وثوابت الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إنه زمان الفتن، فتن الشبهات التي أخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً -سلم يا رب! سلم-، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً! يبيع دينه بعرض من الدنيا زائل)، بعرض من الدنيا حقير، يبيع الدين بالدنيا الزائلة الحقيرة التافهة.
اللهم! ثبت قلوبنا على دينك حتى نلقاك، يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلوبنا على دينك يا عزيز يا غفار! الصحابة يساء إليهم بهذا القدر! أنا أتحدى هذا الدنيء الوضيع أن يسيء لقسيس، أتحداه أن يسيء إلى وزير أو إلى رئيس أو إلى أمير أو إلى ملك! لكن الصحابة في زمن قل فيه الرجال، أصبح هؤلاء الأقزام يتطاولون على هذه القمم الشماء، على قمم الطهر والشرف والكرامة.
اسمعوا ماذا قال الإمام الحافظ الكبير أبو زرعة؛ لتقفوا على سر إعلان الحرب على الصحابة؟! لماذا بدءوا في إعلان الحرب على الصحابة، سؤال مهم وخطير، لماذا الصحابة بالذات؟! الجواب من الحافظ أبي زرعة يقول: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به الرسول حق، والذي نقل إلينا كل ذلك هم الصحابة، وهؤلاء أرادوا أن يطعنوا في شهودنا وعدولنا؛ ليبطلوا القرآن والسنة).
انظروا إلى كلام العلماء، لو شككت في أخلاقي لشككت فيما أنقله إليك من العلم، فالصحابة هم الذين نقلوا إلينا التركة المباركة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقلوا إلينا القرآن، نقلوا إلينا السنة، نقلوا إلينا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الطعن في الناقل طعن في المنقول، إن ضيع الناقل ضاع المنقول، هؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة.
قال الإمام مالك: (من وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي فقد أصابه قوله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، وقرأ الإمام مالك قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29]).
وقال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة التي تلقتها الأمة بالرضا والقبول: (ونحب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبالخير نذكرهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
أيها الأحبة الكرام! قفوا على هذا التفصيل المهم، لا يجوز البتة لرجل زائغ العقيدة مريض القلب مشوش الفكر أن يتكلم عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث عن الصحابة يتطلب صفاءً في العقيدة، وإخلاصاً في النية، وأمانة في النقل، ودقة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذابين والوضاعين.
وعلى أي حال أنا لا أرى لهؤلاء الأقزام مثلاً إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة تمر عملاقة، فلما أرادت الذبابة الحقيرة أن تطير وتنصرف، قالت للنخلة: تماسكي أيتها النخلة! لأني راحلة عنك! فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة! فهل شعرت بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عني؟! هل يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء؟! بل هل يضر السماء نبح الكلاب؟! لا والله، فإن الذي شهد للصحابة بالخي(128/3)
مكانة الصحابة في القرآن والسنة
المناقب التي سأذكرها الآن لم ينلها الصحابة من هيئة مغرضة كذابة كمنظمة (اليونسكو) أو هيئة الأمم، أو حلف من الأحلاف، أو مجتمع ماسوني ضال مضل، لا، بل إن الذي عدّل وزكّى الصحابة هو الله، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.
قال جل في علاه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، المخاطب ابتداء بهذه الآية هم الصحابة: (كنتم) خطاب للصحابة ابتداء: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، المخاطب ابتداء بالآية هم الصحابة.
وقال تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172 - 174].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال:74] هذه شهادة من الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74] وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة:100].
تدبر -أخي الحبيب- قوله تعالى: (رضي الله عنهم) الله رضي عن المهاجرين والأنصار، أثبت العزيز الغفار ذلك في قرآنه إلى يوم القيامة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18].
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9] والآيات في هذه كثيرة.
وتأتي السنة ليبين صاحب السنة صلى الله عليه وسلم مكانة الصحابة، ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وفي الصحيحين من حديث أنس قال: (مروا بجنازة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فمروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أثنيتم على الأولى خيراً فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الثانية شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: (أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوماً إلى السماء فقال: النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث عائذ بن عمرو: (أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال، وهم من فقراء الصحابة، وأبو سفيان شريف من الأشراف وسيد من السادة، وفي المجلس أيضاً صديق الأمة الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، فلما رأى فقراء الصحابة أبا سفيان يمشي قالوا كلمة شديدة، قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فغضب الصديق لهذه الكلمة، وقال للصحابة: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! وترك الصديق المجلس وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قال الصحابة وبما قال هو، فاسمع ماذا قال رسول الله لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم -لعلك أغضبت سلمان وصهيباً وبلالاً، لعلك أغضبتهم فوالله إن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل).
إلى هذا الحد، إلى هذا القدر، (لعلك أغضبتهم، فلئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، فوالله، ثم والله، ثم والله، ما كان حديثاً يفترى، ولا كلاماً يتردد، ذلكم الحديث الذي يروي به التاريخ أسماء أطهر ثلة عرفتها الأرض بعد الأنبياء والمرسلين.
وأختم بهذا الحديث -وإن كان في سنده مجهول من باب الأمانة، إلا أن متنه ثابت صحيح بالشواهد التي ذكرت- وهو من حديث عبد الله بن مغفل في سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك الله أن يأخذه).
اللهم خذ كل من آذى أصحاب نبيك، وأصحاب رسولك، وآذى رسولك، وآذاك يا أرحم الراحمين، إن لم تقدر لهم الهداية في سابق علمك يا أحكم الحاكمين! أيها الأحبة! لو ظللت أتحدث لحضراتكم بالآية والحديث في فضل الصحابة، لاحتجت إلى لقاءات لا إلى لقاء، فإن الصحابة لو اجتمع أهل البلاغة على ظهر الأرض ليذكروا فضلهم من القرآن والسنة ما استطاعوا؛ لأن الذي عدلهم هو الله، ولأن الذي زكاهم هو الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.(128/4)
هل يسب الأطهار الأخيار؟!
فهل يسب هؤلاء الأطهار؟! هل يسب الأخيار؟!(128/5)
هل يسب عمر الفاروق؟!
وهل يسب عمر الفاروق الأواب؟! ذلكم الرجل الذي قدم لدنيا الناس كافة قدوة لا تبلى ولن تبلى، ركز معي أيها الحبيب! إنها قدوة تتمثل في عاهل كبير، بركت الدنيا كلها على داره بأموالها وزخرفها وذهبها وسلطانها، بركت الدنيا كلها على عتبة داره فسرحها سراحاً جميلاً، وقام لينثر في الناس خيراتها وأموالها، وليبعد عن الناس فتنها ومضلاتها، حتى إذا انفض عنه علائق هذا المتاع الدنيوي الزائل قام ليستأنف سيره ومسراه مع مولاه.
انظر إليه ستراه هنالك يجري تحت حرارة الشمس المحرقة على رمال ملتهبة، كادت الأشعة المنعكسة على الرمال أن تخطف الأبصار، فنظر إليه عثمان وقال: يا ترى من هذا الذي خرج في هذا الجو القائض القاتل؟! ولما دنا قال: يا سبحان الله! إنه عمر، إنه أمير المؤمنين، فناداه: (يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الوقت الشديد الحر؟! فيرد عمر أمير المؤمنين: بعير من إبل الصدقة قد ند وشرد وأخشى عليه الضياع، فقال عثمان: تعال يا أمير المؤمنين إلى الظل وإلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتيك بهذا البعير، قال: عد إلى ظلك وعد إلى مائك البارد يا عثمان! أأنت ستسأل عنه بدلاً مني أمام الله يوم القيامة؟!) انظر إليه ستراه هنالك قد أحنى رأسه الذي ارتفع ليطاول كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل: الذي شرفت كواكب الجوزاء بالنزول إلى الأرض لتستوي برأس عمر! انظر إليه وقد أحنى رأسه تحت قدر على نار مشتعلة ينفخ في النار، لينضج طعمة طيبة لأطفال فقراء يبكون من شدة الجوع! انظر إليه ستراه هنالك يمشي مع زوجته ليأخذها في الليل الدامس إلى أين؟! إلى امرأة قد أدركها كرب المخاض، ولا تجد من يساعدها في الولادة، فيذهب أمير المؤمنين بنفسه ليأتي بامرأته لتساعد مسلمة فقيرة مريضة! انظر إليه ستراه هنالك وهو يتفقد أحوال رعيته، يرى إبلاً سمينة عظيمة ممتلئة فيقول عمر: (ما شاء الله إبل من هذه؟! فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوف عمر! إبل عبد الله بن عمر؟! ائتوني به، ويأتي عبد الله وهو إمام الورع، إمام الزهد، إمام التقى، ويقف بين يدي أبيه، فيقول له عمر: ما هذه الإبل يا عبد الله؟! فيقول عبد الله: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين! وأطلقتها في الحمى لترعى لأبتغي ما يبتغيه سائر المسلمين من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع: بخ! بخ! يا ابن أمير المؤمنين! وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويزداد ربحك يا ابن أمير المؤمنين! قال: مرني يا أبت! قال: انطلق الآن فبع الإبل وخذ رأس مالك، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين! سبحانك! يا خالق عمر سبحانك! يا خالق عمر.
انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضع الأوسمة والمناقب على صدر عمر، في سنن الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ رأيتني في الجنة، ورأيتني إلى جوار قصر، ورأيت إلى جواره جارية تتوضأ فقلت -والقائل المصطفى-: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر بن الخطاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لـ عمر رضي الله عنه، فتذكرت غيرتك يا عمر فأعرضت بوجهي -أي: عن النظر إلى الجارية وإلى القصر- فبكى عمر وقال للمصطفى: أومنك أغار يا رسول الله؟!).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص، -جمع قميص- منها ما يبلغ الثدية، -جمع ثدي- ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: الدين).
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر قال: (بينا أنا نائم إذ أوتيت بقدح لبن فشربت حتى إني أرى الري يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى من اللبن في الإناء- لـ عمر بن الخطاب قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: العلم).
وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله وعنده نسوة من قريش يحدثنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن على النبي، فلما استأذن عمر وسمع النسوة صوت عمر أسرعن وقمن من مجلس النبي يبتدرن الحجاب ليختفين من عمر، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي يضحك، فقال عمر المهذب المؤدب: أضحك الله سنك يا رسول الله! -يعني: زادك الله سروراً على سرورك، ولم يقل: لماذا تضحك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي يسألنني ويستكثرنني عالية أصواتهن، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب! فقال عمر -المؤدب-: أنت أحق أن يهبن يا رسول الله! ثم التفت عمر إلى النسوة وقال: يا عدوات أنفسهن! تهبنني ولا تهبن رسول الله! -والمرأة لا يخونها لسانها في مثل هذا الموضع أبداً-، فرد النسوة على عمر وقلن: نعم، فأنت أفظ وأغلظ من رسول الله، فقال النبي لـ عمر قولة عجيبة: أَوّه يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده! لو رآك الشيطان سالكاً فجاً -يعني: تمشي في طريق- لتركه لك، وسلك فجاً غير فجك يا عمر!).
يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة القوم سبقتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجته الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها؟ ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي إلى البيت فرديها كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها فهل يسب الفاروق الذي أذل كسرى وأهان قيصر؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!(128/6)
هل يسب عثمان ذو النورين؟!
أيها الأحبة الكرام! وهل يسب عثمان ذلكم الحيي التقي النقي، ذو النورين المصلي إلى القبلتين، صاحب الهجرتين، الحيي الكريم، أكتفي بحديث واحد فقط في مناقب هذا العملاق: في صحيح مسلم من حديث عائشة: (استأذن أبو بكر على رسول الله وهو مضطجع في حجرة عائشة، وقد كشف عن ساقه أو فخذه، فأذن النبي للصديق فدخل وخرج والنبي على هيئته، ثم استأذن عمر فأذن له النبي وهو على هيئته، ثم لما استأذن عثمان فجلس النبي وسوى عليه ثيابه، وأذن لـ عثمان، فلما دخل عثمان ثم انصرف قالت عائشة: يا رسول الله! دخل عليك أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عليك عمر فلم تهتش له ولم تباله، فلما دخل عليك عثمان جلست وسويت ثيابك وأذنت له؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!).
أيها الإخوة! والله لا أخشى فقط إلا من الإطالة عليكم، فإن الصحابة رضوان الله عليهم يشعر الإنسان وهو يتحدث عنهم بفخر وعزة، إذ إنه ينتسب إلى هؤلاء الأشراف الأطهار الكرام، فكل أمة تفخر برجالها وأبنائها، وإن أحق الأمم بالفخار هي أمة النبي المختار بجدارة واختيار، بل وبشهادة العزيز الغفار: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].(128/7)
هل يسب علي أبو السبطين؟!
وهل يسب علي رضوان الله عليه، الذي اضطر يوماً لأن يفخر فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي وأكتفي بحديث واحد فقط خشية الإطالة، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه)، وفي رواية مسلم يقول عمر: (والله ما تطلعت إلى الإمارة إلا يومها)، تمنى كل الصحابة الإمارة في هذا اليوم لعلهم ينالون هذا الشرف: (ويحبه الله ورسوله).
فلما كان في الصباح قام النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن القائد الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فقال المصطفى: (أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: لم يأت اليوم يا رسول الله! إنه يشتكي عينيه، قال: ائتوني به، فأرسلوا إليه، فجاءوا به، فمسح النبي عينيه فبرأ وكأن لم يكن بهما وجع، وأعطاه الراية، وانطلق أسد الله الغالب، ففتح الله على يديه، وما لبث أن فتح حصون خيبر بهذه القولة الخالدة: الله أكبر خربت خيبر)، نسأل الله أن تعلو من جديد: الله أكبر خربت حصون اليهود، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حب النبي على الإنسان مفترض وحب أصحابه نور ببرهان من كان يعلم أن الله سائله لا يرمين أبا بكر ببهتان ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ولا الخليفة عثمان بن عفان ولا علياً أبا السبطين نعم الفتى وصى به المصطفى في سر وإعلان فهم صحابة خير الخلق خصهم الإله بجنات ورضوان(128/8)
هل يسب الصديق؟!
هل يسب الصديق؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! هل يسب أبو بكر؟! رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأطوار، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في جميع الأسفار، وضجيع النبي صلى الله عليه وسلم في الروضة المحفوفة بالأنوار، الممدوح في الذكر بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40]، أيسب الصديق؟! إنه أمر ينخلع له القلب، والله إنها لمرارة وغصة في الحلق أن يسب صديق الأمة في زمان الفتن، في زمان الشبهات والشهوات، على مرأى ومسمع، وفي الكتب، بل وعلى صفحات الجرائد والمجلات.
يسب الصديق رضوان الله عليه وأرضاه ذلكم العملاق الكبير، الذي لو اجتمع أهل الأرض ليمدحوه ما رفعوا من قدره، وما أعلوا شأنه، وإنما رفعوا من قدر أنفسهم، وأعلوا من شأنهم، وهم يتحدثون عن صديق الأمة، عن الرجل الذي لم يتلعثم في إيمانه طرفة عين، بل كان شعار الصديق إذا تشككت الصدور، وتلعثمت الكلمات في الصدور: (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق) كلمة عجيبة، ميزان دقيق، يثبت يقين الرجل وإيمانه، الرسول قال كذا، إذاً انتهى الأمر، محمد صادق! (إن كان محمد قد قال ذلك فقد صدق)؛ من أجل ذلك كان الصديق أحب الرجال إلى قلب سيد الرجال محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (قلت يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها -أي: الصديق - قال عمرو: ثم من؟ قال المصطفى: ثم عمر).
الصديق رجل في أمة النبي صلى الله عليه وسلم يزن أمة، وقد أفردت له لقاءً كاملاً بعنوان: رجل يزن أمة، إنه الصديق.
روى أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب موقوفاً عليه أنه قال: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر) ولم لا يا إخوة؟!! الصديق لم يترك سبيلاً من سبل الخير إلا وسارع إليه بهمة عالية، في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله يدعى يوم القيامة من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، يا عبد الله! هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال الصديق: يا رسول الله! وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)، وفي رواية ابن حبان من حديث ابن عباس بسند صحيح قال الصديق: (وهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها يا رسول الله؟! قال المصطفى: نعم وأنت هو يا أبا بكر).
هذه درجته ومكانته، تنادي عليه كل أبواب الجنة ليدخل منها إلى نعيم مقيم: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الصحابة يوماً وقال: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن عاد اليوم منكم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فسأل المصطفى: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).
وتجلت مكانة الصديق في آخر أيام الحبيب، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عند الله؛ فاختار ما عند الله فبكى الصديق الذي فهم مراد حبيبه ومصطفاه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا وأموالنا وأنفسنا) فضج الناس في المسجد النبوي، وتعجبوا لكلام صديق الأمة، عجباً لهذا الشيخ ماذا يقول؟! الرسول يتحدث عن عبد مخير بين الدنيا والآخرة، فلماذا يقول الصديق مثل هذا الكلام؟! قال أبو سعيد: وكان أفهم الصحابة لكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد فهم الصديق أن العبد المخير هو الحبيب المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي: (على رسلك يا أبا بكر! -ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الصديق فقال: أيها الناس! إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، وما نفعني مال أحد قط مثلما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وما منكم من أحد إلا وكان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا قد تركنا مكافأته لله عز وجل، سدوا الأبواب كلها التي تطل على المسجد إلا باب أبي بكر رضي الله عنه).
وقد فهم أهل العلم أن هذه إشارة واضحة إلى أنه سيتولى من بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأمر النبي أن يبقى بابه مفتوحاً.
يوم مات المصطفى صلى الله عليه وسلم تجلى يقين الصديق وإيمانه الذي لم يتزلزل ولم يتزعزع أبداً، طاش عقل عمر، وطاش عقل عثمان، وخرس لسان علي، وطاشت عقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، انظروا لتعرفوا قدر الصديق، انظروا لتعرفوا مكانة الصديق، عمر الفاروق الأواب صرخ بأعلى صوته وقال: (والله من قال بأن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا، فإن رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه عز وجل كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن وليقطعن أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات) الذي يقول هذا هو عمر فاروق الأمة الأواب! فتصور الصحابة دون عمر كيف كان حالهم؟! وثبت الله الصديق، بل وكان موقفه بمثابة البوصلة التي حددت اتجاه التاريخ، نحو هذا العملاق الذي لم يتلعثم ولم يتزعزع ولم يتردد، بل كان هذا الموقف بمثابة الموقف الذي يبين بجلاء ووضوح أن الرجل الذي يجب أن يتقدم ليسد الفراغ الرهيب الذي سيتركه الرسول صلى الله عليه وسلم بموته هو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، شق أبو بكر الصفوف، ودخل غرفة عائشة، فوجد حبيبه مسجى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فقبل الصديق رسول الله بين عينيه، وجثى على ركبتيه، وفي الرواية التي حسنها شيخنا الألباني في مختصر الشمائل أن الصديق بكى، وعلم أن الموت حق، وأن الرسول قد مات، فنادى على حبيبه وقال: (وا صفياه! وا صفياه! وا نبياه! وا حبيباه! وا خليلاه!)، وقال في رواية الصحيحين: (أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها ولا ألم عليك بعد اليوم).
وخرج الصديق إلى الناس، وقال على رسلك يا عمر! انتظر يا عمر! فاجتمع الناس حول الصديق، فحمد الله وأثنى عليه وقال في ثبات مذهل، ويقين عجيب: (أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]).
إنه الصديق، إذاً: يا راية الله رفرفي! إذاً: فلتتقدم أيها الرجل العملاق الكبير لتملأ هذا الفراغ الكبير الذي تركه النبي العظيم الكبير صلى الله عليه وسلم، إنه الصديق الذي لو ظللت أتحدث عنه الدهر ما وفيت هذا الرجل العملاق حقه.
هذا الرجل الذي كان من أعظم بركاته على الأمة: أنه أطفأ نار حروب الردة، تلك النار التي صهرت الأمة صهراً، ونفت عن الصف الخبثاء والدخلاء، وميزت المؤمنين من المنافقين، تلك المحنة التي تحولت بفضل الله ورحمته إلى منحة كبيرة على الإسلام وعلى المسلمين.
ومن أعظم بركاته: أنه أرسل جيش أسامة؛ ليؤدب القبائل التي غارت على حدود الدولة الإسلامية، وكانت مدعومة من الدولة الرومانية.
ومن أعظم بركاته: أنه جمع القرآن الكريم بعد غزوة اليمامة التي قتل فيها كثير من القراء من حفاظ كتاب الله، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل وإن شئت فقل: ومن أعظم بركات الصديق أيضاً: أنه قبل أن يموت أمر كتابة باستخلاف عمر على أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: (ماذا تقول لربك إن سألك وقد وليت على أمة النبي صلى الله عليه وسلم من بعدك عمر وهو القوي الغليظ الشديد؟! قال الصديق: إن سألني ربي سأقول له: يا رب! وليت عليهم أقواهم وأعدلهم).
فهل يسب الصديق؟!!(128/9)
هم القدوة فاعرفوا لهم فضلهم
إننا نعيش في زمان قُدِمَ فيه التافهون وأصبحوا القدوة والمثال.
فلقد آن الأوان لننظر بأبصارنا إلى هذه القدوات الطيبة والمثل العليا.
قال ابن مسعود: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً: (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد؛ فاصطفاه لرسالته ونبوته، ونظر في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه).
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترد الأمة إلى دينك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بأيدينا إليك، اللهم خذ بأيدينا إليك، اللهم خذ بأيدينا إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا وإمامنا وحبيبنا محمد وآله وصحبه أجمعين.(128/10)
الحشر
من الأهوال العظيمة التي تنتظر الناس جميعاً أهوال يوم الحشر، حيث يحشر الناس على قدر أعمالهم -في أرض غير هذه الأرض- فمنهم من يحشر راكباً، ومنهم من يحشر ماشياً، ومنهم من يمشي على وجهه! ومن هذه الأهوال دنو الشمس من رءوس الخلائق، إلا أن من رحمة الله أن جعل في ظل عرشه أصنافاً من الناس؛ لما عملوه في هذه الدنيا من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(129/1)
من مات على شيء بعث عليه يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً.
وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة.
سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها: تذكير الناس بحقيقة الآخرة، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسموات؛ ليتذكر الناس ربهم جل وعلا، وليتوبوا إليه سبحانه قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:50].
وهذا هو لقاؤنا العاشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة، وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي بحول الله جل وعلا عن البعث، وتوقفنا عند هذه المشاهد التي تخلع القلوب! حينما يخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً، كل يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها! فمن مات على طاعة بعث على تلك الطاعة، ومن مات على معصية بعث على نفس المعصية، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
فمن الناس من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن بين يديه، وعن يمينه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم يوم القيامة من أهل الأنوار، ومنهم من يبعث وهو ينطلق في أرض المحشر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، من هذا؟! إنه الذي مات بلباس الإحرام في حج أو عمرة، ومنهم من يبعث وينبعث منه الدم: اللون لون الدم، والريح ريح المسك، من هذا؟! إنه الشهيد في سبيل الله جل وعلا، ومنهم من يبعث ولسانه مدلىً على صدره! منظر بشع! من هذا؟! هذا الذي أكل لحوم الناس في الدنيا بالغيبة، ومنهم من يبعث وأظفاره من نحاس يمزق بها لحم وجهه! ويقطع بها لحم صدره، من هذا؟! هذا هو الذي آذى الناس في الدنيا، ومنهم من يبعث وقد انتفخت بطنه لا يقوى على القيام في أرض المحشر! بل تراه يتلبط ويتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس، من هذا؟! إنه آكل الربا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وهذا رجل ينطلق من قبره إلى أرض المحشر عرياناً ومن حوله مجموعة من الأطفال الصغار يجرونه جراً، ويدفعونه دفعاً للوقف بين يدي الله سبحانه، من هذا، ومن هؤلاء؟! هؤلاء هم اليتامى وهذا آكل أموال اليتامى ظلماً: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، ومنهم من يبعث وكأس الخمر في يده وهو أنتن من كل جيفة! ومنهم من يبعث وهو يحمل على كتفه ما سرقه في هذه الحياة الدنيا! قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
إنها مشاهد تخلع القلوب يا عباد الله! فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
فمن مات ساجداً بعث يوم القيامة ساجداً، ومن مات موحداً بعث يوم القيامة موحداً، ومن مات على معصية بعث يوم القيامة على نفس المعصية.
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين!(129/2)
أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم
وأول من يبعث، وتنشق عنه الأرض يوم القيامة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يقول: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مُشَفَّع).(129/3)
أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام
وإذا كان المصطفى هو أول من يبعث يوم القيامة، فإن أول من يُكسى يوم القيامة هو خليل الله إبراهيم.
كما في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلاً، وأول الناس يُكْسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام).
وفي رواية البيهقي من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أول الناس يُكسى من الجنة يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، ويؤتى بي -أي: بالحبيب المصطفى- فأُكسى حُلّة من الجنة لا يقوم لها البشر).
وتكلم علماؤنا عن حكمة تقديم إبراهيم عليه السلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكسوة يوم القيامة.
ومن أجمل ما ذكره أهل العلم: أن المشركين لما هموا بحرق إبراهيم في النار، وأشعلوا النار المتأججة التي ارتفع لهيبها في عنان السماء حتى كانت الطيور تسقط من ارتفاع لهب هذه النيران! وظلوا يجمعون لها الحطب شهوراً وأياماً، فلما هموا بإلقائه جردوه من كل ثيابه، فلما صبر إبراهيم واحتسب وتوكل على الله جازاه الله سبحانه وتعالى على ذلك، فوقاه حر النار في الدنيا والآخرة، وكافأه يوم القيامة فكساه على رءوس الأشهاد.
فأول من يبعث هو الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الناس يُكسى هو الخليل إبراهيم عليهما وعلى جميع النبيين والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وبعد البعث حشر.
وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم، فأعيروني القلوب والأسماع والله أسأل أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في موضوع الحشر في العناصر التالية: أولاً: صفة أرض المحشر.
ثانياً: كيف يحشر الناس؟! ثالثاً: هول الموقف.
رابعاً: في ظل عرشه.(129/4)
صفة أرض المحشر
أولاً: صفة أرض المحشر: أيها الخيار الكرام! إن الأرض التي سيحشر الناس عليها تختلف تماماً عن الأرض التي نعيش عليها: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
تختلف الأرض، بل وتتبدل وتتغير السماء، ووصف لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم طبيعة هذه الأرض التي سيحشر الناس عليها وصفاً دقيقاً بليغاً.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَةِ النَّقِي) أي: على أرض كالفضة الناصعة البياض، لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة أو معصية، أرض بيضاء نقية، فالعفر: هو البياض الذي يميل إلى الحمرة.
وعند ابن فارس: هو البياض الشديد الناصع البياض.
(وقرصةُ النقي) أي: كالدقيق الأبيض النقي من الغش والنخال.
قال سهل: (ليس عليها معلم لأحد) المعلم: هو العلامات التي يتعارف بها الناس على الشوارع، والمدن والطرقات، فهذا معلم يبين هذه المدينة، وهذا معلم يبين هذا الشارع والطريق، هذا في أرض الدنيا، أما في أرض المحشر فليس في هذه الأرض معلم لأحد، هي أرض بيضاء مستوية كالفضة البيضاء لا يوجد عليها بناء ولا أشجار، ولا أنهار.
هذه هي صفة أرض المحشر كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.(129/5)
كيفية الحشر
كيف يحشر الناس إلي أرض المحشر من القبور؟! هذا هو عنصرنا الثاني، فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! يخرج الناس من القبور (حفاةً عراةً غُرْلاً) كما قال المصطفى في صحيح مسلم من حديث عائشة: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرلاً، قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشد من أن يهمهم ذلك).
يخرجون من القبور وهم بهذا العري والذل والهوان! قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:41 - 44].
يسير على الله، فليس عند الله شيء عسير، يسير على الله أن يحشرهم من يوم أن خلق آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يتخلف أحد ولا يمتنع أحد، كيف ذلك؟! وهو الذي يقول سبحانه: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47].
حشر الله الخلق جميعاً ولا يتخلف مَلِك، ولا يتكبر حاكم، أو زعيم، ولا يتعنت طاغوت أو متكبر أو طاغية، فلم نغادر منهم أحداً.
قال سبحانه وتعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
لا يتخلف مخلوق، لقد أحصى الله الخلق من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة، فهم ينطلقون جميعاً وراء هذا الداعي الكريم الذي جاء ليقود الخلق جميعاً إلى أرض المحشر، ينطلقون خلفه ولا يتلفتون، ولا يتخلفون، ينطلقون صامتين مستسلمين خاشعين يعلوهم صمت رهيب، ويزلزل قلوبهم سكون غامر! الأبصار خاشعة، والوجوه عانية، وجلال الحي القيوم يغمر المكان والنفوس بالعظمة والهيبة والجلال! قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108] صمتوا عن الكلام فلم يبق إلا الهمس والتخافت: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:108 - 111]، وهل يستطيع مخلوق أن يتفلت أو يتخلف؟! وهل يملك طاغية أو ظالم أو زعيم أو حاكم أن يتعنت أو يتأخر، هل يستطيع؟! وقد وكل الله بكل إنسان ملكين يسوقانه سوقاً إلى أرض المحشر.
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].(129/6)
يحشر الناس ثلاثة أصناف
الله أكبر! أستحلفك بالله أن تتصور معي هذه المشاهد، وأن تعيشها بقلبك وكيانك وجوارحك، ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يجسد لنا معاني هذه الآيات، فإن الكلام عن هذا المشهد من مشاهد القيامة يخلع القلوب! يجسد لنا المصطفى هذه المشاهد فيقول كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاة، يمشون على أقدامهم، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم، قيل يا رسول الله! كيف يمشون على وجوههم؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن الذي أمشاهم في الدنيا على أقدامهم قادر على أن يمشيهم في الآخرة على وجوههم).
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس قال رجل: (يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟! فقال المصطفى: أليس الذي أمشاه في الدنيا على الرجلين قادراً على أن يمشيه يوم القيامة على وجهه؟!) قال قتادة: بلى وعزة ربنا.
ونحن نقول: بلى وعزة ربنا إنه لقادر على أن يحشر الكافرين يوم القيامة على وجوههم.
أيها الحبيب! هل تصورت -قبل أن ترى الحية- أن دابة تمشي على بطنها؟! لم تكن تتصور ذلك، كيف تمشي الحية على بطنها؟! ولكنك تصورت وصدقت لما رأيت الحية أمام عينيك، وبين يديك تزحف على بطنها، والذي جعل الحية تمشى بدون أرجل سيحشر الكافر ماشياً على وجهه يوم القيامة! إنه على كل شيء قدير.
وأستحلفك بالله أن تتصور هذا المشهد: أناس يمشون في أرض المحشر، وأناس يركبون، وأناس يمشون على وجوههم، منظر بشع رهيب لا يستطيع بليغ فصيح أن يعبر عنه! أناس يمشون على الأقدام، وأناس يركبون، من هؤلاء الذين يركبون في هذا اليوم العصيب الرهيب؟! اسمع لربك جل وعلا، قال سبحانه: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] وفداً: أي: ركباناً، لا يمشي المتقون في أرض المحشر على أقدامهم، بل يهيئ الله لهم ركائب من دواب الآخرة، عليها سُرُج من ذهب، وتتنزل الملائكة لأهل التقوى في أرض المحشر؛ لتبشرهم بهذه البشارة: {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]، {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] ويقدم الملائكة لأهل التقى ركائب من دواب الآخرة، عليها سرج من الذهب فيركب المتقون، وينطلقون بها في أرض المحشر، فلا يمشون على أقدامهم في هذا اليوم العصيب، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!(129/7)
تعريف التقوى
والتقوى: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
وسأل سائل أبا هريرة عن التقوى؟ فقال أبو هريرة: هلا مشيت على طريق فيه شوك؟ قال: نعم، قال: فماذا صنعت؟ قال: كنت إذا رأيت الشوك اتقيته، قال أبو هريرة: ذاك التقوى.
فقال ابن المعتز: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وقال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:85 - 86] كما تورد البهائم لتشرب! (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا).
أما التقي: فإنه يحشر إلى الله راكباً، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتقين، ومن السعداء في هذا اليوم العظيم، إنه على كل شيء قدير.
أما الكافر فإنه يمشي على وجهه، إنه مشهد -ورب الكعبة- يخلع القلب!(129/8)
يحشر المتكبرون كالذر
أما المتكبرون الذين انتشوا وانتفخوا في الدنيا ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخفضوا جناح الذل لخلق الله، بل تراه مغروراً بكرسيه الذي جلس عليه تراه مغروراً بمنصبه تراه متكبراً بماله تراه متكبراً بسلطانه وجاهه.
هل عرفت صورة حشر هذا المتكبر؟! إنه سيحشر بمنظر وبهيئة لو عرفها لوضع أنفه في التراب ذلاً لمولاه! ولخفض جناح الذل لخلق الله.
يا بن التراب ومأكول التراب غداًَ اقصر فإنك مأكول ومشروب.
علام الكبرياء يا بن آدم؟! وأنت تحمل البصاق في فمك!! وتحمل العرق تحت إبطيك!! وتحمل البول في مثانتك!! وتحمل النجاسة في أمعائك!! وتمسح عن نفسك بيدك القذر كل يوم مرة أو مرتين! يا أيها الإنسان ما غرك؟! مر أحد السلف على رجل متبختر مختال في مشيته، فقال له هذا الرجل الصالح: يا أخي! هذه مشية يبغضها الله ورسوله.
فقال له المتكبر المنتفخ: ألا تعرف من أنا؟! قال: نعم أعرفك، فأولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة! من أنت أيها المتكبر؟! من أنت أيها المغرور؟! تصور معي مشهد حشر المتكبر يوم القيامة! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم-: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر في صور الرجال).
تطؤه الأقدام.
الناس يطئون النمل بأقدامهم وهم لا يشعرون، فكذلك يحشر المتكبر يوم القيامة كالذر! تدوسه الأقدام والأرجل؛ لأنه كان منتفخاً منتشياً متكبراً مغروراً في الدنيا، والجزاء من جنس العمل، فكما انتفخ واستعلى يحشر يوم القيامة في غاية الذلة والمهانة، تطؤه الأرجل والأقدام، وهم في طريقهم إلى الرحيم الرحمن جل وعلا.
(يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، تطؤهم الأرجل، يعلوهم الذل من كل مكان).
صور رهيبة! مشاهد تخلع القلوب -ورب الكعبة- لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فإذا ما وصلت الخلائق كلها إلى أرض المحشر: تنزلت الملائكة ضعف من في الأرض، وتحيط الملائكة بأهل الأرض من كل جانب ومن كل ناحية، وهل يا ترى! ينتهي هذا البلاء وهذا الكرب؟! لا والله، بل إن الموقف فيه من الأهوال والكروب ما يخلع القلوب، وهذا هو عنصرنا الثالث.(129/9)
هول الموقف
إذا ما وصل الناس إلى أرض المحشر ازداد الهم والكرب والغم! عند أن يقفوا قياماً طويلاً! وهاهي الشمس تدنو من رءوسهم حتى لا يكون بينها وبين رءوسهم إلا كمقدار ميل! يقول الراوي: لا ندري ماذا يقصد رسول الله بالميل، أهو ميل المسافة المعروفة، أم ميل المكحلة التي تكتحل به العين؟! ورد في صحيح مسلم من حديث المقداد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة بمقدار ميل فيغرقون في عرقهم بمقدار أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه).
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]: (يقوم الناس في رشحهم إلى أنصاف آذانهم) هل تصورت هذا المشهد؟! حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرءوس! ولك أن تتصور: البشرية كلها منذ أن خلق الله آدم، تحشر في مكان واحد على أرض واحدة، ليس للإنسان إلا أشبار يضع فيها قدميه، زحام يخنق الأنفاس، بل يكاد الخلق أن يهلكوا من حرارة أنفاسهم، ومن هذا الزحام الشديد، ومع ذلك تعلو الشمس الرءوس، وتكاد أن تصهر الجلود! وفي هذا المشهد وفي هذا الموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم والعياذ بالله.
يؤتى بجهنم للناس في أرض المحشر، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله -: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونه).
فإذا أقبلت جهنم، وأحاطت بالخلائق، ورأت الخلق زفرت وزمجرت؛ غضباً منها لغضب الله جل وعلا! فإذا رأت الأمم جهنم في أرض المحشر جثت جميع الأمم على الركب من الذل والخوف والرعب.
قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28].
بل يخرج من جهنم عنق أسود مظلم يتكلم! والحديث رواه الترمذي بسند صحيح قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت اليوم بثلاثة، وكلت بكل جبار عنيد، وبكل من جعل مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) أي: الذين كانوا ينحتون ليضاهوا برسومهم خلق الله جل جلاله.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17] نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد.
في هذا المشهد في الزحام الرهيب، وفي الحر الشديد، وفي هذا التدافع والعري: ينادي الحق جل جلاله وسط هذا الموقف الذي يُشيّب منه الولدان، ومن هول هذا الموقف لا يتكلم أحد إلا الأنبياء ودعوة الأنبياء يومها: اللهم سلم سلم!! تذهل الأم عن رضيعها وينسى الوالد ولده، وينسى الولد والده، وتنسى الأم الرحيمة ولدها، بل وينشغل الابن عن أمه قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37].
فالكل يقول: نفسي نفسي حتى الأنبياء كما سنتعرف على ذلك إن شاء الله تعالى، لا يتكلم إلا الأنبياء ويقولون يومها: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم! مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَ السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور تذكر كل هذه المشاهد: الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس، والشمس تكاد تصهر الرءوس، والكل يتدافع، والسؤال تخافت، والكلام همس، وجلال الحي القيوم غمر النفوس والمكان بالهيبة والجلال.
في هذه اللحظات ينادي الحق جل جلاله على مجموعة من الخلق في أرض المحشر أن يتقدموا، لماذا يا ترى؟! ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(129/10)
في ظل عرشه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! وأخيراً: في ظل عرشه.
في هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب، فوالله إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم ترتعد له الفرائص، فكيف إذا عايناه وعاصرناه وعايشناه؟! في هذا الموقف ينادي الحق جل جلاله على أناس ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، يا ترى من هؤلاء السعداء؟! من هؤلاء السعداء الذين يفوزون فوزاً لا يشعرون بشقاء بعده أبداً؟!(129/11)
أصناف أخرى في ظل الله غير الأصناف السبعة
وأرجو أن نعلم يقيناً أن هؤلاء إن أظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فهناك غيرهم، وليس هؤلاء فقط.
ولقد جمع الحافظ ابن حجر الذين يظلهم الله في ظله من هؤلاء السبعة وغيرهم، في كتاب قيم سماه: (معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) بين أن الله سبحانه يظل غير هؤلاء السبعة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أنظر -أمهل- معسراً أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
فهذا مثال لمن يظلهم الله في ظله غير هؤلاء السبعة.
أيها الحبيب الكريم! احرص على طاعة الله، وعلى هذه الخصال الخيرة؛ ليظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
يقوم بقية الخلق في هذا الموقف قياماً طويلاً، ويشتد الكرب عليهم حتى يتمنى بعضهم أن يحشر إلى النار! ولا يقف في مثل هذا الموقف المهيب الرهيب! فهو يظن أن النار لن تكون أشد عذاباً مما هو فيه من هم وكرب! وهنا يبحث الخلق عمن يشفع لهم إلى الله جل وعلا؛ ليقضي الله تبارك وتعالى بين الخلائق، وينهي هذا الموقف المهيب الرهيب، وهنا يقول كل نبي من الأنبياء: نفسي نفسي.
ويتقدم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود وصاحب الحوض المورود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين، يتقدم الحبيب محمد شافعاً للخلائق في أرض المحشر؛ ليقضي الله جل وعلا بينهم.
ونتوقف عند هذا المشهد الكريم، عند مشهد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف جميعاً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا ولكم بالتوحيد والإيمان، وأن يجعلنا وإياكم من أهل شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم نجنا من أهوال يوم القيامة، اللهم اجعله يوماً يسيراً علينا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم متعنا بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك يا رب العالمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(129/12)
الأصناف التي يظلها الله بظل عرشه
يظلهم الملك في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، لا أشجار ولا أنهار ولا بيوت، لا يستطيع الإنسان أن يأوي إلى أي ظل، والشمس فوق الرءوس، وينادي الحق تبارك وتعالى على هؤلاء السعداء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنهم في حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة فقال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
اللهم اجلنا منهم بمنك وكرمك.
(إمام عادل): حاكم عادل عاش ليقيم العدل في الأرض، سعدت به رعيته، وسعد برعيته، كان يتقي الله في هذه الأمانة، ويعلم يقيناً أن الحكم والمنصب أمانة سيسأل عنها بين يدي الله، كما قال المصطفى لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! إن الولاية أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
(إمام عادل) قضى الليل والنهار في أحوال رعيته؛ ليسعدهم فأسعدهم في الدنيا فسعدت به الرعية، وسعد هو بالرعية.
ووالله إني لأستحي من الله أن أتعرض لمجرد لفظ (إمام عادل) ولا أتحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الفاروق الذي ملأ الدنيا عدلاً، فكان لا ينام الليل ولا النهار إلا النزر اليسير، ويقول: إذا نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإذا نمت بالليل ضيعت نفسي! فكان يتفقد أحوال الرعية، وهو الذي انطلق في يوم شديد الحرارة يجري وراء بعير من إبل الصدقة قد ند وجرى، فخرج عثمان بن عفان ينظر إليه من شرفة بيته، وهو يجري: يا ترى! من هذا الذي خرج في هذا الوقت الشديد الحرارة؟! من هذا الذي يجري على الرمال التي انعكست عليها أشعة الشمس فتكاد الأشعة المنعكسة أن تخطف الأبصار؟! فلما اقترب هذا الذي يجري من عثمان رأى عثمان أن الرجل الذي يجري هو أمير المؤمنين عمر! فقال عثمان: ما الذي أخرجك في هذه الساعة يا أمير المؤمنين؟! لماذا تجري؟! فقال عمر: بعير من إبل الصدقة قد ند يا عثمان وأخشى عليه الضياع، فقال عثمان: فتعال إلى الظل واشرب الماء البارد، وكلف أحد عمالك ليأتي لك بهذا البعير.
فقال عمر: عد إلى ظلك ومائك البارد، وهل ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة؟! إنه الرجل الذي كان يرتجف قلبه أمام كل نعمة، وأمام كل ثوب، وأمام كل لقمة، ويقول لنفسه: ماذا أنت قائل لربك يا عمر؟! يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة قوم شركتهمُ في الجوع حتى تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أومن يحاول للفاروق تشبيهاً يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها كذاك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها إمام عادل: هذا في ظل عرش الله جل وعلا يوم لا ظل إلا ظله.
(وشاب نشأ في عبادة الله): أيها الشباب! والله إن من سمع هذا الموضوع اليوم، ووقف مع بعض أهوال يوم الحشر، وعلم علماً يقينياً لا يتسرب إليه شك أن الله جل وعلا سيظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، نشأ في عبادة الله، وانصرف عن معصية الله، وإن زلت قدمه في معصية تاب إلى الله جل وعلا وأناب؛ لينطبق عليه هذا الوصف: (شاب نشأ في عبادة الله) من علم ذلك من شبابنا أرجو الله عز وجل أن لا يتأخر لحظة عن طاعة الله سبحانه.
أيها الشباب! الطاعة شرف الطاعة عز، فلا عز في الدنيا والآخرة إلا بالطاعة، ولماذا الشاب؟! لأن الشاب تجري دماء الشهوة في عروقه؛ لأن الشاب -لاسيما في سن المراهقة وسن الفتوة- تعصف الشهوة بكيانه عصفاً، ولكنه خوفاً من الله ومراقبة لله يعصم نفسه ويحارب شهواته، ويحارب نفسه الأمارة خوفاً من الله وإجلالاً له وطاعة له، ولذا كافأ الله هذا الشاب الطائع، التقي، النقي، الطاهر الذي نشأ منذ نعومة أظافره يعبد الله، ويطيع الله، ويؤدي الصلاة، ويحفظ حقوق الله، ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ويقيم حدوده، يكافئ الله هذا الشاب فيظله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
أسأل الله أن يمن على شباب الأمة بالهداية، وأن يوفقهم إلى الطاعة، وأن يظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجل قلبه معلق بالمساجد): معنى ذلك: أن قلبه في المسجد، إن صَلَّى الفرض وخرج إلى الدنيا ليسعى على رزقه من الحلال، أو عاد إلى بيته وأولاده، يخرج من المسجد وقلبه مشتاق أن يرجع إلى المسجد مرة أخرى، فهو متعلق بالمسجد يهوى الجلوس في بيت الله، بل يتمنى أن لو ييسر الله له الوقت ليقضي جُل وقته في بيت الله جل وعلا.
فيا أيها المسلم! يا من تقضي الوقت أمام المسلسلات والمباريات والأفلام!! لماذا لا تحرص على أن تقضي هذا الوقت في بيت الله جل وعلا؟! فإن بيت الله سبحانه إن تعلق قلبك به أظلك الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلاَّ ظله.
(ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
إنه الحب لله، (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وإن آصرة الحب في الله هي أغلى آصرة، وإن رابطة الحب في الله هي أغلى رابطة، بل إن أحببت أخاً لك في الله لا من أجل دنيا ولا من أجل منصب ولا من أجل رئاسة، إن أحببت أخاً لك في الله تبارك وتعالى اسمع ما هي النتيجة: يقول الله سبحانه يوم القيامة -والحديث في الصحيحين-: (أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).
وأشهد الله أنني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) جمعهم الحب في الله ولم يتفرقا إلا على الحب في الله.
(ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -أي: للزنا- فقال: إني أخاف الله): تذكر الله جل وعلا، وراقب الله سبحانه، وامتنع عن هذه الكبيرة خوفاً من الله جل وعلا، هذا يظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه): خلى بنفسه، قام من الليل، وجلس يصلي أو يذكر الله سبحانه وتعالى فلما امتلأ قلبه بهيبة الله وبعظمة الله، فاضت عيناه بالدموع خوفاً منه وهيبة له سبحانه.
(عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله).
فهذا الرجل الذي فاضت عينه بالدموع خوفاً من الله وخشية لله، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.(129/13)
حضارة العبيد
إن الناظر إلى الحضارة العالمية اليوم بقيادة الرجل الغربي يرى البون الشاسع والفرق الواضح بين حضارة الإسلام وبين هذه الحضارة المتعفنة، بل لا يجد وجهاً للمقارنة فشتان ما بين الثرى والثريا شتان بين حضارة العبيد وبين حضارة الأحرار الأطهار، فقد اعتمد الغرب الكافر في حضارته اليوم على الجانب المادي، متناسياً ومجانباً للجانب الروحي، ولا قوام لأي حضارة إلا بهذين العنصرين معاً.(130/1)
كلمات لها مغزى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسال الله جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (إنها حضارة العبيد) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع في هذه الأزمة الحرجة التي تمر بها أمتنا من الأهمية بمكان، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: كلمات لها مغزى.
ثانياً: حضارة العبيد.
ثالثاً: حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة.
رابعاً: حضارة الإسلام والأخلاق الفريدة الفذة.
خامساً: حضارة الإسلام والرفق بالحيوان.
وأخيراً: أمانة أطوق بها الأعناق.
أخي! أعرني قلبك وسمعك فإن هذا الموضوع في هذا الظرف الحرج من الأهمية بمكان.
أولاً: كلمات لها مغزى: أستهل بها الحديث عن هذا الموضوع الخطير الهام، وأقول: لا حاضر لأمةٍ تجهل ماضيها، ولا مستقبل لأمة تنسى فضائلها، وإذا كان الوقوف أمام الماضي للبكاء والنحيب عليه هو شغل الفارغين العاطلين التافهين، فإن ازدراء الماضي بكل ما فيه من خير ونور هو شأن الحاقدين والجاهلين!! ومن السفه أن تنطلي علينا الآن خطط الأعداء الذين حاولوا بكل سبيل أن يحولوا بين أجيال الأمة المعاصرة وبين الماضي المشرق المجيد؛ حتى لا تستمد الأجيال من الماضي المجيد المشرق نوراً يضيء لها طريق المستقبل، وشعلة توقد دروب الحياة، ودماء تتدفق في عروق المستقبل والأجيال.
إن كل أمة من أمم الأرض تعتز بماضيها، ولو كان أسود مظلماً كظلام الليل، وتعقد له الاحتفالات، بل وتمنح أبناءها في الوظائف الرسمية العطلات والإجازات لذلك، وإن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز والفخار بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار، هي أمة نبينا المختار، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فَكّرْ جيداً -أيها الحبيب! - في هذه الكلمات؛ لتعلم أنه من الخطر العظيم أن يحال بين ماضينا المشرق وبين مستقبلنا، أسأل الله أن يجعله مستقبلاً زاهراً للإسلام والمسلمين.(130/2)
حضارة العبيد
ثانياً: حضارة العبيد: نعم.
إنها حضارة العبيد، إنها الحضارة الخاوية الروح إنها الحضارة التي يمتطي جوادها الآن الرجل الغربي؛ ليسوم البشرية كلها سوء العذاب، فلقد شهدت البشرية اليوم في ظل حضارة العبيد من الوحشية ما لا يمكن على الإطلاق أن تجسده كلمات قواميس اللغة!! إن البشرية الآن تشهد من صنوف الوحشية والبربرية في ظل حضارة الرجل الغربي الذي تقدم ليقود العالم كله في ظل تأخر أمة القيادة، تشهد البشرية اليوم من صنوف الوحشية والبربرية والهمجية على يد الرجل الغربي ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها في عالم الغابات.
ليست مبالغة، وما عليك إلا أن تنظر إلى الواقع المرير للبشرية المنكودة التي حادت عن منهج ربها ومنهج نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.(130/3)
أمثلة حية تجسد حضارة الإسلام
جاء في الصحيحين: أن امرأة شريفة من بني مخزوم سرقت، فغضبت قريش وحزنت لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقيم عليها الحد ويقطع يدها، فقالوا: لا، لابد أن يشفع أحد عند رسول الله في هذه المرأة الشريفة حتى لا تقطع يدها فبحثوا: عمن يشفع فقالوا: إنه الحب ابن الحب أسامة بن زيد، فانطلق أسامة بقلب رقيق ليشفع لهذه المرأة المخزومية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟! وارتقى النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وهو غاضب وقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
إنه التطبيق العملي للمساواة، وللإنسانية الواحدة! وهذا أبو ذر الغفاري، رجل من غفار أبيض اللون، وهذا بلال الحبشي رجل من الحبشة أسمر اللون، وكلاهما من أصحاب رسول الله الأخيار، حدث بينهما خلاف واحتد الخلاف، فنظر أبو ذر لـ بلال وقال له: يا ابن السوداء! فغضب بلال، وأنطلق إلى سيد الرجال صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قال أبو ذر، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، والتفت إلى أبي ذر رضي الله عنه وقال: (أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية) -والحديث في الصحيحين- فندم أبو ذر وبكى.
انظر إلى هذا الأفق الوضيء، وإلى هذه القمة السامقة التي جسدت هذا الندم حينما وضع أبو ذر خده على الأرض، واستحلف بلالاً رضي الله عنه أن يطأ بنعله على خده الآخر.
إنه الإسلام، إنها الحضارة الإسلامية!! أيها الأحبة: لو استطردت في ذكر هذه الأمثلة لطالت الوقفة جداً، واسمحوا لي أن أُذَكِّر أيضاً بهذا المشهد، وتمنيت أن لو سمعه كل زعماء الغرب الفجرة، إنه عمر، وما أدراكم ما عمر؟! عمر بن الخطاب الذي رأى قافلة تدنو من المدينة في الليل، فقال لـ عبد الرحمن بن عوف: يا عبد الرحمن! هل لك في أجر الليلة؟ قال: ماذا تريد يا أمير المؤمنين؟ فقال: تعال بنا لنحرس هذه القافلة الليلة!! يقول هذا وهو أمير المؤمنين!! فليسمع العالم كله، ولتسمع الحضارة الغربية الكاذبة هذه النّزعة الإنسانية الفريدة!! ويقوم عمر وعبد الرحمن بن عوف يصليان ويحرسان، وفجأة سمع عمر بكاء صبي في القافلة، فدنا عمر من صوت بكاء الصبي، ثم نادى على أم الصبي وقال: اتق الله وأحسني إلى صبيك.
طفل يبكي فيحرك قلب الحاكم طفل يبكي عند أمه وهي أقرب الناس إليه فيتحرك له قلب أمير المؤمنين.
قلب حاكم الدولة يتحرك لبكاء طفل بين أحضان أمه، لا أقول: بين أحضان القنابل والطائرات والدبابات والرشاشات والغابات، بل بين أحضان أمه! فيقترب عمر ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم ينصرف لصلاته، وبعد فترة يسمع بكاء الصبي مرة ثانية، فيدنو عمر من الأم ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك، ثم يرجع إلى صلاته، وفي المرة الثالثة يسمع بكاء الصبي فيرجع إلى المرأة ويقول: اتق الله وأحسني إلى صبيك فإني أراك أم سوء، فقالت: يا عبد الله! لقد أبرمتني منذ الليلة -أي: لقد أزعجتني، وهي لا تعرف من تخاطب- إنني أفطم الولد عن الثدي كرهاً، فقال عمر: ولم تستعجليه؟ فقالت: لأن عمر بن الخطاب لا يبرم عطاءً إلا لمن فطم عن الرضاعة، فبكى عمر، وانخلع قلبه لهذه الكلمة، وعاد يجر ثوبه وهو يبكي.
يقول عبد الرحمن بن عوف: فما سمع أحد منه قراءة -أي: ما عرف الناس قراءته- في صلاة الفجر من شده بكائه فلما فرغ من صلاته قبض على لحيته وبكى وقال: ويل لـ عمر يا بؤساً لـ عمر كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين؟! كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين؟! فلتسمع الدنيا فليسمع قادة الغرب وليسمع قادة المسلمين.
ثم يأمر عمر بن الخطاب المنادي أن يمشي بين الناس ويقول: لا تستعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نبرم العطاء لكل من ولد في الإسلام منذ أول يوم! إنها عظمة الإسلام إنها الإنسانية الفذة! إنها صورة سامقة مهما أوتيت من البلاغة والفصاحة فلن أستطيع أن أجسد لحضراتكم هذه النّزعة الإنسانية التي جاءت بها حضارة الإسلام، والتي أصَّل قواعدها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام، وأكتفي بهذا القدر لأُعَرِّجَ على بقية العناصر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(130/4)
حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة
أخي! حضارة الإسلام والإنسانية الواحدة، هو العنصر الثالث: إنه الإسلام الإسلام الذي جاء فجعل الناس جميعاً سواسية بين يدي الله عز وجل، لا عصبية لراية لا عصبية للون لا عصبية لجنس لا عصبية لوطن، فكلها رايات زائفة في ظل حضارة الإسلام لا أصل لها ولا وجود.
جاء الإسلام ليجعل الناس جميعاً بين يدي الله عز وجل سواء.(130/5)
العدل والمساواة في حضارة الإسلام
منذ اللحظات الأول رفع الإسلام شعار المساواة، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
الله أكبر! منذ اللحظات الأولى والدين الإسلامي يقول: لا فضل لعربي على أعجمي ويؤصل لهذا الأصل العظيم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وفي الحديث الذي رواه أحمد بسند صحيح والبيهقي في سننه من حديث جابر بن عبد الله قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألان إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى).
هذا هو الإسلام الذي يؤصل الإنسانية الواحدة، لا فرق بين لون ولون وجنس وجنس وأرض وأرض إلا بالتقوى والعمل الصالح {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
وفي يوم فتح مكة وقف المصطفى صلى الله عليه وسلم ليؤصل هذا الأصل العظيم، كما في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال: حديث حسن، ورواه الترمذي كذلك من حديث عبد الله بن عمر وقال: حديث حسن غريب، ولفظ حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم فتح مكة وقال: (أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، ألا إن أباكم واحد، وإن آدم من تراب، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، ورجل فاجر شقي هين على الله، وتلا النبي قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]).
لقد جاء الإسلام ليسوي بين بلال الحبشي، وأبي ذر الغفاري، ومعاذ الأنصاري، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وحمزة القرشي، بل لما افتخر بعضهم بأنسابهم قال سلمان: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فلما سمعها عمر بكى رضوان الله عليه، وقام لينشد بيت سلمان وهو يقول: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم أيها الأحبة: لقد رفع الإسلام سلمان فارس ووضع الكفر الشريف أبا لهب، والسؤال الآن -وأعرني قلبك وسمعك لهذا السؤال-: هل ظلت هذه المبادئ الإنسانية التي جاءت بها حضارة الإسلام حبراً على ورق في أدراج حبيسة؟ هل ظلت حبراً على ورق حبست في أدراج كميثاق حقوق الإنسان في هيئة الرمم؟! أقصد: هيئة الأمم؟ هل ظلت هذه المبادئ السامية حبراً على ورق كميثاق حقوق الإنسان في هيئة الأمم؟ هل ظلت هذه المبادئ التي جاءت بها حضارة الإسلام حبيسة في البلد الذي نادى أول مرة بهذه المبادئ في المدينة المنورة كما حبست فرنسا مبادئ الثورة الحرة -كما زعمت- عن مستعمراتها وبلدانها ورعاياها؟ وهل قامت هذه الحضارة الإسلامية لتجسد هذه المبادئ بتماثيل وأصنام كاذبة فارغة كما فعلت أمريكا بتنصيب تمثال للحرية في وسط ميدان فسيح في نيويورك، يصدم الداخل للمدينة أول مرة؟ إن أمريكا نصبت تمثالاً للحرية وسط ميدان فسيح من ميادينها وخرجت أمريكا خارج أرضها لتلعن الحرية ولتسحق الأحرار الشرفاء الأطهار الأبرار!! هل فعلت حضارة الإسلام هذا؟ لا والله.
ما الدليل؟ اقرءوا التاريخ، وشهادة التاريخ أصدق شهادة، ماذا فعل الإسلام ليحول هذه المبادئ إلى منهج حياة وإلى واقع يسمع ويرى في دنيا الناس؟!! ولنستهل الأدلة العملية برائد حضارتنا وأسوتنا وقدوتنا المتجددة على مر الأجيال والقرون، بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حول هذه المبادئ والمواثيق الشريفة التي نادى بها على أرض الواقع إلى منهج حياة، يشرق ويتألق سمواً وروعة وجلالاً.(130/6)
مقومات الحضارة
أيها الأحبة: لابد للحضارة من عنصرين ألا وهما: العنصر المادي، والعنصر الأخلاقي.
ونحن لا ننكر ألبتة ما وصلت إليه الحضارة الغربية في عالم المادة، فليس من الإنصاف ولا من التعقل أن ننكر ذلك، بل إننا نثبت ذلك للحضارة الغربية في عالم المادة، ونقر بأن الرجل الغربي قد انطلق بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وانطلق بعيداً بعيداً في أعماق البحار والمحيطات، وفجَّر الذرة، وصنع القنبلة النووية، وصنَّع القنابل الجرثومية، بل وحوَّل العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات.
لا ننكر ذلك أبداً، ولا نتجاهل هذا، ولكننا على يقين جازم أن الحياة ليست كلها مادة، فلو استطاع طائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد فلن يستطيع أن يواصل طيرانه وتحليقه، وإنما سيسقط حتماً لينكسر جناحه الآخر، وإن طالت مدة طيرانه في هذا الفضاء الفسيح.
الحياة ليست مادة فحسب، بل لابد للجانب الأخلاقي من تواجد فعال في هذه الحضارة، فالحضارة المادية التي وصلت إليها الحضارة الغربية ما استطاعت أن ترتقي بالإنسان -ابن هذه الحضارة- إلى طهارة إنسانيته أو إلى وضاءة آدميته، بل ما استطاعت أن توفر لابن هذه الحضارة سعادة البال، وانشراح الصدر، وطمأنينة النفس، بل يقف علماء النفس والطب في حيرة ودهشة أمام هذه الحالات المتزايدة لعدد المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، وأمام هذه الحالات الهائلة للانتحار الجماعي في مثل هذه البلاد المتحضرة، التي وصل فيها الإنسان إلى ما وصل إليه في جانب المادة كما تعلمون وكما ترون وتسمعون، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:124 - 127].
لقد عجزت الحضارة المادية أن ترتقي بإنسانها -ابن هذه الحضارة الخاوية الروح- إلى السعادة إلى انشراح الصدر إلى راحة الضمير إلى طمأنينة النفس وراحة البال، عجزت؛ لأن الروح لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع للتجارب المعملية في أحد المعامل، فهذه الروح يعجز أي إنسان على هذه الأرض أن يقدم لها المنهج الذي يرقيها ويغذيها، إذ لا يستطيع أن يقدم لهذه الروح منهج صلاحها وفلاحها في الدنيا والآخرة إلا خالق هذه الروح، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(130/7)
فقدان الحضارة الغربية للعنصر الأخلاقي
أيها الأحبة: إن الناظر إلى الحضارة الغربية يجد أنها قد فقدت العنصر الأخلاقي، ومن المعلوم أن سنة الله في تطوير الحياة أن الحضارة اللاحقة حتماً ولابد أن تتفوق على الحضارة السابقة في الجانب المادي، وهذه سنة من سنن الله في تطوير هذه الحياة، فمن العبث أن نطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة في جانب التطوير المادي.
وأضرب لكم مثالاً ليتضح ما أقول: انظر إلى الكتابة في الماضي السحيق، وانظر الآن إلى الكتابة بعد هذا التطور المذهل في آلات الطباعة الحديثة التي تطبع الآن عشرات الآلاف من الكلمات في الدقيقة الواحدة، فما وصل إليه الغربي الآن إنما هو محصلة لأدمغة وعقول عشرات الأجيال، فمن العبث أن نطالب الحضارة السابقة بما وصلت إليه الحضارة اللاحقة في جانب المادة، لكن محال أن ترتقي حضارة على ظهر الأرض أو أن تدوم بالعنصر المادي فقط، بل إن الحضارة لا تسود ولا تبقى إلا بالعنصر الأخلاقي؛ ليحدث التوازن بين العنصر المادي وبين العنصر الأخلاقي.
وارجع البصر مرة ومرة وكرة بعد كرة إلى العنصر الأخلاقي في ظل قيادة الرجل الغربي؛ لتعلم أنها حضارة قد تجردت من الأخلاق، لتعلم أنها حضارة العبيد، يسعد فيها ابن الحضارة الكافرة بأن يجلس لا على كرسي، بل على عظام أخيه الإنسان! يسعد فيها ابن هذه الحضارة لا بشرب كأس من الماء البارد، وإنما بشرب برك دماء لإخوانه هنا وهناك! انظر لتتعرف على حقيقة هذه الحضارة التي تجردت من كل خُلق ومن كل فضيلة! انظر الآن إلى ما يجري على أرض البوسنة، وارجع البصر كرة أخرى إلى ما يجري الآن على أرض الشيشان!! وارجع البصر كرة ثالثة إلى ما يجري الآن على أرض فلسطين!! وارجع البصر كرة رابعة إلى ما يجري الآن على أرض العراق!! وارجع البصر كرة خامسة إلى ما يجرى الآن على أرض كشمير!! وارجع البصر كرة سادسة وسابعة وعاشرة إلى ما يجري الآن في كل مكان وُحِّدَ فيه الملك جل جلاله؛ لترى إلى أي درك دنيء وصلت حضارة الغرب في جانب الأخلاق! لا خلق، لا فضيلة، وإن خرج علينا ابن هذه الحضارة الكافرة بهذه الشعارات الرنانة الجوفاء كحقوق الإنسان، والديمقراطية المشئومة، وحرية المعتقدات، والنظام العالمي والسلام العالمي، إلى آخر هذه الدعاوى الكاذبة التي لم تعد تنطلي الآن إلا على السذج والرعاع.
إن هذه الأفعال البشعة تبين بجلاء لكل ذي لب حضارة الغرب في هذه الأيام، رغماً عن أنف الدجل الإعلامي والعهر السياسي الذي يتغنى به قادة الغرب في قاعات المؤتمرات وفي المجالس والهيئات والمنظمات، يتغنى قادة العالم الغربي بهذه الشعارات والواقع يكذِّب هذا الدجل الإعلامي، ويكذب هذا العهر السياسي.(130/8)
جراجات المسلمين في ظل الحضارة العالمية الجديدة
إخواني في الله: انظروا الآن إلى ما يجري على أرض البوسنة منذ أربع سنوات، لأبين لحضراتكم قيمة هذه الحضارة التي يتغنى بها أولئك وهؤلاء في كل مناسبة.
وبدون مناسبة، منذ أربع سنوات قُتِلَ إلى يومنا هذا على أرض البوسنة بمنتهى الوحشية والبربرية ما يزيد على نصف مليون.
في ظل حضارة الرجل الغربي اغتصاب جماعي منظم للنساء على أرض البوسنة على مرأى ومسمع من ابن الحضارة الغربية التي يتغنى بها في الليل والنهار!! صرخت المسلمة باسم الإنسانية صرخت في الضمير العالمي كله وقالت: أنا أيها الناس مسلمة طوى أحلامها الأوباش والفساق أخذوا صغيري وهو يرفع صوته أمي وفي نظراته إشفاق ولدي وتبلغني بقية صرخة مخنوقة ويقهقه الأفاق ويجرني وغدٌ إلى سردابه قهراً وتظلم حولي الآفاق ويئن في صدري العفاف ويشتكي طهري وتغمض جفنها الأخلاق أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبِيٌٌّ قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق فمدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق لا تيأسي فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق هذا ما يُفعل بالمرأة في ظل الحضارة الغربية!! هذا ما يفعل بالمرأة في ظل النظام العالمي الجديد!! هذا ما يفعل بالمرأة في ظل السلام العالمي الجديد!! هذا ما يفعل بالمرأة على مرأى ومسمع من ابن الحضارة التي يتغنى بحضارته الخاوية الكافرة في الليل والنهار!! حتى الأطفال شهدوا -في ظل حضارة الغربيين- ما لا يمكن لمخلوق على ظهر الأرض أن يجسده، كما ذكرت في خطبة (البوسنة بين الملحمة الصربية والعمرية) أن الأطفال لم يسلموا في ظل حضارة العبيد التي يمتطي جوادها الآن الرجل الغربي اللعين الملعون.
حتى الطفل يستخدم الآن على أرض البوسنة كدرع بشري، بمعنى أن يفخخ الأطفال بالألغام، وينادي الصرب الكفرة الفجرة أنهم قد أفرجوا عن مجموعة كبيرة من أطفال المسلمين، فإذا ما وصل الأطفال إلى قواعد البوسنة المسلمة، وخرج القادة وخرج الأهل لاستقبال أطفالهم وأبنائهم، يقوم الصرب عن طريق أجهزة التحكم من بُعد -التي تعرف بالريموت كنترول- بتفجير الألغام التي وضعوها في هؤلاء الأطفال المساكين، فيقتل الأطفال ويقتل كل من خرج لاستقبالهم! في ظل حضارة الغربي اللعين الفاجر الملعون المرأة لم تسلم الشيخ الكبير لم يسلم الطفل الرضيع والصغير لم يسلم، بل قد كانوا يأتون بالأم وينتزعون ولدها الرضيع من صدرها، بل ووالله قد نشرت وكالات الأنباء بالصور أنهم كانوا يبقرون البطون ويخرجون الأجنة من بطون أمهاتهم! ينتزع الطفل من صدر أمه، وتقيد الأم بالأغلال، ويوضع الطفل على النار ليشوى والأم تنظر، فإذا ما انتهى هؤلاء الفجرة من شَيِّهِ أُجبرت الأم تحت تهديد الرصاص أن تأكل من لحم طفلها المشوي.
في ظل الحضارة الغربية فعل هذا بالأطفال، وقتلوا أربعين ألف طفل، وشردوا مائة ألف طفل إلى مخيمات اللاجئين الكنسية في زغرب في مقدونيا، وفي ألبانيا، وأوروبا كلها.
أخي! فكر الآن في طفلك، فكر في ولدك لتشعر بما أقول.
أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا يباع الطفل المسلم الآن في أوروبا بمائة دولار فقط.
تشهد أوروبا الآن أبشع تجارة رقيق للأطفال في التاريخ كله، بل يستخدم الطفل الآن كفأر تجارب في معامل قلعة الكفر أمريكا وإنجلترا وهولندا في هذه الدول التي تتغنى بالحضارة المكذوبة الكافرة الفاجرة يستخدم الطفل كفأر تجارب! أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا أطفالنا بيعوا وأوروبا التي تشري ففيها راجت الأسواق أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الأمن! بل يا مجلس الرعب يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أو ما يحركك الذي يجرى لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق يعفى عن الصرب الذين تجبروا ويفرد بالعقاب عراق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق إنها ورب الكعبة حضارة العبيد بكل المقاييس!! أين هذه الحضارة التي يفعل الإنسان في ظلها بأخيه الإنسان ما تستحي الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات؟! هل نسيتم ما فعله ابن هذه الحضارة بقنبلته النووية في هيروشيما وناجازاكي؟ هل نسيتم ما يفعله ابن هذه الحضارة في قلعة الكفر أمريكا بالزنوج السود؟! وليست أحداث لوس أنجلوس من أحد ببعيد.
هل نسيتم ما يفعله ابن هذه الحضارة في كل مكان بأخيه الإنسان؟! من أجل ماذا؟ من أجل التطهير العرقي! من أجل ماذا؟! من أجل اللون!! من أجل العقيدة! من أجل الدين!! هذا ما يفعله الإنسان الآن بأخيه الإنسان في ظل قيادة الرجل الغربي!! إنها -يا إخوة! - حضارة العبيد، ولا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذا العنصر فإن الجراح دامية، ولكن تعال معي لنبين لهؤلاء الذين يخشون الإسلام، ويخافونه، بل ويستحي أحدهم أن يعلن أنه مسلم، أو أن يذكر في مؤتمر من المؤتمرات لفظة إسلام أو آية قرآن، أو حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكأن الإسلام ليس إلا دين التطرف والإرهاب، بل إني والله أعجب حينما تحدث مصيبة في أي موقع أو أي مكان فإذا بها تنسب إلى الإسلام والمسلمين والمتطرفين والإرهابيين.
كنت أتوقع يوم أن حدثت أحداث لوس أنجلوس في أمريكا أن يقولوا بأن الذي فجر هذه الأحداث هم الإرهابيون والمتطرفون!! كنت أتوقع يوم أن وقع الزلزال في مصر أن يقولوا بأن الذي أحدث الزلزال هم الإسلاميون والإرهابيون والمتطرفون! وكنت أتوقع إذا حدثت أي مصيبة -ولا زلت- أن تلصق المصيبة والتهمة بالإسلام بالإرهابيين بالمتطرفين!! وإذا أردت أن تتحقق من صدق ذلك -فإني لست مبالغاً ولا مهولاً- ما عليك الليلة إلا أن تجلس أمام مسلسل فاجر من المسلسلات التي يعزف على وترها إعلامنا الوقور الحيي الذي يحارب التطرف والإرهاب لترى السخرية لا بالمتطرف والمتطرفين ولا بالإرهاب والإرهابيين، إنما بسنة سيد النبيين، وأنتم جميعاً تشاهدون وتسمعون وتقرءون!! إنه الواقع المر الأليم!! والله لو علمتم عظمة الإسلام وحقيقته وعدالته؛ لمنحتم الدعاة الصادقين الجوائز والمكافئات لينطلقوا وليعلموا الناس جميعاً في الشرق والغرب -بعد بلاد المسلمين- حقيقة هذا الإسلام.(130/9)
الحضارة الإسلامية والنزعة الأخلاقية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: الحضارة الإسلامية والنّزعة الأخلاقية، وستعجب إذا قلت لك أيها الحبيب: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى عَلَى أرض المعارك وفي ميادين الحروب، مع أن رؤية الدم تثير الدم، ومع أن القتال يثير الحمية في النفوس والانتقام، وبالرغم من ذلك كله أقول: إن الإسلام كان فريداً في أخلاقه حتى في ميادين القتال والحروب الله أكبر.
(يغضب النبي حينما يرى امرأة قد قتلت في الميدان، ويأمر الصحابة ألا يفعلوا ذلك)، ويأمر الصديق جيش أسامة ويقول: لا تقتلوا شيخاً، ولا امرأة، ولا رجلاً تفرغ للعبادة في صومعته، ولا تقطعوا شجرة، ولا تذبحوا بقرة إلا للأكل.
هذه مُثُلُ الإسلام حتى في عالم الحروب والمعارك.
بل ولا يعلم التاريخ أحداً فُعلَ به من الأذى والاضطهاد ما فُعلَ في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوذي في مكة وضع التراب على رأسه وضعت النجاسة على ظهره خنق حتى كادت أنفاسه أن تخرج طرد من بلده حرم من بيته وماله أوذي أصحابه أشد الإيذاء، وبالرغم من ذلك، وبعد أن ترك بلده ووطنه وهاجر إلى المدينة ما تركه المشركون حتى في المدينة، بل جردوا عليه السيوف ورفعوها، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً في يوم فتح مكة، ووقف أهل مكة جميعاً بين يديه، قال لهم صاحب الخلق: (ماذا تظنون أَنِّي فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: أقول لكم ما قاله أَخِي يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92]، اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وللأمانة العلمية أقول: إن هذا الحديث ضعيف.
سبحان الله! حتى في هذه الأوقات الحرجة؟! انظروا إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: (عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف بعد أن رمي بالحجارة وطرد، وفعل به أهل الطائف أبشع ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان، ونزل إليه ملك الجبال وقال له: مرني بما شئت يا رسول الله -فماذا قال صاحب الخلق في هذه الأوقات التي قد يميل القلب فيها إلى التشفي والانتقام، إذ إن الإنسان يشعر بالظلم- فقال: إني لم أبعث لعاناً ولا فحاشاً، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وطبق الصحابة والمسلمون هذه المبادئ أعظم تطبيق شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
انظروا ماذا فعل المسلمون يوم أن امتدت الفتوح الإسلامية إلى بلاد سمرقند في عهد عمر بن عبد العزيز، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي القضاة يخبره بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأنهم دخلوا عليهم عنوة، ولم يفرضوا عليهم جزية، ولم ينذروهم بالقتال، وأرسل قاض القضاة إلى عمر بن عبد العزيز ليخبره بذلك، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أمر قائد الجيوش في سمرقند بالانسحاب فوراً، ولما علم أهل سمرقند أن الجيش قد انسحب بأمر أمير المؤمنين عمر، خرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح المنتصر؛ ليعلنوا جميعاً شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
تاريخ الحروب الإسلامية تاريخ مشرف، فليقرأ الناس التاريخ، وليقفوا جميعاً أمام عبر هذا التاريخ، وأنتم تعلمون ما فعله صلاح الدين بالصليبيين، وتعلمون أنه قدم طبيبه الخاص في أرض المعركة لقائد الحملة الصليبية، لما سمع أنه مريض ولا يوجد من يبذل له الدواء والعلاج، فأرسل له صلاح الدين طبيبه الخاص ليبذل له الدواء والعلاج.
ولما صرخت امرأة نصرانية، ورمت بنفسها على خيمة صلاح الدين في الليل، سألها ما الخبر؟ فأخبرته أن أحد أفراد الجيش قد أخذ ولدها، فأمر صلاح الدين أن يرد الجيش -بأي سبيل- هذا الطفل، ولم يهدأ حتى اطمأن بنفسه أن المرأة قد رد إليها طفلها.
وتعلمون ما فعله محمد الفاتح بالنصارى الصليبيين في كنيسة -آيا صوفيا- حينما فتح القسطنطينية، فعل ما سيقف التاريخ أمامه وقفة إعزاز وإجلال وإكبار.
اقرءوا التاريخ لتعرفوا ما فعله هؤلاء الأطهار الأبرار حتى في المعارك والحروب والميادين.
لقد ضرب الإسلام أروع الأمثال في السماحة حتى في أرض المعارك التي تثير فيها رؤية الدم الدماء، وينتشي القادة الفاتحون بسكرة النصر للتشفي والانتقام، ولكن هذا لم يحدث في ظل حضارة الإسلام التي أصل أصولها وأسس بنيانها محمد عليه الصلاة والسلام.(130/10)
حضارة الإسلام والرفق بالحيوان
وهنا نأتي إلى حضارة الإسلام والرفق بالحيوان، فحتى الحيوان لم يغفل عنه الإسلام، وقبل أن تتغنى أوروبا وأمريكا بجمعيات الرفق بالحيوان أَصل الإسلام أصول الرفق بالحيوان، ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (دخلت امرأة النار في هرة لا هي أطعمتها ولا هي تركتها لتأكل من خشاش الأرض) أي: حبستها حتى ماتت فدخلت النار من أجلها.
وقبل أن تتغنى أوروبا وأمريكا بالرفق بالحيوان، جاء في الصحيح: (أن بغياً -امرأة زانية- من بغايا بني إسرائيل مرت على بئر فشربت منه، ثم مر عليها كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: لقد وقع العطش بهذا الكلب مثل ما وقع بي، فعادت البغي إلى البئر فملأت موقها -أي: خفها- ماء وقدمت إلى الكلب فشرب، فغفر الله لها بذلك غفر الله لها) من أجل كلب.
وأنا أقول: أيها الأحبة: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟!!(130/11)
أمانة أطوق بها الأعناق
وأخيراً أيها الأحبة! فهذه أمانة أطوق بها الأعناق أطوق بها الأعناق، أطوق بها أعناق حكامنا أطوق بها أعناق علمائنا أطوق بها أعناق المسلمين والمسلمات في كل مكان أن يظهر حكامنا هذا الإسلام وحقيقته بعدم محاربته بعدم الصد عن سبيل الله، وأن يعلنوا للعالم كله -إذ إن القضية في أيديهم في المقام الأول- حقيقة الإسلام، وأنا أتألم أشد الألم حينما أرى حكام المسلمين في كل مؤتمر من المؤتمرات، بمناسبة وبدون مناسبة، لا يتكلمون إلا عن التطرف والإرهاب.
إذاً: ستوصمون أنتم أمام الغربيين بذلك، فدعوكم من هذه النغمة الممجوجة، وبينوا للعالم كله حقيقة الإسلام، وعظمة الإسلام، وعدالة الإسلام، ورحمة الإسلام، وإن وقع من بعض المسلمين بعض الأخطاء فلا ينبغي أبداً أن نركز المجاهر المكبرة على هذه الأخطاء؛ لنعلق على هذه الشماعة الظلم السياسي، والظلم الاجتماعي، والاستبداد الأخلاقي، والفساد الطبقي: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22].
سبحان الله! هذه الأفعال تمارس في كل ساعة على خشبة المسرح العالمي، فأين أنتم من التطرف اليهودي في فلسطين؟!! أين أنتم من التطرف الصربي في البوسنة؟!! أين أنتم من التطرف الوثني الشيوعي في الشيشان؟! أين أنتم من التطرف الوثني البقري في كشمير؟!! أين أنتم من التطرف في طاجكستان في الصومال في كل مكان؟! لا ينبغي أن تركز المجاهر المكبرة على بعض الأخطاء التي قد يقع فيها بعض الشباب، وإنما ينبغي أن نفتح صدورنا لهؤلاء الشباب، وأن يفسح المجال للعلماء المخلصين والدعاة الصادقين ليبينوا الحق لهؤلاء الشباب وليأخذوا بأيديهم إلى ما جاء به الإسلام من عظمة وخلق وعدل ورحمة.
هذه أمانة أطوق بها أعناق العلماء: يا علماء الأمة! أنتم مشاعل الهداية، إننا في وقت لا وقت فيه ولا مجال فيه للنفاق ولا للتملق ولا للمداهنة، ولو دامت الكراسي لأحد ما وصلت إليكم.
إن الكراسي زائلة، وإن المناصب فانية، وإن أعظم خدمة الآن تقدمونها لدين الله أن تصدقوا الحكام النصيحة، وأن تبذلوا النصيحة الصادقة بأدب.
نعم بأدب، فنحن لا نخرج عن قواعد الأدب، بل بأدب وبإجلال وبتواضع واحترام، فلا ينبغي أن تجترنا عنتريتنا على المنابر أو هنا أو هناك لنسفه هذا أو ذاك، لا أبداً، إنما أقول: نبذل النصيحة -أيها العلماء- لهؤلاء الحكام بأدب وإخلاص وبصدق، فإن الوقت لا مجال فيه ألبتة للتملق ولا للمداراة ولا للمداهنة.
وأنتم أيها المسلمون! اشهدوا لهذا الإسلام بسلوككم بأخلاقكم بأعمالكم كفانا خطباً، إن الإسلام لن نعيده للأرض بالخطب الرنانة، ولا بالمواعظ المؤثرة، إنما أنت أيها المسلم، وأنت أيتها المسلمة، حولوا الإسلام إلى الواقع، انقلوا الإسلام من المساجد إلى كل مناهج ومناخ الحياة، فلير العالم كله كيف أن المسلمين قد ارتقوا بإسلامهم، إذ إن العالم يحكم الآن على الإسلام من خلال واقعكم أنتم أيها المسلمون، فليشهد الطبيب لإسلامه، وليشهد المهندس لإسلامه، وليشهد العالم لإسلامه، وليشهد الموظف لإسلامه، وليشهد المدرس لإسلامه، ولتشهد المرأة لإسلامها، لابد أن نحول الإسلام في حياتنا كلها إلى منهج حياة وإلى واقع يتحرك في دنيا الناس.
اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد بين صفوفنا! اللهم إنا نسألك النصرة والعزة والتمكين لإخواننا اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم انصر المجاهدين في كل مكان اللهم شتت شمل الصرب يا قوي يا متين! اللهم سلط الكروات على الصرب، وسلط الصرب على الكروات، وأخرج أهل البوسنة والمسلمين من بينهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين وإجرام المنافقين المجرمين.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عن الأمة يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! ويا دائم المعروف! يا غياث المستغيثين! ويا مفرج الكرب عن المكروبين! ويا كاشف الهم عن المهمومين! فرج الكرب عن أمة سيد النبيين.
اللهم فرج كرب أمة سيد النبيين اللهم فرج كرب أمة سيد النبيين، وردها إلى الحق رداً جميلاً يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء! اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو لحن أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(130/12)
أسير في قيد دروس وعبر
الرفق والإحسان إلى الخلق له تأثير عجيب في الدعوة إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لأن المقصود بالدعوة رحمة الناس والإشفاق عليهم، وقد تجلى ذلك صريحاً في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فبرفقه ورحمته دخل الناس في دين الله أفواجاً، والوقائع التي تشهد لذلك يصعب حصرها، ومن تلك الوقائع قصة إسلام ثمامة بن أثال رضي الله عنه.(131/1)
الدروس والعبر المستفادة من قصة أسر ثمامة بن أثال
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً.
وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (أسير فى القيد دروس وعبر) هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يُحوِّلانِ البغض إلى حب.
ثانياً: سيرة حافلة بالدروس والعبر.
ثالثاً: عودة واجبة.
فأعيرونى القلوب والأسماع.
والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(131/2)
عظيم أثر الرفق والإحسان في الدعوة إلى الله
أولاً: الرفق والإحسان إلى الناس يحولان البغض إلى حب.
أحبتي في الله! روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد -أي: أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية عسكرية استطلاعية ناحية نجد -وكانت هذه السرية بقيادة محمد بن مسلمة - فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط هذا الرجل في سارية من سواري المسجد -أي: عمود من أعمدة المسجد- وهم لا يعرفونه، وثمامة قيل من أقيال العرب، وسيد من أسياد العرب، وشريف من أشرافهم، أسروه وهو في طريقه إلى العمرة، ولكن كان على الشرك بالله جل وعلا، وأدخلوه إلى المسجد، وربطوه في عمود من أعمدة المسجد النبوي، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم رآه فعرفه، وفى رواية ابن هشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تعرفون هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة) وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يحسنوا إليه.
وفي رواية الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليه فقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! قال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دام، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعد الغد خرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا نريد شيئاً.
فأطلقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النبوي فاغتسل، وعاد إلى المسجد، ورفع صوته وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على الأرض دين أبغض إليّ من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إليَّ، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة فبماذا تأمرني؟ فبشره النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.
قال الحافظ ابن حجر: بشره بخيري الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة، أو بشره بتكفير سيئاته؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله.
فلما دخل مكة قال له قائل: أصبأت يا ثمامة؟! أي: هل تركت دين آبائك وأجدادك وتبعت محمداً على دينه؟! فقال: لا، ولكني أسلمتُ مع محمد رسول الله، ثم التفت إليهم وقال: والله! لا تأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ -أي حبة قمح- حتى يأذن فيها رسول الله! وفي رواية ابن هشام: أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية، فكان أول من لبى وجهر بالتلبية في مكة، فلما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا: من هذا الذي يجترئ علينا ويرفع صوته بالتلبية في بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التي يُعَلِمُهَا محمدٌ لأصحابه؟! فانقضوا عليه، وأرادوا أن يضربوا رأسه، فقال أحدهم: ألا تعرفون من هذا؟! إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وأنتم تحتاجون إلى اليمامة في طعامكم، فخلوا سبيل الرجل، فالتفت ثمامة إليهم وقال: والله! لا تأتيكم حبة حنطة من اليمامة إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفي هذا قال بعض بني حنيفة: ومنا الذي لبى بمكة معلناً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم أيها الأحبة الكرام! إنه مشهد بالغ الروعة، وأنا اعترف بداية أنني أعجز عن أن أصور روعته وعظمته وجلاله، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه، لا للموحدين فحسب بل للمشركين وللعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (رسول الله رحمة للبار والفاجر، فمن آمن به تمت له النعمة، وتمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]).
وتدبر هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد لقيت من قومك ما لقيت يا عائشة! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) وهو شريف من أشراف أهل الطائف، ولكنه رفض دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وسلط الصبيان والسفهاء على الحبيب، فرموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الطاهر، (فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) وهو مكان يبعد عن الطائف بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات، (فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك، ولقد أرسل الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم يا رسول الله! فناداني ملك الجبال فسلم عليّ وقال: يا رسول الله! لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت.
فقال المصطفى: لا، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً)، وفي رواية مسلم لما قيل له: ادع على المشركين.
قال: المصطفى صلى الله عليه وسلم (إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة).
أيها المسلمون! تدبروا كيف حَوَّل الرفق والإحسان البُغض المتأصل في قلب ثمامة إلى حب جياش فياض!!.
ثمامة بن أثال دبر لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة خرج إلى مكة ليعتمر قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك! فأبى الله جل وعلا إلا أن يلبي تلبية الموحدين، فسبحان من بيده القلوب يحولها كيف يشاء! قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
ثمامة أُسر ورُبط في المسجد، وقد ترجم عليه البخاري باباً يُجوّز فيه أن يدخل المشرك إلى المسجد، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يظل ثمامة فى المسجد النبوي؛ ليرى ثمامة بعينيه، وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين ليرى النبي بنفسه، وليسمع كلام النبي، وليرى أخلاقه، فلما رأى ثمامة رفق النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانه وأخلاقه؛ تحول البغض في قلبه إلى حب فياض، فهو الذي قال: (والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي!).
أيها المسلمون! لابد من أن نعي هذا الدرس، ونعلم أن العنف يهدم ولا يبني، والشدة تفسد ولا تصلح، وأن الرفق والإحسان إلى الناس هو الذي يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فياضة، فما أحوجنا إلى أن نعي هذا الدرس! قد يأتي شاب شرح الله صدره للالتزام فيعفي اللحية، ويقصر الثوب، ويحافظ على مجالس العلم، ولا زال أبوه بعيداً عن طريق الله، ولا زالت أمه بعيدة عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجعل هذا الشاب من البيت حريقاً محرقاً مدمراً، يسيء إلى والده، يسيء إلى أمه، ويسفه أباه، ويحتقر أمه، ويضرب إخوانه، يسيء إلى أخواته! فيظن أهل البيت أن الالتزام نار مشتعلة، وأن الالتزام سوء أخلاق وأدب، وأن الالتزام غصب مستمر! فنقول: يا أخي! أنت أسأت إلى الإسلام من حيث لا تدري، وأسأت إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من حيث لا تشعر، ففرقوا أيها الشباب! وأيها المسلمون! بين مقام الجهاد الذي يحتاج إلى الغلظة والقسوة والشدة، وبين مقام الدعوة الذي يحتاج إلى اللين والحكمة والرحمة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
بل وخاطب الله نبيين كريمين هما: موسى وهارون، وأمرهما أن يقولا لفرعون الذي طغى وبغى قولاً ليناً، فقال سبحانه: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44] قرأ سيدنا قتادة رحمه الله هذه الآية فبكي، وقال: سبحانك ما أحلمك! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً! فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، فكيف يكون حلمك بعبد قال: سبحان ربي الأعلى؟! ثمامة تأصلَّ البغض في قلبه، ونحن نعلم أن البغض للإسلام الآن متأصل في قلوب كثيرة في الشرق والغرب والداخل.
وأرجو أن نعي الدروس التي أود أن أسوقها سوقاً كريماً من خلال هذا الحدث الرائع لرسول الله مع ثمامة، تأصل البغض في قلب ثمامة للنبي، ولدين النبي، ولبلد النبي، ثم تحول هذا البغض بالرفق والإحسان والحكمة والرحمة واللين إلى حب، هذه هي متط(131/3)
سيرة حافلة بالدروس والعبر
دروس غالية يجب أن نقف أمامها طويلاً، فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالدروس، وهذا هو عنصرنا الثاني: سيرة حافلة بالدروس والعبر، لكننا بكل أسف أصبحنا نتعامل -إلا من رحم الله- مع سيرة النبي لمجرد الثقافة الذهنية، أو لمجرد الاستمتاع والدراسة النظرية، وكأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت وفقط!! فوالله ما أرسل الله نبيه! وما جعل الله حياة نبيه وسيرته وسنته ماضياً فحسب، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة، ودماءً تتدفق في عروق مستقبلنا وأهلنا.
سيرة النبي سيرة حافلة، وهذه السيرة ليست للدراسة النظرية، بل لنحولها في حياتنا إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي يتألق سمواً وروعة وجلالاً على قدر سمو وروعة وجلال سيرة الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلنتعلم هذا الرفق، وهذه الرحمة، وهذه الأخلاق، وصدق ربي إذ يقول: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35] وصدق المصطفى إذ يقول -كما في الصحيحين-: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) فتعلموا هذا يا شباب! وفي لفظ مسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) وفي صحيح مسلم من حديث عائشة (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه).(131/4)
قصة إسلام زيد بن سعنة حبر اليهود
وأختم هذه الدروس بدرس جميل آخر رواه الطبراني من حديث عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن حبر اليهود زيد بن سعنة قال: والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه النبي حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، قال: فانطلقت يوماً فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقبل عليه رجل يركب راحلته وهو يقول: يا رسول الله! إن قومي من قرية كذا أو من بني فلان في قرية كذا كانوا قد دخلوا الإسلام، وكنت وعدتهم أنهم إن دخلوا الإسلام أن يأتيهم الرزق رغداً، وقد أصابتهم اليوم شدة، فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعاً، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء من المال؛ لتغيثهم به فعلت، وجزاك الله خيراً.
فالتفت النبي إلى علي بن أبى طالب الذي كان معه وكأنه يريد أن يسأل: هل عندنا من المال من شي؟ فالتفت علي إلى النبي وقال: (والله ما معنا من المال شيء)، يقول زيد بن سعنة: فأقبلت على محمد صلى الله عليه وسلم وقلت: يا محمد! هل تبيعني تمراً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم؟ أراد أن يعطيه مالاً إلى أجل معلوم فقال النبي: (صلى الله عليه وسلم نعم، لكن لا تسمى حائط بني فلان) فقال زيد بن سعنة: قبلت، قال: فأعطيت النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين مثقالاً من ذهب، فدفعها كلها إلى الرجل وقال: (أغث بهذا المال قومك) ومن المعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فانطلق الرجل بالمال كله، يقول زيد: وقبل أن يحل وقت السداد رأيت محمداً في نفر من أصحابه، يجلس إلى جوار جدار، بعد أن صلى على جنازة رجل من الأنصار، فأقبلت عليه، وأخذته من مجامع ثوبه، وقلت له: أد ما عليك من دَيْنٍ يا محمد! فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا مُطْلاً في سداد الديون! فانتفض عمر والتفت إلى هذا الحبر اليهودي -وهو لا يعرفه- وقال: (يا عدو الله! تقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى، والله لولا أنني أحذر غضبه صلى الله عليه وسلم لضربت رأسك بسيفي هذا!! وزيد بن سعنة يراقب وجه النبي صلى الله عليه وسلم وكلماته، ويريد أن يسمع ماذا سيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف الرهيب العصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر وقال: (لا يا عمر! لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب! ثم قال: يا عمر! خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته) يقول زيد: فأخذني عمر فأعطاني حقي، وزادني عشرين صاعاً من التمر.
فقلت له: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك.
فقال زيد بن سعنة: ألا تعرفني يا عمر؟! قال: لا، قال: أنا زيد بن سعنة قال عمر: حبر اليهود؟! قال: نعم.
قال عمر: فما الذي حملك على أن تفعل برسول الله ما فعلت؟ قال زيد: يا عمر! والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شده الجهل عليه إلا حلماً؛ أما وقد عرفتهما اليوم فإني أشهدك أني قد رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً! وعاد حبر اليهود مع عمر بن الخطاب إلى المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وشهد مع رسول الله بعد ذلك كل المشاهد والغزوات، وتوفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر، رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المسلمون! أيها الأحبة الكرام! ألم أقل: إن الإحسان إلى الناس يحول البغض في القلوب إلى حب؟! فليت الأمة تعي هذا الدرس بحكامها، وعلمائها، ورجالها، وشبابها، ونسائها.
وليت الأمة تعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحول هذه السيرة العطرة والأخلاق الزاكية في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة فوالله ما تعلقت القلوب برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لهذه الأخلاق السامية.(131/5)
شهادة الأعداء بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كرم النبيَّ أعداؤه قبل أصحابه وأصدقائه.
وشهد الأعداء لرسول الله -على الأقل بينهم وبين أنفسهم- بالصدق، والنبل، والرجولة، والأخلاق، والحق ما شهدت به الأعداء.
فهذا عروة بن مسعود الذي ذهب ليفاوض النبي في الحديبية لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ورأى أخلاقه ورأى حب الصحابة له عاد إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي فوالله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظّمون محمداً! لقد تعلقت قلوب أصحابه به لنبله وخلقه، بل إن الأعداء صدقوه وإن كانوا كذبوه كبراً وعناداً، كما قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] قال عروة: والله ما تنخم محمد نخامة إلا ووقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده! ووالله ما توضأ إلا وكادوا يقتتلون على وضوئه! وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم وإذا أمرهم ابتدروا أمره، ولا يحدون الطرف إليه تعظيماً له وإجلالا!! إن الأمة الآن تتعامل مع هذه السيرة تعاملاً نظرياً ذهنياً، وتستمتع بالسيرة استمتاعاً سالباً!! ووالله ما كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ماضية، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة لنا، ويجب أن تكون سيرته دماءً تتدفق في عروق مستقبلنا وأجيالنا؛ لنحول هذه السيرة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(131/6)
حسن التصرف وحسن المعاملة يستميلان القلوب
وتدبروا! أيضاً هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد من حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح حنيناً قسم الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم، وزاد لهم في العطاء، ولم يعط الأنصار شيئاً من الغنيمة، فغضب الأنصار الأطهار الأبرار وقالوا: يغفر الله لرسول الله؛ يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا لا زالت تقطر من دمائهم؟! وفي رواية ابن إسحاق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن بعض الأنصار قال: والله! لقد لقي رسول الله قومه -أي: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه من قريش- فأعطاهم ونسينا، فلما سمع ذلك سعد بن عبادة انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قاله الأنصار، فقال النبي المختار: (اجمع لي الأنصار يا سعد! فإن اجتمعوا فأعلمني) فانطلق سعد بن عبادة فجمع الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا عن آخرهم أعلم النبي وأخبره، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: (يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟! فسكت الأنصار.
فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟! فقالوا: ماذا نقول؟ وبماذا نجيبك يا رسول الله؟! المن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: والله! لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاًٍ فواسيناك، وخائفاً فأمناك، ومخذولاً فنصرناك، فقال الأنصار: المن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالتفت المصطفى إليهم وقال بلغة الإحسان والرفق والرحمة والحنان: يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! -يا لها من غنيمة- وجدتم عليَّ في أنفسكم في لعاعة -أي: في أمر تافه- من الدنيا تألفت بها قلوب قوم أسلموا حديثا، ووكلتكم إلى إيمانكم بالله ورسوله؟! يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! ثم التفت إليهم مرة أخرى وقال: يا معشر الأنصار! والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، ثم رفع يديه وقال: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فبكى الأنصار حتى اخضلت لحاهم من البكاء أمام هذا الإحسان والرفق وحسن التصرف والمعاملة.(131/7)
أثر رفق النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه
ٍوتدبروا هذا الدرس الذي رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجلٌ من القوم -أي: في الصلاة- فقلت له: يرحمك الله، أي: وهو في الصلاة؛ لأنه لا يعلم الحكم.
يقول معاوية رضي الله عنه: (فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إليّ، فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكتّ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس).
ومن حديث أبي هريرة وأنس يقول أنس: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فدخل المسجد فبال في المسجد، فقال أصحاب النبي: مه مه -يعني: ماذا تصنع- تبول في مسجد النبي؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تزرموه، دعوه) أي: لا تقطعوا عليه بوله.
فتصور يا أخي! وتذكر هذه الكلمات النبوية الغالية: (لا تزرموه) فأنهى الرجل بوله مطمئناً، ثم نادى عليه نهر الرحمة وينبوع الحنان ومعلم الحكمة، نادى عليه بأبي هو وأمي وقال له: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما جلعت لذكر الله عز وجل وللصلاة ولقراءة القرآن) وفي رواية ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله: أن هذا الأعرابي أصبح فقيهاً بعد هذه الكلمات فقال: بأبي هو وأمي قام إلي، فلم يؤنب، ولم يسب، ولم يضرب.
ثم تأثر هذا الأعرابي بأخلاق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يدعو للنبي في الصلاة، كما في رواية البخاري في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة أنه قام يدعو للنبي ويقول: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً) أي: ضيقت ما وسع الله جل وعلا، فالله سبحانه يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
ولكنها انفعالة تلقائية طبيعية بهذه الأخلاق السامقة، بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.(131/8)
وجوب العودة والرجوع إلى الله واتباع نبيه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أيها الأحبة الكرام! قد يكون من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية والأخلاق، ولكن هذا المنهج النظري سيظل حبراً على ورق ما لم يتحول في حياة الناس إلى واقع عملي ومنهج حياة، بل قد لا يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتألق في دنيا الناس سمواً وروعةً وجلالاً، ولقد نجح النبي صلى الله عليه وسلم في أن يجعل من الأعراب ومن العرب المنبوذين في أرض الجزيرة، الذين لا ذكر لهم ولا كرامة قبل الإسلام، استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من هؤلاء الحفاة العراة جيلاً قرآنياً فريداً، لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً على الإطلاق؛ وذلك يوم أن نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في أن يطبع آلاف النسخ من المنهج التربوي الإسلامي، ولكن المصطفى لم يطبع هذه النسخ بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور، فحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج النظري في التربية والأخلاق إلى واقع عملي يتألق عظمة في دنيا الناس، فرأت البشرية كلها نبلهم وصدقهم، ورأت منهج الله يمشي على قدمين في دنيا الناس، كما قالت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً في دنيا الناس، وكذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يمتثلون أمر الله ورسوله، ويجتنبون نهي الله ورسوله، ويقفون عند حدود الله جل وعلا التي يعلمهم إياها رسوله صلى الله عليه وسلم.
ووالله! لن نكون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً إلا إذا عدنا فسرنا على طريقه ودربه صلى الله عليه وسلم، وعلى كل نفس تدعي الإيمان بالله ورسوله، وتدعي الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن تنظر أين هي من حقيقة الإيمان وحقيقة المحبة وصدق الاتباع؟ فالعودة إلى الله ورسوله ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، وإنما هي عودة واجبة، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، إما إيمان باتباع المصطفى والسير على طريقه، وإما كفر بالانحراف عن منهج الله، وعن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقال تعالى في حق المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52] وقال في حق المنافقين الذين يسمعون ويعرضون يسمعون وينحرفون يسمعون ويهزءون ويسخرون قال الله في حقهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
إذا: المؤمن هو الذي يسمع ويطيع للنبي صلى الله عليه وسلم فمن أطاع النبي فقد أطاع الله، ومن عصى النبي فقد عصى الله، فسيرة النبي ليست من أجل الثقافة، ولا من أجل والمجادلات، وإنما من أجل أن تحوّلها الأمة في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة.
فلابد من العودة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيما في هذه الأيام، فوالله! لن تعود الأمة إلى مكانتها إلا إذا عادت إلى المنهج الذي رفعها من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، ألا وهو منهج رب العالمين، ومنهج سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
هل تعلم أن مجرد رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل؟! وهل تعلم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كادا أن يقعا في الهلاك لمجرد أنهما رفعا أصواتهما فوق صوت النبي؟! فـ أبو بكر وعمر العظيمان في هذه الأمة - بعد نبيها- تعرضا للهلاك، والحديث في صحيح البخاري عن أبن أبي مليكة وفيه: (كاد الخيران أن يهلكا).
فـ أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما أقبل وفد بني تميم على الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَمِّرْ عليهم القعقاع بن معبد يا رسول الله! قال عمر: لا، بل أمر عليهم الأقرع بن حابس يا رسول الله! فقال أبو بكر لـ عمر: ما أردت إلا خلافي يا عمر! وقال عمر: ما أردت خلافك يا أبا بكر! فهذه هي الكلمات بنصها فقط، وهذا هو الحوار الذي دار، فأسألكم بالله ما الذي جرى؟! وما الذي وقع؟! أبو بكر يقول: أَمِّرْ القعقاع بن معبد، وعمر يقول: أمر الأقرع بن حابس، فيرد الصديق: ما أردت إلا خلافي يا عمر! ويرد عمر: ما أردت خلافك يا أبا بكر! فما الذي حدث؟!
الجواب
لا شيء، إلا أن الصوت قد علا عند النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فنزل القرآن يحذر من ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
أيها المسلمون! إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي يحبط العمل، فكيف بتنحية شرع النبي؟! واتهام شريعته بالقصور، والجمود، والرجعية، والتخلف؟! وزعم عدم قدرتها على مسايرة مدنية القرن العشرين أو مدنية القرن الحادي والعشرين؟! إن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لا تعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأينا الأمة تحتفل بميلاد رسول الله، وبذكرى الإسراء والمعراج! فالأمة تحسن الاحتفالات الفارغة الجوفاء! ولا تحسن أن تعود عوداً حميداً جاداً على أرض الواقع إلى منهج هذا النبي العظيم؛ لتحول شريعته إلى واقع، فالأمة الآن تحكم القوانين التي وضعها مهازيل البشر! وقد نحت -في الوقت الذي تحتفل فيه بمولد رسول الله- شريعة سيد البشر، فهل هذا حب؟! وهل هذا صدق في المحبة؟ قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وقال الشاعر: من يدعى حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهةٌ وهراءُ فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء(131/9)
قصة فيها درس
وأختم بهذه القصة اللطيفة التي طالما ذكرت بها؛ لأبين أين نحن من المحبة الصادقة؟! فلقد جاء تلميذ إلى أستاذه وقال: يا أستاذي! علمت أنك ترى رسول الله في رؤياك.
قال: وماذا تريد يا بني؟ قال: علمني كيف أراه؛ لأنني في شوق لرؤياه؟ فقال أستاذه: أنت مدعو لتناول العشاء معي في بيتي في هذه الليلة؛ لأعلمك بعد ذلك كيف ترى حبيبك رسول الله، فذهب التلميذ إلى أستاذه، ووضع الأستاذ العشاء بين يدي تلميذه، وأكثر فيه الملح، ومنع عنه الماء! فطلب التلميذ الماء مراراً، فأبى عليه أستاذه، بل وأصر عليه أن يزيد في الطعام! ثم قال له: نم، وإن استيقظنا قبل الفجر -إن شاء الله- فسأعلمك كيف ترى النبي في رؤياك، فنام التلميذ يتلوى من شدة العطش! ويتألم من الظمأ! فلما استيقظا قال له أستاذه: أي بني! قبل أن أعلمك كيف ترى النبي أسألك: هل رأيت الليلة شيئاً في النوم؟ قال: نعم.
قال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت الأمطار تمطر، والأنهار تجري، والبحار تسير!! لأنه نام وهو يتلوى من شدة العطش فرأى الماء في كل رؤياه! فقال أستاذه: نعم، يا بني! صدقت نيتك فصدقت رؤيتك، ولو صدقت محبتك لرأيت رسول الله!(131/10)
لا يرفع ما حل بالأمة إلا بالرجوع إلى منهج الله عز وجل
ما أيسر الادعاء! وما أسهل الزعم! وما أرخص الكلام! لكن أين نحن من الاتباع الحقيقي؟! وأين نحن من العودة الصادقة إلى سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله إن المصائب التي حلت بالأمة ليس لها من دون الله كاشفة، إلا إذا عادت الأمة مرة أخرى إلى منهج الرب العلي، وإلى سيرة وحياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحول هذه السيرة العطرة، إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة.
أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً.
اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الحق رداً جميلاً.
اللهم ارزقنا الرفق في الأمر كله، اللهم ارزقنا الرفق في الأمر كله، اللهم رزقنا الحكمة في الأمور كلها.
اللهم املأ قلوبنا رحمة، اللهم املأ قلوبنا حكمة، اللهم املأ قلوبنا حلماً، اللهم املأ قلوبنا حلماً.
اللهم خلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى، اللهم خلقنا بأخلاق الحبيب المصطفى.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين.
اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أونسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقي به في جنهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(131/11)
رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء
لقد امتدح الله سبحانه وتعالى الصبر وأهله، فجعل الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، وما ذاك إلا لأن الصبر جواد لا يكبو وحصن لا يهدم، به يكون كمال التسليم والاستسلام للمولى جل وعز، ولقد ذكر الله لنا في كتابه العزيز نماذج من الصابرين، فذكر ابتلاءه سبحانه لعبده ونبيه أيوب عليه السلام؛ ليكون في ذلك قدوة يقتدي به عباد الله.(132/1)
فضل الصابرين
الحمد لله، والصلاة والسلام على سول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه: أحبتي في الله: هذه (رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء) وهذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم -تحت هذا العنوان- في العناصر التالية: أولاً: صبر أيوب.
ثانياً: قصة مثيرة لامرأةٍ صابرة بالمنصورة.
ثالثاً: رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء.
وأخيراً: رسالة إلى أهل العافية من البلاء.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
أولاً: صبر أيوب.
أحبتي في الله! إن الله جل وعلا قد جعل الصبر جواداً لا يكبو، وجنداً لا يُهزم، وحصناً لا يُهدم، وبين أن الصابرين في معيته، ويالها من كرامة، فقال جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
وبَيَّنَ فضل الصابرين فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
بل وجعل الله الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، فقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
بل وبين الله سبحانه كرامة الصابرين في الجنة، بدخول الملائكة للسلام عليهم وتهنئتهم، فقال جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، وبين جل وعلا في الجملة أن أجر الصبر لا حدود له ولا منتهى، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].(132/2)
قصة المرأة الصابرة
ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة، وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي، ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال.
امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء.
هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية جُدَيدة الهالة بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بالآم حادة في بطنها، فَتُنْقَل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها انسداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة ما شعرت المرأة بتحسن.
وبعد ستة أشهر قرر الأطباء مرة أخرى جراحة ثانية لاستئصال جزء آخر من الأمعاء!! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة لاستئصال جزء جديد من الأمعاء!! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور، ألا وهو مرض (الدرن) المعروف عالمياً بـ ( T.
B)، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا!! صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر، باطنية مستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدره.
لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ويلهج لسانها بالثناء والشكر لله جل وعلا.
ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كلِيتها اليمنى، ففشلت الكِلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً.
انظر إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء، ومع كل مرحلة إذا ما عَلمِت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله الحمد لله جَبَلٌ من جِبَال الصبر منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي!! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا.
انظر إلى هذه المفاجأة العجيبة الغريبة، ففي عام (85) قبل موسم الحج سمعت محاضراً في شريط يتحدث عن الحج، فقررت أن تحج بيت الله الحرام، وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله، فابتسم، وقال: كيف ذلك؟ قالت: لقد عَزمْتُ وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة له!! قررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات.
وهنا لما قررت السفر، وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، تقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة لا تعيش إلا بهذه الخراطيم.
أستغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين!! الخرطوم الأول ينزع ما وظيفته؟ كان لتوصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش على هذه المحاليل الغذائية عبر هذه الخراطيم!! الخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة.
الخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل.
الخرطوم الرابع: لإخراج الرايل من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف.
ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع خرطوم واحد منها، فنزعت الخراطيم والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحُملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحمِلت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء (كن) فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات وعن طريق الأدوية! قضت هذه الفترة بفضل رب الأرض والسماوات جل وعلا وهى تبكي طوال الرحلة، وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة حتى رأت بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وعادت من حج بيت الله مرة أخرى إلى سريرها، ونامت على فراشها في سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة الذين هم معي الآن في هذا المسجد، ذهبت إليها لأذكرها بالله، والله يا إخوة! لقد ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي، واحتقرت جهدي، واحتقرت عملي لله جل وعلا.
امرأة عجيبة لا يفتر لسانها من ذكر الله والثناء والحمد لله جل وعلا، وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين، وقبل الموت بأربعة أيام طلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا في هذا المسجد، ودخلت عليها، وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي وتقول: أين أنت؟ فاعتذرت لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله الحمد لله.
وأنا أعجب لكونها تحمد الله على هذه الحالة.
نظرت إلى غرفتها -فوجدتها قد قسمت الغرفة إلى قسمين: جعلت النصف الأول مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جوارها صندوقاً لجمع التبرعات، لمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء! وإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين.
تدعو إلى الله وهى في هذه الحالة إنها والله الحياة.
فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بِنَعمِه، وهي التي سلب منها كل شيء ولا تغفل عن الدعوة إلى الله جلَ وعلاَ! تدعو إلى الله بالأشرطة تدعو إلى الله بالصدقة تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء والطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، لقد استثمرت حياتها كلها لطاعة الله جل وعلا، ولسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر.
ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً فردت عليَّ وقالت: والله -يا شيخ- أنا خائفة على صبري طيلة هذه السنوات، ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة.
قلت: أبشري، لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بُعِثَ عليه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك؟! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير؟! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفاني؟! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله؟! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله التي أنعم الله بها عليك لمرضاته جل في علاه؟!(132/3)
معنى الصبر وأقسامه
ما هو الصبر؟ الصبر لغة: المنع والحبس.
والصبر شرعاً: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور: أي: صبر على الطاعة.
وصبر عن المحظور: أي: صبر عن المعصية.
وصبر على المقدور: أي: على ما قدره الله عليك من المصائب والمحن والبلايا.
والصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل، لا حرجاً من أن يقول الناس: جزع، ولا أملاً في أن يقول الناس صَبر، وإنما يبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً في الله، مطمئناً بقضاء الله وقدره، مستعلياً على الألم، مترفعاً على الشكوى.
والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله، أعاذنا الله وإياكم منها.
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر -أيها الأخيار الكرام- فلقد مدح الله نبيه أيوب عليه السلام، وأثبت له الصبر في قرآنه، فقال حكاية عنه، وقد رفع أيوب شكواه إلى مولاه {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41].
وأثنى الله على عبده أيوب عليه السلام فقال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله، كما قال الله جل في علاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر.
أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق.
فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم(132/4)
صبر نبي الله أيوب عليه السلام
أيها الأحبة! إذا ذكر الصبر ذُكِرَ نبي الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة السلام، فلقد ابتلى الله أيوب في ماله وولده وبدنه، ففقد المال كله، ومات جميع أبنائه جملة واحدة، وابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش، فصبر وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عنه سبحانه! لم يسلم من بدنه شيء إلا قلبه ولسانه، أما قلبه فقد امتلأ بالحب لله والرضا عنه سبحانه، وأما لسانه فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة.
ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت).
فالذاكر لله حي، وإن ماتت فيه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت، وإن تحرك بين الأحياء.
لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان فلم يفتر عن ذكر مولاه، واسمع ما قاله لزوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله علي أن أصبر له سبعين سنة وأنا مريض، ففزعت زوجته.
واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله أيوب في البلاء، وأصح ما ورد في هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين وقال الإمام الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه، كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام: والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله) إلى آخر الحديث.
قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب ذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء الحنون الذي سجله الله في قرآنه، فقال جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
انظر إلى
الجواب
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84].
ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا.
إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الملك القدير جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه، ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42].
أمر الله أيوب عليه السلام أن يشرب، فشرب أيوب من الماء، فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل فشفاه من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].
أيها المُبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا أيها المبتلى! لا كاشف للبلوى إلا الله سبحانه وتعالى.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا قل للمريض نجا وعُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاكا قل للبصير وكان يحذر حفرةً فهوىَ بها من ذا الذي أهواكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى من بين دم وفرث من ذا الذي صفاكا؟! قل إن الأمر كله لله أإله مع الله؟ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب! أما تشبع؟ فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يارب، ومن يشبع من رحمتك يارب).
وهكذا نجّى الله أيوب، ورفع الله عنه البلاء بعد هذه السنوات العجاف بالصبر الصادق.
وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر مَنْ لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال في اقتحام الخطوب والأهوال، الذين انساقوا وراء الاسرائيليات التي شُحنت بها قصة أيوب في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض في أن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود، وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى، وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة اشمأز الناس منها، وانصرف الناس عنه، وهذا كله كذب عريض، وحقير وخطير، تنكره العقول السليمة، والطباع الكريمة التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله من مثل هذا، فاعلم -أيها المسلم- أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بهذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش، وأقعده في الأرض.
وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر؟ وأين الصابرون؟ أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:42 - 43].(132/5)
رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء
ومن ثم فهأنذا أوجه رسالة إلى أصحاب الأسرة البيضاء، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء.
أيها المسلمون المبتلون الصابرون! اصبروا وأبشروا: أبشروا فإن أجركم على الصبر والبلاء لا يعلم حقيقته إلا رب الأرض والسماء، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقد وعدك الله أيها المبتلى الصابر بأن يرحمك ويهديك، فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] وانظر إلى الجزاء: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، إن فضل الله جل وعلا عليك عظيم.
أيها المبتلى الصابر! يا من حبسك المرض على السرير الأبيض، يا من حبسك البلاء في أيِّ موطن من أرض الله جل وعلا -أياً كان هذا البلاء- اصبر وأبشر.
اصبروا وأبشروا، واعلموا أن الحياة الحقيقية هى حياة القلوب، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي ألا يغفل لسانكم عن ذكر علام الغيوب وإن حُبست تلكم الأعضاء والأبدان، وأبشروا بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب الرومي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عجباً لأمر المُؤمن إن أمرهُ كُلهُ له خير، وليس ذلك إلا للمُؤمن: إن أصابتهُ سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابتهُ ضراء صبر فكان خيراً له).
أيها المبتلون الصابرون! أبشروا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري وغيره، فقال في الحديث: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
وقد ابتلي المصطفى صلى الله عليه وسلم بالحمى، وانتفض جسد الحبيب من شدة حرارتها، ودخل عليه ابن مسعود -والحديث في الصحيحين- وقال له: إني أراك توعك وعكاً شديداً يا رسول الله! فقال المصطفى: (أجل، إني لأوعك كما يُوعَكُ الرجلان منكم، فقال ابن مسعود: ذلك بأن لك أجرين يا رسول الله؟ قال: أجل، فما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من سيئاته).
قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وفي الحديث: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً زيد في البلاء، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه)، فالبلاء رحمة إن صبرت عليه، يكفر الله عز وجل به عنك الخطايا.
وأذكركم يا أصحاب الأسرة البيضاء! بهذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر وقع به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي).
وأختم هذه الرسالة -أيها المسلمون الصابرون- بهذه الكلمات الدقيقة لـ شداد بن أوس رضي الله عنه إذ يقول: (أيها الناس! لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يظلم أحداً، فإذا أنزل بك خيراً تحبه فاحمد الله على العافية، وإذا أنزل بك شيئاً تكرهه فاصبر واحتسب، واعلم أن الله جل وعلا عنده حسن الثواب).
أسأل الله جل وعلا لهذه المرأة المسلمة أن يغفر لها وأن يتقبلها عنده في الشهداء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن من مات من المسلمين ببطنه فهو شهيد عند الله جل وعلا، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهداء فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال المصطفى: والله إن شهداء أمتي إذاً لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات في بطن فهو شهيد).
وفي حديث صحيح: (ومن مات في غرق فهو شهيد)، وفي حديث صحيح: (ومن ماتت بجمع -أي أن تموت المرأة وهي تضع ولدها أو وولدها في بطنها- فهي شهيدة)، هذا فضل الله جل وعلا، فنسأل الله أن يتقبلها عندها في الشهداء، وأسأل الله لجميع إخواننا وأخواتنا من أصحاب الأسرة البيضاء ممن ابتلاهم الله عز وجل بالأمراض والبلاء أن يجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا أرحم الراحمين، اللهم أبدلهم لحماً خيراً من لحمهم، ودماً خيراً من دمهم، وأنزل عليهم رحمة عاجلة من عندك يا أرحم الراحمين.
وأخيراً أختم هذا اللقاء برسالة إلى أهل العافية من البلاء، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(132/6)
رسالة إلى أهل العافية من البلاء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! كان من الواجب أن أختم هذا اللقاء برسالة أوجهها إلى أهل العافية من البلاء، أذكر نفسي وإياكم جميعاً وأقول: اسجدوا لله شكراً على العافية بعد الإسلام، فإن الصحة تاجٌ يتلألأ على رءوس الأصحاء، لا يراه ولا يعرف قدره إلا المرضى.
يا منْ مَنَّ الله عليك بالعافية بعد الإسلام! اسجد لربك شكراً على هذه النعمة، واعلم بأن نعم الله عليك لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
يا من تستغل العافية من الله ونعمة الله عليك في معصيته! أما تستحي؟! أما تستحي يا من تتجرأ على معصية الله بنعمة الله؟! يا من استخدمت بصرك في تتبع العورات والحرام أما تستحي؟! تذكر من فقد بصره.
يا من استخدمت سمعك في سماع الحرام! أما تستحي؟! تذكر من فقد سمعه.
يا من استخدمت يدك في البطش والظلم! أما تستحي؟! تذكر من فقد يده.
يا من استخدمت قدمك في السعي لمعصية الله! أما تستحي؟! تذكر من ألزمه المرض الفراش.
يا من استخدمت منصبك وكرسيك الذي جلست عليه لظلم العباد وللتسفيه والتحقير لخلق الله! أما تستحي؟! تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين ضعيف، ولولا أن الله عز وجل قد أطلق لك البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك ومنصبك، وجاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين، تحمل البصاق في فمك، والمخاط في أنفك، والعرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل والنجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] يا من غرك جاهك! اعلم أن الله عز وجل قادر على أن يسلبه منك، واعلم أن كرسيك إلى زوال، وأن منصبك إلى فناء، إذ لو دام الكرسي الذي جلست عليه لأحد ما وصل إليك، فاعلم بأن الدنيا كلها إلى زوال، وبأن المناصب كلها إلى فناء.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخو الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه للسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وصدق الله إذ يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
تذكروا هذا يا أهل العافية! فهناك من الناس من يظن أن الرزق هو المال، وينسى نعمة العافية، ونعمة الصحة، ونعمة الإسلام قبل ذلك.
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن ولله در القائل: دع الحرص على الدنيا وبالعيش فلا تطمع ولا تجمع من الحرام فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع(132/7)
أركان الشكر
أيها الأحبة! والشكر يدور على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بالنعمة ظاهراً، واستغلال النعمة في طاعة الله جل وعلا.
فالحمد يكون باللسان والجنان، أما الشكر فإنه يكون باللسان والجوارح والأركان.
قال الرحيم الرحمن: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال المصطفى: أفلا أكون عبداً شكوراً).
فالشكر يدور على اللسان والجنان -أي: القلب- والجوارح والأركان، فإن من الله عليك بالعافية فاشكر الله عليها، والشكر لا يكون إلا باستغلالها في كل ما يرضيه.
إن منَّ الله عليك بالأولاد فاشكر الله على هذه النعمة، ولا يكون الشكر إلا بتربية الأولاد على كتاب الله وسنة الحبيب رسول الله.
إن من الله عليك بالزوجة فاشكر الله على هذه النعمة، واتق الله فيها وربها على كتاب الله وعلى سنة رسول الله.
إن منَّ الله عليك بمنصب أو كرسي فاشكر الله على هذه النعمة، وسخر الكرسي لتفريج هموم الناس وكرباتهم.
إن منَّ الله عليك بالأموال فاشكر الله على هذه النعمة، واعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالبذل والعطاء والإنفاق.
وهكذا إن من الله عليك بالعلم، فاعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالتعليم والتحرك هنا وهناك للدعوة إلى الله جل وعلا.
إذاً: الشكر يدور على اللسان والجنان والأركان، فاشكروا الله يا أهل العافية! واسألوا الله أن يثبتها ويديمها عليكم، وأن يعيننا وإياكم على شكرها، وأن يعيننا وإياكم على استغلالها فيما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
يا أهل العافية! لا تبخلوا على إخوانكم المرضى بالزيارة والدعاء، فحق المرضى علينا الزيارة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس).
واسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: يارب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد مرض عبدي فلان، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، فيقول العبد: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد استطعمك عبدي فلان، أما علمت بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول الله جل وعلا: لقد استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي).
فمن حق المرضى علينا -نحن أهل العافية- أن نزورهم، وأن ندخل عليهم السعادة والبسمة والسرور، وأن نبث فيهم الأمل، وأن نكثر لهم من الدعاء.
وأخيراً أقول: أيها الأحبة الكرام! جددوا التوبة والأوبة، وتذكروا أن الحياة والدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أقبلوا على الله، وعودوا إلى الله -أيها الشباب- يا من استغللتم نعمة العافية في معصية الله.
أيها الرجال! أيها الشيبان! أيتها المسلمات! فلنعد جميعاً إلى الله سبحانه! فنحن على ثقة من رحمة الله، ونحن على يقين بكرم الله وعفوه، قال جل في علاه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].(132/8)
الأزمة السكانية والحلول الغائبة
قد ينزوي الحق في فترة من الفترات كأنه منهزم، وقد ينتفخ الباطل وينتفش كأنه غالب، إلا أن الحقيقة الكبيرة التي يقررها الله: أن الحق غالب ظاهر، وأن الباطل زاهق زائل.
وما الأزمة السكانية التي يتغنى بها الغرب اليوم إلا أزمة مفتعلة ينطوي تحتها حقد دفين على العالم الإسلامي، وخوف شديد من زوال سيادتهم في السنوات القادمة كما قرره خبراء الغرب.
وقد عقد الغرب المؤتمرات تلو المؤتمرات لإيجاد حل لهذه المشكلة، إلا أن الجمل تمخض فأولد فأراً، فإذا بها حلولاً تنطوي على عداء سافر، وغيظ شديد على العالم الثالث وأما من خالجه خوف من تزايد العدد السكاني، فإن هناك حلولاً تبدد هذا الخوف، وتبعث فيه الطمأنينة.(133/1)
الصراع بين الحق والباطل
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطاب ممشاكم وتبوأتم منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! الأزمة السكانية والحلول الغائبة: هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء في هذه الأيام بالذات من الأهمية بمكان، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية: أولاً: صراع بين الحق والباطل.
ثانياً: أزمة مفتعلة وحقد دفين.
ثالثاً: حلول مقترحة.
وأخيراً: الحلول الغائبة.
فانتبهوا معي جيداً أيها المسلمون الكرام! وأسال الله جل وعلا -بداية- أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أولاً: الصراع بين الحق والباطل.
أيها الأحبة الكرام! إن الصراع بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر بين الفضيلة والرذيلة بين الخير والشر صراع دائم مستمر لا تهدأ معاركه، ولا تخبو جذوته، وقد ينزوي الحقُ في فترة من الفترات كأنه منهزم، وقد ينتفخُ الباطلُ وينتفش في تلك الفترة كأنه غالب، ولكن المؤمنين الصادقين لا يخالجهم الشك أبداً في أنه مهما انتفخ الباطل وانتفش، ومهما بدا للعيان أن الحق ضعيف، لا يخالجهم الشك أبداً في هذه الحقيقة الكبيرة التي يقررها الله جل وعلا بذاته، ويؤكدها بصيغة التوكيد، ألا وهى أن الحق غالب ظاهر، وأن الباطل زاهق زائل.
يقول الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ويقول الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
أقول: تلك حقيقة وسنة ثابتة قامت عليها السموات والأرض وقام عليها أمر المعتقدات والدعوات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
أيها الحبيب الكريم! أقدم لموضوعنا اليوم عن الأزمة السكانية والحلول الغائبة التي كثر حولها الجدل في أروقة المؤتمرات والقاعات والمجالس طيلة الأيام الماضية، أقدم لهذه الأزمة -على حد تعبيرهم- بهذه المقدمة الموجزة؛ لأننا نشهدُ الآن مرحلةً من أخطر مراحل الصراع بين الحق والباطل، انتفخ في هذه المرحلة الباطلُ وانتفش، بل وعصفت رياح القنوط واليأس بكثير من قلوب شباب الأمة المخلص المتحمس ويتولى كبر هذه المرحلة من مراحل الصراع العالم الغربي الذي تقدم الآن لقيادة البشرية على حين غفلة من أمة القيادة والحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل الله الرسل.
يتولى كبر هذه المرحلة العالم الغربي الآن، فلقد شهدنا في هذه الأيام القليلة الماضية هذه الضجة الإعلامية، وهذه الأزمة المفتعلة والتي يسمونها بالأزمة السكانية أو الانفجار السكاني.
فانتبه معي أيها الحبيب! لتتعرف على حقيقة هذه الأزمة، وعلى حقيقة هذا الحقد الدفين الذي شاء الله عز وجل أن يظهره لكل غافل، وقد غط طيلة السنوات الماضية في السبات والرقاد.
إنها أزمة مفتعلة وحقد دفين!(133/2)
أزمة مفتعلة وحقد دفين
لقد أثار الغرب في الأيام الماضية ضجة إعلامية كبيرة عما يسمونه بالأزمة السكانية أو الانفجار السكاني، إذ تشير وثيقة المؤتمر الدولي للسكان والتنمية أنه بحلول عام (2050) يشير الإسقاطُ المنخفض للأمم المتحدة تعداداً سكانياً عالمياً يبلغ (7.
8) بليون نسمة، ويشير الإسقاطُ العالي لخبراء الإسكان في الأمم المتحدة تعداداً سكانياً عالمياً يبلغ (12.
5) بليون نسمة، وهذا على حد قولهم! يقولون: وهذه كارثة بكل المقاييس، إذ من المستحيل أن تفي الأرض باحتياجات هذه الأفواه الجائعة! يقولون هذا، وقد نسي هذا الإنسان المتبجحُ المغرور أنه لن يستطيع مؤتمر للسكان على ظهر الأرض أن يحدد السكان على ظهر الأرض إلا بالقدر الذي يريد رازق السكان جل جلاله.
ونسي الإنسان المغرور أن من يأتي غداً إلى الحياة إنما سيأتي إلى هذه الحياة بأمر الله لا بأمر الهندسة الوراثية التي عبدها الغرب اليوم في الأرض من دون الله جل وعلا.
أما هؤلاء المتبجحون الذين جلسوا على الكراسي ليشرعوا وليقترحوا الحلول العاجلة لتلك الأزمة السكانية، -واضحك معي بملء فمك، فقد جلسوا ليناقشوا ويجادلوا فيمن يأتي إلى الحياة غداً ومن لا يأتي، ومن يُخلق ومن لا يخلق، وهم أنفسهم لا يملكون أن يكونوا بين الأحياء أو الأموات، فالكل راحل رغم أنفه وإن طالت به الحياة! {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] جل جلاله! ولابد أن نعلم -أيها الأحبة الكرام- وأن تستقر هذه الحقائق في قلب كل مسلم أن الغرب ما تحرك في هذه الأيام الماضية لحل هذه الأزمة المفتعلة والتي يسمونها بالأزمة السكانية من أجل سواد عيون الدول النامية، أو حرصاً على شعوبها، أو خوفاً على مطعام أهلها، كلا، فإن الغرب لا يزعجه مطلقاً أن تعيش هذه الأفواه أو أن تموت، بل إنه هو الذي يبيدها كل يوم بهذه الأسلحة الفتاكة المدمرة التي أعدت لتبيد البشرية جمعاء.
أيها الأحباب! لا يتورع الغرب كل يوم عن أن يبيد العشرات -أو إن شئت فقل: المئات- بأسلحة الدمار التي اخترعها، بل وبحرمان الدول النامية -التي جاء الغرب اليوم ليتغنى بأنه ما جاء إلا لتنمية مواردها الاقتصادية- من هذا الفائض الكبير في موارده الإنتاجية، ويتعمد أن يلقي بهذا الفائض من تلك الموارد في البحر وهو يرى بعينه الآلاف المؤلفة من أبناء هذه الدول يموتون جوعاً ولا يقدم لهم شيئاً؛ لأنه لا يريد لأهل هذه البلاد الإسلامية أن ترفع رءوسها خفاقة عالية، بل تظل دول العالم الثالث -على حد تعبير الغربيين- قصعة مستباحة لهؤلاء المجرمين والموتورين.
لابد أن نعلم يقيناً وأن تستقر هذه الحقائق في قلوبنا: أن الغرب الكافر ما تحرك اليوم لحل المشكلة السكانية في دول العالم الثالث -على حد تعبيرهم- إلا خوفاً على مصالحه، وخوفاً من أن يهتز ميزان القوى العالمية، وأن تتحول السيادة بعد ذلك إلى الشرق المسلم، وهذا الكلام لا أقوله تضميداً للجراح، ولا تسكيناً للآلام، ولا من باب الأحلام الوردية، كلا، ولكنها دراساتهم وأبحاثهم التي تأصل هذه الحقائق التي يغفل عنها المسلمون وحكامهم.(133/3)
أهداف الأزمة السكانية المفتعلة
أيها الأحبة! إن هذه الخلفية العلمية التاريخية التي سأذكرها لكم الآن هي التي تبين خطورة هذه الهجمة الشرسة على العالم الإسلامي؛ لشل نسله ولإيقاف نموه: منذ عدة سنوات وخبراء السياسة والاجتماع يحذرون بشدة من مصير نفوذ أوروبا وأمريكا على مستوى العالم إذا ما استمرت معدلات النمو السكاني -على ما هي عليه الآن- دون ضبط أو تعديل، إذ تشير الدراسات لخبراء السكان في الأمم المتحدة -التي تعبد اليوم في الأرض من دون الله عز وجل- ويقرر خبراؤها أنه بعد انتهاء القرن الحادي والعشرين سيكون في مقابل كل فرد أوربي أو أمريكي ثمانية عشر فرداً من أبناء العالم الثالث وهذه كارثة بكل المقاييس.
هذا على حد تعبير مسئول كبير في مركز الأبحاث السكانية الدولية في باريس.
فرد واحد أوربي أو أمريكي سيقابله ثمانية عشر فرداً من أبناء العالم الثالث -أي: من أبناء الدول الإسلامية- وهذا على حد تعبيرهم كارثة بكل المقاييس.
ويؤكد هذه الحقيقة أيضاً المفكر الألماني الشهير باول شمتز إذ يقول: تشير ظاهرة النمو السكاني في أقطار الشرق الإسلامي إلى احتمال وقوع هزة في ميزان القوى في العالم كله.
يقول هذا المفكر الألماني: فإن ما لدى الشعوب الإسلامية من خصوبة بشرية تفوق ما لدى الشعوب الأوربية من هذه الخصوبة البشرية، وهذا الكم الهائل في الإنتاج البشري يهيئ الشرق إلى أن ينقل السلطة من الأوربيين إلى الشرق المسلم في مدة لا تتجاوز بضعة عقود.
ويؤكد هذه الحقيقة أيضاً: المفوض السابق لشئون اللاجئين بالأمم المتحدة، إذ يقول: إن الزيادة السكانية المضطردة في دول العالم الثالث في الدول الإفريقية بصفة خاصة تشكل تهديداً أمنياً لجميع الدول الأوروبية بصور مباشرة.
ويؤكد هذه الحقيقة أيضاً: مركز الدراسات الإستراتيجية في وزارة الدفاع الأمريكية، فلقد أجرى هذا المركز سلسلة من الدراسات طيلة السنوات الماضية، وانتهت هذه الدراسات إلى هذه الحقيقة المزعجة المرعبة لهم، إذ تقول هذه الدراسات: إن الزيادة المضطردة في النمو السكاني لدول العالم الثالث يهدد بصورة مرعبة المصالح الإستراتيجية الأمريكية بصورة مباشرة.
ثم تقول الدراسة: فيجب على الولايات المتحدة أن تبذل الآن جهوداً كثيرة لوقف النمو السكاني للعالم الثالث بقدر ما تبذله الولايات المتحدة من جهود في إنتاج الأسلحة الجديدة المتطورة.
هل انتبهت أيها المسلم؟! هل رأيت ما ذكرت لك؟! هذه حقائق يقررها هؤلاء أنفسهم!! إن النمو السكاني يهدد بصورة مباشرة مصالح الغربيين، وهذه أبحاثهم وتلك دراساتهم، ومن ثم فهم لا يهدأ لهم بال ولا يقر لهم الآن قرار، ويبذلون كل المحاولات لوقف هذا النمو السكاني في بلاد العالم الإسلامي لا من أجل سواد عيون هذه البلاد، ولا من أجل التنمية لموارد هذه البلاد -فهذه أضحوكة ضحكوا بها على كثير من المسلمين- ولا لمصلحة شعوبنا، ولا حرصاً على عافيتنا -لا ورب الكعبة! - بل ما جاءوا إلا خوفاً من اهتزاز ميزان القوى العالمية لصالح البلدان الإسلامية التي تتمتع الآن بخصوبة بشرية كبيرة.
ومن ثم -أيها الأحبة الكرام- جاءت هذه الحملة الإعلامية تحت هذا الغطاء الذي يسمونه بـ (الأمم المتحدة) في هذا المؤتمر وقرر فيه المعونات الكبيرة لتحديد النسل بصورة خاصة في البلاد التي تشكو من كثرة عدد النسل، بل وحتى في البلاد التي تشكو من قلة النسل كسوريا، والعراق، والأردن، ولبنان، والسودان، ولم ينس الغرب هذه البلاد من هذه المعونات لوقف النسل وللحد من النمو السكاني، مع أن هذه الدول تشكو أصلاً من قلة عدد السكان، ومن ثم فهم لا يتورعون الآن من سن أي تشريع وأي قانون يصلون من خلاله لوقف هذا الزحف الهائل للنمو السكاني في بلاد العالم الثالث على حد تعبيرهم.
وهذه الخلفية التي ذكرت لابد منها؛ لكي نفهم مراد هذه الصولة وهذا الإعلام الذي يشن من خلاله الآن تلك الحملة على النمو السكاني في بلاد العالم الإسلامي.(133/4)
الحلول المقترحة من المؤتمرات الغربية لحل الأزمة
أيها الأحبة! ومن ثم جاءت الحلول المقترحة -وهي تضحك وتبكي في آن واحد، وهي: أولاً: خرج علينا جراح كبير في لندن يقترح حلاً جذرياً لمشكلة الانفجار السكاني، إذ يقول هذا العبقري الفذ: إنني أقترح حلاً لمشكلة الانفجار السكاني وهو تخليق فيروس عن طريق الهندسة الوراثية يصيب الرجال والنساء بالعقم جميعاً! ثم يقول هذا العبقري: وحتى نهتدي لتخليق هذا الفيروس يجب أن نعلن أنه لا يجوز لأحد أن ينجب إلا بتصريح رسمي من وزارة الصحة، وإذا تعدى واحد من الناس وأنجب بدون صك غفران من وزارة الصحة، يجب أن يعاقب وأن يحرم من التأمين الصحي، وأن تفرض عليه غرامة كبيرة.
يقول: فإن تجاوز هذه العقوبات وأنجب بعد ذلك يجب أن يسجن وأن يعامل معاملة الشخصيات الخطرة!! ويخرج علينا عبقري آخر من جامعة (استانفورد) بأمريكا، يقول: إنني أقترح لحل المشكلة السكانية، أن يخلط القمح الذي يصدر إلى دول العالم الثالث بالعقاقير الطبية التي تمنع الحمل.
وكأن هذه البلاد في نظر هذا الوقح وأمثاله مزرعة للدواجن أو حظيرة لفئران التجارب سبحان الله العظيم!.
واقترح بعض المؤتمرين -إلا أن البعض الآخر قد اعترض على هذا الاقتراح- لحل المشكلة السكانية: الإجهاض، وممن اعترض أبناء الوفود الإسلامية التي شاركت في مثل هذا المؤتمر؛ لأنها قضية محسومة في شريعتنا وفي ديننا، ولست الآن بصدد بيان الحكم الشرعي في تلك المسألة الخطيرة.
لكنه الإنسان في غلوائه ضلت بصيرته فجن جنونا ويحي لمنتحر كأن بنفسه من نفسه حقد الحقود دفينا اعتد أسلحة الدمار فما رعت طفلاً ولا امرأة ولا مسكينا واليوم مد يديه للأرحام تو تلعان منها مضغة وجنينا قد صيغ من نور وطين فانبرى للنور يطفئه ولبى الطينا ما أضيع الإنسان مهما قد رقى سبل العلوم إذا أضاع الدينا {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].
واقترح المؤتمر اقتراحاً رابعاً وهو: تأخير سن الزواج، ولابد أن نعلم بداهة أن هذا الاقتراح إنما يفتح المجال بمصراعيه للبدائل الأخرى من الجنس الآخر، وليس هذا تعسفاً مني، وإنما قد صرحت الوثيقة للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية بهذا، وهي عندي لمن أراد أن يطالعها، فقد قالت الوثيقة في الفصل الخامس في الصفحة رقم (30): ينبغي على الحكومات أن تتخذ الإجراءات الفعالة للقضاء على جميع أشكال الإكراه والتمييز في السياسات والممارسات التي تتعلق بالزواج أو بأشكال الاقتران الأخرى.
اهـ والزواج معروف والحمد لله، لكن أشكال الاقتران الأخرى هي: زواجُ الرجل بالرجل، وزواج المرأة بالمرأة، وهذا يقطع النسل من أقصر طريق، ويؤدي إلى عدم التكاثر الجنسي.
هذه بعض المقترحات التي اقترحها المقترحون لوقف نمو سكان العالم الإسلامي، ونسي هؤلاء الذين شاء الله أن يفضحهم على رءوس الأشهاد في الدنيا قبل الآخرة إن لم يتوبوا ويعودوا إلى منهج الله عز وجل، وأن يتعرف العالم على سفاهة عقول القلة المترفة التي تحكم وتقود العالم بأسره الآن، -نسي هؤلاء بعمد مفضوح أن المنجم الحقيقي للتنمية هو الإنسان، وليست المشكلة في الكثافة السكانية، ولا في قلة الموارد، كذبوا ورب الكعبة! إننا نرى الآن دولاً تسقط ثمارها الناضجة من غير فعل الإنسان على الأرض، ولا تجد من يأكلها! ففي بلاد السودان أكثر من سبعين مليون فداناً صالحاً للزراعة -سبحان الله! - ولا تجد هذه الأرض من يزرعها، بل ولا من يأكل ثمارها في العراق في سوريا في الأردن في لبنان ليست المشكلة في قلة الموارد وليست المشكلة في الكثافة السكانية، ولكن المشكلة في حكام متسلطين، وفي سياسات ديمقراطية مدمرة، وفيروس قاتل يدمر الموارد، ويبدد الطاقات فيما لا جدوى من ورائه ولا طائل منه.
إنه التكاسل عن استثمار هذه الموارد واستغلالها! إنه الروتين القاتل! إنه غلق أبواب الإبداع والابتكار أمام هذه الطاقات الإنسانية الهائلة.
ليست الكثافة السكانية هي المشكلة، بل إن أرض الله عز وجل واسعة، أمدها الله عز وجل بالخيرات، ولكنه تقاعس الإنسان، بل وإن شئت فقل: ظلم الإنسان، فها نحن نرى فائضاً في الموارد عند بعض الدول الغنية المترفة، ترمي به في البحر في كل عام، ولا تمد يد المعونة والمساعدة للدول الإسلامية التي جاء الغرب اليوم ليتغنى بأنه ما جاء إلا حرصاً على عافية شعوبها وتنمية مواردها.
وأمامنا بعض الأمثلة تستحق الدراسة بعناية فائقة: اليابان -مثلاً- كدولة من الدول، يزيد عددُ سكانها عن مائة وعشرين مليوناً، ومع هذا فإن عدد السكان يعيشون على مساحة تقل عن مساحة أرض مصر، وبالرغم من هذا نرى فائضاً في الإنتاج، بل نرى فائضاً يفوق الفائض الأمريكي، بل وأصبحت أمريكا الآن تلوح بالتهديد المباشر -كما في الأيام والأشهر الماضية- لليابان إذا لم تفتح أسواقها أمام المنتجات الأمريكية.
اليابان لا تملك البترول، ولا تملك الحديد، ولا تملك الفحم، ومع هذا فهي من أغنى دول العالم اليوم؛ لأنها تملك أغلى كنز ألا وهو الإنسان.
استغلت هذا الإنسان استغلالاً علمياً مركزاً منظماً، فوصل الإنسان الياباني إلى ما نراه الآن، حتى أنه من آخر ما وصلوا إليه أنهم صنعوا مصعداً -الأصنصير- بالصوت -يستجيب بالصوت- دون أن تضغط على زر كهربائي أو غيره، فإذا ما جلست فيه تستطيع أن ترسل إشارة صوتية إلى هذا المصعد فينزل إليك في الحال.
قالوا: وإذا كان هناك من هو أعلى ينادي ومن هو أسفل ينادي واضطربت الأصوات فحينئذٍ يبرمج هذا المصعد بأن لا ينزل إلا على من نادى عليه أولاً! سبحان ربي العظيم! إنه الإنسان الذي خلقه الله جل جلاله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14] إنه الإنسان! ومثل هذه التجربة تقال أيضاً عن هونج كونج سنغافورة كوريا عن هذه النمور الأسيوية التي بدأت الآن في الانطلاق.
إذاً يا سادة! المشكلة لا تتمثل في كثافة السكان كما ادعى هؤلاء، ولا تتمثل في قلة الموارد التي وهب الله الأرض بها، وإنما تتمثل في سوء التوزيع وسوء الاستغلال في هذه الموارد، وعلى سبيل المثال: ففي مصرنا يعيش أكثر من (97.
7) من مجموع السكان في شريط ضيق في وادي الدلتا والنيل ويحتشدون فيه احتشاداً رهيباً، وبقية المساحة التي تصل إلى مليون كيلو متر مربع، والتي يغلب عليها الطابع الصحراوي، إذ تمثل الصحراء من مجموع المساحة الكلية (96%)، وبالرغم من هذا لا يسكن هذه المساحة بأكملها إلا (671) ألف نسمة! والملايين المملينة الأخرى تحتشد إحتشاداً رهيباً في وادي الدلتا والنيل.
إنه سوء توزيع وسوء استثمار، ومع هذا فإن هذه المشكلة لا تستلفت الأنظار ولا الانتباه، بقدر ما توجهت الاهتمامات لمشروع الحد من النسل أو تنظيم النسل.
أيها الأحبة الكرام! القضية لا تتمثل في كثافة السكان ولا في قلة الموارد، ومن ثم نعرض سريعاً في العنصر الأخير من عناصر هذا اللقاء الحلول المقترحة ينبغي أن تسمع من الإسلاميين، وأسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال.(133/5)
الحلول الغائبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! سامحوني على هذه الإطالة المتعمدة بمثل هذه المعلومات، فربما ظن بعض الأحبة أنه لم يكن هناك داعٍ على الإطلاق لأن نخصص جمعة كاملة لمثل هذا الموضوع، ولكنني أخالفه شكلاً وموضوعاً، فإن هذه القضايا لابد أن تستقر في عقولنا وقلوبنا؛ وحتى نستطيع أن نفهم فهماً دقيقاً، وأن نعي وعياً عميقاً حجم هذه المؤامرة الشرسة، وخطورة هذه المرحلة الراهنة من مراحل الصراع.
هذا هو البعد الحقيقي والحجم الطبيعي لقضية تحديد النسل، ولابد لكل مسلم أن يعيه وأن يعرفه وأن يلم به إلماماً.(133/6)
التيقن أن الرزاق هو الله
وأخيراً: نقترح نحن هذه الحلول: أولاً: كنا نود أن نقول لتلك الجمهرة من جميع أنحاء العالم أنهم قد نسوا حقيقة كبيرة تسمى بالرزاق ذو القوة المتين.
إنها حقيقة تملأ قلب كل موحد، الرزاق الذي تكفل بأرزاق العباد والدواب على ظهر هذه الأرض، وأوجب على نفسه -اختياراً منه سبحانه- رزق كل دابة تدب على سطح الأرض، فقال جل وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
أيها الحبيب الكريم! هذه الدواب التي لا يحصيها علم ولا يلم بها إحصاء بشري رزقها على ربي جل وعلا، أوجب الله على نفسه ذلك اختياراً منه سبحانه.
وأنا أقول: إذا كان ربنا يرزق الكفار أينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! إنه الرزاق ذو القوة المتين! وانظر معي وتدبر معي هذه اللفتة القرآنية اللطيفة، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23].
الرزق في السماء مع أن الأسباب الظاهرة لأرزاقنا في الأرض! ولكن الله جل وعلا يريد أن يلفت القلوب النقية والعقول الذكية إلى وجوب الأخذ بالأسباب في هذه الأرض، والتيقن أن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع، ولا ترزق ولا تمنع، إلا بأمر مسبب الأسباب جل جلاله.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ}.
واسمع إلى هذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم)، من الذي يطعم هذه الأفواه؟! ليس الشرق الملحد وليس الغرب الكافر يا حكام المسلمين! لا يطعم هذه الأفواه إلا خالقها جل جلاله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
لا تخشوا فقد معونة شرقية ولا معونة غربية، فإن الذي يرزق الشرق الملحد والغرب الكافر هو الله، أفيرزق الله الكفار وينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
وتدبر معي هذا الحديث المبارك الذي رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التوحيد من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن يمين الله ملأى لا تغيظها نفقة -أي: لا تنقصها النفقة- سحاء الليل والنهار).
ما أنفقه ربكم منذ خلق السموات والأرض لم ينقص ما في يمينه جل وعلا.
إذاً: أيها الأحبة! إننا نرفع رءوسنا وإن ضحك العلمانيون بملء أفواههم وقالوا: انظروا لهذا الدرويش الذي جاء يقترح علينا حلاً للمشكلة والأزمة السكانية، ويتمثل اقتراحه وحله في كلمة اسمها: (الرزاق)، بل وربما تأتي الجرائد على صفحاتها الأولى وتحكي قصة هذا الرجل البدائي الذي جاء ليحل هذه الأزمة باسم الرزاق، ومع هذا فإننا نؤمن بهذه الحقيقة بقدر ما يكذب بها العلمانيون.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]، واسمحوا لي أن أكرر عن عمد قصة تلك البنت التقية بنت حاتم الأصم رحمه الله تعالى الذي أراد أن يحج بيت الله الحرام يوماً من الأيام، فجمع أبناءه وقال: إني ذاهب لحج بيت الله، فقال الأولاد: ومن يأتينا بطعامنا وشرابنا؟ فقالت بنت من بناته: يا أبتِ! اذهب لحج بيت الله فإنك لست برازق، وانطلق الرجل، وبعد أيام قليلة انتهى الطعام في بيت حاتم الأصم، وانطلقت الأم لتأنب هذه الفتاة التقية النقية، وسرعان ما عرفت الفتاة الحل والعلاج، فخلت هذه الفتاة بنفسها لترفع شكواها إلى الرزاق ذي القوة المتين، إلى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وفي هذا الوقت كان أمير البلدة يمر على الرعية ليتفقد أحوالهم، وأمام باب حاتم الأصم أحس بعطش شديد، فقال الأمير: ائتوني بكوب من الماء، فدخل شرطي من الشرطة على بيت حاتم الأصم وهو أقرب باب، فأحضروا كوباً نظيفاً وماءً بارداً، فلما شرب الأمير قال: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال: هذا العبد الصالح؟ قالوا: نعم.
قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ فقالوا: ذهب لحج بيت الله الحرام، فقال الأمير: إذاً حق علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته.
لقد استجاب الله دعاء الفتاة في الحال أليس ربك هو القائل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
استجاب الله دعاءها، فأرسل الأمير بكيس مملوء بالذهب وألقاه في بيت حاتم الأصم، ولكن الرزاق أراد الزيادة، فالتفت الأمير إلى الشرطة من حوله، وقال: من أحبني فليصنع صنيعي، ومن أحبه ومن لم يحبه فسوف يلقي ما معه من مال لعل الله أن يكرمه في أول تشكيل وزاري ليصبح وزيراً، فألقى كل شرطي ما معه من الأموال وامتلأ بيت حاتم بالذهب ودخلت الفتاة التقية النقية تبكي، فدخلت عليها أمها وإخوانها يقولون لها: تعالي! لماذا البكاء؟ لقد امتلأ بيتنا بالذهب وأصبحنا أغنى الناس في البلدة، فنظرت إليهم الفتاة التقية المؤمنة وقالت: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟! إنه الرزاق ذو القوة المتين الذي قال وقوله الحق: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].(133/7)
التقوى
ثانياً: الإيمانُ والتقوى: فليضحك العلمانيون بملء أفواههم، فإن الإيمان والتقوى من أعظم الأسباب لحل المشكلة السكانية.
كيف ذلك؟ اسمع إلى الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] هذه حقيقية أيضاً، وينبغي أن تستقر حقيقة الإيمان في قلوبنا، وأن نحقق التقوى لربنا جل وعلا.(133/8)
الاستغفار
ثالثاً: الاستغفار: ما علاقة الاستغفار بالمشكلة السكانية؟ إنه مفتاح حلها! كيف ذلك؟ اسمع إلى الحق سبحانه وهو يقول حكاية عن نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} [نوح:10 - 12] بأموال لا يحتاجون بعدها إلى المرابي الأكبر -صندوق النقد الدولي- ولن تخشوا بعدها قطع معونة شرقية ولا غربية، فاستغفروا ربكم جل في علاه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10].
ما هي النتيجة؟ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:11 - 13].
ما لكم لا توحدون الله حق توحيده؟ ولا تعبدون الله حق عبادته، ولا تجلون الله حق جلاله، ولا تقدرون الله حق قدره سبحانه؟ {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13].(133/9)
الاستغلال الأمثل للموارد
رابعاً: الاستغلال الأمثل للموارد بالعدالة في التوزيع، وبكسر الحاجز الجغرافي والنفسي الذي وضعه الاستعمار بين شعوب العالم الإسلامي؛ لتكون خطوة أولى على طريق التكافل والتكامل، لاسيما ونحن نعيش الآن عصراً يسمى بعصر التكتلات، ولا أريد أن أتوقف طويلاً -أيها الأحبة- ولكن هذا ما ندين الله عز وجل به في هذه المشكلة الخطيرة وهذه الأزمة السكانية الكبيرة التي يعاني منها الغرب ويتغنون بها في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة طيلة الأشهر الماضية.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً.
اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم خذ بنواصينا إليك! اللهم خذ بنواصينا إليك اللهم عجل بالقائد الرباني الذي يحكم الأمة بكتابك وبسنة نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم وسع أرزاقنا اللهم وسع أرزاقنا اللهم ارزقنا الحلال الطيب وبارك لنا فيه، وابعد عنا الحرام وإن كان كثيراً يا أرحم الراحمين.
اللهم احصن نساءنا وبارك في أولادنا، واجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة.
اللهم بقدرتك ورحمتك أطعم المسلمين الجياع، واكس المسلمين العراة.
اللهم أطعم المسلمين الجياع اللهم أطعم المسلمين الجياع اللهم اكس المسلمين العراة اللهم اكس المسلمين العراة اللهم احمل المسلمين الحفاة بقدرتك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم بقدرتك وعظيم رحمتك ارفع عن مصرنا الغلاء والبلاء! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والبلاء اللهم ارفع عن مصر الغلاء والبلاء والفتن والوباء اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان واحة للرخاء والاستقرار اللهم وسع أرزاق شعبها اللهم وسع أرزاق أهلها اللهم وسع أرزاق أهلها اللهم! اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، أنت ولي ذلك والقادر عليه! إلهنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا! اللهم إنا ضعاف فقونا اللهم اجبر كسر قلوبنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وآمن روعاتنا، واكشف همومنا، وأزل غمومنا، وفرج كروبنا، يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين يا غياث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين ويا كاشف هم المهمومين! ويا مفرج كرب المكروبين! ويا مفرج كرب المكروبين! يا ودود يا ودود! يا ودود يا ودود! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يرد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا مغيث المستغيثين! ويا مجيب المضطرين! ويا مفرج كرب المكروبين! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! ويا دائم المعروف! إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين، ولا مضيعين ولا مبدلين ولا مغيرين! اللهم إنا نعوذ بك من الذنب بعد العطاء اللهم إنا نعوذ بك من الذنب بعد العطاء اللهم إنا نعوذ بك من الذنب بعد العطاء اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا، إنك أنت التواب الرحيم! أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(133/10)
ففروا إلى الله
إن الناظر إلى الحضارة الغربية اليوم وما شاع فيها من انتشار للفواحش من زنا وشذوذٍ جنسي وغير ذلك، والتقنين لها وحمايتها من قبل الحكومات، ليدرك مدى الانتكاسة والأزمة الأخلاقية التي تعيشها هذه الحضارة، وما ذاك إلا لبعدها عن منهج الله تعالى ودينه وشرعه.(134/1)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعنا في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! ففروا إلى الله!! هذا هو عنوان محاضرتنا في هذه الليلة الكريمة المباركة، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعاً، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية: أولاً: سفينة واحدة.
ثانياً: انتكاس الفطرة.
ثالثاً: عقاب إلهي.
وأخيراً: لا ملجأ من الله إلا إليه.
فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فأولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: سفينة واحدة: أيها الأحبة! نحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، إن نجت نجونا، وإن هلكت هلكنا جميعاً، ولقد جسَّد النبي صلى الله عليه وآله سلم هذه الحقيقة في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن يتركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
وهذا مثل دقيق يضربه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبناء المجتمع الواحد، فهذا المجتمع كالسفينة، إن لم يوجد في هذا المجتمع أهل الصلاح الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الهلاك سيصيب الجميع، وإن السفينة ستغرق بالجميع، ولن يفرق الهلاك ساعتها بين الصالحين والطالحين.
وفرق بين المصلح والصالح، فلابد من وجود المصلحين الذين يأخذون على أيدي السفهاء الساقطين والواقعين في حدود رب الأرض والسماء جل وعلا.
لابد أن تكون هناك فئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لا تأخذها في الله لومة لائم، تبين هذه الفئة المصلحة الصادقة الحق والباطل؛ حتى لا يعم الله الجميع بعقاب من عنده.
أيها الأحبة! هذه الفئة المصلحة سبب من أسباب نجاة المجتمع من الإهلاك العام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل الإنكار فرض عين على كل مسلم وإن اختلفت مراتبه ودرجاته، إلا أنه لابد من أن تبقى درجة من درجات الإنكار فرض عين على كل مسلم لا يعذر منها إن تركها على الإطلاق؛ فلقد ثبت عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).(134/2)
العلمانية تدعو إلى إماتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من نبي قد بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خُلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) أي: أن كل مسلم إن عجز أن ينكر بيده أو أن ينكر المنكر بلسانه لم يعذر أن ينكر المنكر بقلبه، بمعنى أن يبغض المنكر وأهله لا أن يأنس أو يسعد بهم أو أن ينكر على منكره في يوم من الأيام، ثم بعد ذلك تتوالى الأيام، فيعايش أهل المنكر بأريحية وانشراح صدر فلا يتألم قلبه بعد ذلك لهذا المنكر.
ولذلك أيها الأحبة الكرام! خشي صدِّيق الأمة يوماً هذه السلبية القاتلة التي يرفع اليوم شعارها العلمانيون، وهي: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله إنك لن تبدل الكون، ولن تغير نظامه.
إذاً: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، فما عليك إلا أن تصلي لله، وأن تتعبد لله عز وجل، فواجب عليك حينئذ أن تغض الطرف عن كل منكر تراه عينك، أو تسمعه أذنك، أو تراه مجدداً في واقعك الذي تراه فيه، فهذا هو معنى: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله!! بل قد يتشدق أحد العلمانيين -كالثعلب الذي برز يوماً في ثياب الواعظين- ليقنِّن هذه السلبية القاتلة، وليقنِّن هذه السلبية المدمرة بآية من كتاب الله عز وجل، فربما يقرأ على أسماعنا قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، ومن منطلق هذا الفهم المغلوط لهذه الآية الكريمة انطلق كثير من الناس يرددون ما يقوله العلمانيون: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) فلا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، فلا مانع على الإطلاق من أن نرى مسلماً يصلي لله جل وعلا، ثم يخرج لترى زوجته عارية لترى بناته متبرجات أو لترى أمواله في البنوك يأكل من الحرام والربا، أو ليمتثل قول الله في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ويضيِّع أمر الله في السورة نفسها: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179] فالإسلام في بيوت الله فحسب، أما إن خرج المسلم من المساجد فلا داعي على الإطلاق أن نزجَّ بالإسلام في قضايا الإعلام، أو في قضايا الإجهاض، أو في قضايا الإسكان، أو في قضايا الانفجار السكاني، أو في قضايا التعليم، أو في قضايا الإخصاب، أو في قضايا المرأة؛ لأن الإسلام أسمى وأجل من أن نزج به في مثل هذه القضايا والمسائل هكذا زعموا قاتلهم الله!(134/3)
خطورة عدم تغيير المنكر
(دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) شعار يدندن حوله الآن العلمانيون في كل مناسبة أو بدون مناسبة، ويستدل بعضهم بقول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، ولقد خشي الصديق هذه السلبية المدمرة يوماً فارتقى المنبر وقال: أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه، أوشك الله أن يعمهم بعقابه) وفي لفظ: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه، يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب من عنده) والحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في السنن، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
أيها الأحبة الكرام! لابد أن نعلم أن وجود المصلحين سبب من أسباب النجاة للأمة بأسرها، وسبب من أسباب عدم الإهلاك العام للأمة، فلابد أن توجد هذه الفئة الصالحة في نفسها المصلحة لغيرها، التي لا تترك الواقعين في حدود الله ينخرون بمعاول من الذنوب والمعاصي في هذه السفينة حتى تغرق بالجميع، وإن كان فيها الصالحون.
إن هذه الفئة إن تخلت عن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخلت عن الأخذ على أيدي السفهاء الساقطين في حدود الله جل وعلا، أوشك أن يعمنا الله جميعاً بعقاب من عنده، كما ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً -وفي لفظ: استيقظ فزعاً- وهو يقول: لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه: السبابة والإبهام، ثم قالت زينب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! فقال المصطفى: نعم.
إذا كثر الخبث).
قال صلى الله عليه وسلم: (نعم.
إذا كثر الخبث).
وأنا أقسم بالله إن الخبث قد كثر!! ولذا نرى الإمام مالكاً يبوِّب باباً في موطِّئه بعنوان (باب ما جاء في تعذيب الله للعامة بعمل الخاصة)، فإن الله يعذب العامة بعمل الخاصة؛ وذلك إذا لم يأخذ المصلحون على أيدي السفهاء الواقعين في حدود الله عز وجل.
بل لقد ورد في مسند أحمد، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجة، وصحح الحديث الشيخ الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ولا يغيروه ولا ينكروه، وهم قادرون على ذلك)، فحينئذ يعذب الله العامة والخاصة.
هذه مقدمة -أيها الأحبة- أردت أن أدخل بها للعناصر المتبقية في هذا الموضوع، فنحن جميعاً كما ذكرت ركاب سفينة واحدة إن نجت هذه السفينة نجونا جميعاً، وإن هلكت هذه السفينة هلكنا جميعاً، فلابد من وجود الفئة المصلحة التي تغير المنكر بأي مرتبة من مراتب التغيير أو بمراتب الإنكار.(134/4)
صور من انتكاس الفطرة في العالم الغربي
أيها الأحبة! إننا نشهد الآن مؤامرة موتورة يريد أصحابها وأذنابهم أن يفرضوا على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الغربية الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة، فأصبح الآن يقنن ويشرع على المستوى الرسمي لهذه المؤامرة المفضوحة.
إن هذه المجتمعات الغربية الكافرة التي استشرت فيها النزعات الحيوانية لا يمكن على الإطلاق -أيها الأحبة- أن نسميها بالمجتمعات المتحضرة أو المتقدمة، وإن بلغت ما بلغت إليه من التقدم العلمي.
هذه المجتمعات انتشرت فيها النزعات الحيوانية بكل أشكالها انتشر فيها الزنا والشذوذ الجنسي وانتشر فيها نكاح المحارم، بل وأصبحت هذه المجتمعات لا تدعو لهذا فحسب، بل قنَّنت وشرعت له، وإن هذا لهو مكمن الخطر، ولم تعد مثل هذه الأمور مستغربة أو مستنكرة في مثل هذه المجتمعات.(134/5)
ازدياد عدد حالات الإجهاض
ثانياً: تشير الدراسات إلى أن عدد حالات الإجهاض الذي كان يدندن حوله في الإيام الماضية قد بلغ في عام (1983م) إلى خمسين مليون طفل في العالم.(134/6)
الحمل بسبب الزنا
ثالثاً: تشير الدراسات إلى أن الحمل أصبح مشكلة كبيرة لدى المراهقات في أوروبا وأمريكا، ففي أمريكا وحدها أكثر من مليون فتاة تحمل سنوياً من الزنا، فأصبحت المشكلة كبيرة وخطيرة، وتعالت الأصوات في هذه المجتمعات تنذر وتحذر من هذا الخطر القادم.(134/7)
الشذوذ الجنسي
لم يكتف اليهود وأتباع اليهود بنشر الزنا في العالم كله بصفة عامة، وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، بل راح اليهود يقنِّنون للشذوذ الجنسي، وسمعنا في الأيام الأخيرة من يقول بتعدد أشكال الأسرة، ونحن لا نعرف للأسرة إلا شكلاً واحداً، ألا وهو: الرجل والمرأة، أما الآن فقد تعددت صور الشذوذ في هذه المجتمعات، فأصبحنا نرى صورة أخرى للأسرة، أسرة تكون بين رجل ورجل، أو بين امرأة وامرأة.
لم يكتف اليهود بنشر الزنا في العالم بصفة عامة وفي أوروبا وأمريكا بصفة خاصة، بل أصبحنا نرى كثيراً من النوادي والجمعيات في أوروبا وأمريكا ترعى شئون الشاذين والشاذات، وأصبحت لهم أماكنهم الخاصة التي يجتمعون فيها، ولقد صرحت دائرة المعارف البريطانية بأن الشاذين والشاذات قد انتقل أمرهم من طور السرية إلى طور العلنية، وأصبحت لهم معابدهم وكنائسهم الخاصة التي تقوم علناً في حفلات خاصة يدعى إليها الأهل والأصدقاء لتزويج الرجال بالرجال، ولتزويج النساء بالنساء.
بل وتعجبون أشد العجب إذا علمتم أن مجلة التايم الأمريكية قد نشرت قصة ضابط يهودي يعمل ضمن صفوف الجيش الأمريكي، هذا الضابط وصلت به الحالة إلى أن علق في مكتبه الخاص لوحة كبيرة تعلن هذه اللوحة بأن هذا الضابط شاذ جنسياً، ولما طردت إدارة الجيش الأمريكي هذا الضابط اليهودي، قامت قيامة الإعلام!! وتحت هذه الثورة الإعلامية العارمة اضطرت إدارة الجيش أن ترد الضابط اليهودي مرة أخرى، ثم دعي هذا الضابط بعد ذلك؛ لإلقاء المحاضرات الرسمية عن الشذوذ في أكبر الجامعات الأمريكية إنه انتكاس الفطرة!! بل تشير الدراسات إلى أن عدد الشواذ في أمريكا وحدها قد وصل إلى عشرين مليون شاذ، من بينهم رجال من الكنائس!! لقد أضحى الأمر خطيراً، ومكمن الخطر -أيها الأحبة- يتمثل في هذه الانحرافات التي لم تعد مستغربة ولا مستنكرة، بل قنَّن لها هذا المجتمع الغربي الكافر الذي لا يؤمن بدين، ولا يلتزم بمبدأ ولا بخلق ولا بضمير، ثم راح هذا المجتمع الغربي ليفرض هذا الانحراف وهذا الشذوذ على المجتمعات الإسلامية.
أيها الأحبة! لم يكتفِ اليهود، وأذناب اليهود بنشر الشذوذ بكل صوره وأشكاله، بل راح اليهود يدعون إلى نكاح المحارم -أي: نكاح الأمهات والبنات والأخوات- وتعلمون بأن أول من دعا إلى نكاح المحارم هو فرويد اليهودي الذي بنى نظريته كلها عن الجنس، وقال بمنتهى الصراحة والوقاحة: إن الطفل يحب أمه حباً جنسياً، ويكره أباه.
وهذا الكره سماه بعقدة (أديب)، وقال: إن الطفلة تحب أباها حباً جنسياً، وتكره أمها.
وسمى هذا الكره بعقدة (ألكترا).
وللأسف أقول بمنتهى الحسرة والألم والمرارة: إن هذا الغثاء والهراء يدرس لأبنائنا وبناتنا في أخطر مراحل المراهقة في مرحلة الثانوية العامة، على أنه باب من أبواب علم النفس، وهذا ورب الكعبة شيء خطير!! بل لقد نشرت مجلة التايم الأمريكية أيضاً تحقيقاً صحفياً واسعاً عن نكاح المحارم، ونشرت فيه المجلة تقريراً لأحد الباحثين يقال له وثل أومري، يقول هذا الباحث الوقح: (لقد آن الأوان لكي نعترف بأن نكاح المحارم ليس شذوذاً، وليس دليلاً على الاضطراب العقلي، بل قد يكون نكاح المحارم -خاصة بين الأطفال وذويهم- أمراً مفيداً لكليهما).
ونجد الآن أن هذا المجتمع قد وصل إلى هذه المرحلة السحيقة من انتكاس الفطرة، بعدما تحدى منهج الله جل وعلا، وشذ عن منهجه.
هؤلاء الآن يدعون إلى نكاح المحارم إلى نكاح الأمهات والبنات والأخوات إنه انتكاس سحيق للفطرة؟! لكنه الإنسان في غلوائه ضلت بصيرته فجن جنوناً ويحي لمنتحر كأن بنفسه من نفسه حقد الحقود دفيناً اعتدت أسلحة الدمار فما رعت طفلاً ولا امرأة ولا مسكيناً واليوم مد يديه للأرحام تقتلعان منها مضغة وجنيناً قد صيغ من نور وطين فانبرى للنور يطفئه ولبى الطينا ما أضيع الإنسان مهما رقى في سبل العلوم إذا أضاع الدينا(134/8)
انتشار الزنا بصورة كبيرة
لقد ظهرت دراسات علمية عديدة تبين مدى الخطورة التي وصلت إليها المجتمعات الغربية، في هذا الجانب المنحرف، وكثير من أبناء المسلمين من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا اليوم لا يقدسون ولا يجلون إلا ما صدر من الغرب أو عن الغرب، فمن خلال هذه الدراسات -التي لا تنطق إلا بلغة الأرقام- نستطيع أن ننقل لكم بعض ما جاء فيها بقدر ما يسمح به الحياء والمقام: تقول هذه الدراسات: إن المشكلة أضحت خطيرة وكبيرة في المجتمعات الغربية، بل وارتفعت الآن كثير من الأصوات التي تنادي بالعودة إلى محاربة هذه الأعمال قبل أن يهلك هذا المجتمع بأسره.
أيها الأحبة: تشير الدراسات إلى أن (90%) من غير المتزوجات يمارسن الزنا بطلاقة أو من حين لآخر في أوروبا وأمريكا.(134/9)
عقاب إلهي
عبد الله! أليس ربك جل وعلا هو القائل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]؟! أليس هو القائل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]؟! نتيجة لهذا الأمن من مكر الله، بل ونتيجة لهذا الكفر بمنهج الله، ابتلى الله عز وجل هذه المجتمعات الغربية الكافرة بالأمراض الفتاكة المدمرة التي وقفوا أمامها الآن وقفة العاجز الذي لا يستطيع أن يقدم شيئاً على الرغم مما وصل إليه في الجانب العلمي من تقنية الطب الحديث.(134/10)
العيشة الضنك والقلق في المجتمع الغربي
وأخيراً أيها الأحبة الكرام! أقول: لا سعادة للبشرية كلها بصفة عامة، وللمسلمين بصفة خاصة -لاسيما بعدما رأى المسلمون هذه الصور الشاذة وهذا العقاب الإلهي- إلا بالعودة إلى منهج الله جل وعلا؛ ليستظلوا بظلاله الوارفة، بعد أن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والضلال، فلا ملجأ ولا ملاذ من الله عز وجل إلا إليه سبحانه وتعالى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].
هذا ورب الكعبة! هو الضنْك الذي تحياه البشرية كلها، فإن العالم اليوم بالرغم مما وصل إليه من وسائل الأمن والأمان يعيش مرحلة ما مر بها من قبل من حالة الذعر والخوف والرعب.
وبالرغم مما وصل إليه من تقنية حديثة في جانب الاتصال، فإنه يعيش حالة من الحرمان، وحالة من الفقر والضنْك.
وبالرغم مما وصل إليه من سبل الرفاهية الحديثة، فإنه يعيش حالة من القلق والاضطراب والشرود.
ومن أراد أن يتعرف على هذه الحقائق فليذهب إلى هذه المجتمعات؛ ليرى بعينه حالة القلق النفسي التي يحياها هؤلاء، على الرغم مما وصلوا إليه في الجانب المادي، ونحن لا ننكر على الإطلاق أنهم قد وصلوا إلى أرقى الدرجات في الجانب العلمي.
نعم.
غاصوا في أعماق البحار فجّروا الذرة حولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق التقنية الحديثة، والتطور المذهل في عالم المواصلات والاتصالات، لكن بالرغم من هذا أقول: إن هذا التقدم ما جاء إلا على حساب الجانب الآخر على حساب الجانب الإيماني على حساب الجانب العقدي والأخلاقي والروحي.
إن هذه الحضارة قد أمدت البدن بكل ما يشتهيه، ونسيت هذه الحضارة أن الإنسان يتكون من طين وروح، فأعطت هذه الحضارة الطين كل ما يشتهيه وتركت الروح تصرخ في هذا الخواء! رأينا -ورب الكعبة- ذلك بأعيننا -أيها الأحبة- على من الرغم ذلك التقدم العلمي رأينا هذا الشرود رأينا هذا القلق رأينا هذا الاضطراب رأيناه بأعيننا في قلعة الكفر الآن التي تصدر كل إلحاد وضلال وفسق وانحراف إلى بلدان العالم، ألا وهي أمريكا.
رأينا ذلك بأعيننا: رأينا الدعارة، ورأينا الانحراف، رأينا عالم البهائم على الرغم مما وصلوا إليه في كل مكان، رأينا الدعارة في الطيارة في السيارة في المطار في القطار في الفندق في النادي في كل مكان!!(134/11)
أمراض السيلان والزهري وسرطان المستقيم وغيرها
وهناك أمراض أخرى كثيرة انتشرت واستشرت كسرطان المستقيم، وسرطان الشرج، والسيلان، والزهري، وغيرها من الأمراض الفتاكة التي انتشرت كعقاب من الله عز وجل لهؤلاء الذين انحرفوا عن الفطرة، وشذوا عن منهج الله جل وعلا، وتحقق قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه، والحاكم في المستدرك، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، وهذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
أخي! أليس ربك هو القائل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]؟ يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم).
وإياك أن تظن أن هذا العقاب لهؤلاء الناس خاصة، كلا فليست من الظالمين ببعيد!! إنها سنة من سنن الله الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير؛ فإن الله جل وعلا ليس بينه وبين خلقه نسب ولا محاباة؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها: (يا فاطمة! اعملي؛ فإني لا أغني عنك من الله شيئاً).
ولو أن المسلمين فتحوا الباب على مصراعيه لهذه الانحرافات، ولهذه الصور الشاذة التي تتحدى منهج الله جل وعلا، فإن هذه الأوبئة وهذا العقاب ليس منهم ببعيد.
وها نحن بدأنا نرى بعض هذه الصور في مثل بلادنا وبيئتنا.
ونسأل الله جل وعلا أن يرد المسلمين إلى منهجه رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحباب: هذا العقاب من الله سبحانه وتعالى بانتشار هذه الأوبئة الخطيرة والمدمرة لكل من انحرف عن منهج الله، ولكل من شذ عن منهج الله جل وعلا إنما هي قمة العدل، وهذا ما يقتضيه عدل الله سبحانه وتعالى إنه عقاب من الله سبحانه لكل من حاد لكل من شذ لكل من انحرف!!(134/12)
مرض الإيدز
أيها الأحباب: لقد انتشرت واستشرت الآن كثير من الأمراض الفتاكة المدمرة في المجتمعات الغربية، وكلكم جميعاً يسمع في كل يوم عن هذا المرض الفتاك المدمر الذي أنفق عليه بسخاء، وبالرغم من هذا لا زال العالم إلى الآن لا يستطيع أن يخلص واحداً من براثن هذا الوباء وهذا الطاعون الذي ابتلي به.
إنه مرض (الإيدز) المعروف بمرض نقص المناعة، هذا المرض الفتاك الذي استشرى وانتشر، حتى ذكرت منظمة الصحة العالمية بأن عدد الذين يحملون فيروس (الإيدز) الآن -وكان هذا الاجتماع في عام (1986م) ونحن الآن في (1994م) - ذكرت منظمة الصحة العالمية بأن عدد الذين يحملون فيروس الإيدز الآن في العالم، يتراوحون ما بين خمسة إلى عشرة ملايين شخص، وعدد المصابين في أمريكا وحدها قد زاد عن المليون شخص ممن يحمل فيروس (الإيدز)، بل لقد خصصت أمريكا في كل عام ألفي مليون دولار سنوياً لمكافحة هذا المرض الفتاك المدمر.
وبالرغم من هذا السخاء في الإنفاق للوصول إلى سبب هذا المرض، وللبحث عن علاج فعَّال له، إلا أنني أقول بأن العالم المتقدم -على حد زعم من يحلو له أن يسمي هذا العالم بالعالم المتحضر- لا يستطيع أن يخلص رجلاً أصيب بهذا المرض الخطير من براثن هذا المرض الفتاك المدمر الخطير لا يستطيعون ذلك إلى يومنا هذا.
هذا المرض المرعب الذي يستشري وينتشر بصورة مفزعة مرعبة، ولن يستطيعوا أن يصلوا إلى علاجه الحقيقي مادامت الأسباب الحقيقية لانتشاره موجودة في هذه المجتمعات، ألا وهي الانحراف عن منهج الله، والوقوع في الزنا، والشذوذ الجنسي إلى آخر هذه الصور.
ولقد أثبتت الدراسات والأبحاث العلمية بأن الأسباب الرئيسية لانتشار هذه الأمراض، وبأن أعلى الناس إصابة بهذا المرض هم أهل الانحراف والشذوذ، فما دامت هذه الأسباب الحقيقية موجودة في هذه المجتمعات، فلن تستطيع العلاجات والأدوية أن تحقق نجاحاً لهذا المرض إلا بتدمير هذه الرذائل، وبالعودة إلى الفضيلة، أو إن شئت فقل: بالعودة إلى منهج الله جل وعلا.(134/13)
سبيل النجاة من الأمراض والانحرافات
أيها الأحبة! رأينا هذه الحضارة التي أمدت الطين بكل ما يشتهيه وتركت الروح الآن تصرخ، وإن شئت أن تتعرف على ذلك فراجع إحصائيات الجريمة في مثل هذا البلد، لتتعرف على أن الإنسان لا يريد فقط ما يشتهيه البدن، وإنما لابد أن نمد الروح هي الأخرى بغذائها.
ولابد أن تعلم هذه المجتمعات الكافرة أن غذاء هذه الروح بالعودة وبالإذعان إلى منهج الله جل وعلا، ورحم الله صاحب الظلال إذ يقول: (إن هذه الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله).
ومن أروع ما قرأت: ما قاله المفكر الشهير اشبنجل إذ يقول: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة ألا وهي حضارة الإسلام الذي يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية.
ومحل الشاهد من هذه الفقرة أن الإسلام وحده هو الذي يمد الروح بغذاء إلهي نقي، وهو الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ملجأ لهذه البشرية من هذا الضنك إلا بالعودة إلى منهج الله عز وجل.
ويألم القلب أن يقال هذا الكلام للمسلمين الذين يلهثون الآن وراء كل ناعق؛ ووراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى.
لما سقط الشرق الملحد ها نحن نرى الآن كثيراً من العلمانيين يعزفون على وتر العودة إلى كل ما هو غربي، حتى قال أحدهم في وضوح: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم.
وطبقت الأمة قول الصادق صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبِّ لدخلتموه -وفي لفظ: لتبعتموهم- قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال فمن؟).
راحت الأمة تحاكي محاكاة عمياء، وتقلد تقليداً أعمى، ومكمن الخطر -كما ذكرت- أنه يحاول الآن أن يفرض على المجتمعات المسلمة ما وصلت إليه المجتمعات الكافرة من انتكاس سحيق للفطرة من زنا وشذوذ وانحراف.
فلا سعادة للبشرية عامة وللمسلمين خاصة إلا بالعودة إلى منهج الله عز وجل؛ لأن الله هو خالق الإنسان، وهو وحده الذي يعلم ما يفسده وما يسعده، أليس ربك هو القائل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]؟! عباد الله! لا ملجأ من الله إلا إليه، فواجب على الأمة أن تفيء مرة أخرى إلى منهج الله عز وجل، ولابد أن نعلم جميعاً أن منهج الله سبحانه وتعالى لا يحارب الفطرة ولا يستصغرها، وإنما يرقيها وينظمها ويطهرها، ويرتقي بها إلى أسمى ما يليق بالإنسان كإنسان.
ونقول للعلمانيين: إن منهج الله لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستصغرها، بل يرقيها ويطهرها ويرقى بها إلى أسمى الأحوال التي تليق بالإنسان كإنسان.
إن منهج الله عز وجل قد وضع كثيراً من الضمانات الوقائية التي تحفظ للمجتمع طهره وصفاءه ونقاءه، ويعاقب منهج الله سبحانه وتعالى كل من شذَّ عن هذه الضمانات الوقائية وانطلق ليتمرغ في أوحال الرذيلة طائعاً مختاراً غير مضطر.
ومنطق العقلاء يقول دائماً: لو أن مريضاً ابتلي في ضرس من أضراسه بمرض السرطان، وقرر الأطباء قلع هذا الضرس حتى لا ينتقل المرض في كل الأضراس الأخرى، أليس من الحكمة بل من الرحمة أن نستأصل هذا الضرس لنبقي على بقية الأضراس الأخرى بأمر الله عز وجل؟! أليست هذه الرحمة بعينها أيها الأحبة؟! أليست هذه الحكمة؟! هذا هو منطق العقلاء.
كذلك منهج الله عز وجل؛ لو أن إنساناً توفرت له الضمانات الوقائية في المجتمع الإسلامي، وترك هذا الإنسان تلك الضمانات، وراح ليتمرغ في وحل الرذيلة الآسن العفن طائعاً مختاراً غير مضطر، فحينئذ يتقدم منهج الله ليعاقب هذا الإنسان، حتى لا ينطلق لينشر في الأرض الفساد، أو لينتهك الحرمات والأعراض، وهذه قمة الرحمة بعينها!! أيقال حينئذ بأنها قسوة بأنها عنف؟! لا، ورب الكعبة! بل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].(134/14)
عقوبات الفواحش في الشرع
ومن هنا شدد منهج الله في عقوبة الزناة وفي عقوبة من يعملون عمل قوم لوط وهكذا؛ ليحفظ للمجتمع نقاءه وشرفه وطهره وعرضه، فإن العرض هو شرف الإنسانية المتوارث على طول الزمان والمكان، فلابد من حفظ هذا الشرف المتوارث للإنسانية كلها، ولن نجد حرصاً على هذا العرض في منهج من المناهج الأرضية على الإطلاق، لا نجده إلا في منهج الله عز وجل؛ لأنه وحده خالق الإنسان وهو وحده الذي يعلم ما يفسده وما يصلحه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(134/15)
عقوبة فاحشة الزنا
قال الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2 - 3].
أهمس وأقول: إن من ابتلي بالوقوع في كبيرة من هذه الكبائر فيجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل إن لم يرفع أمره إلى ولي الأمر المسلم؛ لأننا لا نرى الآن شرعاً لله، وإنما قد بدل شرع الله وحرف، وقدم القانون الوضعي الفاجر الكافر من صنع حفنة ضعيفة من البشر، فإن ستر الله عليك ولم يقم عليك حد الله، فيجب عليك أن تبادر، وأن تسرع بالتوبة الصادقة الخالصة.
ومن أروع ما قرأت أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: الأصل في الكبائر التوبة، فمن ستره الله عز وجل فيجب عليه أن يتوب إلى الله، وأن يعجل بالتوبة والأوبة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
أما إذا كان الزاني محصناً فحكمه -كما تعلمون- هو الرجم.
نسأل الله أن يرد حكام المسلمين إلى شرعه رداً جميلاً، وأن يرد الأمة إلى شرعه رداً جميلاً!(134/16)
عقوبة عمل قوم لوط
قال الله في عمل قوم لوط: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:54 - 56].
ما ذنبهم ما جريمتهم؟! {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] سخرية قديمة حديثة، القديمة أنهم أهل طهر أنهم أهل عفة أنهم أهل شرف {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [النمل:56 - 58].
وقال عز وجل في سورة الحجر: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] نسأل الله السلامة والعافية.
ورب الكعبة! إن هذه الحجارة ليست من الظالمين ببعيد، فهذا عقاب الله جل وعلا لهؤلاء الذين انتكست فطرتهم، وانحرفوا عن المنهج السوي الذي جاءهم به نبي الله لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، بل لقد ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي في السنن، وكذا ابن ماجة وصحح الحديث الشيخ الألباني في (إرواء الغليل) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به).
أقول أيضاً لمن ابتلي بهذا -والعياذ بالله، ونسأل الله لنا ولكم السلامة والستر والعافية في الدين والدنيا والآخرة- ولم يُقم عليه حد الله أن يجدد التوبة والأوبة، وأن يصحح النية في توبته إلى الله عز وجل، وأن يعلم يقيناً أن الله سبحانه وتعالى يغفر أي ذنب بعد الشرك بشرط أن تقلع عن هذا الذنب، وأن تندم على فعله، وأن تكثر من العمل الصالح.
وأسأل الله سبحانه أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يثبتنا على الطاعة، وألا يذلنا بمعصيته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! لا سعادة للبشرية عامة وللمسلمين خاصة إلا بالعودة إلى منهج الله جل وعلا.
أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(134/17)
في ظلال الإسراء والمعراج
معجزة الإسراء والمعراج من المعجزات العظيمة التي أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وأعلى بها شأنه، وكانت تخفيفاً لألم رسول الله وحزنه وما لاقاه من قومه من إعراض وأذى.
وليس هناك تاريخ ثابت يحدد زمن حادثة الإسراء، والمهم هو أن نعلم أن رحلة الإسراء والمعراج وقعت يقظة لا مناماً، وكانت بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه.
وإن حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس لتؤكد هوية القدس الإسلامية، وتوجب على الأمة إخراج اليهود منه، ولا يتم ذلك إلا برفع علم الجهاد، أما طاولة المفاوضات فلن ترد حقاً ولن تردع عدواً، وإنما هي استهلاك إعلامي، وتخدير للشعوب، وتمييع للقضية.(135/1)
تاريخ وتحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاًَ عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور وطبتم جميعاً أيها الآباء وأيها الإخوة الأعزاء وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت العامر على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك: (في ظلال الإسراء والمعراج)، وحديثي معكم سوف يتركز في العناصر التالية: أولاً: تاريخ وتحقيق.
ثانياً: ولماذا الإسراء؟! ثالثاً: الأقصى الجريح.
رابعاً: المعراج إلى السماوات العلى.
وأخيراً: دروس وعبر من الأحداث.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان.(135/2)
اختلاف العلماء في تحديد زمن الإسراء
أولاً: تأريخ وتحقيق: لقد اعتاد المسلمون -إلا من رحم الله جل وعلا من المحققين- أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، احتفالاً باهتاً بارداً لا يليق بمقام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لقد اعتقد الكثيرون أن الإسراء كان في ليلة السابع والعشرين، والتحقيق أن العلماء قد اختلفوا اختلافاً كبيراً في يوم الإسراء، بل في شهر الإسراء، بل في سنة الإسراء!! قال السدي: كان الإسراء في شهر ذي القعدة.
قال الزهري: كان الإسراء في شهر ربيع الأول.
قال ابن عبد البر: كان الإسراء في شهر رجب.
قال النووي: كان الإسراء في شهر رجب.
قال الواقدي: كان الإسراء في شهر شوال.
وفى قول آخر قال: كان في شهر رمضان.
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بستة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بتسعة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وستة أشهر، وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير، ومن ثم فإن اليوم والشهر والعام للإسراء لا يعلمه إلا الله.
والتحديد للإسراء بيوم وشهر ضرب من المجازفة والتخمين، ولا دليل عليه من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وربما يسمع الآن كثير من آبائي هذا الكلام ويعجب ويقول: كيف وقد احتفلنا السنوات الماضية بالإسراء ليلة السابع والعشرين؟! أقول: لو احتفل المصطفى وأصحابه والتابعون من بعد الأصحاب بذكرى الإسراء ليلة السابع والعشرين من شهر رجب في كل عام لعلم ذلك لنا ولنقل إلينا بالتواتر، فلما لم يحتفل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأتباع من بعدهم بذكرى الإسراء، وجب علينا أن يسعنا ما وسع هؤلاء الكرام.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، والتحقيق أن الإسراء كان بعد البعثة وقبل الهجرة من مكة زادها الله تشريفاً، وكان إلى المسجد الأقصى الجريح -خلَّصَه الله من أيدي إخوان القردة والخنازير- ثم من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى كما سأفصل الآن بحول الله وقوته.(135/3)
لماذا الإسراء؟
ثانياً: ولماذا الإسراء؟ وللجواب على هذا
السؤال
قصة! إنها قصة طفل طهور كالربيع!! إنها قصة طفل كريم كالنسيم!! إنها قصة طفل نشأ في مكة في بيئة تصنع الحجارة بأيديها، وتسجد لها من دون الله جل وعلا! بل كان الواحد منهم يصنع إلهه من خشب، أو من نحاس، أو حتى من حلوى أو من تمر! فإذا ما عبث الجوع ببطنه قام ليدس هذا الإله الرخيص في جوفه ليذهب عن نفسه شدة الجوع! في هذه البيئة نشأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فاحتقر هذه الأصنام، وأشفق على أصحاب هذه العقول، فترك هذه البيئة الشركية وانطلق بعيداً إلى قمة جبل النور إلى غار حراء؛ ليقضى ليله ونهاره في التأمل والتفكر والتدبر والتضرع.
وفى ليلة كريمة يخشع الكون، وتصمت أنفاس المخلوقات، ويتنزل جبريل أمين وحي السماء لأول مرة على المصطفى صلى الله عليه وسلم على قمة جبل النور، ليضم الحبيب المصطفى ضمة شديدة وهو يقول له: (اقرأ) والحبيب يقول: ما أنا بقارئ، وجبريل يقول: (اقرأ) والمصطفى يقول: ما أنا بقارئ، وفى الثالثة: غطَّه حتى بلغ منه الجهد، وقال للحبيب: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] وانطلق الحبيب بهذه الآيات وفؤاده يرتجف، وفرائصه ترتعد، وجوارحه تضطرب، حتى وصل إلى السكن إلى رمز الوفاء إلى سكن سيد الأنبياء إلى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها.
وصل إلى هذه الزوجة العاقلة الصالحة التي استحقت أن يسلم عليها ملك الملوك من فوق سبع سماوات، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (أن جبريل نزل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فرأى خديجة وهي تقبل على المصطفى، وتحمل إناءً فيه إدام من طعام أو شراب، فقال جبريل: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت، فإن هي أقبلت فأقرئها السلام من ربها).
عش مع هذا بقلبك وكيانك ووجدانك وجوارحك! امرأة تستحق أن يسلم عليها الملك من فوق سبع سموات! إن عبداً من العبيد لو أن هيئة مشبوهة قد كرمته ومنحته جائزة مشبوهة، من أجل تفوقه العفن النتن في مجال الفكر -زعموا- حيث لا أدب ولا فكر، فإنه يرفع على الأعناق وتشير إليه الأصابع، ويحتفى به على أعلى المستويات في هذه الأمة المسكينة التي خدعت على أيدي هؤلاء الذين انطلقوا ليقودوا الأمة على حين غفلة من أهل القيادة والريادة في هذه الأمة! (وأقرئها السلام من ربها ومني -أي: ومن جبريل- وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلما أقبلت خديجة بَشَّرَهَا المصطفى بهذه البشارة وقال يا خديجة: ربك يقرئك السلام وجبريل يقرئك السلام!! -فماذا قالت خديجة البليغة العاقلة العالمة؟ هل قالت: وعلى الله السلام أم ماذا؟ قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته).
خديجة، عاد إليها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، وهو يقول: زملوني زملوني غطوني دفئوني، ضعوا علي الأغطية، فاستجابت خديجة، حتى استيقظ الحبيب وقد هدأت نفسه، واستقرت جوارحه، وقال: (والله لقد خشيت على نفسي يا خديجة، وقص عليه، فبشرته بهذه الكلمة الطيبة وقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً) إلى آخر ما ذكرت، والحديث رواه البخاري وهو حديث طويل.(135/4)
الحكمة من فتور الوحي ثم تتابعه
ثم فتر الوحي لفترة قليلة -على الراجح- ثم نزل قول الله عز وجل على الحبيب المصطفى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1]، أي: يا أيها المتلف في هذه الأغطية: {قُمْ فَأَنذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:2 - 7] قم يا محمد! دع عنك هذه الأغطية، فما كان بالأمس حلماً جميلاً أصبح اليوم حملاً ثقيلاً.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5]، فقام الحبيب ولم يقعد عشرين سنةلم يعرف طعم الراحة ولم يذق طعم النوم لم يهدأ، وإنما انطلق على قدميه حاملاً نور الله عز وجل إلى هذه البشرية؛ ليخرجها من ظلمات الشرك وأوحال الوثنية، إلى أنوار التوحيد والإيمان برب البرية جل وعلا.(135/5)
الدعوة السرية
بعد أن نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] انطلق الحبيب يدعو الناس سراً إلى الإسلام ثلاث سنين يدعو الناس إلى دين الله تحت السراديب.
لماذا؟ لأن للأصنام جيوشاً غاضبة.
إن هؤلاء القوم يقتتلون من أجل ناقة! فما ظنك بآلهة فسيذبحون لها آلاف النياق إن مُس جنابها على يد محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم!(135/6)
الدعوة الجهرية
وبعد هذه المرحلة السرية نزل قول الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فقام الحبيب ملبياً أمر الله، فوقف على جبل الصفا، ونادى على بطون مكة: يا بني فهر! يا بني عدي! يا بني كذا! يا بني كذا! -والحديث في الصحيحين- فالتف حوله الناس من أهل مكة، ووقفوا بين يديه وعلى رأسهم أبو لهب وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم ليقيم الحجة على قومه بلغة النبوة، فقال: (أرأيتم لو أني أخبرتكم: أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: بلى، ما جربنا عليك كذباً قط، فقال الحبيب المصطفى: فإني رسول الله إليكم، فكان أول من تكلم أبو لهب عليه من الله ما يستحقه حيث التفت إلى الحبيب وقال: تباً لك سائر اليوم يا محمد!) إن أول من عادى الحبيب المصطفى عمه الذي قال له يوم الصفا: (تباً لك سائر اليوم يا محمد! ألهذا جمعتنا؟! فنزل قول الله عز وجل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5])، وبعد ذلك رعدت مكة وأبرقت، ودقت طبول الحرب على رأس المصطفى وأصحابه، وانطلقت مكة على قلب رجل واحد لتصب البلاء والإيذاء صباً على رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى ورد في صحيح البخاري أن عقبة بن أبي معيط -عليه لعنات الله المتوالية- انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخنقه خنقاً شديداً حتى كادت أنفاس المصطفى أن تخرج بين يديه، فجاء الصديق ليدفع هذا الفاجر الكافر عن رسول الله وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! وورد في تاريخ الطبري أنهم وضعوا التراب على رأسه إلى آخر ما تعرض له الحبيب المصطفى من أذى ومحن وفتن وابتلاءات.(135/7)
دعوة أهل الطائف وما لاقاه الحبيب المصطفى من أذى
لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أرض مكة صلدة قاسية لا تقبل بذرة التوحيد، وليست صالحة لتلقي الخير، انطلق الحبيب إلى الطائف يبحث عن أمل يبحث عن قلوب حانية لعلها تحمل هذا النور.
انطلق الحبيب صلى الله عليه وسلم على قدميه المتعبتين، لا يركب الراحلة؛ لأنه لا يمتلك الراحلة إذ ذاك، تحت شمس محرقة تكاد تذيب الحديد والصخور والحجارة، وعلى رمال ملتهبة إذا ما انعكست عليها أشعة الشمس كادت أن تخطف الأبصار، وكل من ذهب إلى تلك البلاد في حج أو عمرة، يعلم طبيعة هذه البيئة وشدة حرارتها.
انطلق الحبيب صلى الله عليه وسلم في هذه الجو وهو متعب يتألم، لاسيما وقد ازداد حزنه بموت زوجته خديجة وبموت عمه أبي طالب الذي كان حائطاً منيعاً لحملات المشركين في الخارج.
انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتلأ قبله بالحزن مشياً على الأقدام، لا يريد مالاً ولا يريد جاهاً ولا يريد وجاهة، إنما يريد لهؤلاء خيري الدنيا والآخرة، ولكن أهل الطائف فعلوا بالمصطفى ما لم يكن يتوقع، وما لم يكن يخطر بباله، فلقد سلطوا عليه الصبيان والسفهاء فرموه بالحجارة حتى أدمي الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
إنه المؤيد بمدد السماء إنه المؤيد بوحي السماء تلقى عليه الرمال، ويلقى عليه التراب، ويقذف بالحجارة حتى يسيل الدم الطاهر من جسده صلى الله عليه وسلم، وحتى ألجأه الصبيان والسفهاء إلى بستان لبني ربيعة، وهنالك رفع أكف الضراعة إلى الله كما في الحديث وإن كان شيخنا الألباني قد ضعفه، إلا أن الحديث قد رواه الإمام الطبراني وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات ما عدا ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وقد رأيت شاهداً آخر يقوي هذا الحديث عند ابن إسحاق موصولاً وكلاهما يقوي بعضهما الآخر، ولا بأس أن أستشهد به لا أن أستأنس به.
لجأ الحبيب إلى الله بهذه الدعوات الصادقة، فقال:: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربى، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ألا تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).(135/8)
التخفيف الإلهي لآلام وأحزان النبي صلى الله عليه وسلم
وهكذا عاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحمل في قلبه هموماً وأحزاناً دعوة مطاردة خديجة ماتت أبو طالب مات أصحاب مشردون في الحبشة أمر جلل! والمصطفى صلى الله عليه وسلم يحمل كل هذه الهموم وهو في طريقه إلى مكة يسمع نداءً كما في الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فيلتفت فإذا جبريل في سحابة في السماء ينادي على المصطفى ويقول: (يا رسول الله! إن الله جل وعلا قد سمع ما قاله قومك لك، وهذا ملك الجبال أرسله الله إليك فمره بما شئت.
يقول المصطفى: فسلم علي ملك الجبال وقال: السلام عليك يا محمد! فرد النبي عليه السلام، فقال ملك الجبال: يا محمد! مرني بما شئت، لو أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت) والأخشبان: جبلان عظيمان بمكة، يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر.
هذا ملك الجبال يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يحطم هذه الجماجم الصلدة، وهذه الرءوس العنيدة المتكبرة الكافرة المتحجرة، ووالله لو كان المصطفى ممن ينتقم لنفسه ممن ينتقم لذاته ممن يثأر لمنصبه ممن يثأر لمكانته، لأمر المصطفى ملك الجبال، ولحطم ملك الجبال هذه الرءوس ولسالت الدماء ليرى أهل مكة دماء أهل الطائف في مكة، ولكنه ما خرج لنفسه ما خرج لذاته، إنما خرج لله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] لا إلى جماعة بعينها، ولا لزعامة، ولا لمنصب ولا لقيادة ولا لريادة ولا لشهرة ولا لجاه: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ).
أيها الأحباب! دعوكم من هذه العصبيات المنتنة للجماعات، وللثارات وللرايات، وليس معنى ذلك: أنني أنكر صحة العمل الجماعي، وإنما أقول: شتان بين العمل الجماعي الذي هو أصل من أصول الدين، وبين التعصب لجماعة بعينها تعصباً بغيضاً أعمى، يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان واضحاً كالشمس في وضح النهار! (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ).
أيها الأحباب! لو كان المصطفى صلى الله عليه وسلم ممن يدعو لنفسه ولذاته؛ لأمر ملك الجبال فحطم ملك الجبال تلك الرءوس والجماجم ولسالت الأودية أنهاراً من الدماء حتى يرى أهل مكة دماء أهل الطائف بمكة لكن: ماذا قال الحبيب نهر الرحمة وينبوع الحنان؟! قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا، بل إنني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله جل وعلا) أي: من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً إنها الرحمة! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] وهذا نصر من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وما إن وصل الحبيب إلى مكة زادها الله تشريفاً إلا ورأى كرامة أخرى له من الله عز وجل ليرى جبريل في انتظاره؛ ليأخذه إلى هذه الرحلة المباركة إلى رحلة الإسراء والمعراج، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يقول لحبيبه المصطفى: يا رسول الله! إن كان أهل مكة وأهل الطائف قد رفضوك فإن رب السماء والأرض يدعوك! يا محمد! لا تظن أن جفاء أهل الأرض يعني جفاء السماء، بل إن الله يدعوك اليوم ليعوضك بجفاء أهل الأرض حفاوة أهل السماء.
الله أكبر! يرجع الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بيت أم هانئ -لنجمع بين الأحاديث وبين الروايات إذ لا تعارض بينهما كما قال الحافظ ابن حجر - فيأتيه جبريل فيشق البيت ليأخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ إلى الحجر، أو إلى الحطيم في بيت الله الحرام، ثم بعد ذلك تبدأ رحلة الإسراء بشق صدر المصطفى، والحديث متفق عليه.
يشق جبريل صدر النبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أنه قد شق صدره قبل ذلك وهو غلام صغير حينما كان في ديار بني سعد عند مرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها، يشق صدره وبعدها تبدأ الرحلة المباركة.(135/9)
وتبدأ رحلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
ورد في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أنه صلى الله عليه وآله وسلم: (حينما قال له أبو ذر: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ فقال الحبيب المصطفى: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما، قال أربعون سنة، قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فالأرض كلها مسجد).
وكما في الحديث الآخر واللفظ لـ مسلم من حديث أنس: (أتيت بالبراق) وبكل أسف قرأنا عن البراق هذا، وسمعنا ما يستحي الإنسان أن يردده الآن في أمة ينبغي أن تحترم علمها وقرآنها ونبيها وعقلها.
سمعنا أن له عرفاً كالديك، وأن له أجنحة وأن وأن وأن! البراق بنص الحديث الصحيح، قال عنه المصطفى: (دابة) وحدد النبي لونه فقال: (أبيض) وحدد صفته، فقال: (فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) له سرعة مذهلة! وقف الحافظ ابن حجر عند قوله: (البراق) فقال: البراق من البريق.
أي: من اللمعان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد لونه بالبياض، وقال: البراق من البرق، والبرق ضوء.
وهذا هذا هو البراق أيها الأحباب! وورد عند الترمذي، والإمام أحمد في المسند، وعبد الرازق في مصنفه، والبيهقي في السنن من حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انطلق ليركب البراق استصعب عليه، فقال جبريل للبراق: ما حملك على هذا؟ والله ما ركبك أحد من خلق الله أكرم على الله منه -أي: من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم-)، والحديث رواه أحمد والترمذي وعبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن وهو صحيح على شرط الشيخين.
ركب النبي صلى الله عليه وسلم البراق وانطلق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في هذه الرحلة الجميلة وعنصر الإعجاز في رحلة الإسراء الأرضية هو الزمن، إذ كيف انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى في زمن قليل؟! وهذا الذي أنكره المشركون في مكة، فقالوا: نضرب لها أكباد الإبل شهراً من مكة إلى بلاد الشام، وأنت تقول: بأنك انطلقت من مكة إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى وعدت في جزء من الليل! يقول الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] و (ليلاً) عند علماء اللغة، أي: في جزء من الليل ولم يقل: ليلة، ولنقل إن الإسراء قد استغرق ليلة بكاملها لا، بل استغرق جزءاً من الليل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
وختمت الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وكان من السياق: (إنه على كل شىء قدير)، (إنه عزيز حكيم) ليظهر عظمته وقدرته، وإنما قال (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: الذي سمع قول قومك لك، ورأى فعل قومك بك فأراد أن يكرمك وأن يشرفك.
والإسراء معجزة ليست تأييداً للدعوة وإنما هي تأييد في المقام الأول لصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحباب! إننا أمام معجزة فريدة، ليست تأييداً للدعوة بقدر ما هي تأييد لصاحب الدعوة، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(135/10)
الأقصى جريح
الأقصى الجريح: عنصرنا الثالث في هذا اللقاء الكريم.
إنه الأقصى الذي تدوسه الآن أقدام إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود، على مرأى ومسمع من العالم كله، بل لقد تبنت زعيمة الكفر على ظهر الأرض أمريكا هذه المقولة الخطيرة التي تغنى بها أعضاء الكونجرس حيث قالوا: سننقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ لتصبح القدس عاصمة أبدية لأبناء يهود، ولإخوان القدرة والخنازير! عار وشنار على ألف مليون! أين هم؟! أين من لا يجيدون إلا لغة الجعجعة والصياح والشجب والاستنكار؟! هل ستصبح القدس الشريفة مسرى الحبيب محمد وأولى القبلتين وثالث الحرمين عاصمة أبدية لإخوان القردة والخنازير والمسلمون لا يجيدون إلا الشجب والصياح والاستنكار والجعجعة، ولا يجيدون إلا لغة الإنكار في الجرائد والمجلات؟ أين هم؟! أين العمل؟! أين السلوك؟! أين الأخلاق؟! أين الإسلام الذي أمرهم الله أن يحولوه إلى واقع، وإلى منهج حياة؟! لا أصل له ولا أثر، لا يجيدون إلا الاحتفالات.
نحتفل بذكرى الإسراء، ونسمع القصائد والأشعار ونسمع الكلمات، ونحتفل بذكرى المولد، ونحتفل بذكرى النصف من شعبان.
هؤلاء هم الذين عشقوا الهزل يوم أن كرهوا الجد والرجولة والبطولة والجهاد في سبيل الله! لقد كان المسجد الأقصى قبلة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الصلاة، واشتاق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام، فنزل قول الله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] فأمر الله بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وهو المسجد المبارك الثالث الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشد الرحال إليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم) يعني: لا يجوز لك أن تشد الرحل إلى مسجد ولي من الأولياء، وإنما تشد الرحل فقط إلى المسجد الحرام في مكة، وإلى المسجد الأقصى في فلسطين الذبيحة، وإلى مسجد المصطفى في المدينة المنورة.
أسأل الله أن يرزقني وإياكم صلاة في مسجده الحرام، وصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وصلاة في المسجد الأقصى؛ إنه ولي ذلك ومولاه!(135/11)
الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة
أيها الأحبة! إن الصراع بين المسلمين واليهود صراع عقيدة ووجود وليس صراع أرض وحدود، فلو كانت القضية قضية دولة وقضية أرض لانتهت منذ مئات السنين، ولكنها قضية اعتقاد قضية وجود لهذه الأمة أو لا وجود.
المسجد الأقصى الآن يداس بأنجس الأرجل!! الحفريات تحت جدران المسجد الأقصى من كل ناحية مستمرة إلى يومنا هذا، وهذا معلوم للقاصي والداني، وللصغير وللكبير فالحفريات تحت جدران المسجد مستمرة، بحجة التوسعة وبحجة الترميم! ليسقط المسجد الأقصى، وليقيم إخوان القردة والخنازير عليه ما يسمونه بهيكل سلميان.
إنها حقائق لابد أن ترسخ في القلوب والعقول.
الصراع بين اليهود وبين المسلمين صراع عقائدي، ولن ينتهي إلى قيام الساعة، ومن ثم فإن ما يحاوله البعض من القيام بحلول عبر مفاوضات ومؤتمرات، إنما هو تضييع للوقت وللجهد وللمال ومسخ للهوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال والحديث في الصحيحين، من حديث أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فينطق الله الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله! قال المصطفى: إلا الغرقد فإنه من شجر يهود) والآن يقوم اليهود بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد الذي لن ينطق؛ لأنهم يصدقون كلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في وقت كذب فيه كثير من أبناء أمة الحبيب الحبيبة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! الأقصى فتحه عمر وحرره صلاح الدين فهل من صلاح جديد!!(135/12)
الجهاد الطريق الوحيد لتحرير الأقصى
أيها الأحبة! فلنتق الله ولنعد إليه ولنرجع إلى الدين، ولنتخل عن هذه القنوات المشبوهة وعن هذه القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة التي نتحدى بها مولانا، ولنرجع إلى الله، فوالله ثم والله، ثم والله لن يحرر الأقصى جيل تربى على الخلاعة جيل تربى على الميوعة جيل تربى على الأفلام القذرة جيل تربى على المسلسات الداعرة لن يحرر الأقصى إلا جيل أحب الآخرة، كما أحب أصحاب المصطفى الآخرة جيل يحب الموت في سبيل الله كما يحب جيلنا الآن الحياة لن يحرر الأقصى إلا إذا رفع علم الجهاد.
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد! أيها الأحباب! إن من أبناء الأمة الآن من يتمنى بكل قلبه أن لو رفعت راية الجهاد ليسد فوهة المدافع بصدره وليلقى الله عز وجل شهيداً سعيداً فما أرخصها من حياة حياة الذل والهوان والعار! إن لم تمت بالسيف مت بغيره تعددت الأسباب والموت واحد لا شرف لهذه الأمة إلا بذروة سنام هذا الدين إلا بالجهاد في سبيل الله، ورحم الله ابن المبارك الذي أرسل برسالة من ميدان الجهاد من ميدان الشرف والبطولة إلى أخيه العابد التقي النقي عابد الحرمين الفضيل بن عياض ليبين له فيه شرف الجهاد، فقال له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -وهذا نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذنان البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
إنه الذل! الذل لمن؟! لإخوان القردة والخنايز.
الذل لمن؟! للشيوعيين في الشيشان.
الذل لمن؟! للصليبيين الحاقدين في البوسنة.
الذل لمن؟! لأحقر أمم الأرض لعباد البقر في الهند.
إنه الذل: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).
اللهم كما فتحت المسجد الأقصى على يد عمر وحررته على يد صلاح الدين فارزق الأمة بصلاح ليحرر الأقصى من جديد يا رب العالمين! أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا برحمتك يا أرحم الراحمين! يقول الله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ} [الإسراء:1] أي: لنري الحبيب المصطفى (مِنْ آيَاتِنَا) من آيات الله (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
ما وجه الاعتراض من المشركين؟ قالوا: كيف تقطع هذه المسافة في جزء من الليل؟! أقول أيها الأحبة: إن معتقد أهل السنة والجماعة: أن الإسراء كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه يقظة لا مناماً.
لماذا ينكر المشركون ذلك، وينكره من يعبد العقل الآن؟! ينكرون ذلك لعنصر الزمن، إذ كيف يقطع هذه المسافة التي يقطعها الناس في شهور في لحظات؟!! وأنا أقول: سبحان: تنزيه لأفعاله وأسمائه وصفاته جل وعلا.
أي: إذا كان الفعل من الله فنزهوا فعل الله عن فعلكم، ونزهوا صفات الله عن صفاتكم، ونزهوا قول الله عن قولكم.
(الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ): والعبد لغة: تطلق على الإنسان بروحه وبدنه، ولا يطلق لفظ العبد على الروح دون البدن (الذي أسرى بعبده ليلاً) والسري: هو السير ليلاً، وبعضهم قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60] فلقد كانت رؤيا منام؟! نقول: لو كانت رؤيا في المنام ما ضج المشركون، وما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أني قلت لك الآن: لقد رأيت بالأمس في نومي أني ذهبت إلى مكة، وطفت بالبيت سبعاً، ومشيت بين الصفة والمروة سبعاً، وحلقت، ثم انطلقت إلى المدينة وعدت بعد ذلك، هل ستنكر علي؟ لن تنكر علي؛ لأنني أقول لك: رأيت في الرؤيا رأيت فيما يرى النائم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنها رؤيا نوم ما أنكر المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
أخي! خذ معي هذا الدليل الذي يحلو لبعض من يريد أن يقدم العقل في كل شيء أن يستمع إليه، أنا بداية لا أقلل من قدر العقل ولا من شأن العقل ولا أريد أن أمتهن العقل، إنما أقول: إن نور الوحي يزكي ويبارك نور العقل، بشرط أن يذعن العقل لله رب العالمين.
أقول: لو أنني حملت طفلي الرضيع وصعدت به إلى قمة جبل من الجبال، ثم قلت لكم: لقد صعدت بولدي إلى قمة هذا الجبل، هل سيسأل عاقل طفلي الرضيع ويقول: كيف صعدت أيها الطفل هذا الجبل؟! إن الذي أسرى به هو الله، فلا تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن إسرائه، وإنما إن شئتم فاسألوا الذي أسرى به جل وعلا، والقاعدة تقول: إن الزمن يتناسب تناسباً عكسياً مع القوة أو القدرة، بمعنى: لو ركبت سيارة إلى القاهرة فستقطع بك المسافة في زمن معين، ولو ركبت طائرة ستقطع بك المسافة في زمن أقل، فلو ركبت صاروخاً سيقطع بك المسافة في زمن أقل، فإن ركبت مركبة فضاء ستقطع بك المسافة في زمن أقل، وهكذا يقل الزمن مع قوة القدرة التي تحملك إلى هذا السفر، وإذا علمت ذلك فاعلم أن القوة التي حملت المصطفى هي قوة الله.
إذاً: لا عجب، فإن الذي أسرى بعبده هو الله، والأمر بين ولله الحمد، ونحن الآن رأينا الصاروخ ورأينا الطائرة وإن كان العربي الأول في أرض الجزيرة لم ير هذا.
رأينا الطائرة ورأينا الصاروخ ورأينا مركبة الفضاء، وعلمنا سرعة الضوء الذي هو برق، وعلمنا أن البراق من البرق إلى آخره.
اتضحت الآن لنا الصورة أكثر بكثير مما كان عليه الحال عند العربي الأول في أرض الجزيرة العربية، والآن رأينا المصعد الكهربي، بل ورأينا السلم الكهربي، وإذا ذهب أحدكم إلى حج بيت الله فسيرى هذا السلم الكهربي، وبعضكم رآه في المطارات، وهناك الآن مصاعد كهربائية تصعد إلى ما يزيد عن مائة دور في أقل من دقيقتين.
فثلاً مركز التجارة العالمي في أمريكا يزيد على مائة دور، وللدور الأخير فقط مصعد مختص به، إذا ما ركب أحدكم هذا المصعد الكهربائي لا يرى إلا أن تثبت الشاشة: الدور الأول، وإذا ما أغمض عينه وفتحها فيرى الشاشة تعطيه الإشارة أنه قد وصل إلى الدور الذي يزيد عن مائة! إذا كان هذا من صنع الإنسان الذي خلقه الله فكيف بالخالق الذي يقول للشيء (كن) فيكون: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33].
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(135/13)
ابتداء رحلة المعراج من بيت المقدس إلى سدرة المنتهى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: بدأت الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى ركعتين، وبعدما خرج وجد جبريل يقدم له إناءين: إناءً من لبن، وإناءً من خمر، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن، فقال له جبريل: قد أصبت الفطرة يا محمد! ثم تبدأ رحلة المعراج، وهنا نرجع مرة أخرى إلى حديث أنس في صحيح البخاري.
يقول: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى السماء الأولى فاستفتح، فقيل: من؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم)، ولا تفهم أخي قوله: (أوقد بعث إليه) أي: هل هو رسول مبعوث من قبل الله؟! وإنما المراد: أوقد بعث إليه ليصعد إلى الملأ الأعلى، (أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: فمرحباً به فنعم المجيء جاء، يقول: وإذا آدم عليه السلام، فيقول جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فيقول المصطفى: فسلمت عليه في السماء الأولى فرحب بي، ورد علي السلام، ودعا لي بخير وقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فرأيت عيسى ويحيى ابنا الخالة، فقال جبريل: هذا يحيى وعيسى سلم عليهما، فسلم النبي عليهما فردا عليه السلام، وقالا له: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ودعيا للنبي بخير.
يقول: ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة يقول: فإذا يوسف، فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم النبي عليه وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح إلى آخره، ثم قال له إدريس في الرابعة مثل ذلك، ثم قال له هارون في الخامسة مثل ذلك، ثم قال له موسى في السادسة مثل ذلك، ثم قال له إبراهيم في السابعة، مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، كما قال آدم عليه السلام، يقول المصطفى: ثم رفعت إلى سدرة المنتهى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:1 - 14]) الرائي هو محمد، والمرئي هو جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته التي خلقه الله عز وجل عليها.
يقول: (فرفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا نبتها كقلال هجر)، الثمرة من النبق -الثمر المعروف- كقلال هجر، ضخامة: (وإذا ورقها كآذان الفيلة)، جمع فيل أو جمع فيول، واللغتان صحيحتان: (وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال المصطفى: ما هذا يا جبريل؟! فقال جبريل: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران، فالنيل والفرات)، أصلهما من الجنة، ولكن لا تفهم أنهما الآن متصلان بالجنة.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثم رفع لي البيت المعمور)، والبيت المعمور بناء كالكعبة، والراجح والصحيح أن في كل سماء بيتاً معموراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في السماء السابعة إبراهيم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهو بمحاذات بيت الله الحرام، بمعنى: لو خر البيت المعمور لخر على الكعبة، والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون، فإن غفلت أنت عن الذكر فعنده من يذكره جل وعلا، لا يغفلون عن ذكره ولا يفترون: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20].
وفي رواية صحيحة: (ثم انطلقت إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام) اقترب النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرب الكبير وكرمه الله هذا التكريم العظيم ثم فرض الله عليه الصلاة، خمسين صلاة فقبل ورضي وسلم واستسلم فهو المطيع لربه دوماً، ولما مر على إبراهيم في السابعة لم يقل له شيئا وقد تلحظ طبيعة إبراهيم في هذا: إنه لأواه حليم: (ثم مر على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال له موسى -الذي قد تلمح طبعه أيضاً من هذا، بل ومن آيات كثيرة في القرآن- قال: فما أمرت؟ قال: أمرني الله بخمسين صلاة كل يوم وليلة، فقال موسى: لقد جربت الناس قبلك، إن أمتك لا تستطيع ذلك، فلقد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك) صلى الله على موسى وصلى الله على محمد، لا نفرق بين أحد من رسوله ولا داعي لسرد الأقوال التي تنضح بالحقد، والتي تريد أن تبث العداء بين أنبياء الله ورسوله، فالحديث صريح في لفظه وواضح في معناه، لا يحتاج إلى لي لأعناق الكلمات ولا لأعناق النصوص.
قال موسى: (إني قد عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع المصطفى إلى الله، فحط الله عنه عشراً، وعاد إلى موسى فقال: ارجع، فحط الله عنه عشراً وهكذا حتى بلغت الصلاة عشراً فقال له موسى: ارجع، فرجع حتى حط الله عنه خمساً، وفرض الله عليه خمس صلوات فلما عاد إلى موسى قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فقال له له المصطفى: إني قد استحييت من ربي عز وجل وإنما أرضى وأسلم، يقول: فانطلقت فسمعت المنادي يقول: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي).
وهكذا أيها الأحبة! تنتهي رحلة المعراج.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المكان المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم أقلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(135/14)
وصف الجنان
لقد أعد الله عز وجل لعباده المتقين المؤمنين المحسنين جنات عرضها السماوات والأرض، ورغبهم فيها، وقد وصفها سبحانه -ووصفها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أنه دخلها ليلة الإسراء والمعراج، ورأى قصورها وأنهارها وثمارها وحورها- وصفاً دقيقاً، كأن من يستمع إليه يراها رأي العين.(136/1)
وصف الجنة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً.
وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية كريمة جمعت بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، كان هدفي من ورائها: أن أجدد الإيمان في قلبي وفي قلوب إخواني وأخواتي في الله جل وعلا، في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.
ونحن اليوم -بحول الله وطوله- على موعد مع اللقاء الأخير من لقاءات هذه السلسلة الكريمة المباركة.
وكنّا قد توقفنا في اللقاءين الماضيين مع أحوال الناس في المرور على الصراط، فمنهم من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يمر عليه كطرف العين، ومنهم من يمر عليه كالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، فناجٍ مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس في نار جهنم.
فإذا ما نجى الله أهل الإيمان من النيران، وعبروا الصراط بأمن وأمان؛ انطلق بعد ذلك أهل التوحيد والإيمان إلى جنة الرحيم الرحمن، وقبل أن ينطلق المؤمنون إلى الجنة فإنهم يحبسون على قنطرة بين الجنة والنار؛ ليطهرهم الله جل وعلا من المظالم التي كانت بينهم في الدنيا.
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون -أي: من النار- حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار؛ ليقتص الله عز وجل من المظالم التي كانت بينهم، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، يقول المصطفى: فوالذي نفسي بيده! لأحدهم أهدى -أي: أعرف- بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا).
أي: أنهم ينطلقون مباشرة إلى الجنة، وكل واحد يعرف بيته ودرجته، ولا يحتاج أحد من أهل الإيمان والجنان أن يستفسر عن بيته من أحد آخر.
يقول ابن عباس: (فينطلقون إلى بيوتهم في الجنة، كما ينطلق أهل الجمعة بعد الجمعة إلى منازلهم).
أيها الأحبة! تعالوا بنا لندخل الجنة مع هؤلاء بأرواحنا وقلوبنا، سائلين المولى جل وعلا أن يجمعنا فيها بحبيبنا ونبينا؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
والحديث عن الجنة حديث طويل ذو شجون، إنه حديث يحرك القلوب إلى أجل مطلوب، إنه حديث يشوق النفوس إلى مجاورة الملك القدوس، وسوف أركز لنركز الحديث في هذا الموضوع الرقيق الجميل في العناصر التالية: أولاً: وصف الجنة.
ثانياً: أدناهم منزلة وآخرهم دخولاً.
ثالثاً: نعيم أهل الجنة.
رابعاً: هل رضيتم؟ وأخيراً: فما الطريق إلى الجنة؟ فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلننا من أهل الجنان، وأن يجمعنا فيها بسيد ولد عدنان؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو الرحيم.
أولاً: وصف الجنة.
أحبتي الكرام! لا يجوز لنا بحال مهما جنح بنا الخيال أن نتكلم كلمة في وصف الجنة إلا بآية من آيات الكبير المتعال أو بحديث من أحاديث سيد الرجال؛ لأن الجنة غيب لا ينبغي للمخلوق أن يتكلم عنها إلا بآية أو حديث، ولا يستطيع أحد بحال مهما صدح به الخيال أن يتصور جنة ذي العظمة والجلال؛ فنعيم الجنة فوق الوصف، ويقصر دونه أي خيال، فتعالوا بنا لنعيش مع آيات القرآن، ومع كلمات النبي عليه الصلاة والسلام؛ لنعيش في هذه اللحظات بأرواحنا وقلوبنا في جنة ربنا إلى أن يمن الله سبحانه وتعالى علينا لنستقر فيها بأبداننا وأرواحنا، برحمته ومنته؛ إنه على كل شيء قدير.
نقول في وصف الجنة بما يقول فيها ربنا؛ فإنه هو خالقها، وهو الذي غرس كرامتها بيديه لأوليائه، ونقول فيها بقول نبينا الذي رأى الجنة وشاهدها مشاهدة العيان، فنبينا دخل الجنة ليلة الإسراء والمعراج ورآها بعينيه، ونبينا رأى الجنة في الدنيا، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف ثم فعل أمراً لم يفعله من قبل، مد يده وكأنه يريد أن يأخذ شيئاً، ثم تركه وتقهقر -أي: تأخر- فلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأنهى صلاته قال له الصحابة: يا رسول الله! رأيناك فعلت شيئاً لم تفعله، رأيناك تناولت شيئاً ثم تقهقرت، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة، وتناولت منها عنقوداً -أي: من فاكهتها وثمارها- ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا).
أي: لأكلتم من هذا العنقود الواحد ما بقيت الدنيا.(136/2)
قصور الجنة وبناؤها
في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أدخلت الجنة -أي: ليلة الإسراء والمعراج -فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -أي: القباب العالية من اللؤلؤ- وإذا تربتها -أي: طينتها- المسك).
فربنا هو الذي يصف لنا الجنة؛ لأنه خالقها، ونبينا هو الذي يصف لنا الجنة؛ لأنها دخلها ورآها بعينيه في الدنيا، دخلها ليلة الإسراء والمعراج؛ وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لأمته عن نعيم الجنة هو حديث من رأى بعينيه، وسمع بأذنيه؛ وليس الخبر كالمعاينة.
فاسمع ماذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم! سأل الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يصف لهم الجنة فقال الحبيب: (الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة -أي: طوبة- وملاطها المسك الأذفر، وتربتها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والمرجان، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم).
فلا تبلى الثياب في الجنة، ولا ينتهي الشباب في الجنة، ولا ينقطع النعيم في الجنة.
وأرجو أن تجنح معي وأن تتصور كلمات الصادق الذي لا ينطق عن الهوى حين وصف لنا بيتاً في الجنة من لؤلؤة مجوفة، تصور معي بيتاً من لؤلؤة مجوفة! وتصور معي قصراً مبنياً من الذهب الخالص! كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: (نزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرأى خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال جبريل للمصطفى: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب أي: قصب اللؤلؤ، وليس ما يتبادر إلى أذهاننا من النبات المعروف- لا صخب فيه ولا نصب)، أي: لا تسمع فيه خديجة ضوضاء، ولا تتألم فيه ولا تحزن، ولا ينتابها الهم أبداً.
أما القصر من الذهب ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أدخلت الجنة -أي: ليلة الإسراء والمعراج- فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا لي: هذا القصر لفتىً من قريش -لشاب من شباب قريش- يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فظننت أني أنا هو -أي: ظن المصطفى أن هذا القصر له صلى الله عليه وسلم- فقيل لي: لا، هذا لـ عمر بن الخطاب، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عمر: فأردت أن أدخله لأنظر إليه يا عمر فتذكرت غيرتك، فبكى عمر وقال: بأبي أنت وأمي! أو عليك أغار يا رسول الله؟!) فتصور معي بيتاً من لؤلؤة، وتصور معي قصراً كاملاً من ذهب خالص، فأي نعيم هذا؟!! وأي فضل هذا؟!! يعيش ملك من ملوك الدنيا أو أمير من الأمراء في قصر لو دخلت إليه لكاد -ورب الكعبة- أن يطيش عقلك.
لقد دخلت قصراً في الإمارات لأمير من الأمراء دعاني إلى الزيارة، ورب الكعبة! لقد كاد عقلي أن يطيش، فقلت لإخوة معي: يا إخوة! هذا الذي نراه من إعداد البشر للبشر، فما ظنكم بإعداد رب البشر، في جنة لم يخطر نعيمها على قلب بشر؟! ففي الجنة بيت من لؤلؤة، وقصر من ذهب، وبناء الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة.
ويزداد الجمال إذا عرفت أن هذه البيوت وهذه القصور تجري من تحتها الأنهار.
تصور معي قصراً من ذهب فوق نهر، وبيتاً من لؤلؤة فوق نهر، إنه منظر عجيب! والأنهار: نهر من ماء، ونهر من لبن، ونهر من خمر، ونهر من عسل، قال عز وجل: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15]، اللهم اجعلنا من أهلها.
تجري هذه الأنهار من الماء، والأنهار من اللبن، والأنهار من الخمر، والأنهار من العسل، تحت هذه البيوت والقصور، ويزداد الجمال ويزداد الكمال ويزداد الحسن بالأشجار والظلال والثمار.(136/3)
أشجار الجنة وثمارها
هل تعلمون أنه ما من شجرة في الجنة إلا وساقها من الذهب الخالص؟! فلا تظنوا أن شجر الجنة كشجر الدنيا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (شجر الجنة ساقها من الذهب الخالص).
وفي الصحيحين عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب -وليس الماشي- في ظلها مائة عام، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]).
شجر الجنة لا ينقطع ثمره، ولا ينقطع عطاؤه، وأما شجر الدنيا فمنه ما يثمر في الصيف، ومنه ما يثمر في الشتاء، ومنه ما يثمر في الربيع أو في الخريف، لكن شجر الجنة دائم العطاء، ودائم الظل، ودائم الثمار، وتدبر معي قول الملك جل وعلا وهو يقول: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:27 - 34] ثمر الجنة لا ينقطع، وظل الجنة دائم لا ينتهي، وبالجملة يقول عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال: اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).(136/4)
أدنى أهل الجنة منزلة وآخرهم دخولاً الجنة
علينا أن نتدبر جميعاً؛ لكي نتعرف على نعيم آخر رجل يدخل الجنة؛ ليتضح لنا بعد ذلك نعيم أهل الدرجات العلى.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى بن عمران -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ربه جل وعلا وقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله جل وعلا: يا موسى! ذلك رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ -يعني: ينطلق فيخيل إليه من كثرة أهل الجنة أن الجنة قد امتلأت، ولم يعد له مكان بين أهلها- فيقول الله جل وعلا: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول العبد: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب جل وعلا: لك ذلك وعشرة أمثاله معه، ولك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك).
الله أكبر! هذه منزلة أدنى رجل في الجنة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى مقعد أحدكم من الجنة أن يقال للرجل: تمن -أي: اطلب ما شئت وتمن- فيتمنى، فيقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، فيقول الله سبحانه: لك ما تمنيت ومثله معه).
هذا هو أدنى أهل الجنة منزلاً، فكيف يكون حال آخر رجل يدخل الجنة؟ في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آخر رجل يدخل الجنة رجل يمشي مرة -أي: على الصراط- ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، حتى إذا ما نجاه الله وعبر الصراط، التفت إلى النار من خلفه وقال: تبارك الذي نجاني منك، الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين -ولمَ لا وربنا جل وعلا يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]؟! -يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فترفع له شجرة من شجر الجنة، فإذا رآها العبد قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة -أي: قربني إليها- لأستظل بظلها، ولأشرب من مائها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو أدنيتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها -وهل بعد هذا النعيم من نعيم؟ - فيقربه الله منها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، ثم ترفع له شجرة -أي: ثانية- هي أحسن من الأولى، فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها ولأشرب من مائها، فيقول الرب جل وعلا: يا بن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت؟ فيقول: وعزتك! لا أسألك غيرها، فيقول الله جل وعلا: فهل لو قربتك منها ستسألني غيرها؟ يقول: لا، لا أسألك غيرها، فيقربه الله جل وعلا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، يقول الحبيب: ثم ترفع له شجرة -أي: ثالثة- عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين، فإذا ما رآها وسمع قال: أي رب! أدنني من هذه الشجرة، وعزتك لا أسألك غير هذه، فيقول الله: ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير الذي سألت، فيقول: وعزتك لا أسألك غيرها: فيقربه الله منها، فإذا ما اقترب منها وسمع أصوات أهل الجنة يقول: أي رب! أدخلني الجنة!! فيقول الرب: يا بن آدم! ما يرضيك مني؟ - أي: أي شيء يرضيك؟ - أيرضيك أن تكون لك الدنيا ومثلها معها، فيقول العبد: أتهزأ مني وأنت رب العالمين؟!! وهنا ضحك ابن مسعود، وقال لأصحابه: لمَ لا تسألونني: ممَ أضحك؟ قالوا: مم تضحك يا ابن مسعود؟! قال: أضحك لضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد ضحك النبي، فسئل: ممَ تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العزة، فإن العبد لما قال للرب: أتهزأ مني وأنت رب العالمين، يضحك الرب جل وعلا من عبده ويقول: لا أستهزئ منك، ولكني على ما شاء قادر).
هذا هو آخر رجل يدخل الجنة.
وأقول: الضحك صفة من صفات الحق جل وعلا، يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت في النص النبوي، من غير تحريف للفظها أو لمعناها، ومن غير تعطيل أو تكييف أو تمثيل، قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فكل ما ببالك فالله بخلاف ذلك، جل الله عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل، فلا ند له، ولا كفء له، ولا ولد له، ولا شبيه له، كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
هذا هو حال آخر رجل يدخل الجنة.(136/5)
نعيم أهل الجنة(136/6)
نساء أهل الجنة
أما نساء أهل الجنة فوصفهن لا يقوى عليه بليغ، ولا يملكه أديب، فتعال معي لنسمع وصف خالق نساء الجنة.
زوجتك التي معك الآن في الدنيا إن كانت من الصالحين ومن أهل الجنان فهي زوجتك كذلك في جنة الرحيم الرحمن، بعدما يهيئها ربها ويعدها إعداداً جديداً يليق بكمال الجنة وجمالها وحسنها، وسترى امرأتك في الجنة في ريعان الشباب، حتى ولو ماتت بعد المائة ستراها في الجنة في ريعان الشباب في الثلاثين من عمرها في غاية الحسن والجمال والجلال؛ لأن الكبير المتعال سينشئها لك إنشاءً جديداً يليق بحسن الجنة وجمالها.
والمرأة في الجنة عروب، والعروب في لغة العرب: هي المرأة التي لا تحسن أبداً إلا أن تقول لزوجها كلاماً رقيقاً جميلاً، ولا تستطيع أن تقول كلمة سيئة.
ونساء الجنة أتراب، أي: في سن واحدة، وهن لأصحاب اليمين.
ومع نساء الدنيا يمن ربنا جل وعلا على أهل الجنة بالحور العين، والحور: جمع حوراء، والحوراء هي: المرأة الشابة الحسناء الجميلة شديدة سواد العين، والحور خلق ليس من جنس خلق بنات آدم وبنات حواء، بل إن الحور خلق يهيئه الملك الغفور لأهل الجنة، ولا يعلم حسنه إلا الله، يقول ربنا جل وعلا في وصف الحور في أواخر سورة الرحمن: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70]، (خيرات) أي: لا يظهر منهن الشر أبداً، (حسان) أي: جميلات، {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:70 - 78].
تبارك الله أحسن الخالقين! ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصف الحور -والحديث في صحيح البخاري - (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولنصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
وفي رواية أحمد وأبي يعلى بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينظر أحدهم وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن اللؤلؤة الواحدة على رأسها لتضيء ما بين السماء والأرض).
وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للمؤمن في الجنة خيمة طولها ستون ميلاً في السماء، له فيها أهلون يطوف عليهن لا يرى بعضهم بعضاً).
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل واحد منهم زوجتان -أي: من الحور- يرى مخ سوقهما من وراء الثياب من شدة حسنهن وجمالهن، قلوبهن كقلب واحد؛ لا تباغض بينهن ولا تحاسد، يسبحن الله بكرة وعشياً).
إنه وصف عجيب! ومن أعجب ما قرأت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحور يستقبلن أزواجهن من أهل الجنة بالغناء بأحسن الأصوات؛ ما سمع أحد صوتاً أحسن منه قط)، ففي الحديث الذي رواه الطبراني من حديث ابن عمر، وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع، قال: (وإن مما يتغنين به -أي: الحور- لأزواجهن في الجنة أن يقلن: نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه، نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان).
هذا بعض وصف النساء في الجنة.(136/7)
تفاوت نعيم أهل الجنة
تدبر معي أيها الحبيب! في نعيم أهل الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا جميعاً من أهلها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نعيم أهل الجنة نعيم يفوق الوصف، ويقصر دونه خيال أي بليغ أديب مرهف الحس والمشاعر، وأرجو أن نعلم ابتداءً أن أهل الجنة في الجنة متفاوتون في النعيم، محال أن يكون أهل الإيمان بتفاوت إيمانهم ويقينهم في درجة واحدة، بل كل ينزل منزلة ودرجة في الجنة على حسب إيمانه ويقينه في الدنيا، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:19 - 21].
كما فضل الله عز وجل أهل الدنيا في الدنيا بالدرجات، كذلك فضل الله عز وجل أهل الآخرة بالدرجات ((وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً)).
فالناس متفاوتون في النعيم، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة).
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وتدبروا هذا الحديث الرقراق-: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري في الأفق من المشرق أو المغرب، فقال الصحابة: يا رسول الله! هؤلاء هم الأنبياء الذين لا يشاركهم في منازلهم أحد، فقال المصطفى: لا والذي نفسي بيده! إنهم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
ولا شك أن أعلى منزلة وأرفع درجة في الجنة هي لنبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي).
فالوسيلة هي أعلى درجات الجنة، وهي لا تنبغي البتة إلا لعبد واحد، وهذا العبد هو حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو الذي ينزل وحده في هذه المكانة وفي هذه الدرجة، فأهل الجنة متفاوتون في النعيم.(136/8)
طعام أهل الجنة وشرابهم وفرشهم وثيابهم
إن سألتني -أيها الحبيب الكريم- عن طعامهم وشرابهم وخدمهم وفرشهم وثيابهم، فلن أزيد عن كلمات كريمات طيبات، أتلوها من كتاب رب الأرض والسماوات، يبين لنا فيها ربنا جل وعلا نعيم أهل الجنة، وطعام أهل الجنة، وشراب أهل الجنة، وخدم أهل الجنة، وفرش أهل الجنة، فتدبر كلام خالق الجنة جل وعلا وهو يقول: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:22 - 26].
ويقول جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10 - 12].
وقال عز وجل: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات:44].
وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:17 - 23].
ويقول جل وعلا: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:12 - 22].(136/9)
هل رضيتم؟
تدبر معي هذا العنصر من عناصر هذا اللقاء: هل رضيتم؟ لتعلم أن نعيم الجنة الحقيقي بعد كل هذا لا يساوي شيئاً إلى جوار أعلى وأعظم نعيم، وهل في الجنة ما هو أجل من هذا؟ وهل في الجنة ما هو أعلى من هذا؟ نعم، إن أعلى نعيم في الجنة ليس في لبنها ولا عسلها ولا مائها ولا خمرها ولا فضتها ولا ذهبها ولا حورها ولا قصورها، وإنما أعلى نعيم في الجنة هو في رؤية وجه ربها، قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله جل وعلا: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول ربنا جل وعلا: هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
وجاء عن صهيب الرومي رضي الله عنه في صحيح مسلم عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (فيكشف الحجاب)، ما الحجاب؟ حجاب من النور كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) هذا في الدنيا؛ لأن الناس في الدنيا ليسوا مهيئين، ولولا أن الله يهيئهم في الجنة للرؤية لوقع بهم ما وقع للجبل الذي تجلى له ربه فخر موسى صعقاً، فالله يهيئ أهل الجنة للرؤية، يقول: (فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا، وتلا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26])، والحسنى هي الجنة وكل ما فيها من نعيم، والزيادة هي النظر إلى وجه ربنا الكريم.
ولله در علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ يقول: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاق مطهرة الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والفضل باقيها لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها واعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها فمن يشتري الدار بالفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الجنان برحمته وكرمه؛ إنه الرحيم الرحمن، وبقي أن نتعرف في عجالة سريعة جداً على الطريق إلى الجنة، وذلك بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(136/10)
الطريق إلى الجنة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! بقي أن نتعرف عن الطريق الموصل إلى الجنة، وأستطيع أن أضع بين أيديكم علامات ضوئية على هذا الطريق العظيم: أولاً: الإيمان بالله جل وعلا، فلا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة زكية، قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73].
وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25].
ثانياً: العمل الصالح، فالعمل الصالح قرين الإيمان، لا ينفك ولا يخرج العمل أبداً عن حقيقة الإيمان، فالإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، كما فصلنا ذلك في شرحنا لصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
ثالثاً: من العلامات الضوئية على طريق الجنة: بناء المساجد، ففي صحيح البخاري من حديث عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة).
وفي رواية أحمد: (من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله ولو كمفحص قطاة -أي: ولو كان هذا المسجد بمقدار عش الطائر- بنى الله له بيتاً في الجنة).
رابعاً: من أعظم الطرق التي توصل إلى الجنة: الجهاد، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقمع أهل الزيغ والفساد.
فالجهاد طريق إلى الجنة بلا نزاع، والأحاديث في ذلك كثيرة جداً، والجهاد ليس طريقاً إلى الجنة فحسب، بل إن الجهاد هو الطريق الوحيد بعد الإيمان والعمل الصالح لسعادة وكرامة الأمة وشرفها؛ فإنها تهان الآن أبلغ إهانة على أيدي كلاب الأرض من اليهود، فلا عز للأمة إلا إن صححت عقيدتها، وآمنت بربها، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله جل وعلا، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يرزقنا جميعاً الشهادة في سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
للشهيد عند الله درجة عالية، ومنازل عظيمة، ويكفي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر بأن للشهيد عند الله من النعيم أن يزوجه الله سبحانه وتعالى باثنتين وسبعين زوجة من الحور العين.
خامساً: من العلامات أيضاً -وهي ميسرة للجميع للجاهل وللعالم، للأمي ولغير الأمي، للرجل وللمرأة- على طريق للجنة: ذكر الله وتسبيحه.
روى الترمذي في سننه بسند حسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقيت ليلة أسري بي إبراهيم عليه السلام، فقال إبراهيم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! اقرأ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر).
فهذا غراس الجنة، فاغرس لنفسك في الجنة، وذلك بقول: سبحانه الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هذا غراس الجنة فأكثر منه.
سادساً: النوافل، وهذا أيضاً أمر يستطيعه كل مسلم ومسلمة، ففي صحيح مسلم من حديث أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى لله ثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي لفظ لـ أم حبيبة أيضاً: (أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعد الظهر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الغداة)، أي: قبل صلاة الصبح.
فيا أيها الأحبة! إيمان بالله، واتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وجهاد في سبيله، وصبر على الشهوات، ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء، وسير على طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وحتماً ستلقى في نهاية هذا الطريق حبيبك المصطفى صلى الله عليه وسلم منتظرك على الحوض؛ ليسقيك بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا تظمأ بعدها أبداً.
اللهم اجعلنا من أهل الجنان، اللهم نجنا من النيران، اللهم برحمتك وفضلك اجعلنا من أهل الجنة يا رحمان! اللهم اجعلنا من أهل الجنة يا رحمان! اللهم تجاوز عن أخطائنا وزلاتنا وذنوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم ائذن في تحرير الأقصى برحمتك يا رحيم يا رحمان! اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود وأتباع اليهود، اللهم شتت شملهم، اللهم مزق صفهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين، وإجرام المنافقين.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا برحمتك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد الإسلام.
اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق في هذه السلسلة بطولها فمن الله جل وعلا وحده لا شريك له، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان في هذه السلسلة بطولها فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم بمثل هذا كله وأنساه.
وأرجو من جميع إخواننا أن يعضوا بالنواجذ على أشرطة هذه السلسلة الكريمة، فأنا أعتقد الآن اعتقاداً جازماً بأن الأمة بكل طوائفها بحكامها وعلمائها ورجالها ونسائها وأطفالها في أمس الحاجة في هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والشهوات إلى أن تسمع هذه السلسلة مرات ومرات ومرات.
فأرجو من إخواننا أهل الفضل وأهل المال ممن منّ الله عليهم أن يتبنى كل غني سلسلة الدار الآخرة، وأن ينسخها في أشرطة، وأن يقوم بتوزيعها على السائقين، وعلى السيارات والمركبات، وعلى السيارات الكبيرة، وعلى المسئولين، وفي البيوت، وفي الجامعات وفي المدارس؛ فإننا الآن في عصر طغت فيه الشهوات طغياناً رهيباً، ونحتاج إلى من يجدد الإيمان في قلوبنا، وإلى من يذكرنا بكلام ربنا ونبينا، وبهذا اليوم الذي سنقف فيه بين يدي الله جل وعلا للسؤال عن الكثير وعن القليل {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
وانطلاقاً من اعتقادنا أن الإسلام دين ودنيا، فإنني أعتقد أننا الآن في أمس الحاجة إلى أن نتعلم أخلاق الإسلام في معاملات الدنيا، ومن ثَّم فسأبدأ بإذن الله تعالى سلسلة منهجية جديدة أخرى، ابتداء من الشهر القادم إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، والتي سوف تكون بعنوان: حقوق يجب أن تعرف.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وألا يجعل حظنا من ديننا قولنا.(136/11)
حقيقة الطريق إلى الجنة وماهيته
السؤال الأخير الذي طرح في الخطبة: ما الطريق إلى الجنة؟
الجواب
الطريق إلى الجنة هو أوامر الإسلام ونواهيه وحدوده، أي: الامتثال للأمر، والاجتناب للنهي، والوقوف عند الحد، وبعد ذلك اذكر ما شئت من الأعمال، لكن هذا المعنى من حيث الجملة أنك تتمثل الأمر، وتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
(حفت الجنة بالمكاره) يعني: أن الطاعة ثقيلة على النفس، فالجنة محفوفة بالمكاره، أتصبر على المكاره؟ أتصبر على الطاعة؟ أتصبر عن المعصية؟ أتمتثل الأمر؟ أتجتنب النهي، وتقف عند حدود الله عز وجل؟ هذه هي المكاره التي تدخلك الجنة.
أما النار فحفت بالشهوات، فهل تصبر عن الشهوات: شهوة الفرج، وشهوة البطن، وشهوة الجاه، وشهوة المنصب، وشهوات الدنيا كثيرة، وكذلك الشبهات.
فالطريق إلى الجنة -يا إخواننا- محفوف بالمكاره، وهناك ابتلاءات على الطريق تحتاج منا إلى صبر، فنفسك لها رغبات لابد أن تصبر عنها، وأوامر لله لابد أن تمتثلها، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
والحقيقة أن الجنة درجات، فإذا أردت أن تنالها فلابد أن تجتهد في طاعة الله عز وجل وفي طاعة رسوله.
الذي يخطب امرأة من نساء الدنيا جميلة لو قال أبوها: يا فلان! نريد منك غرفة نوم، وشبكة بكذا، وشقة متكاملة بعشرين ألفاً مهراً، لقال: أنا مستعد، وأنا جاهز، هذا في امرأة من نساء الدنيا يصيبها الحيض والنفاس والبول وكل شيء! فكيف بنساء الجنة؟! ولو وقفت مع آيات القرآن في نعيم الجنة لطال المقام، وهناك مجلد كامل كبير للإمام ابن القيم بعنوان: (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)، في هذا الكتاب فصّل المؤلف رحمه الله كل جزئية من جزئيات النعيم الواردة في القرآن والسنة، أما ما أخفاه الله فلا يعلمه إلا الله، وإنما هذا الذي ظهر في القرآن والسنة.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر -أول فوج يدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر- ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون).
أي: صفتهم: أنهم لا يبولون ولا يتغوطون في الجنة.
وربنا يقول: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] يعني: القطوف والثمار في الجنة مذللة ميسرة قريبة دانية، فالشخص وهو متكئ على أريكته حينما يشتهي فاكهة معينة تجد الفاكهة مذللة بأمر الله عز وجل في يده.
أما اللحم فيقول سبحانه: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21].
والخمر من أعظم شراب الجنة، فالذي يمنع نفسه عن خمر الدنيا سيشرب في الآخرة من خمر الجنة، وخمر الجنة يقول ربنا فيها: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] (لا يصدعون) يعني: لا يصاب من شربها بالصداع والهم والدوخة والدوار، بل هو خمر لذة للشاربين.
إذاً: نأكل ونشرب، فكيف يخرج هذا الأكل والشرب؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج الله عز وجل هذا الشراب والطعام رشحاً على البدن كالمسك)، أي: بدل ما يخرج من القبل والدبر في هيئة بول وغائط، فإنه يخرج مسكاً، فلا توجد مجاري هناك في الجنة، وإنما يخرج رشحاً كالمسك.
وسبحان الله! في الدنيا تجد الإنسان يبذل الكثير من أجل نساء الدنيا مع ضعفهن، بينما الحور العين مع عدم البول والغائط ومع ذلك ليس عنده استعداد أن يبذل للآخرة، فكم نذكر في المحاضرات والدروس بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحرك الجبال، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، ومع ذلك هناك أناس قلوبهم لم تهبط من خشية الله! وهؤلاء كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون ولا يمتخطون)، فلا تفل ولا مخاط في الجنة، يا سبحان الله! شيء عجيب جداً! (لا يتفلون ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب)، والمشط ليس لتسريح اللحية؛ لأنه لا لحية في الجنة، ولا يوجد أحد يدخل الجنة بلحية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أهل الجنة مرد -يعني: بدون لحى- كحل)، أي: من غير كحل، (أمشاطهم الذهب، وأزواجهم الحور العين).
فالذي يخطب الحور عليه أن يدفع المهر الآن في الدنيا، فما هو هذا المهر؟ إنه إيمان اتباع عمل صالح جهاد صلاة تسبيح عمارة مساجد مسارعة في الخيرات أمر بمعروف نهي عن منكر دعوة قيام ليل قراءة قرآن صدقة بر والدين، كل هذا يندرج تحت العمل الصالح.
طريق الجنة أنه إذا أمر الله عز وجل بأمر فما عليك إلا أن تمتثل وتقول: يا رب! سمعنا وأطعنا، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم تمتثل أمره وتقول: سمعاً وطاعة يا رسول الله! كذلك حدود رب العزة تجتنبها.
فما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله! فقد يأتي رجل ويقول: يا رب! ارزقني الجنة وهو لا يعمل بطاعة الله! فأقول له: يا أخي! السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، صحيح أن الدعاء مخ العبادة، ومطلوب منك أن تدعو وأن تتضرع، لكن كيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت تفضل القهوة على المسارعة إلى الصلوات حين الأذان؟! وكيف تقول: يا رب! ارزقني الجنة، وأنت لا تصلي؟! هذا مستحيل، ولا تجد ذلك في آية من القرآن ولا في حديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة هو الإيمان الذي هو القول والتصديق والعمل، القول بأن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وتصدق بقلبك وتعمل، تصلي بالليل وتبكي وتبقى خائفاً وتقرأ قرآناً وتسبح ربنا، وتبتعد عن الحرام، والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر من عدم التورع عن الحرام، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم -: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!) يعني: كيف يستجاب له؟! فكل هذه علامات ضوئية توصلك إلى جنة رب البرية، لكن الإنسان إذا كان يتمنى الجنة على الله عز وجل من غير عمل ومن غير عقيدة صحيحة فهذا وهم، ومن الأماني الكاذبة.
وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: إنا نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لأنهم لو أحسنوا الظن في الله لأحسنوا العمل، وهذا الكلام ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من ينسبه إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هذا من كلام الحسن البصري رحمه الله تعالى.
فيجب علينا جميعاً -أيها الأحبة الكرام- أن نعلم يقيناً أن الجنة تحتاج إلى رجال، وتحتاج إلى أبطال، وتحتاج إلى أطهار، وتحتاج إلى أبرار، وتحتاج إلى أُسُود، وفي نفس الوقت زهاد عباد.
وقد كان الواحد من السلف يظل في بيته في الليل يصلي قيام الليل، ولكن الآن الأمة بأسرها تركت ذلك إلا عدداً قليلاً جداً ممن يقوم الليل، وممن يصلي لله جل وعلا، ويقف بين يديه، ويتضرع ويتذلل له سبحانه، بل بعضهم حتى الفجر يضيعه، ثم تراه يقول: يا رب! ارزقني الجنة! وكذلك صلاة العصر يضيعها ويطلب الجنة! ولا يتورع على الإطلاق من أجل أن يبني ويعمر أن يأكل الحرام، ثم يقول: يا رب! ارزقني الجنة! فيا إخواننا! الجنة سلعة غالية جداً، ومستحيل أن تشتري هذه السلعة إلا بأغلى مهر، والصحابة رضوان الله عليهم بشروا في الدنيا بالجنة، ليس بالأماني ولا بالكلام، وإنما بالعمل وبالرجولة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام في أحد المعارك: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ويسمعه صحابي جليل وهو يأكل تمراً ويقول: جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ! فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ما الذي حَملك على قول بخ بخ يا عمير؟ فقال عمير: لا، والله! يا رسول الله! إلا أني أرجو أن أكون من أهلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت من أهلها).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لـ عمير هذه العبارة من فراغ، وإنما بعد أن عرف صدق عمير حين قال: (جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ) فلذلك قال له: (أنت من أهلها)؛ ولذلك رمى بالتمرات عندما تذكر جلال وجمال هذه الجنة، فقال: (والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة) فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
فالصحابة -يا إخوة! - لم ينالوا هذه الدرجة إلا بالكفاح، وبالجهاد، وبالمشقة، وبامتثال الأمر واجتناب النهي، وبالوقوف عند الحدود، وبالسمع والطاعة لله سبحانه وتعالى وللنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب علينا أن نسلك هذا الدرب وهذا الطريق.
ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليكم بجنته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(136/12)
انتبه فالموت قادم!
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر هاذم اللذات (الموت)؛ لأن ذلك يحمل على التوبة والاستعداد للقاء الله، والموت ما ذكر في قليل إلا كثره، ولا في كثير إلا قلله، فطوبى لمن استعد له.(137/1)
الموت حق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ينادي يوم القيامة بعد فناء خلقه ويقول: (أنا الملك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز، ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ ويجيب على ذاته سبحانه ويقول: لله الواحد القهار)، سبحانه سبحانه سبحانه، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الباقي الذي لا يموت.
وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، شرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وفضله على جميع خلقه، وزكاه في كل شيء، وبعد كل هذا خاطبه بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحباب وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله جل وعلا أن ينظر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله! إننا الليلة على موعد مع هذا الموضوع الذي أتألم منه كثيراً؛ لأن دعاتنا وشيوخنا لا يذكرون الناس به إلا في المناسبات فقط، مع أننا في أمس الحاجة إلى أن نذكره وإلى أن نتذكره دائماً وأبداً، امتثالاً عملياً لوصية حبيبنا ورسولنا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما في الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن -وهو حديث حسن- من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات.
قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت)، فانتبه أيها المسلم، فإن الموت قادم، فإننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانشغل فيه كثير من الناس عن لقاء رب الأرض والسماوات، انتبه فلابد من أن تستقر هذه الحقيقة الكبرى في قلبك وعقلك ووجدانك.
إن الحياة في هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً فيموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون الذي يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت الفارغون التافهون الذين لا يعيشون إلا من أجل المتاع الرخيص، الكل يموت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
ولذا سمى الله هذه الحقيقة في القرآن بالحق، فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أنك تموت والله حي لا يموت.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
أي: ذلك ما كنت منه تهرب، وذلك ما كنت منه تجري، وذلك ما كنت منه تخاف، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع هرباً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ رعباً من الموت.
أيها القوي الفتي! يا أيها الذكي! يا أيها العبقري! يا أيها الكبير! يا أيها الوزير! يا أيها الأمير! يا أيها الصغير: كل باك سيُبكى وكل ناع سيُنعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب بالذنب وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم(137/2)
كلا إذا بلغت التراقي
صدق الله جل وعلا إذا يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26]، أي: إذا بلغت الروح الحلقوم، {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ انظر إليه وهو صاحب الجاه، صاحب السلطان، صاحب الأموال، صاحب السيارات، صاحب العمارات، صاحب الوزارات.
انظر إليه وهو على فراش الموت، التف الأطباء من حوله، ذاك يبذل له الرقية، وذاك يقدم له العلاج، يريدون شيئاً وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر.
انظر إليه -أيها الحبيب- وقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أمام اليدين والقدمين، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بـ (لا إله إلا الله)، إلا لمن عاش على الإيمان ومات على الإيمان كما قال ربنا جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
ينظر إلى أهله وإلى أحبابه، فيراهم مرة يبتعدون ومرة يقتربون، ويرى الغرفة التي هو فيها مرة تضيق عليه فتصغر كخرم إبرة، ومرة يراها كالفضاء الموحش، فإذا وعى ما حوله في الصحوات بين السكرات والكربات نظر إليهم نظرة استعطاف، ونظرة رجاء ونظرة أمل، ونظرة تمن، وقال لهم بلسان الحال -بل وبلسان المقال-: يا أحبابي! يا أولادي! يا أبنائي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب الوزارة، أنا صاحب السلطان، أنا صاحب الأموال، أنا صاحب الكراسي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعمالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق، كما قال الحق جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الجبابرة، سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة، سبحانك يا من نقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27]، أي: من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ من الذي يقدم له العلاج؟ من الذي يحول بينه وبين الموت؟ وقيل: إن معنى (مَنْ رَاقٍ) أي: من الذي سيرقى بروحه إلى الملك جل وعلا؟ وهذا معنى آخر، فمن الذي سيرتقي بهذه الروح من الملائكة؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:27 - 29] أهذا هو الذي سيخرج به وهو هذه الأكفان وهذا القماش؟ أين ماله؟ أين جاهه؟ أين كرسيه؟ أين سلطانه؟ أين دولاراته؟ أين أولاده؟ أين طائراته؟ أين دباباته؟ أين وزارته؟ أين الجاه؟ أهذا هو الذي سيخرج به؟(137/3)
حقيقة الدنيا
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن لا والله، في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله، وأهله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد) يرجع الأهل، ويقسم المال على الورثة، ولا يبقى لك إلا عملك، وينادى عليك بلسان الحال: رجعوا وتركوك يا مسكين، يا من شغلك مالك عن حقوق الله جل وعلا، يا من شغلتك تجارتك عن السجود بين يدي الله جل وعلا، يا من سمعت المؤذن يقول لك: (حي على الصلاة) وأنت في بيتك، وفي تجارتك، وفي حقلك، وفي وزارتك، وفي مكتبك ما تحرك فيك ساكن، وما قمت لله جل وعلا لتضع الأنف والجبين في التراب ذلاً لخالقك.
يقال لك بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت، انتهى كل شيء.
فكم من ليلة يفرح الناس بها، يسهرون ويمرحون ويضحكون، وفي الصباح الباكر يبكون، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم:42 - 44].
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، نام هارون الرشيد على فراش الموت فقال لإخوانه من حوله: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه.
فحملوا هارون إلى قبره، ونظر هارون إلى القبر وبكى، ثم التفت إلى الناس من حوله وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، ثم رفع رأسه إلى السماء وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه أرحم من قد زال ملكه.
ولقي الفضيل بن عياض رجلاً فقال له الفضيل: كم عمرك؟ قال الرجل: ستون سنة.
قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل! فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقال الفضيل: يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع.
فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً.
فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة.
قال: ما هي -يرحمك الله-؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحٌ على الفراش وأيديهم تقلبني كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا وهن وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الما ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وودعوني جميع الأهل وانصرفوا وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجزين بعد الموت بالحسن وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك أنت الرحمن ذو المنن هذه حياتك يا ابن آدم، هذه قصتك، من أنت؟ يا ابن التراب وما دون التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب علام الكبر؟ وعلام الغرور؟ أنسيت أصلك؟ أنسيت ضعفك؟ أنسيت فقرك؟ أنسيت عجزك؟ أنسيت أنك من التراب خلقت وإلى التراب تصير؟ فلماذا تحارب دين الله؟ ولم تحارب سنة الحبيب رسول الله؟ ولم تصد عن سبيل الله؟ تذكر أن الكرسي لو دام لغيرك ما وصل إليك، إن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال فلابد من دخول القبر.
وانتبه واعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.
قال لقمان لولده: أي بني! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها.
كم ستعيش أيها المسئول؟ يا من حملك الله أمانة الحكم، وأمانة الإعلام، وأمانة الوزارة، وأمانة التربية، وأمانة التوحيد، وأمانة الأبوة.(137/4)
الموت قادم
أيها المسلم! أيتها المسلمة! فلنتذكر جميعاً هذه الحقيقة، وهي أن الموت قادم، إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين وطغيان الطغاة المتألهين، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
انتبه فإن الموت قادم! حقيقة لابد أن تستقر في النفس، إذا تذكرها الحاكم عدل، إذا تذكرها المسئول اتقى الله في رعيته، إذا تذكرها رجل أمني اتقى الله في الناس، إذا تذكرها الأب اتقى الله في أولاده وزوجته، إذا تذكرتها الأم اتقت الله في زوجها وأولادها، إذا تذكرها كل مسلم عرف أن الموت قادم، وأنه في الغد القريب سيترك ماله، وسيترك كرسيه، وسيترك جاهه، وسيترك منصبه ليرى نفسه واقفاً بشحمه ولحمه بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ليكلمه ربه، نعم سيكلمك الحق جل وعلا، وسيكلمك الملك.
قال تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا * كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا * وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} [طه:98 - 108].
وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكمله ربه يوم القيامة)، فانتبه يا مسكين، إنك لو وقفت أمام قاض من قضاة الدنيا ربما ارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك واصفر لونك وشحب وجهك، فهل فكرت في موقف ستعرض فيه بين يدي ملك الملوك جل وعلا؟ اذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة وتلقى الرب غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه -عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
فانتبه أيها الحبيب، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20]، من النافخ؟ إسرافيل.
بأمر من؟ بأمر الملك.
لماذا؟ ينفخ النفخة الأولى للفزع، قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87]، ويأمره الله بعد نفخة الفزع أن ينفخ نفخة الصعق، أي: نفخة الموت، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68] أي: فمات ثم يأمره الثالثة: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
يخرج الناس من القبور حفاة عراة غرلاً، الرجال والنساء؛ نعم.
الرجل مع المرأة، المرأة أمامه عارية وهو أمامها عار لا ينظر إليها ولا تنظر إليه.
ما هذا الذي وقع؟ وما هذا الذي حدث؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:33 - 36]، لماذا؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20]، إنه يوم القيامة، إنه يوم الحسرة والندامة، إنه يوم الحاقة، إنه يوم الآزفة، إنه يوم الزلزلة، إنه يوم الوعيد، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].
انتبه -أيها الحبيب- فإن هذا اليوم قادم، والله لو أن الأمر توقف عند الموت بدون بعث وبدون حساب لكان الأمر سهلاً وهيناً وميسوراً، ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حشر، وبعد الحشر صحف، وبعد الصحف ميزان، وبعد الميزان جنة ونيران.(137/5)
شدة الموقف بين يدي الله
إن الأمر جد خطير، ستقف بين يدي الله جل وعلا ليكلمك وتكلمه، إن كنت من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان ومن أهل الاستقامة قربك الله جل وعلا منه سبحانه، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة) أي: أن ربنا يقرب المؤمن (حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة: الستر والرحمة، لا تأويلاً للصفة (ثم يقرره الله بذنوبه) يعني: أن ربنا يقرر العبد ويقول له: أنت عملت كذا يوم كذا.
وعملت كذا يوم كذا، في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى، ويقول له: أنت عملت الذنب الفلاني في اليوم الفلاني في المكان الفلاني، قال: (فيقول المؤمن: ربي أعرف.
فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم ويعطى كتابه بيمينه)، فيشرق وجهه، وينبسط النور من وجهه وعلى يمينه ومن بين يديه، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، فهؤلاء هم أهل الأنوار، اللهم اجعلنا منهم! يأخذ كتابه بيمينه فيستثير وجهه، وتشرق أعضاؤه، والله جل وعلا يقول له: انطلق وأخبر أحبابك الذين هم على شاكلتك بما رأيت من الجنان والنعيم، وبشر أحبابك وأصحابك فينطلق إلى أرض المحشر ووجهه منير، النور من وجهه وعن يمينه ومن أعضائه، ينطلق إلى أحبابه وإخوانه، إلى أهل التوحيد، إلى أهل الإيمان، إلى أهل الأنوار، وهو يقول لهم: اقرءوا هذا الكتاب، هذا كتابي.
أعطانيه الله بيميني، فيا فرحتي ويا سعادتي.
سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، وفاز فوزاً لن يخيب ولن يخسر بعده أبداً، يقول لهم: اقرءوا، فهذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا إخلاصي، وهذا إنفاقي، وهذا بذلي، وهذا عطائي، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
أما إن كانت الأخرى -عياذاً بالله، وحفظنا الله وإياكم من ذلك، وختم لنا ولكم بخاتمة الموحدين- فيقف بين يدي الله بمنتهى الخزي والذل والعار، منكساً رأسه، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50]، يقف بمنتهى الخزي، أين رأسك الذي رفعته في عنان السماء على الموحدين؟ أين أنفك الذي شمخت به في عنان السماء على المحرومين؟ أين مكانتك؟ أين غرورك؟ أين كبرك؟ إنّه في موقف الخزي والذل والعار، قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:16 - 17]، يعطيه الله كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويسود وجهه، ويكسى من سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أمك الهاوية، إلى جهنم -والعياذ بالله- وأخبر من هم على شاكلتك بهذا المصير.
فينطلق وقد اسود وجهه، وكسي من سرابيل القطران في أرض المحشر، وهو يبكي ويصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37]، أسأل الله أن يختم لي ولكم بالتوحيد.
أيها الحبيب الكريم! يقول تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق:20 - 22]، شغلك مالك، شغلك جاهك، شغلتك تجارتك، شغلتك وزارتك، شغلك مكتبك، شغلك كرسيك، شغلتك زوجتك، شغلك ولدك، شغلتك بنتك.(137/6)
آثار حب الدنيا وكراهية الموت
أيها الحبيب الكريم! إننا لا نريد أن نقنط أحداً أو أن نيئسه، وإنما نرى الأمة الآن قد حق عليها وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.
قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا.
أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كثغاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن.
قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
من هنا ننطلق لنذكر الأمة بهذا الداء العضال الذي تمكن منها فذلت وأهينت من قبل إخوان القردة والخنازير الذين كتب الله عليهم الذل والذلة، أحبت الأمة الدنيا وكرهت الأمة الموت، ما عملت للموت وما استعدت للقاء الله.
أقول عن نفسي: والله لو قيل لي: إنك الآن ستلقى الله جل وعلا وسيأتيك ملك الموت، لبكيت دماً بدل الدمع على حالي، ما الذي قدمت؟ وما الذي فعلت لألقى به الله جل وعلا؟ وماذا سأجيب على ربي إذا سألني؟ فهل فكرت -أيها الحبيب- في هذا السؤال؟ هل فكرت في عرضك على الكبير المتعال؟ هل يسعدك الآن أن تلقى الله عز وجل على ما أنت فيه من تقصير؟ هل يسعدك الآن أن تلقى الله على ما أنت فيه من تفريط وتضييع؟ أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من غرتك المعاصي وشغلك الشيطان! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب(137/7)
التوبة إلى الله
أيها الحبيب الكريم! انتبه.
فإن الموت قادم، وكما رَهَّبْنا وجب علينا أن نُرَغِّبَ، وكما خوفنا يجب علينا أن نُرَجِّي.
أيها الحبيب الكريم! أقبل على الله، وتب إلى الله، ولا تقنط ولا تيأس مهما بلغت ذنوبك، ومهما كثرت معاصيك وفرطت وضيعت وخالفت، فجدد التوبة، وجدد الأوبة، وجدد العودة، وعاهد ربك على أن تتوب إليه توبة نصوحاً.
يا من ضيعت الصلاة! عد إلى الله وحافظ على الصلاة في جماعة، يا من ضيعت الزكاة! أد حق الله، يا من عصيت والدك! يا من عصيت أمك! يا من فرطت في حق الله! يا من آذيت إخوانك! يا من حاربت الله ورسوله! يا من صددت عن سبيل الله! يا من كتبت تقريراً لم تتق الله فيه في أخ من إخوانك فخربت بيته وأبكيت أعين أولاده! عد إلى الله، وتب إلى الله، واتق الله، واعلم أن الله جل وعلا غفور كريم تواب رحيم.
لنتب إلى الله جميعاً أيها المؤمنون، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أيها الحبيب الكريم! ورد في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي من حديث أنس، واللفظ للترمذي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض -أي: بملء الأرض خطايا- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
تب إلى الله وعد إلى الله أيها الحبيب، ولا تيأس ولا تقنط، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
فهيا أيها الشاب! عد إلى الله جل وعلا، وتب إلى الله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سيفرح بتوبتك وسيفرح بأوبتك، وهو الغني عن العالمين، لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، واعلم أن الدنيا إلى زوال، وأن الحياة الباقية في جنة عدن عند الكبير المتعال، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة)، والجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها الحبيب الكريم! ورد في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان -وفي إسناده سليمان بن موسى مختلف فيه، وبقية رجال الإسناد ثقات- من حديث أسامة بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم وصف الجنة يوماً لأصحابه فقال: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة وزوجة حسناء جميلة ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا هل مشمر للجنة؟ قالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله.
فقال لهم: قولوا: إن شاء الله عز وجل).
وأختم بهذه الأبيات، يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها إن المكارم أخلاق مطهرة الدين أولها والعقل ثانيها والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والعرف سادسها لا تركنن إلى الدنيا وزينتها فالموت لاشك يفنينا ويفنيها وأعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها واعلم أن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا في خمرها، ولا في ذهبها، ولا في قصورها، ولا في حورها، ولا في حريرها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربنا، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالنظر إلى وجهه الكريم، اللهم اغفر لنا، وتقبل منا، وتب علينا، وارحمنا؛ إنك أنت التواب الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(137/8)
ماذا بعد رمضان؟
أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على الأعمال الصالحة ويداوم عليها، وعادة ما يأتي شهر رمضان فيتعود الناس فيه على قراءة القرآن وصلاة القيام والتراويح والصدقة ونحوها من القربات ولكن ما أن ينقضي رمضان حتى تختفي تلك القربات في دنيا الناس، وكان ينبغي الدوام عليها والاستمرار، حتى يتم للمرء الفلاح ويختم الله له بالخير.(138/1)
ثوابت إيمانية ينبغي المداومة عليها بعد رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! ماذا بعد رمضان؟ هذا عنوان لقائنا مع حضراتكم في آخر يوم من أيام شهر الصيام والقيام والقرآن، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذه العناوين المحددة التالية.
أولاً: ثوابت الإيمان.
ثانيا: حقيقة الإيمان.
ثالثاً: فضل الاستقامة.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: ثوابت الإيمان: أيها الأحبة الكرام! أيها الصادقون القائمون القارئون للقرآن هاهو شهر رمضان قد انتهى، انتهى شهر الصيام والقيام والقرآن والبر والجود والإحسان: فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليالٍ ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقي إخوتي من فضل أعمار إنا لله وإنا إليه راجعون وهكذا أسرعت أيام الخير والبر والفضل والطاعة، ولا شك أن ربنا جل وتعالى قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، فأنت ترى الناس تقبل على طاعة الله في رمضان بأريحية عجيبة، وبيسر وسهولة غريبة؛ لأن الله قد هيأ الناس في رمضان للطاعة، وقد سهل الطاعة للصادقين من المؤمنين في رمضان، ولكن يا إخوة: ليس معنى ذلك أن نعرض عن كثير من الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فأنت ترى المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، وترى صفوف المصلين مزدحمة في رمضان؛ بل وترى البر والجود والإحسان والبذل والإنفاق والعطاء والذكر والتوبة والاستغفار، وترى حرص الناس على الطاعة، فترى المحسن يقول للمسيء إليه: اللهم إني صائم، يذكر نفسه بالله جل وعلا، وبطاعة الله.
ليس معنى ذلك -أيها الأحبة الكرام- أن نعرض عن هذه الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فإن للإيمان من الثوابت ما لا يستغني عنها مؤمن من المؤمنين حتى يلقى بها رب العالمين.(138/2)
الحرص على قيام الليل
ومن الثوابت الإيمانية التي يزيد إيمانك بها في قلبك: قيام الليل، فيا من عودت نفسك على قيام الليل في رمضان في صلاة التراويح لا تتخل عن هذا الزاد، فوالله يوم أن خرجت الأمة من مدرسة قيام الليل هانت وقست القلوب، وجمدت العيون.
كان سعد بن أبي وقاص في القادسية يمر على خيام الأبطال والمجاهدين، فإذا رأى خيمة قام أهلها لله جل وعلا للصلاة، يقول سعد: من هنا يأتي النصر إن شاء الله.
من قيام الليل يأتي النصر إن شاء الله من قيام الليل تأتي رقة القلب من قيام الليل تأتي دموع العين من قيام الليل تأتي طاعة الجوارح، لماذا؟ لأن الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، وإن لله عباداً يرعون الظلال بالنهار كما يرعى الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه؛ قاموا فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا إلى الله جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه، يقسم ابن القيم ويقول: فإن أول ما يعطيهم ربهم أن يقذف من نوره في قلوبهم.
ففي الحديث الذي رواه ابن خزيمة والحاكم بسند حسن من حديث أبي أمامة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم).(138/3)
المحافظة على صلاة الجماعة
من أعظم هذه الثوابت: أن تحافظ على الصلاة في جماعة كما كنت حريصاً أيها الصائم في رمضان، قال ربنا جل جلاله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط!).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ -أي هل سيبقى على جسده شيء من النجاسة أو القذر- قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلكم مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).(138/4)
المداومة على قراءة القرآن
وقراءة القرآن من الثوابت الإيمانية التي لا يستغني عنها مؤمن بعد رمضان، وقد رأينا الصائمين -ولله الحمد- في أشد الحرص على قراءة القرآن في رمضان، فمنهم من قرأ القرآن كله مرة؛ بل ومنهم من قرأ القرآن كله مرتين، بل ومنهم من قرأ القرآن كله ثلاث مرات، ومنهم من زاد على ذلك، فلا تتخل عن القرآن بعد رمضان، ولا تضع المصحف في عزلته مرة أخرى، وتضعه على رفٍ من أرفف المكتبة في بيتك في رمضان، فإن المسلم لا غنى له أبداً عن كتاب الله جل وعلا.
فلا بد أن تمتع بصرك، وأن تسعد قلبك وبصيرتك بالنظر يومياً في كتاب ربك تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي أمامة: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
وعن النواس بن سمعان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة).
فلا تتخلّ أيها الموحد الصادق عن القرآن لا تتخل أيها الصائم عن القرآن لا تتخل أيها القائم عن القرآن، وهل ذلت الأمة وضاعت إلا يوم أن تخلت عن القرآن؟! {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، والهجر للقرآن أنواع: - هجر التلاوة.
- وهجر السماع.
- وهجر التدبر.
-وهجر العمل بأحكام القرآن.
- وهجر التداوي بالقرآن.
- هجرت الأمة القرآن إلا من رحم ربك من أفراد، فذلت الأمة لإخوان القردة والخنازير، ولعباد البقر في كشمير، وللملحدين الملعونين في كوسوفا، وفي باكستان والشيشان، وللصليبيين الحاقدين في كوسوفا والبوسنة وفي كل مكان: ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان ووالله ما انتشر وانتفش الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن القرآن أهله، أسأل الله أن يرد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً.(138/5)
تجديد التوبة والاستمرار عليها
ومن الثوابت الإيمانية بعد رمضان: أن تكون دائم التوبة للرحيم الرحمن: من منا يستغني عن التوبة بعد رمضان؟! من منا يستغني عن الأوبة إلى الله مع كل نفس من أنفاس حياته؟ قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] لم يقل: أيها العاصون، ولم يقل: أيها المذنبون، بل قال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، هذا الحبيب المصطفى الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ويتوب إليه مائة مرة وأظن أننا نحتاج إلى أن نستغفر الله ونتوب إليه في اليوم ألف مرة، نحن نحتاج إلى التوبة مع كل نفس من أنفاس حياتنا، فجدد التوبة والأوبة.(138/6)
المداومة على الذكر
ومن الثوابت الإيمانية التي لا غنى للمسلم عنها بعد رمضان: أن يكون دائم الذكر للرحيم الرحمن، قال الله تبارك وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت).
فالذاكر لله حي ولو حبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء.
أخي الحبيب! لا تغفل عن ذكر رب الأرض والسماء، وحافظ على ذكر الله، ففي الحديث الطويل الذي رواه أحمد من حديث الصحيح الحارث الأشعري، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال (مثل الذي يذكر ربه كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً فأتى على حصن حصين فاحتمى به من عدوه، فذلك مثل الذاكر لله، يحتمي بالذكر من الشيطان)، فلا تتخل عن الذكر بعد رمضان.(138/7)
الإنفاق في سبيل الله
ومن الثوابت الإيمانية بعد رمضان أيضاً: الإنفاق، فأنت ترى الناس تقبل على الإنفاق والجود والبر في رمضان بيسر وأريحية، فلا تتخل عن الإنفاق بعد رمضان ولو بالقليل، قال ربنا جل جلاله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]، وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم -أي: في الدنيا- وينظر العبد أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم -أي: في الدنيا- وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
فمن الثوابت الإيمانية التي لا غنى للمسلم عنها بعد رمضان أن يظل دائم البذل والإنفاق والعطاء، كل على قدر استطاعته قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].(138/8)
حقيقة الإيمان
أيها الأحبة! هذه بعض الثوابت الإيمانية التي رأيناها في رمضان، ولا ينبغي لمسلم صادق أن يتخلى عن هذه الثوابت بعد رمضان، ونحن في أمس الحاجة إلى وصية سيد ولد عدنان إلى وصية الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام، حينما جاءه سفيان بن عبد الله وحديثه في صحيح مسلم وقال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم).
قل أيها الحبيب! آمنت بالله.
ثم استقم، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم لنا جميعاً، قولوا: آمنا بالله.
ثم استقيموا، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: حقيقة الإيمان.(138/9)
الإيمان له حقيقة ونور وطعم وحلاوة
أيها الأحبة الكرام! إن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، فالإيمان له حقيقة، والإيمان له طعم، والإيمان له حلاوة، والإيمان له نور، وخذ الأدلة على كل كلمة.
الإيمان له حقيقة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فالإيمان قول، وتصديق، وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
حال الإيمان في قلبك في المسجد يختلف تماماً عن حال الإيمان في قلبك وأنت أمام مسلسل من المسلسلات، أو أمام فيلم من الأفلام، أو أمام مباراة من المباريات، شتان شتان بين حال الإيمان في قلبك في المسجد، وبين حال الإيمان في قلبك وأنت بعيد عن طاعة الرحمن جل وعلا، فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعاصي والزلات.
قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الطبراني والحاكم في المستدرك بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب -أي: كما يبلى الثوب- فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، فالإيمان يحتاج إلى تجديد.
أما طعم الإيمان فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً).
والإيمان له حلاوة: روى البخاري ومسلم من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار).
والإيمان له نور، ولا تصرف لفظة النور عن ظاهرها، فقد جاء في الحديث الذي رواه الديلمي وأبو نعيم، وحسنه الألباني من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر فبينا القمر مُضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء)، كذلك الإيمان له نور في القلب، فإذا تحركت سحابة كثيفة مظلمة من سحب المعاصي والذنوب حجبت تلك السحابة نور الإيمان في القلوب كما تحجب سحابة السماء الكثيفة المظلمة نور القمر عن الأرض، فإذا انقشعت السحابة أضاء القمر في الأرض مرة أخرى، كذا إذا انقشعت سحب المعصية أضاء الإيمان في القلب مرة أخرى كما يضيء القمر في أفق السماء، فالإيمان له حقيقة، وله طعم، وله نور، وله حلاوة.(138/10)
مثال يبين تحقق وعد الله لمن حققوا الإيمان
أيها الأحباب! بهذا الإيمان تحول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، واسمحوا لي أن أكرر هذه اللفظة، وأقول: بهذا الإيمان تحول الصحابة من أفراد مجهولين تماماً لا ذكر لهم ولا كرامة في أرض الجزيرة؛ تحولوا من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم! والله ما عرفنا شيئاً عن أبي بكر قبل الإيمان، والله ما عرفنا عمر بن الخطاب قبل الإيمان، والله ما عرفنا خالد بن الوليد قبل الإيمان، والله ما عرفنا هؤلاء الأطهار إلا يوم أن تخرجوا من جامعة الإيمان على يد المربي الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا.
وسأضرب لحضراتكم مثالاً واحداً فقط لاستعلاء هذا الإيمان في قلوب هؤلاء الصادقين، لنقف على حجم الهوة السحيقة، بين إيماننا وبين إيمان سلفنا رضوان الله عليهم، أسأل الله أن يلحقنا بهم على الخير والطاعة.
هاهو ربعي بن عامر جندي ضعيف البنية، قصير القامة، قوي الإيمان، لما هزمت جيوش كسرى أمام جيوش التوحيد بقيادة سعد بن أبي وقاص قال كسرى: لأرمين المسلمين بقائدي الذي ادخرته ليوم الكريهة، وكان قائده هذا الذي كان يربى كما تربى العجول والبهائم هو رستم.
وتولى رستم قيادة الجيوش الكسروية، وهزمت الجيوش الكسروية بقيادة رستم، أمام جحافل الإيمان وأبطال التوحيد، بقيادة خال النبي سعد بن أبي وقاص، فأرسل رستم رسالة إلى القائد سعد: أن أرسل إلينا رسولاً من قبلك لنسمع منكم ولتسمعوا منا، وليفاوضنا ولنفاوضكم.
فاختار سعد بن أبي وقاص ربعي بن عامر رضي الله عن ربعي أقول لكم: إن كتب التاريخ، وإن كتب السير تصف ربعي بن عامر بأنه كان قصير القامة، ضعيف البنية، لكنه كان قوي الإيمان.
فركب فرسه، وانطلق بثياب متواضعة جداً، فأرادوا أن يمنعوه حتى لا يدخل على سيدهم رستم وهو على ظهر جواده، وطلبوا منه أن يترجل -يعني: أن يمشي على رجليه- فأبى، وقال: أنا لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فسمعه رستم فقال: ائذنوا له، فدخل ربعي على ظهر جواده.
تقول بعض الروايات: إنه ربط فرسه في رجل الكرسي الذي جلس عليه رستم، ومشى استعلاء في موطن يحب الله فيه الخيلاء والفخر -وشتان بين استعلاء المؤمنين واستعلاء المتكبرين- فمشى ربعي يتكئ برمحه على الفرش لا ليمزق الفرش، بل ليمزق قلب رستم، فصرخ فيه رستم: من أنتم؟! فقال: ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس بدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا.
فقال رستم: سمعت قولك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟ قال ربعي: لقد سن لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر لنفسك واحدة من ثلاث انظروا إلى العزة.
قال رستم: وما هي؟! قال ربعي الأولى: الإسلام ونرجع عنك.
قال رستم وما الثانية؟ قال ربعي: الجزية، وإن احتجت إلينا نصرناك! الجزية التي تدفعها الأمة الآن كاملة غير منقوصة: آهٍ يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال، ولن نبدأك بالقتال فيما بيننا وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت.
فقال رستم: أسيدهم أنت؟ يعني: هل أنت قائدهم الذي تصدر الأوامر وتخطط وتتكلم بهذه الثقة؟ قال: لا، ولكن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم.
بهذا الإيمان سادوا بهذا الإيمان قادوا بهذا الإيمان تحولوا من رعاة في الجزيرة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، ولن ولن ولن -أكررها ثلاثاً- لن تتحقق النصرة والعزة والتمكين والاستقلال إلا إذا حققت الأمة الإيمان؛ لأن الله قد وعد بالنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين للمؤمنين، والإيمان ليس مجرد كلمة: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] إلى آخر الآية.
العزة والتمكين والنصر للمؤمنين، فكن على يقين بأن القلة المؤمنة التي تستحق النصرة والعزة والتمكين لا توجد بعد، فالإيمان ليس كلمة فحسب؛ بل قول وتصديق وعمل.
انظر إلى واقع الإيمان في الأمة الآن، كم من أناس ينتسبون الآن إلى الإسلام لا يصلون، ويتعاملون بالربا، ويعاقرون الزنا.
غيبت الشريعة ونحي القرآن، ووثقت الأمة الآن في أمريكا أو في بعض دول الأرض أكثر من ثقتها في خالق السماء والأرض، فالأمة تحتاج إلى أن تصحح وتحقق وتجدد الإيمان الذي به فقط تصبح الأمة أهلاً للنصرة والعزة، وأهلاً للاستخلاف والتمكين، وإلا فبدون الإيمان لن نرى شيئاً من هذا؛ لأن الله وعد بالنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين للمؤمنين، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإيمان الصادق، وأن يرد الأمة إلى الإيمان رداً جميلاً.
وأخيراً: أيها الحبيب الكريم! فضل الاستقامة أي: على هذا الإيمان، وعلى هذه الثوابت، وأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(138/11)
فضل الاستقامة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:(138/12)
ما أعده الله لأهل الاستقامة في الجنة
في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فلو ذهبت إلى رجل من أهل الكرم والفضل، وأعد لك نزلاً -أي: ضيافة- فيعدها لك على قدر كرمه هو.
إن أهداك رجل من أهل الدنيا هدية فسيهديها لك على قدر كرمه هو، وأرجو أن تتصور معي -أيها الصائم القائم الموحد لله- نزلاً يعده لنا ملك الملوك جل جلاله.
إذا أردت أن تقف على شيء من هذا النزل فقس على منزلة أقل رجل في الجنة، وأرجو أن تتصور أنت بعد ذلك منزلة السابقين الأولين، منزلة أصحاب الدرجات العالية، ففي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى بن عمران ربه عز وجل عن أدنى أهل الجنة منزلة، ذاك رجل يجيء فيقول الله له: ادخل الجنة، فينطلق، ثم يرجع الرجل إلى الله مرة ثانية ويقول: يا رب! لقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، وفي لفظ يقول: يا رب! وجدتها ملأى، ليس لي مكان في الجنة: فيقول الرب سبحانه: أترضى أن يكون ملكك في الجنة كملك ملك من ملوك الدنيا؟) هل تعلمون ملك الملوك؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول الرب سبحانه: لك ذلك، لك في الجنة مُلك مَلك من ملوك الدنيا).
لكن قلت لحضراتكم: بأن الكريم يعطي على قدر كرمه، وبأن الرحيم يعطي على قدر فضله، فيقول الكريم سبحانه: (لك ذلك ومثله -يعني: ضعفه- لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فيقول العبد في المرة الخامسة: رضيت يا رب رضيت يا رب، فيقول الرب: لك ذلك وعشرة أمثاله معه، ولك ما اشتهت نفسك.
قال موسى بن عمران: يا رب! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر).
أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبالي اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر لنا العيوب، وفرج لنا الكروب! اللهم لا تدع لأحد منا في آخر يوم من أيام رمضان ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً معنا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! يا رب! اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً! اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! يا رب! لا تخرجنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، برحمتك يا عزيز يا غفور! اللهم لا تخرجنا من هذا المسجد في آخر جمعة من رمضان إلا وقد غفرت لنا أجمعين مهما كانت الذنوب وكثرت العيوب، برحمتك يا ستار العيوب! يا علاّم الغيوب! يا غفار الذنوب! لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا من إليه يلجأ الخائفون، وعليه يتوكل المتوكلون، ولعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون، يا رب! اختم لنا رمضان برضوانك، اختم لنا رمضان برضوانك، اختم لنا رمضان برضوانك، واجعل مآلنا إلى رضوانك، واجعل مصيرنا في جنانك، ونجنا من سخطك ونيرانك.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، فنحن أهل المعاصي والذنوب، وعاملنا بما أنت أهله، فأنت أهل المغفرة والرحمة يا علام الغيوب! اللهم استر نساءنا واحفظ بناتنا، وأصلح أخواتنا وشبابنا، واهد أولادنا، اللهم رب لنا أولادنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.
يا رب! انصر إخواننا في الشيشان، يا رب! انصر إخواننا في الشيشان، اللهم إنك ترى عجزنا وضعفنا، ونحن لا نملك لهم إلا الدعاء، فتقبل دعاءنا لهم يا رب الأرض والسماء، اللهم تقبل دعاءنا لهم يا رب الأرض والسماء، شتت شمل الروس الملعونين، شتت شمل الروس الملعونين، شتت شمل الروس الملعونين، اللهم أعم أبصارهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم اجعل رميهم بعيداً عن أهلنا وإخواننا وأخواتنا.
اللهم أعم أبصارهم، وشتت رميهم، ومزق صفهم، وزلزل أركانهم، وشل جوارحهم وأعضاءهم، واملأ قلوبهم وبيوتهم ناراً، أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود.
يا من هزمت الأحزاب، ونصرت محمداً في بدر، وأيدته بجند من عندك، أيد إخواننا في الشيشان بجند من عندك يا رحيم يا رحمن! اللهم وحد صفهم، وألف كلمتهم، وسدد رميهم، وانصرهم نصراً مؤزراً، واجعل سلاح وعتاد الروس غنيمة لهم يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الملعونين وعلى أعوانهم المنافقين والمجرمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، وانصر المجاهدين عامة في كل مكان يا أرحم الراحمين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
يا رب اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم نج مصر من الفتن، اللهم نج مصر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنك تعلم أن أعداءنا يتكالبون على هذا البلد، فاحفظه من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا رب العالمين! يا رب! اجعل مصر أمناً أماناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر أمناً أماناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعل مصر أمنا أماناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ أهل هذا البلد الكريم، اللهم احفظ أهل هذا البلد الكريم، ورد ولاة أمره للحكم بشريعتك يا أرحم الراحمين! أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم!(138/13)
تنزل الملائكة بالبشرى لأهل الاستقامة عند الموت وعند البعث
فيا أيها الأحبة الكرام! إن الاستقامة على الإيمان لها فضل عظيم، وخير عميم، وأثر في حياة المؤمن، ألا وهو الثبات على هذا الدين في الحياة وعند الممات، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
هذا فضل الاستقامة: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)، أي: على الإيمان بالله على ثوابت الإيمان على طريق الله وعلى طريق رسول الله (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) متى تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة؟! قال مجاهد وزيد بن أسلم وغيرهما: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت.
يا رب! اجعلنا منهم، يا رب! في هذه اللحظات لحظات السكرات والكربات هل تعلم أنها لحظات قد اشتدت على حبيب رب الأرض والسماوات؟! ففي الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: مات رسول الله بين سحري ونحري -أي: على صدرها- ثم قالت: (والله لا أكره شدة الموت لأحد بعدما رأيت رسول الله قد اشتد الموت عليه حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في ركوة بها ماء -أي: في قدح به ماء- ويمسح العرق عن جبينه وهو يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات! لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات).
وفي رواية أحمد بسند صحيح: (كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات! اللهم هوّن عليّ سكرات الموت).
في هذه اللحظات لحظات السكرات والكربات تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة والإيمان برب الأرض والسماوات، فترى المؤمن المستقيم على الطاعة في هذه اللحظات مبتسماً سعيداً، ويخفف الله عليه السكرات والكربات، فإذا اشتد الكرب والهم والغم والألم تنزلت الملائكة بهذه البشارة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)، فيقول المؤمن المستقيم: يا لها من فرحة وسعادة! من أنتم؟ فيكون
الجواب
( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي هريرة، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تحضر الملائكة -عند الموت، فإذا كان الرجل صالحاً قالت الملائكة وهي تخاطب روحه: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضبان)، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، قال ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما: (تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور).
وأنا أقول: لا تعارض بين القولين، بل إن الجمع بينهما هو الأصل عندي، فالملائكة تتنزل على أهل الإيمان والاستقامة مرتين: مرة وهم على فراش الموت، ومرة إذا خرجوا من القبور يوم البعث والنشور، لتذكرهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة: (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)، بنص الآية: (وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا) يعني: في الجنة (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
(نزلاً) أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً (من غفور) غفر لكم الذنوب، (رحيم) رحمكم يوم الأهوال والكروب، وستر عليكم الزلات واليعوب.(138/14)
الإسلام قادم تعليق على الأحداث الأخيرة
غاصت الأمة الإسلامية في أوحال المعاصي والذنوب، إلا من رحم الله، فنتج عن ذلك أن زحف اليأس إلى قلوب كثير من المسلمين، من عودة الأمة إلى دين ربها وسنة نبيها، ولكن تباشير الفجر قد اقترب ظهورها، تنبئ بمستقبل مشرق للإسلام، وإن الأحداث التي تجري في مختلف أنحاء الأرض، لأكبر شاهد على ذلك.(139/1)
واقع الأمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحفاده وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلا، وأسأل الله العظيم الكريم الحليم جل وعلا، الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المهيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إن الإسلام قادم! هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وفي هذه الظروف العصيبة الرهيبة التي تمر بها أمتنا.
وسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: واقع أليم.
ثانياً: ولكن الإسلام قادم.
ثالثاً: منهج عملي واجب التنفيذ.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.(139/2)
الأمة لم تمت ولكن طال نومها
لا شك أن الأمة نامت وطال نومها، ولا شك أن الأمة مرضت واشتد مرضها، ولكن الأمة بحول الله -مع ما ذكرت- لم تمت ولن تموت بموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فإن أبناء الطائفة المنصورة في هذه الأمة لا يخلو منهم زمان بشهادة الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
أسأل الله أن يجعل هذا الجمع الكريم كله من هذه الطائفة المنصورة التي تعيش لدين الله وتتمنى أن تنصر دين الله بكل سبيل.
والله ثم والله إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً أنه لو دعي الآن إلى الجهاد في سبيل الله تحت كتاب الله وشريعة رسول الله لرأت أميركا العجب العجاب! ولعلم اليهود أن محمداً ما مات وخلف بنات، كما يدعي اليهود المجرمون!! بل سيعلم العالم كله أن محمداً ترك رجالاً يتمنون -ورب الكعبة- أن تسد أجسادهم فوهات مدافع الأمريكيين ومدافع اليهود؛ ليرفعوا راية لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هل يتبناها زعيم مسلم على وجه الأرض؟! نتمنى زعيماً مسلماً يحكّم شريعة الله ويحكّم سنة رسول الله وليقل: حي على الجهاد، حي على الجهاد، وسيرى العالم الملايين المملينة من شباب هذه الأمة خارجاً لنصرة دين الله جل وعلا.
اللهم ارفع راية الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين يا قوي يا عزيز! أيها المسلمون! إن الطائفة المنصورة لا يخلو منها زمان ولا مكان على وجه الأرض: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حر رغم المكائد تخرج وقال آخر: صبح تنفس بالضياء وأشرقا وهذه الصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى ضرباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا(139/3)
واقع مر أليم
أحبتي الكرام! لقد ابتليت الأمة الإسلامية بنكسات وأزمات كثيرة على مرِّ الزمان، مروراً بأزمة الردة الطاحنة، والهجمات التترية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، لكن الأمة مع كل تلك الأزمات كانت تمتلك مقومات النصر: من إيمان صادق، وثقة مطلقة في الله، واعتزاز بهذا الدين، فكتب الله جل وعلا لها النصر والعز والتمكين، ولكن واقع الأمة المعاصر واقع أليم، فقدت فيه الأمة جُل مقومات النصر! بعد أن انحرفت انحرافاً مروعاً عن منهج رب العالمين، وعن سبيل سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، انحرفت الأمة ووقعت في انفصام نَكد مُزرٍ بين منهجها المنير وواقعها المؤلم المرير، انحرفت الأمة في الجانب العقدي، والجانب التعبدي، والجانب التشريعي، والجانب الأخلاقي، والجانب الفكري، بل وحتى في الجانب الروحي.
وما تحياه الأمة الآن من واقع أليم وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، بل ولن تعود الأمة إلى عزها ومجدها إلا وفق هذه السنن التي لا يجدي معها تعجل الأذكياء ولا هم الأصفياء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] والله! لقد غيرت الأمة وبدلت في جميع الجوانب، بل لقد وقعت الأمة في العصر الحديث في المنكر الأعظم، ألا وهو: أن نحت شريعة الكبير المتعال، وشريعة سيد الرجال، وحكّمت في الأعراض والأموال والحروث والثمار القوانين الوضعية الكافرة التي وضعها مهازيل البشر على وجه الأرض! استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محدقاً مدمراً! وولت الأمة شريعة الله وشريعة رسول الله ظهرها، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة، فغرقت وأغرقت، وهلكت وأهلكت، ولن تعود الأمة إلى سيادتها وريادتها إلا إذا عادت من جديد إلى أصل عزها ونبع شرفها ومعين شرفها ومعين بقائها ووجودها وهو: كتاب ربها وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم.(139/4)
الأمة قصعة مستباحة
انحرفت الأمة فزلَّت وأصبحت قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، وصدق في الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: كلا، ولكنكم يومئذ غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن.
قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا، وكراهية الموت).
لقد أصبحت الأمة الآن غثاء من النفايات البشرية، تعيش متفرقة في دويلات متناثرة، بل متصارعة، بل متحاربة، تدخل بينها حدود جغرافية مصطنعة، وأعراف قومية منتنة، وصارت ترفرف على سماء الأمة -بلا استثناء- رايات القومية والوطنية! وتحكم الأمة كلها قوانين الغرب العلمانية! وتدور الأمة كلها في الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي ستغور فيه! فأُبدلت ذلاً بعد عزة وجهلاً بعد علم، وضعفاً بعد قوة، وأصبحت الأمة الإسلامية في ذيل القافلة الإنسانية كلها، بعد أن كانت في الأمس القريب جداً الدليل الحاذق الأريب، حيث كانت تقود القافلة الإنسانية كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر الإنساني والعلمي كله!! بعد أن كانت بالأمس القريب جداً منارة تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، وأصبحت الأمة المسكينة تتأرجح في سيرها، بل لا تعرف طريقها الذي ينبغي أن تسلكه، والذي يجب أن تسير فيه! بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأريب في الدروب المتشابكة، وفي الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون.
أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالخيرية في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]؟! أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالوسطية في قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]؟! أهذه هي الأمة التي أمرها الله بوحدة الصف والاعتصام بحبل الله المتين في قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وفى قوله سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]؟! إن الناظر إلى الأمة في واقعنا المعاصر سينقلب إليه بصره خاسئاً وهو حسير؛ فإن واقع الأمة الأليم لا يكاد يخفى الآن على أحد، وما تتعرض إليه الأمة اليوم -لا أقول العراق، بل ما تتعرض له الأمة كلها اليوم- من إذلال مهين من قلعة الكفر على ظهر الأرض أمريكا، ما تتعرض له الأمة كلها الآن من ذل وهوان وضرب بالنعال؛ ليؤكد تأكيداً جازماً هذا الواقع المر الأليم، الذي لا يحتاج من داعية أو عالم من علماء الأمة الآن إلى مزيد بيان أو إلى مزيد تشخيص أو تدليل!! فإن الواقع الأليم الذي تحياه الأمة لا يجهله إلا مسلم لا يعيش إلا لشهواته الحقيرة ونزواته الرخيصة، أما مسلم يحترم نفسه يحترم أمته يحترم هذا الدين لا أظن ألبتة أنه يجهل هذا الواقع الأليم.(139/5)
الإسلام قادم
عنصرنا الثاني: ولكن الإسلام قادم!! هذا وعد ربنا برغم أنف المشركين والمنافقين، وهذا وعد نبينا برغم أنف المشركين والمنافقين والمجرمين! إن الإسلام قادم يا شباب! نعم، أنا أعي ما أقول، وأعي واقع الأمة المر الأليم الذي أشرت إليه باختصار، ومع ذلك أؤكد لكم جميعاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، بالإيمان لن تهنوا بالإيمان لن تحزنوا بالإيمان أنتم الأعلون، والله إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد على وجه الأرض -أبداً- شر محض، وحتى مع ما نراه الآن من تهديدات لا للعراق فحسب، بل للأمة كلها، إن هذا الشر سيجعل الله جل وعلا فيه خيراً كثيراً؛ فما من أزمة مرت بالأمة إلا وجعلها الله تبارك وتعالى سبباً لقوة الإسلام، وما من ابتلاء إلا وجعله الله سبباً لتمحيص الصف، وسبباً لتمييز الخبيث من الطيب، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
ولقد ذكر سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام في البلاء سبع عشرة فائدة، فلا تظنوا أبداً أنه مع هذه الأزمة سيزول الإسلام، وسينتهي المسلمون!! لا والله.
لقد هجم القرامطة على المسلمين في بيت الله! وذبحوا الطائفين حول بيت الله، واقتلع أبو طاهر القرمطي الخبيث المجرم الحجر الأسود من الكعبة! وظل يصرخ بأعلى صوته في صحن الكعبة، وهو يقول: أين الطير الأبابيل؟! أين الحجارة من سجيل؟! انظروا إلى هذه الفتنة العاصفة!! وظل الحجر الأسود بعيداً عن بيت الله ما يزيد على عشرين سنة! ومع ذلك رد الله الحجر، ورد المسلمين إلى دينه، وانتصر الإسلام على القرامطة كما تعلمون.
وهاجم التتار بغداد، وظلوا يذبحون ويقتلون المسلمين أربعين يوماً! حتى امتلأت شوارع بغداد بالدماء، ومع ذلك رد الله المسلمين إلى الإسلام، وأخزى التتار وهزمهم شر هزيمة على أيدي الصادقين المخلصين الأبرار: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ}، لكننا نريد الإيمان، نريد أن تحقق الأمة الإيمان قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] تدبروا قول رب العالمين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
ما يزيد على مائة وخمسين بليوناً من الدولارات أنفقت في حرب الحادي والتسعين، وما هي النتيجة؟! (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) ما زال الإسلام قوياً شامخاً، وسيبقى الإسلام قوياً شامخاً.
أين التتار؟! أين الصليبيون؟! أين المجرمون؟! بل أين فرعون؟! بل أين هامان؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين كل من عادى الإسلام؟! هلك الجميع وبقي الإسلام، وسيبقى بموعود الرحمن وسيد ولد عدنان: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).(139/6)
انتشار المساجد في بلاد الكفر
لقد بلغ عدد المساجد في قلعة الكفر ما يقرب من ألفي مسجد، ففي ولاية (نيويورك) وحدها مائة وخمسة وسبعون مركزاً إسلامياً ومسجداً.
حتى في هذه البلاد يظهر الإسلام، ألم يقل ربنا: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]؟! إن الإسلام دين الفطرة، وإن الإسلام قادم لا محالة، مهما وُضِعت في طرقه العقبات والسدود والعراقيل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، إنه وعد الله جل وعلا.
وآخر الإحصائيات في فرنسا تقول: عدد المسلمين في فرنسا يزيد على خمسة ملايين مسلم، وفي بريطانيا المجرمة: عدد المسلمين فيها الآن يزيد على مليوني مسلم، وفي كل سنة يدخل الإسلام من البريطانيين ما يزيد على الألفين من أصول بريطانية.
أرقام تبشر بخير، فالإسلام دين الفطرة كما ذكرنا، وهؤلاء إن سمعوا عن الإسلام وعرفوا صورته الحقيقية جاءوا مسرعين إلى دين الفطرة؛ لأنهم يعيشون حالة قلق رهيبة.
ومن سافر إلى بلاد الشرق والغرب ووقف على حجم عيادات الطب النفسي، عرف حجم هذا الخطر، فإنهم كما ذكرت قبل ذلك قد أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماق أبدانهم تصرخ وتبحث عن دوائها وغذائها، ولا يعلم دواء الروح وغذاءها إلا الله، قال جل في علاه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
وفي تركيا يريد العلمانيون الآن بكل قوة أن يخلعوا عنها عباءة الإسلام، يقول لي أخ تركي في هذه الزيارة الأخيرة: إن عدد المساجد في تركيا يزيد عن خمسة وستين ألف مسجد، ويقسم لي بالله أنهم في رمضان الماضي كانوا يصلون في صلاة الفجر خارج المسجد كأنهم في صلاة الجمعة، انظر إلى الطحن والضربات التي تكال على تركيا كيلاً، يريد أتباع أتاتورك الخبيث الهالك أن يجعلوها علمانية، بعيدة عن الإسلام!! ولكنهم عاجزون، إنهم يرقصون رقصة الموت؛ لما يرون كل يوم شباباً في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، يغذون هذا المد الإسلامي الهائل، لا أقول في مصر وفي بلاد المسلمين، بل في العالم كله!!(139/7)
بشارات نبوية
إننا والله نرى العجب العجاب! ونرى الخير الكثير!! وهذا من باب قول الله سبحانه: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد من حديث حذيفة بن اليمان -وهو حديث صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
أسأل الله أن يعجل بها وأن يمتعنا بالعيش في ظلالها، وإن لم يقدر لنا ذلك، فأسأله ألا يحرم أبناءنا وأولادنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث ثوبان أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
م اليأس؟!! ولم القنوط؟!! إن هذا التقهقر سيزيد النشيط خذلاناً، وسيزيد اليائس والقانط قنوطاً ويأساً.
الرسول -في أحلك الأوقات والأزمات وهو يُطارد، وأصحابه مهاجرون- يقول ل خباب بن الأرت: (والذي نفس محمد بيده لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه).
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
واعلموا علم اليقين أن كل ابتلاء يزيد الإسلام صلابة، ويزيد المسلمين قوة، ويخرج من اندس في صفوف المؤمنين وقلبه مملوء بالنفاق، وببغض رب العالمين وسيد النبيين صلى الله عليه وسلم.
إذاً: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن اصابته سَّراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
وجاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه على شرط الشيخين وأقر الحاكم الذهبي، وقال الألباني: بل هو صحيح على شرط مسلم من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترُكُ الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
ومن جميل ما قاله المفكر الشهير اشبنكنز: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام الذي يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية.
أيها الأحبة الكرام! والله ما بقي إلا أن ترتقي الأمة إلى مستوى هذا الدين، وأن تعرف الأمة قدر هذه النعمة التي امتن بها عليها رب العالمين، وحملها هذه الأمانة سيد النبيين صلى الله عليه وسلم، وهذا ما سنتعرف عليه في عنصرنا الثالث والأخير وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(139/8)
زحف الإسلام في دول الكفر
في العشر الأواخر من رمضان الماضي كنت في زيارة لأمريكا، ووقفت على وثيقة التنصير الكنسي، ورأيت بابا الفاتيكان جون بول الثاني يصرخ في هذه الوثيقة على كل المبشرين أي: على كل المنصرين في أنحاء الأرض -تدبر- ويقول: هيا تحركوا بسرعة؛ لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوروبا! مع أنه لا يتحرك أحد للإسلام، بل نحن قد نمنع من الخروج للدعوة إلى الإسلام! فالإسلام لا يتبنى قضاياه الكبرى أحد إلا على مستوى الأفراد، ولو بذل للإسلام ما يبذل لأي دين على وجه الأرض، والله لن يبقى على وجه الأرض من الأديان إلا الإسلام.
أيها الأحبة الكرام! في الثالث والعشرين من رمضان الماضي التقيت برئيس جمعية الشرطة المسلمين في أمريكا وأرجو أن تركزوا معي؛ لنعلم أن الإسلام ينتشر حتى في قلب قلعة الكفر أمريكا، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تمنع الإسلام أبداً، حتى قلعة الكفر أمريكا.
هل تعلمون أن عدد المسلمين في أمريكا الآن في إحصائية 12/ 97م وصل إلى ثلاثة عشر مليون مسلم! صحيح ممكن أن يكون كثير من هذا العدد غثاء لا يحرك ساكناً، لكنها إحصائية تحوي الكثير والكثير من الاستفسارات والعلامات! جمعية يرأسها ضابط أمريكي أبيض، التقيت به ودار بيني وبينه حوار طويل، نقلته للإخوة في خطبة العيد في المنصورة، وألخصه لحضراتكم هنا بإيجاز: قلت له: كيف أسلمت؟! وتعجبت حينما قال لي: إنه كان قسيساً متعصباً للنصرانية! يقول: لقد قرأت القرآن -أي: الترجمة- وقرأت عدداً لا بأس به من أحاديث صحيح البخاري، وأسلم زميل لي في العمل -وهو أمريكي- يقول: فذهبت يوماً أبحث عنه؛ لأمر خاص بالعمل، فقالوا: إنه في المسجد، فدخلت المسجد لأنادي عليه، يقول: واستمعت -وأنا على باب المسجد- لكلمات الأذان، يقول لي: لقد هزت كلمات الأذان أعماقي، وشعرت بتغيير كبير في داخلي! يقول: إني لا أستطيع أن أعبر لك عنه؛ لأنني ما تذوقت طعمه قبل أن أستمع إلى كلمات الأذان، يقول: ثم نظرت إلى المسلمين وهم يصلون: يركعون مع بعضهم، ويسجدون مع بعضهم، وأنا أنادى زميلي في العمل وهو في الصلاة، فلا يرد عليَّ! فلما أنهى الصلاة قلت له: أنا رئيسك في العمل وأنادي عليك، لماذا لم تجبني؟! قال: لأني كنت في صلاة بين يدي ربي جل وعلا، وإذا كنت كذلك فلا أجيب إلا الله عز وجل.
يقول: فأحسست بسلام عميق في صدري لهذا الدين! فقلت لزميلي: ماذا تصنعون إن أردتم أن تدخلوا الإسلام؟! فأمروه بالاغتسال، فاغتسل وخرج إلى صحن المسجد، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وكان يسمى: ب مايكل، وهو الآن يسمى بـ عبد الصبور.
قلت له: ما نظرتك إلى مستقبل الإسلام في أمريكا؟ قال: الإسلام قوي جداً في أمريكا، وأرجو أن تدققوا في الكلمات (الإسلام) وأنا لا أقول: المسلمون، وإنما الإسلام قوي جداًَ في أمريكا، هذه ترجمة حرفية لكلام الرجل، ثم قال لي: أبشرك بأن كثيراً من الأمريكيين بدءوا يفهمون الآن جيداً أن الإسلام الحقيقي ليس هو إسلام الشرق الأوسط، وبدءوا يفهمون أن رسالة عيسى هي رسالة محمد، وهي الإسلام.
قلت له: فهل لك أن تقص عليَّ قصة مؤثرة لعضو من أعضاء جمعيتكم؟! قال: يا أخي! القصة الوحيدة التي أستطيع أن أؤكدها لك هي: أن الإسلام ينتشر بقوة في الشرطة الأمريكية! قلت له: فهل عندك من الإحصائيات والأرقام ما تؤكد لي به هذه المعلومة؛ إذ إنني أستبشر خيراً كثيراً لا في كثير من المسلمين في أمريكا، ولكن فيمن يدخلون الإسلام من الأمريكيين، فإن قلت له: هذه سنة، لا يناقش، هذه بدعة، لا يجادل، ولقد ذهبت مع بعض إخواني من الدعاة والمشايخ إلى مسجد التقوى، وهو لإخواننا الأمريكيين السود، فورب الكعبة يا شباب! لقد احتقرنا أنفسنا بينهم، ترى الواحد منهم في صلاته خاشعاً، يذكرك بسلف هذه الأمة، فمن هنا يأتي الأمل، ومن عند هؤلاء نرجو الخير الكثير بإذن الله، يقول لي: عدد الضباط والجنود في الشرطة الأمريكية في ولاية (نيويوورك) أربعة وخمسون ألف ضابط وجندي، يقول لي: أصبح من بين هذا العدد -ولله الحمد- ما يزيد على ألفين وخمسين ضابطاً يوحدون الله جل وعلا، وهذا عدد كبير ليس بالعدد القليل الهين، ثم قص علي قصة، فقال: لقد أسلمت ضابطة أمريكية، ثم لبست الحجاب، وجاءت إلى العمل بالحجاب، فقال لها رئيسها: ما هذا؟! قالت: لقد أسلمت.
قال: لا حرج!! لك ذلك، لكن عليكِ أن تخلعي هذا الثوب.
قالت: لا.
وردت المرأة بقول عجيب أتمنى أن تستمع إليه كل متبرجة في بلدنا، وهي تنتسب إلى الإسلام، قالت: إن الله هو الذي أمرني بالحجاب، ولا توجد سلطة على وجه الأرض تملك أن تنزع عني هذا الحجاب إلا بأمر الله.
كلمات عجيبة! قلت له: أخي! أود منك أن توجه ثلاث رسائل: الرسالة الأولى للأمريكيين، والرسالة الثانية للمسلمين في أمريكا، والرسالة الثالثة للمسلمين في مصر، فقال: أما رسالتي الأولى للأمريكيين فهي: إننا نؤمن بعيسى كما نؤمن بمحمد، إنه فهم دقيق عميق، ولا عجب؛ فقد كان الرجل قسيساً.
إننا نود أن يعلم هؤلاء أننا نجل عيسى، ونؤمن بعيسى، ونجل مريم عليها السلام وعلى عيسى ونبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
قلت: وجه رسالة للمسلمين في أمريكا، قال: أقول لهم: اصبروا ولا تتعجلوا، فإنه لا يتحقق شيء أبداً بدون الصبر -ترجمة حرفية لكلام الرجل- ثم قال: أود أن أقول لهم: إن أخطأ واحد منكم فلا ينبغي أن تفزعوا ولا أن تحزنوا، فلو لم نخطئ ما احتجنا إلى الرب سبحانه وتعالى، فإننا نخطئ؛ لنتوب إلى الله عز وجل.
قلت: فوجه رسالة أخيرة للمسلمين في مصر سأنقلها عنك إلى الآلاف المؤلفة من المسلمين، فقال: قل لهم: إن باعدت بيننا وبينكم آلاف الأميال فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، وإننا نحبكم في الله.(139/9)
واجب المسلمين اليوم حتى ينصرهم الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! ذكرت لحضراتكم في أول اللقاء: أن ما وقع للأمة وقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ولن تعود الأمة إلى عزتها وسيادتها إلا وفق هذه السنن التي لا ينفع معها تعجل الأذكياء ولا وهم الأصفياء.
إذاً: محال أن ينصر الله عز وجل هذه الأمة -وأرجو أن تتقيدوا بالألفاظ- وهي خاذلة لدينه، بل لابد أن تنصر الأمة دين الله؛ لينصرها الله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] لابد من تحقيق هذه الشروط وهذه الضوابط، ومن ثم فإنه لابد أن نقف جميعاً على هذا المنهج العملي الواجب التنفيذ، وهذا هو عنصرنا الثالث والأخير من عناصر هذا اللقاء.
على الأمة أن تعود عوداً حميداً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعودة للقرآن والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إنها عودة واجبة، بل إنها حدّ الإسلام وشرط الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
إن الله لا ينصر أمة نحت شريعته، واستهزأت بسنة نبيه، وفتحت الباب على مصراعيه لأندية الليل التي حولت الليل نهاراً، وللخمر، ولبيوت الدعارة! إن الله لن ينصر أمة عزلت دين ربها وعزلت دين نبيها وانحرفت عن كتاب الله وعن سنة رسول الله.(139/10)
رفع راية الجهاد
ثالثاً: رفع راية الجهاد.
لا عز للأمة إلا إذا رفعت راية الجهاد، ولن ترفع الأمة راية الجهاد إلا إذا عادت إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وإلا فعلى أي شيء ترفع راية الجهاد؟! لابد أن ترفع راية الجهاد؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لا من أجل وطنية، ولا من أجل قومية، ولا من أجل حمية؛ لقول سيد البشرية: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله).(139/11)
التطبيق العملي للإسلام
رابعاً: لابد من أن نحول الإسلام بأخلاقه وسلوكياته إلى واقع عملي في حياتنا ومنهج حياة.
أنا أكرر هذا القول دائماً: يا إخوة! كلنا شهد الإسلام بلسانه، لكن من منا شهد الإسلام بسلوكه وعمله وأخلاقه؟! إن بوناً شاسعاً بين منهجنا وواقعنا، بين ما نتعلمه وبين ما نحن عليه من أخلاق، لابد أن نُحول هذا الدين العظيم إلى واقع عملي في بيوتنا في مواصلاتنا في شوارعنا في وظائفنا.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإن خالف القول العمل بذرت بذور النفاق في القلوب، كما قال علام الغيوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
لابد للكوادر المسلمة، التي تتعلم الإسلام في المساجد من أهل العلم المتخصصين به، أن تفهم الإسلام بشموله وكماله، ولابد أن تحول الإسلام على أرض الواقع إلى عمل يتألق سمواً وروعةً وجلالاً؛ لسمو وروعة وجلال وعظمة هذا الإسلام العظيم.
أيها الأحبة الكرام! إننا لا نخاف على الإسلام؛ لأن الذي وعد بإظهاره على الدين كله هو الله الذي يقول للشيء كن فيكون، وإنما نخاف على المسلمين إن هم تركوا الإسلام وضيعوا الإسلام.
نسأل الله جل وعلا أن يرد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً.
اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم إنهم عزل فكن لهم نصيراً، اللهم إن العالم كله قد عاداهم فكن لهم معيناً، اللهم لا تخذلهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم لا تخذلهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم لا تخذلهم بذنوبهم يا أرحم الراحمين! اللهم عليك باليهود والأمريكيين، اللهم عليك باليهود والأمريكيين، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود بقدرتك يا قوي يا عزيز! اللهم لا تُشْمِتْ بنا الأعداء، اللهم لا تُشْمِتْ بنا الأعداء، اللهم لا تُشْمِتْ بنا الأعداء، اللهم ارفع عن أمة نبيك البلاء، اللهم ارفع عن أمة نبيك البلاء، اللهم ارفع عن أمة نبيك البلاء، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، اللهم شرفنا بالإسلام يا رب العالمين! اللهم شرفنا بالإسلام يا رب العالمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في النيران، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(139/12)
لنبدأ بأنفسنا
الخطوة العملية الأولى: أن تبدأ بنفسك، وأنا أبدأ بنفسي، فلا ينبغي أن نعلق كل ما نسمع على غيرنا، فلنبدأ الآن أيها الأحباب الكرام: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] والله هو من عند نفسي ومن عند نفسك، لو تحركت الآلاف المؤلفة وحول كل واحد منا هذا الكلام في بيته وحياته ووظيفته إلى واقع عملي ومنهج حياة، والله لغير الله حالنا، وأنا لا أخاطب الآن هذه الألوف التي بين يدي، بل أخاطب الأمة في ملايينها المملينة عبر شريط (الكاست)، فإننا رأينا الأشرطة في الشرق والغرب بالآلاف لا بالعشرات ولا بالمئات، لذا فإننا نخاطب الأمة كلها عبر شريط (الكاست): فليرجع كل مسلم إلى الله إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله، وليعلم كل مسلم على وجه الأرض أن شعار المنافقين هو: السمع والعصيان، وأن شعار المؤمنين هو السمع والطاعة، فاختر لنفسك، وحدد طريقك ومنهجك.
هل تسمع عن الله فتقول: سمعنا وأطعنا؟ هل تسمع عن رسول الله، فتقول: سمعنا وأطعمنا؟ أم أنك تسمع وتقول: سمعنا وعصينا؟! حدد طريقك من الآن؛ لأن الأمر لا يحتاج إلى لف أو دوران، فلنصدق الله مرة، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
أما شعار أهل النفاق فكما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
فاختر لنفسك وحدد طريقك ومنهجك، لابد من تمايز الصف الآن، هذا الغبش الذي تحمله الأمة لن ينصرها الله به أبداً، لابد من تمايز الصف، لابد أن يظهر المنافقون لعوام المسلمين، ولابد أن يظهر المؤمنون الصادقون، لابد من التمايز.
فاختر طريقك، وحدد سبيلك، وحدد غايتك، هل أنت ممتثل لأمر الله لأمر رسول الله؟ هل شعارك: سمعنا وأطعنا؟ أم شعارك: سمعنا وعصينا وإن لم يقلها لسانك؟! الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح، والأركان قال الحسن: (ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).(139/13)
تحقيق مبدأ الولاء والبراء
ثانياً: إقامة الفرقان الإسلامي.
هذه هي الخطوة العملية الثانية من بنود المنهج الذي يجب أن ننفذه جميعاً، وليبدأ كل منا بنفسه: إقامة الفرقان الإسلامي؛ ليستبين كل أحد سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، مستحيل أن ننصر الأمة ونحن في حالات من التذبذب، فترى المسلم تارة مع العلمانيين مع المجرمين مع المنافقين مع المبتدعين مع الضالين، وتراه تارة مع المسلمين مع الصادقين مع المتبعين! حالة الغبش هذه، وحالة التذبذب هذه، حالة عدم الولاء والبراء الشرعي، لن تقيم لله ديناً في أرضه، بل لابد أن توالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن تتبرأ من الشرك بصوره، ومن جميع المشركين على وجه هذه الأرض، استغل هذه الأحداث التي تمر بها أمتنا الآن، ورب زوجك وأولادك على عقيدة الولاء والبراء.
هل أحضر واحد منا أسرته في هذه الأزمة الطاحنة، وقال: يا أبنائي! تدبروا معي قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟ فبين لهم عقيدة الأمريكيين وعقيدة اليهود، وأصل في قلوبهم من جديد عقيدة الولاء والبراء، والله لا يصح لك دين، والله لا يصح لك إيمان، والله لا تقبل لك صلاة إلا بالولاء والبراء.
دعك من هذا التميع، أين الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين؟! وأين البراء من الشرك كله والمشركين أينما كانوا وحيثما وجدوا؟! أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان وقال آخر: لو صدقت الله فيما دعوته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصروا فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً بذلك وتجهر هذا هو الدين الحنيف والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] قال حذيفة بن اليمان: فليخش أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري؛ لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إذاً: لابد من إقامة الفرقان الإسلامي.
روى الطبري بسند صحيح: (أن النبي دعا يوماً عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال له: يا عبد الله! هل سمعت ما قال أبوك؟ قال عبد الله: وماذا قال، بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال المصطفى: يقول أبوك: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] فقال عبد الله المؤمن التقي: صدق -والله- أبي، فأنت الأعز وهو الأذل يا رسول الله!، والله لتسمعن ما تقر به عينك.
وانطلق عبد الله، ووقف أمام أبيه، ومنع أباه من أن يدخل داره، فصرخ رأس النفاق ابن سلول: يا للخزرج! ابني يمنعني من بيتي؟! واجتمع الخزرج إلى عبد الله، وقالوا ما الخبر؟! فقال الولد لأبيه: أأنت القائل: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)؟ والله لا يؤويك ظلها -يعني: المدينة-، ولا تبيتن الليلة في بيتك إلا بإذن من الله ورسوله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل)! يقول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، لابد من التمايز أيها الشباب! لابد من إعلان الولاء بصفاء، ولابد من إعلان البراء بقوة وجرأة وشجاعة.(139/14)
المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين
ظاهرة الفتور والانحطاط بعد الجد في العبادة والنشاط ظاهرة يصاب بها كثير من المسلمين في كثير من الأحيان، لاسيما بعد مواسم الخيرات كشهر رمضان، ومن هنا تظهر أهمية (المداومة على العمل الصالح)؛ فهو شعار المؤمنين وديدن المخلصين، ولنا من سلف الأمة الذين ضربوا أروع الأمثلة في المداومة على الأعمال الصالحة خير قدوة وأسوة.(140/1)
داء الإعراض والفتور
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك في أول جمعة بعد شهر رمضان، وكعادتنا سوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: إعراض وفتور.
ثانياً: ثمار زكية.
ثالثاً: أسباب معينة.
رابعاً: مُثل عليا.
وأخيراً: احذر الموت.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! فإن هذا الموضوع بعد رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: إعراض وفتور.
أيها الأحبة الكرام! هاهي الساعات تمر، والأيام تجرى وراءها، وانتهى شهر رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقُبل فيه من قُبل، وطُرد فيه من طُرد، فياليت شعري من المقبول منا فنهنئه ومن المطرود منا فنعزيه؟! فيا عين جودي بالدمع من أسف على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جُعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والشمل مجتمع منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا على ما مضى في الشهر واغتنموا ما قد بقى إخوتي من فضل أعمار أيها الأحبة! لقد رأينا المساجد معطرة بأنفاس الصائمين في رمضان، ورأينا المساجد في رمضان مزدحمة بصفوف المصلين، بل وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بالذكر وكلام رب العالمين، بل وأسعد قلوبنا في رمضان تنافس أهل البر من المحسنين.
ولكن مع أول فجر من شهر شوال يتألم قلبك، وتبكي عينك، ويتحسر فؤادك، وتتمزق نفسك حسرات! أين المؤمنون؟! أين المصلون في رمضان؟! أين القائمون لله في رمضان؟! أين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! سترى المساجد خاوية مع أول فجر من شهر شوال تشكو حالها إلى الكبير المتعال!! ما الذي حدث؟ ترى إعراضاً وفتوراً يؤلم القلب الأبي التقي النقي.
والفتور في اللغة: هو الانقطاع بعد الاستمرار، وهو التكاسل والتباطؤ والتراخي؛ كما قال ابن منظور في لسان العرب: فتر يفتر فتوراً.
أي: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة.
فإنك ترى يا عبد الله فتوراً ملفتاً لجميع الأنظار مع انقضاء آخر ليلة من ليالي شهر رمضان، بل ولست مبالغاً -ورب الكعبة- إذا قلت: إن هذا الفتور قد يتطرق ويزيد إلى درجة الإعراض، لا عن نافلة من النوافل، بل عن فريضة افترضها الله عز جل على عباده على الدوام، لا في المناسبات ومواسم الطاعات، كأن يعرض كثير من المسلمين عن صلاة الفريضة في غير رمضان.
يا عبد الله! هل كنت تعبد في رمضان رباً، وتعبد في بقية الشهور رباً آخر؟! إن رب رمضان هو رب بقية الشهور والأيام هو الإله الواحد الحق الذي لا ند له، ولا ضد له، ولا شريك له، ولا والد له، ولا ولد له.
(قل هو الله أحد) أحد في أسمائه أحد في صفاته أحد في أفعاله.
فيا من صليت لله في رمضان وضيعت الصلاة في غير رمضان احذر واعلم يقيناً بأن هذه الصفة من علامات النفاق، أسأل الله أن يملأ قلبي وقلبك إيماناً، إنه ولي ذلك ومولاه.
إن المداومة على العمل الصالح شعار المؤمنين، بل ومن أحب القربات إلى الله رب العالمين؛ كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، بل وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها كذلك قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم وواظب عليه، فكان إذا فاته شيء من صلاة الليل لنوم أو مرض صلاه في النهار، وإذا فاته شيء من عبادة الليل قضاها في النهار ما بين الفجر والظهر، فيصلي في النهار مثلاً اثنتي عشرة ركعة.(140/2)
ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحة
لقد رأيت أن من الحكمة ومن الفقه أن يكون حديثنا في أول جمعة في شهر شوال عن التذكير للأحباب والأخيار؛ بالمداومة على طاعة العزيز الغفار، أسأل الله أن يختم لنا ولكم بالطاعة إنه على كل شيء قدير، وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي بفضل المداومة على الطاعة، هو عنصرنا الثاني وعنوانه: (ثمار زكية).
ثمار زكية للمداومة على الأعمال الصالحات التي ترضي رب البرية، فإن من داوم على العمل الصالح وذاق حلاوة هذه المداومة سعد في الدنيا والآخرة.
وانتبه معي أيها الكريم! لتتعرف على أهم الثمار للمدوامة على العمل الصالح الذي يرضي العزيز الغفار.(140/3)
تفريج الكربات والمصائب والأزمات
ثالثاً: من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لتفريج الكربات والمصائب والأزمات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس، والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث حسن صحيح، قال ابن عباس: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال النبي: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء؛ لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وفي لفظ أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وآله سلم: (يا غلام! ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قال ابن عباس: قلت: بلى يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: احفظ الله تجده أمامك؛ تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
فيا من داومت على العمل الصالح في الرخاء، لن يتخلى الله عز وجل عنك في وقت الشدة والبلاء: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)، فالمداومة على العمل الصالح من أعظم الأسباب للنجاة من الكروب والشدائد والبلايا والمصائب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).(140/4)
حسن الخاتمة والفوز بالجنة
ومن أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح، أنها سبب لحسن الخاتمة والفوز بالجنة، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة.
كيف ذلك؟! يقول الحافظ ابن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه؛ فإن عشت على طاعة وعلى عمل صالح اقتضى عدل الله أن يتوفاك على ذات الطاعة ونفس العمل الصالح، فإن مت على هذه الطاعة بعثت على ذات الطاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث جابر: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
ويقول الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه الترمذي وأحمد وهو حديث صحيح: (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه).
اللهم استعملنا لطاعتك يا رب العالمين! هذا هو الاستعمال: إذا وفقت للعمل الصالح وداومت عليه، قبضت على هذا العمل الصالح وعلى نفس الطاعة، وبعثت على نفس الطاعة.
ومن أعجب ما سمعت في الأسبوع الماضي: قصة طفل صغير لا يجاوز العاشرة من عمره: لما ذهبت إلى القاهرة في خطبة جمعة رأيت هذا الطفل بين يدي إلى جوار المنبر، فتعلقت به وتعرفت عليه، وفي الجمعة الماضية أقبل علي والده يبكي، فقلت له: أين ولدك؟! فبكى، قلت: سبحان الله! ما الذي حدث؟! قال: مات! قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أسأل الله عز وجل أن يعوضك خيراً، وأن يجعله فرطاً لك على الحوض، فقال لي: والله يا شيخ! أنا ما أبكي لفراقه، وإنما أبكي لحاله، فلقد رأينا منه عجباً عجاباً.
هذا الطفل الصغير رأى الإخوة الكبار العجب العجاب في حياته؛ فقد كان يأخذ مصروفه فيشتري شريطاً، ويسمع الشريط ثم يعيره لبعض إخوانه، ويأخذ جزءاً من مصروفه فيضعه في صندوق المسجد، ويشتري بالجزء الآخر قدراً من الحلوى ليوزعه على الفقراء، سبحان الله! وفي اليوم الكريم المبارك في أول جمعة من شهر رمضان اغتسل في بيته وقال لهم: أريد أن أخرج مبكراً حتى أكون في أول الصفوف في صلاة الجمعة، ولبس ثوباً أبيض جميلاً وتطيب وتعطر، وهو في طريقه إلى المسجد ينزل من السيارة وبينه وبين باب المسجد أمتار، فتأتي سيارة أخرى لتصدمه في الحال، فيُحمل وهو في غيبوبة الموت إلى المستشفى، وقرر الأطباء أن الطفل يحتضر، وأنه بالفعل في غيبوبة الموت.
ولما هم الطبيب أن ينصرف وقبل أن يخرج من غرفة العمليات أو من غرفة العناية المركزة، إذا بالأذان يرفع على المآذن للمساجد القريبة من المستشفى، إنه أذان الجمعة، فلتفتت الأنظار إلى هذا الطفل العجيب حينما رفع يديه وأشار بسبابته إلى السماء، بعد أن عجز لسانه أن يردد (لا إله إلا الله) فتحرك القلب في صدره فأصدر الأوامر إلى هذه الجلود والأعضاء، فارتفعت اليد وأشارت السبابة بإعلان توحيد الله إنها الخاتمة! إنها الخواتيم يا عباد الله.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة.
عباد الله: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم).
ويقول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، اللهم اجعلنا من المحسنين يا رب العالمين! (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا)، يا من جاهدت نفسك!.
يا من صبّرت نفسك على طريق الطاعة وصبرت نفسك عن المعصية! اعلم أن موعود الله أن يهديك السبيل، وأن يثبتك ويسددك على الطريق، وأن يكون معك؛ لأنك حينئذٍ ستكون مع المحسنين، والمحسن: هو الذي يعبد الله كأنه يراه، وهو يعلم يقيناً أنه إن لم ير الله فإن الله جل وعلا يراه (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).(140/5)
محبة الله للعبد
ثانياً: من أعظم ثمار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لمحبة الله للعبد، وانتبه أيها الكريم! فأنا أقول: سبب لمحبة الله للعبد، ولم أقل: سبب لمحبة العبد للرب، وشتان شتان بين المنزلتين.
أخي! المداومة على العمل الصالح سبب لمحبة الله للعبد، ومحبة العبد لربه أمر طبيعي، أما محبة الله جل وعلا لعبده فهي أمر تحبس أمامه ألسنة البلغاء والفصحاء، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي الجليل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، فالمداومة على العمل الصالح بفروضه ونوافله سبب لمحبة الله للعبد.
يا عبد الله! ماذا أنت صانع لو علمت أن رجلاً كبيراً من أهل الدنيا كملك من الملوك أو رئيس من الرؤساء أو وزير من الوزراء قد أعلن على مسمع من الناس ومرأى أنه يحبك؟! ماذا أنت صانع لو أعلن الإعلام على لسان هذا الرجل -وهو مهما علا فهو عبد فقير حقير إلى الله- أنه يحب فلاناً من الناس؟! تدبر في هذا!! ولله المثل الأعلى! بعد هذه أقول لك: ماذا أنت صانع لو علمت أن الملك يحبك؟! فكر في هذه وتدبرها جيداً، تدبر أن الله هو الذي سيحبك، إذا ما داومت على العمل الصالح بفروضه ونوافله.(140/6)
طهارة القلب من النفاق
أول هذه الثمار: أن المداومة على العمل الصالح سبب لطهارة القلب من النفاق، وصلة القلب بربه الخلاق، وهل تريد شيئاً أعظم من هذا؟! إن القلب هو الأصل الذي ينبغي أن تبذل من أجله الأوقات والمجهودات، بل والأموال والدعوات، فإن القلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت جنوده)، فصلاح القلب صلاح للبدن كله، وفساد القلب فساد للبدن كله، كما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحديث مخرج في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فالقلب هو الأصل، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: الأعمال تتفاضل عند الله جل وعلا بتفاضل ما في القلوب لا بكثرتها وصورها.
ومعنى ذلك: أن الإنسان قد يفعل فعلاً عظيماً وعملاً كبيراً في أعين الناس، وهو عند الله حقير لا وزن له؛ لأنه ما انطلق في هذا العمل إلا من أجل السمعة، والشهرة، والرياء والنفاق، والله أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله غير الله، ترك الله ذلك العمل لصاحبه ولشريكه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
وقد يعمل الإنسان عملاً هو في أعين الناس حقير، ولكنه عند الله عظيم؛ لأنه ابتغى بهذا العمل وجه الله الكريم، تصدقت عائشة يوماً بتمرة فتعجب بعض الناس وقالوا: يا أم المؤمنين! تتصدقين بتمرة؟ قالت: نعم.
ألم تقرأ قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7]؟ قال: بلى.
قالت: وإن في هذه التمرة ذرات خير كثيرة! إنه الإخلاص! فالأعمال تتفاضل عند الله بتفاضل ما في القلوب لا بكثرة الأعمال ولا بصورها؛ لذا قال سيد الرجال صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فقدم الحبيب القلوب على الأعمال؛ لأن العمل لا يقبل إلا إذا كان صاحب هذا العمل يبتغي بعمله هذا وجه الله جل وعلا.
والأعمال تتفاضل بتفاضل القلوب لا بكثرة الأعمال وصورها، فإذا استنار القلب بنور التوحيد والإيمان أقبلت إليه وفود الخيرات من كل ناحية؛ فتنقل صاحب هذا القلب من طاعة إلى طاعة، وإذا أظلم القلب -أعاذنا الله وإياكم من ظلام القلب وسواده- أقبلت عليه سحائب البلاء والشرور والهلاك، فانتقل صاحب هذا القلب المظلم من معصية إلى معصية، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط في غياهب الظلام.
أيها الأحبة الكرام! القلب هو الأصل ولذا فإن من أعظم علامات صحة القلب وطهارته من النفاق: المداومة على العمل الصالح.
أيها الأحبة الكرام! لذلك خاف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم من النفاق، أو أن يكون القلب قد تسرب إليه شيء من النفاق وصاحب هذا القلب لا يدري، ولذلك قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فقالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه) لذا كان الصحابة يخشون على أنفسهم من النفاق، حتى لا يظن ظان أنه أعلى من مستوى الوقوع في هذا الداء العضال.
يقول ابن أبي مليكة والأثر رواه البخاري تعليقاً: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وما منهم أحد يقول: إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل.
بل لقد ذهب فاروق الأمة عمر -الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه- إلى حذيفة بن اليمان الذي أطلعه النبي على أسماء المنافقين، ذهب إليه عمر يقول له: أسألك بالله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟! هذا عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه يخشى النفاق على نفسه! ويقول الحسن البصري: ما أمن النفاق إلا منافق، وما خاف النفاق إلا مؤمن، فبالجملة أقول: إن من أعظم علامات طهارة القلب وصحته أن يداوم صاحب هذا القلب على العمل الصالح، فإن من عبد الله في موسم طاعة، وتخلى بعد ذلك عن الطاعة، فإن هذا من أعظم العلامات على نفاق القلب.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول العمل.(140/7)
الأسباب المعينة على المداومة على العمل الصالح
والعنصر الثالث من عناصر هذا اللقاء يظهر بالإجابة على سؤال مهم هو: ما هو السبيل إلى هذا الخير العظيم، وما هي الأسباب التي تعيننا على الوصول إلى هذا القدر الكبير؟ إنها أسباب أبذلها لي ولك لنستعين بها على الطاعات والأعمال الصالحات، لنلقى عليها رب الأرض والسماوات جل وعلا.(140/8)
صحبة الأخيار
وأخيراً من الأسباب التي تعين على المداومة والاستمرار في العمل الصالح: صحبة الأخيار؛ لأن الإنسان قد ينشط إذا رأى إخوانه من حوله على طاعة الله جل وعلا، وقد يشعر الإنسان بالخجل من نفسه إذا رأى إخوانه في طاعة وهو مقصر، وما دمت قد انطلقت في عملك ابتغاء مرضاة الله جل وعلا، فاصحب الأخيار والأطهار والصالحين الذين إذا رأيتهم تذكرك رؤيتهم بالله جل وعلا وبطاعة الله؛ ففي سنن ابن ماجة -والحديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر) فصاحِب مفاتيح الخير ليفتحوا قلبك لحب الله وذكر الله وطاعة الله جل وعلا، وانصرف عن مفاتيح الشر الذين يغلقون قلبك عن طاعة الله وعن حب الله وعن ذكر الله جل وعلا.
قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تجد منه رائحة طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه رائحة منتنة) والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحرم بهذا وظيفة الحدادة، وإنما هو مثل للتوضيح والإيضاح، فاحرص على صحبة الأطهار احرص على صحبة الأخيار احرص على صحبة الذين يذكرونك بالعزيز الغفار، فإن صحبتهم ستعينك على طاعة الله، وستأخذ بيديك على الاستمرار والمداومة على العمل الصالح حتى تلقى الله جل وعلا وأنت على طاعة.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(140/9)
الاعتدال والاقتصاد في الأعمال والطاعات
ثانياً: من أعظم الأسباب التي تعيننا على المداومة على العمل الصالح: الاقتصاد والاعتدال في الأعمال والطاعات، فلا تشدد على نفسك ولا تسرف فلا إفراط ولا تفريط، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأنا أخاطب الآن الشباب بصفة خاصة لأن الله عز وجل لا يكلفك ما لا تطيق: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] فلا تغال أيها الحبيب! ولا تشدد على نفسك.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري، قال الحبيب: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
أخي الحبيب! إن عجزت أن تصل إلى ما تريد فقارب -أي: اقترب من هذا الخير الذي تريد أن تداوم عليه- ولا تكلف نفسك بعمل قد تعجز عنه بعد أسبوع أو بعد شهر أو شهرين، فلا تكلف نفسك ما لا تطيق، فالاقتصاد والاعتدال بلا إفراط أو تفريط من هدي سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين: (أن الحبيب دخل المسجد يوماً فوجد حبلاً ممتداً بين ساريتين في المسجد -أي: بين عمودين- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الحبل؟ قالوا: إنه حبل لـ زينب رضوان الله عليها، قال: ولمَ؟ قالوا: إذا فترت -يعني: إذا تكاسلت عن العبادة تعبت- تعلقت به؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حلوه).
اسمع لهذه العبارات النبوية الكريمة، من المشرع الأعظم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حيث قال: حلوه، ثم التفت إلى أصحابه، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه) أي: على قدر نشاطه وعلى قدر استطاعته (فإذا فتر فليرقد).
انظر إلى التشريع: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد) لأنه لابد للنفس من فترات للترويح، وليس ذلك بالمعصية كما يظن كثير من الناس فيقول: ساعة وساعة.
أي: ساعة لقلبك وساعة لربك، وإذا قلت له: ماذا تقصد أيها الكريم بساعة لقلبك؟ يقول: ألهو وأسمر وأقضي الوقت أمام المسلسلات المسلية وإن كانت في المعاصي!! لا يا أخي! لا أيها الحبيب! وإنما ساعة وساعة تفهم من حديث حنظلة: (لما قابل الصديق رضي الله عنه، وقال له: نافق حنظلة، قال: ومم ذاك؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار حتى كأنها رأي عين، فإذا عدنا إلى الأولاد أو إلى البيوت عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال أبو بكر: والله إني لأجد ما تجد، فانطلقا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! قال: مم ذاك؟ فأخبره بما قال لـ أبي بكر رضي الله عنه، فقال المصطفى: يا حنظلة! والذي نفسي بيده لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة!) أي: ساعة تبكي فيها العيون، وتخضل فيها اللحى، وساعة عودوا فيها إلى الأزواج فداعبوا الزوجات وداعبوا الأولاد والبنين والبنات، واهتموا بالضيعات -أي: بالتجارة والأعمال- ولا مانع من ذلك على الإطلاق.
هذا هو معنى الحديث: (ساعة وساعة) أي: ساعة للرب جل وعلا للآخرة، وساعة للدنيا، أما أن يقال: ساعة لقلبك وساعة لربك، وأن تقضي ساعة القلب في معصية الله فهذا لا يرضي الله جل وعلا.
أيها الأحبة! الاقتصاد والاعتدال والترويح عن النفس من أعظم الأسباب التي تعين الإنسان على أن يستمر وأن يداوم على العمل الصالح، وأنتم تعلمون قصة الثلاثة الذين جاءوا لبيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أنس، فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها، وقالوا: (وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد أبداً، وقال الآخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: وأما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى، قال: أما إني لأخشاكم وأتقاكم لله عز وجل، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، إنه التوازن بين أمر الدين والدنيا، ولذلك يجمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج العظيم العجيب في هذا الدعاء الذي رواه مسلم في دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري) تدبر في هذا المنهج المتوازن المعتدل، يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كلّ خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).
أيها الأحبة! إن المتشدد الغالي المفرط لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، فهذه عائشة رضي الله عنها تقول: (كان أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا تاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، تقول: ولو نزل أولاً لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقال الناس: لن ندع الخمر ولن ندع الزنا أبداً).
لكنه التدرج، وهذا ما فهمه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يوم أن ذهب إليه ولده وقال له: يا أبتِ! ما لي أراك لا تحمل الناس على الحق جملة واحدة -حماس الشباب مع صدق وإخلاص- فوالله لا أبالي إن غلت بي وبك القدور في سبيل الله.
أي: لا أبالي بأن أبتلى أنا وأنت في سبيل الله جل وعلا، فقال الوالد الفقيه عمر بن عبد العزيز: (يا بني! إن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، يا بني إني أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة واحدة فيدعوا الحق جملة واحدة فتكون فتنة).
أيها الحبيب! إن التدرج في الأعمال من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح.(140/10)
الاستعانة بالله جل وعلا
إن من أعظم الأسباب التي تعينك على المداومة على العمل الصالح: أن تستعين بالملك جل وعلا، فإن من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاطلب العون من الله أن يسددك وأن يؤيدك ويوفقك للعمل الصالح الذي يرضيه؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه، حينما أمسكه بيده وقال: (يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: والله إني لأحبك).
قسم ورب الكعبة يجف أمامه الحلق ويخشع أمامه الفؤاد، لو أقسم معاذ أنه يحب رسول الله لكان الأمر عادياً، ولكن الذي يقسم بالله على حب معاذ هو الصادق المصدوق: (يا معاذ! والله إني لأحبك) فيقول معاذ بن جبل: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فوالله إني لأحبك، فيقول الحبيب المصطفى: (فلا تدعن أن تقول في دبر -أي: بعد- كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
فاطلب العون من الله، وقل له: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واطرح قلبك -أيها الحبيب- بين يدي الله، واعترف له بفقرك وضعفك وعجزك وتقصيرك، وقل: يا رب! لو تخليت عني بفضلك ورحمتك طرفة عين لهلكت وضللت، لا حول لي ولا قوة لي إلا بحولك وقوتك وصولك ومددك.
عبد الله! من أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاطلب من الله أن يعينك على العمل الصالح الذي يرضيه.(140/11)
مثل عليا في المداومة على العمل الصالح
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! إلى حضراتكم أسوق بعض النماذج المشرقة إنها المثل العليا إنها القدوات التي يجب أن نرنو بأبصارنا إليها في وقت قدم فيه كثير من الفارهين التافهين ليكونوا القدوة والمثال لأمة مسكينة تشرذمت وتبعثرت كتشرذم وتبعثر الغنم في الليلة الشاتية المظلمة الممطرة.
مثل عليا استمروا على العمل الصالح، وقدموا أروع النماذج لهذه المداومة حتى وصلوا إلى أن يبشروا بالجنة وهم في الدنيا.(140/12)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
هذا هو الصديق صديق الأمة رضوان الله عليه، يسأل النبي أصحابه يوماً من الأيام -والحديث في صحيح مسلم - فيقول: (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيقول: من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله، فيسأل النبي: من تبع اليوم جنازة؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيسأل النبي: من عاد اليوم منكم مريضاً؟ فيقول أبو بكر: أنا يا رسول الله! فيقول المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة) يبشر بالجنة وهو لا زال يمشي على وجه الأرض.
ومن الذي يبشره؟! هل هي هيئة مشبوهة يهودية أو ماسونية؟ لا.
وإنما الذي يبشره بالجنة أعظم البرية صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى قال: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).
إنه التسابق! إنه التنافس على الخيرات والطاعات، وبهذا ارتقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الدرجات العالية، فبشر بعضهم بالجنة من الصادق المصدوق وهو لا زال يمشي على التراب، ويعيش بين الناس في هذه الدنيا.(140/13)
بلال بن رباح رضي الله عنه
وإليك المثل الثاني والأخير: وهو لعبد من العبيد إنه العبد الحبشي الأسود، صاحب البشرة السمراء النيرة إنه العبد الذي عذب على رمال مكة الملتهبة التي تذيب الحجارة والحديد والصخور، فوضع على ظهره فوق هذه الرمال الملتهبة، ووضعت الحجارة على صدره، فلما انقطعت أنفاسه رفع يده ليشير بسبابته وهو يقول في صوت متقطع: أحد أحد يشير إلى وحدانية الملك جل وعلا! إنه بلال رضوان الله عليه، عبد من العبيد أسمر اللون، مزدرى في أرض الجزيرة ممتهن محتقر، فلما عرف الله أعلى الله قدره بالإسلام وبالإيمان وباتباع النبي عليه الصلاة والسلام، فنال الدرجة الشامخة التي ارتقى إليها، بعد أن كان بالأمس القريب على رمال مكة في أرض الجزيرة خادماً لسيد من سادة الكفر في مكة، قال له الحبيب يوماً -والحديث في الصحيحين-: (يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) الله أكبر! إنه لأمر عجب!! بلال العبد؟! نعم.
رقاه الإسلام فارتقى به من العبودية للعبيد إلى العبودية لرب العبيد، والعبودية للملك جل وعلا عزة ورفعة، وكلما ازددت عبودية لله كلما زادك الملك رفعة ورقياً وقربى، لذا امتن الله على حبيبه صلى الله عليه وسلم بصفة العبودية في أعلى المقامات وأجلها، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فالعبودية لله شرف، والعبودية لله عز، والعبودية لله كمال، والعبودية للعبيد ذل وحقارة وامتهان.
ما جاء الإسلام إلا ليخرج الناس من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
بلال الحبشي الذي ارتقى بالإسلام والإيمان، يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة) بل إن رواية الترمذي بهذه الصيغة: (يا بلال! أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني رأيتك قد سبقتني إلى الجنة) الله أكبر! وفي لفظ: (فإني سمعت خشخشة نعليك بين يدي في الجنة) أتدرون ما هو هذا العمل؟! إنه المداومة على العمل الصالح.
قال بلال: (إن أرجى عمل عملته أنني ما توضأت وضوءاً أو تطهرت طهوراً إلا وصليت لله عز وجل ركعتين)، وفي لفظ الصحيحين: (إلا وصليت لله بهذا الطهور -أو بذلك الطهور- ما كتب لي أن أصلي) إذا توضأ أو تطهر في ساعة من ليل أو نهار قام يصلي بهذا الطهور أو بهذا الوضوء ما كتب الله عز وجل له أن يصلي.
إنه الحرص والمداومة على الأعمال الصالحات التي ترضي رب الأرض والسموات جل وعلا.(140/14)
التذكير بالموت
أيها الأحبة! أخيراً أقول: اذكر الموت فإنك إذا علمت أن أقرب غائب تنتظره هو الموت حرصت على أن تستغل كل ساعة من عمرك في طاعة الملك جل وعلا، فذكر نفسك أيها الحبيب بهذا الغائب القريب، وقل لنفسك: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أنك تموت والله حي لا يموت.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأديب! يا أيها المفكر! يا أيها الوزير! يا أيها الرئيس! يا أيها الملك! يا أيها الحبيب! ويا أيها الحقير! كل باك فسيُبكى كل ناع فسينعى كل مدحور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أخي الحبيب! بادر بالتوبة فإن الموت أقرب غائب ينتظر: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسياً ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا أيها الحبيب! اغتنم ما بقي من العمر! لقي الفضيل بن عياض رجلاً فسأله الفضيل عن عمره: كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل، فقال له الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل يا أخي! هل عرفت معناها؟ قال: نعم.
عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع.
فقال الفضيل: يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
فعد إلى الله أيها الحبيب! وداوم على العمل الصالح.
يا من فرطت في الأسبوع أو في الأيام القليلة هذه بعد رمضان عد إلى الطريق عد إلى الطريق عرفت فالزم، ذقت الحلاوة فالزم، من ذاق عرف، ومن عرف اغترف، فاقترب من الخير واقترب من الفضل، ووالله الذي لا إله غيره إن الدنيا دار ممر وإن الآخرة هي دار المقر.
أين أجدادك؟! أين آباؤك؟! أين من سبقنا بالأموال والجاه والسلطان؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان فالمداومة على العمل الصالح من شعار المؤمنين وأهل الإيمان.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم للمداومة على العمل الصالح الذي يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم استعملنا لطاعتك يا رب العالمين! اللهم استعملنا في طاعتك يا أرحم الراحمين! اللهم يا من أعنتنا على الصيام فصمنا وعلى القيام فقمنا؛ خذ بنواصينا إليك لنرضيك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا فنهلك اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا فنهلك اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك يا رب العالمين اللهم أسعدنا في الدنيا بطاعتك، وفي الآخرة بجنتك اللهم أسعدنا في الدنيا بطاعتك وفي الآخرة بجنتك.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(140/15)
لا تحسبوه شراً لكم
كل شيء يقع في الكون قد قدره الله عز وجل وأراده، فيجب على المسلم ألا يعترض على المحن والابتلاءات التي تمر بالمسلمين؛ فإن الله عز وجل يريد بها خيراً، والابتلاء سنة الله في خلقه، فقد ابتلى أنبياءه وأولياءه؛ ليرفع درجاتهم، ويعلي مكانتهم.(141/1)
كل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أحبتي في الله! عنوان لقائنا هذا (لا تحسبوه شراً لكم)، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجليل في العناصر التالية: أولاً: واقع مر أليم، وكل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر.
ثانياً: دروس من التاريخ.
ثالثاً: والعاقبة للمتقين.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: واقع أليم، ولا يقع شيء في الكون إلا بقدر.
أحبتي في الله! أرى رياحاً عاتية من القنوط واليأس تعصف بقلوب كثير من المسلمين بسبب هذا الواقع المر الأليم، ومن هذه الرياح العاتية: أن هناك قلوباً قلقة، وقلوباً متشككة في قدر الله سبحانه وتعالى، وفي علم الله وحكمته، وإن لم يستطع الواحد من هؤلاء أن يعبر بلسانه عن هذا الواقع المر الأليم ويمنعه خجله وحياؤه، فقد يعبر عن ذلك بلسان الحال، فيطحن الواقع الأليم قلبه إلى حد التشكك في قدر الله سبحانه وحكمته، فيقول أحدهم بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: ألا يسمع الله بكاء الأطفال في فلسطين؟! ألا يرى الله الدماء التي تسفك والأشلاء التي تمزق؟! ألا يسمع الله صراخ الأقصى وأنينه؟! ألا يسمع الله ويرى هذا الواقع المر الأليم لإخواننا في فلسطين؟! وقد تخلى أهل الأرض عنهم، إلا من رحم الله جل وعلا من أفراد قلائل يتألمون بآلامهم، ويعانون لمعاناتهم، ألا يسمع الله ويرى صراخ هذه البنت المسكينة التي هدم بيتها، وقتل والدها وقتلت أمها، وهي تصرخ أمام العالم كله؟! بل وتنادي المسلمين في كل مكان وتقول: أيها المسلمون! أين أنتم؟! وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبي قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق فمدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق فأين العزة؟! وأين النصرة؟! وأين الاستخلاف؟! أولم يقل الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]؟! أولم يقل الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؟! أولم يقل الله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]؟! أولم يقل الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]؟! إلى آخر هذه الآيات.
فأين العزة أيها المشايخ؟! وأين الاستعلاء؟! وأين التمكين لأهل الإيمان في الأرض؟! وأين النصرة؟! وأين السبيل للمؤمنين على الكافرين؟ والكافرون الآن قد أذلوا المسلمين ذلاً لا ذل بعده، وقد أهانوا المسلمين مهانة لا مهانة بعدها.
و
الجواب
مع هذا الواقع المر الأليم أقول: اعلموا يقيناً بأنه لا يقع شيء في كون الله إلا بقدر وعلم وحكمة، والله يسمع ويرى، ولسنا بأرحم بالمستضعفين من الله، ولسنا بأرحم بآهات المتألمين من الله، فالله يسمع ويرى، ولا يقع شيء في كونه إلا بقدره، وإلا بعلمه وحكمته، والإيمان بالقدر خيره وشره ركن من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ولا يصح إيمانك إلا إذا آمنت بالقدر خيره وشره، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي خيثمة قال: كان أول من قال في القدر -أي: بنفي القدر- بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي: أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -أي: يبحثون عن غوامض العلم وخوافيه ودقائق مسائله- وذكر من شأنهم: ويزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، -أي: لا يعلم الله الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها- فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم قال ابن عمر: حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد) الحديث وفيه أن هذا السائل الكريم سأل رسول الله عن الإيمان، فقال: (ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)، فكل شيء في الكون بقدر، ولا يقع إلا بعلم وحكمة، وإن غابت عنا الحكمة فإن الله العليم يعلمها، وإن غابت عنا الحكم في أقدار الله وفي محن الله وابتلاءاته للمسلمين فإن الله جل وعلا يعلم الحكمة من وراء كل محنة، ويعلم الحكمة من وراء كل بلاء، ويعلم الحكمة من وراء كل قدر، فالله عليم حكيم، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
وقال جل وعلا: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]، فما من ورقة في شجرة أو نخلة على ظهر الأرض تسقط إلا بعلمه، وإلا بقدره سبحانه، وما من شجر على ظهر الأرض إلا ويعلمه الله، وما من نهر ولا بحر على سطح الأرض إلا ويعلم الله ما في قعره، ولا يغيب عن سمعه وبصره وعلمه شيء، وإن وقع شيء في كونه فبقدر وبحكمة، وكيف ننسب الحكمة لحكماء البشر في أقوالهم وأفعالهم وننفي الحكمة عن خالق البشرية في أقواله وأفعاله؟! أيها الأخيار! إنما هو قدر الله، وهو واقع بعلم الله وحكمة الله جل جلاله، ولابد لكل مسلم من الإيمان بهذا حتى لا تعصف رياح القنوط بقلبه، وحتى لا تهب رياح الشكوك على إيمانه في صدره، قال جل جلاله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يتشككوا، ولم تعصف رياح الشك بإيمانهم قط، بل إن إيمانهم بالله جل جلاله، وإيمانهم بالقدر خيره وشره، وإيمانهم بالعليم الحكيم إيمان ثابت كثبوت الجبال الرواسي؛ لا تزلزله الفتن، ولا تعصف به المحن، وأن كل شيء يقع في الكون إنما هو بقدر الله وعلمه وحكمته.
وقد اخترت هذا العنوان الكريم: (لا تحسبوه شراً لكم)، لأؤكد لكم الخير المخبوء في المحن والفتن، وهذا على قدر علمي وإلا فقد يعلمنا الله حكماً في محنه وابتلاءاته، وقد يحجب عنا حكماً فلا يعلمها كثير من البشر، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: دروس من التاريخ.(141/2)
بعض الدروس المستفادة من حادثة الإفك
أيها الأخيار! اسمحوا لي أن أبدأ بهذا الدرس الذي استلهمته من قول الله تعالى في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات الكريمات في سورة النور.
هذا الإفك الخطير، يقول الله فيه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) وتدبر معي! فأنت قد قرأت الآيات الكريمة من قبل، لكنني اليوم أخاطب فيك عقلك وقلبك وفطرتك، الله يقول في هذا الإفك العظيم الذي طحن قلب المصطفى، ومزق فؤاده، إنه إفك رمي به المصطفى في شرفه رمي به المصطفى في عرضه رمي به المصطفى في طهارته، وهو الطاهر الذي فاقت طهارته كل العالمين، رمي به المصطفى في صيانة حرمته! إنه إفك خطير، والحديث في الصحيحين، ولا أريد أن أقف مع الحديث بطوله، وإنما نقف عند المهم منه، وفيه: أن عائشة رضي الله عنها لما تخلفت عن الجيش في غزوة بني المصطلق لقضاء حاجتها، وكانت الغزوة بعد نزول آية الحجاب، فكانت تحمل في الهودج، وتنزل وهي بداخل الهودج، وهذا من دواعي الستر والحجاب، والهودج: هو المحمل المعلوم الذي يوضع على ظهر البعير، فإنه لما نزلت آية الحجاب كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يركبن في الهودج إذا سافرن مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وأرجو أن تتصوروا معي عائشة الفتاة الحيية التي ترعرعت في بستان الحياء والإيمان إذا أرادت أن تقضي حاجتها وكانت في مكان فيه رجال، أتصور أنها ستنطلق بعيداً بعيداً، حتى لا تراها العين، ثم تقضي حاجتها، وهذا هو الذي كان في هذه الغزوة، فإنها لما خرجت كان الليل شديد السواد، وكان الليل حالك الظلمة، فعادت عائشة رضوان الله عليها إلى هودجها في المكان الذي نزل فيه الجيش فتحسست عقدها فلم تجده، فعادت إلى المكان الذي قضت فيه حاجتها؛ لتبحث عن عقدها، ثم عادت فوجدت الجيش قد رحل! وكان الرجال قد حملوا الهودج فوضعوه على الراحلة وهم يظنون أن أم المؤمنين بداخل الهودج، فنامت في مكانها حتى يرجع إليها القوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه أن يبقى خلف الجيش؛ ليأتي بأي شيء أو بأي متاع، فلما جاء صفوان بن المعطل ورأى سواد إنسان فنظر إليها فعرفها وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول عائشة: فوالله! ما استيقظت من نومي إلا على استرجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي -أي: غطيت وجهي بجلبابي- فلما رآني عرفني وكان يراني قبل نزول آية الحجاب، قالت: والله! ما كلمني، ولا كلمته، وما سمعت منه غير استرجاعه -أي: غير قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ صفوان راحلته، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها حتى أدركوا الجيش في نحر الظهيرة -أي: في وقت شدة الحر- فلما رآها رأس النفاق عبد الله بن أبي قال: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين عائشة.
قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، قالت: فهلك من هلك في شتمي.
وفي رواية خارج الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين عائشة، قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان بن المعطل السلمي فقال الوقح: امرأة نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقود لها الراحلة! والله ما نجت منه وما نجا منها! إنها قولة خبيثة شريرة، وتلقفت عصابات النفاق -التي لا يخلو منها زمان ولا مكان- هذه القولة الشريرة، وهذا الإفك الخطير، ورددت هذه الكلمات التي اتهم فيها رسول الله في عرضه، وفي شرفه ودينه ورسالته، وفي كل شيء، وفي عائشة التي أحبها من كل قلبه، كما في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة)، فيرمى رسول الله في زوجته! ويرمى الصديق في طهارة بنته! وهو الصديق الطاهر الذي قال قولته التي تعبر عن مدى ألمه، قال: (والله! ما رضينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام؟!) وعائشة هي الزهرة المتفتحة في بستان الإسلام، المترعرعة في حديقة الإيمان، التي تولى تربيتها ابتداءً صديق الأمة، ثم انتقلت في التاسعة من عمرها إلى بيت نبي هذه الأمة، فعلى أي منهج تربت عائشة؟! وعلى أي خلق ثم ترمى في عرضها وفي شرفها؟! ويرمى صفوان بن المعطل في دينه، بل ويرمى بالخيانة لربه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم! وترجع المسكينة عائشة إلى بيت رسول الله في المدينة وهي لا تعلم شيئاً، فهي الحصان الرزان التي لا تأبه لمثل هذا، وخاضت عصابة المنافقين في المدينة شهراً كاملاً في هذا الإفك الخطير، ولحكمة يريدها ربنا لا ينزل الوحي على قلب المصطفى شهراً كاملاً، ويحطم الألم كبده، ويهز الحزن فؤاده، حتى خرج النبي يسأل عن عائشة! فيسأل أسامة، ويسأل علياً، ويسأل بعض الصحابة عن عائشة، وتصوروا معي حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! تقول عائشة: وأنا لا أنكر شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اللطف الذي كنت أعرف منه، فكان يدخل عليّ فيسلم ويقول: (كيف تيكم؟) حتى دخلت عليّ أم مسطح فأخبرتني بما يقوله أهل الإفك، فلما دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ فأذن لها رسول الله، فذهبت إلى بيت الصديق رضي الله عنه، وبعد شهر كامل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الصديق، وجلس إلى جوار عائشة رضي الله عنها، فتشهد -أي: حمد الله عز وجل، وأثنى عليه- ثم التفت إلى عائشة وقال: (يا عائشة! إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا أذنب وتاب إلى الله تاب الله عليه، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل)، تقول عائشة: فلما سمعت مقالة رسول الله قلص دمعي -أي: جف دمعي- والتفت إلى أبي، وقلت: أجب عني رسول الله، فقال الصديق: (والله! ما أدري يا ابنتي! ماذا أقول لرسول الله)، فتركت عائشة المسكينة أباها الصديق، والتفتت إلى أمها وقالت: أجيبي عني رسول الله، فقالت الأم المسكينة الجريحة: والله! ما أدري يا ابنتي! ماذا أقول لرسول الله، ثم قال عائشة: والله! لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، قالت: ثم نمت على فراشي، وأنا أعلم والله! أني لبريئة، وأن الله مبرئي، لكني ما كنت أظن أن ينزل الله فيّ وحياً يتلى، فلشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل فيّ وحي يتلى، بل كنت أرجو الله أن يرى رسول الله صلى الله عليه سلم رؤيا يبرئني الله فيها، قالت: والله! ما رام أحد مجلسه -أي: ما ترك أحد في البيت مكانه الذي يجلس فيه- وإذ بالوحي يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تنزل عليه الوحي أخذته شدة، فتحدر منه عرق كالجمان -أي: كحبات اللؤلؤ- في اليوم الشديد البرد؛ من شدة ما يتنزل عليه من الوحي، قالت: فسري عن رسول الله وهو يبتسم ويقول: (أبشري يا عائشة! فلقد برأك الله عز وجل)، فقالت أمها: قومي يا عائشة! -أي: قومي إلى رسول الله- فاشكريه، فقالت عائشة: لا والله! والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي من السماء، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت براءتها العظيمة من أعظم مناقب عائشة، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
ويسأل الآن أصحاب القلوب القلقة المتشككة: أين الخير في هذا الإفك الخطير؟! أين الخير وقد رمي رسول الله في عرضه؟! أين الخير وقد اتهمت عائشة بالزنا؟ وأين الخير وقد رمي الصديق في شرفه؟ وأين الخير وقد اتهم صفوان بالخيانة؟! وأين الخير وقد كادت عائشة أن تموت وهي بين الأحياء؟! وأين الخير والمؤمنون الصادقون من الأوس والخزرج كادت أن تقع بينهم فتنة؟! ولكن الخير موجود كما قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
فإن قلت: أين الحكمة في هذا الشر؟ وأين الخير في هذا الإثم؟! فأقول: تدبر معي! وسأقف على ثلاثة دروس فقط من هذا الشر؛ لأجلي الخير الذي فيه.(141/3)
حادثة الإفك أظهرت فضل عائشة
الدرس الثالث من دروس هذه المحنة والفتنة والابتلاء: لولا هذا الابتلاء ما عرفت الأمة مكانة عائشة؛ فلهذا الدرس تجلت مكانة الصديقة بنت الصديق واستحقت أن تكون بجدارة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة تفخر بأن الله برأها من فوق سبع سماوات، وظلت في قلب المصطفى حتى مات، قالت: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة) والحديث في الصحيحين.
هذه بعض الدروس، وهذا بعض الخير في هذا الشر، وصدق الله القائل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].(141/4)
رسول الله لا يعلم الغيب
الدرس الأول في هذا الإفك العظيم وهذا الابتلاء الكبير: أنه لو لم يرد الله عز وجل من هذه المحنة إلا أن يعلم الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب لكفى، ويا له من خير! ويا له من درس! شهر كامل ورسول الله لا يعلم شيئاً، ولا يعلم الخبر، ويسأل عن عائشة أصحابه، قال عز وجل: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:20 - 23]، أي: إلا أن تبلغ دين الله، ورسالة الله على مراد الله، كما قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
إنه درس عظيم!(141/5)
الفتن والابتلاءات تظهر المنافقين
الدرس الثاني: بعد هذه المحنة ظهر المنافقون، فالمنافقون مندسون في الصف، والمؤمنون يعرفون أعداءهم الظاهرين، فيعرفون اليهود، ويعرفون أهل الكفر، لكنهم لا يعرفون المنافقين الذين يندسون في الصفوف، فتأتي المحن، وتأتي الفتن؛ لتظهر ما تكنه الصدور من نفاق، ولتظهر ما تكنه القلوب من حقد على الإِسلام وأهله، فظهر النفاق، وظهرت عصابة النفاق، فالمحن تطرد عن الصف المزيفين، ولا يثبت على الصف بعد المحن والفتن والابتلاءات إلا من صفت نفسه، وخلصت سريرته، ومشى على الطريق يريد فضل الله وأجر الله جل جلاله، فلا يتاجر بالدعوة ولا بالعقيدة في سوق التجارة والشهوات، ولا يكون ممن يبيع ويشتري بالدعوة، فإن حصل نفعاً وخيراً فهو على الطريق مع السائرين، وإن تعرض للمحنة أو الابتلاء تخلى عن الطريق، كما قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، وقال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
وهل الله لا يعلم الصادقين من الكاذبين إلا بعد المحن والابتلاءات؟!
الجواب
كلا، بل إن الله علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وإنما ليطلع الله أهل الإيمان على أهل النفاق، ثم ليعاقب الله وليحاسب الله عباده على ما بدر منهم من قول وعمل، لا على ما علمه منهم سبحانه وتعالى، وهذا قمة العدل والرحمة، فالفتن والمحن تظهر المنافقين، وتبين المخبوء في الصدور، فظهر بعد المحنة أهل النفاق وعصابة النفاق.(141/6)
بعض الدروس المستفادة من ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم
الدرس الثاني: في غزوة أحد شج وجه المصطفى وكسرت رباعيته ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر، وهزم المسلمون؛ لسنة ربانية، ألا وهي: أنهم خالفوا أمر سيد البشرية، وانتشر الخبر في أرض المعركة: لقد قتل رسول الله، حتى ألقى بعض الصحابة أسلحتهم، وقال بعضهم: مات رسول الله، فما نصنع بعده؟! فقال أنس بن النضر -وحديثه في الصحيحين-: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله.
انتشر خبر موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهزم المسلمون، وشج وجه المصطفى، وكسرت رباعيته، وانتصر المشركون، ومع ذلك تريد أن تقول: إن هذا الأمر ليس من الشر، وفيه من الخير ما الله به عليم؟! فأقول: بلى، فيه من الخير ما الله به عليم، وتدبر معي قوله تعالى في هذه الغزوة: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:139 - 144].
أيها الموحدون! أراد الله بغزوة أحد وبهذه الحادثة الأليمة أن يعلم الصحابة أن العبد عبد، وأن الرب رب، ولو كان العبد هو المصطفى صلى الله عليه وسلم، أراد الله أن يعلم الصحابة والأمة من بعدهم درساً لا ينسى أبداً، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، ورسول من عند الله، جاء ليبلغ الناس دين الله، وجاء ليربط الناس بالعروة الوثقى ثم يمضي إلى ربه وهم بالعروة الوثقى مستمسكون.
أراد الله أن يجعل عهد المسلمين معه سبحانه مباشرة لا مع أحد من خلقه، حتى إذا مات رسول الله بقي المسلمون على عهدهم مع الحي الذي لا يموت.
أراد الله أن يعلِّم المسلمين أن الدعوة أبقى من كل الدعاة، وأن الدعوة أكبر من كل الدعاة، وأن الدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون، وتبقى الدعوة قائمة على مر الأيام والقرون، فلو ماتت الدعوة بموت داعية لماتت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة صلى الله عليه وآله ومن ولاه! فلا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير لكم.(141/7)
بعض الدروس المستفادة من صلح الحديبية
وفي صلح الحديبية قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! ألسنا على الحق؟! قال: بلى، أليسوا على الباطل؟! قال: بلى، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا ونرجع؟!).
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة رجل من أصحابه -على الراجح من أقوال المحققين من أهل السير- للعمرة، خرج رسول الله بإحرامه يسوق الهدي أمامه، ولم يخرج للقتال، ولكن المشركين تكبروا وعاندوا وأعرضوا ومنعوا رسول الله من دخول بيت الله الحرام، وأرسلوا إليه مفاوضين، حتى أرسلوا إليه سهيل بن عمرو؛ ليوقع عقد صلح الحديبية مع رسول الله، وكان عقداً مجحفاً ظالماً في الظاهر، حتى قال عمر: فلم نعط الدنية في ديننا؟! وغضب عمر إلى الحد الذي ترك فيه رسول الله وذهب إلى الصديق؛ ليقول له ما قاله للنبي: يا أبا بكر! ألسنا على الحق؟! قال: بلى، أوليسوا على الباطل؟! قال: بلى، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا يا أبا بكر؟! فيقول الصديق لـ عمر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر، فالرسول قال: (إني رسول الله ولن يضيعني)، والصديق قال لـ عمر: (يا عمر! إنه رسول الله، ولن يضيعه).
ونزل القرآن على رسول الله يخبره أن الصلح كان فتحاً، ونزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فلما سمع عمر الآية اطمأن قلبه، واستبشر بأنه فتح، وبالفعل لقد كان فتحاً، فلقد تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة، وأرسل كتبه إلى الملوك والحكام والرؤساء، وصار الإسلام قوة لا يستهان بها، وبعد سنوات قليلة عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه المؤمنين الأتقياء؛ ليفتحوا مكة بأمر رب الأرض والسماء، فكان صلح الحديبية -وإن كان في ظاهره ظلم شديد للمسلمين- فتحاً مبيناً، كما قال رب العالمين، وكما وعد بذلك سيد المرسلين: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ).(141/8)
الدروس المستفادة من الأحداث والمحن عبر التاريخ
لا أريد أن استطرد مع أحداث التاريخ كلها، ففي كل محنة خير، وفي كل شر خير، ولا يوجد على الإطلاق شر محض، بل في كل محنة منحة، وفي كل ابتلاء دروس، وإن غابت عنا الحكمة فالله يعلمها؛ لأنه هو الذي قدر وقضى بعلم وحكمة.
وإمام أهل السنة: أحمد بن حنبل ما عرفت إمامته إلا بعد محنة فتنة خلق القرآن، وما صار إماماً لأهل السنة إلا بعد المحنة، وما عرف بأنه إمام من أئمة الصبر، وبأنه جبل من جبال الثبات على الحق، إلا بعد المحنة، فالمحن تظهر الرجال، والمحن تظهر المخبوء في الصدور؛ لأن الإنسان في حال الرخاء والسعة قد لا يعرف خبايا نفسه، وقد لا يقف على عيوبها، بل قد يتوهم الكمال، فإذا ما تعرض لمحنة أو ابتلاء ظهرت عيوب نفسه: من الجزع والفزع والهلع، والخوف وعدم الحب لدين لله، فالمحن تظهر الرجال.
ولما تعرض الإمام أحمد للمحنة، وسجن ثلاثين شهراً، وضرب بالسوط، من أجل أن يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: ائتوني بآية من كتاب الله لأقول بها، ائتوني بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدث به، فثبت الإمام حتى صار بعد المحنة إماماً لأهل السنة، حتى قال إمام الجرح والتعديل علي بن المديني رحمه الله تعالى: لقد أعز الله الدين بـ أبي بكر يوم الردة، وبـ أحمد بن حنبل يوم المحنة.
وهذا درس آخر من أحداث التتار لما نزلوا العراق، وأسأل الله أن يكشف هم العراق، وأن يدمر الأمريكان ومن عاونهم من البريطان، فما زالوا يدكون العراق بالطائرات، بل أعدوا العدة لضرب العراق ضربة ساحقة.
لما دخل التتار بغداد، وكانت عاصمة الخلافة، فمنعوا صلاة الجمعة وصلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا، وخشي المسلم من أن يخرج إلى الشارع، ولقد هزم المسلمون يومها هزيمة نفسية نكراء، حتى كان الرجل التتري إذا رأى المسلم في الشارع صرخ فيه وقال: قف مكانك! حتى أرجع إلى داري لآتي بسيفي لأذبحك! فيثبت المسلم في مكانه من الفزع والرعب ولا يتحرك حتى يغيب التتري ما شاء الله له أن يغيب ثم يرجع ليذبح المسلم في مكانه، وهو لم يتحرك من الهزيمة النفسية القاتلة!! لكن هذا كان يحمل من الخير ما الله به عليم، فبهذه المحنة صفت القلوب، وصفت الصفوف، فثبت على الصف الأطهار والأبرار، وخرج من الصف المنافقون والدخلاء، حتى قام المسلمون على قلب رجل واحد، فهزموا التتار شر هزيمة، وعادت عاصمة الخلافة مرة أخرى إلى المسلمين.
ثم جاءت بعد ذلك الحروب الصليبية الطاحنة، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، ورفعوا الصلبان على كل أجزائه وأماكنه، ومنعوا الصلاة في المسجد الأقصى واحداً وتسعين عاماً، ولم تصل في المسجد صلاة واحداً وتسعين عاماً! هذه المحنة الشديدة الطويلة صفت القلوب، وغربلت الصفوف، فخرج من الأمة الأطهار والأبطال، وأنا أؤكد تأكيداً جازماً: أن الأمة لا تخلو أبداً من هذه العصابة المؤمنة من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، فخرجت هذه الصفوة وهذه الثلة المباركة بقيادة صلاح الدين -أسأل الله أن يزرق الأمة الصلاح؛ لتكون من جديد قادرة على إنجاب مثل: صلاح - فهزموا الصليبيين شر هزيمة، واستردوا المسجد الأقصى، ويومها علّم صلاح الدين الصليبيين الحاقدين درساً من أعظم دروس الإحسان في الإسلام.(141/9)
بعض الدروس المستفادة من الأحداث الجارية على الأمة الإسلامية في هذا العصر
والمحنة التي تمر بها أمتنا الآن في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي الفلبين وفي طاجاكستان وفي العراق وفي الجزائر وفي السودان وفي اريتريا وفي كل مكان، أقول -بعد هذا السرد التاريخي السريع- بملء فمي وأعلى صوتي: لا تحسبوا هذه الفتن شراً لكم، بل هي خير لكم، وإن ظن البعض أنه لا خير؛ لأن الدماء تسفك، والأشلاء تمزق، والقدس في أيدي اليهود، والشيشانيون يذبحون، والمسلمون في كشمير يذبحون إلخ.
ولكن كما قال الله: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأستطيع أن أستخرج بعض دروس الخير من هذه الفتنة الحالقة الطاحنة، وأنا أقر بأنها طاحنة وبأنها قد طالت، فبعد زوال ظل الخلافة لم تزل الأمة في محنة، ومما يزيد الألم في القلب: أن الأمة في الماضي كانت مع كل محنة تملك جل أو كل مقومات النصر: من إيمان صادق بالله، وتوكل عليه، واستعانة به، وإعداد للقوة على قدر الطاقة، وبهذا تكون الأمة قد نفذت أمر الله، وامتثلت شريعته، لكن الذي يزيد الألم الآن في القلب: أن الأمة قد نحت شريعة الله بالجملة، ولم تعد تثق في الله كثقتها في أمريكا أو في أوروبا! بل ما زالت الأمة الآن -على ألسنة زعمائها- تردد وتتغنى بالدور الأمريكي، وبراعية السلام في المنطقة! وبالاتحاد الأوروبي! وبالحلف الأطلسي! وبالبيت الأبيض! وبالبيت الأحمر! فالأمة الآن تثق في أمريكا وفي بعض الدول أكثر من ثقتها برب السماء والأرض! وهذا مما يزيد المحنة أسىً، وأنا لا أنكر ذلك، ولكنني ومع كل ذلك أذكر بقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فإن قلت أين الخير؟! فأقول: تدبر معي! لقد شاء الله جل وعلا في هذه المحنة الأخيرة الطاحنة أن يظهر للعالم كله حقيقة الغرب، وسقطت ورقة التوت، التي طالما وارى بها الغرب عوراتهم وسوءاتهم، وتمزقت خيوط العنكبوت التي طالما وارى بها النظام الغربي وجهه الكالح الغشوم، فسقطت ورقة التوت، وتمزقت كل خيوط العنكبوت، وأظهرت المحنة الأخيرة بعد زوال ظل الخلافة، وبعد وضع الغدة السرطانية الخبيثة المعروفة بدولة اليهود في قلب فلسطين الحبيبة، أظهرت المحنة النظام الغربي على حقيقته، وقد كنا منذ سنوات قليلة جداً نسمع في إعلامنا، ونقرأ على صفحات الجرائد لأقلام تعزف على وتر التصفيق والتشييد للغرب، فشاء الله تبارك وتعالى أن تظهر المحنة حقيقة الغرب، وأن الغرب الكافر لن ينصر توحيداً قط؛ لأن الكفر ملة واحدة، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
والمؤمن لا يحتاج إلى هذا الواقع ليصدق به كلام الله، ولكن الواقع المر يظهر الحقائق لأصحاب القلوب القلقة المتشككة، فقد ظهر النظام الغربي على حقيقته، وظهرت حقيقة البيت الأبيض، وظهرت حقيقة هيئة الأمم، وظهرت حقيقة الحلف الأطلسي، وظهرت حقيقة مجلس الأمن، وظهرت حقائق هذه الأحلاف والمنظمات والهيئات، وعلم المسلمون بل والعلمانيون أن القضية لن تحلها أمريكا، ولن تحلها أوروبا أبداً! هذه الفتنة أظهرت كل هذه الحقائق، وبدون هذه المحنة لم يكن قد ظهر شيء من هذا على الإطلاق، ولقد انتبه غافل قومنا من المسلمين إلى أن الغرب الكافر لا ينصر لله ديناً، ولا ينصر للأمة قضية، وأظهرت المحنة حقيقة الزعماء، وحقيقة كثير ممن يدعي أنه يحب الإسلام، بل أظهرت حقيقة من يدعي الوطنية، وأظهرت هذه المحنة حقيقة الوطنيين، فما أودى بالأمة إلا وطنية مشئومة، وما أودى بالأمة إلا عصبية منتنة، ولكن المحنة أظهرت كل هذا، وأظهرت المحنة أيضاً حقيقة كثير من العلماء ممن سقطوا فزوروا الفتاوى من أجل كرسي أو منصب زائل، وأظهرت المحنة أيضاً كثيراً ممن كان يتغنى بحب الجهاد، ولكنه يبخل بدعوة لإخوانه فضلاً عن جهاد بماله! فأظهرت الأزمة للأمة هذه الحقائق.
وأظهرت الأزمة أيضاً: أن محمداً ما مات، وما خلف بنات، بل خلف رجالاً، بل إن الأطفال على أرض فلسطين قد سطروا المعجزات، ورب الكعبة! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل على أرض فلسطين، فماذا أفعل؟! وماذا يصنع مثلي؟! نتكلم ولكن لا ينفع الكلام، ونناظر في التكليفات الباردة، وما أيسر التنظير! نشاهد الدماء كل يوم تسفك، والأشلاء كل يوم تمزق! وبعدها بلحظات نأكل ملء بطوننا، وننام ملء جفوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وإذا خرج أحدنا في مظاهرة صاخبة عاد وهو يتصور أنه قد فتح القدس، وقد أدى كل ما عليه لله! والله! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل صغير في الخامسة أو في السادسة من عمره على أرض فلسطين، طفل لا يجد أمامه إلا حجراً يواجه به عصفوراً يواجه به كلباً! بل يواجه به أعتى كلاب الأرض يواجه به أشد الخنازير! يواجه به طائرات في السماء! يواجه به دبابات في الأرض! يواجه به رصاصاً حياً! طفل يمسك حجراً يريد الشرف يريد الكرامة يريد العزة للأمة المسلوبة الجريحة، طفل علم الرجال الكرامة طفل علم الرجال الرجولة طفل علم الزعماء البطولة طفل علم القادة حقيقة التضحية والفداء!! فما ظهر هذا الخير إلا بعد هذه المحنة، ظهر شباب على أرض القدس يريد أن يضحي بنفسه لله جل وعلا.
ويوم أن خرج أمناء جبل الهيكل المزعوم في يوم الأحد لوضع حجر الأساس، نادى طفل القدس على المسلمين في القدس: أن احفظوا المسجد الأقصى، وحولوا بين اليهود وبين بيت الله، فخرج المسلمون الأطهار بعشرات الألوف من كل أنحاء فلسطين، ولم يخرجوا في صباح يوم الأحد بل خرجوا ليلة الأحد، فباتوا في بيت الله جل وعلا، باتوا في المسجد الأقصى وكلهم يشتاق للقاء الله، وكلهم يريد أن يضحي بجسده وبروحه وببيته وبماله من أجل بيت الله جل وعلا، ولم تستطع العصابة اليهودية المتطرفة أن تضع الحجر في ذلك اليوم، ولم تتمكن من ذلك بفضل الله، ثم بفضل هذه الثلة الكريمة التي علمت الدنيا كلها: أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف أطهاراً أبراراً، تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة، ويتمنى أحدهم أن لو ضحى بنفسه لنصرة دين الله جل وعلا، وأن لو بذل كل دمه لحماية المسجد الأقصى من براثن اليهود المجرمين، فـ (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).(141/10)
النصر مقرون بالابتلاء والمحن
والله! ثم والله! لا تنتصر الأمة إلا بمثل هذه المحن، وإلا بمثل هذه الفتن، وإلا بمثل هذه الابتلاءات، ولا يثبت على الصف إلا من صفت نفسه، وخلصت سريرته، وسار على الدرب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه، وانطلق على أرض البطولة يردد قول عبد الله بن المبارك لعابد الحرمين الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب فهل تظنون أن عباد الصليب من الأمريكان يعجزون الملك القدير؟! وهل تظنون أن إخوان القردة والخنازير يعجزون الملك القدير؟! لا ورب الكعبة! فإن الله يسمع ويرى، ولكنها السنن، كما قال عز وجل: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، لقد كادت الفيضانات أيها المسلمون! أن تعزل بريطانيا كلها عن العالم، كادت أن تعزل المملكة التي قيل عنها يوماً: لا تغيب عنها الشمس، الفيضانات التي هي جندي من جنود رب الأرض والسماوات، كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] كادت أن تعزل بريطانيا عن العالم.
وكادت الحرائق أن تحرق كل مزارع أمريكا، ولم تستطع الطائرات في السماء أن تطفئ الحرائق في عشرات الآلاف من المزارع التي في الأرض، وكاد زلزال في روسيا أن يجعل عالي الأرض سافلها، وأن يجعل سافلها عاليها، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] فالله هو مالك الكون ومدبر الكون، ولا يعجز الله شيء في كونه، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فهل تشكون في قدرة الله؟! وهل تشكون في عظمة الله؟! وهل تشكون في قوة الله؟! قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14].
وقال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
وقال عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:42 - 52].
فأين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟! قال الشاعر: أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه من بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم فالكل يفنى فلا إنس ولا جان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(141/11)
العاقبة للمتقين
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: وأخيراً: العاقبة للمتقين، قال عز وجل: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال تعالى في شأن اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، ولا أريد أن أطيل، فقد فصلت هذا من قبل مراراً وتكراراً، ولكنها إشارة، فمهما طال الزمن واشتد الابتلاء وزادت المحن والفتن فإن العاقبة في نهاية الطريق للمتقين.
اللهم عجل بنصرك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر إخواننا في فلسطين! والحمد لله رب العالمين.(141/12)
وصف الحبيب عليه السلام
لقد اصطفى الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم وفضله على العالمين، وأكرمه فأحسن خَلقه وخُلقه، فكان صلى الله عليه وسلم من أجمل الناس منظراً وأحسنهم هيئة.
وإن من أعظم دلالات حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقلوا لنا وصفه صلى الله عليه وسلم وجلوه لنا حتى كأننا نراه، فصلى الله عليه وسلم ورضي الله عن أصحابه الكرام.(142/1)
إكرام الله لنبيه بالحوض المورود
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الذي خلق فسوى، وهو الذي قدر فهدى، مالك الملك، وملك الملوك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير إنه على كل شيء قدير.
يا رب! بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا إني ضعيف أستعين على قوى ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا أذنبت يا رب وآذتني ذنو ب مالها من غافر إلاكا دنياي غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاكا لو أن قلبي شك لم يك مؤمناً بكريم عفوك ما غوى وعصاكا يا منبت الأزهار عاطرة الشذى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إلا انفعالة قطرة لنداكا رباه هأنذا خلصت من الهوى واستقبل القلب الخلي هواكا رباه قلبٌ تائبٌ ناداك أترده وترد صادق توبتي حاشاك ترفض تائباً حاشاكا فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله! يا صاحب المقام المحمود، ويا صاحب اللواء المعقود، ويا صاحب الحوض المورود، حوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى مذاقاً وطعماً من العسل، عدد كيزانه بعدد نجوم السماء، من سقي منه بيد المصطفى شربة لا يظمأ بعدها أبداً.
من الموحدين من يرد حوض الحبيب، فيرى واقفاً على الحوض في استقباله عثمان بن عفان، ترى في استقبالك الحيي الكريم عثمان زوج بنات المصطفى صلى الله عليه وسلم يقدم لك الكأس لكي تشرب من حوض حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الموحدين المخلصين من يرد الحوض، فيرى في انتظاره وفي استقباله على حوض الحبيب الفاروق عمر، يقدم لك الكأس لكي تشرب من حوض الحبيب، ومن الموحدين المخلصين من يرد على الحوض، فيرى على الحوض واقفاً في استقباله وفي انتظاره: أبا بكر الصديق، ومن الموحدين من يرد على الحوض فلا يرى عثمان ولا يرى عمر ولا يرى الصديق وإنما يرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يسقيه بيديه شربة هنيئة مريئة لن يظمأ بعدها أبداً، ومن الموحدين من يرد على حوض الحبيب فلا يرى عثمان ولا يرى عمر ولا يرى الصديق ولا يرى حتى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكنه يرى الكأس يرتفع إلى فمه لكي يشرب فيصرخ ويقول: من الذي يسقيني؟! إن الساقي هو الله، الله أكبر! ليس عثمان ولا عمر ولا الصديق ولا حتى الحبيب صلى الله عليه وسلم، إن الساقي هو الله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:21 - 22].
اللهم أوردنا حوض الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً يليقان بمقام أمير الأنبياء وسيد المرسلين: يا مصطفى ولأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكلما ملكت يدي إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي أن لا بغيرك أقتدي لك معجزات باهرات جمةٌ وأجلها القرآن خير مؤيد ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الزاني وشاه المعتدي وأنا المحب للحبيب محمد وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد قد لامني فيه العذول ولو يرى نعم الغرام به لكان مساعدي يا رب صل على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غد اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله.(142/2)
أهمية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره
بداية أيها الأحباب لا أحب أن يجالسني في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل، فإن لقاءنا اليوم هو لقاء مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وإن حديثنا اليوم هو حديث عن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وما أتينا إلى هذا المجلس المبارك إلا ابتغاء مرضاة الله.
فبداية لا بد أن نخرج من هذه الجلسة بالخير الكثير، وإذا ما أردنا أن نخرج بالخير فيجب علينا أن نكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله دائماً وأبداً يصلي على حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والملائكة دائماً وأبداً تصلي على حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، والله يأمر كل من دخل الإيمان قلبه بالصلاة على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيقول ربنا جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، صلى الله عليك صلاةً وسلاماً دائمين يا سيدي ويا حبيبي يا رسول الله! أما بعد: مرحباً بهذه الوجوه المشرقة بنور الإيمان بالله، في بيت من بيوت الله جل وعلا، وعلى مائدة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإننا اليوم نحتفل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأتكلم عنه صلى الله عليه وسلم بالتفصيل وبالتحديد، ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والتوفيق.
وبداية فإن كثيراً من الوعاظ والخطباء يحتفلون في شهر ربيع ويقولون: نحيي ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا سوء أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما مات في لحظة من اللحظات حتى تحييه! فإذا ما أردت أن تعبر عن ذلك المعنى فقل: نحن نحيا بذكرى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحديث عن رسول الله حياة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت في لحظة من اللحظات.(142/3)
عظيم إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم
لقد كرم الله النبي صلى الله عليه وسلم تكريماً ما أكرم به نبياً من الأنبياء، ولا رسولاً من الرسل.
فقد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة، وابن كثير في تفسيره وفي البداية والنهاية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لربنا: يا رب! ما من نبي إلا وقد كرمته، فقد اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت موسى تكليماً، وسبحت الجبال مع داود، وسخرت الجن والطير والريح لسليمان، وخلقت عيسى من روحك، ففيم فضلتني بين هؤلاء وبم كرمتني بين هؤلاء؟ فقال له ربنا: يا محمد! إن كنت كرمت هؤلاء فقد كرمتك تكريماً ما كرمته لنبي من قبلك، فقال: ما هو يارب؟ فقال ربنا سبحانه وتعالى: يا محمد! لقد رفعت ذكرك، وأعليت شأنك، فلا أذكر حتى تذكر معي، يا محمد! المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويقول: وأشهد أن محمداً رسول الله.
هل هناك تكريم أعظم من هذا التكريم؟! يذكر اسم الله فيذكر بعده اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أذكر حتى تذكر معي يا محمد! لقد قرنت اسمك باسمي فلا أذكر حتى تذكر.(142/4)
تزكية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في شأنه كله
ولقد زكاه الله في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وزكاه في لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وزكاه في معلمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع يوماً إلى بعض الناس، وقد جلسوا يتذاكرون في تفاضل الأنبياء فقال أولهم: أتعجبون، لقد اصطفى الله آدم على البشرية، وقال الآخر: لقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وقال الثالث: لقد كلم الله موسى تكليماً، وقال الرابع: لقد خلق الله عيسى من روحه، فخرج عليهم رسول الله وقال لهم: (لقد استمعت إلى كلامكم وإلى عجبكم، إن آدم اصطفاه الله على البشرية وهو كذلك) فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينقص ولا يبخس أحداً حقه (وإن إبراهيم خليل الرحمن وهو كذلك، وإن موسى كليم الله وهو كذلك، وإن عيسى روح الله وهو كذلك، ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد الأولين والآخرين ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر) صلى الله عليه وسلم.
لقد أتم الله التكريم للنبي صلى الله عليه وسلم في خَلقه وفي خُلقه، وقد اخترت أن أتكلم معكم عن رسول الله وعن كيفية خُلقه صلى الله عليه وسلم؛ كيف كان شعره؟ وكيف كانت عيناه؟ وكيف كان أنفه؟ وكيف كان فمه؟ وكيف كانت أسنانه؟ وكيف كان صدره؟ وكيف كان ذراعه؟ وكيف كانت بطنه؟ وكيف كانت قدمه؟ عن صفة خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
وبداية أطلب منكم أن تعيشوا معي بأرواحكم، حتى تتخيلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا، استمعوا جيداً واستحضروا الحواس والأرواح والقلوب، حتى نصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقف الآن بين أيدينا وأمام أعيينا؛ لننظر إليه من ناصية رأسه وحتى أخمص قدميه، فنصفه للمسلمين الموحدين الذين يحبونه صلى الله عليه وسلم، والذين يضرعون إلى الله ليلاً ونهاراً أن يجمعهم به في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلى من أتى الله بقلب موحد سليم.(142/5)
صفة وجه النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً: وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقا -فالخلق غير الخُلق- ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير).
وورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الدارمي والإمام البيهقي عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الأضحيان -يعني: ليلة مقمرة- فأخذت أنظر إلى القمر وأنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في عيني أحسن من القمر)، اللهم صلِّ عليك يا حبيبي يا رسول الله.
وفي الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام الدارمي والإمام البيهقي والإمام الطبراني وهو عند الإمام أبي نعيم في دلائل النبوة من حديث الربيع بنت معوذ قيل لها: صفي لنا رسول الله فقالت سيدتنا الربيع بنت معوذ: (لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت: إن الشمس طالعة) اللهم صل وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، هذا حديث صحيح، لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى وضاءة وجهه، وإلى أنوار وجهه، لقلت: إن الشمس طالعة.
وورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان وجه النبي صلى الله عليه وسلم كالشمس والقمر مستديراً) فأكثر من الصلاة والسلام على سيدي وحبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث خرجه مسلم عن جابر بن سمرة، كله نور، وكله جمال.(142/6)
محمد صلى الله عليه وسلم أجمل من يوسف عليه السلام
فوالله الذي لا إله غيره، إن كان الله قد أعطى ليوسف بن يعقوب شطر الحسن -أي: نصف الحسن- فقد أعطى الحسن كله لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال: إذا كان الله قد أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم الحسن كله فلماذا لم تتعرض له امرأة قط؟! بينما يوسف عليه السلام الذي أعطى نصف الحسن قد تعرضت له النساء، بل وقطعن أيديهن انبهاراً بجماله، قال الله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:30 - 31].
فامرأة العزيز لما سمعت الكلام كثر في وسط المدينة، عملت وليمة للنساء وجمعتهن -من المعلوم أن كيد الشيطان ضعيف، أما كيد المرأة فعظيم: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] أعظم من كيد الشيطان! إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم -ودبرت خطة: بأن أعطتهن ثمرة الأترج والسكاكين ليقطعن الأترج، ثم أمرت سيدنا يوسف بالخروج عليهن، فلما رأينه انبهرن بجماله وقطعن أيديهن ولم يشعرن؛ لشدة ما رأينه من جمال يوسف عليه السلام.
فإذا كان هذا حال النساء مع يوسف عليه السلام لأنه أعطي نصف الحسن، فمحمد صلى الله عليه وسلم أعطي الحسن كله، فلماذا لم تتعرض له صلى الله عليه وسلم امرأة ولم تفتن به وقد أعطي الجمال كله؟ ف
الجواب
أن الله جل وعلا حينما كسا محمداً بالجمال كسا جمال محمد بالهيبة والجلال والوقار، فما كان أحد يجرؤ على أن يملأ عينيه من نور وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك دخل أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلم يتعبد لله جل وعلا فارتعد الأعرابي واصفر لونه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ويقول له: (هون عليك يا أخي! أنا لست ملكاً من الملوك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد في مكة) وهذا هو التواضع، وهو من أعظم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى الحسن كله.
وكان سيدنا عمر إذا مشى في شعب سلك الشيطان شعباً آخر، فكان الشيطان يخاف منه، فما بالك بسيد الأساتذة صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم جميلاً ولكن جماله كساه الله بالجلال والوقار، فصلى الله عليه وسلم.
وورد في صحيح البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سُر -يعني: سعد وفرح فانظر إلى وجهه- فكأن وجهه قطعة من القمر)، هذه صفة وجهه صلى الله عليه وسلم.(142/7)
صفة شعر هـ صلى الله عليه وسلم
أما شعره صلى الله عليه وسلم فليس بالجعد القطط ولا بالسبط، يعني: شعر النبي صلى الله عليه وسلم بين النعومة والخشونة، فليس بناعم نعومه كاملة، وليس بخشن، فهو وسط بين هذا وذاك، ولقد توفاه الله عز وجل وليس في شعر رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
روى الإمام مسلم والإمام الترمذي والإمام البيهقي والإمام الطبراني والبزار أنه (توفاه الله عز وجل وليس في شعر رأسه ولحيته أكثر من عشرين شعرة بيضاء)، هذا هو شعر النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء في الحديث: (شيبتني هود وأخواتها) بعض الناس يعتقد أن هناك اختلافاً؟! وليس كذلك فإن الشيب الذي ظهر في لحية ورأس النبي صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة أو سبع عشرة شعرة، وهي بسبب سورة هود والتكوير والزلزلة والمعارج والحاقة وق، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاب من آيات القرآن؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم كان يتحرك مع آيات القرآن، أما حالنا اليوم فنسأل الله السلامة.(142/8)
صفة عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما عيناه صلى الله عليه وسلم: فقد كان صلى الله عليه وسلم أدعج العينين، يعني: شديدة السواد، وقد ورد في الحديث عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كنت أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: إن النبي أكحل وهو ليس بأكحل، من شدة سواد عينيه صلى الله عليه وسلم).(142/9)
صفة أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفمه
أما أنف النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان أقنى الأنف، يعني: طويل الأنف، دقيق الأرنبة، يعني: أرنبة الأنف وأقصى الأنف، ولم تكن ضخمة، ولكن بصورة رقيقة وجميلة وجذابة، يستحسنها كل من ينظر إليها.
أما فم النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ضليع الفم، أي: كبير الفم، مفلج الأسنان، إذا تكلم رئي كالنور من بين ثناياه، فقد جاء في صحيح الإمام الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (كان صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، مفلج الأسنان، إذا تكلم رئي كالنور من بين ثناياه)، وأسنانه جميلة وليست متراكبة، وإنما بين كل سن وسن فلجة جميلة وظريفة، وهذا يدل على طيب رائحة الفم.(142/10)
صفة حاجب وعنق ولحية رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما حاجب النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان طويلاً ومقوساً من غير التقاء بالحاجب الآخر، وبين حاجبيه عرق يدره الغضب، إذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم احمر وجهه وانتفخ هذا العرق بين حاجبيه صلى الله عليه وسلم، وكان واسع الجبين.
أما عنقه صلى الله عليه وسلم فكأنه إبريق من الفضة، كما قال ذلك سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما يرويه عن ربيب رسول الله هند بن أبي هالة وكان ابن السيدة خديجة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان خال سيدنا الحسن، فقال له الحسن صف لي رسول الله، فقال له: (كأن عنقه إبريق من الفضة) صلى الله عليه وسلم.
أما لحية النبي صلى الله عليه وسلم: فكان النبي صلى الله عليه وسلم كث اللحية، أي: وافر الشعر، وهذا أكبر دليل على أن اللحية سنة من سنن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم فليتبعه ويتصف بصفاته وأعماله وسنته.(142/11)
صفة صدره وبطنه وعضلاته صلى الله عليه وسلم
أما صدره صلى الله عليه وسلم فقد كان صدره صلى الله عليه وسلم عريضا، وكان عريض الكتفين، وله شعر في صدره، من صدره إلى سرته، كالقضيب من الشعر، صلى الله عليه وسلم، واتساع الصدر واتساع الكتفين يدل على القوة، وسواء الصدر مع البطن يعني: أنه ليست له بطن كبيرة خارجة عن حدها.
وكان صلى الله عليه وسلم ضخم الكفين، ضخم الذراعين، وضخم القدمين، مشدود العضلات.(142/12)
موته صلى الله عليه وسلم
وقد يقول بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحارب وإنما كان يترك الصحابة يقتحمون المعارك وهو قاعد وراءهم، وهذا غير صحيح، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم من أوائل من يقتحمون المعارك وفي أوائل الصفوف، بل كان في معركة حنين كما ورد في البخاري ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما شبت الفتنة بين صفوف المسلمين أراد أن يثبتهم، فوقف وشهر سيفه في السماء يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يكررها.
بل قال علي بن أبي طالب -كما في الحديث الصحيح المخرج عند البخاري ومسلم - يقول: (كنا إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: نختبئ خلفه ونحتمي به.
ومرة كان علي يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ويفتخر بقوته ويقول له: لا يوجد فارس يقدر على مصارعتي يا رسول الله! كانوا يتباهون بالقوة في الحق، وليس في ظلم العباد وفي الطغيان على خلق الله أبداً، وإنما في معارك الشرف ومعارك البطولة والفداء، فكان سيدنا علي من أعظم فرسان المسلمين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هناك فارس وراء هذا الوادي فاذهب وصارعه، فذهب سيدنا علي فوجد في هذا الوادي فارساً ملثماً، قال له: أنت الفارس الذي أخبرني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال نعم، قال له: هيا إلى النزال والصراع، فصرعه هذا الفارس وأوقعه على الأرض، قال له: الثانية، فصرعه هذا الفارس وأوقعه على الأرض، قال له: الثالثة، فصرعه وأوقعه على الأرض، قال له: والله إن الأمر ليس بأمر عادي! فكشف اللثام فوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قوياً، بل ورد في الحديث الصحيح المخرج أيضاً عند البخاري ومسلم: أنهم وهم في المدينة سمعوا صوتاً شديداً فخرجوا بالليل، وكانت هناك نار مشتعلة، وبمجرد ما وصلوا عند هذا الصوت وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد سبقهم، فقد ركب فرس أبي طلحة من غير سرج، أي: من غير أن يكون على ظهره شيء، ثم ناداهم وقال لهم: لم تراعوا لم تراعوا، يعني: ارجعوا لا شيء، لقد أطفأها الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن جباناً ولا ضعيفاً كما اتهمه بذلك بعض المستشرقين! وقالوا: إنه كان يدفع صحابته في وسط ميادين المعارك ويتأخر! وهذا غير صحيح، بل وقف في يوم حنين وهو يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) أي: من أرادني فهأنذا، فهل هناك قوة وعظمة بعد هذه القوة وهذه العظمة؟! صلى الله عليه وسلم.
وهذا وصف جامع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قاله سيدنا هند بن أبي هالة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخماً، يتلألأ وجهه كتلألؤ القمر في ليلة البدر)، وهذا وصف موجز ودقيق لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(142/13)
صفة عرقه صلى الله عليه وسلم
أما عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سيدنا علي: كان العرق في وجه النبي صلى الله عليه وسلم كحبات اللؤلؤ، وكان عرقه أطيب من ريح المسك، وقد ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دخل علينا رسول الله في يوم شديد الحرارة، فقال عندنا رسول الله)، يعني: قضى عندنا القيلولة، (فعرق النبي عرقاً شديدا، فدخلت أم سليم تصلت العرق من رسول الله في زجاجة، فاستيقظ رسول الله، فقال لها: ماذا تصنعين يا أم سليم؟ قالت: يا رسول الله! نجمع عرقك فإنه أطيب من ريح المسك)، هذا الحديث مخرج في صحيح مسلم.
وورد في صحيح الإمام مسلم أيضاً من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه قال: (لقد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خدي فأحسست ليده برداً وريحاناً، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخرج يده من جونة عطار)، وورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام مسلم أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي الحديث الصحيح أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه كان يقول: كان أهل المدينة يعرفون إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم في طريق من الطرق برائحته صلى الله عليه وسلم.(142/14)
وصف أم معبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن أدق مَنْ وصف النبي صلى الله عليه وسلم أم معبد، فقد مر عليها صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فمروا على خيمة أم معبد وكانوا جائعين، فأرادوا طعاماً، ولم يكن معها شيء، فاعتذرت إليهم وأن ليس إلا شاة عجفاء هزيلة ليس فيها لبن، فقال: أحضريها، فأحضرت له الشاة، وإذ بالنبي صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه المباركة على ظهرها وعلى ضرعها فينزل اللبن بأمر الله، وبقدرة الله المباشرة التي لا دخل فيها لعالم القوانين وإنما فيها كن فكون.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة يارب العالمين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم حلب وسقى أصحابه وشرب وترك اللبن الكثير لـ أم معبد، فانبهرت أم معبد مما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعاد زوجها فرأى اللبن! فاستنكره، وقال: من أين لك هذا اللبن؟! إن هذه الشاة لا لبن فيها، قالت: لقد مر عليّ رجل مبارك سألني طعاماً وشراباً فقلت له: ليس عندنا شيء، فقال لي: هاتِ الشاة، ومسح بيده على ظهرها وعلى ضرعها فجرى اللبن الكثير! فشرب وشرب أصحابه وبقي لنا هذا اللبن! فقال لها: صفيه لي لعله أن يكون محمداً! فقالت له سيدتنا أم معبد رضي الله عنها: (رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، مليح الوجه، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حسن المنطق، أبهى الناس وأحسنهم من بعيد، وأحلى الناس وأحسنهم من قريب، غصنٌ بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تثابروا لأمره)، اللهم صلاةً وسلاماً عليك يا سيدي يا رسول الله! صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المحبين لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المنفذين لتعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حب النبي صلى الله عليه وسلم سلوك وعمل، وإن حب النبي صلى الله عليه وسلم التزام بسنته، والتزام بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم والتزام بشرعه، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتمسكين بسنته صلى الله عليه وسلم.(142/15)
نبوءة النبي لحصار العراق العالمي
لقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الساعة في كتابه الكريم، وأنها قريبة، ولم يحدد الله عز وجل موعدها بالزمن، بل جعل لها علامات، وهي ما تسمى بعلامات الساعة الصغرى والكبرى، وقد مضى معظم علامات الساعة الصغرى؛ وفي معرفة ذلك دافع للإنسان أن يتدارك ما بقي من عمره فيعمل بطاعة الله عز وجل، كما أن عليه أن يبعث الأمل في قلبه من أن الغلبة للمؤمنين، وأن الدائرة ستدور على الكافرين المتجبرين وعسى أن يكون ذلك قريباً.(143/1)
من علامات الساعة الصغرى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! نحن الليلة على موعد مع الدرس الحادي والثلاثين من دروس الإيمان باليوم الآخر، كركن خامس من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ضمن دروس العقيدة لمعهد إعداد الدعاة، ولا زال حديثنا ممتداً بحول الله وطوله عن العلامات الصغرى للساعة، وقد توقفت في لقائنا الماضي مع العلامة السابعة والثلاثين، والتي كانت عن ذهاب الخشوع، وأود أن أذكر في عجالة سريعة بالعلامات التي تحدثنا عنها في المحاضرات الماضية، ثم أتحدث عن بقية العلامات إن شاء الله تعالى.
تكلمنا عن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كعلامة من العلامات الصغرى للساعة، وعن موت النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ظهور الفتن، وعن قبض الأمانة، وعن قبض العلم، وكثرة الجهل، وعن تقارب الزمان، وعن كثرة أعوان الظلمة، وعن انتشار الزنا، وعن انتشار الربا، وعن ظهور المعازف واستحلالها، وعن شرب الخمر واستحلاله، وعن كثرة القتل، وعن زخرفة المساجد والتباهي بها، وتكلمت عن التطاول في البنيان، وعن ولادة الأمة ربتها، وعن تقارب الأسواق، وعن ظهور الشرك في الأمة، وعن ظهور الفحش، وقطيعة الرحم، وسوء الجوار، وعن تشبب المشيخة، وكثرة الشح، وكثرة التجارة، وذهاب الصالحين، وارتفاع الأسافل، والتماس العلم عند الأصاغر.
وتكلمت أيضاً عن ظهور الكاسيات العاريات، وعن صدق رؤيا المؤمن، وعن كثرة الكتابة وانتشارها، وعن كثرة الكذب وعدم التثبت في نقل الأخبار، وعن كثرة شهادة الزور، وكتمان شهادة الحق.
وتكلمنا عن كثرة النساء وقلة الرجال، وكثرة موت الفجأة، وتمني الموت من شدة البلاء، ووقوع التناكر بين الناس، وأن التحية لا تكون إلا للمعرفة، وتكلمت عن اتباع سنن الأمم الماضية، وظهور الكذابين من أدعياء النبوة، وتداعي الأمم على أمة الإسلام والإيمان، وغربة الإسلام.
وتكلمت عن ذهاب الخشوع، وأواصل الحديث إن شاء الله تعالى عن بقية هذه العلامات التي أراني قد اقتربت من الانتهاء منها، فإن المدقق والممحص للأحاديث الثابتة عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقف عند هذا القدر والعدد الذي ذكرت فحسب، وإلا فمن تهاون وتساهل في ضبط وتصحيح الأحاديث ربما تصل العلامات الصغرى عنده إلى تسعين علامة أو يزيد، لكن الذي ذكرت هو الصحيح الثابت عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.(143/2)
من علامات الساعة الصغرى عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً
العلامة الثامنة والثلاثون: عودة أرض العرب مروجاً وأنهاراً.
والمروج: جمع مرج، والمرج: الأرض الواسعة التي يكثر فيها الزرع والنبات، قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم ومسند أحمد، واللفظ لـ أحمد من حديث أبي هريرة -: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، وفي هذا الحديث دلالة على أن بلاد العرب سيكثر فيها الماء، وسيكثر فيها الزرع، وستتحول أرض العرب الصحراوية إلى أرض خضراء، وإلى حدائق وغابات، والذي يؤيد هذا أنه قد ظهر في بلاد العرب كثير من العيون والآبار الارتوازية التي حولت كثيراً من الأرض الصحراوية إلى جنات خضراء، ومن أهل العلم من قال: إن هذه العلامة تكون في زمن عيسى عليه السلام حينما تخرج الأرض بركتها، لكن المدقق الآن يرى أن كثيراً من صحراء العرب قد تحولت إلى جنات خضراء.(143/3)
من علامات الساعة الصغرى انحسار نهر الفرات عن جبل من الذهب
العلامة التاسعة والثلاثون: حسر نهر الفرات عن جبل من الذهب، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو)، وفي رواية في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يحسر الفرات -أي: نهر الفرات- عن جبل من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً)، وفي رواية: (يوشك أن يحسر نهر الفرات عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله.
قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون).
ومن باب الأمانة العلمية ذكر الحافظ ابن حجر أن انحسار نهر الفرات عن جبل الذهب يكون عند ظهور المهدي عليه السلام، وأذكر أنني قد ذكرت لكم قبل ذلك أن جريدة الأخبار قد نشرت هذا الخبر، وربما نشرت وكالات الأنباء خبر اكتشاف جبل من الذهب في نهر الفرات في سوريا، ثم قرأت في جريدة الأهرام بعد هذا الخبر بأيام قليلة خبراً عن بعثة علمية روسية أمريكية مرسلة لدراسة هذه الظاهرة.
لا شك أن النبوءة النبوية لم تتحقق بكل جزئياتها المذكورة في الأحاديث التي ذكرت الآن، فالنبوءة النبوية تتحدث عن انحسار ماء الفرات عن جبل من الذهب، ثم الاقتتال، وسواء ظهر الجبل أو اكتشف الجبل، فإنه لم ينحسر نهر الفرات بعد، ولم يتقاتل عليه، وأنتم ترون الآن الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية بين تركيا وإسرائيل من ناحية، وتعلمون الخلاف الشديد بين تركيا وبين العراق وسوريا من ناحية أخرى، وهذا أمر جليل، فمن المعلوم أن الحرب القادمة لن تكون حرب بترول، وهذا لا نزاع فيه، وإنما ستكون الحرب القادمة حرب مياه، فمياه المسلمين الآن تتسرب إلى إسرائيل، حتى من ماء الفرات! عن طريق الاتفاقيات والأحلاف العسكرية الجديدة بين إسرائيل وتركيا.
ولا شك أننا في انتظار بقية أجزاء النبوءة النبوية أن تحدث بمثل ما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، فكما أن شطر النبوءة قد ظهر فنحن لا زلنا في انتظار أجزاء النبوءة النبوية أن تظهر بمثل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه علامة عجيبة!(143/4)
من علامات الساعة الصغرى الحصار الاقتصادي على العراق
العلامة الأربعون -وأرجو أن تعيروني القلوب والأسماع جيداً- الحصار الاقتصادي على العراق، هذه علامة من العلامات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت هذه العلامة في هذه السنوات القليلة الماضية بمثل ما أخبر به النبي الصادق تماماً، وصدق ربي إذ يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
ففي الحديث الذي رواه مسلم قال: حدثنا زهير بن حرب وعلي بن حجر واللفظ لـ زهير قالا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن الجريري عن أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فقال: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم.
قلنا: من أين ذاك؟ قال: العجم يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجبى إليهم دينار ولا مدي.
قلنا: من أين ذاك؟ قال: الروم -تدبر! قال في أهل العراق: العجم، وقال في أهل الشام: الروم يمنعون ذاك- ثم سكت هنيهة، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً ولا يعده عداً) قلت لـ أبي نضرة -والقائل الجريري -: أترى أن هذا الخليفة هو عمر بن عبد العزيز؟ قال: لا.
ومن المعلوم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لم يكن في عهده حصار من أي نوع من الأنواع للعراق أو للشام أبداً، بل كانت العراق تشهد عزة وكرامة في أيام الخلافة الراشدة.
إذاً: هذا الخليفة الذي تحدث عنه الحديث هو المهدي عليه السلام بلا نزاع.
هذا الحديث المهم الذي رواه مسلم، له حكم الرفع للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابي لا يتكلم في أمر من أمور الغيب من عند نفسه، وإنما بكلام مسموع من الصادق عليه الصلاة والسلام.
هذا الحديث يتضمن ثلاثة أخبار من أخبار الغيب والمستقبل: الأول: حصار على العراق.
الثاني: حصار على بلاد الشام.
ومعلوم أن بلاد الشام تشتمل على: سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، هذه البلدان يطلق عليها بلاد الشام، ولكن الاستعمار قسم ومزق وشتت الشمل، ووضع الحدود، ودق المسمار البشع الذي يسمى مسمار الحدود بين الدول الإسلامية.
الثالث: خليفة يخرج في آخر الزمان يحثو المال حثواً.
وأرجو أن تركزوا معي جيداً في أن الأحداث الثلاثة قد ذكرت في حديث واحد متوالية: حصار للعراق، وحصار للشام -وحصار الشام الآن موجود، حصار على سوريا، وحصار على فلسطين- ولاحظ أن الحديث يقول: (ثم سكت هنيهة)، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثواً، ولا يعده عداً) فالأحداث الثلاثة متتابعة متتالية.
نعود مرة أخرى إلى كلمات الحديث: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم)، تعبير في غاية الدقة عما يحدث الآن للعراق، والذي يسميه الإعلام الغربي والعربي: الحصار الاقتصادي العالمي للعراق.
قوله: (يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم) القفيز: هو المكيال المعروف عند أهل العراق، وهو مكيال يكيل فيه أهل العراق الحبوب، والدرهم هو المعروف.
(يوشك أهل العراق أن لا يجبى إليهم قفيز ولا درهم) سبحان الله! من المعلوم أن الحصار الاقتصادي إذا ضرب على بلد فإنه يمنع عن هذا البلد الطعام والميرة، لكن الحديث يقول: (ولا درهم)! وأنتم تعلمون أن أمريكا قد جمدت أموالاً طائلة للعراق بعد أحداث الكويت، فجُمد مال العراق خارج العراق في بنوك الشرق والغرب، ومنع العراق من ماله (ألا يجبى إليه قفيز) أي: لا طعام ولا شراب ولا غذاء ولا دواء، ولعل المتابع منكم قد سمع بالأمس القريب فقط تصريحاً خطيراً جداً لرئيس لجنة المساعدات الإنسانية في العراق، وهو: أن الحصار الاقتصادي على العراق طيلة السنوات الماضية يتسبب في قتل ستة آلاف شخص في كل شهر! وبكل أسف أصبحت أخوتنا الإيمانية أخوة باردة باهتة، فأصبحنا نسمع مثل هذه الأحداث ولا تتحرك جوارحنا، ولا تحترق قلوبنا؛ لأن الأخوة أصبحت باردة باهتة، لم تلفحها حرارة الإيمان بالله جل وعلا، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فإن وجدت أخوة بلا إيمان فاعلم أنها التقاء لأجل مصالح، وتبادل منافع فحسب، وإن وجدت إيماناً بلا أخوة صادقة فاعلم أنه إيمان ناقص؛ لأن الأخوة ثمرة حتمية للإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
هذا الحصار الظالم يتسبب في قتل ستة آلاف مسلم ومسلمة من أهل العراق في كل شهر!! قمة الظلم.
(يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم) قمة الدقة في التعبير، فإن لفظة (يوشك) أدق من لفظة (الحصار الاقتصادي) لماذا؟ لأن الحصار يقتضي حصر البلد المحاصر تماماً، وأنتم تعلمون أن الحصار قديماً كانت له صورة معلومة واحدة، وذلك أن كل مدينة من المدن المستهدفة كانت تحيط بنيانها بأسوار من كل ناحية، فكانت الدولة المعتدية إذا أرادت أن تحاصر مدينة من المدن جرت الجيوش الجرارة، وحاصرت هذه المدينة من جميع نواحيها، أو من ناحية، أو من ناحيتين، وفرضت حصاراً على هذا البلد فلا يدخل إليها طعام، ولا يخرج منها أحد حتى تستسلم هذه المدينة للدولة المعتدية، هذه صورة الحصار القديمة، لكن تدبر لفظة (يوشك) ولم يقل: (يحاصر)؛ لأن الحصار المفروض الآن على العراق ليس حصاراً كلياً، وإنما هو حصار مكسور من بعض الدول، ومن بعض عصابات المافيا التي تبيع الأسلحة وتسرب الطعام مقابل الأموال إلى دولة العراق عن طريق تركيا أو عن طريق سوريا أو عن طريق الأردن.
ومعلوم أن الدول الخاضعة لمجلس الأمن ولقرارات مجلس الأمن هي التي فرضت الحصار الاقتصادي على العراق، وأرجو أن تتدبر كلمة (العجم)، فحينما سئل جابر: من الذي يمنع القفيز والدرهم عن أهل العراق؟ قال: العجم، و (العجم) تطلق في لغة العرب على كل من سوى العرب، كل من سوى العرب يقال لهم: عجم.
إذاً: هذه اللفظة تفيد أن كل دول العالم -تقريباً- ستشارك في الحصار الاقتصادي باستثناء العرب، وهذا هو الموقف الرسمي فعلاً، وأنتم تعلمون أن مجلس الأمن اتخذ قرار المقاطعة بدوله الخمس الدائمة العضوية، وهي: أمريكا، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا، والصين.
ومعلوم أن الدول العربية تتناوب العضوية في مجلس الأمن، وكانت اليمن إذ ذاك هي العضو في المجلس، وقد اتخذت قراراً رفضت فيه الحصار الاقتصادي على العراق، فاليمن هي الدولة العربية الوحيدة التي رفضت القرار.
إذاً: اليمن هي الدولة الوحيدة في مجلس الأمن التي رفضت القرار، وكل شعوب العالم العربي تقريباً، وإن كان بعض الزعماء قد أذعنوا لقرارات مجلس الأمن، إلا أن شعوب العرب بلا استثناء لا زالوا إلى يومنا هذا يرفضون هذا الحصار، وفي اجتماع مجلس وزراء خارجية الدول العربية منذ أيام قريبة رفضوا الحصار الاقتصادي على العراق، ولا زالوا ضد تقسيم العراق، وبالفعل قد شاركت كل دول العالم -تقريباً- في فرض هذا الحصار الاقتصادي على العراق باستثناء العرب، ودعنا نقول: باستثناء شعوب العرب والمسلمين.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن حصار العراق أعجمي؛ لأن كل شعوب الأرض -ما عدا العرب رسمياً بمقتضى موقف اليمن في مجلس الأمن- قد شاركت في فرض هذا الحصار عن اختيار وطواعية؛ لأن مجلس الأمن يومئذ بدوله الدائمة وغير الدائمة -فيما عدا اليمن- هو الذي فرض هذا الحصار الغاشم على العراق؛ لذا يقول الحديث: (العجم يمنعون ذلك).
ومن المعلوم أنه لم يحدث في تاريخ الإسلام من قبل حصار اقتصادي على العراق بهذه الصورة أبداً.
أما الحصار الآخر: وهو حصار الشام، فتعلمون أن حصاراً فرض على سوريا من قبل حصار العراق، وأن حصاراً لا زال مفروضاً إلى الآن على فلسطين، فهذه من العلامات التي وقعت بمثل ما أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
ولا زلنا ننتظر الحدث الثالث في الحديث، ألا وهو: خروج الخليفة الذي يحثو المال حثواً ولا يعده عداً، وهو المهدي عليه السلام كما سأبين -إن شاء الله تعالى- بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.(143/5)
من علامات الساعة الصغرى هدنة تقع بين المسلمين وبين بني الأصفر
العلامة الحادية والأربعون -وهي في غاية الأهمية والخطورة-: هدنة تقع بين المسلمين وبين بني الأصفر، وبنو الأصفر في الحديث يراد بهم الروم، والروم هم أوروبا وأمريكا، إذا ذكر الحديث النبوي لفظ بني الأصفر أو لفظ الروم فالمراد بهم الآن: أوروبا وأمريكا، فهؤلاء هم الروم، وهؤلاء هم بنو الأصفر.
جاء في الحديث الذي رواه البخاري من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، وهذا الحديث قد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ست علامات من العلامات الصغرى، فقال عليه الصلاة والسلام: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي -أي: موت المصطفى صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس)، أما العلامة الأولى فقد وقعت بموته عليه الصلاة والسلام، وأما العلامة الثانية فقد وقعت بفتح بيت المقدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي العام الثالث عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس، واستلم مفاتيح بيت المقدس، بعد أن حاصرت القدس الجيوش الفاتحة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.
ثم العلامة الثالثة في الحديث: (ثم مُوتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم)، قال ابن فارس: أو كعقاص الغنم.
والقعاص أو العقاص: داء يصيب الدواب -الإبل والغنم- في الصدر أو في العنق فتهلك الدواب في الحال، قال أهل العلم جميعاً: هذه العلامة قد وقعت بطاعون عمواس الذي ابتليت به بلاد الشام، وكان من الأكابر الذين ماتوا في هذا الطاعون أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.
إذاً: موت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم فتح بيت المقدس، (ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً)، وأظن أن هذه العلامة نراها الآن متحققة تماماً، قد تعطي الرجل مائة جنيه، فيقول: أتيتك من المكان الفلاني، ولا تخرج من حافظتك إلا مائة جنيه! ويظل ساخطاً عليه.
(ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته)، وأظنكم جميعاً ذكرتم أنها فتنة التلفاز والأغاني نسأل الله السلامة والعافية، ولا شك أنها فتنة عاصفة، لكن أنا لا أجزم ألبتة بأن هذا هو تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو من كلام بعض أهل العلم، فالفتنة التي دخلت جميع بيوت العرب هي فتنة التلفاز، فما من بيت من بيوت العرب الآن إلا ودخلته، وهذا اللفظ خرج مني مخرج الغالب -كما يقول علماء الأصول- وإلا فإن كثيراً من بيوت أهل الفضل لم تدنس بعد بهذه الفتنة الحالكة، تدخل كثيراً من بيوت المسلمين فتسمع فيها الغناء، وترى فيها الرقص، بل وترى فيها الزنا، فهذا الذي يسمى بالدش ينقل الآن إلى بيوت المسلمين الزنا، يجلس الرجل طوال الليل ليرى الزناة والزواني على شاشة التلفاز، ويجلس الساعات الطوال، إنها فتنة عاصفة! وأنا لا أتصور أبداً رجلاً بهذه الكيفية يصلي الفجر، أو يقيم ليلاً، أو يتقي الله في عمل، أو حتى يقدر على أن يستيقظ مبكراً لعمله، إنها فتنة حالكة تريد لأبناء هذه الأمة الدمار والبوار والهلاك، لا أتصور شاباً يقضي الليل بطوله -ولست مبالغاً- أمام فلم داعر، أو فلم نجس عن طريق هذه القنوات المفتوحة، ثم بعد ذلك يصلي الفجر أو يقوم إلى عمله وهو نشيط، هذا مستحيل! هذه فتنة نسأل الله أن يطهر بيوت المسلمين منها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اسمع إلى العلامة السادسة -وهي محل الشاهد-: (ثم هدنة) والهدنة هي المصالحة، قال: (ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر) من هم بنو الأصفر؟ الروم، من هم الروم؟ أوروبا وأمريكا بلا خلاف، (ثم تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون) أي: يغدر بنو الأصفر بأمة النبي عليه الصلاة والسلام، (فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية)، والغاية: هي الراية، وسميت الراية بالغاية؛ لأنها غاية الجيش، يقول عليه الصلاة والسلام: (ثم تكون هدنة بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) أي: من الجنود والمقاتلين.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وابن ماجة وابن حبان وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً)، وأظن أن الأمة الآن في مرحلة الصلح والهدنة بلا خلاف، بل وفي مرحلة تحالفات عسكرية بينها وبين الروم من الأوروبيين والأمريكيين، وإن جيوش الأوروبيين والأمريكيين في بلاد المسلمين لمن أعظم الأدلة العملية على ما أقول الآن، أحلاف عسكرية طويلة المدى؛ بل لا أبالغ إن قلت: أحلاف عسكرية إلى الأبد! فالنبي صلى الله عليه وسلم يوضح الهدنة في حديث آخر فيقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنصرون وتغنمون وتسلمون)، أي: ستعقدون معاقدات ومصالحات بينكم وبين أوروبا وأمريكا، (ثم تغزون أنتم وهم عدواً) إذاً: ستكون هناك محالفات بين المسلمين وبين الروم -أوروبا وأمريكا- وسيقاتل الروم مع المسلمين عدواً مشتركاً، لكن السنة النبوية لم توضح لنا هذا العدو المشترك، فهل هذا العدو المشترك سيكون الكتلة الشرقية روسيا والصين؟! وهل سيكون هذا العدو المشترك الشيعة في إيران؟! هذا وارد.
لكن السنة النبوية لم تحدد هذا العدو المشترك الذي سيقاتله الروم مع المسلمين.
وأقرأ عليكم نص الحديث مرة أخرى: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنصرون وتغنمون وتسلمون)، هذه المعركة التي سيحالف فيها المسلمون أوروبا وأمريكا، وسينتصر فيها هذا التحالف على هذا العدو المشترك، سواء كان هذا العدو روسيا والصين أو الشيعة، فسينتصر هذا الحلف في هذه المعركة، قال: (ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول) انظر إلى كلام النبي الصادق! كأنه يصف أرض المعركة وهو فيها! (ثم تنصرفون حتى تنزلوا بمرج -أي: بأرض خضراء يكثر فيها النبات- ذي تلول) وصف عجيب لأرض المعركة! (فيرفع رجل من أهل الصليب صليبه) من الفريق الآخر -فريق الروم: أوروبا وأمريكا- تدفعهم النزعة العصبية: (فيرفع رجل منهم الصليب، ويقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين، فيقوم إليه فيدفعه -وفي رواية: فيقتله- فعند ذلك يغدر الروم، ويجتمعون للملحمة، فيأتون تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً).(143/6)
المعركة التحالفية العالمية مقدمة حقيقية للملاحم الكبرى
الحديث السابق يبين لنا معركتين: المعركة الأولى هي: المعركة التحالفية العالمية الأوروبية الأمريكية الإسلامية، هذه المعركة التحالفية العالمية يسميها كثير من الكتاب والعلماء والمفكرين وعلماء أهل الكتاب: معركة هرمجدون، وهذه المعركة هي التي ستكون المقدمة الحقيقية للملاحم الكبرى التي سينتصر فيها المسلمون بقيادة المهدي عليه السلام.
نحن نريد أن تستبشر القلوب المريضة المتعبة المثقلة بالواقع المؤلم، وتستيقن أن الجولة المقبلة للمسلمين، وليس هذا رجماً بالغيب، ولا من باب تسكين الآلام، ولا تضميد الجراح، وليس من باب الأحلام الوردية، إن الجولة القادمة ستكون للإسلام، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي يصف المعارك والملاحم وصفاً في غاية الدقة، ليس هذا من عندنا نحن، والذي سيهيئ النصر لهذه الأمة الضعيفة المسكينة ليس قوة المسلمين بالمقارنة إلى قوة الغرب، وإنما الذي سيهيئ ذلك هو الملك جل جلاله، الذي يقول للشيء: كن فيكون.
الحرب الأولى: التحالفية العالمية الأوروبية الأمريكية الإسلامية أظن أنها واضحة الآن، ومقدماتها واضحة، فنحن والروم الآن في صلح آمن، والمعسكر الشيوعي أو المعسكر الشرقي -الصين وروسيا- قد أبرموا معاهدات جديدة ولأول مرة في التاريخ؛ ليقع ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لأول مرة في إبريل عام ستة وتسعين يزور رئيس روسيا الصين، لأول مرة تحدث اتفاق وتعاهدات وتعاقدات بين روسيا والصين قبل ثلاث سنوات فقط، وأنتم تعلمون أنه في الأسبوع الماضي فقط كان وزير خارجية روسيا يزور الصين، خذ الأعجب! والآن بدأت العلاقات الروسية الأمريكية بعد الحرب الباردة تتوتر إلى أخطر درجات التوتر، ولعل وزيرة الخارجية الأمريكية -تلك العجوز الشمطاء- قد عادت من روسيا بالأمس، وهي تجر أذيال الخيبة بعد عدم اتفاق واضح بين روسيا وأمريكا في كثير من القضايا، وعلى رأس هذه القضايا قضية العراق، وقضية السلاح النووي أمور عجيبة! اختلاف وتوتر في العلاقات الروسية الأمريكية، ومعاهدات تبرم لأول مرة بين المعسكر الشرقي: روسيا والصين.
وكما أقول دائماً: إن يد الله تعمل ونحن في غفلة، لا تظنوا أن الكون هذا متروك لعباد البقر من الأمريكان أو الملاحدة الكفرة من الروس، يدبرونه كيف شاءوا، لا ورب الكعبة، ولا تظنوا أن الله غافل عما يقع في الأرض، حاشا وكلا، إن الله يسمع ويرى، وليس أحد أغير على التوحيد وأهله من الله، وليس أحد أغير على أمة محمد من الله، ولكن الأمة -كما أكرر- ليست أهلاً للنصرة، وإلا لنصرها الله جل وعلا بزلزال أو بإعصار إلخ.
كولومبيا وقع فيها زلزال قبل يومين، هزة واحدة قتلت ألف شخص! سبحان الله! يتحدث الإعلام الغربي عما يزيد عن مائة شخص سقطوا في باطن الأرض فجأة، وأصبح أسفل الأرض فوقهم، وقع هذا في أقل من مايكرو ثانية، الله عز وجل قادر على أن يدمر أهل الظلم بزلزال أو بإعصار: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:4 - 8]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
إذاً: المعركة الأولى هي: المعركة التحالفية العالمية، والتي نرى مقدماتها الآن بصورة واضحة، لا تزيد المؤمن التقي إلا يقيناً في الرب العلي، وتصديقاً للحبيب النبي صلى الله عليه وسلم.
فما يحدث الآن تطور خطير جداً، وأحداث متلاحقة بصورة غير مسبوقة! ما كنا نسمع من قبل عن مواجهة بين الصين وأمريكا أبداً، والآن نسمع، ولهجة الإعلام حادة جداً في المواجهة، حتى في إسرائيل، وأنتم تعلمون أن قادة إسرائيل كانوا يخططون لحرب، لا يأتي عام ألفين إلا وقد وقعت هذه الحرب، وأنا لا أذيع أسراراً عسكرية الآن، ولكنه كلام معلوم جداً، وما كنا نسمع عن زيادة حدة التوتر بين روسيا وأمريكا، ونراها الآن واضحة جداً، لاسيما بعد الضربة الأخيرة للعراق.
وكذلك ما كنا نسمع أبداً عن تحالف تركي إسرائيلي ثم سمعنا الآن عن تحالف تركي يهودي، ويتوجس المسلمون والعرب من هذا التحالف خيفة كما هو معلوم للجميع.
وبعدما أبادت أمريكا هيروشيما ونجازاكي، لأول مرة في التاريخ الحديث نسمع الآن عن اتفاق أمريكي ياباني، أمر عجيب جداً! وأنتم تعلمون العداء بين أمريكا وبين اليابان، ولكننا -كما يقول علماء الاستراتيجية في أمريكا وأوربا- لا ندري من ستسبق أصابعه فيضغط على زر الحرب المدمرة، والتي ستكون غالباً حرباً نووية، وستعجبون إذا قلت: إني في العشر الأواخر من رمضان كنت في أمريكا وأخبرني الإخوة هنالك عن رجل من العلماء المتخصصين ظهر على شبكة الـ ( CNN) وقال كلاماً في غاية الخطورة، أفزع أمريكا والمتابعين جميعاً، هذا الكلام أنا لا أجيد أن أنقله الآن نقلاً علمياً دقيقاً، وقد طلبت من إخواني أن يحضروه لي مكتوباً، لكنهم لم يوفقوا في ذلك، فأتيت بمقال لخص هذا الكلام الخطير في مجلة التايم الأمريكية، وهو كلام في غاية الخطورة متعلق بمسألة الكمبيوتر وعام (2000م)، قال: إن الكمبيوتر مبرمج إلى ما قبل عام (2000م)!! وأرجو ألا يفهم طالب علم من كلامي أنني أحدد زماناً لقيام هذه الحرب العالمية التحالفية النووية التي يسميها بعض العلماء بحرب هرمجدون، لا تقل: إن الشيخ قال: إن سنة (2000م) ستقوم الحرب، لا، لا، أنا لا أحدد زماناً، إذ لا يعلم مخلوق على وجه الأرض الزمان الذي سيكون بمثابة الإرهاصات والمقدمات لظهور المهدي، ولا حتى الساعة التي سينزل فيها المهدي، ولا متى ستقوم الساعة، إذ إن هذا كله من العلم الذي اختص به ربنا، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى المصطفى صلى الله عليه وسلم.(143/7)
هرمجدون
(هرمجدون) كلمة عبرية مكونة من مقطعين؛ المقطع الأول: كلمة (هر)، والمقطع الثاني: (مجدون).
وكلمة (هر) بالعبرية معناها: جبل.
و (مجدون): وادٍ معروف في أرض فلسطين، هذه المنطقة هي ساحة المعركة القادمة التي سيكون فيها المسلمون حلفاء للروم.
العجيب أن الحديث عن هذه المعركة بدأ الآن يظهر بصورة ملفتة للنظر، وهي -كما ذكرت- معركة نووية.
أقول: بأنه قد ظهر الآن في أمريكا حديث عن المواجهة النووية الوشيكة، تعلمون أن كل السلاح الحديث مبرمج بالكمبيوتر، لا يتحرك الصاروخ إلا بالكمبيوتر، ولا الدبابة ولا الطائرة، حتى شبكات الاتصال -الانترنت- العالمية لا تتحرك إلا بالكمبيوتر، بل حتى جهاز الفيزر أو الفليب، ومن أشهر قريبة ماضية سمعت عن تعطل الكمبيوتر -ولعل منكم من قرأ هذا الخبر عن تعطل الكمبيوتر- في الشركة المسئولة عن جهاز الفيزر أو الجهاز الفليب في أمريكا، فتعطلت كل أجهزة الفيزر في أمريكا بالكامل بتعطل جهاز الكمبيوتر.
سبحان الله! شريط دقيق جداً إذا تعطل أو حدث فيه عطل يحدث خلل في كل الأجهزة، بعض العقول تنكر أو تستنكر أن الملاحم الأخيرة التي سيقود المسلمين فيها المسيح عليه السلام ستكون بالسيوف والرماح، كل الروايات المذكورة عن النبي الصادق تذكر ذلك، كيف ذلك ونحن نرى الحروب الآن تدار بالكمبيوتر ويخرج الصارخ ويصيب هدفه دون أن يتحرك معه متحرك؟! لا تتعجب إذا علمت أن الكمبيوتر هذا إن تعطل تعطلت معه كل هذه الماكينة الحديثة، وهذا لا ينكره العقل، إن الحرب الأخيرة ستكون كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وأذكر أنني سئلت في أمريكا عن هذا السؤال، وأنتم تعلمون أن المسلم الذي تربى في أمريكا هو مسلم أمريكاني، يعني: يريد أن يقتنع بكل شيء، ويريد أن يأخذ الدليل العقلي قبل الدليل النقلي ولو كان صحيحاً.
سئلت: كيف ستكون الحرب الأخيرة هكذا ونحن نرى الماكينة الحديثة وو إلى آخره؟ قلت: يا أخي! أنا لا أعلم كيف سيكون، لكنني أعتقد اعتقاداً جازماً بصدق النبي الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أن هذا سيكون؛ لكن كيف؟ لا أدري.
ثم جاء أحد الإخوة ليصطحبني إلى صلاة الفجر من المكان الذي أبيت فيه، وهو قريب من المركز الإسلامي، ولكنك لا تستطيع أن تخرج وتخطو خطوات من شدة البرد، وإذ بالأخ الذي جاء ليصطحبني إلى المركز الإسلامي يركب سيارة مرسيدس موديل ثمانية وتسعين، حديثة جداً، قمة الفخامة، وما أن ركبنا وبدأ يتحرك إلا ونزل ضباب حجب الرؤية تماماً حتى في داخل السيارة، والله العظيم يا إخوة، لا أقول: حجب الرؤية أمام السيارة في هذا الطريق الزراعي عندنا، لا، ضباب حجب الرؤية داخل السيارة، فما كنت أراه ولا يراني، مع أنه يضيء مصباح السيارة، نزل الضباب وخيم على الزجاج وعلى السيارة حتى لا ترى شيئاً على الإطلاق، فتوقفت كل السيارات في الشارع، قلت: سبحان الله ما هذا؟! يا فلان! ألا تذكر الذي كان يسألني منذ يومين؟ قال: نعم.
قلت: سبحان الله! ها هي السيارة موجودة، أحدث موديل، مليئة بالبنزين، يركبها القائد، وأنزل الله جندياً من عنده فعطلها في مكانها، أمر عجب! قد تكون هذه المكائن موجودة أمامك لكن تعطل؛ ليتحقق كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، كيف تتعطل؟ كيفية غير معلومة، حتى العقل لا ينكر ذلك إطلاقاً، السيارة موجودة أحدث موديل، والقائد في السيارة يجيد القيادة، مليئة بالبنزين، لا يوجد سبب من الأسباب التي توقف السيارة إطلاقاً، ولكنه جندي في غير حساب البشر، قال الله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] جندي في دقائق.
وسأذكركم بالخبر الذي قرأته على حضراتكم في هذا المجلس، حينما أخبرتكم بأن نجماً من النجوم قد أمطر الأرض بوابل من أشعة جاما، هذه الأشعة التي عطلت المركبات الفضائية الأمريكية تماماً؛ لأن الأمور كلها كما تعلمون كمبيوتر، أشعة معينة لخبطت البرنامج وانتهى الكمبيوتر، وقد أرعب هذا العالم أمريكا حينما قال: إن الكمبيوتر مبرمج إلى ما قبل عام (2000م)، هم الآن في حيص بيص، قضية خطيرة جداً، طبعاً إعلامنا مشغول بالكرة واللاعبين واللاعبات، وخيبة الأهلي البني، فإعلامنا مشغول عن مثل هذه القضايا الكبيرة والخطيرة، لكن لا يزال يحلل كيف هزم الأهلي؟ وكيف كذا؟ لكن هذه القضايا الكبيرة إعلامنا في شغل شاغل عنها، هذه قضية خطيرة وكبيرة جداً، وتشغل الآن عقول العلماء هنالك.
والأعجب من ذلك أن السلاح النووي الأمريكي والروسي موجه لبعضه البعض، هي مصيبة نسأل الله أن يخرجنا من بين الظالمين سالمين غانمين، فتنة رهيبة جداً.
الإنسان لما يفكر كيف تتم الأحداث ربما يطيش العقل والله العظيم، وأنا أعد للمحاضرة والله تعب رأسي، وعندما أطلق لعقلي العنان في التفكير أشعر بألم فأتوقف، سبحان الله، سبحان من يدبر الكون! وسبحان من يسخر الكون! {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154].
هذه أمور علمية يا إخوة، نحن الآن لا نتكلم بأسلوب دروشة، ولا نقول رجماً بالغيب إطلاقاً، هذا كلام علمي مذكور، وستعجبون إذا علمتم أن العلماء بل والرؤساء على أعلى مستوى في العالم يعتقدون اعتقاداً جازماً في هذه الحرب المقبلة وينتظرونها، اسمع إلى ما يقول رونالد ريجن رئيس أمريكا الأسبق، الإراهابي الكبير، الذي خرج يوماً يزف إلينا نبأ ذبح ليبيا، هل تذكرون؟ الأمة تنسى! يقول: رونالد ريجن -وتدبر هذا الكلام الخطير! -: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى هرمجدون.
رئيس أمريكا يتكلم عن معركة هرمجدون التي ستكون بمثابة الإرهاص الحقيقي للملحمة التي هي المعركة الثانية التي ذكرتها الآن كما في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وسأفصلها في المحاضرة المقبلة إن شاء الله تعالى، يقول: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى هرمجدون.
مسألة تحديد الزمن -كما ذكرت- لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض أن يجزم به.
ثم يقول رونالد ريجن نفسه: كل شيء سوف ينتهي في بضع سنوات، ستقوم المعركة العالمية الكبرى معركة هرمجدون أو سهل مجيدو، هذا رئيس أمريكا يتكلم عن معركة مقبلة.
ويقول: جيمس واجر المناظر النجس الذي فضح أخلاقياً، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة: كنت أتمنى أن أستطيع القول بأننا سنحصل على السلام، ولكني أؤمن بأن هرمجدون مقبلة، إن هرمجدون قادمة، وسيخاض غمارها في وادي مجيدو، إنها قادمة، إنهم يستطيعون أن يوقعوا على اتفاقيات السلام التي يريدون، إن ذلك لم يحقق شيئاً، ثم قال: هناك أيام سوداء قادمة.
عليهم إن شاء الله.
الكلام في غاية الخطورة يا إخوان! وهذا جيري كليب، وهو من الأصوليين المتعصبين الصليبيين، وكان من المقربين جداً لـ جرج بوش ويقال: إنه هو الذي تنبأ لـ جورج بوش بأنه سيكون أعظم رئيس في عام 1988م، وكان جورج بوش يقرب هذا الرجل تماماً، يقول: إن هرمجدون حقيقة مركبة، ولكن نشكر الله لأنها ستكون نهاية أيام الدنيا، تقول الكاتبة الأمريكية جليس هالسن: إننا نؤمن كمسيحيين -اللفظ الصحيح الذي نؤكده كنصارى، لكن أنقل كلامها- أن تاريخ الإنسانية سوف ينتهي بمعركة تدعى هرمجدون، وأن هذه المعركة سوف تتوج بعودة المسيح الذي سيحكم بعودته جميع الأحياء والأموات على حد سواء، وتقول أيضاً: هرمجدون نووية لا مفر منها بموجب خطة إلهية.
ويقول لينبسي صاحب كتاب (نهاية أعظم كرة أرضية) -حتى الكتاب اسمه مخيف! -: لا داعي للتفكير -هذا متشائم جداً- في ديون أمريكا الخارجية، ولا في ارتفاع الضرائب، ولا في مستقبل الأجيال القادمة، فالمسألة بضع سنوات وسيتغير كل شيء في العالم جذرياً.
هذا متشائم إلى أقصى حد، يعني: يريد أن يقول: الكل يتوقف.
لكن فهمنا كمسلمين يقول النبي الكريم -كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده بسند صححه شيخنا الألباني -: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها)، فالمسلم يعمل إلى آخر لحظة، ولا تقل: متى سأغرس؟ ومتى ستنمو؟ ومتى ستثمر؟ ومن سيأكل وقد قامت القيامة؟ هذا ليس من شأننا كمسلمين، إنما نحن نأخذ بالأسباب، ونعمل ونترك النتائج لمسبب الأسباب تبارك وتعالى.
إذاً: معركة هرمجدون هي بداية للفتن والملاحم الكثيرة التي ستقع، وسيقود جيوش المسلمين فيها المهدي الذي هو من نسل فاطمة بنت المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذه الملحمة الأخيرة الملحمة التي ستقع بين المسلمين وبين الروم حينما يغدرون، وهي ستكون -إن شاء الله تعالى- موضوع محاضرتنا المقبلة بإذن الله عز وجل بعد مقدمة عن أخبار المهدي ربما تأخذ محاضرة عن المهدي، وعن صفاته، وعن علاماته، وعن الكلام الصحيح الثابت في المهدي الذي سيقود الملحمة، وأنا أتصور أن الأمة الآن، وأن الأرض الآن تهيأ لاستقبال المهدي عليه السلام.
أسأل الله عز وجل أن يعجل بالخلافة الراشدة، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأكتفي بهذا القدر.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(143/8)
الدر المنثور في الذود عن أصحاب الرسول
ما فتئ أعداء الإسلام جاهدين في حربهم على أمة الإسلام، فتارة تظهر حربهم بصورة عسكرية، وتارة تظهر بصورة فكرية، وهي أخطر وأخبث، وقد خططوا وأحكموا الخطط، لزعزعة ثوابت هذه الأمة، وأرادوا أن يختصروا الطريق بإسقاط نقلة الدين وحملته -وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- ليسقط الدين تبعاً لذلك!(144/1)
حرب حقيرة ليست الأخيرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! الدر المنثور في الذود عن أصحاب الرسول.
هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: حرب حقيرة ليست الأخيرة!! ثانياً: عدالة الصحابة من القرآن والسنة.
ثالثاً: وهل يسب الخيران؟!! وأخيراً: هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.
أولاً: حرب حقيرة ليست الأخيرة!! إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دُول كما قال الله عز وجل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، والإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره واستفاض نوره لا زال إلى يومنا هذا مستهدفاً من قبل أعدائه، الذين يشنون عليه حروباً ضارية على كل الجبهات، وفي جميع الميادين!! ومن أخطر هذه الحروب المعلنة: حرب إسقاط الرموز ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم، وانتهاءً بالعلماء والدعاة.
فهم يريدون أن يشككوا الأمة في دينها حينما يشككون الأمة في نقلة هذا الدين من الصحابة الخيرين، والعلماء العاملين، والدعاة الصادقين، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: يريدون أن يفصلوا بين الأتباع والقيادة، فإذا تم الفصل بين القائد والأتباع تشرذمت الأمة لتصبح الأمة ذليلة مبعثرة كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة!! ومن آخر هذه الحروب، وليست الأخيرة: ما ينشر في هذه الأيام على صفحات الجرائد والمجلات السوداء التي تعزف على وتر الجنس لإثارة الغرائز الهاجعة، ولاستجاشة الشهوات الكامنة.
هذه الحرب التي تثار الآن حرب سافرة سافلة! تشن على رموز هذه الأمة ابتداءً من الصحابة حيث نرى دفاعاً مبطناً في هذه الجرائد والمجلات على هذا الخطيب الشيعي المحترق الذي سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سباً فظيعاً منكراً، والله يستحي اللسان العفيف أن يردد الآن لفظة واحدة مما قال!! وتعمدت ألا أعقب على هذا الشيعي المحترق إلا بعد سماع كلماته بأذني رأسي، فإنني لا أثق البتة فيما ينشر على صفحات الجرائد والمجلات؛ لأنهم يكذبون على الجميع، فما استحللت لنفسي، وما استبحت لنفسي أن أرد على هذا المجرم الوقح الذي سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سباً منكراً إلا بعدما سمعت بأذني رأسي لهذا الرجل كلاماً يتعفف اللسان عن ذكر بعضه الآن.(144/2)
سر شن الحرب على رموز هذه الأمة
يُسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم!! ويشوه العلماء!! وتعلن الحرب بضراوة على رءوس الأمة؛ ليتشكك الناس في الدين!! فمن الذي نقل إلينا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هم الصحابة ومن سَار على دربهم من العلماء العاملين، والدعاة الصادقين.
وهذه الحرب التي تعلن الآن على الأطهار، هي التي دفعتني لأقف اليوم بين أيديكم لأذود عن حرمهم الكريم، ولأذود عن عرضهم الطاهر، لا لأرفع من قدرهم وشأنهم، فإن الذي رفع قدرهم هو الله، وإن الذي رفع شأنهم وعَدلهم هو رسول الله، وإنما أتحدث اليوم عن الصحب الأطهار لأرفع من قدر نفسي ومن قدر إخواني وأخواتي، وأتضرع إلى الله عز وجل بحبنا لهم أن يحشرنا معهم، فالمرء مع من أحب يوم القيامة، بموعود الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أسأل الله جل وعلا أن يحشرنا وإياكم جميعاً تحت لواء الحبيب محمد مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين، وعلى رأس الصالحين أصحاب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! والله لا أرى مثلاً لهؤلاء الموتورين الذين يتطاولون اليوم على هذه القمم الشماء إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة عملاقة، فلما هَمَّت الذبابة الحقيرة بالانصراف قالت في استعلاء للنخلة العملاقة: أيتها النخلة تماسكي فإني راحلة عنك!! فقالت النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل شعرت بك حينما سقطتِ عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟!! هل يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء؟! وهل يوقف سير البواخر العملاقة الطحالب الحقيرة الفقيرة ولو اجتمعت على سطح الماء؟!! وهل يضر السحاب نبح الكلاب؟! حري بهؤلاء الموتورين أن يحطموا أقلامهم، وأن يفرغوها من مدادها العفن القذر.
حري بهؤلاء أن يعرفوا قدرهم، وأن يلزموا حدهم، وأن يعرفوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكانتهم، فالصحابة هم الذين زكاهم الله، وعدلهم رسول الله، وبشروا بالجنة وهم في الدنيا، أما هؤلاء فلا يستطيع أحد منهم بل ولا منا أن يجزم لنفسه بخاتمة حسنة، نسأل الله أن يختم لنا ولكم بخاتمة التوحيد والإيمان.
أيها المسلمون الأخيار! وفقني الله وإياكم لمرضاته، وجعلني الله وإياكم ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، اعلموا أنه لا يجوز البتة لرجل زائغ العقيدة، مريض القلب، مشوش الفكر أن يتحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن الحديث عن الصحب الكرام يتطلب ابتداءً صفاء في العقيدة، وإخلاصاً في النية، ودقة في الفهم، وأمانة في النقل، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المبطلين والوضاعين والكذابين والمغرضين، وعلى طريقهم العلمانيين، لابد من الفحص الدقيق لكل ما تقرأ، ولكل ما ينشر عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تعرف قدر هؤلاء ومكانتهم، فهم الجيل القرآني الفريد الذي تربى على يد من رباه الله على عينه ليربي به الدنيا هم.
الجيل الذي تربى على يد المصطفى وكفى، وكل تلميذ يقتبس في العادة من أستاذه، فلك أن تتصور كيف يكون الاقتباس إذا كان المعلم هو سيد الناس! وكل منهج تربوي يترك طابعه على طلابه الذين يتربون عليه، ولك أن تتصور كيف يكون الطابع إذا كان المنهج التربوي الذي تربى عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة! إنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء، فلقد نظر الله في قلوب أهل الأرض فوجد قلب محمد خير قلوب أهل الأرض، فابتعثه برسالته، ونظر الله عز وجل في قلوب أهل الأرض بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب أهل الأرض فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه، وقد جاء هذا في أثر حسن رواه ابن عبد البر وأحمد من حديث ابن مسعود موقوفاً.
إنهم صفوة الخلق بعد الأنبياء، إنهم المهاجرون والأنصار، الذين حملوا دعوة النبي المختار، وصدقوا ما عاهدوا عليه العزيز الغفار، فاستحقوا -وهم في الدنيا- بجدارة واقتدار، أن يبشروا بالجنة والنجاة من النار، إنهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين عدلهم ربهم، ونبيهم صلى الله عليه وسلم، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء.(144/3)
عدالة الصحابة من القرآن والسنة(144/4)
عدالة الصحابة في القرآن
قال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية من علم الرواية: إن عدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم.
وهي ثابتة بنص القرآن قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] والمخاطب ابتداء بهذا الخطاب الرباني هم أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] المخاطب ابتداءً بهذا الخطاب الرباني هم أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم المخاطبون بقول الله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:172 - 174]، وقال الله عز وجل في حقهم مخاطباً نبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64].
وهم الذين قال الله عز وجل في حقهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] وهم الذين قال الله في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
وهم الذين قال الله عز وجل في حقهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، فقيد الله الإحسان للتابعين لهم، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وهم الذين زكاهم الله عز وجل بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9].
وهم الذين قال الله عز وجل في حقهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل زكى الله فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونكتفي بهذا القدر منها.(144/5)
عدالة الصحابة في السنة
تدبروا هذه الأوسمة والنياشين من سيد النبيين صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جلس الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا المجلس مر الناس بجنازة، فأثنوا عليها خيراً -أثنى الصحابة على صاحب الجنازة خيراً- فقال المصطفى: وجبت.
ثم مروا بجنازة أخرى في نفس المجلس فأثنوا عليها شراً.
فقال المصطفى: وجبت.
قال عمر رضي الله عنه: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: الأولى أثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
إن الذي يزكي ها هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست هيئة مشبوهة علمانية أو ماسونية، بل الذي يعدل الآن هو رسول الله: (أنتم شهداء الله في الأرض).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم) أي: في سبيل الله (مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)! وفي صحيح مسلم عن معاوية بن قرة عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن أبا سفيان مر على سلمان وصهيب وبلال ونفر من أصحاب النبي -أي: من الفقراء البسطاء- فلما رأوه قالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، فسمعهم أبو بكر رضي الله عنه فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، يدافع الصديق عن أبي سفيان، ثم انطلق الصديق فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال وبما قالوا، -اسمع ماذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم- التفت إلى أبي بكر وقال: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، فوالله لئن كنت أغضبتهم فلقد أغضبت ربك عز وجل)، لو أغضبت بلالاً وعماراً وسلمان فقد أغضبت ربك عز وجل.
فخاف الصديق صاحب القلب الوجل الرقيق، وأسرع إلى الصحب الكريم وقال: يا إخوتاه أغضبتم مني؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أبا بكر.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت قومك يا نوح؟ فيقول: نعم، فيؤتى بقومه ويقال لهم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: لا، ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا لنوح: من يشهد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته -ما رأينا نوحاً وما عاصرناه، ولكنكم شهداء الله في أرض الله- يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فتدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع رأسه إلى السماء ثم قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
وروى الترمذي وابن حبان وأحمد والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم -وللأمانة العلمية أقول: إن في سنده مجهولاً لكن متن الحديث ثابت صحيح كما ذكرت آنفاً- من حديث عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه).
وأرى أننا بعد هذه الآيات، وبعد هذه الأحاديث الصحيحة، لسنا في حاجة إلى مزيد بيان عن الصحب الكرام، ومع ذلك فإني مصر على أن أعطر هذا المجلس بكلمات ندية لأسد الله الغالب علي بن أبي طالب، إن الكلام من علي رضي الله عنه في هذا الموطن له مغزى! وقبل أن أذكر كلمات علي، أود أن أحذر الأحبة جميعاً من أن ينتقصوا قدر علي ومن ألا يثبتوا له المناقب التي صحت خشية أن يقعوا فيما وقع فيه الروافض من إطراء بالباطل لـ علي، بل يجب أن نثبت لـ علي مناقبه، ونثبت لـ علي مكانته، فهو أسد الله الغالب، هو الذي قال له المصطفى يوم خيبر لما امتنعت حصون اليهود: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله)، وإلى هنا فإن الأمر عادي، كل أحد من الصحب الكرام يحب الله ورسوله، أمر طبيعي، ولكن اسمع ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، وفي الصباح اشرأبت الأعناق، وتمنى الأبطال القيادة حتى عمر المتجرد التقي المخلص النقي يقول: والله ما تمنيت الإمارة إلا يومها، وفي الصباح وقف الأبطال على أطراف الأقدام ليراهم النبي عليهم الصلاة والسلام، وبعدما نظم النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف شق السكون صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن القائد الذي سيدفع له اليوم الراية؛ ليفتح الله عز وجل على يديه، فقال المصطفى: (أين علي بن أبي طالب؟ فبحثوا عن علي فلم يجدوه، فإنه كان يشتكي وجعاً في عينيه، قال: ائتوني به، فأرسلوا إلى علي، فوقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم عينيه فبرأت بإذن الله عز وجل، ودفع له الراية، وأمره أن ينطلق).
فانطلق أسد الله الغالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ففتح الله على يديه حصون خيبر، وهتف الجميع بما هتف به النبي صلى الله عليه وسلم أول يوم: (الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين!).
أسأل الله عز وجل أن يخرب حصون اليهود بقدرته إنه على كل شيء قدير، علي بن أبي طالب هو الذي تربى في حجر المصطفى وكفى، أول شبل من أشبال الإسلام يقف خلف النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويسمع القرآن من فم رسول الله، اضطر يوماً لأن يفخر رضي الله عنه فقال: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي وسبطا أحمد ولداي منها منوط لحمها بدمي ولحمي فأيكم له سهم كسهمي اسمع ما قال علي رضي الله عنه: (سيكون بعدنا أقوام ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا، وآية ذلك أنهم يسُبون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما) تدبر هذا الكلام النفيس أيها الحبيب الكريم.
لقد ذكروا للإمام مالك بن أنس رجلاً ينتقص بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك بن أنس رضي الله عنه قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
ثم قال مالك: فمن وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب رسول الله فقد أصابته هذه الآية (ليغيظ بهم الكفار) وقال الحافظ الكبير أبو زرعة رحمه الله: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك لأن الرسول حق والقرآن الحق، وما جاء به النبي حق، والذي بلغنا ذلك كله عن رسول الله هم أصحابه) فهؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة، فإن الذي نقل ذلك إلينا هم الصحابة، فإن شكك في النقلة الذين نقلوا إلينا عن رسول الله شككونا بعد ذلك في الدين، فهم يريدون أن يهدموا الصحابة الذين نقلوا إلينا هذا العلم؛ ليبطلوا بهذا التشكيك والتشويه القرآن والسنة، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] فوالله ما من مسلم الآن إلا وهو يعلم الحق، ويعلم الحقيقة، ويعلم من الذي يعمل لدين الله، بل ويعلم من الذي يعمل لصالح هذا البلد، ومن الذي يعمل لتقويض أساسه، ولتقويض بنيانه من القواعد، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم جميعاً من المصلحين الصالحين.
وأختم هذا العنصر بما قاله الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة، يبين في هذه الفقرة معتقد أهل السنة والجماعة في أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (ونحب أصحاب الرسول، ولا نفرط في حب أحد منهم، ونبغض من أبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان؛ وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).(144/6)
ونطق الرويبضة
أيها الحبيب الكريم! أحذر نفسي وإياك، وأذكر نفسي وإياك، فإننا نعيش زماناً تكلم فيه الرويبضات، بل أفردت الصفحات للرويبضات، بل أفردت الساعات الطوال على الشاشات وفي الإذاعات للرويبضات، هل تدري من الرويبضات؟ اسمع الجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى أحمد والحاكم في المستدرك وصححه الألباني من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خدّاعات, يُصدق فيها الكاذب, ويُكذب فيها الصادق, ويؤتمن فيها الخائن, ويُخَوَّن فيها الأمين, وينطق فيها الرويبضة قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
والله لقد نطق التافهون، بل لقد نطق أبو الهول الذي لم يتكلم في شيء إلا في سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتشهير بالعلماء المخلصين والدعاة الصادقين، للفصل بين القيادة والأتباع لتتشرذم الأمة، ولتصبح ذليلة كسيرة مبعثرة، ليسهل على الذئاب أن يفترسوها وأن يأكلوها أكل الذئب للغنم، أسأل الله عز وجل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(144/7)
وهل يسب الخيران: أبو بكر وعمر؟!
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: وهل يسب الخيران أبو بكر وعمر؟! يَسُب هذا الشيعي الغبي المحترق أبا بكر وعمر رضي الله عنهما!! بكلمات يعف اللسان عن ذكرها!! يسب أبا بكر بأقبح الألفاظ!! يسب عمر الفاروق بأشنع كلمات!! ألفاظ لا تصدر إلا من فم رجل شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه فهو يهذي ولا يدري ما يقول!! ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.(144/8)
بعض فضائل أبي بكر الصديق
أبو بكر ذلكم الرجل الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حبَ الحُبَ على روض الرضا، واستلقى الصديق على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة وتركه هنالك، ثم علا على أفنان شجرة الصدق يغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح، وهو يتلو في حقه قول ربه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17].
إن الأتقى هو الصديق {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
إنه الرجل الذي استحق أن يكون أقرب الخلق إلى قلب رسول الله كما في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أنه قال: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال عمرو: ثم من؟ قال المصطفى: ثم عمر).
أبو بكر العملاق الذي قال في حقه المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال الصديق صاحب أعلى همة في الأمة بعد نبيها: يا رسول الله! فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال المصطفى: نعم، وأنت هو يا أبا بكر).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن المصطفى سأل أصحابه يوماً فقال: (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال: أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: من تبع اليوم منكم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: من أطعم اليوم منكم مسكينا؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال المصطفى: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).(144/9)
بعض فضائل عمر الفاروق
عمر الفاروق ذلكم الرجل العملاق الذي بركت الدنيا بزخارفها وسلطانها على عتبة داره؛ فطلقها ثلاثاً وسرحها سراحاً جميلاً، وقام ينفض يديه من علائق هذا المتاع الزائف، واستأنف سيره وسط الصحراء تحت حرارة الشمس المحرقة، تراه يجري وراء بعير قد ند من إبل الصدقة يخشى عليه الضياع، ويخشى أن يسأل عنه بين يدي الله جل وعلا يوم القيامة، أو تراه -وهو الفاروق الخليفة- منحنياً على قدر فوق نار مشتعلة ينفخ النيران تحت القدر لتنضج النيران طعمة سريعة لأطفال يتضورون جوعاً، أو تراه واقفاً أمام خيمة رجل يبكي على امرأته التي أدركها المخاض وهي لا تجد أحداً يؤنسها؛ فيسرع ليأتي بزوجة خليفة المسلمين لتقف مع هذه المرأة المسلمة حتى تضع ولدها، أو تراه يمشي في السوق يتفقد أحوال الناس فيرى إبلاً سمينة فيسأل عمر الفاروق: إبل من هذه؟ فيقولون: إبل عبد الله بن عمر، وكأن حية رقطاء قد انقضت عليه فلدغته، وأفرغت كل سمها في جوفه، فيقول: بخ بخ! إبل عبد الله بن عمر، ائتوني به، ويأتي عبد الله يرتجف ويرتعد وهو إمام الزهد والورع، فيقول عمر: يا عبد الله! ما هذه الإبل؟! فيقول ابنه إمام الزهد والورع: يا أبت! إبل كانت مريضة هزيلة، اشتريتها بخالص مالي، وأطلقتها في الحمى ترعى، وأتيت بها إلى السوق أبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة.
فقال عمر في تهكم لاذع: بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، إذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين! اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين، قال: عبد الله: لبيك يا أبت مرني بما شئت.
قال: بع الإبل الآن، وخذ رأس مالك، ورد الربح إلى بيت مال المسلمين! عمر الذي اشتهت زوجه الحلوى يوماً فأبى عليها يا رافعاً راية الشورى وحارسها جزاك ربك خيراً عن محبيها رأي الجماعة لا تشقي البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها إن جاع في شدة قوم شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها جوع الخليفة والدنيا بقبضته منزلة في الزهد سبحان موليها فمن يباري أبا حفص وسيرته أو من يحاول للفاروق تشبيها يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها من أين لي ثمن الحلوى فأشريها ما زاد عن قوتنا فالمسلمون به أولى فقومي لبيت المال رديها فتلك أخلاقه كانت وما عهدت بعد النبوة أخلاق تحاكيها واسمع للمصطفى وهو يضع الأوسمة على صدر عمر الفاروق فيقول كما في سنن الترمذي من حديث ابن عمر وهو حديث حسن: (إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيتني وأنا في الجنة، ورأيت قصراً وإلى جواره جارية تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لـ عمر بن الخطاب يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فتذكرت غيرتك يا عمر فأدبرت، فلما سمع عمر ذلك من رسول الله بكى، وقال: أو عليك أغار يا رسول الله؟!).
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي الناس وعليهم قمص -جمع: قميص- منهم ما يبلغ الثدي، ومنهم دون ذلك، وبينما هم كذلك إذ عرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتره -قميص يجره على الأرض-، قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين).
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائم إذ عرض علي قدح من اللبن، فشربت حتى إني أرى الرِي يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلتي -أي: ما تبقى من الشراب- لـ عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: العلم).
وفي الصحيحين (أن عمر بن الخطاب استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه عالية أصواتهن؛ فلما سمعن صوت عمر يستأذن على رسول الله قمن يبتدرن الحجاب، فدخل عمر والنبي يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله؟! -يعني: لماذا تضحك؟ سؤال بأدب- فقال المصطفى: أضحك من هؤلاء اللائي كن عندي، فلما سمعن صوتك قمن يبتدرن الحجاب! فقال: أنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم التفت عمر إلى النسوة فقال: أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! والمرأة لا يخونها لسانها في مثل هذه المواقف فقلن: نعم؛ لأنك أفظ وأغلظ من رسول الله! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم قولة عجيبة، التفت إلى عمر وقال: إيه يا ابن الخطاب! والله ما رآك الشيطان سالكاً فجاً -أي: طريقاً- إلا وتركه لك، وسلك فجاً غير فجك) فهل يسب عمر فاروق الأمة؟!! وهل يسب الخيران؟!! أسأل الله عز وجل أن يجمعنا بهما في جنات النعيم.(144/10)
هم القدوة فاعرفوا لهم قدرهم
أخيراً: أكتفي بهذا الأثر الذي رواه أحمد بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه قال: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
أيها الوالد الكريم! تعلم سير الصحابة، وعَلم أبناءك سير الصحابة، لقد آن الآوان لنربوا بأبصارنا إلى هذه القمم إلى هذه القدوات إلى هذه المثل فإن شبابنا الآن قدمت له قدوات فاسدة! ومُثل هابطة! يعلمون الكثير عن هؤلاء الأقزام! في الوقت الذي لا يعلمون فيه شيئاً عن هذه القمم الشماء، وعن هؤلاء الأطهار الخيار الكرام.
تعلم سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عُد من جديد واسمع السيرة اقرأ السيرة اجتهد أن تسأل عن سيرتهم بعد ما حرمت من صحبة أنفاسهم وأجسادهم، ورب ولدك على هذه السيرة؛ لنأخذ العبرة والعظة من ناحية، ولتتدفق من جديد في عروقنا دماء العزة والكرامة، والزهد والورع من ناحية أخرى، التي ضرب لها أروع المثل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إننا نعيش زماناً قدم فيه التافهون ليكونوا القدوة والمثال، ونعيش زماناً قلت فيه القدوة من ناحية أخرى، آن الآوان لأن ترنوا جميع الأبصار إلى هذه القدوات الطيبة والمثل العليا.
ويجب عليك أن تغار لأصحاب نبيك إذا قرأت كلمة تنبش عرض واحد منهم، يجب عليك أن تغار، دعك من هذه السلبية القاتلة، تقرأ في جريدة أو في مجلة قذرة داعرة دفاعاً مبطناً عن هذا الشيعي المحترق الذي سب أصحاب النبي ولا تفعل شيئاً، اكتب رسالة إلى الجريدة، وعبر فيها عن رأيك، اتصل بالهاتف وعبر عن رأيك، قرأت تحقيقاً صحفياً عن شيوخك وعلمائك ودعاتك فعبر عن رأيك، اكتب خطاباً وأرسل به إلى رئاسة التحرير أو إلى المحررين، المهم أن تنكر هذا المنكر ولا تعجز، اكتب كلمات رقيقة، اكتب كلمات طيبة، ذد عن عرض هؤلاء، ذد عن شرف هؤلاء، ادفع عن عرض هؤلاء الشيوخ والدعاة والعلماء والصحابة قبل ذلك.
فهؤلاء هم رموز الأمة، لا ينبغي أن تسقط هذه الرموز، لا ينبغي أن تشوه صورهم وأن نسكت، عبر بكلمة طيبة لا نريد أكثر من ذلك، المهم أن يعلم هؤلاء الذين يكتبون عبر هذه الصفحات السوداء أن الأمة مع علمائها، وقبل ذلك مع دينها ومع نبيها ومع أصحاب رسول الله، ومع العلماء العاملين والدعاة الصادقين، لابد أن يشعر هؤلاء بهذا.
يا أخي! لا تكن سلبياً، استحلفك بالله أن تكون إيجابياً، تحرك وعبر عن القضية بكلمات رقيقة رقراقة جميلة، فإنني أقول لكم دوماً: لا تخلطوا بين مقام الدعوة ومقام القتال، فمقام الدعوة هو اللين {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125]، {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44].
وهذا الذي أطالب به الآن، أدع بالحكمة وباللين، برسالة أو اتصل بالهاتف، تحدث مع مسئول إن كنت تعرفه، تحدث مع صحفي إن كنت تعرفه، نريد أن يصل كماً هائلاً من الرسائل التي تعبر عن حب هذه الأمة لدينها ونبيها وأصحاب رسول الله والعلماء والشيوخ والدعاة الصادقين؛ ليعلم هؤلاء أنهم يحرثون في الماء، أما أن نكون سلبيين إلى هذا الحد، وأن نسمع وننصرف! ونأتي لنسمع وننصرف، ولا شيء يخرج منا على الإطلاق! فهذه سلبية خطيرة، أعوذ بالله من نتيجتها بين يديه تبارك وتعالى.
لا تبرر لنفسك هذه السلبية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] صديق الأمة قرأ هذه الآية يوماً على المنبر فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده)، وقال في رواية أخرى: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) أسأل الله عز وجل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احشرنا في زمرة نبيك الكريم، وصحبه المباركين، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(144/11)
الشيعة والسنة
من شر البدع التي أحدثت في الإسلام بدعة الشيعة الرافضة؛ إذ أن وراءها أيدٍ مدسوسة خبيثة كابن سبأ اليهودي الذي كان هدفه إفساد الإسلام.
ولهؤلاء القوم عقائد فاسدة منحرفة عن دين الإسلام، بل عن العقل السليم، كعقيدة الإمامة، وعصمة الإمام، وعقيدة التقية والرجعة والبداء، فيجب الحذر والتحذير منهم، ومن عقائدهم الفاسدة.(145/1)
معتقد الشيعة والرافضة في الإمامة والأئمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً -أيها الأحبة الفضلاء! - وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً.
وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! لا زلنا نواصل حديثنا في دروس العقيدة عن الركن الخامس من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ألا وهو الإيمان باليوم الآخر، ولا زال حديثنا متواصلاً وممتداً أيضاً عن الفتن التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها بين يدي الساعة، كعلامة من العلامات الصغرى.
وقد تحدثت قبل عن فتنة الخوارج وعن فتنة الروافض، وأختم اليوم الحديث -إن شاء الله تعالى- عن الروافض؛ وقد كنت بينت معتقد الشيعة الروافض في كتاب الله جل وعلا، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف أجمل في هذا اليوم معتقد الشيعة الروافض في عقائدهم الأخرى التي شذوا بها عن أهل السنة والجماعة، وسأتحدث عن الشيعة الروافض في نقاط محددة، وسأبين أولاً: معتقدهم في الإمامة.
ثانياً: في عصمة الإمام.
ثالثاً: في التقية.
رابعاً: في الرجعة.
خامساً: في البداء.
سادساً: في الغيبة.
وأكون بذلك -ولله الحمد- قد بينت معتقد الشيعة مجملاً، ولن أتوقف فيما يخالف فيه الشيعة أو الروافض أهل السنة في المسائل الفقهية، وإلا لاحتجنا إلى عشرات المحاضرات بلا مبالغة، وإنما يكفي أن أبين مجمل معتقد القوم؛ ليكون كل مسلم على بصيرة، وهذا الكلام لا يستغني عنه مسلم أو مسلمة، لا سيما ونحن نعلم يقيناً أن الروافض والشيعة قد انتشرت انتشاراً ساحقاً الآن في الأرض، نسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الحق، وأن يتوفانا عليه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأرجو أن تركزوا معي في هذا الموضوع الذي سأنهي به الحديث -إن شاء الله تعالى- عن الروافض أو الشيعة، وسيتبين للجميع مجمل معتقد القوم، بعدما وقفنا على معتقدهم في القرآن وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
أولاً: معتقد الشيعة أو الروافض في الإمامة: تحدثت قبل عن مجمل معتقد الشيعة أو عن إشارات في معتقد الشيعة أو الروافض في الإمامة، والإمامة لها -عند الشيعة أو عند الروافض- مفهوم خاص، ينفردون به عن سائر المسلمين على ظهر الأرض، فهم يتعقدون أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة تماماً، فكما أن الله سبحانه يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة، ويؤيده بالمعجزات التي تبين أن هذا النبي أو الرسول مرسل من عند الله جل وعلا، فهم يعتقدون كذلك أن الله تبارك وتعالى كما يختار الأنبياء والرسل يختار الأئمة، ويأمر الله عز وجل نبيه بالنص على الإمام، وأن ينصبه -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- إماماً للناس من بعده.
هذا كلام الشيعة أو الروافض في قضية الإمامة، فهم لا يفرقون بين الرسول والنبي والإمام تفريقاً ظاهراً.
وتدبر معي -مثلاً- هذا النص من كلام الكليني في (الكافي) في كتاب الحجة، في باب: الفرق بين الرسول والنبي والمحدث، المجلد الأول (ص:176)، يقول: أما الفرق بين الرسول والنبي والإمام عندهم، فقد سئل الرضا: ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ فقال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيسمع -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- كلامه ويراه -أي: يرى جبريل عليه السلام- وينزل عليه الوحي، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ولا يسمع منه -وهذا تقسيم عقيم جداً- وأما الإمام فهو الذي يسمع الكلام ولا يرى جبريل عليه السلام.
وهذا النص لا شك أنكم تقفون من خلاله على أنهم لا يفرقون إطلاقاً بين الرسول والنبي والإمام في قضية نزول الوحي، فهم يرون نزول الوحي على الإمام كنزوله على النبي والرسول، فهم يقرون بأن الإمام من أئمتهم هو الذي يسمع الوحي من جبريل عليه السلام، ولكنه لا يراه رأي العين.
مع أن هناك روايات تؤكد تحقق رؤية الإمام للملائكة، حتى قال عالمهم الشهير المجلسي الذي عقد في (البحار) -الكتاب المشهور الذي نقلت عنه كثيراً- باباً بعنوان: باب أن الملائكة تأتيهم -أي: تأتي الأئمة- وتطأ فرشهم، وأنهم يرونهم.
أي: وأن الأئمة يرون الملائكة.(145/2)
منزلة الإمامة والأئمة عند الشيعة والرافضة
بل وستعجبون إذا ذكرت لكم بأن منزلة الإمامة عند الشيعة قد تجاوزت منزلة النبوة، ويكفي أن تقف فقط -بإيجاز شديد جداً- مع بعض عناوين الأبواب في كتاب (الكافي) أو (البحار) للمجلسي، أو في كتاب (الشيعة وأصولها)، أو (البرهان) كتفسير من التفاسير أو في أي مرجع من مراجعهم؛ لتقف على أن الإمامة عندهم إنما هي في منزلة أعلى من منزلة النبوة، وتدبر معي بعض هذه العناوين من كتاب (البحار) للمجلسي: يقول في فضائل الأئمة: باب: أنهم أعلم من الأنبياء عليهم السلام، وروى في هذا الباب ثلاثة عشر حديثاً.
وفيه: باب بعنوان: تفضيل الأئمة على الأنبياء وعلى جميع الخلق.
وفيه: باب: أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بالأئمة.
يعني: ما استجاب الله دعاء الأنبياء إلا لأن الأنبياء توسلوا واستشفعوا إلى الله بالأئمة.
وفيه: باب: أنهم يقدرون على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وجميع معجزات الأنبياء.
وفيه: باب: أنهم لا يحجب عنهم علم السماء والأرض، والجنة والنار، وأنه عرض عليهم ملكوت السماوات والأرض، ويعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وروى في هذا الباب اثنين وعشرين حديثاً.
وفيه: باب: أنهم يعرفون الناس بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق، وعندهم -أي: عند الأئمة- كتاب فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء شيعتهم وأعدائهم، وروى في هذا الباب أربعين حديثاً.
وفيه: باب: أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا.
وفيه: باب: أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم.
وفيه: باب: أنهم لا يحجب عنهم شيء من أحوال شيعتهم، وما تحتاج إليه الأمة من جميع العلوم، وأنهم يعلمون ما يصيبهم من البلايا، ويصبرون عليها، ولو دعوا الله في دفعها لأجيبوا، وأنهم يعلمون ما في الضمائر، وعلم المنايا والبلايا، وفصل الخطاب والمواليد، وذكر في هذا الباب ثلاثة وأربعين حديثاً.
هذا نقلاً عن (البحار) للمجلسي المجلد رقم (26) ابتداء من (ص:137 إلى 153)، وهذا كله عناوين أبواب، ولو سردت بعض الأحاديث المروية تحت هذه الأبواب لسمعتم العجب العجاب، ويكفي فقط أن نقف مع رءوس هذه العناوين، وأختم بهذا الباب الذي يقول فيه: إن عند الأئمة اسم الله الأعظم، وبه -أي: بهذا الاسم- يظهر منهم الغرائب.
هذه أمثلة لما يصفون به أئمتهم، وهي دعاوى في غاية الغرابة، وتحتاج إلى رجل صاحب عقل فقط؛ ليقف على بطلانها وعلى ضلالها، فهم يخرجون الأئمة -بمثل هذه الروايات والنصوص- من منزلة البشرية إلى منزلة النبوة، بل إلى مرتبة الألوهية، فهم يدعون أنهم يعلمون ما في الغيب، ويعلمون مكنون الضمائر، بل ويعلمون ما تحتاج إليه الأمة، بل ويعلمون ما في قلوب الناس، فيعلمون أن هذا مؤمن وأن هذا منافق، وهذا كله علم خاص بالله، لأنه متعلق بألوهية الرب، فلا يعلم الغيب إلا الله، بل لقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى فقال: إن رءوس الطواغيت في الأرض خمسة -ومعلوم أن الطاغوت صيغة مشتقة من الطغيان، فالطاغوت هو: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع- منها: الشيطان، وهو الطاغوت الأكبر الذي زين للناس عبادة الطاغوت من دون الله جل وعلا، وما بعث الله نبياً ولا رسولاً إلا وقد أمر هذا النبي والرسول قومه أول ما أمر أن يكفروا بالطاغوت ويؤمنوا بالله؛ إذ لا يصح إيمان إلا بالكفر بالطاغوت ابتداء، ثم بعد ذلك بالإيمان بالله جل وعلا، فقدم الله الكفر بالطاغوت على الإيمان به سبحانه، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].
ثم قال: ثم الحاكم المغير المبدل لشرع الله، ثم الذي يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم، ثم الذي يدعي علم الغيب من دون الله جل وعلا، فمن ادعى علم الغيب من دون الله فهو طاغوت من الطواغيت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! فهم يخرجون الأئمة بمثل هذه الروايات والنصوص من مرتبة الإمامة ومرتبة النبوة إلى مرتبة لا يمكن أبداً أن تنسب مثل هذه المرتبة إلا لله تبارك وتعالى، وهذه الروايات هي -في الحقيقة- الأرضية والقاعدة والمنطلق للأفكار الباطنية المنتشرة الآن في الأرض، وهذه الدعاوى الخطيرة باب للزندقة والإلحاد، إذ لم يقلها نبي مرسل ولا ملك مقرب، وهي محاربة لله جل وعلا ولرسوله ولكتابه ولدينه وللمسلمين.(145/3)
اعتقاد الشيعة والرافضة في قبور أئمتهم
ومكمن الخطر أن هذه المزاعم قد انتقلت لتتحول إلى ترجمة عملية واقعية في دنيا الناس، فهم يلوذون الآن بقبور أئمتهم، ويفعلون بها ما لا يصدقه عاقل، بل لقد اعتبر الروافض أن أماكن قبور أئمتهم أماكن مقدسة، كالحرم في مكة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتدبر معي ما قال في (الوافي): إن الكوفة حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم وحرم أمير المؤمنين، وإن الصلاة فيها -أي: في الكوفة- بألف صلاة، والدرهم فيها بألف درهم.
انظر إن شئت كتاب (الوافي) باب: فضل الكوفة ومساجدها، المجلد الثاني (ص:215).
ويروون عن الصادق: أن لله حرماً هو مكة، ولرسوله حرماً هو المدينة، ولأمير المؤمنين -أي: علي - حرماً هو الكوفة، ولنا حرماً وهو قم.
وقم: بضم القاف وتشديد الميم، مدينة مقدسة في إيران، وقالوا: إنها ما استمدت قداستها إلا من قبر فاطمة بنت موسى بن جعفر الصادق، وموسى بن جعفر الصادق هو إمامهم السابع من الأئمة الإثني عشر!! وكربلاء -وهي الموطن الذي قتل فيه الحسين رضي الله عنه وأرضاه- عندهم أفضل من الكعبة، ففي كتاب (البحار) للمجلسي، الجزء الأول (ص:107) عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله أوحى إلى الكعبة: لولا تربة كربلاء ما فضلتك، ولولا من تضمنته أرض كربلاء ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري، وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء، وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم!! وزيارة قبور الأئمة أفضل عندهم من حج بيت الله الحرام، كما في (الكافي) أتى رجل أبا عبد الله فقال له: إني رجل قد حججت تسعة عشر حجة، فادع الله لي أن يرزقني تمام العشرين، فقال له: هل زرت قبر الحسين رضي الله عنه؟ قال: لا، فقال له: لزيارته خير من عشرين حجة.
وجاء هذا أيضاً في الوافي المجلد الثاني (ص: 219).
وقد يقول قائل: يا أخي! أنت تزعم أو تذكر بأنهم يتوسلون بقبور أئمتهم، وهذا أيضاً موجود عند أهل السنة؟ فأقول: نعم، لا أنكر، ولكن الفارق الكبير بين ما عليه الشيعة أو الرافضة وما عليه أهل السنة: أن الشيعة يفعلون ذلك بقبور أئمتهم كمعتقد، لكن ما يفعله بعض أهل السنة عند قبور الصالحين إنما يفعل من خلال الجهل، وليس من خلال المعتقد، ولو تبين للناس الحق لأذعنوا للحق، ولذلك أنا أوصي شبابنا أنه لا ينبغي أن يتعجل بالحكم بالتكفير على من يذهب إلى قبور الصالحين والأولياء في بلادنا، ولا ينبغي أن نتعجل بإصدار حكم التكفير على أمثال هؤلاء؛ لأن جل هؤلاء لا يعلم الحق، ولم يتعلم، ولم تقم عليه الحجة.
وقد يقول قائل: إن الحجة قد قامت عليهم.
فأقول: هناك فرق بين نوعين من أنواع الحجة: بين الحجة الرسالية العامة، التي أقيمت ببعثة النبي على الناس جميعاً، وبين الحجة الرسالية الخاصة، لا سيما وأن كثيراً من هؤلاء يرى أناساً ممن يشار إليهم بالبنان على أنهم من العلماء -والذين تنقل محاضراتهم ودروسهم من أمثال هذه المساجد، بل حتى من علماء الحديث- يذهبون إلى مثل هذه الأماكن، فيغتر الناس بهذا العمل، فإن جاء واحد مثلك أو مثلي ليذكر الناس ربما التبس عليهم الأمر، فلا ينبغي أن نحكم عليهم بكفر إلا بعد أن نقيم الحجة عليهم، وشتان شتان -يا أيها الشباب- بين إقامة الحجة وفهم الحجة، فإن أقمت الحجة فواجب عليك أن تفهم من أقمت الحجة عليه حجتك، وإلا فما أقمت الحجة عليه، وأرجو ألا يفهم مخلوق من كلامي هذا أنني أقول: إنك لا تنكر على من رأيته يطوف بقبر من القبور، لا، فالفعل فعل شرك، ولكن لا ينبغي أن يتسرع في إطلاق الأحكام التكفيرية، وأنا وضحت قبل ذلك أنه ليس كل من فعل الشرك يحكم عليه بالشرك المطلق، وليس كل من قال الشرك يحكم عليه بالشرك المطلق، فقد يقول الرجل قولة الكفر وليس بكافر، وقد يفعل الرجل فعل الكفر ولا يحكم عليه بالكفر المطلق المخرج من الملة، وهذا أصل كبير من أصول أهل السنة، ينبغي أن لا نتجاهله أو نغفل عنه، حتى لا نقع في هذا المحظور؛ فلأن أخطئ في عدم تكفير مسلم أحب إلي من أن أخطئ في تكفيره، فلن يسألني الله يوم القيامة: لمَ لم تكفر فلاناً؟ وإنما سيسألني: لمَ كفرت فلاناً؟ فالله الله في التعجل في إصدار الأحكام على خلق الله.
ومن أعجب وأروع ما قرأت في حياتي ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب -الذي يتهم بأنه من أكبر من كفر في عصرنا الحديث، وهو والله بريء- في كتاب: (الدرر السنية) -وهو كتاب ماتع طيب قيم- قال بالحرف: وإن كنت لا أكفر من يطوف حول الصنم الذي على قبر البدوي، فكيف أكفر من هو دونه؟! هذا كلام في غاية النفاسة، فلا ينبغي أن نتعجل بإصدار الأحكام بالتكفير والتفسيق والتبديع على الناس إلا بعد أن نقيم الحجة عليهم، وبعد أن يفهم الناس الحجة التي أقيمت عليهم، فشتان شتان بين إقامة الحجة وبين فهم الحجة، وليتنا تحركنا إلى الناس لنعلمهم التوحيد الخالص، بدلاً من أن نجلس في مساجدنا وبيوتنا لنكتفي بإصدار الأحكام عليهم فقط، وما أروع قول الشافعي رحمه الله إذ يقول: والله! ما ناظرت أحداً إلا ودعوت الله أن يكون الحق معه.
فتحرك إليه وأنت تتمنى من الله أن يفتح الله صدره للهداية وللسنة، ونسأل الله أن يرد أهلنا وآباءنا ونساءنا وأمهاتنا إلى الحق رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأنا أقول هذا الكلام من باب تجربة عملية خضتها أنا بنفسي، فإنني أعلم أسماء مجموعة من آبائنا الكرام ممن كانوا يأخذون في كل عام أكثر من رأس جاموس، ويذهبون به إلى قبر الشبراوي في القاهرة، وأحدهم -أعرفه جيداً- فقير لا يجد لقمة الخبز، لكنه يأخذ النذر في كل عام لولي من الأولياء على حد زعمه، وهو الآن -ولله الحمد والمنة- من أهل السنة، ويصلي خلف إمام من أهل السنة، وهذا فضل الله جل وعلا، ولما أقمت عليه الحجة وبينت له، كاد والله أن يصعق؛ لأن الرجل ما سمع مثل هذا، واحتج علي ببعض الرموز الدعوية العلمية المشهورة المعروفة، فلما تبين له الحق أذعن للحق، فشتان شتان بين أن يذهب رجل يتوسل بصاحب القبر وهو يعتقد فيه اعتقاداً جازماً، وبين رجل يقول: أنا ما أذهب إلى هذا القبر إلا لأتقرب إلى الله جل وعلا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنا ما أفعل هذا إلا من باب القربى، فلما تبين له أن هذا الفعل من أفعال الشرك ومن أفعال الكفر، وأنه لا ينبغي أن تسأل إلا الله، وألا تستغيث إلا بالله، وألا تلجأ إلا إلى الله، وألا تنذر إلا لله، وألا تذبح إلا لله، وألا تسأل إلا الله إلخ.
وأعطي له الدليل بأدب ورحمة وحكمة وتواضع شرح الله صدره للحق، أسأل الله أن يثبتنا على الحق.
والقصد: أن الرافضة فهم يعتقدون أن زيارة قبر إمام من أئمتهم أفضل من حج بيت الله الحرام، وأنا أسأل: هل يوجد من جهال المسلمين من يعتقد ذلك؟
الجواب
لا، والله! ولا أقول ذلك على سبيل المجاملة للمسلمين ولإخواننا، فإني والله! لا أرى جاهلاً من جهال المسلمين يعتقد أن زيارته لقبر السيد البدوي -مثلاً- أفضل من أن يحج بيت الله الحرام، ومن أن يزور مسجد النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، لا، ثم لا، ثم لا.(145/4)
عقيدة الشيعة والروافض في عصمة الأئمة
أيضاً أيها الأحبة الكرام! هم يعتقدون عصمة الأئمة، فالعصمة -عندهم- ليست للنبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هي كذلك للإمام، وهذه قاعدة أساسية من قواعد معتقد الروافض أو الشيعة، يقول شيخهم المجلسي في عصمة الأئمة عليهم السلام من الذنوب صغيرها وكبيرها: فلا يقع منهم ذنب أصلاً لا عمداً ولا نسياناً ولا لخطأ في التأويل، ولا لسهو من الله، يعني: لا ينزل الله على أحدهم سهواً.
وهذا الكلام موجود في كتاب (البحار) للمجلسي المجلد الخامس والعشرين (ص:211) وكذلك في أوائل المقالات، وفي غيرها من المراجع المعتمدة عند الروافض أو الشيعة.
وإذا كان أهل السنة يرون أن الأمة معصومة بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فإن الروافض أو الشيعة يرون أن الأمة معصومة من الضلال بالإمام؛ لأن الإمام كالنبي؛ ولأن الإمامة هي استمرار للنبوة كما ذكرت.
ومن أخطر الآثار العملية لدعوى العصمة: أنهم يعتبرون ما يصدر عن أئمتهم الإثني عشر كقول الله ورسوله، كما بينت ذلك قبل.(145/5)
عقيدة الشيعة والروافض في التقية
ثالثاً: بعد ما بينت معتقدهم في الإمامة، وبعد ما بينت معتقدهم في عصمة الإمام بإيجاز، أبين معتقدهم في التقية: التقية: معتقد من معتقدات الروافض أو الشيعة، فما هي التقية من خلال تعريفهم هم، لا من خلال تعريف أهل السنة؟ التقية عند الروافض أو الشيعة هي: كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يترتب عليه الضرر في الدين أو الدنيا.
وهذا الكلام موجود في كتاب (البحار) للمجلسي؛ وهو عالمهم الكبير، (ج25/ 351).
يعني: إن قال كلمة تبين له أنه قد ينتج عنها ضرر له في دينه أو في دنياه فمن معتقدهم أن يخفي ما يعتقده، وأن يظهر شيئاً آخر، وهذا ما يسمى عندهم بالتقية.
قال أحد علمائهم المعاصرين وهو محمد جواد مغنية في كتابه: (الشيعة في الميزان) (ص:48) يعرف التقية بقوله: التقية أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد؛ لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك.
والتقية في الإسلام معلوم أنها رخصة، وليست عقيدة، كما قال عز وجل: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، فللعبد أن يتقي وأن يظهر بلسانه ما ليس في قلبه؛ لأن هذه رخصة، فإن تعرض للإيذاء أو للضرر البالغ أو للهلاك فلا حرج عليه حينئذ -ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان- أن يظهر خلاف ما يعتقد، كما فعل عمار بن ياسر رضوان الله عليه وعلى أبيه.
فالتقية أساس وعقيدة من عقائد الروافض والشيعة، ومن ركائز معتقدهم، بل ربما غالى الروافض في أمر التقية، حتى قالوا: إن تسعة أعشار الدين في التقية، بل وقالوا: لا دين لمن لا تقية له.
وهذا موجود في كتاب (الكافي) المجلد الثاني (ص:272).
ومن العجيب أنهم يجعلون تارك التقية ومن لم يأخذ بها خارجاً من الدين بالكلية، كما روى الكليني عن أبي جعفر، والعجيب أن أبا جعفر مولود سنة 57 هـ، يعني: مولود في عصر عز الإسلام الذي لا يحتاج فيه المسلمون إلى تقية، فهم ينسبون إليه ذلك وهو بريء، كما ذكرت قبل ذلك مراراً، يقول: التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له!(145/6)
عقيدة الشيعة والرافضة في الرجعة
رابعاً بإيجاز شديد: الرجعة، وهذا معتقد من معتقد الروافض أو الشيعة، والرجعة هي: رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، سواء كان هؤلاء الذين يرجعون إلى الدنيا من الصالحين أو حتى من الفاسدين، هذا معتقد عند الروافض، فإنهم يعتقدون بأن أناساً سيرجعون إلى الحياة الدنيا بعد موتهم قبل يوم القيامة، والراجعون إلى الدنيا -كما يعتقدون- فريقان: أحدهما: من علت درجته في الإيمان.
والآخر: من بلغ الغاية في الفساد.
وهذا موجود في كتاب المفيد (أوائل المقالات) (ص:95)، فقد ذكر أنهم يعتقدون أن الذين يرجعون إلى الدنيا ينقسمون إلى فريقين: الأول: هو من علت درجته في الإيمان، والثاني: من بلغ الغاية في الفساد.
وزمن الرجوع عندهم هو عند قيام مهدي آل محمد عليهم السلام.
وعقيدة الرجعة من أصول المذهب الشيعي، فمن رواياتهم العجيبة جداً أنهم يقولون: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا.
يعني: برجعتنا.
وهذا موجود في كتاب (من لا يحضره الفقيه) لـ ابن بابويه القمي المجلد الثاني (ص:128)، وموجود في كتاب (الوسائل) للحر العاملي المجلد السابع (ص:438)، وموجود في تفسير (الصافي) المجلد الأول (ص:347).
ويقولون مرة أخرى: ليس منا من لم يؤمن بكرتنا.
فالروافض والشيعة مجمعون على اعتقاد الرجعة.
ويقول المفيد عالمهم المشهور: اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات.
ويقول الحر العاملي: إنها موضع إجماع جميع الشيعة الإمامية، ويقول: إنها من ضروريات مذهب الإمامية، ويقول: إننا مأمورون بالإقرار بالرجعة واعتقادها، وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات، وفي يوم الجمعة، وفي كل وقت، كما أننا مأمورون بالإقرار في كثير من الأوقات.
وهذا أمر عجيب! حيث يعتقدون أنهم لابد أن يكرروا ويؤكدوا مسألة الرجعة -كما قال: وفي كل وقت! - يقول: كما أننا مأمورون بالإقرار في كثير من الأوقات أن نؤكد قضية التوحيد والنبوة والإمامة والقيامة.
وهذا الكلام موجود في كتاب (الوسائل) للحر العاملي (ص:64)، وكذلك موجود في كتاب (أوائل المقالات) للمفيد وهو من أكابر علماء الشيعة كما ذكرت.
إذاً: الرجعة معناها أنهم يعتقدون برجوع بعض الأموات، سواء من المؤمنين ممن بلغوا درجة عالية في الإيمان، أو ممن وصلوا إلى الحضيض في الفساد والفسق.(145/7)
عقيدة الشيعة والروافض في البداء
خامساً: البداء، وهذا معتقد خبيث من معتقد الروافض، والبداء -كما ورد في قواميس اللغة-: بدا بَدْواً وبُدُوّاً وبَدَاءة يعني: ظهر، يقال: بدا لي، أي: ظهر لي، وبدا له في الأمر بدواً وبداءً وبداة: نشأ له فيه رأي، وأقول: بدا لي القمر، أي: ظهر لي القمر، أو أقول: بدا لي أن أغير فكرتي في قضية كذا وكذا.
إذاً: بدا بمعنى: ظهر، وبمعنى: نشأ له فيه رأي جديد.
فالبداء في اللغة -كما جاء في القاموس- له معنيان: المعنى الأول: الظهور والانكشاف، والمعنى الثاني: نشأة رأي جديد، فإذا قلت: بدا لي أن أغير موعد درس الأربعاء، أي: نشأت لي فكرة جديدة في أن أغير درس الأربعاء.
وهذان المعنيان للبداء وردا في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فقوله: (وإن تبدوا) البداء هنا بمعنى: الإظهار، وفي قول الله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35]،والبداء هنا بمعنى: نشأ لهم رأي جديد، فالمعنيان واردان في كتاب الله جل وعلا.
والبداء بهذين المعنيين لا يجوز ألبتة أن ينسب إلى الله، يعني: لا ينبغي أبداً أن تقول بأن الله عز وجل قد بدا له أمر، بمعنى: ظهر بعد ما كان غائباً عنه سبحانه، أو بدا لله أمر في أن يغير أمراً أو أن يبدله سبحانه وتعالى.
فالبداء بهذين المعنيين -الثابتين في اللغة وفي كتاب الله- لا يجوز ألبتة أن ينسب إلى رب العزة تبارك وتعالى، ومع ذلك أقول لكم: البداء في الأصل عقيدة اليهود، وانتقلت عقيدة البداء من اليهود إلى الروافض والشيعة، بدليل هذا النص من نصوص التوراة المحرفة المزورة المبدلة، يقول هذا النص: (ورأى الرب أن شر الناس قد كثر على الأرض، وأن كل تصور أفكار قلوبهم إنما هو شر في جميع الأيام، فندم الرب -تعالى الله عما يقول اليهود والروافض علواً كبيراً- أنه عمل الإنسان على الأرض- يعني: أنه خلق الإنسان على الأرض -وتأسف في قلبه- تعالى الله عن ذلك- فقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض، مع البهائم، والدبابات -وهذه لفظة عجيبة- وطير السماء؛ لأني ندمت على خلقي لهم!) تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فهذا فقرة من الكتاب المقدس الفصل السادس، صفحة رقم (12) من تكوين التوراة، تبين عقيدة اليهود في البداء.
فالبداء في الأصل عقيدة يهودية، ثم انتقلت هذه العقيدة إلى الروافض والشيعة، ويقولون: إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لا يظهر معهما على كذب أبداً من أئمتهم، وهما: القول بالبداء، وإجازة التقية، يعني: هذان الأصلان من معتقد الروافض والشيعة، ألا وهما: البداء، والتقية، ووضعا حتى لا يظهر لإمام من أئمتهم كذب أبداً في فترة من فترات الزمن! فالإمام من الأئمة معصوم عندهم، وقد يتكلم الإمام بكلمة ثم لا تقع -مع علمه بما كان وما سيكون- فيتبين حينئذٍ كذبه، فكيف يخرج من هذا المأزق؟ يخرج بعقيدة البداء، فيقال: بدا للإمام أن يغير ما كان قاله! وقد تقف على بعض النصوص المنسوبة لـ علي رضوان الله عليه، في ثنائه على أبي بكر، كما هو موجود في كتاب (نهج البلاغة) الذي يعتبرونه من الكتب المقدسة؛ فإذا واجهتهم بهذا، تجدهم يقولون: قال علي ذلك من باب التقية!! ألم يدع هؤلاء أن قرآناً نزل على علي أو على فاطمة وهو ما يعرف عندهم بمصحف فاطمة! وإذا قيل لهم: لم يظهره علي؟ يقولون: تقية؛ لأنه لو أظهر علي هذا القرآن لأحرج من سبقه، ولبين كذبهم، فهو جاملهم من باب التقية؛ وأخفى هذا القرآن الذي أنزله الله على فاطمة بعد محمد صلى الله عليه وسلم!! وهذا ضلال مبين، اللهم ثبتنا على الحق يا رب العالمين! ويشرح سليمان بن جرير -وهو من علمائهم- عقيدة البداء في أنها الستار على ادعاءاتهم الكاذبة في الغيب، فيقول: فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم في ما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غدٍ، وقالوا لشيعتهم: إنه سيكون في غدٍ -أي: كذا وكذا- فإن جاء ذلك الشيء على ما قالوه قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون؟ فنحن نعلم من قبل الله عز وجل ما علمه الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وإن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا: إنه يكون على ما قالوه، قالوا لشيعتهم: بدا لله في ذلك ألا يكونه!! وهذا موجود في كتاب (الكافي).
والعجيب! أن فصل البداء أورده صاحب (الكافي) في كتاب التوحيد، مما يدل على أنه أصل معتقد عندهم، أورده صاحب كتاب الكافي في كتاب التوحيد في باب اسمه باب: البداء، المجلد الأول صفحة (146)، فالبداء عندهم عقيدة يضعونها في كتاب التوحيد، فصاحب الكافي ذكر هذا ضمن كتاب التوحيد، وفي هذا الباب ذكر ستة عشر حديثاً في البداء، المجلد الأول صفحة (146 - 149).
والله! والله! ما وقفت -وأنا أطلع على مصادرهم وكتبهم- على كلمة تنافي ما أقول إلا وأذكرها لكم، وقد ذكرت قبل ذلك أمثلة في المحاضرات الماضية، فما وقفت على كلمة لعالمهم تكذب أو تنكر ما ينسب إليهم إلا وأنقلها من باب الإنصاف، وأسأل الله أن يرزقنا العدل، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، أسأل الله أن يجعلنا من المتقين.
قال كثير من علماء الشيعة: إنهم لم يريدوا بالبداء ما لا يجوز نسبته إلى الله سبحانه، يقول محمد حسين الكاشف الغطاء: البداء وإن كان في جوهر معناه هو ظهور الشيء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشيء لله جل شأنه، وأي ذي عقل يقول بهذه المضلة، بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا: بدا لله، أي: حكم الله أو شأن الله.
هذا في كتاب اسمه: (الدين والإسلام) صفحة (173) وهو منسوب إلى عالم من علمائهم ألا وهو محمد حسين الكاشف الغطاء، وهذا التفسير مقبول جداً؛ أن يقول بأن البداء ليس معناه أنه قد ظهر شيء لله عز وجل كان خافياً عليه، وإنما البداء معناه: أن الله عز وجل يظهر شيء كان خفياً عن بعض خلقه، وهذا تفسير لا حرج فيه.
ولكن من حقنا أن نسأل أيضاً: لماذا صار البداء -إن كان كذلك- من أصول معتقد الشيعة؟ وهذا سؤال له وجاهته، فإذا كان البداء بهذه الصورة العادية، وهو أن الله قد أظهر شيئاً لخلقه كان خافياً عنهم، فلمَ جعلوه أصلاً من أصول معتقد الشيعة؟ ولمَ جعلوه في كتاب التوحيد؟ ولعل هذا التفسير للبداء الذي قاله كاشف الغطاء يندرج تحت معتقد آخر من معتقداتهم الرئيسية ألا وهو معتقد التقية، وقد نقلت قبل نصاً من نصوص عالم من علمائهم يبين أن مثل هذا الكلام إنما يقال من باب التقية.(145/8)
اعتقاد الشيعة والرافضة في الغيبة
الغيبة معتقد سادس من معتقدات الروافض، والغيبة من العقائد الأساسية عندهم.
وهي بمعنى: أن الأرض لا تخلو أبداً من إمام، يعني: أنهم يعتقدون أن الأرض لا تخلو أبداً من إمام، فلما مات الحسن العسكري دون أن يكون له ولد، وقع الروافض في حيصَ بيصَ، وقالوا: فمن الذي يخلف الإمام، وأين الإمام؟ وافترق الروافض بعد موت الحسن العسكري قيل: إلى أربعين فرقة، ومنهم من قال: إلى ستة عشر فرقة، واختلفت أقوالهم في قضية الإمام، وأين الإمام؟ لأن الحسن العسكري مات وليس له ولد، فاختلفوا في ذلك اختلافاً عجيباً رهيباً جداً! فاخترعوا قضية الغيبة، أي: غيبة الإمام، وذلك أنه خرج عليهم رجل ألمعي، وقال: إن الحسن العسكري له ولد بسن خمس سنين، وهو الإمام الغائب، ولكنه لا يظهر لأي أحد من الناس إلا لي!! فخرج المعتقد الجديد من معتقد الشيعة والروافض الذي يسمى: الغيبة.
والحسن العسكري هو الإمام الحادي عشر من أئمتهم، وهو متوفى سنة (260هـ)، وقد اعترفت كتب الشيعة بأنه ليس له أولاد، وليس له عقب، فخرجوا بقضية الغيبة غيبة الإمام، وكانت هي القاعدة التي قام عليها كيان الشيعة بعد أن كان قد تصدع، وكاد بنيان الشيعة أن ينهار بعد موت الحسن العسكري، فخرج هذا المعتقد الذي عليه قام بنيان وأساس الشيعة مرة أخرى، ألا وهو معتقد غيبة الإمام.
وبذلك أيها الأحبة الكرام! أكون قد بينت مجمل معتقد الشيعة الذي خالفوا به معتقد أهل السنة والجماعة، فمن وقف على هذا المعتقد -الذي فصلت والذي بينت والذي وضحت- فعليه أن يراجع نفسه، ولا يظنن ظان أن الخلاف بين الروافض والشيعة وبين أهل السنة إنما هو خلاف مذهبي، فإنني قد وقفت على بعض الفتاوى الخطيرة لبعض الشيوخ الكبار الذين يقولون بجواز التعبد لله تبارك وتعالى بما عليه الروافض والشيعة، وهذا الكلام ونصوص الفتاوى موجودة عندي، وأنا لا أحب أبداً أن أذكر مثل هذه القضايا والمسائل إلا بالأدلة؛ حتى لا نتهم أننا ممن يحب فقط أن يفرقع بالونات هوائية في السماء، لا والله! بل إننا ندور مع الحق حيث دار، ونقف مع الدليل حيث كان، وورب الكعبة! لا نريد إلا أن نصل إلى الحق، ولا نريد إلا أن نبين الحق، وإن الذي دفعني للوقوف في أربع محاضرات على التوالي للحديث عن الشيعة: هو أنني سمعت عن نبتة سوء بدأت تنبت هنا في المنصورة، وتعتقد هذه النبتة معتقد الشيعة، فأحببت أن أبين لهم بجلاء ما هي عقيدة الرافضة أو الشيعة، وتمنيت أن لو عرف أي واحد منكم إنساناً فيه نزعة لمثل هذا المعتقد الفاسد الضال أن يقدم له الأشرطة الأربعة هدية منه، لعل الله عز وجل أن يرد قلبه إلى الحق، وإلى سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فوالله! والله! والله! لا نريد إلا الإصلاح ما استطعنا، ونسأل الله عز وجل أن يرد الضال إلى الحق والهدى، وأن يأخذ بقلوب وأيدي الروافض إلى سنة النبي، وإلى القرآن وإلى الحق الذي عليه أهل السنة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(145/9)
حكم الدعاء للكفار والمشركين والضلال
فمن هدي المصطفى أنه يجوز لنا أن ندعو الله أن يهدي الكفار والمشركين في أي مكان على وجه الأرض، فإنه لما جاءه الطفيل بن عمرو الدوسي وقال له: يا رسول الله! ادع الله على قبيلة دوس، ادع الله فلقد هلكت دوس رفضوا الإيمان بالله ورسوله، قال النبي للطفيل: ارفع يدك، فرفع الطفيل يده، ورفع النبي يديه -ووالله لو دعا النبي على دوس دعوة لهلكت دوس، ولكنه الرحمة المهداة، رفع يديه إلى السماء- وقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم).
فاستجاب الله دعوة نبيه، وشرح الله صدر قبيلة دوس، وجاءت القبيلة كلها عن بكرة أبيها خلف الطفيل بن عمرو الدوسي؛ ليقفوا أمام الحبيب النبي، وليشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقول: ستأتي قبيلة دوس يوم القيامة كلها في ميزان الطفيل بن عمرو، بما فيهم راوية الإسلام العظيم أبو هريرة الدوسي، كما ستأتي الأمة كلها يوم القيامة في ميزان الحبيب النبي.
فندعوا الله عز وجل لكل شاب منحرف عن منهج الله أن يأتي الله بقلبه إلى الحق، وأن يرده إلى الحق رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأقول قولي هذا، وأستغفروا الله لي ولكم، وبذلك أكون قد أنهيت الحديث عن فتنة الروافض والشيعة؛ لأواصل الحديث -إن شاء الله تعالى، وإن قدر الله لنا البقاء واللقاء- عن فتنة أخرى من الفتن التي وقعت، ألا وهي فتنة خلق القرآن.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(145/10)
الشيعة والقرآن [1]
الحديث عن الشيعة حديث ذو شجون وأحزان، فكم من نكبة لهذه الأمة وللشيعة دور كبير فيها، ابتداءً من فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، ومروراً بموقعة الجمل فصفين فمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومقتل غيره من أئمة أهل البيت: كزيد بن علي، والنفس الزكية، وأخيه إبراهيم، وغيرها من الفتن الداخلية.
أما بالنسبة للفتن الخارجية فابتداء باجتياح التتار لبغداد، ومروراً بدخول الأمريكان أفغانستان ثم العراق.(146/1)
معنى التشيع في اللغة والاصطلاح
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ونحن الليلة بإذن الله جل وعلا على موعد مع الدرس السادس عشر من دروس: سلسلة الإيمان باليوم الآخر كركن خامس من أركان الإيمان بالله جل وعلا، ضمن دروس العقيدة لمعهد إعداد الدعاة، ولا زال حديثنا ممتداً عن الفتن التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهورها قبل قيام الساعة، وأنهيت الحديث بفضل الله جل وعلا وتوفيقه في المحاضرة الماضية عن الفتنة الكبرى التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وذكرت بأنه قد خرج من فريق علي رضي الله عنه فريق آخر وفتنة أخرى، وهي فتنة خطيرة لا تقل خطراً عن فتنة الخوارج، بل إنها الآن أشد خطراً من فتنة الخوارج، ألا وهي فتنة ظهور الشيعة، وأرجو أن تركزوا معي جيداً في هذه المحاضرات التي أسأل الله جل وعلا أن ينفع بها، والتي أستهلها من الليلة بإذن الله تعالى في الحديث عن الفرقة الأخرى التي خرجت بعد فتنة الخوارج أو بعد قضية التحكيم.
وسأقف مع حضراتكم مع هذه الفرقة الضالة منذ نشأة بدايتها.
الشيعة في اللغة: بمعنى: الأتباع والأنصار، جاء في القاموس: شيعة الرجل بكسر الشين أي: أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، وكل من عاون إنساناً وتحزب له فهو له شيعة، أي: فهو له عون ونصير، هذا هو المعنى اللغوي للفظة (شيعة).
قال الأزهري: معنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً، وليس كلهم متفقين، وهذا معنى إضافي جديد، ليس بالضرورة أن يكون كل هؤلاء متفقين، فالتشيع بمعناه اللغوي: المناصرة والمعاونة والمتابعة، أو الاجتماع على أمر، أو التحزب لشخص ما.
لكن من هم الشيعة في الاصطلاح؟ سأنقل ذلك عن شيخ الشيعة وعالمها في زمنه، وأرجو أن تركزوا معي فمثل هذه المسميات والأسماء سأحتاج إليها بعد ذلك بإذن الله تعالى، - المفيد عالم من علماء الشيعة الأكابر عندهم، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بـ المفيد من كبار مشايخ الشيعة، يقول المفيد: لفظ الشيعة يطلق على أتباع أمير المؤمنين علي على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
أي: وليس بعد أبي بكر وعمر وعثمان، ركزوا في كل لفظة.
يقول: بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بلا فصل، ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة.
أي: عن أبي بكر وعمر وعثمان.
ويوضح المفيد أيضاً هذا التعريف بشيء من التفصيل في كتابه الموسوم بالإرشاد (ص:12)، ولن أنقل كلاماً عن الشيعة إلا من كتبهم المعتمدة؛ حتى لا نتهم بأننا نشوش على هؤلاء، أو ننسب إليهم كلاماً من عند أنفسنا، أو من عند علماء أهل السنة والجماعة، لا، بل سأنقل لكم معتقد القوم الفاسد الباطل من كتبهم المشهورة المعتمدة، وسوف أذكر إن شاء الله تعالى كل كتاب مع رقم الصفحة للضرورة، وليس من باب الاستعراض، لا والله، وإنما من باب دمغ القوم بالحجة؛ حتى لا نتهم بأننا نلقي التهم جزافاً، ونستشهد بمثل هذه الأقوال من كلام علمائنا من أئمة أهل السنة والجماعة.
يقول المفيد في كتابه الموسوم بالإرشاد (ص:12): (وكانت إمامة أمير المؤمنين علي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين سنة.
يعني: إمامة علي بعد موت النبي مباشرة، يقول: منها أربع وعشرون سنة وستة أشهر كان ممنوعاً من التصرف في أحكامها، مستعملاً للتقيّة والمداراة -وهذا أصل من أصول الشيعة سأشرحه بالتفصيل إن شاء الله تعالى- ومنها: خمس سنين وستة أشهر ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين).
واضح من النص أن الشيعة يثبتون إمامة علي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيقصد بالأربع وعشرين سنة وستة أشهر التي ظل فيها علي رضوان الله عليه ممتنعاً من التصرف في أحكام الإمامة: المدة التي تولى الإمامة والخلافة فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم ذكر فترة خلافة علي وقال: (ومنها: خمس سنين وستة أشهر كان علي رضوان الله عليه في هذه المدة ممتحناً بجهاد المنافقين من الناكثين والقاسطين والمارقين).
والمراد بالناكثين: هم الذين بايعوا علياً ونكثوا بيعته في البصرة.
ويقصد بالقاسطين: فريق معاوية رضوان الله عليه؛ لأن الفريق القاسط أي: الباغي أو الظالم.
ويقصد بالمارقين: هم الخوارج الذين خرجوا على علي في النهروان.
ثم قال: (ومضطهداً بفتن الضالين كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة من نبوته ممنوعاً من أحكامها -أي: من أحكام النبوة- خائفاً ومحبوساً وهارباً ومطروداً، لا يتمكن من جهاد الكافرين، ولا يستطيع دفعاً عن المؤمنين.
ثم هاجر -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- وأقام بعد الهجرة عشر سنين مجاهداً للمشركين ممتحناً بالمنافقين، إلى أن قبضه الله عز وجل، وأسكنه جنات النعيم.
هذا كلام شيخ كبير من مشايخ الشيعة ألا وهو المفيد كما ذكرت آنفاً.
ويقدم الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى في كتابه الماتع: الملل والنحل تعريفاً يعد من أشمل التعريفات للشيعة، فيقول: (الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على وجه الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية).
نصاً أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على خلافته وإمامته من بعده، ووصية أي: أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قبل موته، تدبروا في كل لفظة.
يقول الإمام الشهرستاني: (الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على وجه الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً وإما خفية، فمنهم من يظهر هذا، ومنهم من يخفي هذا، اعتقاداً منهم لأصل من أصولهم ألا وهو التقية -بفتح التاء وتشديد القاف، ولا حرج أن تضم على وجه من أوجه اللغة- واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاد علي، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة -أي: لا ينبغي أن تترك هذه القضية الكبيرة لعوام المسلمين ليختاروا فيها من يشاءون أو من يرغبون -وينتصب الإمام بنصبهم -أي: بنصب العامة له- بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين الذي لا يجوز للرسل عليهم الصلاة والسلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله، ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حال التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك).
هذا تعريف الإمام الشهرستاني للشيعة اصطلاحاً.
وسنرى أيضاً أن الشيعة الإثني عشرية يقولون بعقائد أخرى: كالغيبة، والرجعة، والبداء، وكل هذه الألفاظ سأفصلها بإذن الله تعالى، لكننا نرى إماماً من أئمة أهل السنة كـ أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى يعرف الشيعة تعريفاً مقتضباً فيقول: (الشيعة إنما قيل لهم: الشيعة؛ لأنهم شايعوا علياً رضي الله عنه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
أي: ناصروا علياً رضي الله عنه وقدموه على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الفرقة التي يتكلم عنها الإمام الأشعري لها مسمى آخر، تسمى هذه الفرقة من فرق الشيعة باسم: المفضلة، وهم الذين فضلوا علياً على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التعريف يصح وينطبق تماماً على أول فرق التشيع ممن ناصروا علياً رضي الله عنه، لكن سنرى الآن بإذن الله تعالى أن هذا التعريف قد تطور بأطوار ومراحل مختلفة سنقف عليها الليلة إن شاء الله تعالى.
وهذا تعريف آخر للمفضلة: هم الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر، وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم جميعاً.
والشيعة الإثنا عشرية لا يعتبرون مجرد تقديم علي رضوان الله عليه على سائر أصحاب النبي كافياً في التشيع، يعني: لو أن رجلاً قدم علياً على سائر الأصحاب فلا يكفي هذا عندهم في التشيع، وإنما لابد من الاعتقاد بأن خلافة علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة بالنص والاعتقاد، وأن خلافته قد بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى استشهاده رضي الله عنه.(146/2)
مراحل وأطوار نشأة الشيعة
التحقيق -يا إخوة- من خلال قراءاتي في كثير من مراجع الشيعة ومراجع السنة طيلة الأيام الماضية: أن التعريف الدقيق للشيعة مرتبط أساساً بأطوار نشأتهم، ولنقف على تعريف دقيق للشيعة فإنه لا بد وأن نقف مع أطوار نشأتهم، فإن الشيعة قد مروا بكثير من المراحل العقدية والمذهبية، ولهذا كانوا في الصدر الأول في عهد علي وعثمان قبله رضوان الله عليهما لا يسمى المرء شيعياً إلا إذا قدم علياً على عثمان، هذا طور من الأطوار المهمة جداً، لنتعرف بعد ذلك على حجم الانحراف الذي وقع فيه الشيعة، كان لا يسمى الرجل شيعياً أول الأمر إلا إذا قدم علياً على عثمان، بل كان يقال لمن يقدم عثمان رضي الله عنه على علي رضي الله عنه في ذلك الوقت: عثماني، ويقال لمن يقدم علياً على عثمان: شيعي، هذا طور مهم من أطوار التطور الشيعي، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه في منهاج السنة: (إن الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي رضي الله عنه كانوا يفضلون أبا بكر وعمر على علي) وهذا التفصيل لابد منه- ولما سأل سائل شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي أبو عبد الله المدني -وهو من الشيعة- لما سأله سائل فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أم علي؟ فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، ومن لم يقل هذا فليس شيعياً.
هذا على التأصيل الأول الذي ذكرت أن الشيعي كان يعرف بمن يقدم علياً على عثمان فقط، فـ شريك يقول: نعم أقول بتفضيل أبي بكر على علي، ومن لم يقل هذا فليس شيعياً، ثم أقسم شريك - فقال: والله لقد رقى علي هذه الأعواد -يعني: أعواد منبر الكوفة- وقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر - هذا قول علي رضي الله عنه- وتوجد آثار كثيرة صحيحة عن علي رضوان الله عليه يثبت فيها تفضيل أبي بكر وعمر عليه، قال شريك بن عبد الله: فكيف نرد قوله؟! -أي: كيف نرد قول علي؟! - وكيف نكذبه؟! والله ما كان علي كذاباً.
ويقول أبو إسحاق السبيعي رحمه الله -وهو شيخ الكوفة وعالمها، ولفظة: شيخ الكوفة لها مغزى ولها مدلول-: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما على علي، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون، ووالله لا أدري ما يقولون.
يقصد أنهم بدءوا يفضلون علياً على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً.
وقال ليث بن أبي سليم: أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحداً.
ثم أخذ التشيع أبعاداً أخرى خطيرة، كرفض خلافة الشيخين أبي بكر وعمر، وشتم وسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والطعن فيهم، وادعاء العصمة لآل بيت النبي، والإيمان بالرجعة، والوصية، والبداء، والغيبة، وغيرها من المعتقدات الباطلة التي لا يقرها الإسلام، ومن هنا أطلق على الشيعة أصحاب هذا المنهج اسم: الروافض أو الرافضة، انتبهوا لهذا حتى تعرفوا حقيقة الرافضة ومن أين أتت؟ وكيف؟ وهم ينقسمون إلى فرق كثيرة جداً، حتى قال المسعودي رحمه الله تعالى في كتابه (مروج الذهب): (إن طوائف الشيعة بلغت ثلاثاً وسبعين فرقة) بل ومن أهل العلم من قال كـ المقريزي مثلاً: (إن طوائف الشيعة بلغت ما يقرب من ثلاثمائة فرقة).
إذاً: الشيعةفرق كثيرة جداً، وأنا لن أتعرض للحديث عن فرق الشيعة، أو عن فروع الفرق، وإنما سأتكلم إن شاء الله تعالى عن أصول الفرق، بل عن أشهر هذه الفرق الموجودة في الأرض اليوم، فمجمل هذه الفرق كما قال أهل العلم كـ الشهرستاني وغيره: الإسماعيلية، والزيدية، والجعفرية، والجعفرية هي: الإثنا عشرية أو الإمامية، كل هذه مصطلحات ومسميات لطائفة الشيعة الإثني عشرية، فأرجو أن تنتبهوا معي وتركزوا معي أيها الأحبة الفضلاء!(146/3)
حقيقة الإسماعيلية وفرقها ومعتقداتها
بإيجاز شديد جداً سأتكلم عن الإسماعيلية والزيدية، ولن أطيل لأتحدث بعد ذلك إن شاء الله تعالى عن الفرقة المشهورة الكبيرة التي ملأت الأرض اليوم، ألا وهي فرقة الإثني عشرية.
الإسماعيلية فرقة كبيرة من فرق الشيعة، وهي التي قالت بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، وبإمامة محمد بن إسماعيل من بعده، سميت بالإسماعيلية؛ لأنها تقول بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق، ثم بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فسميت بالإسماعيلية نسبة إليه.
أوجز معتقدها بإيجاز شديد جداً الإمام الغزالي صاحب الإحياء، وقد ألف كتاباً رهيباً في فضح معتقد الشيعة الإسماعيلية، وسماه ((فضائح الباطنية))، وهو كتاب قوي جداً في هذا الباب، يقول: (مجمل معتقد الإسماعيلية أن ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم).
ثم فصل القول في معتقدهم، ولا أريد أن أقف مع هذه الفرقة لأنني أريد أن أقف مع أخطر فرقة نراها على ظهر الأرض اليوم.
وقال الإمام ابن الجوزي في كتابه الماتع (تلبيس إبليس): (فمحصول قولهم تعطيل الصانع، وإبطال النبوة والعبادات، وإنكار البعث، ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم، بل يزعمون أن الله حق، وأن محمداً رسول الله، لكنهم يقولون: لذلك سر غير ظاهر، وقد تلاعب بهم إبليس فبالغ، وحسن لهم مذاهب مختلفة).
وقال الإمام الرازي في كتابه: (اعتقادات فرق المسلمين والمشركين): (اعلم أن الفساد اللازم من هؤلاء -يعني: من الإسماعيلية الباطنية- على الدين الحنيفي أكثر من الفساد اللازم عليه من جميع الكفار، وهم عدة فرق، ومقصودهم على الإطلاق إبطال الشريعة، ونفي الصانع، ولا يؤمنون بشيء من الملل، ولا يعترفون بالقيامة، إلا أنهم لا يتظاهرون بهذه الأشياء).
ومن الإسماعيلية انبثقت فرق كثيرة، فلا نغتر بالمسميات فإنه لا مشاحة في الاصطلاح، انبثقت من الإسماعيلية: القرامطة، والحشاشون، والفاطميون الذين خربوا معتقد أهل مصر، بحجة أنهم كانوا يرفعون راية حب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، والعجيب أنه قد خرج علينا من أهل العلم في عصرنا ممن يشار إليهم بالبنان من يدافع عن الباطنيين وعن معتقداتهم الفاسدة الباطلة! فكل ما نجنيه الآن من ثمار البدع المرة، ما أدخلها إلى مصر بعد الفتح الإسلامي إلا الفاطميون، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن الإسماعيلية انبثقت القرامطة، والحشاشون، والحشاشون فرقة، وليس المراد بالحشاشين ما يتبادر إلى الذهن من أول الكلمة.
انبثق القرامطة والحشاشون والفاطميون والدروز وغيرهم، وللإسماعيلية فرق متعددة، ووجوه مختلفة وألقاب كبيرة، يقول الشهرستاني: (وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً).
ومسألة التأويل الباطني جعلوها رسالة جديدة حملها الأئمة بعد قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ الظاهر، يقولون: هذه الرسالة هي رسالة لتوضيح باطن النصوص؛ النصوص لها ظاهر ولها باطن، وأرجو أن تركزوا معي في كل كلمة، فإن لكل كلمة معنى ومغزى، فالمراد بالباطن أنه لا يكون إلا للأئمة، أما الظاهر فهذه وظيفة الرسول، الرسول ما عليه إلا أن يأتي بالنص، أما الغوص على درر النص والوقوف على كوامنه من الفتوحات والإشراقات والإلهامات فلا يكون إلا للأئمة، وسلك هذا الدرب الصوفية، فلا يمكن ألبتة أن تظهر فرقة شيعية إلا وهي ملتحفة بعباءة الصوفية، كادعاء حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأرجو أن تنتبهوا.
الباطنية جعلوا مسألة التأويل الباطني رسالة عظيمة جديدة حملها الأئمة، ولم يقدر على حملها الأنبياء والرسل، فهذه مجموعة أربع رسائل إسماعيلية: الرسالة الأولى: مسائل مجموعة من الحقائق والأسرار (ص:30) يقول المؤلف فيها: (لما كان الدين ظاهراً وباطناً قام النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الظاهر، وصرف إلى وصيه -أي: إلى الإمام الذي أوصى النبي بإمامته من بعده- نصف الدين الآخر وهو الباطن.
وعلم التأويل هو معجزة الأئمة كما أن علم التنزيل هو معجزة الرسول) أي: القرآن، وهم يحاولون بهذه الوسيلة هدم كل النصوص التي قام عليها كيان الإسلام.
وذكر الكوثري في كتاب (مقدمة في كشف أسرار الباطنية) عدداً من ألقابهم، فذكر أنهم يسمون في مصر بالعبيدية، نسبة إلى عبيد المعروف، وبالشام بالنصيرية والدروز، وفي فلسطين بالبهائية، وفي الهند بالبهرة والإسماعيلية، وفي اليمن باليامية نسبة إلى قبيلة مشهورة في اليمن بهذا الاسم، وفي بلد الأكراد يسمون بالعلوية، حيث يقولون: علي هو الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا، ويعرفون ويسمون في بلاد الترك بالبكتاشية والقزلباشية، على اختلاف منازعهم، وفي بلاد العجم يعرفون بالبابية، ولهم فروع إلى يومنا هذا، تلبس لكل قرن لبوسه، وتظهر لكل قوم بمظهر تقضي به البيئة، وقدماؤهم كانوا يسمون أنفسهم بالإسماعيلية باعتبار تميزهم عن فرق الشيعة الأخرى بهذا الإسلام أي: لانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، هذا إيجاز شديد جداً عن فرقة الإسماعيلية كفرقة كبيرة من فرق الشيعة.(146/4)
حقيقة الزيدية ومعتقداتها ومدى تأثرها بالفكر الرافضي
الزيدية: هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد افترق الزيدية عن الإمامية الرافضة (الجعفرية)، حينما سئل زيد بن علي بن الحسين بن علي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فترضى عنهما، وأثنى عليهما خيراً، فلما سمعوا زيداً يقول ذلك رفضوه لرفضه أن يسب أبا بكر وعمر، فسميت هذه الفرقة بفرقة الرافضة أو الروافض، فهم الذين انشقوا عن فرقة الزيدية؛ لأن زيداً أبى أن يسب أبا بكر وعمر، وسمي من لم يرفض زيداً من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه، وذلك في آخر خلافة هشام بن عبد الملك سنة (122هـ) على الراجح من أقوال أهل السيرة والتاريخ.
والزيدية كما يقول الشهرستاني: ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها، ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة، سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما، وجوزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل.
ومذهب الزيدية المعتدلة أو الزيدية الحقيقية في الصحابة هو الترضي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما ينقل ذلك ابن الوزير عن الإمام الكبير المنصور بالله -وهو من أئمة الزيدية الكبار باليمن- أنه قال في الرسالة الإمامية في الجواب عن المسائل التهامية: (أما ما ذكره المتكلم عنا من تضعيف آراء الصحابة، فعذرنا أنهم أشرف قدراً، وأعلى أمراً، وأرفع ذكراً، من أن تكون ضعيفة، أو موازينهم في الشرف والدين خفيفة، فلو كان كذلك لما اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب والقرباء إلى أمر لم يسبق لهم به أنس، ولم يسمع له ذكر، شاق على القلوب، ثقيل على النفوس، فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، فرضي الله عنهم، وجزاهم عن الإسلام خيراً- إلى أن قال الإمام الكبير المنصور بالله -: فهذا مذهبنا لم نكتمه تقية، كيف وموجبها زائل، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن؟! ونحن إلى الله سبحانه من فعله براء، وهذا ما يقضي به علم آبائنا منا إلى علي عليه السلام -إلى أن قال-: وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء بسب الصحابة رضي الله عنهم، والبراءة منهم، فهذا قد تبرأ من محمد من حيث لا يعلم).
هذا كلام إمام من أئمة الزيدية المعتدلين كالإمام المنصور بالله، ولكن للأمانة يوجد في الزيدية من هو رافضي قح يقدم علياً على أبي بكر وعمر، بل ويسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ومذهبه في الصحابة كمذهب الرافضة تماماً، كالطائفة المشهورة المعروفة بالجارودية، هذه الطائفة من طوائف الزيدية يعتقدون مذهب ومعتقد الإمامية أو الجعفرية أو الإثني عشرية في سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الشهرستاني في كتابه الماتع: (الملل والنحل): (إن أكثر الزيدية طعنت في الصحابة طعن الإمامية)، ويقول إمام كبير من أئمة الزيدية هو صالح بن مهدي بن علي المقبلي الصنعاني: (إن الزيدية ليس لهم قاعدة محددة، فإنهم أحياناً يطعنون في بعض خيار الصحابة كـ أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وأم المؤمنين حبيبة رضي الله عنهم؛ لأن هؤلاء رووا ما يخالف هواهم، وإذا جاءهم الحديث على ما يوافق هواهم قبلوه من طريق ذلك الصحابي، وإن كان أقل فضلاً ورتبة ممن طعنوا فيه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال المقبلي أيضاً: (إنه قد سرى داء الإمامية في الزيدية في هذه الأعصار، وهو تكفير الصحابة ومن يتولاهم صانهم الله تعالى)، ولعل ظاهرة اعتناق الزيدية لمذهب الرفض هي التي جعلت بعضهم يقول: جئني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضياً كبيراً.
ومن عقائد الزيدية قولهم بعصمة فاطمة وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم ونحن نعلم أن العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ويقول يحيى بن حمزة بن علي الهاشمي اليمني، وهو من أكابر أئمة الزيدية: (إن معظم فرق الزيدية يقولون بالنص على إمامة الثلاثة -يعني: أن النبي قد نص قبل موته على إمامة علي ثم الحسن ثم الحسين رضي الله عنهم- ويعتقدون ثبوت إمامة من عداهم من أولاده -أي: من أولاد الحسن والحسين - بالدعوة).
أي: بدعوة الناس إلى إمامتهم أو بيعتهم، يعني: هم يقولون بالإمامة في نسل علي ونسل الحسن ونسل الحسين رضي الله عنهم جميعاً، ومسألة العصمة لهؤلاء هي كالطعن في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومسألة النص هي أيضاً كالطعن في أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم جميعاً، كما أن القائلين بالنص والعصمة يخالفون من ينتسبون إليه وهو الإمام زيد، الذي لم يقل بالنص ولم يقل بالعصمة، فالزيدية الذين يعتقدون نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة علي من بعده ثم الحسن ثم الحسين يخالفون إمامهم، إذ إن زيداً رحمه الله لم يقل بهذا، ولم يقل كذلك بالعصمة.(146/5)
حقيقة الرافضة الإثني عشرية الإمامية الجعفرية ومعتقداتها
الآن نتحدث بالتفصيل عن فرقة الرافضة، وهم الذين يسمون بالجعفرية، أو يسمون بالإمامية الإثني عشرية، أو يسمون بالروافض، ويرى بعض الباحثين أن مصطلح الشيعة إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى فرقة الجعفرية أو الرافضة أو الروافض أو الإثني عشرية، هذه كلها مصطلحات لفرقة واحدة.
ويسمون بالإمامية؛ لأنهم قالوا بوجوب الإمامة في كل زمان، فالإمامي يطلق عندهم على من دان بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، وأوجب النص الجلي والعصمة والكمال لكل إمام، ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي، وساقها إلى الرضا علي بن موسى.
ويسمون بالإثني عشرية؛ لأنهم يقولون بأن الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم اثنا عشر إماماً، وهم: علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين -وهو المشهور بـ زين العابدين - ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وموسى الكاظم، وعلي الرضا، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري، والمهدي المنتظر، هؤلاء هم الأئمة الاثنا عشر عند هذه الفرقة التي تسمى بفرقة الإثني عشرية، أو الإمامية، أو الروافض، ويسمون أيضاً بالجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق وهو الإمام السادس من الأئمة الذين ذكرت.
أما سبب تسميتهم بالروافض فقد ذكرت قبل ذلك: أنهم سموا بالروافض حينما رفض زيد أن يسب أبا بكر وعمر؛ فرفضوا مذهبه ومذهب من تابعه وانشقوا عنه، وسموا حينئذٍ بالروافض.
علق شيخ الإسلام ابن تيمية على تعريف الإمام أبي الحسن الأشعري حينما قال في (مقالات الإسلاميين): (إنما سمي الروافض بالروافض؛ لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر) فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثاني: (الصحيح أنهم سموا رافضة؛ لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك).
وذكرت أنهم ما رفضوه إلا لترضيه على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وهذه الطائفة -طائفة الإمامية أو الجعفرية أو الإثنا عشرية- هي الطائفة الكبرى في عالمنا اليوم، وأكثر أتباعها في إيران، والعراق، والقطيف، ولبنان، والكويت، وباكستان، والهند، فهم بالملايين، وليس في مصر ولا في بلاد شمال إفريقيا من هذه الطائفة شيء، إلا نبتات سوء وأفراد، لكنني أقول بيقين: إن أرض مصر أرض تلفظ بذرة التشيع، إلا إذا استطاع أهل هذا المذهب الفاسد أن يتدثروا بعباءة التصوف، ثم يدخلوا على الناس بزعم أنهم يحبون آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.(146/6)
بطلان دعوى عدم الاختلاف العقدي بين أهل السنة والرافضة
ادعى علماء الشيعة أنه لا يفصلهم عن أهل السنة كبير شيء، وإنما خلافهم مع أهل السنة في مسائل الفروع، هم يزعمون ذلك، ويدندنون به، بل ولعل منكم من تابع دعوة التقريب المزعومة بين الشيعة وأهل السنة، ورفع لواء هذه الدعوة من يشار إليهم بالبنان، فهم يزعمون أنه لا توجد على الإطلاق أية فروق جوهرية في الأصول بين معتقد الشيعة وبين معتقد أهل السنة اللهم إلا في الفروع، هكذا يزعمون.
يقول محمد حسين آل كاشف الغطاء -وهو من أكابر مراجع الشيعة المعاصرين-: (الشيعة ما هم إلا طائفة من طوائف المسلمين، ومذهب من مذاهب الإسلام، يتفقون مع سائر المسلمين في الأصول، وإن اختلفوا معهم في بعض الفروع) وردد هذا الكلام الخبيث الخطير بعض أهل السنة نقلاً جزافاً عن أكابر أئمة الشيعة، فهل هذه الدعوة حقيقية؟ تعالوا معي لنجيب إجابة مفصلة قد تحتاج إلى خمس محاضرات، وأرجو أن تسامحوني على هذا الإطالة، فالأمر والله جد خطير، ويحتاج إلى وقفة، وأنا أعلم أنه لا يتكلم في مثل هذه الموضوعات إلا في القليل النادر، فالإجابة على قولهم: إن الشيعة ما هم إلا طائفة من طوائف المسلمين، ومذهب من مذاهب الإسلام، يحتاج في تفنيده إلى كتب الشيعة، وإلى كلام أكابر مراجعهم وعلمائهم، فإن مصادر القوم هي المعتمدة عند من يعتنقون مذهب الشيعة، فإنك لو ذهبت الآن لترد عليه بأقوال أهل السنة لألقى بقولك عرض الحائط، لكنك ستلقمه حجراً إذا انطلقت لترد عليه بأقوال أئمة الشيعة، وأكابر مراجعهم في الماضي بل وفي العصر الحاضر، فتدبر معي أيها الأخ الكريم! لنقف مع أول أمر، بل مع أخطر أمر ألا وهو اعتقادهم في مصادر التلقي، أو في أصول الأحكام المتفق عليها بين المسلمين، ما هي مصادر التلقي عند الشيعة؟ من أين استقى الشيعة أصول مذهبهم؟ وما هي نظرة الشيعة لهذه الأصول؟! وما هو معتقدهم فيها؟(146/7)
اعتقاد الرافضة في القرآن الكريم
القرآن الكريم هو أول مصدر من مصادر التلقي عند المسلمين، لكن انظر إلى معتقد الشيعة في هذا المصدر.
يعتقد الشيعة الإثنا عشرية أن القرآن الكريم محرف، وسأنقل لكم الأدلة على ذلك من أقوالهم، ومن كتبهم، ويعتقدون أن هناك كتباً نزلت من السماء بعد القرآن، فهم يقولون بتحريف القرآن الكريم وبتزويره وبنقصه، وبخلل فيه.
معلوم أن الأمة قد أجمعت على حفظ كتاب الله جل وعلا؛ مصداقاً لقول الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، والقرآن الكريم تحدى الله عز وجل به البشرية جمعاء، إذ لم يتغير فيه حرف، ولم تنقص منه كلمة، ولم تحذف منه آية.
تقوم فرية الشيعة على القول بأن هذا القرآن الكريم الموجود بأيدي المسلمين الآن ناقص ومحرف، وأن القرآن الكامل عند علي بن أبي طالب، ثم أورثه الأئمة من بعده، وهو اليوم عند المهدي المنتظر، هذا كلام الشيعة! أقول: إن هذه المقالة الملحدة طعن في كتاب الله وفي دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أيضاً طعن في علي نفسه رضوان الله عليه، إذ كيف يعلم علي أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين محرف ومزور وناقص، وأن القرآن الكامل عنده وحده، ثم لا يرد هذه الفرية، ولا يبين للمسلمين هذا الباطل، لا سيما بعدما أصبح خليفة.
إذاً: هذا طعن في علي رضي الله عنه، ولما جوبه الروافض بذلك لم يجدوا ما يجيبون به سوى أنهم قالوا على لسان عالمهم الكبير نعمة الله بن محمد بن حسين الحسيني الجزائري الشيعي الإمامي، وهو الذي قال عنه الخوانساري: كان من أعظم علمائنا المتأخرين، وأفاخم فضلائنا المتبحرين، وقال فيه محدثهم القمي: كان نعمة الله الجزائري عالماً محققاً مدققاً جليل القدر.
اسمع ماذا يقول هذا العالم الكبير المحقق المدقق لما قيل له: كيف لم يبين علي القرآن الصحيح الذي ادخره عنده، وورثه للأئمة، وهو يعلم أن القرآن الذي بأيدي المسلمين مزور ومحرف؟ قال: (ولما جلس أمير المؤمنين عليه السلام لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن -يقصد القرآن الصحيح المتكامل الذي لم يحرف ولم يزور- ولم يستطع أن يخفي هذا القرآن الأول -أي: الذي في أيدي المسلمين الذي زور وحرف- لما فيه من إظهار الشناعة على من سبقه، إذ لو فعل ذلك لبين أخطاء من سبقوه).
انظر إلى هذا الضلال المبين، هكذا يعتذرون، وأي قدح أبلغ من هذا، إنهم يتهمون علياً رضي الله عنه بأنه جامل من سبق من الصحابة على حساب كتاب الله وعلى حساب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وربي بهتان عظيم، هذه فحوى الخرافة التي وجدت مكانها في دواوين الشيعة ومجامعهم الحديثية وكتبهم المعتمدة في عشرات من النصوص والروايات.
تدبر معي بعض الروايات لأكمل إن شاء الله تعالى في المحاضرة المقبلة.
يقول حسين النوري الطبرسي هو عند الشيعة إمام أئمة علم الحديث، وإمام أئمة علم الجرح والتعديل في الأزمان المتأخرة، ألف كتاباً أسماه -واسمع عنوان الكتاب، ويكفي اسم الكتاب- (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) وقد ألفه ليثبت من كتبهم أن القرآن محرف، ونقل فيه مجموعة كبيرة من أخبار الشيعة التي تطعن في القرآن، جمعها كما يقول من الكتب المعتبرة التي عليها المعول، وإليها المرجع عند الأصحاب، وقال: (واعلم أن تلك الأخبار منقولة عن الكتب المعتبرة التي عليها معول أصحابنا في إثبات الأحكام الشرعية والآثار النبوية).
فهذه الكتب التي ذكرت هذه الأخبار الملحدة موثقة عند علمائهم، ويتلقون عنها دينهم، وهي منسوبة لأكابر علمائهم ومراجعهم ومحدثيهم، كما سمعنا الآن.
ومن هذه الكتب صحيحهم الكافي، وهم يشبهونه بصحيح البخاري، يعني: الكافي عند الشيعة يوازي صحيح البخاري عند أهل السنة، ويعتبرون الكافي من أصح كتبهم، ويلقبون مؤلفه وهو محمد بن يعقوب الكليني بأنه ثقة الإسلام، وقد روى الكليني من هذه الأساطير والأقوال الملحدة الشيء الكثير، مع أنه التزم الصحة فيما يرويه؛ ولهذا قرر الكاتبون عنه من الشيعة أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن؛ لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافي، ولم يتعرض للقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه يثق بما رواه، وهذا كتاب لإمام كبير من أئمتهم.(146/8)
أقوال أئمة الشيعة الرافضة في تحريف القرآن
هذه بعض النصوص عن الشيعة في تحريف القرآن: يقول عالمهم المجلسي -صاحب كتاب: (بحار الأنوار) - في كتاب (مرآة العقول) المجلد الثاني (ص:536): (وعندي أن الأخبار في هذا الباب -أي: في باب تحريف القرآن- متواترة المعنى، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأساً، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة).
لأن الذي نقل إليهم القول بتحريف القرآن هم الذين نقلوا إليهم أصول مذهبهم الفاسد الباطل، كأخبار الإمامة والبداء والرجعة والغيبة إلخ هذه المعتقدات الفاسدة.
ويقول شيخهم المفيد: (إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد صلى الله عليه وسلم باختلاف القرآن، وما أحدثه بعض الظالمين فيه من حذف ونقصان)، وهذا الكلام في كتاب أوائل المقالات (ص:98) للمفيد، وهو من أكابر أئمة الشيعة.
ويقول ثقة الشيعة -هكذا يسمونه- محمد صالح المازندراني: (وإسقاط بعض القرآن وتحريفه ثبت من طرقنا بالتواتر معنى، كما يظهر لمن تأمل في كتب الأحاديث من أولها إلى آخرها)، قال ذلك المازندراني في شرح جامع الكافي المجلد الحادي عشر (ص:76).
ويقول شيخهم محسن الكاشاني وهو من أكابر شيوخ الشيعة في كتابه (تفسير الصافي) في المقدمة السادسة من تفسيره: (المستفاد من الروايات من طريق أهل البيت أن القرآن الذي بين أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد).
قفوا -يا إخواننا- على هذا المعتقد الخبيث، حتى لا يضحك عليكم الآن جاهل بهذا المذهب الفاسد الباطل، فإنني أعلم أن نبتة سوء قد بدأت تظهر في المنصورة، وتدعو لهذا المذهب الخبيث الفاسد الباطل، وهي ولله الحمد لا تزيد عن ثمانية أفراد، لكن هذا خطر، وأتمنى أن يستمع هؤلاء الإخوة إلى المحاضرات بعد تمامها، لعل الله أن يشرح صدورهم إلى الحق، أسأل الله أن يردنا وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً.
يقول شيخهم محسن الكاشاني أيضاً: (بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وإنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها: اسم علي في كثير من مواضع القرآن، ومنها: لفظة آل محمد في أكثر من موضع، ومنها: أسماء المنافقين في مواضعها، ومنها: غير ذلك، ثم قال: إن القرآن ليس أيضاً على الترتيب المرضي عند الله وعند رسوله).
وقد ذكرت لكم ترتيب المصحف، ومراحل جمع القرآن الكريم، ابتداء من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بعهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وذكرت لكم إعجاز القرآن في بلاغته، وفي حروفه، وفي نظمه، وفي اتساقه الذاتي، وفي إعجازه الفكري، وفي إعجازه البلاغي، وإعجازه العلمي، وإعجازه العقدي، ذكرت ذلك بالتفصيل في كثير من المحاضرات قد تصل إلى سبع أو ثمان محاضرات في حديثي عن الإيمان بالكتب، وتحدثت عن التوراة المحرفة والإنجيل المزور، ثم تكلمت بعد ذلك عن القرآن الكريم، وأرجو أن تراجع هذه الأشرطة مرة أخرى.
وروى الكليني في كتابه الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: (نزل جبريل بهذه الآية على محمد صلى الله عليه وسلم هكذا، ألا وهي قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في حق علي فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين).
وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: (هكذا نزل قول الله تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به في علي لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً).
انظر إلى التحريف الرهيب، هذا تحريف في النص، أما تحريفهم في التأويل -أي: في التفسير- فكثير جداً، فهم يقرءون الآية ويؤولونها تأويلاً رهيباً لا يمت إلى الحقيقة ولا إلى الدين ولا إلى الواقع، بل ولا إلى العقل السليم بأدنى صلة، وأنا لا أدري كيف اغتر بهذا القول الفاسد الملايين من الناس؟!! نسأل الله أن يثبتنا على الحق: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: (ومن يطع الله ورسوله في ولاية علي وولاية الأئمة من بعده فقد فاز فوزاً عظيماً).
انظر إلى هذا التحريف!! هذا كله في كتاب الكافي باب: نكت ونتف من التنزيل في الولاية، هكذا عنون صاحب الكافي لهذا الباب الخبيث، المجلد الأول (ص: 417).
نقول لمن افتتن بهذا المذهب فليراجع أصول هذا المذهب في كتبهم، فأنا أنقل الآن من كتبهم: روى الكليني بإسناده عن أبي الحسن وهذا في كتاب الكافي المجلد الأول (ص:421) -قال: ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولم يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد ووصية علي.
ومن ذلك أيضاً ما رواه الكليني بإسناده إلى أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: (دفع إلي أبو الحسن عليه السلام -وهو علي رضوان الله عليه- مصحفاً، وقال: لا تنظر فيه -انظر التشويق: سيدنا علي أعطاه مصحفاً وقال له: لا تفتحه، إذاً! لماذا أعطاه؟! - يقول: دفع إليه أبو الحسن مصحفاً وقال: لا تنظر فيه، يقول: ففتحته ونظرت فيه وقرأت فيه ((لم يكن الذين كفروا)) ووجدت بعدها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم -يقصد من الصحابة رضوان الله عليهم -انظر الخبث! -.
فبعث إلي -أي: علي - وقال: ابعث إلي بالمصحف).
وتمضي افتراءات الشيعة والروافض بأكملها، وتزعم أن بعض السور قد حذفت من القرآن الكريم، وذكر منها شيخهم الطبرسي سورة الحفد، وسورة الخلع، وسورة الولاية.
هذا الكلام في كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب للنوري الطبرسي الذي ذكرته آنفاً (ص:24).
ثم في موضع آخر نقل سورة الولاية، واسمع لنص سورة الولاية، قال: نص السورة: بسم الله الرحمن الرحيم، (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي، ويحذرانكم عذاب يوم عظيم، نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم، إن الذين يوفون ورسوله في آيات -كذا وردت- لهم جنات نعيم، والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم، ظلموا أنفسهم وعصوا الوصي الرسول أولئك يسقون من ماء حميم) انظروا الضلال المبين!! هل هذه سورة؟! كلام مسيلمة أفضل وأنظف منه، وكله يخرج من بوتقة كفر خبيثة واحدة، حينما قرأت هذا النص والله تذكرت كلام مسيلمة، وقلت: سبحان الله! والله إن الكفر ملة واحدة، حينما ذهب إليه أهل الكفر والشرك من أهل الجزيرة وقد ادعى أن وحياً ينزل عليه كما ينزل الوحي على محمد، قالوا: أسمعنا شيئاً مما نزل عليك، فجلس مسيلمة الكذاب يهذي كما يهذي هؤلاء المجرمون الخبثاء، جلس يقول: (والزارعات زرعاً، والحاصدات حصداً، والعاجنات عجناً، والخابزات خبزاً) فضحك القوم، ففهم أن القوم قد تبين لهم كذبه وضلاله، فقال يريد أن يسمعهم شيئاً غير ذلك: (الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل، وذيل قصير) فضحك القوم، وهم أرباب بلاغة، وأرباب بيان، فقال في سورة ثالثة: (يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين).
فقالوا: يا مسيلمة! قال: نعم، قالوا: والله إنك لتعلم يقيناً أننا نعلم يقيناً أنك كذاب.
هم يعلمون يقيناً أنه كذاب، وهو يعلم يقيناً أنهم يعلمون يقيناً أنه كذاب، فهؤلاء يكذبون بهذه الصورة السخيفة على الله جل وعلا، ويختلقون ويزيفون سوراً كاملة، ويزعمون أن هذه قد حذفت من القرآن الكريم.
وجاءت روايات كثيرة في كتب الشيعة تأمرهم بالعمل بالمصحف الموجود بين أيدي المسلمين الآن، لماذا؟ قالوا: ريثما يخرج قرآنهم الذي ورّثه علي لإمامهم المهدي المنتظر، وأنتم من أصول مذهبكم التقية، فاعملوا بهذا القرآن إلى أن يخرج المهدي بالقرآن المتكامل الصحيح.
يقول نعمة الله الجزائري: (قد روي في الأخبار أن علياً والأئمة عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة القرآن الموجود في الصلاة وغيرها، وأن يعملوا بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان، فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين؛ فيقرأ بعد ذلك ويعمل بأحكامه).
أقف عند هذا القدر لأواصل إن شاء الله تعالى تحريف الشيعة للأصل الأول من أصول التلقي، وللمصدر الأول من مصادر التلقي ألا وهو القرآن، وكيف أنهم حرفوا أصول النصوص في القرآن، ولم يكتف الروافض بذلك وإنما حرفوا في التأويل أيضاً للقرآن، وهذا ما سنتعرف عليه إن شاء الله في المحاضرة المقبلة.
أحمد الله الذي هدانا للحق، وأسأل الله أن يثبتنا عليه، وأن يتوفانا عليه، إنه ولي ذلك ومولاه، وأكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(146/9)
الشيعة والقرآن [2]
لم يكتف الشيعة بتحريف نصوص القرآن الكريم، بل قاموا بلي أعناق النصوص وتأويلها بما يوافق معتقداتهم: من إثبات عصمة الأئمة والولاية والبداء والرجعة والمتعة والعصمة، وغيرها من العقائد الباطلة الفاسدة.
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل ادعوا نزول وحي غير القرآن بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علي وفاطمة رضي الله عنهما، وكلها دعاوى باطلة سخيفة، تدل على خفة عقولهم وسذاجتهم.(147/1)
عقيدة الشيعة في تفسير القرآن
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نحن الليلة على موعد مع الدرس السابع عشر من دروس: سلسلة الإيمان باليوم الآخر، ضمن دروس العقيدة لمعهد إعداد الدعاة بمسجد التوحيد، ولا زال حديثنا بحول الله وطوله عن الفتن كعلامة من العلامات الصغرى للساعة، التي أخبر عنها الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وشرعت في المحاضرة الماضية في الحديث عن فتنة الروافض، وبينت فيها أصل الشيعة، وأصل هذا المسمى، ثم شرعت في بيان معتقد الشيعة الروافض في القرآن الكريم، فهم يعتقدون أن القرآن الذي بين أيدينا الآن قرآن محرف، وقرآن مزور، وليس هو القرآن الذي أنزله الله على نبينا صلى الله عليه وسلم، وبينت الأدلة على ذلك من كتبهم ومصادرهم المعتمدة.
وأبين الليلة إن شاء الله تعالى معتقد الشيعة الروافض في تأويل وتفسير القرآن، فكما انحرف الشيعة الروافض في القرآن ذاته فقد انحرفوا أيضاً في تأويل وتفسير القرآن الكريم، فساروا على غير قواعد اللغة، وعلى غير قواعد الشريعة، وعلى غير قواعد الفهم، بل وعلى غير ما يقبله العقل، وحرفوا القرآن بلي أعناق النصوص بصورة بشعة، والأمر يحتاج منا إلى طول نفس في هذه الليلة ونحن نعدد النصوص من مصادر الشيعة الأصلية ومراجعهم الكبيرة؛ ليتبين لنا هل هذا التحريف والتأويل ما هو إلا أمثلة في كتب التفسير وفي كتب الأصول عندهم قد يتجاوز عنها، أم أن هذا التحريف في التأويل أمر مؤصل ومقعد واعتقاد؟(147/2)
نماذج من التأويل المنحرف للقرآن الكريم عند الشيعة الرافضة
نقف عند هذه الحقيقة، فأسوق كثيراً من الأمثلة والشواهد التي تبين تأويل الشيعة المنحرف لآيات القرآن الكريم، ومن تفاسيرهم المعتبرة عندهم، كتفسير القمي، وتفسير العياشي، وتفسير البرهان، وتفسير الصافي، كما أن كتبهم المعتمدة في الحديث قد أخذت كثيراً من هذه التأويلات الفاسدة، وعلى رأسها أصول الكافي للكليني، والبحار للمجلسي، وغيرها من الكتب، فتدبروا معي هذه الأمثلة والشواهد التي ستتعب العقل والقلب معاً في هذه الليلة، لكن سنقف على أن هذا التأويل والتحريف في تأويل آيات القرآن الكريم إنما هو أمر اعتقاد، وأمر مؤصل عند الروافض.
نجد في مصادر الروافض الأصلية -ككتب التفسير والحديث المعتمدة عندهم- آيات كثيرة جداً جداً تفسر الآية الواضحة بالإمامة والولاية والأئمة، تجد لفظة القرآن صريحة صحيحة في المعنى، ومع ذلك تجد تعسفاً وتمحلاً رهيباً من الشيعة الروافض في تحريف هذه اللفظة أو في تحريف هذه الكلمة لتأصيل معتقد من معتقداتهم.(147/3)
تفسير وتأويل الرافضة للفظة القرآن وأسمائه
كل الآيات التي وردت في القرآن الكريم تتحدث عن لفظة القرآن فهم يفسرون ويؤولون لفظة القرآن مباشرة بالأئمة، ويؤولون أي اسم من أسماء القرآن في القرآن بالأئمة، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قول الله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8] أي: والقرآن الذي أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم، اسمع إلى تفسير الشيعة، يقولون: النور نور الأئمة، انظر إلى الكافي للكليني في كتاب الحجة، باب: أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل، المجلد الأول (ص:194).
هذا تفسير الشيعة للفظة (النور) في كتاب الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157] وهو القرآن، أي: اتبعوا القرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، أما الروافض فقالوا: النور في هذه الآية هو علي والأئمة من بعده عليهم السلام.
هذا تعسف واضح، وهذا التأويل في كتاب الكافي للكليني في كتاب الحجة باب: أن الأئمة عليهم السلام نور الله عز وجل المجلد الأول (ص:194).
والأدلة على هذا كثيرة جداً عندهم، تمضي تأويلاتهم للآيات التي تتحدث عن القرآن الكريم، ولو كانت الآية في غاية الوضوح والدلالة على أن المقصود هو القرآن، فهم يفسرون لفظة القرآن بجميع مترادفاتها بالأئمة.
فهم يقولون في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: يهدي إلى الإمام.
هذا أيضاً في كتاب الكافي في المجلد الأول (ص:216)، أعزو بالصفحة حتى لا يحتج علينا أحد بأن هذا من عندنا، فلقد ذكرت في المحاضرة الماضية أننا لن ننقل كلاماً من كلام أئمة أهل السنة، بل سننقل كلاماً من كتبهم المعتمدة، ومصادرهم ومراجعهم الكلية الكبيرة؛ لنبين إلى أي حد قد انحرف هؤلاء القوم انحرافاً مزرياً في المعتقد، وفي تفسير كتاب الله عز وجل.
وفي رواية في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: يهدي إلى الولاية.
وسنفصل إن شاء الله تعالى الحديث في الولاية وفي الرجعة وفي البداء.
إلخ.
ويفسرون ما ورد في القرآن من لفظة النور بالأئمة أيضاً بلا أدنى دلالة.
وبكل أسف هم ينسبون كل هذه التفسيرات إلى أئمة آل البيت برأهم الله مما قالوا، فآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم وأجل وأفضل وأفقه وأبلغ من أن ينسب إليهم مثل هذا الإلحاد في كتاب الله عز وجل، فهم ينسبون كل هذه الروايات إلى أئمة أهل البيت، ولاسيما جعفر الصادق رحمه الله تعالى وبرأه الله مما قالوا، فلا يثبت هذا ألبتة عن إمام من أئمة آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء بـ علي رضوان الله عليه والحسن والحسين وجعفر الصادق ومحمد الباقر وغيرهم من أئمة آل بيت النبي، فهم برآء من كل ما ينسبه الشيعة الروافض إليهم من تمحلات لا تتفق مع شرع ولا مع عقيدة، بل ولا مع عقل في تأويلهم الفاسد الباطل في كتاب الله جل وعلا، فهم يقولون في قول الله سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8] قالوا: النور في هذه الآية هي ولاية علي، أي: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بأفواههم، قالوا: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] يقولون: والله متم الإمامة.
وكذلك قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8] يقولون: إن النور هو الإمام، وهذا في كتاب الكافي المجلد الأول (ص:196).
واسمع إلى هذا العجب العجاب في تحريفهم لمعنى قول الله تعالى في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، اسمع إلى هذا التعسف الواضح الفاضح في تأويلهم لهذه الآيات الواضحة من سورة النور، يقولون: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ) المشكاة هي فاطمة عليها السلام، (فِيهَا مِصْبَاحٌ) الحسن (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) الحسين رضوان الله على الحسن والحسين، وبرأهما الله مما يقول الروافض، (الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) فاطمة كوكب دري بين نساء العالمين، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام، (زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) لا يهودية ولا نصرانية، (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) يكاد العلم يتفجر منها، (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ) إمام من فاطمة بعد إمام (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) يهدي الله للأئمة من يشاء (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) الآيات!! وقالوا في قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً} [النور:40] أي: ومن لم يجعل الله له إماماً من ولد فاطمة ((فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)) أي: فما له من إمام يوم القيامة، هذا تحريف الشيعة الروافض الفاسد الفاضح لكتاب الله جل وعلا.(147/4)
تفسير الشيعة الرافضة للشرك والكفر في القرآن الكريم
وكما أولوا ما جاء في القرآن الكريم عن القرآن والنور بالإمامة، فهم يؤولون ما جاء في كتاب الله جل وعلا من النهي عن الشرك والكفر، فتأتي لفظة الشرك صريحة وتأتي لفظة الكفر صريحة فيؤولون لفظة الشرك ولفظة الكفر بالكفر بولاية علي رضي الله عنه، ويؤولون ما جاء في عبادة الله وحده واجتناب الطاغوت بولاية الأئمة والبراءة من أعدائهم، ومن ذلك قولهم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] قالوا: أي: ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتنا، والبراءة من عدونا، وذلك هو قول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتهم والبراءة من أعدائهم، هذا تأويل الآية عندهم! وفي قول الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل:51] قالوا: يعني بذلك: ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد، وهذا الكلام بفضل الله عز وجل كل لفظة منسوبة إلى مصدرها، هذا الكلام موجود في تفسير العياشي، وهو من التفاسير المعتمدة عند الشيعة، المجلد الثاني (216)، وموجود في تفسير البرهان وهو من التفاسير المعتمدة عند الشيعة المجلد الثاني (ص:373)، وموجود في تفسير: نور الثقلين المجلد الثالث (ص:60).
ويقولون في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] خطاب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، قالوا: لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، انظر إلى هذه البشاعة والفضاعة في تفسير الصافي المجلد الثاني (ص:472)، وقد نقل هذه الرواية أيضاً عن الصافي شيخ الشيعة القمي شيخ الكليني في تفسيره، وكذلك هذه اللفظة موجودة بنصها في تفسير نور الثقلين في المجلد رقم أربعين (ص:498).
وفي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] قالوا: العمل الصالح المعرفة بالأئمة، (ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) أي: يسلم لـ علي ولا يشرك معه في الخلافة من ليس ذلك له ولا هو من أهله.
تفسير العياشي الجزء الثاني (ص:353)، وتفسير البرهان المجلد الثاني (ص:497) وفي غيرهما.
وفي قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة:41] قالوا: ولا تكونوا أول كافر بـ علي.
رضي الله عن علي وبرأه الله مما قالوا.
وقالوا ببشاعة رهيبة في قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي: من بني أبي بكر ومن بني عمر.
وقالوا: هم أولياء فلان وفلان وفلان يعنون أبا بكر وعمر وعثمان، اتخذوهم أئمة من دون الإمام.
أي: من دون علي رضي الله عنه.
هذا الكلام موجود في تفسير العياشي المجلد الأول (ص:72)، وفي تفسير البرهان المجلد الأول (ص:172)، وفي تفسير الصافي المجلد الأول (ص:156)، وفي تفسير نور الثقلين المجلد الأول (ص:151).
وسأبين لكم تفسير شيوخهم الآن لهذه الآيات بأنهم يقصدون أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عن الجميع، كما سأبين الآن معتقدهم في الآيات التي ذكر فيها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم جميعاً.
وفي قول الله تعالى: {إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف:30] قالوا: يعني: أئمة دون أئمة الحق.
(اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ) أي: الأئمة الذين تولوا الخلافة قبل علي.
هذا في تفسير الصافي المجلد الأول (ص:571).
ويقولون في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] يعني: أنه لا يغفر لمن يكفر بولاية علي، وأما قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يعني: لمن والى علياًً عليه السلام، والروايات في هذا كثيرة جداً جداً، ولا أريد أن أطيل في هذه الجزئية.(147/5)
تفسير الشيعة الرافضة للفظة الصلاة في القرآن الكريم
الرافضة يؤولون بعض آيات القرآن كلفظة الصلاة بالأئمة والإمامة أيضاً، يعني: لم يكتفوا بلفظة القرآن ولا بلفظة النور، وإنما أولوا أيضاً لفظة الصلاة الواردة في كتاب الله جل وعلا بالأئمة أو بالولاية، فهم يقولون في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] قالوا: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ) هي رسول الله وأمير المؤمنين علي، والحسن والحسين، والصلاة الوسطى هي علي وحده، (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) أي: طائعين للأئمة.
تفسير العياشي المجلد الأول (128)، وتفسير البرهان المجلد الأول (231)، والبحار (ص:154) المجلد السابع.
فهذه بعض تأويلاتهم لآيات الصلاة، وقد مضى تأويلهم لعموم الأعمال الصالحة بالإمامة، ولا أريد أن أقف مع كل الروايات والنصوص الثابتة، فكتبهم مشحونة بمثل هذا الأسلوب الفاضح في التأويل المتعسف لكتاب الله عز وجل.(147/6)
تفسير الرافضة لمعنى الذين يتلون الكتاب حق تلاوته وللفظ الآيات والنبأ
يؤول الرافضة قول الله تبارك: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121] بالأئمة عليهم السلام (الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) قالوا: هم الأئمة عليهم السلام كما في الكافي في كتاب الحجة باب: في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم السلام، انظر حتى الترجمة التي للباب!! المجلد الأول (ص:215).
والأئمة عند الروافض هم أهل الذكر، وهم الراسخون في العلم، وهم الذين أوتوا العلم.
قالوا في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]: الراسخون في العلم: هم أمير المؤمنين والأئمة من بعده.
نحن نقر بأن علياً رضوان الله عليه من الراسخين في العلم، بل من أئمة العلم، لا ننكر هذا، فالحق نثبته ونقره، ولو كان على لسان الروافض أو على لسان غيرهم، فلقد أثبت الله عز وجل الحق على لسان أهل الكتاب مع كفرهم بالله جل وعلا، فقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] فالله يثبت الحق لأهله، فنحن نثبت بأن علياً رضوان الله عليه من الراسخين في العلم، بل ومن أئمة العلم، فهذه ما زاغوا فيها عن الحق.
ثم يقولون: والأئمة من بعد علي رضوان الله عليه، بل وستعجب إذا علمت أن الأئمة عندهم هم آيات الله، وهم النبأ العظيم، وهم الآيات المحكمات! ففي تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف:69] ذكروا أنه سأل يوسف البزاز أبا عبد الله -وهو جعفر الصادق - عن قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف:69] فقال جعفر الصادق -برأه الله مما قالوا-: أتدري ما آلاء الله؟ قلت: لا، قال: هي أعظم نعم الله على خلقه، وهي ولايتنا.
انظر تفسير الكافي المجلد الأول (ص:217).
وعندهم أن الأئمة هم آيات الله أيضاً، قال الكليني: باب: أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة، وساق عدة روايات في ذلك، قال في قوله تعالى: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} [القمر:42]: أي: كذبوا بالأئمة الأوصياء.
وهم النبأ العظيم -في زعمهم- المذكور في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] ومعلوم أن النبأ العظيم في الآية هو يوم القيامة، وهم يفسرون النبأ العظيم بالأئمة، قال أبو حمزة عن أبي جعفر قال: قلت له: جعلت فداك! إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2]، فقال: ذلك إلي، إن شئت أخبرتهم وإن شئت لم أخبرهم، ثم قال: لكن أخبرك بتفسيرها، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه، كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول: ما لله عز وجل آية هي أكبر مني، ولا لله من نبأ هو أعظم مني.
تعالى الله عما يقولون علوا ًكبيراً، وبرأ الله علياً وأبا جعفر الصادق رضوان الله عليهما جميعاً مما يقول هؤلاء الظالمون.
حتى لفظة الآيات المحكمات في كتاب الله جل وعلا فسرت عندهم بالأئمة، روى العياشي عن أبي عبد الله جعفر الصادق في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] قال: الآيات المحكمات هي أمير المؤمنين والأئمة، (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) قال: أبو بكر وعمر وعثمان، {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:7] أي: أصحابهم وأهل ولايتهم، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] تفسير العياشي المجلد الأول (ص:162)، وتفسير البرهان المجلد الأول (ص: 271)، وتفسير البحار المجلد السابع (ص:47).(147/7)
تفسير الرافضة للنحل والحفدة والأسماء الحسنى في القرآن الكريم
تأويل الرافضة لكثير من آيات القرآن بالإمامة والأئمة يزيد على الحصر، وكأن القرآن لم ينزل إلا في الولاية وفي الأئمة، بل إن تعسفهم في تأويل الآيات في الأئمة والولاية -والله الذي لا إله غيره- لا أقول: هم يخالفون قواعد اللغة أو قواعد الشرع فقط، بل هم يخالفون حتى قواعد العقل السليم، فالأئمة عندهم هم النحل المذكور في قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل:68] قالوا: يعني: إلى الأئمة، سبحان الله! هل الأئمة سيتخذون الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون؟ عقد المجلسي باباً في كتابه بعنوان: باب نادر في تأويل النحل بالأئمة، وهذا الكلام موجود أيضاً في تفسير العياشي المجلد الثاني (ص:264)، وفي تفسير البرهان المجلد الثاني (ص:375)، وفي تفسير الصافي المجلد الأول (ص:931)، وفي غيرها، وأنا لا أنقل كلمة إلا من مصادرهم؛ حتى لا يحتج علينا أحد بأننا ننقل كلاماً من كلام أئمتنا أهل السنة، بل هذا من كتبهم ومراجعهم الأصلية التي يعتمدون عليها ويرجعون إليها.
وهم الحفدة المذكورون في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72] قالوا: الحفدة هم الأئمة، وقالوا في قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47]: أي: عن الأئمة، وقالوا في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50]: أي: علي رضي الله عنه، وقالوا في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51]: أي: علي رضي الله عنه، وقالوا في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]: هو صراط علي رضي الله عنه.
هذا شيء رهيب!! والأئمة عندهم هم الأيام والشهور الواردة في القرآن، عقد المجلسي باباً في تفسيره بعنوان: باب تأويل الأيام والشهور بالأئمة عليهم السلام، لو وردت لفظة أيام في القرآن إذاً هي الأئمة، ولفظة الشهور في القرآن تعني: الأئمة، شيء عجيب! بل ستعجبون أنه لو وردت لفظة الأسماء الحسنى لله فهي الأئمة، يروون عن الرضا أنه قال: إذا نزلت بكم شدة فاستعينوا بنا على الله، وهو قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، قال أبو عبد الله: نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل من أحد إلا بمعرفتنا، قال: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: ادعوه بنا، أي: بالأئمة.
تفسير العياشي المجلد الثاني (ص:42)، تفسير الصافي المجلد الأول (ص:626)، البرهان المجلد الثاني (ص:51).(147/8)
تفسير الرافضة للآيات الواردة في الكفار والمنافقين
الآيات التي وردت في الكفار والمنافقين يؤولوها الرافضة في خيار أصحاب سيد المرسلين، تعرّفوا على هذا المعتقد الضال الفاسد، هذه فتنة من أعظم الفتن، فإن كثيراً ممن يشار إليهم بالبنان من أهل السنة لا يعرفون شيئاً عن هذا المعتقد الضال، بل وينكرون على من تكلم عن هؤلاء، ويقولون: إنه لا خلاف بيننا وبينهم إلا في بعض الفروع الفقهية، إنما هو اختلاف مذاهب، فقفوا على هذا المذهب لتعرفوا على هذا الخطر العظيم.
يقولون في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]: هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما، يقولون: وكان فلان شيطاناً يعني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلفظة شيطان يقولون: ما وردت في القرآن كله من أوله إلى آخره إلا ويراد بها عمر رضوان الله عليه! هم يسبون الخيرين الكبيرين الوزيرين الأولين الحبيبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يسبون أحب الخلق إلى المصطفى، ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص قال: (قلت: يا رسول الله! أي: الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر) رضي الله عن أبي بكر وعمر.
انظر فروع الكافي في هامش مرآة العقول المجلد الرابع (ص:416).
قال المجلسي وهو يشرح كتاب الكافي، وهو تفسير من تفاسير الشيعة المعتمدة الكبيرة، وهو يبين مراد صاحب الكافي بهذه العبارات، قال: (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا) قال: هما أبو بكر وعمر، والمراد بفلان عمر أي: الجن المذكور في الآية عمر، وإنما سمي به؛ لأن عمر كان شيطاناً على حسب زعمه! وفي قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] يروي العياشي عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: دخل علي أناس من البصرة فسألوني عن قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] فقال: طلحة والزبير كانا إمامين من أئمة الكفر! طلحة هو صاحب اليد التي قطعت وهو يدفع عن رسول الله، طلحة الجود، طلحة الخير، طلحة الفياض، صاحب اليد التي شلت وهي تذب عن رسول الله يوم أحد، كان إماماً من أئمة الكفر عند الروافض الفجرة، وكذلك الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إماماً من أئمة الكفر عند الروافض! انظر تفسير العياشي المجلد الثاني (ص:77 - 78)، وتفسير البرهان المجلد الثاني (ص:107)، وتفسير الصافي المجلد الأول (ص:685).
ويقولون في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الدين بـ عمر بن الخطاب أو بـ أبي الحكم عمرو بن هشام) قالوا: لما دعا النبي ربه بهذا الدعاء، نزل عليه قوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] ويقصدون عمر رضوان الله عليه، انظر تفسير العياشي، والبرهان، والبحار.
ويقولون في قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168]: خطوات الشيطان: ولاية فلان وفلان، أي: ولاية أبي بكر وعمر.
تفسير العياشي، والبرهان، والصافي.
وفي قوله تعالى: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ} [النساء:108] يفترون على أبي جعفر الصادق -برأه الله مما قالوا- أنه قال فيها: فلان وفلان، أي: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وفي رواية أخرى: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ) افتروا على أبي الحسن أنه قال هما أبو بكر وعمر وفي رواية ثالثة: وأبو عبيدة، وفي رواية: الأول والثاني والثالث أي: أبو بكر وعمر والثالث هو أبو عبيدة، فهؤلاء هم الذين يبيتون في حق علي ما لا يرضى من القول.
ويفترون على أبي عبد الله جعفر الصادق في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} [النساء:137] قال: نزلت في أبي بكر وعمر، آمنوا برسول الله وآله في أول الأمر، ثم كفروا حين عرضت عليهم الولاية لـ علي حيث قال: (من كنت مولاه فـ علي مولاه)، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين حيث دانوا له بأمر الله وأمر رسوله فبايعوه، ثم كفروا حيث مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعوه -أي: من بايعوا علياً - البيعة لهم، فهؤلاء لم يبق لهم من الإيمان شيء.
تفسير العياشي المجلد الأول (ص:281)، وتفسير الصافي المجلد الأول (ص:404)، وتفسير البرهان المجلد الأول (ص:422)، وتفسير البحار المجلد الثامن (ص:218).(147/9)
تأويل الرافضة لآيات يزعمون أنها في المهدي
الرافضة يتعسفون في تأويل نصوص القرآن؛ ليثبتوا ما رسخ عندهم من اعتقاد، فلا يتورع أحدهم أبداً من أن يلوي عنق النص من أجل أن يثبت عقيدته الفاسدة الباطلة، فمن أجل إثبات عقيدتهم في مهديهم المنتظر تعسفوا في التأويل، ومهدي الشيعة المنتظر يخالف تماماً المهدي المنتظر عند أهل السنة، كما سأفصل ذلك إن شاء الله تعالى.
ففي قوله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:1 - 3] يقولون: من أقر بأن قيام القائم عليه السلام حق، (يؤمنون بالغيب) يعني: يؤمنون بـ القائم عليه السلام وغيبته.
وعن جابر عن أبي جعفر في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3] قال: خروج القائم، وأذان دعوته إلى نفسه!! إلى آخر هذا الغثاء الذي يتعب القلب والعقل معاً، والأمثلة على تعسفهم في تفسير آيات الله جل وعلا في المهدي المنتظر كثيرة، حتى ألفوا في هذا كتباً مستقلة، ككتاب: ((ما نزل من القرآن في صاحب الزمان)) لـ عبد العزيز الجلودي، وكذلك كتاب: ((المحجة فيما نزل في القائم الحجة)) للسيد هاشم البحراني، وهذا الكتاب كله عبارة عن آيات من القرآن تؤول تأويلاً باطلاً ضالاً، تأويل إلحاد لا لبس فيه ولا غموض، يثبتون بالآيات القرآنية خروج مهديهم المنتظر زاعمين أن هذه الآيات وردت في مهديهم المنتظر.(147/10)
حكم تأويلات الرافضة الفاسدة للقرآن الكريم
الرافضة في تأويلهم لآيات الله جل وعلا يتعسفون أيما تعسف، ويحاولون البحث عن آيات يفسرون على ضوئها معتقدهم في التقية، وفي البداء، وفي الرجعة، وفي غير ذلك من معتقداتهم.
هذه أمثلة قليلة لتأويلهم لكتاب الله جل وعلا، ولتعسفهم في فهم آيات الله تبارك وتعالى، فهم يفسرون القرآن تفسيراً باطنياً، لا تربطه بالآية على الإطلاق أدنى صلة، وكأن القرآن لم ينزل بلسان عربي مبين، وكأنه لم يجعله الله تبارك وتعالى هداية ودستوراً للخلق أجمعين، فالله تعالى قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] هذا القرآن يخاطب العالم، ولا شك أن تلك التأويلات إلحاد في كتاب الله تعالى، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت:40] الإلحاد: هو أن يوضع الكلام في غير موضعه، وذلك بالانحراف في تأويله.
وقال صاحب (الإكليل) الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: في هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) الرد على من تعاطى تفسير القرآن بما لا يدل عليه جوهر اللفظ كما يفعله الباطنية والاتحادية والملاحدة.
وقال صاحب كتاب: إكفار الملحدين محمد أنور شاه الكشميري (ص:2): وهؤلاء الذين يلحدون في آيات الله ويحرفونها عن معانيها، وإن كتموا كفرهم وتستروا بالتأويل الباطل وأرادوا الإخفاء، لكنهم لا يخفون على الله تعالى.(147/11)
حقيقة كتاب التبيان للطوسي والبيان للطبرسي
أقول: إننا لا نتورع البتة أن نثبت الحق إن رأينا شيئاً من الحق، فعند الرافضة كتابان هما: كتاب التبيان للطوسي، وكتاب مجمع البيان للطبرسي، هذان الكتابان من كتب التفسير عند الشيعة، وقد سلما عن هذا الإلحاد المبين في تفسير آيات رب العالمين، وإن كان هذان الكتابان قد دافعا عن أصول العقيدة الشيعية في بعض الآيات، ولكنهما -للأمانة- لا يقاربان بحال ما ورد في تفسير العياشي أو الكافي أو البحار أو الصافي أو غيرها.
وكان من المفترض أن ننوه إلى هذا من باب العدل والإنصاف، لولا أن وقفنا على سر خطير لعالم الشيعة ومحدثها وخبير رجالها وصاحب آخر مجموع من مجامعها الحديثية، وهذا الرجل هو أستاذ كثير من علماء الشيعة الأقطاب كـ محمد حسين آل كاشف الغطاء، وآغا بزرك الطهراني وغيرهما، هذا العالم هو عالم الشيعة الكبير: حسين النوري الطبرسي، كشف لنا سراً خطيراً بقي دفيناً، ولولاه ما أمطنا اللثام عن حقيقة كانت مجهولة لدينا، اسمع ماذا قال عن كتاب التبيان للطوسي الذي ذكرته الآن؟! قال: (ثم لا يخفى على المتأمل في كتاب التبيان أن طريقته فيه على سبيل المداراة والمماشاة مع المخالفين) وهذا أصل من أصول الشيعة الذي يقال له: التقية، هذا كلام عالم من علمائهم في كتاب التبيان.
ويقول في كتاب مجمع البيان: (ثم لا يخفى على المتأمل في (مجمع البيان) أيضاً أن طريقته فيه على سبيل المداراة والمماشاة مع المخالفين، فإنك تراه اقتصر في تفسير الآيات على نقل كلام الحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن جريج والجبائي والزجاج وابن زيد وأمثالهم، ولم ينقل عن أحد من مفسري الإمامية، ولم يذكر خبراً عن أحد من الأئمة عليهم السلام إلا قليلاً في بعض المواضع، لعله وافقه في نقله المخالفون، بل عد الأولين في الطبقة الأولى من المفسرين الذين حمدت طرائقهم، ومدحت مذاهبهم، وهو بمكان من الغرابة لو لم يكن على وجه من المماشاة).
فمن المحتمل أن يكون الأمر كما قال، وممن يؤيد كون وضع الكتاب على التقية السيد علي بن طاوس في كتابه ((سعد السعود)) وهذا لفظه: (ونحن نذكر ما حكاه جدي أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتاب ((التبيان))، وحملته التقية على الاقتصار عليه من تفصيل المكي من المدني، والخلاف في أوقات إلخ هكذا لم يكمل الطوسي العبارة، وقال الطبرسي معقباً، وهو أعرف بما قال -أي: الطوسي -: لا يخفى هذا على من اطلع على مقامه فتأمل).
أعتقد أن الكلام الذي ذكر في التبيان أو في مجمع البيان هو على سبيل المجاراة، وعلى سبيل التقية، لكن العقيدة واحدة لا تتبدل ولا تتغير.
ومن هذا الكلام يتبين أن التبيان للطوسي قد وضع على أسلوب التقية، كما هو رأي عالم الشيعة الكبير المعاصر كما ذكرت، أو أن يكون تفسير التبيان قد صدر من الطوسي نتيجة اقتناع فكري بإسفاف ما عليه القوم من تفسير، ومعنى هذا أن شيعة اليوم هم أشد غلواً وتطرفاً؛ ولذا تراهم يعتبرون تفسير الطوسي وأمثاله من التفاسير التي ألفت للخصوم، والتزمت بروح التقية؛ لتبشر بالعقيدة الشيعية بين من لا يدينون بعقيدة الروافض.
وقد سار على نهج الطوسي عالمهم أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، وهو من أكابر علمائهم في القرن السادس الهجري، وقد أشار الطبرسي في مقدمة تفسيره إلى اتباعه لمنهج الطوسي حيث قال: (إلا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه من كتاب التبيان، فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق، ويلوح عليه رواء الصدق، وهو القدوة أستضيء بأنواره، وأتتبع مواقع آثاره) يعني: هو يقتفي وينسج على نهج كتاب التبيان.(147/12)
بطلان ادعاء الرافضة نزول وحي غير القرآن
من أبشع ما وقفت عليه أن الشيعة الرافضة لم يكتفوا بالقول بتحريف كتاب الله جل وعلا على الحد الذي بينت، بل زعموا أن كتباً أخرى كالقرآن أنزلها الله على علي وعلى فاطمة، هل سمعتم بهذا؟! الروافض يعتقدون أن كتباً أخرى كالقرآن نزلت على فاطمة وعلى علي رضي الله عنهما وبرأهما الله مما قالوا.
فلقد تضمنت كتب الشيعة ومراجعها المعتبرة دعاوى عرضية ومزاعم خطيرة، تزعم أن هناك كتباً مقدسة قد نزلت من السماء بوحي من الله جل وعلا إلى الأئمة، وأحياناً تورد كتب الشيعة الأصلية نصوصاً وروايات، ويزعمون أن هذه النصوص وتلك الروايات مأخوذة من الكتب التي نزلت على الأئمة، وعلى رأسهم علي رضوان الله عليه وبرأه الله مما قالوا.(147/13)
أدلة الرافضة في إثبات وحي غير القرآن
أنقل إليكم بعض النصوص باختصار بكل أمانة في هذا المبحث الخطير من مباحث الروافض، وتدبر معي هذه الأسطورة الخطيرة: يروي الكليني بسنده عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله -يعني: جعفر الصادق برأه الله مما قالوا- يقول: يظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكاً يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال لها علي: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت -أي: صوت الملك- فقولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين يكتب كلما سمع من الملك، حتى أثبت من ذلك مصحفه، ثم قال: أما إنه ليس فيه شيء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما سيكون.
أصول الكافي، كتاب الحجة، باب فيه ذكر الصحيفة (ص:240) المجلد الأول.
وفي كتاب (دلائل الإمامة) -وهو من كتبهم المعتمدة عندهم- ترد رواية تصف مصحف فاطمة المزعوم، بأن فيه خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر كل سماء، وفيه خبر عدد ما في السماوات من الملائكة، وفيه عدد كل من خلق الله من المرسلين بأسمائهم وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب، وأسماء من أجاب، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين، وفيه أيضاً صفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى، وفيه صفة كل من ولي من الطواغيت بمدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك كل واحد، وفي هذا المصحف جميع ما خلق الله، وفيه صفة أهل الجنة بأعدادهم ومن يدخلها، وبعدد من يدخل النار وبأسمائهم، وفيه علم القرآن كما أنزل، وفيه علم التوراة كما أنزلت، وفيه علم الإنجيل كما أنزل، وفيه علم الزبور، وفيه عدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد.
وهذا نقله محمد بن جرير بن رستم الطبري -وهذا غير ابن جرير الطبري إمام من أئمة أهل السنة- في كتابه (دلائل الإمامة) (ص:27، 28).
والله أمور تمرض القلب، وأنا أصبت بالغم أكثر من مرة هذا الأسبوع، والحقيقة أن الواحد لا يعرف كيف يكون حجم هذا المصحف الذي فيه هذه العلوم؟! وكيف يقرأ؟! وإذا كان العلم هذا كله عند الأئمة -والولاية مفقودة منهم من مئات السنين- فلماذا لا يقدرون أن يستردوا الولاية بهذا العلم؟ هذا كلام لا يمت إلى العقل، ولا إلى الفهم الصحيح بأدنى صلة، بل ولا إلى الفهم السقيم بأدنى صلة، وتذكر رواية دلائل الإمامة صفة نزول هذا المصحف على خلاف ما جاء في الرواية السابقة التي في الكافي، ففي الرواية السابقة أن الملك كان يأتي وسيدنا علي قال للسيدة فاطمة: لما يأتي الملك أعلميني به، وبدأ هو يكتب، لكن الرواية الأخرى تصف نزول هذا المصحف على خلاف ما جاء في الرواية التي في الكافي، فتذكر رواية دلائل الإمامة أنه نزل -أي: مصحف فاطمة- جملة واحدة من السماء، بواسطة ثلاثة من الملائكة هم: جبريل وإسرافيل وميكائيل، فهبطوا به وفاطمة رضوان الله عليها وبرأها الله مما قالوا قائمة تصلي، فما زالوا قياماً حتى قعدت، ثم فرغت من صلاتها، وسلموا عليها وقالوا: السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها، فقالت فاطمة: لله السلام، ومنه السلام، وإليه السلام، وعليكم -يا رسل الله- السلام، ثم عرجوا إلى السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرؤه حتى أتت على آخره، قالوا: ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة! وفي الراوية: قلت: جعلت فداك! فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها -أي: بعد موتها-؟ فقال: دفعته إلى أمير المؤمنين علي، فلما مضى علي -أي: قتل- صار إلى الحسن، ثم إلى الحسين، ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر يعني: مهديهم المنتظر.
وأيضاً هم يدّعون غير مصحف فاطمة، فيؤمنون بنزول اثني عشر صحيفة من السماء تتضمن صفات الأئمة كما في حديث طويل من أحاديثهم يرويه صدوقهم ابن بابويه القمي، وهم يلقبونه بـ الصدوق، يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تبارك وتعالى أنزل علي اثني عشر خاتماً، واثني عشر صحيفة، اسم كل إمام على خاتمة، وصفته في صحيفته)، وهذا الكلام موجود في كتاب (إكمال الدين) لـ ابن بابويه القمي (ص:263).
أكتفي بهذا القدر من هذا الغثاء، ومن هذا التأويل الباطل والمتعسف في كتاب الله عز وجل؛ ليقف كل مسلم على حقيقة معتقد القوم، فإن القول بأن الخلاف بين أهل السنة وبين الشيعة خلاف في فروع المسائل الفقهية فهو كلام ضال يحتاج صاحبه إلى توبة إلى الله جل وعلا إن كان يفهم ما يقول، ويحتاج إلى أن يتعلم إن كان يجهل ما يقول، فالأمر جد خطير، إنه أمر اعتقاد.
وأواصل إن شاء الله تعالى في الأسبوع المقبل -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء- الكلام عن معتقد القوم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ما أجملت في محاضرتين مجمل معتقد القوم في تحريف القرآن الكريم وتزويره وتأويله، فأبين معتقدهم في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أبين كذلك معتقدهم في أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.(147/14)
أمواج الردة وصخرة الإيمان
أعداء الإسلام يعلمون جيداً أنه لا سبيل لهم إلى هذه الأمة إلا بعد زعزعة ثوابتها، وتشكيكها في دينها، ولذلك خططوا بالليل والنهار للقضاء على ثوابت الأمة عن طريق الممسوخين والمرتدين من أبنائها، ليكون ذلك أبلغ وأعظم مكراً، وبالرغم من دهائهم وضخامة ما بذلوه من مال ووقت وجهد، إلا أن أمواجهم تحطمت على صخرة الإيمان، وباء مشروعهم بالفشل، والله غالب على أمره.(148/1)
دعاة على أبواب جهنم
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أمواج الردة وصخرة الإيمان، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم، وينتظم هذا الموضوع الخطير المهم العناصر المحددة التالية: أولاً: دعاة على أبواب جهنم.
ثانياً: الحرب على الثوابت.
ثالثاً: ما المخرج من هذه الفتن.
رابعاً: وستنكسر كل أمواج الردة على صخرة الإيمان.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أولاً: دعاة على أبواب جهنم.
إننا نعيش الآن زماناً قد كلف فيه الذئاب برعي الأغنام: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفاً دقيقاً محكماً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم وابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)، وفي لفظ قال: (الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة)، والله لقد تكلم السفهاء والتافهون لا في أمر العوام بل في أمر الإسلام.
إنهم يعلنون الحرب لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الأصول والكليات، وممكن الخطر: أنهم يعلنون الحرب على الإسلام باسم الإسلام، ويهدمون أركان وأصول وثوابت الدين باسم الدين، بأسلوب خبيث لا ينتبه لخطره كثير من المسلمين.
وقد وصف الصادق المصدوق، الذين لا ينطق عن الهوى -صلى الله عليه وسلم- هذا الصنف الخبيث وصفاً دقيقاً كما في الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وأنا أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -أي: بهذا الإسلام- فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير -أي: الذي شابه الدخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: صفهم لنا يا رسول الله، فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) وفي رواية مسلم: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس) يا له من وصف دقيق من الصادق، ومع ذلك فهم يزعمون أنهم المسددون والمصلحون والمثقفون إلخ، ولكنهم في الحقيقة كما قال الله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:12 - 16].
نعم، وأنى لهذا الصنف الخبيث الهدى، وهم يعلنون الحرب على أركان وثوابت الإسلام؟! وهذا هو عنصرنا الثاني والمهم من عناصر اللقاء.(148/2)
مراحل الحرب على ثوابت الإسلام
كثيرة هي الحروب التي أعلنت على الإسلام منذ أن يزغ فجره، واستفاض نوره، لكننا نشهد في السنوات القليلة الماضية وإلى اليوم حرباً سافرة عاتية من نوع جديد، والمصيبة الكبرى: أن الذي يشعل فتيلها ويتولى كبرها رجال من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويهدفون إلى النيل من أركان وأصول وثوابت هذا الدين، أولئك الذين يسمون بالنخبة من أدعياء الثقافة والتحرير والتنوير والفن والعلم والأدب، ممن أحيطوا في مجتمعات المسلمين بهالة من الدعاية الكاذبة، ولقبوا في أمة الإسلام بأضخم الألقاب والأوصاف! تلك الألقاب والأوصاف التي تغطي جهلهم وانحرافهم، وتنفخ فيهم ليكونوا شيئاً مذكوراً، للي أعناق البسطاء من المسلمين إلى عقيدتهم وأفكارهم لياً، وهم في الحقيقة كالطبل الأجوف، يسمع من بعيد وباطنه من كل الخيرات فارغ.
هذه الحرب تتم الآن في أنحاء العالم الإسلامي بصورة منظمة مخططة، عبر مراحل دقيقة، وعبر خطوات منظمة، وأستطيع أن أقدم لحضراتكم الخطوات الخبيثة والمراحل الخطيرة لهذه الحرب في نقاط محددة، وأرجو أن تنتبهوا، فهذا الذي سأذكره الآن خلاصة جهد سنتين كاملتين، وأنا أجمع من هنا وهنالك من أرجاء العالم الإسلامي، لا في مصر وحدها، لأقدم لحضراتكم هذه الصورة لهذه الحرب التي تتم، وأقول ذلك بقناعة مطلقة، فهي تتم بصورة منظمة مخططة وعبر مراحل محددة.(148/3)
تضخيم العقل والتهوين من النص
المرحلة الأولى من مراحل هذه الحرب هي: التضخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته، وأنا لا أريد أن أقلل من شأن العقل أبداً، بل إنني أعلنها: إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً بل يباركه ويزكيه ويقويه، لكن انظر إلى التضخيم المستمر والمتعمد للعقل ومكانته، مع التهوين والتحقير والتقليل من شأن النص ومكانته مهما كانت درجة ثبوت النص من الناحية العلمية.
لقد طالبوا صراحة وقالوا: لابد من إعادة النظر في القاعدة الأصولية التي أجمعت عليها الأمة، والتي تقول: (لا اجتهاد مع النص) قالوا: لابد من إعادة النظر في هذه القاعدة، لماذا؟ قالوا: لأنها تشكل حجراً على العقل البشري الذي وصل إلى ما وصل إليه الآن، في عصر الذرة وأتبيس الفضاء دسكفري، واخترع القنبلة النووية، وصنع القنبلة الجرثومية، وغاص في أعماق البحار وانطلق في أجواء الفضاء؛ هذه القاعدة تشكل حجراً على هذا العقل البشري المبدع! إذاً: لا ينبغي أن نذعن لها، وإنما يجوز للعقل أن يجتهد حتى ولو كان النص في القرآن والسنة.
ومحال أن يصل العقل إلى حقائق الإيمان، وأركان وأصول وثوابت الإسلام بدون الوحي أبداً؛ إذ كيف يتعرف العقل على ذات الله؟! كيف يتعرف العقل على أسماء الجلال وصفات الكمال؟! كيف يتعرف العقل على الكتب السابقة وعلى الرسل السابقين؟! كيف يتعرف العقل على أمور الغيب كلها، من أول الموت إلى الجنة أو النار؟! كيف يتعرف العقل على كيفية الصلاة وكيفية الزكاة، وكيفية العمرة، وكيفية الحج، دون أن يرجع إلى الوحي المعصوم، إلى النص القرآني، والنص النبوي على صاحبه الصلاة والسلام؟! هذا مستحيل، ولله در ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للـ عين البصيرة فاتخذه دليلاً فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلاً طرق الهدى مسدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلاً فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فأعلم بأنك ما أردت وصولاً يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً أرجح عقل عرفته الأرض هو عقل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فلقد أخبرنا القرآن الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يدري شيئاً عن الكتاب ولا عن الإيمان إلا بعد أن أوحى إليه الرحيم الرحمن، قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو صاحب أرجح وأطهر وأشرف عقل عرفته الأرض، لا يدري عن الكتاب ولا عن حقائق الإيمان شيئاً، حتى أوحى الله إليه؛ فهل يجرؤ عاقل بعد ذلك أن يزعم أنه يستطيع أن يتعرف على حقائق الإيمان وحقائق الكتاب بعقله فقط دون النقل؟! {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم:89 - 90].
فهذه المرحلة: مرحلة التضخيم للعقل مع التشكيك والتهوين للنص، تجاوزوها وانتقلوا إلى المرحلة الثانية من مراحل هذه الحرب المخططة.(148/4)
التشكيك في حملة النص
المرحلة الثانية: التشكيك في حملة النص، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، فحاولوا أن يقدحوا في عدالة الصحابة، وأن يشوهوا صور الصحابة، لماذا؟ ليهدموا الدين كله؛ لأن الذي نقل إلينا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه، فهدم الصحابة هدم للدين كله.
فهذا شيخ من شيوخ الضلالة يقول في كتاب من كتبه الخبيثة، ولست ملزماً بأن أذكر أسماء هؤلاء، ولا أسماء كتبهم، حتى لا نروج لهذه الأسماء الخبيثة، ولا لهذه الكتب الضالة من حيث لا ندري، أما من اشتهر منهم بالاسم وأصبح أمره معلوماً فسنذكر اسمه إن شاء الله في الخطبة المقبلة بإذن الله، لكن مادام الاسم مطموساً، وما دام الكتاب مجهولاً، فليس من الفقه ولا من الحكمة أن أذكر أسماء هؤلاء الخبثاء ولا كتبهم، حتى لا نروج لهذه الأسماء ولا لهذه الكتب بين هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين، وربما يتأثر ضعيف النفس بهذا فيذهب إلى كتاب من هذه الكتب الضالة فينحرف؛ لأنه لم يؤصل ابتداءً قواعد الإيمان وحقائق أصول البحث العلمي.
يقول شيخ من شيوخ الضلالة في كتاب من كتبه الخبيثة، وهو يريد أن يجرح الصحابة نقلة النصوص، إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي.
ثم يقول هذا الوضيع: ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة، بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات! ثم يقول هذا الخبيث أيضاً: لما كان التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد- هكذا بكل صفاقة وسوء أدب- فقد اضطر محمد أن يبيح لهم أن يمروا في المسجد وهم جنب.
وهكذا تبين كلماتهم الخبيثة فساد عقيدتهم، وخبث نيتهم وطويتهم، ورحم الله إمام دار الهجرة مالك بن أنس إذ يقول: من وجد في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصابه قول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
يعني قول الله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]، قال مالك: فمن وجد في قلبه غيضاً على أحد من أصحاب النبي فقد أصابه قول الله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
ويقول الحافظ أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاعلم بأنه زنديق.
ويقول الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
وما أجمل وأحلى وأرق ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه، والأثر في مسند أحمد بسند حسن؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب أهل الأرض، فاصطفاه الله لرسالته ونبوته، ثم نظر الله في قلوب العباد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب أهل الأرض، فاختارهم وجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه.
وما أجمل ما قاله ابن مسعود أيضاً: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأمة؛ أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
فالذي اختار الصحابة هو رب العالمين، والذي زكاهم وشهد لهم هو سيد المرسلين، وسأكتفي بآية وحديث فقط، قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي! فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
بعد هذا التكريم يأتي هذا الخبيث القزم وأمثاله من الخبثاء الأقزام؛ ليشككوا في الصحابة الذين نقلوا إلينا الدين كله.
على أي حال فلا أجد لهؤلاء الخبثاء الحاقدين مثلاً إلا كمثل ذبابة حقيرة سقطت على نخلة عملاقة، فلما أرادت الذبابة الحقيرة أن تنصرف قالت للنخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة؛ لأني راحلة عنكِ! فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل شعرتُ بكِ حينما سقطت عليَّ لأستعد لكِ وأنت راحلة عني! لا يضر السماء أن تمتد إليها يد شلاء.(148/5)
التشكيك في النص النبوي
ثم تجاوزوا المرحلة الثانية وهي مرحلة التشكيك فيمن نقل إلينا النصوص إلى المرحلة الثالثة؛ وهي: مرحلة التشكيك في النصوص، وقالوا: الإسلام هو القرآن فقط دون السنة! والسنة فيها الضعيف وفيها الموضوع، وينبغي أن نقف أمام القرآن فحسب، تحت ستار أننا نريد أن نصحح أو ننقح السنة، فشككوا في النص النبوي، وقالوا بعدم حجية السنة.
وهأنتم تتابعون منذ سنوات عشرات الكتب التي تطعن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقول بعدم حجية السنة، وبأنه لا يلزمنا إلا أن نأخذ بالقرآن فحسب، وما أجمل ما قاله الإمام الأوزاعي: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، أي: لا يمكن أبداً أن تفهم القرآن بدون سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
وما أقعد ما قاله ابن القيم في كتابه النافع إعلام الموقعين إذ يقول: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تكون السنة موافقة للقرآن من كل وجه، وهذا من باب توارد الأدلة وتضافرها في المسألة الواحدة.
فيأمر القرآن بالصلاة فتأمر السنة بالصلاة، يأمر القرآن بتحقيق التوحيد فتأمر السنة بتحقيق التوحيد، وهذا من باب توارد الأدلة في الباب الواحد.
الوجه الثاني: أن تكون السنة بياناً وتفسيراً لما أجمله القرآن.
وهذا كثير جداً، فتجد كتاب الله يأمر بالصلاة فيقول سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، لكن كيف أصلي؟ كم عدد الصلوات؟ ما أركان الصلاة؟ ما مبطلات الصلاة؟ فيأتي صحاب السنة ليفسر هذا الأمر المجمل ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، ويأمر القرآن بالحج والعمرة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، لكن كيف أحج؟ ما أركان الحج؟ ما مبطلات الحج؟ فيأتي صاحب السنة ليقول: (خذوا عني مناسككم) وهكذا.
الوجه الثالث: أن تكون السنة موجبة لما سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت القرآن عن تحريمه.
والسنة هنا تعد مصدراً مستقلاً من مصادر التشريع، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث المقدام بن معد يكرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه).
يقول المصطفى: (ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة المعاهد)، وفي رواية: (فإنما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل).
ألم يقل الله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].(148/6)
التشكيك في النص القرآني
ثم انتقلوا من مرحلة التشكيك في النص النبوي إلى المرحلة الخطيرة والتي لابد منها، ألا وهي: التشكيك في النص القرآني ذاته! الله أكبر! كيف ذلك؟ هل شكك أحد في نص القرآن؟ نعم، بل إن التشكيك في السنة مرحلة لابد منها للانتقال إلى هذه المرحلة الرابعة والخطيرة، وهي مرحلة التشكيك في النص القرآني، يقول خبيث وضعيف حكم القضاء المصري بردته في السنوات القليلة الماضية؛ يقول في كتاب من كتبه الخبيثة: إن القرآن نص بشري لا قدسية له! ثم يقول: وإن عقيدة القرآن مؤسسة على الأساطير الشائعة؛ أي: على الحكايات والخرافات والخزعبلات التي شاعت في مجتمع الجزيرة العربية! ثم يقول هذا الخبيث المرتد: لا زال الخطاب الديني متمسكاً بوجود القرآن في اللوح المحفوظ! اعتمادا ًعلى فهم حرفي للنص، ولازال متمسكاً بصورة الإله بعرشه وكرسيه وصولجانه ومملكته وجنوده من الملائكة! ولازال متمسكاً بالحرفية ذاتها في الجن، والشياطين، والسجلات التي تدون فيها أعمال العباد، والأخطر من ذلك أنه لازال متمسكاً بصور الثواب والعقاب كعذاب القبر ونعيمه، والمرور على الصراط ومشاهد القيامة، والجنة والنار، إلى آخر تلك التصورات الأسطورية! انتبهوا جيداً؛ لتعرفوا حجم المؤامرة والحرب الكبرى، بهذا يكون هذا الرقيع الخبيث المرتد قد هدم عقيدة القرآن من أول سورة الفاتحة إلى سورة الناس.
وسبقه رائد خبيث من رواد هذا الجيل، ضُخم ولُقب بأعظم الألقاب! وافتتن كثير من الصفوة فضلاً عن العامة به وبكلامه وبأسلوبه، يقول بالحرف: القرآن قابل للنقد باعتباره كتاباً أدبياً، ثم يقول: وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام -عليهما السلام من عندي أنا وليس من عند هذا الخبيث وأمثاله- يقول: وجود إبراهيم وإسماعيل أمر مشكوك فيه، ولو ذكروا في التوراة والإنجيل والقرآن، فلسنا ملزمين بتصديق أي من هذه الكتب! مراحل وخطوات منظمة.(148/7)
التشكيك في ذات الله تعالى
وتجاوزوا هذه المرحلة، الله أكبر! أتريد أن تذكر شيئاً بعد ذلك؟ لقد شككوا في النص النبوي وفي النص القرآني، فماذا تريد أن تقول بعد ذلك من خطوات هذه الحرب؟! وصلوا في المرحلة الأخيرة التي نعيشها إلى التشكيك في ذات الله جل وعلا! إي وربي لقد شرقتُ وغربتُ في العالم الإسلامي كله لأقرأ، لأستخرج عفن أولئك الذين يشكلون الآن عقلية أبناء الأمة! أولئك الذين يديرون دفة التوجيه والتربية الآن في الأمة! فهذا صنم حقير من سوريا ولا زالت كتبه ودواوينه تطبع وتنشر في المعارض الدولية في كل مكان، يقول هذا الصنم: لا أختار الله ولا أختار الشيطان كلاهما جدار يغلق لي عيني فهل أبدل الجدار بالجدار؟! ويقول هذا الخبيث أيضاً: الله في التصور الإسلامي التقليدي نقطة ثابتة متعالية منفصلة عن الإنسان، لكن التصوف على مذهب الحلاج قد أذاب ثبات الألوهية، وأزال الحاجز بين الألوهية وبين الإنسان، وبهذا المعنى يكون الحلاج قد قتل الله وأعطى للإنسان طاقاته! ويقول هذا الخبيث أيضاً: يا أرضنا يا زوجة الإله والطغاة! ويقول هذا الخبيث أيضاً: نمضي ولا نصغي لذلك الإله فلقد تقنا إلى رب جديد سواه.
سبحان الحليم الصبور على كل شيطان رجيم كفور، سبحانك ربي ما أحلمك، {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:89 - 95].
سيقف الجميع بين يدي الملك، ليعلم هؤلاء الخبثاء عظمة رب الأرض والسماء، فوالله ثم والله لولا حلم الله وستر الله لخسف بنا الأرض.
وهذا صنم خبيث خطير من العراق يقول: الله في مدينتي يبيعه اليهود! والله لو قال ذلك على صدام المجرم لقتل بالرصاص في ميدان عام، أما أن يسب الله فلا يتحرك أحد، ولا تحترق القلوب؛ يقول هذا الصنم: الله في مدينتي يبيعه اليهود الله في مدينتي شريد طريد.
ويقول هذا الصنم: الله مات وعادت الأنصاب.
ويقول هذا الخبيث أيضاً: يسقط كل شيء الشمس والقمر والنجوم والجبال والوديان والأنهار والشيطان والإنسان والله وهذا صنم آخر من فلسطين الذبيحة يقول لعشيقته: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير وهذا صنم آخر من فلسطين يقول: آخر ديك صاح قد ذبحناه لم يبق سوى الله يغدو كغزال أخضر تتبعه كل كلاب الصيد سنطارده سنصيد الله وهذا صنم آخر من اليمن -لتعلموا أن الأمر عام في كل أرجاء الأمة- يقول هذا الصنم الخبيث: صار الله رماداً صمتاً رعباً في كف الجلادين صار الله حقلاً ينبت مسابح وعمائم.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما قال الكافرون والسفهاء منا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا ولا تؤاخذنا بما فعل وقال السفهاء الكافرون منا، يا أرحم الراحمين، نشهد لك بالجلال، ونقر لك بالعظمة والكمال، نشهد لك بالجلال، نشهد لك بالجلال، ونقر لك بالعظمة والكمال، ونردد ما علمتناه، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].
الله اسم لصاحبه كل جمال.
الله اسم لصاحبه كل كمال.
الله اسم لصاحبه كل جلال.
هذا الكم الهائل من النقولات الكفرية، إنما هو لرموز الثقافة والتنوير في العالم الإسلامي كله، ولا أستطيع أن أستقصي كل أقولهم وفضائحهم، بل ولا أستطيع أيضاً أن أستقصي نقولات تلاميذهم من شباب صاعد تربى على هذه الموائد الكفرية العفنة.(148/8)
المخرج من هذه الفتن
ثم بعد ذلك اتهموا شبابنا بالتطرف والإرهاب؟! والسؤال الآن: ما الحل؟ ما المخرج؟ وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء: ما المخرج من هذه الفتن؟(148/9)
إحياء حد الردة وتطبيقه على المرتدين
تحكيم الشريعة الإسلامية وإقامة حد الردة على هؤلاء المرتدين الخبثاء، إن القوانين الوضعية كانت أخطر سبب من أسباب انتشار هذه الردة؛ لأن القوانين الوضعية في الوقت الذي تقيم فيه أشد العقوبات على من خرج على القانون، فإنها لا تذكر عقوبة على من خرج عن الإسلام.
قد تصل العقوبة في القانون الوضعي إلى حد الإعدام لمن اتهم بتهمة الخيانة العظمى، والمراد بها هنا خيانة الوطن، في الوقت الذي لا نرى فيه عقوبة تذكر لمن خرج على الإسلام، بدعوى أن الإنسان حر في اختيار عقيدته.
نعم لا أخالفك أن الإنسان حر في اختيار عقيدته إن كان يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً؛ لكن بشرط أن لا يحال بيننا وبينه في أن نبلغه دعوة الله، وأن نقيم عليه حجة الله، فإن بلغناه الدين وأقمنا عليه الحجة ولم يحل بيننا وبين ذلك أحد، فله بعد ذلك أن يختار من الدين ما يشاء، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]، لكننا أمام مسلم دخل الإسلام مختاراً طائعاً، وارتد عن الإسلام بصورة علنية تعبر عن استخفافه بعقيدة الأمة، هذا خروج يقوض بنيان المجتمع الإسلامي من قواعده، فلو ارتد هذا وارتد ذاك وارتد الثالث وارتد العاشر، لفتح الباب على مصراعيه لمرضى القلوب من المنافقين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان للتشكيك في عقيدة الإسلام ذاتها.
فهذا أمر خطير، ومن أجل ذلك فإن الشريعة العصماء لم تتساهل أبداً مع هذا الصنف الخبيث من المرتدين، بل أمرت أن يمهل المرتد ثلاثة أيام، فإن أقيمت الحجة عليه وتاب إلى الله سقط الحكم، وإلا فيجب على ولي الأمر المسلم أو من ينوب عنه أن يقيم فيه حد الله بالقتل، للحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وفي رواية البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه).
وهذا خطاب للمسئولين، وأنا أتضرع إلى الله في هذه اللحظة أن يردهم إلى الشريعة وإلى الحق رداً جميلاً.(148/10)
اهتمام المسلم بطلب العلم الشرعي والعمل به
قد يقول شاب من شبابنا وطلابنا: هذا للمسئولين؛ لكن ما دوري أنا؟ ماذا أصنع أنا في هذه الفتنة السوداء؟
الجواب
دورك: طلب العلم الشرعي والعمل به، احفظ مني هذا، فلا مخرج لك -ورب الكعبة- من هذه الفتن الحالكة! فتن الشبهات التي لا أعرف من خلال قراءتي واطلاعاتي زماناً قد كثرت فيه فتنة الشبهات كهذا الزمان أبداً؛ لا مخرج لك من هذه الفتن الحالكة إلا بطلب العلم الشرعي والعمل به، مهما كان منصبك، ومهما كانت مسئوليتك، فلابد أن تفرغ من وقتك ومن جهدك لتتعلم عن الله، وعن رسول الله.
فبالعلم الشرعي ستتعرف على الحلال والحرام، وعلى الحق والباطل، وعلى السنة والبدعة، وبالعلم الشرعي ستتعرف على عقيدتك بشمولها وصفائها وكمالها، بالعلم الشرعي ستتعرف على أسماء الجلال وصفات الكمال، بالعلم الشرعي ستحقق الإيمان بالكبير المتعال، بالعلم الشرعي ستتعرف على فتن الشهوات والشبهات، بالعلم الشرعي ستتعرف على معنى الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وعلى البراء من الشرك والمشركين، بالعلم الشرعي ستتعرف على حجم المؤامرة الكبرى التي تحاك للأمة وللإسلام في الليل والنهار.
لا عذر لك -ورب الكعبة- إن تقاعست عن طلب العلم الشرعي، فرغ من وقتك، فرغ من جهدك لطلب العلم الشرعي، اركب، سافر، ارحل للجلوس عند العلماء المعروفين بالعلم الشرعي؛ لتسمع منهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً -أو رؤساء جهالاً- فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
واحفظ هذا: من سلك طريقاً بغير دليل ضل، إن ذهبت إلى بلد جديد وأنت لا تعرف فيه شيئاً، فإن لم تسأل دليلاً ستضل، من سلك طريقاً بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير الأصول زل، والدليل المنير لك في الظلماء، والأصل العاصم لك من الفتن والأهواء، هو العلم والعمل، ولا تطلب العلم لمجرد الثقافة الذهنية، وإنما لتحول هذا العلم في بيتك ووظيفتك ووسيلة المواصلات والشارع إلى منهج الحياة، إلى خلق يتألق سمواً وعظمة وروعة وجلالاً؛ لأنني أدين لله بأن الصحوة الإسلامية لازالت في فجوة كبيرة بين العلم النظري والعمل.
نتكلم كثيراً لكن أين أخلاق هذا العلم؟ نحن الآن -ورب الكعبة- لا نجيد إلا الكلام، هل ورثنا العلم خشية الله؟ هل ورثنا العلم الأدب؟ هل ورثنا العلم بر الوالدين؟ هل ورثنا العلم التقوى؟ هل ورثنا العلم حسن الخلق مع إخواننا، وحسن الأدب والتعامل مع أحبابنا؟ هل ورثنا العلم قيام الليل؟ هل ورثنا العلم الأمانة في العمل؟ هل ورثنا العلم الحرص على وقت العمل؟ هل ورثنا العلم الإحسان إلى الجيران؟ أين أخلاق العلم؟! يقول المصطفى كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والترمذي بسند صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب من حديث كعب بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، فهو في النار).(148/11)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا ينبغي أن تنظر إلى هذا الكفر البواح، وتهز كتفيك وتمضي، وكأن الأمر لا يعنيك.
مر بالمعروف بمعروف، وأنه عن المنكر بغير منكر، نكرر ونؤكد (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
إن عجزت أن تغير هذا المنكر بيدك فبلسانك، فإذا قرأت قولاً كفرياً كهذا، فما عليك إلا أن تتفاعل، وأن يحترق قلبك؛ ليترجم أصبعك أو قلمك هذا الاحتراق القلبي في كلمات مهذبة صادقة، وعليك أن ترسل بها إلى هذا الكاتب أو إلى هذا المؤلف أو إلى مسئول من المسئولين.
ونقول: عبر عن غضبتك لله بأدب، لا نقول: بسب، ولكن بأدب جم، المهم أن يشعر هؤلاء أن الأمة في مجملها تريد الله عز وجل ورسوله والدار الآخرة، وأنها مستعدة أن تبذل دمها لتخدم بهذا الدم دين الله ودين رسول الله، عبر عن هذا، غير ولو بلسانك، فإن عجزت فبقلبك! حتى حرقة القلب لا نجدها في كثير من القلوب! ماتت القلوب -ورب الكعبة- إلا من رحم علام الغيوب.(148/12)
الدعوة إلى الله
رابعاً: الدعوة إلى الله عز وجل وتبصير الناس بالحق وفضح الباطل وأهله، واحفظوا هذه العبارة: والله ما انتشر الباطل وأهله إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله، يا شباب! ستسألون عن هذا بين يدي الله جل وعلا.
إن المرحلة التي كنا نعتقد فيها أننا نحكم على الناس ونحن في دروس علمنا ومساجدنا بالتكفير والتفسيق والتبديع، لا ينبغي أبداً أن نظل عليها، وإنما يجب علينا أن نتحرك من مساجدنا ومن دروس علمنا لننتشر بين الناس، بين أهلنا وآبائنا وأحبابنا وإخواننا، لنرفع عنهم الجهل بدين الله، ولنقوي إيمانهم بالله، وحبهم لرسول الله، وحبهم لدين الله جل وعلا بحكمة ورحمة وأدب وتواضع.
دعك من الحكم على الناس دون أن تتحرك، لن يغير حكمك من الواقع شيئاً على الإطلاق، فأهل الباطل وأهل الكفر يتحركون لكفرهم وباطلهم، في الوقت الذي تقاعس فيه أهل الحق عن حقهم الذي من أجله خلقت السماوات والأرض والجنة والنار.
فهيا تحرك بكل رجولة وبكل طاقة للدعوة إلى الله وإلى دين الله، واملأ قلوب الناس بالإيمان وبحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتنكسر كل أمواج هذه الردة الجديدة على صخور الإيمان في قلوب عباد الله المؤمنين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(148/13)
وستنكسر أمواج الردة على صخرة الإيمان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فستنكسر كل أمواج الردة على صخرة الإيمان، وهذا يلزمنا أن نقوي الإيمان في قلوبنا؛ لأن الإيمان يضعف ويقوى، وهذا أصل من أصول أهل السنة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، فالإيمان يقوى بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات.
أيها الشباب وأيها المسلمون أن نتعهد الإيمان في قلوبنا، يقول حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك بسند حسنه الألباني من حديث عبد الله بن عمر: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، فجدد الإيمان في قلبك، وقوة في قلبك بأعمال الطاعات.
فالإيمان هو حصن الأمان، وهو الصخرة العملاقة الثابتة التي ستتحطم وتتكسر عليها كل أمواج الردة، وكل رماح وسهام الفتنة، فقوّ الإيمان في قلبك، احرص على مجالس العلم، احرص على صحبة الأخيار الأطهار، ابتعد قدر الطاقة عن فتن الشبهات والشهوات، لا تقرأ لهؤلاء الخبثاء إلا إن كنت صاحب عقيدة راسخة، وكنت صاحب فهم ثاقب، وكنت قد أصلت الموازين العلمية التي ستتعرف من خلالها على الغث والثمين، وعلى الحق والباطل، قوّ الإيمان في قلبك، فالإيمان هو حصن الأمان، وهو قائد الهدى.(148/14)
فشل مشروع الردة وزعزعة الثوابت
وأبشركم بكل ثقة أن هذا المشروع النهضوي الحديث الخبيث قد أعلن فشله، ولم ينجح رواد الجيل ممن يسمون بالنخبة في إقناع العقل الإسلامي بهذا العفن الفكري؛ لأن الناس قد فطروا على حب الله ورسوله.
وأعلنها بكل ثقة وصراحة: لقد شرقت وغربت في العالم كله، فما وجدت أنقى ولا أخصب من أرض مصر لدعوة الله عز وجل، أنا لا أجهل الواقع الذي ستحتج عليَّ به، ومع ذلك أعلنها: الناس في بلدنا فطروا على حب الله ورسوله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة)، قد ترى المسلم من إخواننا هنا على معصية، لكن ذكره بالله، ذكره برسول الله بأدب وتواضع وانظر إلى النتيجة.
فإنك إن ذكرته بأدب وتواضع فسترى خيراً كثراً.
فلقد فشل هؤلاء، بل إنهم يرقصون رقصة الموت، قال أحدهم وهو يعبر عن هذه الغضبة: كنا نتصور بعد هذه السنوات الماضية أن نخرج جيلاً لا يعرف شيئاً عن الإسلام، فرأينا هذه الجحافل من فتيان في ريعان الشباب وفتيات في عمر الورود! حتى قال خبيث آخر حينما رأى هذا المشهد وهذا الجمع الغفير في هذا المسجد، ورأى أكثرهم على الاستقامة، قال: كنت أظن أن المستقيمين قد انتهوا وإذا بهم كثر! فكانوا يتصورون أن هذا الإفراز الثقافي العفن سيخرج جيلاً لا يعرف شيئاً عن الإسلام، ولا يعرف شيئاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإذ بعلماء الصحوة ودعاة الصحوة وشباب الصحوة يقطعون الطريق على هؤلاء المزورين المضللين، ويبينون خططهم الخبيثة وألاعيبهم الماكرة، وصدق ربي إذ يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورق افجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بإتباعك أسمقا اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة التوحيد والموحدين.
لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما قال وفعل السفهاء منا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا غياث المستغيثين، ويا مجيب المضطرين، ويا كاشف هم المهمومين، يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا أحد يا فرد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد، ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، اللهم ارفع الفتن عن مصر ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين والسنة والمتبعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم ارحم جميع موتى المسلمين، اللهم أنزل يا ربي برحمتك على قبورهم الضياء والنور، والفسحة والسرور، والسعة والحبور، اللهم انقلهم برحمتك من مراتع الدود إلى جنات الخلود، برحمتك يا غفور يا ودود.
اللهم اكتب لأبنائنا النجاح والتوفيق، اللهم يسر لهم الأسباب، وافتح لهم الأبواب، وذلل لهم الصعاب، برحمتك يا كريم يا وهاب.
اللهم استر نساءنا، وأصلح شبابنا واهد أولادنا، واستر بناتنا، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(148/15)
وجاءت سكرة الموت
الموت هو الحقيقة المرة التي لا يختلف فيها اثنان، وهو الحقيقة التي يخضع لها كل ضعيف وجبار.
وليس الموت هو النهاية، ولو كان كذلك لكان راحة لكل حي، ولكنا إذا متنا بعثنا، وإذا بعثنا حوسبنا عن جميع أعمالنا.
فعلى الكيس الفطن أن يعمل لما بعد الموت، فيعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً.(149/1)
القرآن علاج لغفلة القلوب
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، هو جبار السماوات والأرض، فلا رَادَّ لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره.
وأشهد أن حبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وَصَلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله المحبين للعلم والعلماء، حياكم الله جميعاً وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن ينظر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
أحبائي يا مِلْءَ الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني والله شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما أرادوا إلا خطير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق أيها الأحبة في الله! تلبية لرغبة الكثيرين من أحبابي وإخواني فإننا الليلة على موعد مع محاضرة في الرقائق، والحق أقول: إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات وغفل كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ لذا فإنني أرى -مع الإخوة الذين أَلَحوُّاْ علي أن يكون لقاؤنا الليلة في الرقائق- أن القلوب تصدأ، وأن هذه القلوب تحتاج من آن إلى آخر إلى من يذكرها بعلام الغيوب، فتعالوا بنا الليلة؛ لنعيش مع كلام الحق، مع قول الصدق، مع أصل العز والشرف، مع نبع الكرامة والهدى، مع القرآن الكريم، مع القرآن الذي ضيعته الأمة فضاعت، مع القرآن الذي هجرته الأمة فأذلها الله باليهود إخوان القردة والخنازير، مع القرآن الذي ظنت الأمة أنه ما أنزل إلا ليكتب على الجدران، أو ليوضع في علب القطيفة الفخمة الضخمة، ويهدى إلى سادة القوم وَعِلْيَةِ الناس في المناسبات الرسمية والوطنية وغيرها.
تعالوا لنعيش الليلة مع آيات من القرآن الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9 - 10].(149/2)
تفسير قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق)
سنعيش الليلة مع آيات من كتاب الله عز وجل، فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:20 - 22].
(وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت.
(وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
(وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
(وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تجري، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! اعلم أن: كل باك سيبكى وكل ناع سينعى كل مذكور سيفنى كل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى (وجاءت سكرة الموت بالحق) إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، ورأس كل طاغوت: البقاء لله الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة الكبرى التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة الكبرى التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة التي أمرنا حبيبنا ونبينا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم أن نذكرها ولا ننساها، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن من حديث فاروق الأمة عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات)، وفي لفظ: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات، قيل: وما هاذم اللذات يا رسول الله؟! قال: الموت)، إنه الموت أيها الأحباب!(149/3)
الدنيا زائلة
يا من عشت للدنيا! يا من عشت للكرسي الزائل! يا من عشت للمنصب الفاني! يا من ظننت أن كرسيك لا يزول! ويا من ظننت أن منصبك لا يفنى! أين الحبيب رسول الله؟! أين سيد الخلق؟! أين حبيب الحق؟! أين من قال له ربه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]؟!.
أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حيَّاً وباقياً ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا كم ستعيش؟ إن عمرك في حساب الزمن لحظات، وما هي النتيجة؟ وما هي النهاية؟ يا أيها الإنسان! يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
ويفتح سِجِلُّكَ يا مسكين! ويفتح ملفك يا غافل! وإذا به {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، سمع الأذان وسمع النداء يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، وهو ما زال جالساً على المقهى في معصية الله جل وعلا، لم يُجِبْ نداء الحق جل وعلا.
تأتي للصلاة في فتور كأنك قد دعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي يوماً بين خلقٍ أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاه وإن كنت المجالس يوماً أنسا قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معـ ك أنساً تناجيه بحب أو صفاء يا غافل! يا لاهي! أيها الساهي! يا من نسيت حقيقة الدنيا ونسيت الآخرة! يا من تركت الصلاة! يا من ضيعت حقوق الله! يا من عذبت الموحدين لله! يا من بارزت رسول الله بالمعصية! يا من عق أباه! يا من عق أمه! يا من قطع رحمه! يا من ضيع حقوق الله! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب(149/4)
(كلا إذا بلغت التراقي)
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] أي: إذا بلغت الروح الترقوة {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من الذي سيرقيه؟! من الذي سيبذل له الرقية؟! من الذي سيبذل له العلاج؟! فهو من هو؟! هو الملك هو الحاكم هو الوزير هو الأمير، صاحب الجاه صاحب المنصب صاحب السلطان، احضروا الأطباء، احضروا الطائرة الخاصة؛ لتنقله على الفور إلى أكبر المستشفيات وأكبر الأطباء، ولكن إذا اقتربت ساعة الصفر وانتهى الأجل لا تستطيع قوة على ظهر الأرض، ولا يستطيع أهل الأرض ولو تحولوا جميعاً إلى أطباء أن يحولوا بينك وبين ما أراد رب الأرض والسماء، ولو كنتم في بروج مشيدة، انظر إليه: الأطباء من حول رأسه وقد حان الاحتضار، فاصفر وجهه وشحب لونه وبردت أطرافه وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد فيحس أن الشفة كالجبل لا يتزحزح! إلا لمن يسر الله له النطق بكلمة التوحيد، فينظر إلى الأطباء من حول رأسه، وينظر إلى زوجته، وإلى أولاده وإلى أحبابه وإلى إخوانه نظرة استعطاف، نظرة أمل، نظرة تمنٍّ، فهو يقول لهم بلسان الحال، بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا أولادي! أنا أخوكم، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، وأنا الذي نَميْتُ التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
سبحانك يا من ذَلَلْتَ بالموت رقاب الجبابرة سبحانك! يا من ذَلَلْتَ بالموت رقاب الأكاسرة، سبحانك! يا من ذللت بالموت رقاب القياصرة! فنقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء الغرف والمهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهَوَامِّ والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانك!(149/5)
تفسير قوله تعالى: (وقيل من راق)
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من يرقيه؟! من يكتب له الرقية؟ من يعطيه العلاج؟! من يحول بينه وبين الموت؟! لا أحد، (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ) وقيل فيها تفسير آخر: من يرتقي بروحه بعدما فارقت جسده إلى الله جل وعلا؟! (من راق) من الذي سيرتقي بها من الملائكة؟ {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30].
سَفرِيْ بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين جل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطِّب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون وقام من كان حِبَّ الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء يُنْظِفُنِي وأسكب الماء من فوقي وَغَسَّلَنِي غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفنِ وَحَمَّلُوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مَهَلٍ وَقَدَّمُوْا واحداً منهم يُلَحِّدُنِي فَكَشَّفَ الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه التُّرْب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي اِلمنَنِ وتقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي حسن الثواب من الرحمن ذي المنن وقال آخر: أيامن يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في الزهو وتنقض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سَمْ هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رَمْ فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيء مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم(149/6)
الموت حق
قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، فالموت حق أيها الأحبة! ولو كان الأمر ينتهي عند الموت لاسترحنا كثيراً، ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، وفي الحساب سؤال، والسؤال بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض.
إن الموت حقيقة لا تنكر، ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره فقال الرجل: عمري ستون سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل.
فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إلى الله راجع، فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فَلْيُعِدَّ للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة.
قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي، يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى قبره، هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري فسوف يُحْمَلُ إلي خراجك هاهنا إن شاء الله، حمل ليرى قبره فنظر هارون إلى قبره وبكى، ثم التفت إلى أحبابه من حوله، وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، أين المال؟! أين الدولارات؟! أين السيارات؟! أين العمارات؟! أين الأراضي؟! أين السلطان؟! أين الجاه؟! أين الوزارة؟! أين الإمارة؟! أين الجند؟! أين الحرس؟! أين الكرسي الزائل؟! أين المنصب الفاني؟! {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، أين الفراعنة؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الظالمون؟! أين الطواغيت؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وقال آخر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن فيه عليـ ـك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل من الباقي؟ إنه الحي الذي لا يموت، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
فيا أيها الحبيب! يا أيها الكريم! هل ذكرت نفسك بهذه الحقيقة؟ هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليوم سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ من منا كتب وصيته ووضعها تحت رأسه في كل ليلة؟! يا من شغلك طول الأمل! أنسيت يوماً سترحل فيه عن دنياك؛ لتقف بين يدي مولاك، وليس الموت هو نهاية المطاف، ولكنني أقول: إننا سنبعث؛ لنسأل بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبيرة التي قال الله عز وجل عنها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، سينادى عليك باسمك واسم أبيك: أين فلان بن فلان؟ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20]، إنه يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
إنه يوم الوعيد، {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، عن عثمان بن عفان -كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن كثير - أنه قال في خطبته: سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه.
ستساق إلى الله جل وعلا وسينادى عليك يا مسكين! ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان! تفكر الليلة، لو عدت إلى بيتك ووجدت شرطياً يقدم لك رسالة فيها: إنك مطلوب غداً؛ للوقوف أمام قاضٍ من قضاة الدنيا الحقراء الفقراء الضعفاء الأذلاء، أتحداك أن تنام الليلة، ولكن ستفكر كثيراً، فهل فكرت في موقف ستسأل فيه من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟ أين الإمارة والسلطان؟! أين الجاه؟! أين الكراسي؟! أين الجند؟! تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مَهَلٍِ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا(149/7)
(اتقوا النار ولو بشق تمرة)
جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أَشْأَم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
اتقوا النار، فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21].
اللهم حَرِّمْ جلودنا على النار، ووجوهنا على النار، وأبشارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فَنَجِّنَا، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار برحمة منك يا عزيز يا غفار! فتسأل بين يدي الله، ويكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، انظر أيها الموحد! انظر أيها المؤمن! واسجد لربك شكراً أنك من أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا اسجد لربك شكراً يا من وحدت الله! اسمع ماذا قال إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة، حتى يضع رب العزة عليه كَنَفَهُ)، والكنف لغة -لا تأويلاً للصفة-: هو الستر والرحمة، ونحن لسنا ممن يؤول صفات الحق جل وعلا، وإنما نؤمن بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها ولا لمعانيها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا جل عن الشبيه وعن النظير وعن المثيل، لا ند له، ولا كفؤ له، ولا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له، ولا والد له، ولا ولد له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
(يُدْنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كَنَفَهُ ويقرره بذنوبه، يقول له ربه جل وعلا: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف -يقولها مرتين- فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينادى عليهم بهذا النداء: (ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، من الذي يقال له هذا؟ إنه الموحد المؤمن.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان، وأن يختم لي ولكم عند الموت بالتوحيد.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ورضواناً، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين!(149/8)
السؤال بين يدي الله
يوم القيامة ينادى عليك لِتُسْأَلَ بين يدي الله جل وعلا: أين فلان بن فلان؟ أَقْبِلْ للعرض على الله جل وعلا، فتجد نفسك واقفاً بين يدي الحق فتعطى صحيفتك، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مصيبة ومعصية أسررتها، فكم من معصية قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! وكم من مصيبة كنت قد أخفيتها ذكرك الله إياها؟! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كنت من المؤمنين أعطاك الله كتابك باليمين، وأنارت أعضاؤك وأشرق وجهك، وانطلق النور من بين يديك وعن يمينك، كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
أما أهل النفاق -أهل الظلمات- فينادون أهل الأنوار كما قال الله حاكياً عن المنافقين والمنافقات قولهم للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:13 - 14] ألم نحضر معكم الجماعات والجمعات؟ {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
ينطلق وكتابه بيمينه بعدما سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، ينطلق في أرض المحشر مع إخوانه وأحبابه وأترابه ومن هم على شاكلته والنور يشرق من وجهه وأعضائه! كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يَتَّقِدُ مرة ويطفأُ مرة).
والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وقال الإمام الذهبي: هو صحيح على شرط البخاري، ينطلق والنور يشرق من وجهه وأعضائه وكتابه بيمينه، والله لقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، ينطلق إلى إخوانه وأحبابه من الموحدين في أرض المحشر ويقول لهم: شاركوني السعادة! شاركوني الفرحة! شاركوني البهجة! اقرءوا معي كتابي! انظروا: هذا كتابي بيميني! اقرءوا: هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذا صيامي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا عملي، اقرءوا معي: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:19 - 33].
هل أعددت لهذا اليوم جواباً أيها الحبيب! تعال إلى فلاح الدنيا والآخرة، أيها الشاب! أيها الوالد الكريم! أيها الابن الحبيب! أيها الأخ الفاضل! أيتها الأخت الفاضلة! هَيَّا جميعاً لِنَتُبْ إلى الله جل وعلا في هذه الليلة الكريمة المباركة التي دمعت فيها العيون، وخشعت فيها القلوب لعلام الغيوب، تعالوا بنا لنجدد التوبة والأوبة والعودة، ولنكن على يقين جازم بأن الله جل وعلا لا يغلق باب التوبة في وجه أحد طرقه في ليل أو نهار: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
يا من أسرفت على نفسك في المعاصي! أَقْبِلْ إلى الله جل وعلا، ولا يَصُدَّنَّكَ الشيطان عن الله، واعلم بأن الله كريم، واعلم بأن الله رحيم، واعلم بأن الله سيغفر لك أي ذنب ما دمت موحداً لله جل وعلا.
وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عَنَانَ السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
وأختم بقول الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35].
هل عرفت المزيد أيها الحبيب! إن نعيم الجنة ليس في لبنها ولا في خمرها ولا في قصورها ولا في ذهبها، ولا في حريرها، ولا في حورها، ولكن نعيم الجنة في رؤية وجه الله جل جلاله، وهذا هو المزيد، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالجنة، وبالنظر إلى وجهه الكريم، وأن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(149/9)
حجاب المرأة المسلمة
دين الإسلام دين متكامل، ومن مقاصده: الحفاظ على شرف الإنسان وعرضه؛ ولذلك فإن الإسلام قد ضبط أمر الشهوة والغريزة الجنسية -التي أودعها الله في الإنسان- بالضوابط الشرعية التي تراعي فطرة الإنسان، وتراعي أعراض الآخرين في الوقت ذاته، ومن هنا حرم الله التبرج؛ لأنه يثير الغرائز، وربما أوقع في الفاحشة، وأوجب الحجاب على المرأة صيانة لها، وحفاظاً عليها، وسداً لكل وسيلة تؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، وبهذا ضمن الإسلام صيانة الأعراض وطهارة المجتمع، فعلى المسلمات الالتزام بالحجاب بشروطه الشرعية؛ لما في ذلك من المصلحة العظيمة لهن وللمجتمع.(150/1)
الحجاب لغة وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد ألا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30].
وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة عن هذه الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع الدرس الخامس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام العظيم، حمايةً لأفراده من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله، ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي عن الضمان الثاني، ألا وهو تحريم التبرج وفرض الحجاب، وقلنا: إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، واللحم العاري، والزينة المتبرجة، والرائحة المؤثرة، والنظرة المعبرة، والمشية المتكسرة، كلها من الأشياء التي تثير الشهوة، وتؤجج نار الفتنة والهوى.
ومن هنا حرم الإسلام التبرج، وفرض الحجاب على المرأة المسلمة.
ينبغي أن تعلم المسلمة وأن يعلم الناس جميعاً أن الإسلام ما فرض هذه الضوابط على المرأة المسلمة في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال إلا لصيانتها وحمايتها من عبث العابثين، ومجون الماجنين؛ لتكون المرأة المسلمة كالدرة المصونة، وكاللؤلؤة المكنونة التي لا تصل إليها الأيدي الآثمة.
تكلمنا في اللقاء الماضي عن التبرج وعن مظاهره وعن خطورته، ولقاؤنا اليوم عن الشق الثاني من الضمان الثاني، ألا وهو فرض الحجاب على المرأة المسلمة.
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في أربعة عناصر: أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً.
ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب.
ثالثاً: شروط الحجاب الشرعي.
رابعاً: شبهات، والرد عليها.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والإخلاص والتوفيق.
أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً: الحجاب: جمع حجب، ومعناه لغةً: يدور بين الستر والمنع؛ لذا يقال للستر الذي يحول بين الشيئين: حجاب؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما، ولذا يقال لحجاب المرأة: حجاب، وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يستر المرأة عن الرؤية، ويمنع الرجال أن ينظروا إلى المرأة.(150/2)
لفظة الحجاب في القرآن الكريم
وردت لفظة الحجاب في القرآن في ثمانية مواضع، وكلها تدور حول معنى الستر وحول معنى المنع: قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46] أي: بينهما سور أو حاجز يمنع الرؤية.
وقال الله جل وعلا: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: حتى منعت هذه الخيول من الرؤية وأصبحت لا ترى.
وقال الله جل وعلا: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابَاً} [مريم:17] أي: استترت مريم عليها السلام بستار عن أعين الرجال.
وقال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أي: من وراء ساتر أو حاجز أو حائل يمنع من رؤيتهن.
إذاً: فالحجاب يدور بين معنى الستر والمنع، فيُفهم المعنى الشرعي من هذه المعاني اللغوية لحجاب المرأة المسلمة؛ لأنه الذي يحجب المرأة المسلمة عن نظر الرجال الأجانب، وله صور متعددة: صورة الأبدان، وصورة الوجوه.
أي: حجاب الأبدان، وحجاب الوجوه.
للمرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب ببيتها بجدران البيت بالستائر السميكة في داخل البيت.
وللمرأة إذا خرجت أن تحتجب بثيابها، من رأسها إلى قدمها إذا ما خرجت من بيتها لحاجة ضرورية، لحاجة دينية أو لحاجة دنيوية، وهذا جائز في حقها، ولا إثم عليها لكن بشرط لبس الحجاب الشرعي مع تغطية الوجه بالخمار أو النقاب، وهذا هو ما يسميه علماؤنا بحجاب الوجوه، وهو الخمار.(150/3)
معنى الخمار
يوجد خلط بين هذه المعاني عند كثير من الناس، فالخمار عندنا يُراد به الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها، ويظهر منها الوجه، وهذا خطأ لغوي، وهذا أيضاً يطلق على الحجاب عندنا، وقد ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، قالوا: الحجاب هو: الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها ويظهر منها الوجه، وهذا خطأ لغوي، فانتبهوا معي لنتعرف على معنى الخمار، وعلى معنى النقاب حتى نضع النقط على الحروف من بداية هذا اللقاء.
الخمار هو: ما تخمر به المرأة وجهها.
من أين هذا الكلام؟! من كتاب الله جل وعلا، ومن أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدجى عليهم رحمة الله.
يقول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] قال الحافظ ابن حجر إمام أهل الحديث رحمه الله تعالى في الفتح: في تعريف الخمر: ومنه خمار المرأة، وهو الذي تخمِّر به المرأة وجهها.
أي: تغطي به المرأة وجهها.
وأعظم دليل على صحة هذا الكلام: ما ورد في صحيح البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها؛ وهل تريدون دليلاً أوضح من هذا؟! هل تريدون دليلاً أوضح من دليلٍ ورد في حديثٍ رواه البخاري ومسلم من حديث أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟! أتدرون ماذا قالت أمنا رضي الله عنها في حادثة الإفك؟! ذكرت السيدة عائشة أنها لما تخلفت عن الجيش ونامت جاء صفوان فوقعت عينه عليها، وكان صفوان بن المعطل يعرف السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه كان قد رآها مراراً قبل نزول آية الحجاب، فلما رآها صفوان وعرفها استرجع، أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رأى زوج نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم تخلفت عن الجيش فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول عائشة: (فلما رآني عرفني، وكان يعرفني قبل الحجاب، فلما رآني استرجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- تقول عائشة رضي الله عنها: فاستيقظت باسترجاعه -أي: صحت سيدتنا عائشة على قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون- اسمع ماذا قالت أمنا رضي الله عنها! قالت: فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي) (فخمرت وجهي بجلبابي) هذا هو معنى الخمار في حديث في الصحيحين، فماذا تريدون بعد ذلك من أدلة؟ قالت: (فخمرت وجهي بجلبابي.
وفي رواية: فسترت وجهي بجلبابي).
ويؤكد ذلك أيضاً حديث فاطمة بنت المنذر رضي الله عنها تقول: كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.
وحديثها رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه الحاكم في المستدرك وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي.
إذاً: الخمار هو: ما تخمر به المرأة وجهها، أي: ما تغطي به المرأة وجهها.(150/4)
معنى النقاب
النقاب هو: حجاب من وجوهٍ أيضاً، وسمي النقاب بالنقاب لوجود نقبين بمحاذاة العينين، لتتعرف المرأة من خلال هذين النقبين على الطريق.
ولكن ينبغي أن أنبه هنا إلى أمر خطير، ألا وهو أن بعض المسلمات اللائي يلبسن النقاب قد حولنه هو الآخر إلى مصدر فتنة وإغواء وإغراء! كيف ذلك؟ وسعت المرأة فتحة العين على وجهها فظهر من خلال هذه الفتحة حاجبها، وظهر جزء كبير من وجنتيها، وهذه هي الفتنة بعينها، وليس معنى أن كثيراً من النساء قد حولن النقاب إلى مصدر فتنة وإغراء وإغواء أن نقول بعدم شرعية النقاب، فليس معنى أن يختل المسلمون في تطبيق أمر أو في تطبيق جزء شرعي أن نلغي هذا الجزء، وإنما ينبغي أن يؤمر المسلمون بأن يردوا هذا الأمر إلى ما أراده الله وإلى ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب على المرأة التي انتقبت أن تظهر الفتحة لعينها على قدر الرؤية لتتعرف من خلالها على الطريق، أما أن تتفنن في أن تظهر جمال عينها وقد امتلأت كحلاً، وامتلأت جمالاً وفتنة وتأثيراً، وظهر حاجبها، وظهر جزء كبير من وجنتيها، وتدعي أنها منتقبة، فإما أنها خادعة أو مخدوعة، فينبغي أن تتوب وأن ترجع إلى الله جل وعلا وأن تتقي الله، وأن تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
هذا هو الخمار، وهذا هو النقاب، وهذا هو معنى الحجاب.
إذاً: هناك حجاب للأبدان وللوجوه معاً: من وراء ستارة سميكة، أو من وراء جدار، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أو إذا خرجت المرأة من بيتها لحاجة دينية أو دنيوية فعليها أن تلبس الثياب من رأسها إلى قدمها، وأن تغطي وجهها بالخمار أو النقاب، بالشروط والضوابط التي أشرت إليها آنفاً.(150/5)
الأدلة على وجوب الحجاب من القرآن(150/6)
آية الإدناء
أولاً: أدلة القرآن: ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب: الدليل الأول: آية الإدناء في سورة الأحزاب، ألا وهي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} [الأحزاب:59] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهل تعرف المرأة إلا من وجهها؟! {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورَاً رَحِيمَاً} [الأحزاب:59] انتبهوا معي أيها الأحبة! وانتبهن معي أيتها الفضليات! لنتعرف على هذه الآية وعلى ما تحمله من أحكام عظيمة غابت عن كثير من المسلمين والمسلمات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] الأمر هنا من الله جل وعلا لزوجات النبي الطاهرات، وبنات النبي العفيفات، ونساء المؤمنين الصالحات القانتات.
إذاً: ليس الأمر هنا خاصاً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، كما هو واضح بمنطوق الآية ومفهومها أيضاً.
قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير آية الإدناء: أمر الله نساء المؤمنين -واحفظوا هذا القول لـ ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنه قد افتري عليه قول آخر، وقد ادعي عليه ما لم يقله! وهو بريء منه كما سنرى بالأدلة وبطرق أهل الحديث إن شاء الله جل وعلا- قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة: أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة) قلتُ: ليتعرفن بها على الطريق.
ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: قلت لـ عبيدة السلماني وعبيدة السلماني هو: التابعي الجليل الفقيه العلم الذي آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم ينزل المدينة إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة السلماني بالمدينة حتى توفاه الله جل وعلا، وأنا تعمدت أن أقول ذلك لتعلم أن عبيدة السلماني فسر آية الإدناء تفسيراً عملياً يوضح حال نساء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن جميعاً، فهو يوضح ما كان عليه النساء في عهد الصحابة رضي الله عنهم.
يقول ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن معنى آية الإدناء ألا وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] يقول ابن سيرين: فقال عبيدة بثوبه هكذا، فغطى وجهه بثوبه وأبرز ثوبه عن إحدى عينيه.
فهذا توضيحٌ عملي من تابعي جليل عاش في المدينة المنورة في عهد عمر بن الخطاب إلى أن مات رحمه الله.
فهذا تفسير عملي لآية الإدناء، ووالله إنه من أعظم الأدلة؛ لأنه نقل لما كان عليه النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم! {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف إذا خرجت لحاجة، حتى لا يطمع أهل الريبة فيهن.
ومن العلماء من يقول: إن الصحابيات رضي الله عنهن كن يخرجن كاشفات الوجوه! وهذا والله بهتان عظيم؛ لأن الوجه هو أصل الجمال في المرأة، وأنا أسالك بالله أيها المسلم المنصف! لا أريد منك جواباً، وإنما أجب أنت بنفسك على نفسك في جلسة صدق ولحظة صدق مع الله جل وعلا، أسألك بالله لو أن شاباً تقدم لخطبة فتاة وقيل له: لن ترى الفتاة إلا في صورة من الصورتين.
فقال الشاب: وما هما؟ قالوا: الصورة الأولى: أن تخرج لك الفتاة في كل زينتها، وقد غطت وجهها! أي: غطت بدنها بالثياب وغطت وجهها، إلا أنها من تحت هذه الثياب، ومن تحت هذا الغطاء وضعت كل ما يمكن أن تضعه المرأة من زينة.
سبحان الله! وما استفاد هذا المسكين إذاً؟! ما رأى شيئاً وما استفاد من تلك الزينة شيئاً.
والصورة الثانية هي: أن تقف لك الفتاة من خلف نافذة وتنظر إليك بوجه مبتسم، وقد تغطى كل البدن من خلف جدار هذه النافذة، بشرط أن تنظر إلى الوجه فقط.
فبالله عليك ماذا يختار الشاب؟! هل يختار الحالة الأولى التي خرجت إليه فيها المرأة وقد تغطت من قمة رأسها إلى أخمص قدمها وغطت وجهها أم أنه يريد أن ينظر إلى الوجه؛ لأنه هو عنوان الجمال الخلقي والطبيعي في الإنسان، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يبين الجمال والقبح والدمامة والنضارة؟! يقول الشاب بالمنطق: أريد الصورة الثانية، وهي: أن ينظر إلى وجه المرأة ليتعرف من خلال وجهها على جمالها وقبحها أو دمامتها، وهذا لا يحتاج إلى دليل، فكل منصف لم يمت إنصافه في قلبه، فيعمى بذلك عقله، سيقول هذا.
إذاً: الله تبارك وتعالى يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين.
ومن العلماء من قال بأن الحكم هنا خاص بزوجات النبي! سبحان الله! كيف يكون الحكم خاصاً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم والله تبارك وتعالى يقول في نفس الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]، يقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي الآية قرينة واضحة على وجوب ستر الوجه، ما هي هذه القرينة؟ يقول: هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:59] ومعلوم أن وجوب احتجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسترهن لوجوههن أمر لا نزاع فيه بين المسلمين.
فكيف تستقيم دعوى الخصوصية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن والله تعالى يقول في آخر الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}؟! وهذا واضح.
وأكتفي بهذا القدر في هذه الآية؛ لأن الموضوع طويل.(150/7)
آية الحجاب
الدليل الثاني: آية الحجاب في سورة الأحزاب أيضاً: يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ ما هي العلة من فرض الحجاب بين الرجال والنساء؟ قال الله تعالى الخالق الذي يعلم من خلق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] قال جل وعلا: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هذه هي آية الحجاب، وهي واضحة في وجوب احتجاب النساء عن الرجال، ولكن من العلماء من قال: إن هذه الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، قلت: إن كانت الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامة من جهة الأحكام، والقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولو جاء أمر خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هو لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن! ولو جاء أمر خاص للنبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: هو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون سائر المؤمنين! لو كان الأمر كذلك لعطلنا معظم أوامر القرآن، ومعظم نواهي القرآن.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في أول سورة الأحزاب بأن يتقي الله فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] فهل يقول عاقل: إنه لا يجب علينا أن نتقي الله؛ لأن الأمر هنا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهكذا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم:9] هل يقول عاقل: إنه لا يجب علينا أن نجاهد الكفار والمنافقين؛ لأن الأمر هنا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] هل يقول عاقل: إنه يجوز دخول غير بيوت النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن؟! ما هذا؟! إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا ما قال به علماؤنا.
فهنا وإن كان نزول هذه الآيات في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات، إلا أنها عامة من ناحية الأحكام.
ثم ما هي العلة من فرض الحاجب؟ العلة من فرض الحجاب بنص الآية هو: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أتدرون لمن هذا الأمر؟ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات، لأشرف نساء العالمين، ولأطهر نساء الدنيا اللائي تربين في بيت النبوة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللائي شربن من نبع الوحي الزلال الصافي، وهن مَن هن؟! هن المطهرات من السفاح، المحرمات علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين، يأمرهن الله بالحجاب حماية لقلوبهن، وطهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن! فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح؟! هل يجوز أن يخرجن، أو أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! إن دليل الأولوية في هذه الآية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
فإذا أمرت عائشة بالحجاب فهل يترك غيرها؟! إذا أمرت حفصة بالحجاب طهارة لقلبها، فهل نترك غيرها؟! إذا أمرت أم سلمة بالحجاب طهارة لقلبها، فهل نترك غيرها؟! إذا أمرت سودة وزينب وغيرهن رضي الله عنهن بالحجاب فهل نترك غيرهن؟! إن دليل الأولوية واضح في هذه الآية، وهذا المسلك في القرآن معلوم عند أهل الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه، إن الأمر بين واضح، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعَاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].(150/8)
آية النور
الدليل الثالث هو: الآية الحادية والثلاثون من سورة النور، وهي قول الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] يستدل العلماء من هذه الآية بثلاثة مواضع: الموضع الأول: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: إلا ما ظهر منها بغير قصد وعمد، بل وهي مضطرة لإظهاره رغماً عنها، وهو ظاهر الثياب، فإن الثياب على بدن المرأة زينة.
وحتى لا نتهم بأننا نتعسف في لي أعناق الآيات لياً، فتعالوا بنا إلى صحابي جليل، علم من أعلام الصحابة في فهم كتاب الله جل وعلا، ما من آية نزلت إلا وهو يعلم متى نزلت وأين نزلت وفيما نزلت، إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ماذا قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية؟ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال: الثياب، أي: زينة المرأة: الظاهرة الثياب، والإسناد إليه صحيح.
أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]: الوجه والكفان، فإسناده إلى ابن عباس لا يصح بحال، كما معروف لعلماء الحديث وعلماء التخريج، فإنه مروي عن ابن عباس من طريقين: الطريق الأول: رواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري.
والطريق الثاني: أخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى.
فتعالوا بنا لنقف مع هذين الإسنادين لنتعرف على صحتهما من عدمها، حتى يتضح لنا أن هذا القول لا يصح إسناده بحال إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
أما الطريق الأول -وهو الذي أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في التفسير- فلا يصح بحال، وإسناد ضعيف جداً، بل هو منكر؛ لأن في سنده مسلم الملائي الكوفي، قال فيه البخاري: تكلموا فيه، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفوه، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الحافظ الذهبي: متروك الحديث.
إذاً: الإسناد بهذا الطريق لا يصح بحال كما هو معلوم لكل علماء الحديث.
أما الإسناد الآخر الذي أخرجه الإمام البيهقي: فهو ضعيف جداً أيضاً؛ لضعف راويين من رجال سند هذا الطريق: الرجل الأول هو: أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف.
وقال فيه مطين: كان يكذب.
أما الرجل الثاني فهو: عبد الله بن هرمز بن مسلم بن هرمز، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين والنسائي.
إذاً: أيها الأحباب، الإسنادان لا يصحان بحال، ولا يصح أن يستشهد بهما في المتابعات والشواهد، فضلاً عن أن يحتج بهما في أمر من الأمور الواجبة، كما هو معلوم لكل طالب علم مبتدئ في علم الحديث.
إذاً: لا يصح الإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما في أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، ويؤكد صحة ذلك ما ذكرته في أول اللقاء حينما فسر آية الإدناء بقوله: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة).
إذاً: الزينة الظاهرة هي: الثياب، وهي: ما يظهر من المرأة من غير عمد وعلى حين غفلة من المرأة، ومن علم أحوال النساء علم ذلك جيداً، فإذا هبت ريح فقد تكشف وجه المرأة، وإذا اضطرت المرأة حين شرائها وبيعها أن تكشف عن وجهها الغطاء فقد ينظر رجل خلسة إلى وجهها على حين غرة منها، هذه زينة تظهر من المرأة من غير عمد، ومن غير قصد، وهي بإذن الله لا تؤاخذ عليها، بدليل قول الله جل وعلا: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
الموضع الثاني في الآية هو: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ومعنى ضرب الخمار على الوجه: تغطية الوجه، بدليل حديث عائشة الذي رواه البخاري ومسلم: (فخمرت وجهي بجلبابي)، وبدليل حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: كنا نغطي وجوهنا ونحن محرمات وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام.
الحديث رواه مالك وصححه الإمام ابن خزيمة وصححه الإمام ابن حبان ورواه الحاكم في المستدرك من طريقه وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي على ذلك في التلخيص.
ويؤكد ذلك أيضاً قول فاطمة بنت المنذر رحمها الله تعالى الذي أشرت إليه آنفاً قالت: كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام ونحن مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها.
والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرك الشيخين البخاري ومسلم، وأقره الذهبي على ذلك.
إذاً: قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] المفهوم من ضرب الخمار هو: أن تضرب المرأة الخمار من رأسها، أو من على رأسها على وجهها، وما سميت الخمر خمراً إلا لأنها تغطي العقل، وقال الحافظ في تعريف الخمر: ومنه: خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها.
الموضع الثالث في هذه الآية: قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] إذا كان الإسلام قد حرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها، خشية أن يفتتن الرجال بسماع صوت خلخالها، فبالله عليكم هل يحرم الإسلام على المرأة ذلك ثم يبيح لها أن تكشف وجهها الذي قد امتلأ نضارة وجمالاً وحسناً وتجميلاً وتزييناً؟! أي الفتنتين أعظم، فتنة الوجه أم فتنة القدم؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، ورحم الله من قال: إن الحجاب الذي نبغيه مكرمةٌ لكل مسلمة ما عابت ولم تعب نريد منها احتشاماً عفة أدباً وهم يريدون منها قلة الأدب يا رُب أنثى لها عزم لها أدب فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدب ويا لقبح فتاة لا حياء لها وإن تحلت بغالي الماس والذهب إن الحجاب عفة، إن الحجاب مكرمة، إن الحجاب شرف، إن الحجاب مروءة، إن الحجاب إيمان، إن الحجاب طاعة، إن الحجاب امتثال لأمر الله وامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أيتها اللؤلؤة المكنونة المسلمة، أيتها الدرة المصونة الغالية، والله ما نريد لك إلا العفة، والله ما أراد الإسلام لك إلا الكرامة، والله ما أراد الإسلام لك إلا أن يحميك من عبث العابثين ومجون الماجنين، والله ما نريد لك إلا الخير في الدنيا والآخرة.
أختاه! يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي صوني جمالك إن أردت كرامة فالناس حولك كالذئاب الحوم إي والله! كالذئاب الحوم، خاصة في زمان قل فيه الإيمان، وقل فيه الورع، وقل فيه الزهد، وقلت فيه التقوى، وإلى الله المشتكى، والله المستعان.
وأكتفي بهذا القدر من الأدلة القرآنية أحبتي في الله.(150/9)
الأدلة من السنة النبوية على وجوب الحجاب
الأدلة النبوية على وجوب الحجاب كثيرة ولله الحمد والمنة، ووالله لو لم يكن منها إلا هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مالك في الموطأ والإمام الترمذي في السنن وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) (المرأة المحرمة) هي: التي أهلت بالإحرام في الحج أو العمرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دل هذا الحديث على أن النقاب والقفازين كانا معروفين لدى النساء اللاتي لم يحرمن.
وهذا واضح جداً، (لا تنتقب المرأة المحرمة) إذاً: غير المحرمة كانت في الأصل منتقبة، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم في حال إحرامها ألا تنتقب، فهذا الذي نهيت عنه، وهذا الذي أمرت به.
وروى أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان الركبان -أي: الرجال الذين يركبون الدواب- يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا -أي: اقترب هذا الركب منا وفيه من الرجال من فيه- سدلت إحدانا جلبابها من على رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه.
والحديث -للأمانة- ضعيف، وله شاهد قوي من حديث أسماء وحديث فاطمة بنت المنذر اللذين ذكرتهما آنفاً.
والحديثان: والحديث الأول: رواه مالك في الموطأ، وابن خزيمة في الصحيح، وابن حبان في الصحيح، والحاكم من طريقه في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
والآخر: رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي.
أما أحاديث النظر إلى المخطوبة فهي والحمد لله أحاديث صحيحة بطرقها: جاءت عن محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعاً، وهذه الأحاديث تدل على أن الخاطب كان يتكلف مشقة وعناء في النظر إلى وجه مخطوبته، وهي تجيز للخاطب أن ينظر إلى وجه مخطوبته، وسأذكر منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل.
قال جابر بن عبد الله: فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها، وتزوجتها).
يقول علماؤنا: المرأة التي تخرج في هذا الزمان متبرجة مكتحلة متزينة متطيبة متعطرة، لا تكلف الرجل مشقة في أن يختبئ لينظر إلى وجهها، بل ما عليه إلا أن يمشي إلى جوارها في الشارع ليرى منها كل شيء، كما نرى هذا في زمننا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهكذا فمن لم يمت إنصافه في قلبه، ولم يعم قلبه وعقله؛ لا يحتاج إلى سرد هذه الأدلة، ولا إلى كل هذه الأدلة، وإنما بفطرته النقية الطيبة سيعلم علم اليقين أن أصل الفتنة وأصل الجمال في المرأة هو وجهها، ويعلم علم اليقين أن حجاب المرأة شرف لها، قبل أن يكون شرفاً وكرامة لأفراد المجتمع.
فيا أيها الأخ الكريم، عليك بزوجتك، وعليك بابنتك، وعليك بأختك.
وأنت أيتها الأخت الفاضلة الكريمة، اتقي الله جل وعلا، واعلمي أن في الحجاب الشرف والعزة والمنعة والكرامة، وخيري الدنيا والآخرة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصواب.
وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(150/10)