أركان الإيمان ومعانيها
(قل: آمنت بالله) أن تؤمن بالله رباً، أن تؤمن بالله إلهاً معبوداً، لا يستحق العبادة سواه، أن تؤمن بأسماء جلاله وصفات كماله، وما أحوجنا إلى أن نتعبد لله بالأسماء والصفات من جديد! فليست العبرة أن يردد كل مسلم منا الأسماء الثابتة، بل إن العبرة أن يحول المسلم مقتضى هذا الاسم في حياته إلى واقع أن يعيش معنى الرزاق، معنى الرحمن، معنى القوي، معنى القيوم، معنى المقيت، نقف على هذه المعاني.
والله -يا إخوة- ما عرفت معنى المقيت إلا منذ أيام قليلة، وقفت عند هذا الاسم، وقرأت أقوال السلف ورجعت الأصول اللغوية التي يرد إليها حقيقة هذا الاسم، ومن أعجب ما علمت عن اسم المقيت: أن من أجمل معانيه أن كل عضو من أعضاء هذا البدن -فضلاً عن الكون- له قوت، مادة (قوت) القاف والواو والتاء، فإنه تخلف عنه هذا القوت توقفت حياته كل عضو فيك له قوت، إن امتنع هذا القوت عن هذا العضو تعطل، فعينك لها قوت لتعمل طوال العمر، وقلبك ومخك، وهكذا.
يقول أحد العلماء المعاصرين: لو أردنا أن نصنع مصنعاً يقوم بما يقوم به المخ من وظائف وأعمال؛ لاحتجنا إلى مساحة الكرة الأرضية ثلاث مرات!! ليقف الإنسان مع هذه المعاني؛ ليتعرف بعدها على عظمة الله وعلى جلاله، فهو الذي يعطي الكون كله ما يحتاجه ليظل يعمل لهذا الإنسان المتمرد على الرحمن جل وعلا.
أن تؤمن بالله رباً إلهاً معبوداً لا يستحق العبادة سواه، أن تؤمن بأسماء جلاله وصفات كماله التي أثبتها لذاته في قرآنه، وأثبتها له المصطفى صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف لا للفظها ولا لمعناها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فلست أعلم بالله من الله، ولست أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأن تؤمن بالملائكة، وأن تعتقد أن لله ملائكة معك: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] {كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:11 - 12] {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وأن للجبال ملائكة، وللعرش ملائكة، وللسحاب ملائكة، وللقطر ملائكة، وللأرزاق ملائكة، فإذا ما آمن الإنسان بهذه الحقيقة استحى، وراقب هذا الملك الذي يراقبه وينتظر قولة أو فعلة ليسطرها عليه في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى.
وأن تؤمن بالكتب التي نزلها الله على أنبيائه ورسله، وأن تؤمن بالرسل: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وأن تؤمن باليوم الآخر -وما أحوجنا لتكرار الحديث الآن عن اليوم الآخر؛ لأننا نعيش زماناً طغت فيه الماديات، وانصرف كثير من الناس عن التفكر في اليوم الآخر، وعن لقاء رب الأرض والسماوات جل وعلا، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره.(79/6)
حقيقة الاستقامة على دين الله
لابد أن نحول هذه الأركان -أركان الإيمان- في حياتنا إلى واقع، فإن منَّ الله عز وجل بهذا الفكر، وردد لسانك وصدق قلبك، وترجمت جوارحك وأعمالك؛ فاستقم على هذا الدرب، واستقم على هذا الخير، وعلى هذه الطاعة، وعلى هذا النور.
أبشرك بقول الحافظ ابن رجب الحنبلي طيب الله ثراه، حينما قال: وأصل الاستقامة أن يستقيم القلب على التوحيد، فإن استقام القلب على التوحيد؛ استقامت الجوارح كلها على طاعة العزيز الحميد.
إن القلب هو الأصل، وبكل أسف يفرط كثير منا ومن طلاب العلم في التنقيب عن أحوال قلبه، فربما يغتر الطالب بتحصيله، ربما يغتر بمراجعه التي بين يديه في الليل والنهار، ولا يشعر بقسوة قلبه، أو مرضه أو غفلته، فكم من الناس مرضت قلوبهم في صدورهم وهم لا يشعرون! بل وكم من الناس ماتت قلوبهم في صدورهم وهم لا يشعرون! قال ابن السماك: كم من مذكر بالله وهو ناسٍ له! وكم من مخوف من الله وهو جريء عليه، وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عنه، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آياته! نسأل الله السلامة والعافية.
يقول أبو هريرة: [القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا] وجاء من حديث النعمان في الصحيحين، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب) فإن الفتن أول ما تعرض -كما ذكرت- تعرض على القلب، فإن تشرب القلب الفتنة -والعياذ بالله- ثم تشرب الفتنة تلو الفتنة علا الران القلب، فحجب صاحب هذا القلب عن الله تعالى، قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15] وقال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض كالصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) أسأل الله جل وعلا أن يجعل قلوبنا من هذا النوع الكريم.
فأصل الاستقامة أن يستقيم قلبك على التوحيد، فإن استقام القلب على التوحيد نجوت، يقول ابن القيم طيب الله ثراه: التوحيد هو الإكسير الأعظم، الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب لأذابتها.
لكن بشرط أن تحقق التوحيد، وأن تجرده وتخلصه، ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) وثبت في الصحيحين من حديث عبادة وفي رواية عتبان: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله دخل الجنة) وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة الطويل وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع نعليه لـ أبي هريرة وقال: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فلابد من اليقين، وأن تجرد وتحقق وتخلص التوحيد لله جل وعلا.
هذا التوحيد إن زلت قدمك، وجذبت أشواك المعاصي ثيابك، فتبت وأنبت إلى الله سبحانه، وقابلت الله جل وعلا بهذا التوحيد الخالص، فهذا التوحيد يبدد ضباب الذنوب وغيومها، كما في حديث البطاقة الذي صححه شيخنا الألباني وهو حديث صحيح، يقول ابن القيم: السر الذي من أجله ثقلت بطاقة التوحيد، وطاشت السجلات في الكفة الأخرى، هو تجريد التوحيد لله جل وعلا.
وثبت في صحيح مسلم من حديث أنس، وفي سنن الترمذي واللفظ للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
إنه التوحيد الخالص لله جل وعلا، لا تستهن بحقيقة التوحيد ولا بقدره، فلقد ظل النبي يعلم أصحابه التوحيد في مكة ثلاثة عشر عاماً، ولا تظنوا -أحبتي- أن النبي يوم أن انتقل إلى المدينة قد انتقل من التوحيد ليعلم الصحابة غير التوحيد، كلا! فإن التوحيد لا ينتقل منه إلى غيره بل ينتقل معه إلى غيره، وفي كل مرحلة من مراحل تأسيس النبي لدولة الإسلام ما أضاع التوحيد، ولا غيّب منهج التوحيد أبداً، لأننا نسمع الآن نغمة خبيثة تقول: ما الداعي لأن تدندنوا حول التوحيد، وأن تكثروا الكلام عن التوحيد، فإن النبي بدأ بالتوحيد لأنه بدأ في أمة مشركة، أما الآن فالأمة -ولله الحمد- أمة موحدة.
قلت: سبحان الله! أين القائل لهذا من واقع مر أليم تحياه الأمة، ففي كل عام يحج الملايين من أبناء الأمة إلى كثير من القبور هنا وهناك؟! أين التوحيد الذي يقال بأن الأمة قد دخلت قصره لا من أبوابه بل من نوافذه؟! فالتوحيد لا ينتقل منه إلى غيره، بل ينتقل معه إلى غيره.
أيها الحبيب: استقم على هذا الدرب: (قل آمنت بالله ثم استقم) قرأ عمر بن الخطاب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قرأها يوماً على المنبر فقال: [ثم استقاموا فلم يروغوا روغان الثعالب] عرفت فالزم، ذقت الحلاوة، ذقت طعم الإيمان؛ لأن للإيمان طعماً كما في صحيح مسلم، قال المصطفى: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي ذاق طعم الإيمان، فإن ذقت طعم الإيمان فاستقم، لا ترغ روغان الثعالب -عافاني الله وإياك- استقم على هذا الدرب، على درب الإيمان، على طريق التوحيد، على طريق سنة النبي محمد، بفهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهم أفهم الناس لكتاب الله، وأعلم الناس بأسباب نزول الآيات على قلب رسول الله، فالزم هذا الدرب وسر عليه تفلح وتسعد في الدنيا والآخرة.(79/7)
أقوال العلماء في وقت تنزل الملائكة على أهل الاستقامة
أيها الأحبة! يقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] هذا فضل الاستقامة على الإيمان: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] وفي وقت تنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة قولان: الأول: قاله مجاهد والسدي وزيد بن أسلم، قالوا: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت، إذا نزل بهم الخطب الأفضع، والأمر الأشنع، وسكرات الموت، التي لا يستطيع أي بليغ أو فصيح مهما أوتي من بلاغة وبيان أن يعبر عنها على الإطلاق؛ لأن هذا مما لا يدرك إلا إذا واقعه وعاينه الإنسان بنفسه.
لقد خشيت عائشة على رسول الله حينما نزلت به سكرات الموت، وقالت: إنها لا تنكر بعد ذلك شدة الموت على أحد بعد ما رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المصطفى لما نزلت به السكرات يضع يده في ركوة بها ماء، ويمسح العرق عن جبينه الأزهر الأنور ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) والحديث في صحيح البخاري، وفي لفظ لـ أحمد: (كان المصطفى يقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، اللهم هون عليَّ سكرات الموت) إنه خطبٌ فضيع، وفي هذه اللحظات -أيها الأخيار- يأتي الشيطان ليجتال وليصرف الإنسان عن حقيقة الإيمان، كما ثبت مع الإمام أحمد وقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى وقال: منهم -أي: من الناس- من تحضره الملائكة لتقول له ذلك، ومنهم من لا يقال له ذلك، إلا أن الموقف رهيب عصيب في هذه اللحظات، لحظات السكرات والكربات والضيق والهم، لحظة أن يعاين الإنسان الحقيقة، تتنزل إليه الملائكة إن كان من أهل الإيمان والاستقامة لتبشره بهذه البشارة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] من أنتم؟ {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا} [فصلت:31]-أي في الجنة- {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32].
ثبت في سنن ابن ماجة بسند صححه الشيخ الألباني، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال من حديث أبي هريرة: (تحضر الملائكة -أي: عند الموت- فإذا كان الرجل صالحاً تقول الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب راضٍ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج) فالملائكة تبشر أهل الإيمان والاستقامة وهم على فراش الموت بهذه البشارة العظيمة.
القول الثاني: قاله ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما، قالا: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، يوم الفضيحة، نسأل الله أن يستر علينا وعليكم، ترى الفضائح في هذا اليوم، إذ أن كل عبدٍ سيبعث من قبره على ما مات عليه من طاعة أو معصية، ولك أن تتصور -بالله عليك- هذا المشهد، ثبت في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبدٍ على ما مات عليه).
إن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت عليها، وإن عشت على المعصية -عافاني الله وإياك- مات صاحب المعصية عليها وبعث عليها.
يقول الحافظ ابن كثير طيب الله ثراه: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة وبعثت عليها، وإن عاش الإنسان على المعصية مات عليها وبعث عليها.
والله يا إخوة -وسوف أفرد لذلك إن شاء الله محاضرة لخطورة الأمر- لقد حدثني أخ من المنصورة عندنا في مصر عن جارٍ كان يسكن فوقه، وكان مدمن للغناء وما عرف للمسجد طريقاً ولا سبيلاً، ذكروه بالله فما تذكر، فكبر الرجل وكان مولعاً بـ أم كلثوم، فلما نام على فراش الموت لا زال الغناء يملأ أركان البيت، مع أن ملائكة الله جل وعلا قد وجدت الرجل يحتضر، يقول: فلما علمت ذلك وسمعت صراخ النساء صعدت إليهم، فرأيت الرجل يحتضر، فبكيت وقلت: اتقوا الله، أبوكم يموت ويحتضر وأنتم لا زلتم تضعون شريط الغناء، أهذا وقت غناء؟ ضعوا شريطاً للقرآن لعل الله أن ييسر عليه، يقسم بالله أنهم استجابوا لذلك، فامتدت يده على شريط الغناء ونزل فأتى بشريط للقرآن، يقول: حينما وضعت شريط القرآن في المسجل، وإذ بالرجل على فراش الموت ينظر ويقول: دع الغناء فإنه ينعش قلبي، وما تكلم بعدها!! وفي الشهر الماضي كان هناك رجل في منصب يصد عن سبيل الله وعن دينه، وهو في كامل فتوته وشبابه، أصيب بألم بسيط في بطنه، وأراد أن يخرج ما في جوفه، فدخل إلى الخلاء -أعزكم الله- ومن كثرة ما غلبه القيء لم يقو على أن يقف، فبرك على ركبته أمام الحمام الأفرنجي المعلوم ليخرج ما في جوفه، وظل يقيئ ويقيئ حتى صرخ صرخة فخرجت فيها روحه، ووجهه في هذا المكان القذر النجس.
لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وهذا شيخنا المبارك الشيخ كشك رحمه الله وغفر له، مات في اليوم الذي أحبه من كل قلبه، في يوم الجمعة، دخل الخلاء فاغتسل وخرج، ثم لبس ثوبه الأبيض وتطيب وصلى ركعتين في بيته، وأراد أن يصلي ركعتين ليخرج إلى المسجد المجاور إلى بيته، فصلى الركعة الأولى في كامل قوته وصحته، فلقد كنت عنده قبل موته بثلاثة أيام، الرجل في صحة، وفي الركعة الثانية وهو يركع سقط على الأرض، فأسرع إليه أهله فوجدوا روحه قد فاضت إلى الله جل وعلا.
لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، ففي هذا اليوم العصيب يوم الفضائح -نسأل الله الستر والعافية- يخرج أهل الإيمان والاستقامة من القبور، فتستقبلهم ملائكة العزيز الغفور بالبشارات: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] نزلاً، أي: ضيافة وإكراماً وإنعاماً من غفور رحيم، غفر لكم الذنوب ورحمكم في يوم الأهوال والكروب.
هذا جزاء المؤمنين المستقيمين على طاعة رب العالمين جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم لـ سفيان بن عبد الله: (قل آمنت بالله ثم استقم) وهأنذا أذكر نفسي وأقول لها: قولي: آمنت بالله ثم استقيمي، وأذكر إخواني قولوا: آمنا بالله ثم استقيموا على درب الإيمان، وعلى درب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والله أسأل أن يختم لي ولكم بالإيمان، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة على الإيمان، وأن يبعثنا في زمرة الموحدين تحت لواء قدوة المحققين، وسيد النبيين، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(79/8)
ما الإسلام؟ وما الإيمان؟
أشار الشيخ حفظه الله إلى حقائق إيمانية من سورة الحجرات، ذاكراً الفرق بين الإسلام والإيمان، ومبيناً أن لكل من اللفظتين معناها الخاص إن ذكرتا معاً، كما أنهما تحملان المعنى نفسه إذا ذكرت إحداهما دون الأخرى، كما بين أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله متفاضلون فيه بحسب زيادته ونقصانه.(80/1)
سورة الحجرات قواعد لبناء المجتمع المسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فمع الدرس الأخير من دروس سورة الحجرات، سورة التربية والأخلاق, وبعد أن عشنا مع هذه القواعد التشريعية العظيمة التي أرستها السورة لبناء مجتمع إسلامي كريم؛ نستطيع أن نسجل باطمئنان كامل أن هذه الصورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية تكاد أن تستقل بوضع منهج متكامل لبناء مجتمع إسلامي كريم سليم العقيدة, نقي القلب، نظيف المشاعر, عف اللسان، مهذب الأخلاق إنه مجتمع مثالي بكل ما تحمله هذه الكلمة من تصورات مجتمع له أدب مع الله, ومع رسول الله, ومع نفسه, ومع غيره مجتمع رباه الإسلام بهدي القرآن على يد من كان خلقه القرآن؛ فقد رباه الله ليربي به الدنيا صلى الله عليه وسلم.
وتختم السورة الجليلة العظيمة الكريمة بوضع لبنة التمام في هذا البناء العظيم, وفي هذا الصرح الشامخ المهيب؛ وذلك ببيان الحقيقة الكبرى، ألا وهي حقيقة الإيمان، وذلك من خلال الحوار الذي دار بين أعراب بني أسد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلقد ذكر جمهور المفسرين أن هؤلاء وفدوا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة، وكانوا يمنون بذلك على رسول الله عليه الصلاة والسلام, ويقولون: يا محمد أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، فأعطنا من الصدقات فإن لنا حقاً عليك, يمنون بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآيات: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14] وكما في الآية التي هي قبل أواخر السورة: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل, فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه, ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه, ليس الإيمان كلمة تقال باللسان, ليس الإيمان زعماً يدعى, ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء: لا تقولوا آمنا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، أي: استسلمنا وأذعنا وانقدنا خوفاً من القتل والسبي: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: لم يستحكم الإيمان بعد في قلوبكم.(80/2)
الفرق بين الإسلام والإيمان
وهكذا أيها الأحباب: تعلمنا هذه الآية الكريمة أن هناك فرقاً كبيراً بين الإسلام والإيمان، فأعيروني القلوب والأسماع؛ لأن هذه المسألة مسألة عظيمة من مسائل معتقد أهل السنة والجماعة , ما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ مسألة جليلة زلت فيها الأقدام، وضلت فيها الأفهام، إلا من رحم الله جل وعلا, نسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وبدايةً -نضرع إليه- قبل أن نشرع بالتفصيل لهذه المسألة وما يتعلق بها من مسائل أخرى, نضرع إلى الله أن يرزقنا الصواب والتوفيق والسداد لمعرفة الفرق بين الإسلام والإيمان!(80/3)
الإسلام ومعناه إجمالاً
سألخص لكم -أحبتي في الله- مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك: أولاً: اعلموا أن دين الله عز وجل الذي أنزل به كتبه, وبعث به رسله ورضيه لأهل سماواته وأرضه هو الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
هذا الإسلام العظيم قولٌ وعمل, قول باللسان وبالقلب، وعمل باللسان وبالقلب، وبالجوارح.
أولاً: قول اللسان, وهو النطق بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأدلة على ذلك من القرآن والسنة كثيرة -ولله الحمد والمنة- كما في قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] إلى آخر الآية.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى) , هذا عن قول اللسان.
ثانياً: قول القلب: وهو التصديق والإيقان وعدم الشك كما في الآية التي معنا في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] وكما في قول الله جل وعلا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33] وكما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحدٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) هذا عن قول القلب.
ثالثاً: عمل اللسان والجوارح معاً: كتلاوة القرآن، وذكر الله جل وعلا، والتسبيح، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والجهاد، وسائر الطاعات التي لا تؤدى إلا بالجوارح والأعضاء, كما في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:41 - 42] وكما في قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:77 - 78] هذا عن عمل اللسان والجوارح.
رابعاً: عمل القلب: وهو النية، والإخلاص، والتوكل، والإنابة، والانقياد، والمحبة، والتفويض، والرجاء إلى آخر الأعمال التي لا تؤدى إلا بالقلب.
هذا هو عمل القلب.
وبالجملة: فإن القلب هو الأصل، وهو الملك، ولو استقام هذا الملك لاستقامت الجنود والرعايا, وإذا صلح القلب صلح البدن كله، وإذا فسد القلب فسد البدن كله, كما في حديث النعمان بن بشير الذي رواه البخاري ومسلم وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
إذاً: الإسلام قول وعمل، قول باللسان وبالقلب، وعمل باللسان وبالقلب وبالجوارح.(80/4)
الإسلام لغة وشرعاً وشموليته حال الانفراد
ثانياً: الفرق بين الإسلام والإيمان: أعيروني القلوب والأسماع! فإن هذا الباب من أهم أبواب عقيدة السلف - أهل السنة والجماعة - وهي: الفرق بين الإسلام والإيمان، أقول: إن هذا الباب قد ضلت فيه الأفهام وقد زلت فيه الأقدام.
الفرق بين الإسلام والإيمان: أولاً: الإسلام: الإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان, وإذا أطلق في الشريعة فله حالتان: الحالة الأولى: إذا أطلق لفظ الإسلام مفرداً دون أن يقترن بلفظ الإيمان فإن الإسلام حينئذٍ يراد به الدين كله؛ أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال, والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة، منها قول الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ومنها قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
هذا هو الإسلام الذي إذا أطلق وحده فإنه يراد به الدين كله, وفي الحديث الذي يوضح ذلك المعنى أوضح بيان وهو الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير , وقال الإمام الهيثمي في المجمع رجاله ثقات، من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله ما الإسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (أن يسلم قلبك لله، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك, فقال الرجل: وأي الإسلام أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الإيمان, قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت).(80/5)
خصوصية الإسلام حال الاقتران بالإيمان
وهكذا أيها الأحباب نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل الإيمان جزءاً من أجزاء الإسلام في هذا الحديث، في الوقت الذي يطلق فيه لفظ الإسلام مفرداً من غير أن يقترن بلفظ الإيمان, وهكذا: إذا أطلق لفظ الإسلام وحده دون أن يقترن بلفظ الإيمان، فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال.
وهذه هي الحالة الأولى لمرتبة الإسلام.
الحالة الثانية: إذا أطلق لفظ الإسلام مع لفظ الإيمان، فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الأقوال والأعمال الظاهرة, كما في الآية في سورة الحجرات في قول الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} [الحجرات:14] ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات رهطاً وأنا جالس عنده وترك النبي رجلاً -وقد وضحت الأحاديث الأخرى هذا الرجل وسمته وهو رجل من المهاجرين يقال له: جعيل , كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح - هو أعجبهم إليّ يقول سعد: فقلت: مالك عن فلان يا رسول الله؟ -أي: لماذا لم تعط فلاناً يا رسول الله؟ - والله إني لأراه مؤمناً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً، يقول سعد: فسكت، ثم غلبني ما أعلم من الرجل, فقمت وقلت: يا رسول الله: ما لك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمناً, فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً, يقول سعد: فسكت، ثم غلبني ما أعلم من الرجل فعدت وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد! والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه، خشية أن يكبه الله في النار).
ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان حديث جبريل عليه السلام، والذي رواه مسلم وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل لما جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد: أخبرني عن الإسلام؟ قال صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً, قال: صدقت -يقول عمر راوي الحديث-: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) إلى آخر هذا الحديث المبارك.
وهكذا أيها الأحباب: يتضح لنا أن الإسلام إذا أطلق مع الإيمان فإن الإسلام في هذه الحالة يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14].
وهذه هي الحالة الثانية لمرتبة الإسلام.
إذاً: عرفنا الآن الإسلام إذا أطلق مفرداً, وعرفنا الإسلام إذا قرن بالإيمان, الإسلام إذا قرن بالإيمان فيراد بالإسلام حينئذٍ الأقوال والأعمال الظاهرة.(80/6)
مدلول الإيمان لغة وشرعاً
ثانياً: مرتبة الإيمان: أولاً: الإيمان لغة: هو التصديق, كما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: وما أنت بمصدق لنا.
أما إذا أطلق الإيمان في الشريعة فله -أيضاً- حالتان:(80/7)
عموم الإيمان حال انفراده
الحالة الأولى: إذا ذكر لفظ الإيمان مفرداً، دون أن يقترن بلفظ الإسلام, فالإيمان في هذه الحالة شأنه كشأن الإسلام يراد به الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال -كما قلت ذلك في معنى الإسلام إذا أفرد- والدليل على ذلك من القرآن قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
وكما في قول الله جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] ويوضح ذلك المعنى أوضح بيان حديث وفد عبد القيس الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، لما وفَدَ وفْد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم الرسول بالإيمان، وقال لهم: (أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال عليه الصلاة والسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمساً من المغنم).
هذه هي أركان الإسلام التي حفظناها يبينها النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها أركاناً للإيمان في هذا الحديث؛ لأن الإيمان أطلق وحده دون أن يقترن بذكر الإسلام، فهو حينئذٍ يراد به أيضاً الدين كله؛ أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال, ويوضح ذلك -أيضاً- أوضح بيان الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
وهكذا أيها الأحباب: اعلموا جيداً أن هذا هو الذي قصده سلفنا الصالح حينما يذكرون في كتبهم: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل, وأن الأعمال تدخل جميعها تحت مسمى الإيمان, ولقد أنكر علماء أهل السنة والجماعة إنكاراً شديداً على من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي أراده الإمام البخاري رحمه الله في الصحيح، حيث بوب في صحيحه أبواباً تحت هذا العنوان باب أمور الإيمان ثم قال: باب الصلاة من الإيمان باب الحياء من الإيمان, باب اتباع الجنائز من الإيمان, باب حب الرسول من الإيمان وهكذا.
فإن علماء السلف أنكروا إنكاراً شديداً على من أخرج الأعمال من مسمى الإيمان, فإذا قرأت لعالم من علماء السلف كـ أبي حنيفة مثلاً، الذي لم يُفهَم قوله أنه يقول: بأن الإيمان اعتقاد وقول وعمل, فاعلم علم اليقين بأنهم يدخلون جميع الأعمال في مسمى الإيمان، والإيمان يقصد به في هذه الحالة الدين كله، أصوله وفروعه من الاعتقادات والأقوال والأفعال.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يرسل إلى الأمصار ويقول: [إن الإيمان فرائض وشرائع، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان] رواه البخاري تعليقاً.
هكذا أيها الأحباب إذا أطلق لفظ الإيمان وحده، دون أن يقترن بلفظ الإسلام، فإن الإيمان في هذه الحالة يراد به الدين كله.
هذه هي الحالة الأولى لمرتبة الإيمان.(80/8)
خصوص معنى الإيمان عند الاقتران
الحالة الثانية لمرتبة الإيمان: إذا ذكر لفظ الإيمان مقترناً بلفظ الإسلام، فإن الإيمان في هذه الحالة يراد به الاعتقادات الباطنة, ويوضح ذلك أوضح بيان الحديث الذي رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وابن أبي شيبة وقال الإمام الهيثمي: رجاله رجال الصحيح إلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه آخرون من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام علانية والإيمان في القلب).
ويوضح ذلك أيضاً أوضح بيان الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في دعاء الجنازة وقال: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام, ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان).
وهكذا -أيها الأحباب- إذا ذكر لفظ الإيمان مع الإسلام؛ فإن الإسلام يراد به الأعمال الظاهرة، والإيمان يراد به الأعمال الباطنة.
وهكذا أستطيع أن أقول بأنني لخصت لكم مذهب أهل السنة والجماعة وأقوال سلفنا الصالح في هذه المسألة العظيمة، التي خالف بها أهل السنة والجماعة جميع الفرق التي فرطت غاية التفريط، من أمثال الخوارج والكراميّة والمعتزلة والأشاعرة والمرجئة وغيرهم, ومذهب أهل السنة هو الحق وهو المذهب الوسط بوسطية هذه الأمة, نسأل الله أن يتوفانا وإياكم عليه.(80/9)
زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه
يبقى لنا بعض المسائل التي تتعلق بهذا الباب والتي هي من أصول معتقد سلفنا الصالح: ثالثاً: أيها الأحباب! من هذه المسائل: أن الإيمان يزيد وينقص.
يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص بالذنوب والزلات, هذا أصل عظيم من أصول مذهب أهل السنة والجماعة، كما قال ربنا جل وعلا في قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] وكما قال ربنا جل وعلا في سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] والآيات في ذلك كثيرة ولله والحمد والمنة.
ويوضح هذا الأصل أوضح بيان الحديث الذي رواه مسلم من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه، وهو من كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال حنظلة: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ فقال حنظلة: نافق حنظلة يا أبا بكر , قال: سبحان الله! ما تقول؟! فقال حنظلة: يا أبا بكر: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي العين, فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً, قال أبو بكر: والله إنا لنلقى مثل هذا, يقول حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ فقال حنظلة: يا رسول الله: نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات, ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) وكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
وهكذا يوضح هذا الحديث توضيحاً لا لبس فيه ولا غموض أن الإيمان يزيد بالطاعات وفي وقت الطاعات، وينقص بالذنوب والزلات, نسأل الله أن يزيد إيماننا وإيمانكم بالطاعات إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير!(80/10)
تفاضل أهل الإيمان
تبقى لنا مسألة أخيرة من المسائل الهامة التي تتعلق بهذا الباب أيضاً، ألا وهي: تفاضل أهل الإيمان.
والمقصود: أن أهل الإيمان يتفاوتون فيما بينهم بحسب درجة الإيمان في قلوبهم؛ فأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلطون من أهل التوحيد الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وبين هاتين الدرجتين من الدرجات ما الله جل وعلا به عليم, فإن أهل الإيمان يتفاضلون ويتفاوتون.
بل إنهم ليتفاضلون ويتفاوتون في العمل الواحد، وفي المكان الواحد، والوقت الواحد، انظروا مثلاً إلى صلاة الجماعة في مسجد واحد، وفي وقت واحد، وخلف إمام واحد، وبين هؤلاء من الدرجات كما بين السماء والأرض، كما قال إمامنا ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذا -مثلاً- يرى الصلاة قرة عين؛ يتمنى أن لو طالت الصلاة, وآخر يحس أنه في أضيق سجن -والعياذ بالله- ويتمنى أن لو انتهت الصلاة كلمح البصر, وآخر من نفس الجماعة، ومن نفس الصفوف تخرج صلاته منيرة مضيئة حتى تفضي إلى عرش الرحمن جل وعلا، وآخر تخرج صلاته مظلمة كظلمة القبر والعياذ بالله, وآخر يقف بجسده في الصلاة وقلبه يهيم في كل واد؛ حتى لا يدري أقرأ الفاتحة جالساً أم قرأ التشهد قائماً, وآخر يقف في الصلاة وهو يفكر هنا وهناك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وآخر يأتي الصلاة نفاقاً ورياءً والعياذ بالله, والكل يقف في مسجد واحد، وفي فرض واحد، وخلف إمام واحد، وبينهم من التفاوت والدرجات ما الله جل وعلا به عليم, وعلى هذا التفاوت يموت الناس, وعلى هذا القدر يبعثون، وعلى هذا القدر يكونون في العرق في يوم الموقف, وعلى هذا القدر تقسم الأنوار على الصراط, وعلى هذا القدر يتسابقون إلى الجنات, بل وعلى هذا القدر من الإيمان تكون مقاعدهم من رب الأرض والسماوات في يوم المزيد: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] هذه قاعدة هامة من قواعد أهل السنة والجماعة.
وأستطيع أن أقول: بأننا والحمد لله جل وعلا وبتوفيق منه وفضل قد وفينا هذا الباب في قوله تبارك وتعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:14].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(80/11)
فضل الله علينا بالإيمان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, أما بعد: أيها الأحباب: هكذا تعرفنا على الفرق بين الإسلام والإيمان، وعلى بعض المسائل التي تتعلق بهذا المبحث وهذا الباب، وهي من أهم معتقد سلفنا الصالح، ومن أهم معتقد مذهب أهل السنة والجماعة , نسأل الله جل وعلا أن يتوفانا وإياكم عليه، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير! ولما أخبر الله الأعراب بأن الإيمان لم يستحكم بعد من قلوبهم، جاءوا مرة ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون ويقسمون بالله إنهم من المؤمنين الصادقين، فرد الله جل وعلا عليهم، وقال: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات:16]؛ قل أتخبرون الله بما في قلوبكم، والله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات:16 - 17].
إن الفضل لله جل وعلا الذي منَّ عليكم بالإيمان والإسلام من غير اختيار منكم ومن غير إرادة: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) والحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] , والله لو شكرتم الله الليل والنهار فلن تكافئوا هذه النعمة أبداً، نعمة الإيمان ونعمة الإسلام: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] وصدق من قال:
ومما زادني شرفاً وفخرا وكدت بأخصمي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات:17 - 18].
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، أن يرزقنا وإياكم إيماناً صادقاً، اللهم اجعلنا من المؤمنين الصادقين, اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً, اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع, ومن دعوة لا يستجاب لها, اللهم قيِّض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه وأنت على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين, اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في النار، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(80/12)
مهلاً يا دعاة الهزيمة!!
لقد هزمت الأمة ونكبت بنكبات كثيرة وخطيرة، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن نكبة وهزيمة هي من أشد وأخطر الهزائم والنكبات على الأمة الإسلامية، ألا وهي: الهزيمة النفسية في الوقت التي فقدت فيه الأمة جل مقومات النصر، وقد تحدث عن هذه الهزيمة في عدة نقاط ابتدأها باستعراض أعراض الهزيمة، ومناقشتها مناقشة جادة، ثم ذكر أسبابها وذيلها بالعلاج.(81/1)
الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام، وسامحوني فلقد أفسدت عليكم هذه الجلسة الطيبة المباركة، فوالله لا أرى في نفسي أن أجلس في هذا المجلس خلفاً لشيخنا/ مبارك أبي إسحاق، أسأل الله عزوجل أن يحفظه، وأن يسدد رميته، وأن يفتح بينه وبين قومه بالحق، وأن يبارك فيه وفي ولده، وأن يجعلهم قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، وأن يحفظ دعاة الإسلام الصادقين، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! هذا قدركم فاحمدوا الله على هذه المصيبة.
"مهلاً يا دعاة الهزيمة" موضوع خطير، وعنوان جميل، وليسمح الشيخ أن أنسج بنفس خيوطه، وأن أسير على ذات الدرب، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الصادقين.
أيها الأحبة: لقد هزمت الأمة ونكبت بنكبات كثيرة وخطيرة، ومع ذلك فإن أخطر هزيمة هزمت بها ونكبت بها الأمة هي الهزيمة النفسية؛ لأن الأمة كانت مع كل هزيمة من هذه الهزائم تملك كل مقومات النصر من إيمانٍ صادق، وثقة في الله عزوجل، واعتزاز بهذا الدين، أما اليوم فإن الأمة هزمت هزيمة نفسية نكراء في الوقت الذي فقدت فيه جلَّ مقومات النصر، ضعفت العقيدة -هذا مع حسن الظن- ضعفت الثقة في الله، ضعفت الثقة في نصر الله عزوجل، بل إن العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثيرين ممن ينتسبون إليها، كانت العقيدة بالأمس إذا مس جانبها سمعت الصديق يتوعد والفاروق يهدد ويأمر الصحابة، فيتحرك الجميع ويبذل من أجل العقيدة النفوس والمهج والأموال والأرواح، أما اليوم فإن العقيدة تذبح شر ذبحة؛ ففقدت الأمة جلَّ مقومات النصر مع هزيمة نفسية مدمرة؛ فوقعت في هذا الواقع المر الأليم الذي تحياه وهو معلوم للقاصي قبل الداني، وللصغير قبل الكبير.(81/2)
أعراض الهزيمة النفسية التي أصيبت بها الأمة الإسلامية
لا شك -أيها الإخوة- أن لهذه الهزيمة النفسية أعراضاً وأسباباً وعلاجاً، فقف معي في هذه النقاط المحددة، ما هي أهم أعراض هذه الهزيمة؟ وما هي أسبابها؟ وما هي خطوات العلاج؟(81/3)
تنحية الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية
أولاً: لا شك أن أخطر عرض من أعراض الهزيمة النفسية التي نكبت بها الأمة في هذا العصر الحديث هو تنحية الشريعة الربانية وتحكيم القوانين البشرية، أخطر عرض بلا منازع، لم يتصور أحد من أئمة السلف الذين قالوا: كفر دون كفر أن ترمى الشريعة في يوم من الأيام بالجمود، أو الرجعية، أو التخلف، أو القصور، أو عدم القدرة على مسايرة روح العصر أو المدنية العصرية الحديثة، أبداً ما شهدت الأمة رمياً للشريعة بالكلية كما تشهده الآن من تنحية الشريعة الربانية وتحكيم القوانين البشرية من صنع المهازيل من خلق الله؛ وهذا أخطر عرض للانهزام النفسي الداخلي، ما كان لمسلم أبداً أن يتصور ذلك، والله عز وجل يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فالأيام دول، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة بلا منازع، ومن عادة المغلوب أن يحاكي المنتصر في كل شيء، من عادة المهزوم نفسياً أن يقلد المنتصر الغالب في كل شيء، فذهبت الأمة المهزومة عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً تقلد الغرب الذي انتصر وكسب الجولة الأخيرة؛ حتى خرج علينا من بني جلدتنا من يقول بالحرف: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئتهم والنجاسات التي في أمعائهم، انهزام خطير جداً، لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، نحن لا ننكر أن تنقل الأمة أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب المادي ما لم يصطدم بعقيدتنا وأخلاقنا وديننا، لا ننكر ذلك ألبتة، لكن بكل أسف تركت الأمة أروع ما وصل إليه الغرب من تكنيكٍ علمي مذهل في الجانب المادي -ونحن لا ننكر ذلك على الإطلاق- وذهبت لتنقل أعفن وأقذر وأحط ما وصل إليه الغرب في الجانب العقدي والأخلاقي والروحي، كما قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى والحديث مخرج في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) ذابت الأمة في بوتقة الغرب المنتصر في هذه الجولة، والذي أصبح إلهاً يعبد لدى الكثيرين من الناس، بل ممن ينتسبون إلى الدين.
ولله در القائل:
قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهراً تغرينا
لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسرّ حزيناً
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا
الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يدٌ أفدى لها السكينا
الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا
الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا
كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا
وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا
وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا
ظنت الأمة المسكينة أنها بتنحيتها لشريعة الملك المحكمة المطهرة التي ضمن الله بها السعادة للبشرية كلها في الدنيا والآخرة أنها ستنجح ظنت الأمة المسكينة التي استبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، ظنت أنها بتمحيص شريعة الله المحكمة وبتحكيم القوانين الغربية الوضعية البشرية أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط رياح هوجاء متلاطمة؛ فخابت الأمة وخسرت وغرقت وأغرقت، ولا زالت الأمة تجني ثمار الخسران والضياع والهوان مصداقاً لقول الله عزوجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124].
عرض خطير وهو في نظري أخطر أعراض الهزيمة النفسية، أن تصل الأمة إلى حالة من الذل والعار والهوان والاستسلام إلى أن تنحي شريعة الرحمن جل وعلا، وأن تحكم في الأعراض والأموال والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة من وضع المهازيل من خلق الله، من العلمانيين والشيوعيين، والديمقراطيين والساقطين، والراقصين والرويبضة على ظهر أرض رب العالمين، وصدق سيد النبيين صلى الله عليه وسلم إذ يقول والحديث رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) فوالله لم يعد التافهون يتكلمون في أمر العوام بل تطاول التافهون اليوم على أمر الإسلام.(81/4)
اليأس من إمكانية التغيير
ثانياً: العرض الثاني من أعراض الهزيمة النفسية كما نرى: اليأس من إمكانية التغيير، ترى هذا العرض قد تمكن من غالب المسلمين، أصبحت ظاهرة أن تسمع الإرجاف في كل مكان، وأن تسمع نغمة اليأس القاتلة، لا فائدة، لن يستمع إليك أحد، أنت تؤذن في خرابة، أنت تنفخ في قربة مقطوعة، لن تغير الكون.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادي
يا شيخ! لا تتعب نفسك، لا تتكلم.
وهذا إرجاف ويأس قاتل من إمكانية تغيير هذا الوضع؛ حتى أصبحت هذه الكلمات معتقداً لكثير من المهزومين نفسياً في مجتمعات المسلمين (لا فائدة) وقد شخص المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه النفسيات المهزومة تشخيصاً دقيقاً كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكَهم، أو فهو أهلكُهم) بالضم والفتح، والضم أشهر كما قال النووي: (فهو أهلكُهم) أي: فهو أشد الناس هلاكاً، أو (فهو أهلكَهم) أي: هو الذي حكم عليهم بالهلاك وليسوا كذلك.
وقال النووي رحمه الله تعالى: (من قال ذلك على سبيل الازدراء والتحقير للناس مع إعجابه بنفسه فهذا مذموم، أما من قال ذلك لما يرى في نفسه وللمسلمين من تقصير فلا بأس بذلك" هذا تأصيل هام جداً، لا بد أن يفهم من خلاله حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكَهم، أو فهو أهلكُهم) وترى هذه النغمة تتردد على ألسنة غالب المسلمين: أنه لا فائدة، واقبل سياسة الأمر الواقع، إسرائيل حقيقة واقعة ينبغي أن نتعامل معها على أنها أصبحت واقعاً لا مراء فيه، وينطلق المفاوض -زعموا- من هذه الهزيمة النفسية فيأخذ على أم رأسه النعال من أذل وأحقر وأنجس أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير.(81/5)
الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص الاتهام
العرض الثالث من أعراض الهزيمة النفسية: الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص اتهام، فالغرب يثيرون ثورات ضارية من آن إلى آخر بل في كل آن على الإسلام، ويثيرون عليه الشبهات والشكوك الكثيرة: الإسلام دين انتشر بحد السيف، الإسلام ظلم المرأة، فالزوج سجان قاهر والبيت سجن مؤبد، والأمومة تكافؤ حيواني، ولماذا تزوج الرسول بتسع؟ ولماذا يتزوج المسلم بأربع؟ ولماذا حرم الإسلام الاختلاط؟ ولماذا حرم الإسلام الخلوة؟ ولماذا فرض الإسلام الحجاب على المرأة؟ شبهات يثيرها الغرب وأعداء الإسلام من آن إلى آخر، فينبري فريق من المسلمين للرد على هذه الشبهات من منطلق: أن الإسلام فعلاً متهم في قصف اتهام، وهو في أمس الحاجة إلى أن ينصب لنفسه محامياً بارعاً ليدافع عنه، فتأتي الردود من هذا الباب هزيلة ضعيفة، لا يرد هذا الذي تولى الرد بعزة واستعلاء وبعقيدة وبثقة الإيمان كلا.
ولكنه يرد من باب أن الإسلام متهم وهو في قفص اتهام، وهو يريد أن يفتح له هذا الباب فيتكلم بضعف وبخنوع، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29] بمنتهى القوة والعزة والاستعلاء: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] فتأتي الردود هزيلة لا تقوى ولا تصلح أبداً، سألتقط بعض هذه الردود لبعض الأعداء مرة أخرى ليأخذوا منها خيطاً لينسجوا على غراره أو من جنسه كلاماً أخطر وأدهى، فترى واحداً من هؤلاء يقول: لقد قال الشيخ فلان كذا وكذا، وقال الشيخ فلان كذا وكذا، ويخدع البسطاء، وأرى أنه من الجفاء أن أذكر هذا العرض الخطير ولا أذكّر بذاك المظهر المنير، فلا يحلو لي أن أسميه عرضاً ذلكم الموقف الذي يتألق عزة وثقة واستعلاء، إنه موقف ربعي بن عامر كلكم يحفظه ويعرفه، فوالله إننا في أمس الحاجة أن نستمع إليه كل لحظة، وأن نربي أبناءنا عليه، ربعي الذي دخل على رستم بمنتهى العزة والاستعلاء، وكلكم يعرف كيفية دخول ربعي، أرادوا أن يمنعوه ليدخل على قائد الجيوش الكسراوية الكبير، ليدخل عليه ربعي على قدميه، فأبى إلا أن يدخل على ظهر جواده، دعك من هذا وانظر إلى الحوار والكلمات والاستعلاء والعزة والثقة، وانظر إلى النصر المعنوي النفسي قبل كل ذلك.
يقول رستم: من أنتم؟ وما الذي جاء بكم؟ فيرد ربعي: [نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أرسلنا الله بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا قبلنا منه، ومن أبى وحال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله؛ قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله؟].
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات شهيداً، والنصر لمن بقي منا على ذلك.
فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر لتنظروا فيه ولننظر فيه؟ قال ربعي: لا.
قال: ولم؟ قال: لقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر الأعلى لنفسك واحدة من ثلاث.
قال: ما هي؟ قال ربعي: إما الإسلام، وإما الجزية، وإمام القتال.
فقال رستم: أسيدهم أنت؟ أنت القائد؟ قال: لا.
ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
انظر إلى الاستعلاء، ثقة العزة التي فقدت الآن، ترى الواحد من هؤلاء في بلاد الكفر يمثل دولة، بل إن شئت فقل: يمثل أمة يتكلم وفي مجلسه تشرب الخمور ويستحي أن يقول: هذا حرام، بل والله لست مبالغاً إن قلت: يستحي ألا يمد يده ليدٍ آثمة تمتد إليه بكأس خمر حتى لا يتهم بأنه رجعي متخلف لا يفهم عن (الإيتيكيت) أي شيء، قمة الهزيمة، يستحي المسلم أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، هذا حق وهذا باطل، هذه سنة وهذه بدعة، والسبب أنه مهزوم.(81/6)
الخوف والحياء من إظهار الهوية المسلمة
سبحان الله! يستحي المسلم في بلاد الغرب أن يظهر هويته، وهذا عرض رابع من أخطر الأعراض: الخوف من إظهار الهوية المسلمة، يخشى المسلم أن يظهر هويته، بل يستحي أن يلبس -مثلاً- القميص، يستحي أن يقول لأي موقف أو عن أي موقف يخالف الشريعة، هذا لا يصح عندنا، وهذا حرام في ديننا، يخشى أن يتهم بالتطرف والإرهاب والجمود والرجعية وضيق الفهم وقلة الأفق، إلى آخر هذه الدعاوى التي يغني بطلانها عن إبطالها أصلاً لدى كل مسلم يفهم شيئاً من دين الله عزوجل، سبحان الله!! أقول لإخواني: حينما نسافر مثلاً إلى بلاد الغرب لماذا لا يصر كل واحد منا أن يظهر بهويته هذه، حتى ولو وضع طاقية على رأسه ليظهر بها أنه مسلم فقط، لاحظ أننا نرى اليهودي بأعيننا هنالك في أمريكا يصر على زيه ويلبس الطاقية السوداء الصغيرة أو القبعة، أو ينزل الضفائر على وجهه التي يسمونها بضفائر موسى، فيظهر هويته باستعلاء، بل يحرص اليهود أن يسكنوا أحياء خاصة بهم، بل ويحرص اليهود على أن يعلموا أبناءهم بالمدارس الخاصة بهم، بل وفي المستشفيات الخاصة بهم، بل وتعجبت حينما علمت أن سيارة الإسعاف التي تنقل المرضى لا يمكن لغير اليهودي أن يركبها أبداً، يعتز بدينه.
ولقد صدمت صدمة عظيمة، قدر الله أني كنت في أمريكا يوم أن أعلنت النتيجة بفوز نتنياهو، وصدمنا جميعاً بأول تصريح لهذا الرجل الذي يحترم نفسه وعقيدته ودولته وأمته ودينه، صرح تصريحاً خطيراً جداً، فقال: وأخيراً صوت اليهود للتوراة، أي: أعطى اليهود الصوت والأصوات للتوراة، ليس له كشخص، لا.
رجل معتز بعقيدته، يحترم دينه ونفسه، يعمل من أجل هذه العقيدة، ويبذل من أجلها كل شيء، في الوقت الذي تخلى فيها أصحاب الحق عن الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار.
عرض آخر من أعراض الهزيمة النفسية: أن يخشى المسلم أن يظهر هويته أو يتحدث في بلادنا في بلاد المسلمين يخشى الآن كثيرٌ من الآباء أن يطلق الابن لحيته، أو أن تنتقب البنت، أو أن يذهب الولد إلى الجامعة وفي يده المصحف، أو أن يذهب إلى محاضرة للشيخ أبي إسحاق أو غيره، يخشى الوالد، لماذا؟ يقول: يا بني لا أريد أن تحضر مثل هذه الجلسات أو اللقاءات، ولا أريد لك لحية، ولا ولا، يخشى الوالد من أن يظهر الابن هويته الإسلامية، إن أظهرت الفتاة الآن هويتها أشاروا إليها بأصابع الاتهام؛ بالإرهاب، والتطرف، والأصولية، والوصولية، والفضولية، إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال للملتزمين في الليل والنهار.(81/7)
السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله
عرض خامس وهو أيضاً من أكبر الأعراض للهزيمة النفسية: ألا وهو السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل هم هذا الدين بسلبية قاتلة، فجُلَّ المسلمين الآن لا همَّ لهم إلا أن يعيش لشهواته الحقيرة ونزواته الرخيصة، يبذل كل طاقة من أجل العرش والكرش والفرش، لا يحمل للدين هماً، ينظر إلى المنكر فيهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، ينظر إلى مسلم لا يعرف شيئاً عن دين الله، يراه جاهلاً بالسنة فلا يفكر في أن يعلمه السنة بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الرقراقة الرقيقة، لا يحمل للدين هماً ولا للدعوة هماً في قلبه، فراغه سلبياً، بل ربما يبرر لنفسه سلبيته ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
وقديماً خشي الصديق رضوان الله عليه هذه السلبية القاتلة على أفراد الأمة، فارتقى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده -وفي لفظ: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم جميعاً بعقاب من عنده- ثم يدعونه فلا يستجاب لهم) والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، وصححه الشيخ الألباني.
نحن سمعنا: ركبوا سفينة واحدة -أيها الأخيار- إن نجت السفينة نجونا جميعاً، وإن هلكت هلكنا جميعاً، ولو كان على سطحها الصالحون كما في الصحيح من حديث النعمان بن بشير: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً) فلا تكن سلبياً يا أخي، ابذل المعروف ولو بكلمة، تحرك ليرى الله منك أن قلبك يحترق على أحوال الأمة وعلى أمر هذا الدين، على حال الدعوة، تحرك بكل ما تملك، ابذل أقصى ما في طاقتك ولست مسئولاً عن النتائج: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] المهم أن تعمل.
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
أكبر عيب فيك أنك تستطيع أن تؤدي شيئاً ولكنك لا تريد أن تؤديه، ابذل وتحرك، سبحان الله! لعل الله أن يهدي على يديك بكلمة واحدة رجلاً إن رأى الله وعلم منك الصدق، لعلَّ الله أن يهدي على يد زوجتك التي علمتها امرأةً، المهم أن تبذل، وألا تكن سلبياً، تحرك للدعوة وتحرك للدين، فكر! كيف أخطط لدين الله؟ كيف أعمل لدعوة الله؟ أنت تخطط في الليل والنهار لتزيد الألف ألفاً، ولتحصل على العلاوة والمكافأة، ولتنشط في التجارة والعمل، وهذا خير، لكن كما تفكر للدنيا فكر للدين: (من كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقره بين عينيه، وشتت الله عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، ومن كانت الآخرة همه؛ جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه أمره، وأتته الدنيا وهي راغمة) والحديث صححه الشيخ الألباني بمجموع الطرق، وحسنه بعض أهل العلم من أهل الحديث.
فلا تنشغل على أمور الدنيا على طول الخط ولا تكن سلبياً، أريد أن أربي الأولاد، لن أغير الكون، دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! بل هناك والله من يقول: دع ما لله لقيصر، أمرٌ عجب! يجب عليك أن تدعو إلى الله على قدر استطاعتك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) بل دعا النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حمل عنه بدقة وأمانة، فقال والحديث صحيح: (نضّر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع) ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لك بنضارة الوجه، بل وحملك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمانة الثقيلة، فقال والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) لا عذر لك أمام الله، ولا عذر لك إن عجزت أن تغير بيدك فغير بلسانك، وإن كنت قادراً على أن تغير بيدك غير بيدك بالضوابط الشرعية المعلومة، والقول الذي يقول: التغيير باليد للحكام، وباللسان للعلماء، وبالقلب لعوام المسلمين، قول لا دليل عليه، بل يجب عليك إن كنت قادراً على أن تغير منكراً بيدك دون أن يترتب على المنكر ما هو أنكر فغير بيدك، ومن نفيس كلام ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين يقول: لقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بـ مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام وعزم على هدم البيت ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهدٍ بكفرٍ وقريبة عهدٍ بالإسلام، هذا هو فقه الإنكار، فقه الموازنة بين المفاسد والمصالح، لا تكن متهوراً أو جباناً، فإذا استشكل عليك الأمر فعد إلى المشايخ والعلماء، ولا تتعجل.
إذاً: إن عجزت أن تغير بيدك فبلسانك، سيقول العاجز: أنا أغير بلساني؟! لا أجيد الكلمة، لا أستطيع التعبير، وقد يسألني الآن طالب علم فيقول: ما صفة التغيير بالقلب؟ كيف أغير المنكر بقلبي؟ أقول: لا عذر لك أمام الله عزوجل، فيجب عليك أن تأخذ الأمر بجدية وأن تدع هذه السلبية، وأن تتحرك لتحمل هم دعوة خير البرية صلى الله عليه وآله وسلم، فإن رأيت منكراً وكنت قادراً على أن تغيره بيدك بالضوابط المعلومة للجميع غيره، وإن عجزت فبلسانك، وأذكر أنني نبهت أحبابي في هذا المسجد المبارك قبل ذلك إلى أن يفرقوا بين مقامين؛ لأن الخلط بينهما يحدث إشكالاً أو إشكالات كثيرة ألا وهما: مقام الدعوة، ومقام الجهاد، لا تخلط بين المقامين؛ مقام الدعوة -أيها الحبيب- هو اللين من حرف الألف إلى حرف الياء، من أول خطوة على طريق الدعوة إلى آخر خطوة إن كنت تدعو كافراً فضلاً عن مسلم عاصٍ، فواجب عليك أن تحقق لهذا المقام ضوابطه وشروطه التي حددها الله جل وعلا ولم يدعها لداعية من الدعاة ليحددها بنفسه، فقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] هذا مقام دعوة، وانظر إلى مقام القتال والجهاد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] هذا مقام قتال وجهاد، فلا تخلط بين المقامين؛ لأن هذا مقام قتال وليس مقام دعوة: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] وفرعون هو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] والذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] إلى آخره.
{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] هذا مقام الدعوة، لكن عندما يكون المقام مقام جهاد: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88] فلا تخلط بين المقامين، فتحرك، فإن عجزت أن تغير بيدك غيرت بلسانك، فإن عجزت فبقلبك، وللقلب شرطان لتحقق الإنكار به: الشرط الأول: أن يرى الله عزوجل منك بغضك وكرهك لهذا المنكر.
الشرط الثاني: أن تترك المكان الذي يُرتكب فيه المنكر وأنت عاجزٌ عن تغييره بيدك أو بلسانك إن استطعت، والله يا شيخ! التلفاز حرام ومنكر، ويعطونا أفلام وهو جالس طوال الليل أمام التلفاز، لماذا لا تتحرك؟ أنت تقضي الليل كله على مشاهدة هؤلاء الساقطين وتأتي لتقول: هم يعرضون علينا المنكر، غير هذا المنكر بقلبك ليرى الله منك بغضه، احتراق قلبك على هذا المنكر الأليم، على هذه السفالة، ولا تجلس لتدنس نظرك وقلبك، فإن الفتن أول ما تعرض تعرض على القلوب؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) إلى آخر حديث حذيفة، فاحذر الفتن.
تريد أن تغير المنكر بقلبك بأن تبغض هذا المنكر، وأن تدع المكان الذي يرتكب فيه المنكر؛ لأنك لست قادراً على أن تغيره أو تبدله، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68].(81/8)
الأسباب الداخلية للهزيمة النفسية التي أصابت الأمة الإسلامية
لا أريد أن أطيل في الأعراض، فهي معلومة وكثيرة، لكن سوف ندخل مباشرة إلى أهم الأسباب، فمعرفة السبب نصف الدواء، ولذا سيسهل علينا بعد ذلك أن نحدد الدواء بإيجاز شديدٍ جداً، وبنقاطٍ لا تحتاج إلى شرح أو تفصيل.
الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة من الانهزام النفسي تنقسم إلى قسمين: أسباب خارجية، وأسباب داخلية.
وأستهل الحديث بإيجاز بالأسباب الداخلية؛ لخطرها من وجهة نظري، فأنا أعتقد أن الخطر الحقيقي يكمن في الأسباب الداخلية، قال الله عزوجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
وأسباب الهزيمة النفسية الداخلية كثيرة:(81/9)
ضعف الإيمان
أهمها وأولها: ضعف الإيمان عند غالب المسلمين.
فأخطر سبب داخلي للانهزام النفسي هو ضعف الإيمان عند غالب من الناس، رجل ضعيف في الإيمان، مهزوم من داخله، محال أن ينتصر على نفسه بعدما ضعف إيمانه في قلبه، فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، وهو يزيد وينقص، ويقوى ويضعف، فاسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه أبو نعيم في الحلية والديلمي وصححه الشيخ الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء) هل تدبرت معنى هذا الحديث؟ فالقلب تعتريه من آن لآخر سحب مظلمة من أثر المعاصي والذنوب، فتضعف الإيمان في القلب، فإذا انقشعت تلك السحب بالعودة والإنابة، والعمل الصالح والاجتهاد، والاستغفار والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة والنفقة والصلاة والتسبيح إلى آخره إذا انقشعت تلك السحب بهذا العمل الصالح يعود الإيمان مرة أخرى إلى قوته ويزداد، وهذا أصل من أصول أهل السنة: الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات، فأنا أتحداك أن يكون قلبك الآن كحال قلبك وأنت أمام مسلسل أو فيلم من الأفلام الهابطة، أبداً، إيمانك الآن في زيادة، فإذا وجدت نفسك في بيئة المعصية قلَّ إيمانك في قلبك، فالإيمان يزيد وينقص.
فضعف الإيمان من أخطر أسباب الهزيمة النفسية، إنسان ضعيف الإيمان، مهزوم لا يمكن أن يصمد لأي محنة أو لأي ابتلاء، ربما ترد ابنته المنتقبة العفيفة الشريفة من المدرسة للنقاب والعفة والشرف، فيعنفها ويوبخها، بل وربما يضربها، بل وربما مد يده ليسحب النقاب أو الغطاء عن وجهها، واقع نحياه ونشاهده ونسمعه، وإنا لله وإنا إليه راجعون، الأصل ضعف الإيمان في القلوب، وإذا أردت أن تقف على خطر حقيقة الإيمان، وما الذي يمكن أن يترتب على رسوخه في القلب من تغيير، إذا أردت ذلك فعد معي بسرعة إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لترى كيف حوّل الإيمان هؤلاء الرعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم.
ماذا كنت تعرف عن أبي ذر؟ ماذا كنت تعرف عن بلال وعمر وخالد وابن مسعود وصهيب الرومي؟ ما الذي رفع قدر هؤلاء؟ إيمانهم برب الأرض والسماء، إنه الإيمان الذي صنع الأعاجيب، الإيمان الذي انطلق به هؤلاء الحفاة العراة الجياع على أعظم إمبراطوريات الأرض في فارس والروم فحولوها إلى كثيب مهيل، وأقاموا للإيمان دولة، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، إنه الإيمان الذي جعل هذا الرجل البدوي يترس على حبيبه النبي صلى الله عليه وسلم ليجعل من ظهره حائط صدٍ منيع لتتحطم عليه السيوف والسهام والنبال والرماح، إنه الإيمان الذي جعل هذا البدوي العربي يحتضن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ويدافع عنه وهو يقول: نحري دون نحرك يا رسول الله، إنه الإيمان، الإيمان يفعل الأعاجيب.(81/10)
ترك الجهاد في سبيل الله
ثانياً: ترك الجهاد في سبيل الله، وأنا أعلم أن الحديث عن الجهاد تهمة يؤخذ صاحبها بالنواصي والأقدام، لكنه حق فترك الجهاد في سبيل الله من أخطر أسباب الذل والهوان والضعف والعار الذي شربته الأمة ألواناً وأشكالاً، هذا قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، والحديث رواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده من حديث ابن عمر وصححه الشيخ الألباني ومن أهل العلم من حسنه ومنهم من ضعفه، من باب الأمانة العلمية أقول، ولم أقف على الراجح من أقوالهم بعد، والشيخ أبو إسحاق يصححه جزاه الله خيراً: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله -ما النتيجة؟ - سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) والله إنه الذل.
يا إخوة: أعتقد أنه لا يوجد الآن مسلم على ظهر الأرض عنده مسحة من عقل وبصيص من نور إلا وقد علم يقيناً أن جميع المحافل الدولية كمجلس الأمن وهيئة الأمم وحلف الأطلسي إلى آخر هذه المحافل لن تعيد لهذه الأمة المكلومة جراحها ولا دماءها وأرضها ومقدساتها، لن يعيد للأمة الجراح والأرض والمقدسات والعرض والشرف إلا إذا عادت الأمة من جديد إلى ربها وسنة نبيها، ورفعت لواء ذروة سنام هذا الدين.
بكل أسف! إذا تحدث الآن أحد عن الجهاد اتهم أنه يدعو للإرهاب والتطرف؛ لأن الإعلام لا بارك الله في القائمين عليه شوهوا صورة الجهاد المشرقة، ولذلك قامت قيامة الإعلام ولم تقعد لما نادى شيخ الأزهر في خبر بسيط جداً في زاوية من زوايا جريدة من الجرائد لما نادى بالجهاد في سبيل الله، وقال: إنه السبيل الوحيد الذي سنقاتل به اليهود.
سبب من أسباب الذل والهزيمة ترك الجهاد، أمة اثاقلت إلى الوحل والطين، وأنا ذكرت قبل ذلك على هذا المنبر في خطبة على البوسنة حينما قلت: إننا نرى الأمة الآن قد ضنت بالدعاء فهل ستجود بالأموال والدماء؟! اسأل نفسك! هل تدعو الله عزوجل لنصرة الدين في كل سجدة؟ هل تدعو الله عزوجل لإخوانك المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها في كل سجدة؟ سل نفسك! أنا أثق أننا لو قدمنا استمارة استبيان الآن وحددنا فيها هذا السؤال لوجدنا النتيجة مؤلمة، هذا في وسط الملتزمين فما ظنك بوسط الغافلين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول لي مدير مدرسة، مسؤل عن تربية نشء، يقول لي بعد مؤتمر صانعي السلام: أظن أنه الآن أيها الشيخ لا تستطيع أن تتكلم عن اليهود وعن غير اليهود، فهم أبناء عمومتنا وهم إخواننا، وينبغي أن نمد إليهم يد الصداقة، وقد قال فلان وفلان كذا وكذا.
يعني: عقيدة الولاء والبراء قد مسخت الآن من القلوب، أنا أقول لك: هذا مدير في مدرسة ولاّه الله عز وجل تربية نشء، لا يعرف شيئاً عن عقيدة الولاء والبراء، ورحم الله من قال:
لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر
وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر
فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك ستذكر
مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر
هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر
ويقول آخر:
أتحب أعداء الحديث وتدعي حباً له ما ذاك بالإمكان
وكذا تعادي زاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان
إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان
فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان
نسخت ومسخت عقيدة الولاء والبراء، غابت مع غياب العقيدة بمفهومها الشامل الكامل.
فمن أخطر الأسباب ترك الجهاد، نسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقطع سبيل أهل الزيغ والفساد، وأن يشرفنا وإياكم بالجهاد في سبيله.(81/11)
عدم معرفة المسلمين بطبيعة الطريق
ثالثاً: عدم معرفة غالب المسلمين بطبيعة الطريق، وهذا سبب خطير جداً -أيها الإخوة- من أسباب الهزيمة النفسية التي تصاب بها الأمة الآن.
كثير من المسلمين إذا التزم أو سلك طريق الالتزام يجهل طبيعة الطريق، فإذا تعرض لمحنة قليلة ووقف عند كمين من الكمائن الأمنية: أين البطاقة؟ تعال تشرف معنا قليل فقط، نتحقق يخرج ليحلق لحيته، لماذا؟ لأنه مهزوم، هزم مع أول محنة، وهزم مع أول محك عملي على طريق الفتنة والابتلاء؛ لأنه يجهل طبيعة الطريق، يعتقد أن طريق الالتزام مفروش بالزهور والورود والرياحين، ونسي أن الطريق مفروش بالدماء والأشلاء، يعوي في جنباته الذئاب، يحمل العقيدة ويظن أنها صفقة إن ربحت فهو معها ومع أهلها، وإن خسرت يقول: ليس لنا دخل بهذه الموضوعات وهذه المواويل: (خليك في حالك وربي العيال، وابسط وفرفش وما لكش دخل) لا دخل لنا بهذا، اجلس ليلة أمام التلفاز وكل واشرب وتمتع.
وقد بين الله في قرآنه طبيعة هذا الفريق، فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] اللهم سلم، سلم يا رب العالمين.
مع أول احتكاك عملي على الطريق ينزلق؛ لأنه جهل طبيعة الطريق، ولا بد -يا إخوة- من هذه الابتلاءات والمحن والفتن؛ للتمحيص والتمييز، ليخرج من الصف من حمل اللواء والعقيدة وراية الدعوة ليتاجر بها، وليثبت على الصف من هو أهل بالتشريف والتكريم للسير على درب الأنبياء: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(81/12)
عدم معرفة المسلمين بقدراتهم وإمكانياتهم
السبب الرابع بإيجاز: عدم معرفة غالب المسلمين بقدراتهم وطاقاتهم وإمكانياتهم.
وهذا سبب خطير جداً قد لا يفطن إليه كثير من أحبابنا.
المسلمون دائماً يقللون من قدراتهم وطاقاتهم وإمكانياتهم، مع أن الله قد حبا المسلمين طاقات هائلة جبارة، وأنتم يا إخوة قد لا تعرفون طبيعة هذه البيئة التي يعيش فيها المسلمون إلا إذا سافرتم إلى بلاد الغرب، يعني: أخفف عليكم حدة المنهجية في المحاضرة قليلاً، دعينا مرة لمؤتمر في طورنتو في كندا وبعدها عاملين فيها، يعني مشايخ، وجاء وقت الفجر وذهبنا نصلي في المركز الإسلامي بدون سيارة، قلنا: نتمشى، والله يا إخوة ما إن خطونا خطوة واحدة وتعدينا الثانية إلا كل أخ من المشايخ الذين معنا من السعودية كل واحد أمسك أنفه يظن أنها وقعت، يبحث عن أنفه هل هي موجودة أم قد وقعت، وبعدها دخلنا قلنا: ما الحكاية؟ رجل في فندق عمره خمسين سنة، ونحن نمشي بدون سيارة، ودرجة الحرارة اثنين وثلاثين تحت الصفر، سبحان الله! فسبحان الله ربنا الذي منَّ على الأمة بأرض مناخها عجيب، ثروات وكنوز بباطن الأرض، وأعظم كنز العنصر البشري بدين الله، وأعظم كنز العنصر البشري في الأمة إن اعتز بدين الله، فلا عزة للبشرية إلا بالإسلام، وتعجبني كلمة سيد قطب رحمه الله وغفر له، ومنهجنا كما اتفقنا أننا نقبل الحق على لسان أي أحد ونرد الباطل على لسان أي أحد، من كلماته الرقراقة يقول: إن الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124] وأنتم تعلمون أن في الأمة سلاح واحد فقط وهو سلاح البترول استخدمته استخداماً دقيقاً أو صحيحاً للحظات في حرب العاشر من رمضان فتغيرت كل الموازين، سبحان الله! أموال المسلمين هي التي تدير دفة السياسة في بنوك الشرق والغرب، أموالنا نحن المسلمين أموال طائلة، عقول المسلمين هي التي تخطط هنالك وتبني ممررات على جسر مذهل في بركلل في نيويورك يذهل العقول، وكانت المفاجئة أن استوقفني الإخوة بعد ما مررنا وقالوا: انتظر، وقرءوا لي اللافتة على هذا الجسر ليكاد عقلي ساعتها أن يطيش حينما أعلم أن الذي صمم ونفذ هذا الجسر مهندس مسلم من باكستان، عقولنا ضيق عليها هنا وأغلق في وجهها كل باب أو منفذ للإبداع، أو للعطاء، أو للتفكير، والابتكار، فهربت واستقبلت استقبالاً يليق بهذه العقول، وأغرقت هذه العقول بملايين الدولارات للبذل والبحث العلمي، فأعطت وأبدعت وأنتجت، فهذه بضاعتنا، والله لا نقول ذلك من باب التمسك بأذيال الماضي بل هذا واقع نحياه، لا نريد أن ندندن دائماً على أن هذه حضارتنا من بلاد الأندلس وطليطلة وقرطبة، بل هذا الواقع نحياه الآن أن العقول التي تبدع وتفكر في الغالب هي عقولنا، هي عقول أبناء هذه الأمة، فلا ينبغي أن نقلل من قدراتنا وطاقاتنا وإمكانياتنا، فأنت تستطيع أن تفعل شيئاً كبيراً وعظيماً.(81/13)
النظرة الضيقة للزمان والمكان
وأختم الأسباب الداخلية بهذا السبب ألا وهو: النظرة الضيقة للزمان والمكان.
سبب خطير من أسباب الهزيمة النفسية بمعنى: ترى الشاب من أبنائنا الآن وإخواننا ينظر نظرة ضيقة جداً للمكان الذي يعيش فيه، جاءني شاب في الصيف الماضي وقال: يا شيخ! الدعوة في بلادنا ماتت، والمتبرجات كثرن، والملتزمين قلوا، وليس عندنا كتب، وتقريباً بعد خمس أو ست سنين لن يبقى عندنا ولا حافظ للقرآن، والإسلام ضاع، والدنيا ضاقت، نظرة ضيقة جداً، فيحطم اليأس قلبه، مع أنه لو نظر للمكان نظرة أوسع لعلم أن الأرض ما خلت ولن تخلو من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان أو مكان، وليس هناك داعي للنظرة الضيقة هذه؛ حتى لا يحطم اليأس قلبك، كذلك النظرة الضيقة للزمان للتاريخ للأمة الآن ستضرب بالنعال، والأمة ذلت، والشريعة ضاعت، والإسلام ذهب، وعليه العوض، وليس هناك إسلام، نظرة ضيقة لهذا الواقع الذي نعيش فيه، فيحطم اليأس قلوبنا لما تحياه الأمة الآن من واقع مر أليم، مع أنك لو نظرت إلى التاريخ ونظرت نظرة أوسع إلى الزمان؛ لعلمت أن الأمة قد مرت بمراحل أصعب، ومع ذلك غير الله الواقع وبدل الله الحال.
انظر يا أخي! ابتداء من فتنة الردة غير الله الواقع وبدل الله الحال، ثم ابتليت الأمة بالهجمات التترية الطاحنة، وظل التتار يذبحون المسلمين في بلاد العراق أربعين يوماً، وستعجب إذا قلت لك: بأن صلاة الجماعة تعطلت من مساجد الجامعة في بغداد أربعين يوماً لا يصلي في المسجد مسلمٌ واحد، أصيب المسلمون بهزيمة نفسية، وحالة من الذعر مرعبة، اقرأ التاريخ اقرأ البداية والنهاية لـ ابن كثير، اقرأ الكامل لـ ابن الأثير، اقرأ تاريخ الطبري، سترى عجباً عجاباً، يكاد عقلك أن يقف وأنت تتابع الكلمات في الصفحات، أربعين يوماً لا تصلى صلاة الجماعات خوفاً من هجمات التتار الذين يذبحون المسلمين في الليل والنهار، ومع ذلك قيض الله عزوجل للإسلام والمسلمين من هزم التتار شر هزيمة، وغير الله الحال.
القرامطة المجرمون انقضوا على المسلمين في بيت الله الحرام فذبحوهم ذبح الخراف، بل واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة، وصرخ رئيسهم أبو طاهر القرمطي عليه من الله ما يستحقه والحجر بين يديه وهو يقول: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وظل الحجر بعيداً عن الكعبة (22 سنة) وغير الله الحال وعاد الحجر إلى بيت الله الكبير المتعال، وطاف المسلمون ببيت الله.
الصليبيون أغلقوا بيت المقدس وعلقوا الصلبان على كل جدار من جدرانه، ومنع الصليبيون المسلمين من الصلاة في بيت المقدس (91 سنة) لم يصل مسلم في بيت المقدس، وغير الله الحال، وتغير الواقع، ونحن على يقين مطلق كما أننا نراكم الآن بعيوننا أن الله عز وجل سيغير الحال، وعد الله ووعد الصادق رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.
إذا عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكائد تخرج(81/14)
علاج الهزيمة النفسية التي أصابت الأمة
العلاج لهذا المرض العضال، وأول جرعة معرفة الداء، لا ينبغي أن نرفع رءوسنا وأن نشمخ بأنوفنا لننكر أن الأمة قد هزمت، بل إن الاعتراف بالواقع وتشخيص الداء نصف الدواء.
ثانياً: العودة الجادة إلى كتاب الله والسنة الصحيحة لرسول الله، وتربية أبناء الأمة على العقيدة بشمولها وكمالها.
يعني: كفاية هذا العنصر لو تحول إلى واقع يكفي.
فالحرب الآن -يا إخوة- حرب اعتقاد، أقول دائماً: ليس الصراع بيننا وبين اليهود صراع حدود لكنه صراع عقيدةٍ ووجود، الحرب في إسرائيل حرب عقدية، الحرب في البوسنة حرب عقدية، الحرب في الشيشان حرب عقدية، الحرب في الفلبين حرب عقدية، الحرب في طاجكستان حرب عقدية، الحرب في مورو حرب عقدية، هي العقيدة، هي الأصل، تربية أبناء الأمة على العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها، وإحياء روح الجهاد.
يا أخي! أخرج من بيتك ولداً لله ربه على الجهاد، اغرس في نفسه وقلبه روح الجهاد، أخبره بسير المجاهدين والأبطال الفاتحين، ربِ ولدك على هذه السيرة بعزة واستعلاء، ربه على التخلص من الوهن الذي حذر منه الأمة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً: الثقة في الله عزوجل، وفي أن الله ناصر دينه، مهما علا الباطل وانتفخ وكأنه غالب وانزوى الحق وضعف كأنه مغلوب فإن الجولة في النهاية للحق، وعد الله عزوجل، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] وقال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
ولا أريد أن أطيل بذكر بعض الأحاديث، ففي هذا كفاية، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ.
وسامحوني على هذه الإطالة الطويلة، وأرى أني لست أهلاً للإجابة بين يدي الشيخ فأدع الإجابة له إن شاء الله تعالى إن رغب الآن وإلا ففي محاضرة له مقبلة، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(81/15)
وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكريم والموت، فذكر الآيات التي فيها تزكية للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب المقام المحمود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الحوض المورود عليه الصلاة والسلام.
كما تحدث الشيخ عن وفاته عليه الصلاة والسلام وكيف بدأ به المرض، وكيف اشتد عليه قبل موته حتى أنه كان يغشى عليه صلى الله عليه وسلم.(82/1)
تزكية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله: أود أن أذكركم قبل أن تستمعوا إلى هذا الشريط بأني قد ألقيت هذه الخطبة المباركة منذ خمس سنوات تقريباً في مدينة السويس العامرة، وقد وقع بها بعض الأخطاء في الحديث الشريف من حيث الصحة متناً وسنداً، ولكثرة تداول هذا الشريط كان لزاماً عليَّ بعد أن منَّ الله عز وجل علينا بدراسة علم مصطلح الحديث، وأقوال أئمة الجرح والتعديل جزاهم الله عن الحديث وأهله خيراً، كان لزاماً أن نعيد هذه الخطبة المباركة في وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كانت بعنوان: رسول الله ما بين التكريم والموت صلى الله عليه وسلم، مع عزو كل حديث في هذا الشريط إن شاء الله جل وعلا من مصدره؛ من كتب الحديث مع بيان درجة صحته.
وأسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ما قد سلف، وأن يجنبنا وإياكم الزيغ والزلل، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بعظمة الموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانه!! اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ونبرأ من الأمل إلا فيك، ونبرأ من التسليم إلا لك، ونبرأ من التفويض إلا إليك، ونبرأ من التوكل إلا عليك، ونبرأ من الصبر إلا على بابك، ونبرأ من الذل إلا في طاعتك، ونبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ونبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم.
اللهم تتابع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوافلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك ووعدك، ولم تبق حاجة لنا إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السموات والأرض، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه وهو على كل شيء قدير، صاحب الملك والملكوت، صاحب العزة والجبروت، الذي كتب الفناء على جميع خلقه وهو الحي الباقي الذي لا يموت.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيله حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّم الجاهل، وقوَّم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار.
فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: تلبيةً لرغبة أحبابنا وإخواننا في الله جل وعلا؛ فأنتم اليوم في موعدٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكريم والموت، وما أحلى أن يكون اللقاء مع رسول الله، وما أجمل أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء، وسيد المرسلين، وقائد الغر الميامين، وقائد الغر المحجلين، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين.
هو صاحب المقام المحمود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الحوض المورود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين، شرح الله له صدره، ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه ربه في كل شيء؛ زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم:4].
فهو إمام الأنبياء، هو حبيب الله، وهو خليل الله، وهو أكرم الخلق على الله جل وعلا، فما أحلى أن يكون اللقاء معه، وما أجمل أن يكون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوالله الذي لا إله غيره ما خلق الله من خلقه رجلاً أحب إليه من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما من نبي بعثه الله -أيها المسلمون- إلا وقد أخذ الله عليه العهد والميثاق أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث في وجود هذا النبي كما قال ربنا جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
وإذا بعث الله محمداً في وجود هذا النبي وجب على هذا النبي أن يذهب إلى رسول الله وأن يؤمن به وأن ينصره: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم والإمام الترمذي وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بستٍ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب -وفي رواية البخاري: ونصرت بالرعب مسيرة شهر- وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون) صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللبنة).
أي: لو وضعت هذه اللبنة لتم لهذا البنيان كماله وجماله وجلاله، يقول صلى الله عليه وسلم: (فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين).(82/2)
شفاعته لأهل المحشر عليه الصلاة والسلام
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم، والإمام أبو داود، والإمام أحمد من حديث أبي هريرة -أيضاً- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع ومشفع يوم القيامة).
ففي يومٍ يا عباد الله! يزداد همه وكربه على جميع الناس حتى على أنبياء الله ورسله جل وعلا (تدنو الشمس من الرءوس فتغلي رءوس لحرارتها -والعياذ بالله- ويؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
فإذا ما رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منها لغضب الله جل وعلا، فحين يراها الخلائق بهذه الكيفية وهذا الحال لا يقوى مخلوق على أن يقف على قدميه فيخر كل مخلوق جاثياً على ركبه: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] في هذا اليوم العصيب الرهيب يزداد الهم والكرب على خلق الله، وعلى عباد الله، فيقول بعض الناس لبعض -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وهذا لفظ أحمد من حديث أبي هريرة - يقول بعض الناس لبعض: (ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله عز وجل وطردت من الجنة بمعصيتي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً عليه السلام ويقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح عليه السلام: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كان لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم الخليل.
فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله، وأنت رسول الله، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول إبراهيم عليه السلام: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، ثم يذكر كذباته الثلاث -التي شرحناها في اللقاء الماضي كما صح بها الحديث في البخاري ومسلم - ثم يذكر كذباته الثلاث ويقول: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى عليه السلام ويقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى عليه السلام ويقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى عليه السلام: نفسي نفسي نفسي -ولم يذكر عيسى شيئاً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم).
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني في أرض المحشر، فيأتوني يوم أن قال كل رسول: نفسي، ويوم أن قال كل نبي: نفسي، -يقول صلى الله عليه وسلم-: فيأتوني ويقولون: يا رسول الله! أنت خاتم الأنبياء، وأنت رسول الله، خلقك الله عز وجل وفضلك على جميع الأنبياء، فغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه يا رسول الله! ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك).
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (فأقوم وأقول: نعم، أنا لها أنا لها، فآتي تحت عرش الرحمن وأخر ساجداً لله جل وعلا، فيفتح الله عليَّ بمحامد ويلهمني من الثناء ما لم يفتح به على أحد قبلي، فينادي عليه الحق جل وعلا ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول الحبيب: يا رب! وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فيقول الله تعالى: قد شفعتك يا محمد، ارجع فإني آتيكم لأقضي بينكم).
وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
(يا ربي لقد وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك) وهذه هي أعظم شفاعات المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيشفع الحبيب لجميع الخلق في أرض المحشر ليقضي الله جل وعلا بين خلقه وعباده، فهو حبيب الله، وهو خليل الله، وهو أكرم الخلق على الله جل وعلا.(82/3)
بداية مرضه عليه الصلاة والسلام
ظل الحبيب مكرماً إلى أن نزل عليه -يا عباد الله! وأصغوا السمع والقلب- إلى أن نزل عليه قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
أخرج الإمام الطبراني من حديث جابر بن عبد الله أنه قال: (لما نزلت هذه السورة على المصطفى صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: يا جبريل! أرى أنه قد نعيت إليَّ نفسي بهذه السورة يا جبريل، فقال جبريل: يا رسول الله! والآخرة خير لك من الأولى).
نعم أيها الأحباب: وفي أول شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي بألم شديد وصداع شديد في رأسه، وكان أول ما ابتدأ به من شكوى أنه ذهب إلى بقيع الغرقد كما ورد في الحديث الذي رواه ابن إسحاق وابن سعد في الطبقات، وابن جرير وابن كثير والإمام أحمد وأبو داود وغيرهم من حديث أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو مويهبة: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل وقال: يا أبا مويهبة! لقد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع، فانطلق معي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وقف بين أظهرهم سلم على أهل البقيع فقال: السلام عليكم يا أهل المقابر! هنيئاً لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها وآخرها أشر من أولها، ثم التفت إليَّ وقال: يا أبا مويهبة! لقد أعطيت -أو أوتيت- مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال الرسول: لا والله يا أبا مويهبة! لقد اخترت لقاء ربي والجنة، يقول: ثم استغفر لأهل البقيع، وعاد إلى بيت عائشة رضي الله عنها فوجدها تقول: وارأساه، رأسي يا رسول الله! أحس بألمٍ شديدٍ في رأسي، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف وقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه، أحس بألمٍ شديد في رأسي يا عائشة، فنسيت عائشة ألمها رضي الله عنها وقامت لترقي المصطفى صلى الله عليه وسلم).
ورد في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، فمسح بها على جسده، فلما اشتكى في مرضه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات وأمسح بيده الشريفة على جسده).
وفي رواية مالك: (رجاء بركة يد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية مسلم: (لأن يده أعظم بركة من يدي).
ومسحت جسد الحبيب بيد الحبيب صلى الله عليه وسلم وهي تقرأ عليه المعوذات.(82/4)
اشتداد الألم والوجع برسول الله صلى الله عليه وسلم
واشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الألم والوجع، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليطوف على نسائه، فاشتد به الألم في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستدعى نساءه واستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة -وكانت أحب أزواجه إليه- فأذن له في ذلك رضي الله عنهن جميعاً، وعاد الحبيب إلى بيت عائشة وهو يتكئ على العباس وعلى علي من شدة الألم والوجع.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة رضي الله عنها وقد اشتد به الألم والوجع، وفزع الصحابة، وقلق الناس قلقاً بالغاً، وخاف الناس خوفاً شديداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: هريقوا عليَّ من سبع قرب من الماء كما ورد في حديث البخاري من حديث عائشة: هريقوا عليَّ من سبع قرب من الماء، تقول عائشة: فأجلسناه في مخضب -أي: في طست أو إناء - لـ حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأخذنا وطفقنا نصب عليه الماء حتى قال بيده: قد فعلتن، قد فعلتن.
وفي رواية ابن إسحاق: ظل يقول لهن صلى الله عليه وسلم: حسبكن حسبكن -أي: كفى- فأحس الحبيب صلى الله عليه وسلم بنشاط، فعصب رأسه عليه الصلاة والسلام وخرج إلى الصحابة رضي الله عنهم وقد فزعوا فزعاً شديداً، وقلقوا قلقلاً شديداً، وحزنوا على مرض رسول الله، وخافوا على فراقه صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وصعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، والتف الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعدما حمد الله عز وجل وأثنى عليه، وصلى على نفسه صلى الله عليه وسلم، واستغفر لأهل أحد، وصلى عليهم، وأكثر عليهم الصلاة، وأكثر لهم الدعاء، ثم قال: أيها الناس! إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، أيها الناس! إني لا أخشى أن تشركوا بعدي ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها كما تنافس فيها من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم.
ثم قال: أيها الناس! إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله، فبكى الصديق رضي الله عنه وارتفع صوته بالبكاء، وعلم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه إلى رسول الله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فديناك بآبائنا، فديناك بأمهاتنا، فديناك بأموالنا، فديناك بأنفسنا يا رسول الله! فضج الصحابة وقاموا على أبي بكر رضي الله عنه، وقالوا: عجباً لهذا الشيخ! الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن عبدٍ خير بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله عز وجل، فلماذا يبكي هذا الشيخ؟! ولكن الصديق كان أعلم الصحابة برسول الله، وعلم أن العبد المخير هو المصطفى صلى الله عليه وسلم فبكى، فقام الناس على أبي بكر رضي الله عنه، فقال الحبيب: على رسلك يا أبا بكر أيها الناس: إن أمنَّ الناس عليَّ بصحبته وماله أبو بكر، كلكم كان له عندنا يد كافأناه بها إلا الصديق فإنا تركنا مكافأته لله عز وجل، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة وصحبة.
أيها الناس: انظروا إلى هذه الأبواب التي تنفذ إلى المسجد سدوها من اليوم إلا باب أبي بكر رضي الله عنه.
وكما جاء في بعض الروايات رواها البزار وغيره: ثم نظر إليهم صلى الله عليه وسلم وبكى، فبكى الصحابة رضي الله عنهم وقال لهم: حياكم الله، آواكم الله، نصركم الله، رزقكم الله، أيدكم الله، إني أحذركم الله، إني لكم نذير مبين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أقرئوا مني السلام من تبعني إلى ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة -وعليك السلام يا رسول الله- فبكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعاد الرسول وهو يتكئ على العباس وعلى علي رضي الله عنهما فدخل بيت عائشة رضي الله عنها.
واشتد به الوجع، واشتد به الألم، وزاد به المرض، وزادت عليه الحمى صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضي الله عنها: دخل عليه عبد الله بن مسعود -كما ورد في صحيح البخاري - فوجد الحمى تشددت برسول الله، فقال: يا رسول الله! إني أراك توعك وعكاً شديداً، فقال الرسول: أجل يا عبد الله! إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم، قال عبد الله: ذلك وأن لك لأجرين يا رسول الله! قال: نعم.
يا عبد الله، فما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا حط الله بها من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها.
تقول عائشة رضي الله عنها: وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري -كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري - تقول: جمع الله بين ريقي وريقه عند الموت، ولقد جلست وأسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فدخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر بيده سواك، فرأيت رسول الله ينظر إلى السواك، فعرفت أنه يحب السواك، فقلت: يا رسول الله! آخذ لك السواك، فأشار برأسه أن نعم، فأخذت السواك فقضمته ثم لينته، ثم طيبته ثم دفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاك به جيداً كأشد ما يستاك قبل ذلك، فأخذت منه السواك واستكت به، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، فكان هذا هو آخر عهدي بريق المصطفى صلى الله عليه وسلم.
واشتد الألم ودخلت فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يحبها حباً شديداً، فكانت أشبه الناس به، وكانت أحب الناس إليه؛ لأنها هي التي أصابها الله جل وعلا بموته، أما جميع أخواتها متن قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت إذا ما دخلت عليه في حال صحته قام إليها وقبلها بين عينيها، وأجلسها في مجلسه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع القيام، فلما دخلت عليه ووجدته يعاني الألم والمرض أكبت عليه تقبله وهي تبكي، وهي تقول: واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! والرسول يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، فسارها النبي صلى الله عليه وسلم -أي: التقم أذنها وأعطى لها سراً- فبكت فاطمة رضي الله عنها وانطلقت، فنادى عليها فعادت إليه، فقال لها سراً آخر فضحكت، فلما سئلت عن ذلك؟ قالت: أخبرني أنه سيموت في وجعه هذا، فبكيت، ولما عدت إليه أخبرني أني أول أهل بيته لحوقاً به فضحكت واستبشرت لذلك.
وفي رواية أخرى قال لها: يا فاطمة! إن جبريل كان يعاودني القرآن في كل عام مرة، وأراه قد عاودني القرآن في هذا العام مرتين، وما أراه إلا قد اقترب أجلي يا فاطمة، فبكت فاطمة رضي الله عنها، فقال لها الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة! إني أعلم أنك أشد نساء المسلمين مصاباً بي بعد موتي، فلا تكوني أقل امرأة منهن صبراً، فاصبري يا ابنتي واحتسبي أجرك عند الله، فخرجت فاطمة تبكي وهي تقول: احتسبتك عند الله يا رسول الله! احتسبتك عند الله يا رسول الله! احتسبتك عند الله يا رسول الله! وخرجت فاطمة تبكي رضي الله عنها.(82/5)
وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام
تقول عائشة رضي الله عنها: وفي يوم الإثنين الذي توفي فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم خرج والمسلمون يصلون صلاة الفجر -على الصحيح- فكشف الستر ووقف على باب عائشة رضي الله عنها، فلما رأى الصحابة رسول الله خرج إليهم ووقف على الباب كادوا أن يفتنوا في الصلاة، وفرحوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم الصديق أنهم ما فعلوا ذلك إلا لرؤيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الصديق أن ينصرف إلى الخلف ليخلي مكان الحبيب صلى الله عليه وسلم فلقد أمره الرسول أن يصلي بالمسلمين في مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، وهم الصديق أن يتأخر، فأشار إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن اثبتوا، وابتسم الحبيب صلى الله عليه وسلم لما رأى من حسن هيئتهم في الصلاة، وأرخى الستر، وكأن الرسول أراد أن يلقي على أصحابه نظرة الوداع، وكانت آخر نظرة نظرها إلى أصحابه صلى الله عليه وسلم.
أرخى الستر ودخل إلى بيت عائشة ولا يدري أحد أن اللحظات الأخيرة من عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم بدأت تتلاشى وتنتهي، عاد الحبيب وإذ بملك الموت ببيت الحبيب، انتهى الأجل يا رسول الله! انتهى الأجل يا حبيب الله، ملك الموت الآن في بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم، ورسول الله في حجر عائشة بين سحرها ونحرها -رأسه على صدرها صلى الله عليه وسلم- وملك الموت في الدار، واقترب الأجل وانتهت اللحظات الأخيرة من أشرف عمرٍ من عمر الحبيب صلى الله عليه وسلم.
نعم.
أقبل يا ملك الموت انتهى الأجل كما حدده الله، أقبل يا ملك الموت، ويقبل ملك الموت ليعالج أطهر روح على ظهر الأرض، ليقبض أشرف روح، لينادي على روح المصطفى: يا أيتها الروح الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، وربٍ راضٍ عنك غير غضبان، أخرجي يا روح محمد بن عبد الله أطهر روح وأشرف روح {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وتخرج روح الحبيب، تقول عائشة رضي الله عنها: مات رسول الله بين سحري ونحري، فرأيته رفع إصبعه إلى السماء وهو يقول: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى.
فعلمت أنه يخير؛ لأنه أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أيها الأحباب! خرجت روح الحبيب إلى خالقها، إلى {مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] إلى جنة الله جل وعلا، إلى النعيم الأبدي المقيم، إلى دار الخلد، مات رسول الله، مات حبيب الله، مات إمام الأنبياء، مات إمام الأصفياء، مات إمام الأتقياء، مات سيد العالمين، مات سيد المرسلين.
فسقطت يده عليه الصلاة والسلام فعلمت أنه مات، فخرجت تبكي وتصرخ، فقابلها عمر فعلم أن الأمر قد وقع، وعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ولكنه لا يصدق؛ لا يصدق عقله، ولا يصدق هذه الحقيقة أبداً، فخرج ورفع سيفه في وسط الناس، في وسط هذه الجموع الملتهبة، في وسط هذه الجموع التي تصرخ وتبكي، وقال: [والله إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله قد مات، فوالله ما مات رسول الله، لقد ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران إلى لقاء الله، وغاب عن قومه أربعين يوماً وعاد مرة ثانية، ورسول الله ما مات وسيعود، وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه قد مات].
وعمر بن الخطاب يصيح ويصرخ، وسمع علي بن أبي طالب الخبر فشلت قدماه، وقعد على الأرض ولم يستطع القيام، وسمع عثمان بن عفان الخبر فخرس لسانه، وكان يذهب به ويؤتى به وهو لا يتكلم ولا ينطق، وأذهل العالمون - أذهل الناس جميعاً- وأذهل أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وأيد الله المنصور أبا بكر رضي الله عنه عاد من منزله بالسنح، وكان في يوم الإثنين قد استأذن رسول الله لما رآه قد طل عليهم من وراء الستر استأذنه أن يذهب إلى بيته بالسنح إلى زوجه هناك، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما سمع الخبر عاد إلى بيت الحبيب -إلى بيت عائشة - وعمر بن الخطاب يصرخ في هذه الجموع، وعثمان بن عفان لا ينطق ولا يتكلم، وعلي جالس في الأرض لا يقوى على القيام، فلم يلتفت الصديق إلى شيء ودخل على جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم، اليوم تدخل على جثمان الحبيب يا أبا بكر، وقد كنت في الأمس القريب تدخل على سيد الخلق وحبيب الخلق، وأنت اليوم تدخل على جثمان مسجى يا أبا بكر.
فدخل الصديق إلى جثمان الحبيب صلى الله عليه وسلم وكشف الغطاء عن وجهه، وجلس على ركبتيه أمام الحبيب فقبله بين عينيه وهو يبكى رضي الله عنه وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم يا رسول الله! ثم بكى الصديق رضي الله عنه وقال: يا حبيبي! لقد انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، جللت يا حبيبي عن البكاء، واصفياه! واخليلاه! وانبياه! وخرج الصديق رضي الله عنه الذي أيده الله بمدد من عنده، وثبته الله عز وجل، خرج وعمر بن الخطاب يصرخ فقال على رسلك يا عمر! أمسك يا عمر! أمسكوا أيها الناس! وعمر يأبى إلا أن يتكلم، يصرخ في الناس، ويقول: [من قال بأن محمداً قد مات لأعلونه بسيفي هذا].
فلما رأى الناس الصديق رضي الله عنه يريد أن يتحدث انصرف الناس عن عمر، وأقبلوا على أبي بكر رضي الله عنه، فوقف الصديق رضي الله عنه ليعلن الحقيقة الكبرى في هذا الوجود كله: [أيها الناس! أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت، ثم تلا قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]].
يقول أبو هريرة: [فأخذها الناس من أبي بكر وكأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وكأنهم لم يعلموا أنها أنزلت، فانطلق الناس جميعاً وهم يرددون هذه الآية، كلٌ مشى وهو يتلو قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]].
يقول عمر بن الخطاب: [فلما سمعتها، وعلمت أن رسول الله قد مات عقرت -وقعت على الأرض- ولم تستطع قدماي أن تحملاني، وعلمت أن رسول الله قد مات].
وكفن الحبيب صلى الله عليه وسلم في ثيابه، وقد اختلفوا هل نجرده من ثوبه، أم نغسله في ثوبه؟ فسمعوا منادياً -كما ذكرت جميع كتب السير- سمعوا منادياً ينادي: أن غسلوا رسول الله في ثوبه، لا تجردوا رسول الله أبداً، فغسلوا الحبيب صلى الله عليه وسلم في ثوبه، وكانوا يصبون عليه الماء وعلي رضي الله عنه يغسله صلى الله عليه وسلم من على الثوب لا تمس يده جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وغسل الحبيب، وكفن الحبيب، ودفن الحبيب في غرفته التي مات فيها في حجرة عائشة رضي الله عنها، ويا له من شرفٍ لـ عائشة رضي الله عنها أن يدفن الحبيب في غرفتها وفي حجرتها وفي بيتها، ودفن الحبيب، وصلت عليه الملائكة وصلى عليه الصحابة وأهل بيته الأقرب فالأقرب، ولما صلي عليه ودفن وسمعت أصوات المساحين في الليل وهي تهيل التراب على جسد الحبيب صلى الله عليه وسلم صرخ نساء النبي، وضجت المدينة بالبكاء، وضجت فاطمة رضي الله عنها وبكت وهي تقول: [وا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه أجاب رباً دعاه! وا أبتاه إلى جبريل ننعاه! وا أبتاه في جنة الفردوس مأواه، فنظرت فوجدت أنس بن مالك رضي الله عنه، فنظرت إلى أنس وهي تبكي وتقول: يا أنس! أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!].
وحان وقت أول صلاة فأذن بلال رضي الله عنه، فلما جاء عند قوله: أشهد أن محمداً رسول الله بكى بلال رضي الله عنه ولم يستطع أن يكمل الأذان فبكى الناس، وضجت المدينة بالبكاء.
وهكذا أيها الأحباب! مات الحبيب صلى الله عليه وسلم.
والله يا رسول الله! إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا رسول الله لمحزنون، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، واجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(82/6)
كل نفس ذائقة الموت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الأحبة في الله: هكذا مات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35].
أفإن مت يا محمد فأي مخلوق أن يخلد بعدك؟! لا والله، إنها الحقيقة الكبرى في هذا الوجود.
يا عباد الله: إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين، وعناد الملحدين, وبغيان البغاة المتألهين، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، لو شاء الله جل وعلا أن يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق مستوى الموت وآلام الموت لفعل، ولكنه بشر يموت كما يموت سائر البشر: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34].
فيا أيها المسلمون: اعتبروا بموت رسول الله، واذكروا مصابكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن حب الرسول ليس مجرد دمعات تسكب على الوجنتين لا والله، ولكن حب الحبيب صلى الله عليه وسلم اقتفاء لأثره، واهتداء بهديه، والتزام بسنته، وأن نطيعه صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر، وأن ننتهي عن كل ما نهى عنه النبي وزجر؛ هذه هي محبتنا لرسول الله.
أما أن نقول إننا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم ونكتفي بأن ننتج له القصائد والأشعار على منوال حب عنتر لـ عبلة، أو قيس لـ ليلى -والعياذ بالله- ونتوقف عند كلمات العشق والغرام في رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه محبة كاذبة، محبة باطلة، يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لقد ادعى قوم المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فابتلاهم الله بآية المحبة فقال جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر، وانته عن كل ما نهى عنه النبي وزجر، تكون بذلك محباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم كما آمنا بنبيك ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم أوردنا حوضه الأصفى، واسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين.
اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم اجزه عنا خير الجزاء يا رب العالمين.
اللهم توفنا على ملته، واحشرنا تحت لوائه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(82/7)
وقفات مع قوله تعالى: ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض
حياة القلوب وقوة الإيمان في ذكر اليوم الآخر، الذي فيه تتطاير الصحف وتنشر، ويوقف العبد للحساب والعقاب، هذا اليوم له علامات ومقدمات، ومن هذه المقدمات نفخة الصور، وقد وقع الخلاف بين العلماء في بيان عدد النفخات ووقتها، والراجح أنها ثلاث: الفزع، ثم الصعق، ثم البعث والنشور.(83/1)
واقع الأمة وموقفها من دينها وعقيدتها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع حضراتكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! ما أحوجنا إلى أن نقضي هذه الدقائق مع آية في كتاب الله جل وعلا استمعنا إليها في صلاة العشاء، ألا وهي قول الله سبحانه وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
قد نُتهم بأننا نكثر الحديث عن الدار الآخرة، وقد نُتهم بأننا إذا ما أكثرنا الحديث في هذا الجانب أننا نجهل الواقع، ولكن من فتح كتاب الله جل وعلا وجد القرآن كله يركز على الترغيب والترهيب -يُذكر بالجنة والنار- بل إن أول ما نزل من القرآن أنزل الله جل وعلا آيات كريمة طيبة تذكر الناس بالجنة وتحذرهم من النار كما قالت عائشة رضي الله عنها: [إن أول ما نزل من القرآن سور تذكر الجنة والنار، ولو قال الله عز وجل: لا تزنوا، لا تشربوا الخمر، لقالوا: لن ندع الزنا ولن ندع الخمر أبداً].
فالأمة الآن في هذه الأوقات تعيش في واقع مرّ أليم، متشرذمة كتشرذم الغنم في ليلة شاتية ممطرة! والمتدبر لهذا الواقع يعلم يقيناً أن الأمة الآن في أمس الحاجة إلى أن تعيد وتصحح عقيدتها في اليوم الآخر، وتنظر إلى هذا اليوم نظرة واقع وعمل، فإن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، ومحال أن يتأصل الإيمان في قلب مسلم بهذا اليوم المهيب إلا إذا أكثر تذكره؛ وأكثر السماع لأهواله.
إن الأمة الآن تعيش حالة من الماديات والشهوات الطاغية، وتحتاج إلى من يذكرها دوماً بالله وبجنة الله، ويذكرها دوماً بالنار، ويحذرها منها، فلقد كان النبي يرتقي المنبر ويقول للناس: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار) حتى تسقط الخميصة أو الرداء من على ظهره، يقول أحد الصحابة: [لو كان رجل بالسوق لسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي في الأمة ويقول: أنذرتكم النار، أنذرتكم النار].
طغت الماديات والشهوات بصورة شغلت كثيراً من الناس عن رب الأرض والسماوات، وعن التفكر في هذا اليوم الذي سيقف الإنسان فيه بين يدي الله جل وعلا.(83/2)
مشاهد من اليوم الآخر
ورد في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر -أي: العبد- أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ستعرض على الله جل وعلا، فهل فكرت في هذا الموعد؟! هل أعددت لهذا اللقاء؟! أيها الحبيب! كيف يكون حالك إذا عُدت الليلة إلى دارك فرأيت خطاباً من قاضٍ من قضاة الدنيا يأمرك فيه بالمثول بين يديه في الصباح الباكر، أتحداك أن تنام الليل، مع أنك ستقف أمام عبد فقير حقير.
لقي الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له الفضيل: كم عمرك؟ قال: ستون سنة.
قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل.
فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إليه راجع.
فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً.
فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة.
قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: اتق الله فيما بقي من عمرك، يغفر لك الله ما قد مضى وما قد بقي من عمرك.
تذكر وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمخلصون بدار الخلد سكانا
يقول جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الزمر:68] جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما الصور؟ فقال المصطفى: قرنٌ ينفخ فيه) والقرن هو البوق، والنافخ هو إسرافيل باتفاق الأمة، يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور.
ولقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: إن إسرافيل ينفخ في الصور نفختين، ومنهم من قال: إن إسرافيل ينفخ في الصور ثلاث مرات، ووقف بعضهم وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه عند آيات القرآن.(83/3)
نفخة الفزع
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] هذه هي نفخة الفزع التي تحول هذا الكون كله إلى كون انقلبت كل ذراته؛ انقلب كل كيانه، ولو أردت أن تتعرف على هذا الانقلاب الهائل ما عليك إلا أن تقرأ سورة التكوير، والانفطار، والانشقاق: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ذهب ضياؤها وراح نورها {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2] تناثرت من عقدها البديع الفريد {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] هذه الجبال العملاقة تتحول إلى عهن منفوش {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:105 - 107] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:3 - 4] العشار هي: النوق الحبالى، وهي من أغلى ما يمتلكه العربي في أرض الجزيرة، فإذا نفخ في الصور نفخة الفزع، نظر إليها ولم يعبأ بها؛ لأنه قد وقع به ما يشغله.
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] الوحوش! المفترس مع الأليف الوديع، قد جاء منكسراً ذليلاً إلى الله جل وعلا، فلا يخشى الوديع من المفترس، ولا ينقض المفترس على الأليف؛ لأن الكل قد وقع به ما يشغله {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] هذه البحار التي جعلها الله سبب الحياة، يتحول ماؤها إلى براكين نارية {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] إلى آخر الآيات، يتحول هذا الكون كله إلى شيء آخر: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].(83/4)
نفخة الصعق (الموت)
بعد هذه النفخة يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور نفخة الصعق -أي: الموت- فيموت كل حي على ظهر هذه الأرض، بل ويموت أهل السماء إلا من شاء الله، ومن أهل العلم من قال: يستثنى جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، واستدل بعضهم بحديث الصور الطويل وهو حديث ضعيف بطوله؛ لأنه يدور على إسماعيل بن رافع وقد ضعفه أهل الجرح والتعديل، فإذا ما أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق يموت كل حي على ظهر هذه الأرض! ويطوي الملك جل وعلا السماوات والأرض بيمينه، وورد في رواية مسلم: (يطوي السماء بيمينه والأرض بشماله) ورواية الصحيحين: (يطوي السماء والأرض بيمينه) وقد ثبت: (وكلتا يديه يمين) جل جلاله (يطوي السماء والأرض بيمينه ويقول سبحانه: أنا الملك، أين المتكبرون؟ أو أين الجبارون؟ ثم يقول جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد؛ لأنه سبحانه في هذا اليوم يسأل ويجيب، فما من سائل غيره ولا مجيب، يقول جل جلاله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]) أين الملوك؟ أين الأمراء؟ أين الرؤساء؟ أين الزعماء؟ أين الوزراء؟ مات كل حي وذهب كل شيء.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان(83/5)
نفخة البعث
{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] الله أكبر! إنها نفخة البعث، انظر إلى هذا المشهد العجب! يقول ابن مسعود، والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه لـ ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وروى الأثر الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وتعقب الحاكم الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط البخاري، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [يبعث الناس يوم القيامة ومنهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط الظلمة به من كل ناحية] والعياذ بالله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم (يبعث كل عبد على ما مات عليه) تدبر هذه المشاهد لتقف على خطر هذا اليوم {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق:1 - 4] {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة:1 - 3] ما الذي بدل سكونها؟ ما الذي بدل استقرارها وأمنها؟ ذلك {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:5 - 8].
يخرج الجميع حفاة عراة غُرلاً، ليعرض الجميع على الله جل وعلا؛ ليكلمك الله، ويعطيك كتابك، فإن كنت من أهل التوحيد السعداء -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يختم لنا ولكم بالتوحيد- أعطاك الله كتابك بيمينك، وقيل لك كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه -والكنف في اللغة لا تأويلاً للصفة فلسنا ممن يؤول الصفات، هو الستر والرحمة- يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه فيقول: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف، رب أعرف، فيقول له الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ويعطيه صحيفة حسناته) أما الآخرون -عياذاً بالله- ينادى عليهم على رءوس الأشهاد: ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين! يدنى المؤمن من ربه ويكلمه الله جل وعلا -ينادى عليه- وتعطى هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، بل كم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فتدبر هذه الآية: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ستعرضون على الله جل وعلا {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].
فيا أيها الحبيب! أكثر من ذكر هذا اليوم واستعد له بالعمل الصالح؛ بالقرب من الله جل وعلا، وبالبعد عن المحرمات والمعاصي والذنوب، واعلم بأن أقرب غائب تنتظره هو الموت فإن العبد إذا مات قامت قيامته، يسأل في هذا القبر الضيق: عن ربه، ونبيه، ودينه.
فيا أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بالعمل والاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تصير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خَلتِ الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يوفقنا وإياكم للاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم، يوم نقوم لرب العالمين، وأسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد، وأن يحشرنا وإياكم في زمرة الموحدين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(83/6)
وقفة مع النفس
الأيام تمر إثر الأيام، والأشهر تجري وراء الأشهر، والسنون تتلوها السنون، فتنقضي الأعمار، وتندرس الأجيال جيلاً بعد جيل، وبعدها يقف الجميع بين يدي الملك الجليل للحساب والسؤال عن القليل والكثير، وهذه دعوة يقدمها الشيخ لكل المسلمين للمبادرة بمحاسبة النفس، فهل من قابل للدعوة؟! وهل من مشمر لها؟(84/1)
أهمية محاسبة النفس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: حياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جلا وعلا الذي جمعنا معكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: هاهي الأيام تمر والأشهر تجري وراءها تسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتقضي على جيل بعد جيل، وبعدها يقف الجميع بين يدي الملك الجليل، للسؤال عن الكثير والقليل، مصداقاً لقوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].
وكان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يقف الواحد مع نفسه ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه فهذا هو دريد بن الصمة رحمه الله جلس يوماً مع نفسه جلسة صدق، وعدَّ سنوات عمره التي مضت، فوجد أنه قد قارب الستين، وأن أيام عمره زادت على واحد وعشرين ألف يوم، فصرخ وقال: يا ويلاه يا ويلاه، ألقى ربي في واحد وعشرين ألف ذنب! كيف وفي كل يوم عشرات المعاصي والذنوب؟!.
فأحببت أن أقف الليلة مع نفسي وأحبابي وإخواني لأذكرهم بوقفة مع النفس، فهذا هو عنوان محاضراتنا في هذه الليلة المباركة -وكما تعودت- حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: صفات النفس في القرآن الكريم.
محاسبة النفس.
مشقة الحساب يوم القيامة أفق يا سابحاً في بحار الغمرات.
فأعيروني القلوب والأسماع، فما أحوجنا جميعاً إلى هذه الوقفة الصادقة مع النفس، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].(84/2)
صفات النفس في القرآن الكريم
أحبتي الكرام: فقد وصف الله تعالى النفس في القرآن الكريم بثلاث صفات.(84/3)
النفس المطمئنة
قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28].
فما هي النفس المطمئنة؟ النفس المطمئنة: هي النفس التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ونبياً.
هي النفس التي اطمأنت إلى أمر الله ونهيه، هي النفس التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده، هي النفس التي اطمأنت واشتاقت إلى لقاء الله عز وجل.
قال أحد السلف: [مساكين والله أهل الغفلة خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله والأنس به].
فلا يتذوق المؤمن طعم الأنس ولا حلاوة القرب إلا في طاعة الله جل وعلا، ولا تشعر بلذة الطمأنينة وحلاوتها إلا مع الله جل وعلا.
فالنفس المطمئنة: هي النفس الراضية عن الله عز وجل وعن شرعه وعن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً) والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة.(84/4)
النفس اللوامة
النفس اللوامة هي: نفس أبية كريمة هي الأخرى.
قال ميمون بن مهران: [لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح].
فهي نفس كريمة تلوم صاحبها على الخير والشر معاً، تلوم صاحبها على الخير لماذا لم تكثر منه؟ لماذا لم تداوم على فعل الخيرات؟ وتلوم صاحبها على الشر والمعاصي: لماذا فعلت الشر؟ لماذا ارتكبت المعصية؟ لماذا وقعت في الذنب؟ فهي نفس كريمة، أقسم الله عز وجل بها في قرآنه، قال سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1 - 2].
فالنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، على الخير لماذا لم يكثر منه، وعلى الشر لماذا وقع فيه.(84/5)
النفس الأمارة
أما النفس الأمارة -أسأل الله أن يعيذني وإياكم من شرها- فهي النفس التي تدفع صاحبها دفعاً إلى المعصية، وتحاول تلك النفس الخبيثة أن تخرج صاحبها من طريق الهداية إلى طريق الغواية، والطاعة إلى المعصية، والخير إلى الشر.
لو أتيت الليلة إلى مثل هذا المسجد المبارك لتقضي وقتاً مع الله جل وعلا في صلاة القيام الذي قال في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقفت النفس الأمارة لك بالمرصاد، تريد أن تحول بينك وبين هذا الخير.
والناس صنفان: صنف انتصر على نفسه وقهرها وغلبها، وفطمها عن المعصية، وألجمها بلجام التقوى، وجعلها مطية إلى كل خير وطاعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هذا الصنف الكريم، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
صنف أفلح في تزكية نفسه، زكاها بالطاعة وبالبعد عن المعصية والشهوات والشبهات، زكاها عن كل ما يغضب الله عز وجل.
وصنف قهرته نفسه، وغلبته نفسه، وجعلته -النفس- مطية إلى كل هوى وشهوة ومعصية وذنب، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
فالنفس أمارة بالسوء، قال الله تعالى في حق هذه النفس حكاية عن امرأة العزيز: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
هذه النفس الأمارة تستوجب من المسلم التقي الذكي أن يكون منتبهاً مستيقظاً فطناً، فقد تزين لك المعصية والتسويف في آن، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً من هذه النفس الأمارة، وأن ينتبه إليها، وأن يقف معها لا أقول في كل ليلة، بل مع كل كلمة وعمل، بل قبل القول، وبعد القول، وقبل العمل، وبعد العمل، ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه في التجارة، وإلا لهلك الإنسان من حيث لا يدري ولن ينتبه إلا وهو في عسكر الموتى بين الأموات.
قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم الزاهد العابد العالم: [يا أبا حازم! ما لنا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال أبو حازم: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، وأنت تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب] من الذي يحب أن يترك العمران ويترك حياة الرفاهية ليذهب إلى الصحراء والخراب؟.
فقال سليمان: [يا أبا حازم! فما لنا عند الله جل وعلا؟ فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم أين مكانتك عند الله جل وعلا، فقال: وأين أجد ذلك؟ فقال أبو حازم: في قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] فقال سليمان: فأين رحمة الله يا أبا حازم؟! فقال أبو حازم: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] فقال سليمان: فكيف القدوم على الله غداً؟ فقال أبو حازم: أما المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالآبق يرجع إلى سيده ومولاه].(84/6)
عدم ارتباط المحاسبة بوقت
المؤمن هو الذي يقف مع نفسه ليذكرها بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز: محاسبة النفس، والمحاسبة نوعان:(84/7)
المحاسبة قبل القول والعمل
لمن أتكلم؟ لمن أعمل؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أوالي؟ لماذا أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ لماذا جئت؟ لماذا لم آت؟ سؤال عن الإخلاص لمن تعمل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
إخوتي الكرام! لو وقف أحدنا وحاسب نفسه قبل أن يتكلم وقبل أن يعمل لتغير حالنا تماماً، بل لفكر أحدنا بدل المرة ألف مرة قبل أن ينطق مرة؛ لأنه سوف يسأل نفسه: لماذا أتكلم؟ فهل أبتغي بعملي هذا وجه الله، أم أبتغي السمعة والشهرة والرياء؟ حساب للنفس قبل القول والعمل يجعل الإنسان يفكر بدل المرة ألف مرة قبل أن ينطق مرة، وقبل أن يعمل مرة، والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وما كان موافقاً لهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: وجماع الدين أصلان: الأصل الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبالشهادة الأولى يُعرف المعبود عز وجل، وبالشهادة الثانية: يعرف كيف يُتوصل إلى المعبود عز وجل، إذ أن الطرق كلها مسدودة إلى الله عز وجل إلا من طريق المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).(84/8)
المحاسبة بعد القول والعمل
إذاً: محاسبة قبل القول والعمل، ومحاسبة بعد القول والعمل، أحاسب نفسي بعد كل كلمة وحركة: هل ابتغيت بها وجه الله؟ ثم هل كان العمل موافقاً لهدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فإن وجد المؤمن نقصاً أكمله، وإن وجد خللاً سده، وإن وجد تقصيراً اتهم نفسه.
وأؤكد لكم بأن المؤمن دائماً يتهم نفسه بالتقصير، ولا يرى لنفسه أبداً فضلاً ولا شرفاً ولا كرامة، فإن أطعت الله فمن الذي وفقك للطاعة؟ وإن صبرت من بعد صلاة العشاء إلى وقت القيام في بيت رب الأرض والسماء فمن الذي وفقك لهذا؟ غيرك الآن يجلس أمام التلفاز وأنت الآن في بيت الله بغير حول منك ولا طول.
بل إن الحول والطول والمدد والقوة من الله عز وجل وحده: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ينشأ في بيت يهودي على اليهودية، وآخر ينشأ في بيت نصراني على النصرانية، وآخر ينشأ في بيت مجوسي على المجوسية، ونحن نشأنا في بيوت توحد رب البرية، فوحدنا الله جل وعلا من غير رغبة منا ولا اختيار: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].
فيا إخوتي الكرام! والله إن لله عز وجل علينا نعماً لا تعد ولا تحصى، وإن أجل وأكرم نعمة قد أنعم الله بها علينا هي نعمة الإيمان والتوحيد، ولله در القائل:
ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً
فالمؤمن دوماً يحاسب نفسه ويتهم نفسه بالتقصير: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
قالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟! قال: لا يا بنت الصديق، إنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه).
ولذلك جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال: [يا أم المؤمنين! ما تقولين في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] فقالت عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد: فقوم ساروا على هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك].
أم المؤمنين عائشة جعلت نفسها معنا وهي من؟ هي المبرأة من فوق سبع سماوات، هي زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبشرة بالجنة، هي أحب نساء النبي إلى قلبه بعد خديجة، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من، قال: ثم عمر).
وهاهو سفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والعلم والورع ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة، فيقول له حماد: [أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان: أسألك بالله يا حماد! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!].(84/9)
دعوة إلى محاسبة النفس
فالمسلم دوماً يحاسب نفسه ويتهمها بالتقصير، فقف أيها الحبيب مع نفسك الليلة وقفة صدق وقل لها: يا نفس! ليس لي بضاعة إلا العمر، فإن ضاعت بضاعتي ضاع رأس مالي، توهمي يا نفس أنك قد متي وطلبتي من الله الرجعة، وهاأنت قد عدتي إلى الدنيا فاعملي قبل أن تتمني الرجعة يوماً فلا يستجاب لك: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيكون
الجواب
{ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
يا نفس! إن كنت تجترئين على معصية الله وأنتِ تظنين بأن الله لا يراك فما أعظم كفرك بالله جل وعلا! وإن كنت تعلمين بأن الله يراك وأنت مصّرة على معصيته فما أشد جرأتك على الله، وما أعظم وقاحتك مع الله عز وجل.
يا نفس! إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟! ومتى ستعيشين بالإسلام وللإسلام؟! يا نفس! متى ستحافظين على قراءة القرآن، وعلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى تحقيق التوحيد لله، وعلى بر الوالدين، وعلى الإحسان للجيران؟! ومتى ستبذلين المال للفقراء؟! ومتى ستحسنين العمل؟! متى متى متى؟! يا نفس! أما لك بأهل القبور عبرة؟! أما لك إليهم نظرة؟! كانوا كثيراً، وجمعوا كثيراً، فأصبح بنيانهم قبوراً، وأصبح جمعهم بوراً.
يا نفس! ألا تفكرين في القبر وضمته؟! ألا تفكرين بالصراط ووحدته؟! ألا تفكرين في النار والأهوال والأغلال؟! أما تخشين من الحجاب عن النظر إلى وجه الكبير المتعال؟! ويحك يا نفس!
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بمنزل ينـ ـسى الخليل به الخليل
وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل
أيها الأخ الحبيب: قف مع نفسك الليلة وقفة صدق، وحاسبها محاسبة شديدة، واعلم أن النفس كالطفل إن فطمتها عن المعصية انفطمت، وإن ألجمتها بلجام التقوى ألجمت، وإن عودتها على الطاعة اعتادت، فالنفس كالطفل، إن فطمت الطفل عن ثدي أمه بكى يوماً أو يومين ثم اعتاد بعد ذلك، كذلك النفس.
فيظن كثير منا أن إجبار النفس على الطاعة وإبعادها عن المعصية أمر عسير، وهو كذلك إلا لمن يسر الله عز وجل له ذلك.
أسأل الله أن ييسر لنا ولكم الطاعات.(84/10)
مشقة الحساب يوم القيامة
اعلم بأن النفس جموح، وأن النفس أمارة، وأنه لن يخف الحساب يوم القيامة إلا على من حاسب نفسه في الدنيا.
قال عمر بن الخطاب: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا].
أيها الحبيب: هل دعيت يوماً لحضور محاكمة في قاعة محكمة من محاكم الدنيا؟ انتقل معي على جناح السرعة إلى قاعة محكمة وتصور أنك جالس في هذه القاعة، وهاهو القاضي يدخل إلى قاعة المحكمة، وبين يديه الحاجب ليصرخ في الحضور: محكمة انظر إلى وجوه الناس وتفرس، انظر إلى الصدور ربما تعلو وتهبط وهي تنتظر أن تسمع الحكم من القضاء؛ بل ربما ترى العيون وقد انهمرت منها الدموع مدراراً على الوجوه، والآذان صاغية، والأبصار مشدودة، والكل منتظر، المتهم في قفص الاتهام وأهله ينتظرون، يا ترى بأي حكم سينطق القاضي في هذه اللحظات؟! تصور هذه اللحظات لتقف على حجم الهول الذي يعيش فيه الناس، ولله المثل الأعلى، فأرجو أن تنتقل من هذه الجلسة إلى لحظات يقف فيها العبد على بساط العدل بين يدي الله جل وعلا، وقد دنت الشمس من الرءوس مقدار ميل وغرق الناس في عرقهم كل على قدر عمله، وأتي بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت، فتجثوا كل الأمم على الركب من هول الموقف.
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مشتوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار مسكنهم والمؤمنون بدار الخلد سكانا
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصائحف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الوليد بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وصدق ربي حيث يقول: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:105 - 111].
((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:111] تذكر هذه اللحظات لتقف على مشقة الحساب بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب، قالت عائشة: يا رسول الله! أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8]؟! قال: ليس ذلك الحساب يا عائشة! إنما ذلك العرض، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب).
والعرض: هو أن يعرض الله على العبد أعماله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) أي: يقول الرب سبحانه: عبدي لقد عملت كذا وكذا أي: من الذنوب والمعاصي، يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا (فيقول المؤمن: رب أعرف، فيقول الله عز وجل: ولكن سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).
انظروا إلى فضل الله عز وجل، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب، فإن الهول شديد، وإن الكرب والله عظيم، ولن تخف مشقة الحساب على العبد يوم القيامة إلا إن حاسب نفسه، وشق على نفسه في الحساب في الدنيا، قال عمر: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا يخفى منكم خافية فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا].(84/11)
أفق يا سابحاً في بحار الغمرات
أفق يا سابحاً في بحار الغمرات.
أيها اللاهي! أيها الساهي:
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كليهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب(84/12)
أهمية المسارعة في التوبة
عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الدنيا -أخي الحبيب- مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، فالدنيا دار ممر، والآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.
قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
ولله در القائل:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفناً
فالدنيا مزرعة -أيها الأحبة- أنا لا أريد أن أيئسك من الدنيا، أو أن أقنطك من الحياة، كلا.
وإنما أقول لك ما قاله علي رضوان الله عليه بهذا الفهم العالي لحقيقة الدنيا حيث قال: [الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن تزود منها، فالدنيا مصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، ومهبط رحمة الله، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة].
ازرع في هذه الدنيا واستعد، وأقبل إلى الله جل وعلا، وأفق وانتبه، واعلم أن العمر قصير، وبأن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، أقبل على الله وأنت على يقين بأن الله عز وجل سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، كما ذكرت إخوانكم قبل الآن فالله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].(84/13)
فرحة الله بتوبة العبد
يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أنس: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته في أرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا به يرى راحلته قائمةً عند رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك -يقول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أخطأ من شدة الفرح).
أيها الحبيب: فرح الله بتوبتك إليه أفرح من هذا العبد بعودة راحلته إليه.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول -يتنزل ربنا نزولاً يليق بكماله وجلاله- ثم ينادي رب العزة ويقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر).
وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى يوماً امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فالتفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا المشهد الحاني وقال لأصحابه: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا يا رسول الله، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لله أرحم بعباده من رحمة هذه الأم بولدها).
قال أحد أهل العلم: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك والعذاب، أفترضاه لي أنت وأنت أرحم الراحمين؟! اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر.
اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر لنا العيوب، وفرج عنا الكروب، وتقبل منا صالح الأعمال، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(84/14)
يا رب! أمتي أمتي
تحدث شيخنا -حفظه الله- عن الشفاعة كحَدَث عظيم يوم القيامة، مبيناً أن أبانا آدم وأولي العزم من الرسل يهابون الوقوف للشفاعة الكبرى؛ فتصل إلى حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها؛ وذلك هو المقام المحمود الذي وعده الله إياه! ثم تكلم عن هول ذلك اليوم، مذكراً الأمة بوجوب توقير وتعظيم النبي الكريم، وأن التمسك بسنته عزة، وتركها ذلة يضربها الله على الأمة كما هو حالها اليوم.(85/1)
من مشاهد يوم القيامة والشفاعة العظمى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله, أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين, فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته, وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء والإخوة الأحباب الكرام الأعزاء.
وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً, وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق, وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي الهادف، منها: تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات, وانصرف كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات؛ ليعجلوا بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون؛ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.
وهذا هو لقاؤنا الحادي عشر من لقاءات هذه السلسلة المباركة الكريمة, وكنا قد أنهينا الحديث في اللقاء الماضي مع الناس وهم في أرض المحشر وقد اشتد بهم الهول والغم والكرب، فالزحام يكاد وحده أن يخنق الأنفاس, والشمس فوق الرءوس بمقدار ميل, والناس غرقى في عرقهم كل بحسب عمله وقربه من الملك الجليل, وفي هذا المشهد الرهيب العصيب يزداد الهم والغم والكرب بمجيء جهنم -أعاذنا الله من حرها- قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:23 - 26].
وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) , فإذا ما رأت النار الخلائق زفرت وزمجرت غضباً منهم لغضب الملك الجبار جل جلاله، وحينئذٍ تجثو جميع الأمم على الركب، قال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28].
وهنا تطير قلوب المؤمنين شوقاً إلى الجنة -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- وتطير قلوب المجرمين هرباً وخوفاً وفزعاً ورهبة من النار, بل ويعضُّ صنف كثير من الناس في أرض المحشر على يديه يتأسف ويتحسر ويتندم على ما قدم في هذه الحياة الدنيا، ولكن يوم لا ينفع الندم قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:26 - 29].
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} [الفرقان:27] ولكن متى؟! ضاع وقت التحسر, وفات وقت الندم {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
في هذا الكرب ينطلق بعض الناس ويقول بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ وما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ليقضي بينكم ولا نقف هذا الموقف العصيب الرهيب؟! وهناك يقول كل نبي: نفسي نفسي ويقول المصطفى: (أنا لها) , فلا يتقدم للشفاعة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو موضوعنا اليوم معكم أيها الأحبة الكرام, وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا معكم في العناصر التالية: أولاً: الشفاعة العظمى.
ثانياً: من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: مجيء الرب جل جلاله.
فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب- والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يستر علينا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض إنه على كل شيء قدير.(85/2)
الشفاعة العظمى واختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ثم قال: هل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من الرءوس؛ فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا؟ ألا تنظرون من يشفع لنا إلى ربنا؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم, فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأمر الملائكة بالسجود لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) -اللهم إنا نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ألا تنزل بنا غضبك أو يحل علينا سخطك, لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين-.
يقول أبو البشرية آدم وهو نبي من أنبياء الله: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي) -اللهم سلّم سلّم يا أرحم الراحمين-.
يا أخي! بالله عليك عش بقلبك مع هذه الكلمات, آدم أبو البشر يقول: (نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً عليه السلام فيقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وقد سماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟) -نوح أول رسل الله في الأرض, ذلكم العملاق الذي ظل يدعو إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً, ذلكم النبي الكريم الذي دعا القوم في السر والعلانية، في الليل والنهار {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5 - 9] ما ترك هذا النبي الكريم سبيلاً إلا وسلكه، ألف سنة إلا خمسين سنة لم ينم ولم يهدأ، ولم يقر له قرار- فيقول نوح: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة فدعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري) لقد دعا نبي الله نوح دعوته، فلكل نبي دعوة مستجابة، كل نبي تعجل بها في الدنيا إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم, كما في صحيح مسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، وكل نبي قد تعجل دعوته إلا أنا فقد اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فإنها نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً) اللهم ارزقنا التوحيد وتوفنا عليه يا أرحم الراحمين.
نوح دعا على قومه فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27] , لذا يقول: (اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم) إلى الخليل والحليم الأواه وحبيب الله بلا نزاع, إلى هذا النبي الكريم الذي حرم الله على النار أن تمس جسده قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
(فيأتون إبراهيم الخليل عليه السلام ويقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وأنت خليل الله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول خليل الله إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر إبراهيم كذباته, ثم يقول: نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري).
وهل كذب إبراهيم؟! والجواب من صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله، أما الأولى فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]) متى قال إبراهيم هذه العبارة؟ يوم كان شاباً صغيراً نشأ في قوم يعبدون الأصنام, ودعاه والده ليخرج مع القوم في عيد عبادة الأصنام، فتعلل إبراهيم بالمرض فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]؛ لأنه لا يريد أن يسجد لغير رب العالمين.
وأما الثانية فقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] وذلك عندما حطم الأصنام وعلق الفأس في رأس كبير هذه الآلهة المدعاة, فلما عادوا {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] , فرد البعض بلغة التحقير التي هي ديدن الظالمين في كل زمان وأوان: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61] , ثم وجهوا له هذا
السؤال
{ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63].
وأما الكذبة الثالثة: فهي يوم أن خرج مهاجراً بزوجته سارة فنزل مصر، وكان في مصر في ذاك الزمان جبار من الجبابرة -أسأل الله أن يطهر مصر من الجبابرة في كل زمان وأوان- فلما مر بـ سارة عليها السلام نقل بعض الناس لهذا الجبار: إن رجلاً قد نزل بأرضنا معه امرأة من أجمل الناس.
فأرسل هذا الجبار الخبيث بالشرطة، فجاءت لإبراهيم فأخذوه إلى الجبار، فقال له: من هذه؟ فقال إبراهيم: إنها أختي.
ولم يقل إنها زوجتي؛ فلو قال: إنها زوجتي لقتله ليخلص إليها, فقال: إنها أختي.
ثم عاد إبراهيم فقال لها: يا سارة! لقد سألني هذا الرجل عنك فقلت له: إنها أختي؛ فإنه لا يوجد على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، فأنت أختي في دين الله جل وعلا, فإن سألك فصدقيني ولا تكذبيني.
ثم أرسل هذا الخبيث الجبار إلى سارة فأتي بها, فلما دخلت عليه ونظر إليها قام إليها ليلمسها بيده، فشلّ الله يده -والحديث في صحيح البخاري - ووقف فقال لها: ادعي الله عز وجل ولا أضرك بعدها, فدعت الله فأطلق الله يده, فقام إليها الخبيث مرة ثانية ليتناولها بيده فشلّ الله يده, فقال: ادعي الله ولا أضرك بعدها, فدعت الله فأطلقت يده, فنادى على بعض حجبته وقال: إنكم لم تأتوني بإنسان وإنما أتيتموني بشيطان، اخرجوا بها وأخدموها هاجر , فأعطاها هاجر عليها السلام؛ لتخدمها وهي التي تزوجها إبراهيم بعد بذلك.
فعادت سارة بـ هاجر فرأت إبراهيم يصلي لله جل وعلا, فلما انصرف من صلاته قال: مهيم -أي: ماذا فعل الله بك؟ - فقالت سارة: رد الله كيد الفاجر وأخدم هاجر، أي: وأعطاني هاجر خادمة لي.
وهكذا صان الله عرض نبيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام, هذه كذبات إبراهيم على هامش الحديث الذي نحن بصدده، أرجع إلى حديث الصحيحين، يقول إبراهيم: (نفسي نفسي نفسي -وذكر كذباته التي ذكرت الآن- اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى) إنه الكليم والمصطفى بالرسالة، والمجتبى بالكلام، والمصنوع على عين الله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] اصطفاه الله برسالاته وبكلامه على جميع الخلق.
فيأتون موسى فيقولون: (يا موسى! أنت كليم الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول موسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري -حتى الكليم يقول: اذهبوا إلى غيري! - اذهبوا إلى عيسى -يقول الحبيب محمد:- فيأتون عيسى عليه السلام ويقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول عيسى عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله, اذهبوا إلى غيري، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى محمد بن عبد الله).
فهو والله التجارة الرابحة من سار على دربه نجا في دنياه وأخراه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر عيسى صلى الله عليه وسلم ذنباً من الذنوب، فيقول الحبيب المصطفى: (فيأتوني فيقولون: يا رسول الله! لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك, فيقول المصطفى: أنا لها أنا لها -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لا يقول ولا يجيب إلا الحبيب- يقول: فأقوم فأخر ساجداً لربي تحت العرش، ثم ينادي عليه الملك جل جلاله ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع, فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي، يا رب! أمتي) هو الحليم الأواه صاحب القلب الكبير والرحيم, الذي قال الله في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
قرأ يوماً قول الله في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أ(85/3)
المقام المحمود وفضله صلى الله عليه وسلم
أقول: لم يشفع في البشرية كلها لفصل القضاء إلا المصطفى، ولم يرد الملك جل جلاله إلا على محمد بن عبد الله.
أيها الموحدون: والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله, إن قدر رسول الله عند الله لعظيم, وإن كرامة النبي عند الله لكبيرة, فهو المصطفى والمجتبى، فلقد اصطفى الله من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين إبراهيم ومحمداً، واصطفى محمداً ففضله على جميع خلقه, شرح له صدره، ورفع له ذكره, ووضع عنه وزره, وزكاه في كل شيء؛ زكاه في عقله فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] , وزكاه في صدقه فقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] , وزكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] , وزكاه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكاه في ذكره فقال سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكاه في ظهره فقال سبحانه: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وزكاه في علمه فقال سبحانه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وزكاه في حلمه فقال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكاه كله فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] بأبي هو وأمي، هو صلى الله عليه وسلم رجل الساعة ونبي الملحمة وصاحب المقام المحمود، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه كل نبي في أرض المحشر, الذي وعد الله به نبينا في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
فهذا هو المقام المحمود كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة, وأنا أول من ينشق عنه القبر, وأنا أول شافع وأول مشفع).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة كذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه, فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ -أي: ليكتمل جمال البنيان وجلاله، يقول المصطفى- فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم -فهو البليغ الفصيح- ونصرت بالرعب -وفي لفظ البخاري: مسيرة شهر- وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً, وختم بي النبيون, وأرسلت إلى الناس كافة) هذه مكانة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.(85/4)
وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه
بل أنزل الله قرآناً ليربي وليعلم الصحابة كيف يعظمون رسول الله، ويوقرونه ويتأدبون حتى في ندائه صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- لم تعرف قدر نبيها ولم تعظم رسولها, بل لقد أساءت الأمة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهجرت شريعته، ونحَّت سنته، ولم تعد تجيد إلا أن تتغنى برسول الله في ليلة هجرته وفي ليلة مولده وفي ليلة النصف من شعبان، فالأمة الآن لا تجيد إلا الرقص والغناء؛ لأنها عشقت الهزل وتركت الجد والرجولة.
أمة تدعي الحب لرسول الله وتتغنى بحب رسول الله في المناسبات والأعياد الوطنية في الوقت الذي نحَّت فيه شريعته وهجرت فيه سنته, بل وخرج من أبناء هذه الأمة المتمردة من يقول في حق القرآن الذي أنزله الله على قلب رسوله, والذي جعل الله فيه الهدى في الدنيا والآخرة قال هذا المجرم المرتد: إن القرآن منتج ثقافي ليس من عند الله.
وقال خبيث آخر: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الإلتهابات التي في رئاتهم والنجاسات التي في أمعائهم.
وقال خبيث ثالث: إن مصيبة الشرق في التمسك بما يسمى بالأديان.
الأمة هجرت شريعة رسول الله, ونحَّت الأمة سنة رسول الله, أين الشريعة المغيرة المبدلة المضيعة؟! فهذا ورب الكعبة هو أعظم منكر على وجه الأرض, وهذا هو الذي يجب أن تجيش له كل الطاقات والإمكانيات حتى تظلل شريعة المصطفى سماء هذه الأمة, اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين.(85/5)
سبب رد أقوام عن حوضه صلى الله عليه وسلم
اسمع! وانتبه! فإن كل منتسب لأمة النبي مغرور ومخدوع يقول: إن لم أدخل الجنة أنا أيدخلها بطرس شلودة أنا الذي سأدخل الجنة, اسمع! لتعلم أن كل من غير وبدل وابتدع وانحرف عن هدي رسول الله سيحال بينه وبين حوض رسول الله في أرض المحشر, لن يعرفه النبي ولن يتقدم إليه النبي, حوض المصطفى في أرض المحشر الناس في حاجة إليه شديدة, الزحام يخنق الأنفاس, والشمس فوق الرءوس كلها في أرض واحدة من لدن آدم في هذا الظرف الرهيب، المصطفى واقف على حوضه, والحوض ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحاً من المسك, كيزانه بعدد نجوم السماء, من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يتمتع بالنظر إلى وجه الملك في الجنة, اللهم اسقنا شربة هنيئة مريئة, لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً برحمتك يا أرحم الراحمين.
وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا فرطكم على الحوض -أي: سأسبقكم- يوم القيامة لأقف على الحوض فمن مر عليّ شرب, ومن شرب لا يظمأ أبداً, لَيَرِدَنّ عليّ الحوض قوم أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم -وفي لفظ في الصحيح: ثم يختلجون -أي: يمنعون ويصدون- فيقول المصطفى: إنهم من أمتي إنهم من أمتي فيقال للحبيب: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول المصطفى: سحقا سحقاً -أي: بعداً بعداً لكل من غير بعدي-).
الاتباع امتثال الأمر والنهي للحبيب محمد.
هذا هو سبيل الفوز والنجاة.
معاذ بن جبل ينام على فراش الموت ويدخل عليه الليل فيشتد به الألم والوجع فينظر إلى أصحابه ويقول: [هل أصبح النهار؟ فيقولون: لا لم يصبح بعد, فيبكي معاذ بن جبل -حبيب رسول الله الذي قال له: والله يا معاذ إني لأحبك- ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار] يخشى معاذ بن جبل أن يكون من أهل النار.
وهذا هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه ينام على فراش الموت، فيدخل عليه ابن عباس ليذكره وليثني عليه الخير كله, فيقول له عمر: [والله إن المغرور من غررتموه, والله لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه] ثم قال عمر: [وددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليّ].
وهذه هي عائشة تسأل عن قول الله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] , فتقول عائشة: [يا بني! أما السابق بالخيرات فهؤلاء الذين ماتوا مع رسول الله وشهد لهم رسول الله بالجنة, وأما المقتصد فهؤلاء الذين اتبعوا أثر النبي حتى ماتوا على ذلك, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك] فجعلت عائشة نفسها معنا جعلت نفسها من الظالمين لأنفسهم.
وهذا سفيان الثوري إمام الدنيا في الحديث ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين, فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار.
ونحن جميعاً نقول: من منا لن يدخل الجنة؟ من منا لن يشفع له رسول الله؟ هاهو الحديث في البخاري يبين لنا فيه الحبيب النبي أنه سيحال بينه وبين أقوام من هؤلاء الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا عن سنته صلى الله عليه وسلم؟(85/6)
أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم
أحببت أن أكمل الفائدة بهذا العنصر الثاني في هيئة هذا
السؤال
من أسعد الناس بشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ وهذا العنصر الثاني من عناصر هذا اللقاء لتكتمل الفائدة في باب الشفاعة، فإنه من أنفس أبواب العلم, ومن أسعد الناس بشفاعة الحبيب, ليحاسب اليوم كل واحد منا نفسه: أين هو من الحبيب؟
من يدعي حب النبي ولم يفد من هديه فسفاهة وهراء
فالحب أول شرطه وفروضه إن كان صدقاً طاعة ووفاء
قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] هل امتثلت أمره؟ واجتنبت نهيه؟ هل وقفت عند الحدود التي حدها لك المصطفى؟ سؤال أو أسئلة يجب أن يسألها كل مسلم صادق لنفسه؛ ليحدد موقعه من منهج وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من أسعد الناس بالشفاعة يوم القيامة؟ والجواب في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فهو صاحب هذا السؤال الجليل, قال أبو هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال المصطفى: لقد ظننت أنه لا يسألني عن هذا السؤال أحد قبلك لما رأيت من حرصك على الحديث يا أبا هريرة -منقبة من رسول الله لـ أبي هريرة - أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) , وفي رواية ابن حبان: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه يصدق قلبه لسانه، ويصدق لسانه قلبه) , وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً) , هذا هو الشرط, وهو أسعد الناس بشفاعة الحبيب من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، وحقق التوحيد لله.(85/7)
لابد من إخلاص التوحيد ومطابقة القول للعمل
من الناس الآن من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، لم يصدق قلبه هذه الكلمة, ولم يخلص العبادة لله جل وعلا, بل ذهب ليصرف العبادة لغير الله، فهو لا يعرف لكلمة التوحيد معنى، ولا يقف لها على مضمون، ولا يعرف لها مقتضى.
ومن الناس من يردد بلسانه: لا إله إلا الله، وقد انطلق حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج الأرضية والقوانين الوضعية الفاجرة ما وضعه المهازيل من خلق الله.
ومن الناس من ردد بلسانه: لا إله إلا الله، وهو لم يحقق لله الولاء ولا البراء.
ومن الناس من ردد بلسانه كلمة: لا إله إلا الله، وقد ترك الصلاة وضيعها, وضيع الزكاة والحج مع قدرته واستطاعته, وأكل الربا, وشرب الخمر, وباشر الزنا, وأكل أموال اليتامى, يسمع الأمر فيهز كتفيه في سخرية وكأن الأمر لا يعنيه, ويسمع المواعظ فيهزأ وكأن الأمر لا يعنيه.
فلا بد من إخلاص التوحيد، فكلمة التوحيد ليست مجرد كلمة يرددها الإنسان بلسانه وفقط، لا.
بل إن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.
وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) , وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله) , إنه إخلاص التوحيد.(85/8)
عزة الأمة بتحقيق توحيد الله
يا من رددت بلسانك: لا إله إلا الله! هل صدق قلبك وامتثلت جوارحك مقتضيات هذه الشهادة, فإن التوحيد أمره عظيم, إن شأن التوحيد عظيم وثقيل, إنها الأمانة العظيمة، ووالله ما ضاعت الأمة وذلت إلا يوم أن فرغت محتوى لا إله إلا الله من مضمونها كله, فإن الجذر الحقيقي لهذه الأمة هو التوحيد, ويوم أن فرغ الجذر وأصبح قشرة هشة تحركها الرياح من هنا ومن هنالك ذلت الأمة ممن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود, فإن مصدر سعادة الأمة هو التوحيد, ما أعز الله الأمة إلا بالتوحيد، وإن لبنة الأساس في صرح الإسلام هي التوحيد, وإن أول خطوة على طريق العز والكرامة هي التوحيد، ولا عزة للأمة إلا إذا حققت وأخلصت وجردت التوحيد لله من جديد, فمن أبناء الأمة الآن من يذبح، ومن يقدم النذر لغير الله, ومن أبناء الأمة الآن من يتهم شريعة الله المطهرة بالجمود والرجعية والتخلف والتأخر وعدم قدرة هذه الشريعة على مسايرة مدنية القرن الحادي والعشرين.
فلا كرامة للأمة إلا إذا أخلصت التوحيد, فأسعد الناس بشفاعة محرر العبيد من أخلص التوحيد للعزيز الحميد جل وعلا, من مات لا يشرك بالله شيئاً.
فوحد الله -أيها الحبيب- وأخلص التوحيد لله, وأخلص الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي, يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) , إنه التوحيد وفضل الإيمان بالله جل وعلا.
فأسعد الناس بشفاعة المصطفى من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
أيها الأخيار! فكلمة التوحيد قد قُيدت بشروط ثقال: بالعلم واليقين والإخلاص والقبول والمحبة إلى آخر هذه الشروط التي فصلناها في دروس الاعتقاد قبل ذلك.
فلا بد أن تحققوا وتخلصوا وتجردوا التوحيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع يوم القيامة إلا إن أَذن الله عز وجل له، ولا يشفع إلا لمن وحد الله وأخلص له كلمة لا إله إلا الله.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل التوحيد, وأن يختم لي ولكم بالتوحيد, وأن يرزقنا شفاعة النبي بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير.
بقي لنا أن نتحدث عن مجيء الرب جل وعلا، ولكن أرى الوقت قد أزف وسرقنا، لذا سأرجئ الحديث عن هذا العنصر الهام إلى اللقاء المقبل إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء.
وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال, اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض, اللهم ارزقنا شفاعة حبيبك المصطفى, اللهم وكما آمنا به ولم نره لا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله, اللهم وأوردنا حوضه الأصفى, واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نرد ولا نظمأ بعدها أبداً, اللهم لا تحرمنا شفاعة الحبيب, اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته, ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته, ولا ميتاً لنا إلا رحمته, ولا عاصياً إلا هديته, ولا طائعاً إلا زدته وثبته, ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم إنا نسألك لإخواننا وأبنائنا الطلاب التوفيق والسداد, اللهم يسر لهم الأسباب, اللهم ذلل لهم الصعاب, اللهم فَتِّح لهم الأبواب, اللهم ذكرهم في الامتحانات ما نسوا, وعلمهم في الامتحانات ما جهلوا, اللهم يسر لهم بمنك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم اجعل أبناءنا قرة عين لنا في الدنيا والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده, وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(85/9)
يوم القيامة
قبل أن يذكر الشيخ حفظه الله مشاهد يوم القيامة ذكر عقيدة التوحيد في عيسى عليه السلام وما وقع من الاختلاف فيه، ثم تحدث عن يوم القيامة، وإنذار الله تعالى وتحذيره منه، وزلزاله وما يقع فيه من حسرة، مذكراً بالنفخ في الصور، وفناء الخلق وبعثهم، وحالهم يوم العرض على الله، ومبيناً وجوب الاستعداد لذلك بمحاسبة النفس قبل أن تحاسب.(86/1)
عيسى عليه السلام وتوحيده لله
الحمد لله المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير.
حمداً لك يا من اعترف بفضلك وكرمك ونعمك كل حاضرٍ وباد.
حمداً لك يا من اغترف من بحر جودك وكرمك وإحسانك كل رائحٍ وغاد.
حمداً لك يا من نطقت بوحدانيتك جميع الكائنات، فالسماء دائماً وأبداً تقول: سبحان من رفعني بقدرته، وأمسكني بقوته، فهو ركني وعمادي، والأرض دائماً وأبداً تقول: سبحان من وسع كل شيء علماً ومهد مهادي، والبحار دائماً تقول: سبحان من بمشيئته وقدرته وإرادته أجراني، وأسال عيون مائي لقصادي وورادي، والعارف به يقول: سبحان من دلني عليه، وجعل إليه مرجعي ومعادي، والمذنب يقول: سبحان من اطلع علي في المعصية ورآني، فلما رآني سترني وغطاني، ولما تبت إليه تاب علي وهداني.
أحمدك يا ربي وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، إنما قوله لشيءٍ إذا أراده أن يقول له: كن فيكون.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وأستاذنا محمداً رسول الله، اللهم صلَّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك يا سيدي حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسا، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل، وقومت المعوج، وأمنت الخائف، وطمأنت القلق، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى الله نبياً عن أمته، ورسولاً عن قومه.
أما بعد: فيا أيها الأحباب: تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم ومع اللقاء الثاني عشر على التوالي، ما زلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، وبفضلٍ من الله وبحوله ومدده وطوله وقوته أنهينا الحديث في اللقاء الماضي عن قصة عيسى وعن قصة مريم عليهما السلام، وكانت هذه النهاية عن رفع عيسى وعن نزوله بين يدي الساعة كعلامة من علامات الساعة الكبرى، وقلنا بأن اليهود والنصارى قالوا: بأن عيسى قُتل وصلب، ولكننا رددنا عليهم بما رد عليهم به ربنا جل وعلى فقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].
ونحن اليوم أيها الأحباب على موعدٍ مع قول الله جل وعلا بعد أن أقر عيسى لله بالوحدانية وأقر لنفسه بالنبوة والرسالة، فقال على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) [مريم:30 - 33] قال الله بعدها: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم:34 - 35] وقال عيسى: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:36] ثم قال الله جل وعلا: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:37 - 40] نحن اليوم على موعدٍ مع هذه الآيات المباركات من كتاب رب الأرض والسماوات، فانتبهوا معي جيداً أيها الموحدون.(86/2)
اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37] بعد أن بين الله حقيقة عيسى اختلف الأحزاب أي: اختلف أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فقال اليهود في عيسى: إن عيسى ولد زنا -والعياذ بالله- واختلف النصارى في عيسى على ثلاثة طوائف: قالت الطائفة الأولى: إن عيسى هو الله نزل من السماء إلى الأرض فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد مرةً ثانيةً إلى السماء، وهذه هي الطائفة التي تسمى بـ اليعقوبية.
الطائفة الثانية قالت: بأن عيسى ابن الله، وهذه الطائفة تسمى بـ النسطورية.
الطائفة الثالثة قالت: إن عيسى ثالث ثلاثة، فالله إله وعيسى إله ومريم إله، وهذه الطائفة تسمى بـ المنسية.
وهناك طائفة رابعة ولكنها تختلف تماماً عن هذه الطوائف كلها، قالت: إن عيسى هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء وروحٌ من الله، وهذه الطائفة هم الموحدون من أمة إمام الموحدين وسيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه هي الطائفة التي قالت بالحق وعرفت الحق فقالت بأن الله واحدٌ لا شريك له، واحدٌ في ذاته، وصفاته، وأفعاله، لا يشبهه شيء، منزه عن كل نقصٍ، ومنزهٌ عن كل عيب، لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، فكلما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] الذي قال ذلك هم الموحدون من أمة إمام الموحدين سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم.(86/3)
تهديد الله لكل من افترى عليه الكذب
{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} [مريم:37] في عيسى كلمة الله، وعبد الله، ورسول الله {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] تهديدٌ ووعيدٌ شديد من الله العزيز الحميد لكل من افترى على الله الكذب، لكل من زعم أن لله ولداً، والله جل وعلا يقول عن نفسه: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [مريم:37] من مشهد يوم القيامة.(86/4)
إنذار الله تعالى وتحذيره من يوم القيامة
وبعد هذه الآيات ينذر الله تبارك وتعالى، ويحذر ويبين حال المشركين والكفار في يومٍ تشخص فيه الأبصار، وافتقارهم إلى رحمة العزيز الغفار، فيقول جل وعلا: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] تعجب من حدة سمعهم وحدة بصرهم في يوم القيامة، فسوف يبصرون ما يسود وجوههم، وسوف يشاهدون ما يخلع قلوبهم: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم:38] يسمعون كل شيء، وينظرون كل شيء، وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] كلا، هيهات هيهات، إنهم يسمعون كل شيء ويبصرون كل شيء، ولكن قد انقضى كل شيء لا عودة {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ * كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 101] كلمة لا يسمعها الله، كلمة لا يجيبها الله، بل يأتيه جواب في وجهه كالقنبلة: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:101] لا يسمعها الله ولا يجيبها الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:101].
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم:38] أي يوم القيامة {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ} [مريم:38] أي: في الدنيا {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] إذا قيل لهم: آمنوا، قولوا لا إله إلا الله، وحدوا الله حق توحيده، واعبدوا الله حق عبادته، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].(86/5)
من مشاهد يوم القيامة
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38] لكن الظالمون في حياتهم الدنيا في ضلال، لا يسمعون ولا يبصرون، ولا يعقلون، ولا يعرفون حقاً، ولا يعرفون طريقاً مستقيماً، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38].
ثم بعد ذلك -انتبهوا معي جيداً- يأتي الإنذار العام، فيقول الله جل وعلا: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ)) [مريم:39] أنذر الناس جميعاً يا محمد، أنذر الخلائق جميعاً يا رسول الله؛ ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)) [مريم:39] يوم القيامة {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39].
ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري ومسلم والإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواية البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملح فيوقف بين الجنة والنار، ثم ينادى: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ثم يُقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقول أهل الجنة: نعم.
إنه الموت، ثم ينادى على أهل النار: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقول أهل النار: نعم.
إنه الموت، فيأمر الله جل وعلا أن يُذبح الموت في صورة هذا الكبش، ثم ينادى ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] ثم أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال: إن أهل الدنيا في غفلة) نعم والله يا رسول الله إن أهل الدنيا في غفلة.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] يوم الحسرة يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الزلزلة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم ترجف الأرض والجبال، يوم تسير الجبال، يوم تكون الجبال كالعهن المنفوش {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يوم الطامة، يوم الصاخة.
((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)) [مريم:39] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] وأنذرهم يا محمد يوم الحسرة، يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، هذا اليوم الذي تنقلب فيه كل الموازين، وتتغير وتتبدل فيه كل القوانين {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] تُغير هذه الأرض، وتُبدل هذه الأرض، الجبال ينسفها ربي نسفاً.(86/6)
زلازل الدنيا عظة وعبرة
سبحان الله العظيم، يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر الحق ويزهق الباطل، ما أحداث زلزال أرمينيا منكم ببعيد، ما الذي حدث وما الذي جرى في ثوانٍ قليلة معدودة، في لحظاتٍ قليلة بدل الله الأرض غير الأرض، دمر الله الحضارات، ودمر الله المدنيات، ودمر الله الكفرة والمشركين، في ثوانٍ ثلاث دمر الله مدينة بأسرها، وحطم الله حضارةً بعينها، بنوها في مئات السنين، بل في آلاف السنين، وفي ثوانٍ قليلة أمر الله الذي لا راد لأمره ولا معقب لحكمه فدمر هذه المدنيات، ودمر هذه الحضارات بزلزالٍ قليل، بزلزالٍ بسيط لم يتجاوز الثواني الثلاث دمر الله المدنيات، وحطم الله الحضارات، فأين كانت أجهزة الإنذار المبكر عند الشيوعيين؟ أين كانت قوتهم؟ أين كان جبروتهم؟ أين كان طغيانهم الذي صبوه على رءوس إخواننا من الموحدين في أفغانستان؟ أين كانت هذه القوة وأين كان هذا الجبروت؟ وأين كان هذا الظلم؟ أين كانت الأجهزة؟ إن الله الذي أمر لا راد لأمره: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] دمر الله المدنية، ودمر الله الحضارة بهذا الزلزال البسيط الضعيف.
وأعجبتني عبارة عجباً كثيراً لصاحب ظلال القرآن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله وقدس الله روحه بقدر ما أعطى للقرآن من معانيه، قال صاحب ظلال القرآن: وإن هذه الزلازل وتلك البراكين التي تدمر المدنيات، وتحطم الحضارات، إنها إلى جوار زلزلة يوم القيامة كتسليات أطفال، هذا الزلزال الذي دمر وحطم وأباد الناس إنما هي تسليات أطفال إلى جوار هول وزلزلة يوم القيامة، فتعالوا بنا أيها الأحباب لنرى ماذا قال الله عن يوم الحسرة.(86/7)
تصوير الله ليوم الحسرة
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39] ماذا قال الله جل وعلا عن ذلك اليوم؟ ماذا قال الله جل وعلا عن يوم الحسرة، والقيامة، والندامة، عن يومٍ يعض الظالم فيه على يديه ويقول: يا ليتني وحدت الله حق توحيده، ويا ليتني عبدت الله حق عبادته، ماذا قال الله جل وعلا؟ يقول سبحانه وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14].
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:1 - 19].
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:1 - 6].
بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8].
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الزلزلة، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1] ذهب ضياؤها وضاع نورها.
{وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تناثرت من عقدها الفريد، ونظامها البديع.
{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105] فتكون كالعهن المنفوش.
{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] والعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر أغلى ما يملكه العربي، ولكنه يوم في القيامة لا يلتفت إليها ولا يهتم بها لأنه قد حل به ما يشغله عنها.
{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] المفترس مع الأليف.
{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] تفجرت بالنيران.
{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير:7 - 11] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
{وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير:12] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:13] أي: قربت للموحدين، للمؤمنين، للمخلصين، للمتقين، للمسلمين.
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] وفي آية أخرى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] هذا هو اليوم الذي ينقلب فيه كل مسئول، هذا هو اليوم الذي ينقلب فيه كل معهود، هذا هو اليوم الذي سيفنى فيه كل موجود {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] هذه مرحلة من مراحل هذا اليوم، مرحلة كلها فزع، مرحلةٌ كلها رعب، قال الله جل وعلا عنها: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] ثم ماذا عن هذا اليوم؟ ثم ماذا عن يوم الحسرة والندامة؟ ثم ماذا عن قوله: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)) [مريم:39] يأمر الله جل وعلا إسرافيل أن ينفخ في الصور لماذا؟ ليموت كل حيٍ على ظهر هذه الأرض، ليموت كل حيٍ في السماوات وفي الأرض إلا من شاء الله جل وعلا، فإذا ما أمر الله تبارك وتعالى إسرافيل بالنفخ في الصور: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] مات كل مخلوقٍ بعد هذه النفخة، مات كل حيٍ بعد هذه النفخة، ويأتي ملك الموت إلى الملك ويدور بين الله جل وعلا وبين ملك الموت هذا الحوار: يقول ربنا تبارك وتعالى لملك الموت: يا ملك الموت! من بقي؟ وهو أعلم سبحانه وتعالى! فيقول ملك الموت: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وحملة العرش.
فيقول ربنا جل وعلا: ليمت جبريل وميكائيل، وهنا ينطق العرش ويقول: جبريل وميكائيل فيهتف الحق جل وعلا وينادي على عرشه ويقول: اسكت فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي، ليمت جبريل ويمت ميكائيل فيموتان.
ويأتي ملك الموت إلى الملك فيقول ربنا لملك الموت: يا ملك الموت! من بقي؟ فيقول ملك الموت والله أعلم بمن بقي: يا رب! قد مات جبريل وميكائيل وبقي إسرافيل وبقي حملة العرش وبقيت أنا، أما أنت فأنت حيٌ لا تموت.
فيقول الملك: يا ملك الموت! ليمت إسرافيل لام الأمر ولام العظمة ولام الإرادة ولام الذل والقهر {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] ليمت إسرافيل فيأمر الله العرش أن يلتقم الصور.
فيقول الله جل وعلا لملك الموت: من بقي؟ وهو أعلم، فيقول: بقيتَ أنت الحي الذي لا يموت، وبقيتُ أنا وبقي حملة العرش، وعرش الرحمن غير محتاج إلى الحملة {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزه عن الحلول والانتقاص، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمولٌ بلطف قدرته، مقهورٌ بجلال قبضته، فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعةٌ، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ؛ لأنه تعالى كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان، لا يحويه زمان، ولا يحده مكان، علم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
فيقول الله لملك الموت: ليمت حملة العرش، فيموت حملة العرش ويبقى ملك الموت.
وهنا يقول الملك: يا ملك الموت! من بقي وهو أعلم.
فيقول: يا رب ما بقي إلا عبدك الذليل الضعيف الماثل بين يديك ملك الموت، فيقول الله جل وعلا لملك الموت: يا ملك الموت! وأنت خلقٌ من خلقي، خلقتك لما ترى، فمت يا ملك الموت، مات جبريل ومات إسرافيل، ومات ميكائيل، ومات حملة الع(86/8)
أيها الإنسان! إنك إلى ربك راجع فاستعد
{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] وصدق الله إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
بسم الله الرحمن الرحيم {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:81 - 96].
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم
فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم
بذا أوصيك يا صاح وقد بحتت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم
كل باكٍ فسيبكى كل ناعٍ فسينعى
وكل مذكورٍ سينسى وكل مذخورٍ سيفنى
ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى
يا ظالم حاكماً كنت أو محكوماً، يا فاسق! يا فاجر! يا من حاربت الله! يا من بارزت شرع الله! يا من استعبت اللحية بأنها عفن! ويا من اتهمت النقاب بأنه رجعية وتخلف! ستموت والله ستموت، والله لو دام الكرسي لغيرك ما وصلَ إليك، والله لو دامت الدنيا لغيرك ما وصلت إليك، والله ستلقى الله يوماً؛ فأعد للسؤال جواباً، أعد للعرض على محكمة الله بياناً، ثم ماذا؟ يقول الملك: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، لا ملك اليوم إلا لله، ولا ملك قبل ذلك اليوم إلا لله، فالملك في الدنيا وفي الآخرة لصاحب الملك، الملك اليوم لله الواحد القهار.
ثم ماذا عن قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]؟ مات الجميع، بعد ذلك يأتي الأمر من الله جل وعلا إلى إسرافيل أن يحيى، وأن يحيى ميكائيل، وجبريل، وملك الموت، وحملة العرش، يحيي الله هذه الملائكة، ويقبض الله جل وعلا الأرواح، وأرواح المؤمنين لها ضياء، وأرواح الكافرين والمشركين لها ظلمة، ويقبضها رب العزة بيمينه جل وعلا، ويقذفها رب العزة في الصور، ويأمر الله إسرافيل أن ينفخ فلما ينفخ إسرافيل في الصور تخرج الأرواح تملأ ما بين السماء والأرض لها دويٍ كدوي النحل، فيقول الحق جل وعلا: وعزتي وجلالي لترجعن كل روحٍ إلى جسدها، فتدخل الأرواح إلى الأجساد وتسري في الأجساد كما يسري السم في جسد اللديغ، وتبدأ الأجسام بالتكامل والبناء، وتنشق الأرض عن الناس، وأول من تنشق عنه الأرض سيد الناس، فيخرج الناس من القبور حفاةً عراةً غرلاً.(86/9)
حال الناس يوم العرض على الله
يا من ملأت بطنك بالمال الحرام! ويا من لبست على جسدك من اللباس الحرام! ستخرج من قبرك يوم القيامة حافياً عرياناً، (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً) كما قالت عائشة والحديث في البخاري ومسلم، فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر كلٌ منهم إلى الآخر قال: يا عائشة إن الأمر أكبر من أن يهمهم ذلك) وفي رواية الإمام النسائي قالت عائشة: (الرجال مع النساء يا رسول الله! فكيف بالعورات؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لكل امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه) {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33 - 37].
فيقف الناس يبكون بالدموع حتى تنقطع الدموع، فيبكون دماً ينتظرون، وفجأة يرون أهل السماء من الملائكة ينزلون ليقفوا معهم في أرض المحشر، في الأرض التي أعدها الله للحساب، أرضٌ غير هذه الأرض {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] ينزل أهل السماء الأولى بضعفي من في الأرض، ثم الثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة، فالسادسة، فالسابعة على قدر ذلك من التضعيف، فلما ينظر الناس إلى أهل السماء الأولى من الملائكة، مخلوقات عجيبة، مخلوقات جديدة تراها لأول مرة، فيقول الناس للملائكة: أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة: سبحانه! كلا.
وهو آت، آتٍ إتياناً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك.
ثم تنزل حملة العرش بكرسي الملك حيث شاء الله، وحيث أراد الله، يتنزلون ولهم تسبيح وتحميد، يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من كتب الفناء على خلقه ولا يموت، قدوسٌ قدوسٌ قدوس، رب الملائكة والروح.
ويتنزل الملك ويستوي الملك على كرسيه استواءً لا تدركه العقول ولا تكيفه الأفهام {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] لا ينطق مخلوق، ولا يجرأ على الكلام أحد، إنما هو همس فقط {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:108] وفجأة يشق هذا السكون، وهذا الذهول، وهذا الموقف صوت الملك ينادي على الخلائق من الإنس والجن ويقول: يا معشر الإنس والجن! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا فأنصتوا اليوم إلي، لا ينطق أحد، لا يتكلمون {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38].
يا معشر الجن والإنس! لقد أنصت إليكم كثيراً في الدنيا فأنصتوا اليوم إلي، ثم ينادي الحق بعدها ويقول: (إنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) ويأمر الله جهنم فتُخرج عنقاً أسود مظلماً، وينادي الحق جل وعلا قائلاً: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس:60 - 64].
وفي واحة هذا الموقف فجأة: أين فلان ابن فلان، أين فلان ابن فلان؟! من؟! هذا هو اسمي؟! هل أنا صاحب هذا النداء؟! هل أنا صاحب هذا الدعاء؟! ماذا تريدون؟! أقبل إلى عرش الواحد الديان.
فتتخطى الصفوف صفوف الإنس والجن والملائكة، تتخطى هذه الصفوف، وفجأة ترى نفسك واقفاً أمام محكمة أحكم الحاكمين، تلكم المحكمة التي لا تقبل رشوة، ولا محسوبية، ولا محاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] فتُعطى صحيفتك، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأةً أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك في وقتها على ما فرطت من طاعة ربك، فإن كنت من السعداء الفالحين أخذت كتابك باليمين، وإن كنت من الأشقياء الهالكين أخذت كتابك بغير اليمين والعياذ بالله، وصدق الله إذ يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:19 - 33].
وصدق الله إذ قال: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] وهل هناك حسرة أبشع وأشد من هذه الحسرة؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا وإياكم من هول هذا اليوم، وأن يجعلنا وإياكم ممن {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.(86/10)
حقيقة لاشك فيها وعظة عليك أن تصغي إليها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] فهذا الذي سمعتموه قليلٌ من كثير عن يوم الحسرة: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم:39] أصبح أهل الجنة في الجنة، وأصبح أهل النار في النار، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] وبعدها قال الله الحقيقة التي لا تقبل هراءً ولا جدالاً ولا مناقشة: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] إنا: عظمة؛ لأن صاحب العظمة والكبرياء هو الله: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] فذكر نفسك وقل لها:
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليلُ
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويلُ
فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليلُ
وليركبن عليك فيه من الثرى ثقلٌ ثقيلُ
قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليلُ
كل شيءٌ هالكٌ إلا وجهه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].(86/11)
لا تقنطوا من رحمة الله
فاستعدوا أيها الأحباب للقاء الله جل وعلا، ولكن لست مقنطاً ولست مثبطاً، وإنما فلتفرحوا برحمة الله لكل من قال: لا إله إلا الله، أبشروا بسعة رحمة الله لكل موحدٍ أعلن التوحيد لله، يقول رب العزة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول ربنا في الحديث القدسي الجليل: (إني والإنس والجن لفي نبأٍ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أحوج شيءٍ إلي، أهل ذكري هم أهل مجالستي، فمن أراد أن يجالسني فليذكرني، وأهل طاعتي هم أهل محبتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، فإن تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإن أقبل واحدٌ منهم إليَّ تائباً تلقيته من بعيد، وإن أعرض عني واحد منهم عاصياً ناديته من قريب قائلاً له: إلى أين تذهب؟ ألك ربٌ غيري؟ الحسنة عندي بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة عندي بمثلها وقد أعفو، وعزتي وجلالي وإن استغفروني غفرتها لهم).
قال إبليس لرب العزة: (وعزتك وجلالك لأضلنهم ما دامت أرواحهم في أبدانهم، فقال أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين لإبليس: وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ما داموا يستغفرونني) فتوبوا إلى الله أيها الأحباب، وارجعوا إلى الله، من كان لا يصلي فليصل، من كانت سافرة متبرجة أو لبست حجاب الفتنة وحجاب التبرج فلتتقي الله ربها، ولترجع إلى الله عز وجل، من كان يحارب الإسلام فليتب إلى الله، من عادى العلماء ومن عادى الدعاة فليتق الله، وليعلم أنه موقوفٌ بين يدي الله جل وعلا، ومن جلس بيننا واندس بيننا ليثير بيننا الفتنة نسأل الله عز وجل له أن يشرح صدره، وأن يأخذ بيديه من الظلمات إلى النور.(86/12)
دعوة للمحاسبة
فيا أيها الأحباب! اعلموا أنكم ستعرضون على الله فرداً فرداً، وستُسألون عن كل شيءٍ حرفاً حرفاً، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وأعدوا للسؤال جواباً قبل أن تُسألوا أمام من يعلم السر وأخفى.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر لنا عيوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وإسرافنا في أمرنا، اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، وانصر بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وألف بين قلوب الإخوة يا رب العالمين، ووحد صفوف المسلمين، اللهم نق قلوبنا من الحقد والغل والحسد، اللهم نق قلوبنا من الغل والحقد والحسد، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوفٌ رحيم.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع الفتن عن أمتنا، وارفع الغلاء عن بلادنا، وارفع الغلاء عن شعوبنا، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم اجعل مصرنا بلد الأمن والأمان، اللهم جنبه الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنب مصرنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك، والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم.
عباد الله أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(86/13)
الحجاب يا أختاه!
إن الإسلام الحنيف حريص على حفظ المرأة في أرفع المقامات، فهو يحفظ لها مكانتها في مجتمعها، ويحجبها عما يزري بكرامتها، ويهدم وظيفتها التي خلقت من أجلها، فشرع لها الحجاب الذي يستر جميع جسمها ووجهها، لتتقي به شر الفتنة.
ولقد أمر الله به أفضل نساء الدنيا زوجات نبينا، فكان الأحرى أن تلتزم به من دونهن من نساء المؤمنين.(87/1)
مفهوم الحجاب
الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيءٍ قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة عن هذه الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعبد ربه حتى لبى داعيه، وجاهد في سبيل ربه حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل، وقوم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع الدرس الخامس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور.
وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام العظيم حمايةً لأفراده من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله، ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي عن الضمان الثاني، ألا وهو تحريم التبرج وفرض الحجاب، وقلنا بأن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمعٍ طاهرٍ نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعارٍ شهوانيٍ لا ينطفئ ولا يرتوي.
إن اللحم العاري، والزينة المتبرجة، والرائحة المؤثرة، والنبرة المعبرة، والمشية المتكسرة، كلها من الأشياء التي تثير الشهوة، وتؤجج نار الفتنة والهوى.
لذا أيها الأحبة: من هنا حرم الإسلام التبرج، وفرض الحجاب على المرأة المسلمة لماذا؟ ينبغي أن تعلم المسلمة وأن يعلم الناس جميعاً أن الإسلام ما فرض هذه الضوابط على المرأة المسلمة في ملبسها وزينتها وعلاقتها بالرجال إلا لصيانتها وحمايتها من عبث العابثين، ومجون الماجنين، ولتكون المرأة المسلمة كالدرة المصونة، وكاللؤلؤة المكنونة التي لا تصل إليها الأيدي الآثمة.
تكلمنا في اللقاء الماضي عن التبرج ومظاهره وخطورته، ولقاؤنا اليوم عن الشق الثاني من الضمان الثاني ألا وهو فرض الحجاب على المرأة المسلمة، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في أربعة عناصر: أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً.
ثانياً: الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب.
ثالثاً: شروط الحجاب الشرعي.
رابعاً: شبهات والرد عليها.
نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الصواب والإخلاص والتوفيق.(87/2)
معنى الحجاب في اللغة
أولاً: الحجاب لغةً وشرعاً: أحبتي في الله! الحجاب: جمعه حُجب، ومعناه لغةً يدور بين الستر والمنع، لذا يقال للستر الذي يحول بين الشيئين حجاباً؛ لأنه يمنع الرؤية بينهما، ولذا يقال لحجاب المرأة: (حجاب) وسمي حجاب المرأة حجاباً لأنه يستر المرأة عن الرؤية، ويمنع الرجال من أن يشاهدوا أو أن ينظروا إلى المرأة.
ووردت لفظة الحجاب في القرآن في ثمانية مواضع، وكلها تدور حول هذا المعنى -أي: حول معنى الستر والمنع- كما قال الله جل وعلا في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:46] أي: بينهما سورٌ يمنع الرؤية، أو حاجزٌ يمنع الرؤية، وكما قال الله جل وعلا: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي: حتى منعت هذه الخيول من الرؤية، وأصبحت لا ترى، وكما قال الله جل وعلا: {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً} [مريم:17] على مريم عليها السلام، أي: استترت مريم بستارٍ عن أعين الرجال، وكما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أي: من وراء ساترٍ أو حاجزٍ أو حائلٍ يمنع من رؤيتهن.
إذاً: فالحجاب يدور بين معنى الستر والمنع، ولذا يُفهم المعنى الشرعي من هذه المعاني اللغوية لحجاب المرأة المسلمة بأنه الذي يحجب المرأة المسلمة عن نظر الرجال الأجانب، وله صورٌ متعددة هي: صورة الأبدان وصورة الوجوه، أي حجاب الأبدان، وحجاب الوجوه.
وللمرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب ببيتها، وبالستائر السميكة بداخل البيت، وللمرأة أن تحتجب بثيابها من رأسها إلى قدمها إذا ما خرجت من بيتها لحاجةٍ ضرورية، أو دينية، أو دنيوية، وهذا جائزٌ في حقها ولا إثم عليها إذا خرجت بشروط الحجاب الشرعي التي سأبينها إن شاء الله جل وعلا، مع غطاء الوجه بالحجاب، أو الخمار، أو النقاب.
وهذا ما يسميه علماؤنا بحجاب الوجه.(87/3)
بعض الأخطاء في مفهوم الحجاب
الخمار: وانتبهوا معي إلى أن هناك خلطاً بين هذه المعاني عند كثيرٍ من الناس، فالخمار عندنا مثلاً يراد به الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها ويظهر منها الوجه، وهذا خطأٌُ لغوي، ويقال أيضاً للحجاب عندنا، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، قالوا: بأن الحجاب هو الطرحة التي تلبسها المرأة على رأسها، ويظهر منه الوجه أيضاً وهذا خطأٌ لغوي، فانتبهوا معي لنتعرف على معنى الخمار وعلى معنى النقاب، حتى نضع النقط على الحروف من بداية هذا اللقاء.(87/4)
الحجاب بمفهومه الصحيح
الخمار أيها الأحبة -وربما سيعلم ذلك لأول مرة كثيرٌ من المسلمين والمسلمات- هو ما تخمر به المرأة وجهها.
من أين لك بهذا التأويل والتفسير؟ من كتاب الله جل وعلا، ومن أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أقوال أئمة الهدى ومصابيح الدجى عليهم رحمة الله، يقول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].
قال الحافظ ابن حجر إمام أهل الحديث في الفتح في تعريف الخَمْر: ومنه خمار المرأة، وهو الذي تخمر به المرأة وجهها -أي: تغطي به المرأة وجهها- وأعظم دليلٍ على صحة هذا الكلام ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، وهل تريدون أوضح من هذا؟ هل تريدون دليلاً أوضح من دليلٍ ورد في حديثٍ رواه البخاري ومسلم من حديث أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟ أتدرون ماذا قالت أمنا رضي الله عنها في حادثة الإفك؟ تقول السيدة عائشة: لما رآها صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، لما تخلفت عن الجيش، ونامت وجاء صفوان فوقعت عينه عليها، وكان صفوان بن المعطل يعرف السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنه كان قد رآها مراراً قبل نزول آية الحجاب، فلما رآها صفوان وعرفها استرجع، أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رأى زوج نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم تخلفت عن الجيش، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
تقول سيدتنا عائشة: (فلما رآني عرفني، وكان يعرفني قبل الحجاب، فلما رآني استرجع -أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- تقول عائشة رضي الله عنها: فاستيقظت باسترجاعه) أي صحت سيدتنا عائشة على قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون.
اسمع ماذا قالت أمنا رضي الله عنها؟ قالت: (فاستيقظت باسترجاعه، وحين عرفني خمرت وجهي بجلبابي) فخمرت وجهي بجلبابي: هذا هو معنى الخمار في حديثٍ في الصحيحين فماذا تريدون بعد ذلك من أدلة!! قالت: (فخمرتُ وجهي بجلبابي) وفي راويةٍ: (فسترت وجهي بجلبابي) أي: خمرت.
ويؤكد ذلك أيضاً حديث فاطمة بنت المنذر رضي الله عنها ورحمها الله تعالى، تقول: (كنا نخمر وجوهنا من الرجال في الإحرام مع أسماء بنت أبي بكرٍ) رضي الله عنها، وحديثها رواه الإمام مالك في الموطأ ورواه الحاكم في المستدرك، وقال الحاكم: حديثٌ صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي.
إذاً: الخمار -أيها الأحبة- هو ما تخمر به المرأة وجهها، أي: ما تغطي به المرأة وجهها.(87/5)
النقاب الشرعي
أما النقاب: فهو حجابٌ للوجوه أيضاً، وسمي النقاب بالنقاب؛ لوجود نقبين بمحاذاة العينين لتتعرف المرأة من خلال هذين النقبين على الطريق.
ولكن: ينبغي أن أنبه هنا إلى أمرٍ خطير، ألا وهو أن بعض المسلمات اللائى يلبسن النقاب، قد حولنه هو الآخر إلى مصدر فتنةٍ وإغواءٍ وإغراء، كيف ذلك؟ وسعت المرأة فتحة العين على وجهها، فظهر من خلال هذه الفتحة حاجبها، وظهر جزءٌ كبيرٌ من وجنتيها، وهذه هي الفتنة بعينها.
وليس معنى أن كثيراً من النساء قد حولن النقاب إلى مصدر فتنةٍ وإغراءٍ وإغواء أن نقول بعدم شرعية النقاب، فليس معنى أن يختل المسلمون في تطبيق أمرٍ أو جزءٍ شرعي أن نلغي هذا الجزء، وإنما ينبغي أن يؤمر المسلمون بأن يردوا هذا الأمر إلى ما أراده الله، وإلى ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيجب على المرأة التي انتقبت أن تظهر من عينها بمقدار الرؤية، وأن تظهر الفتحة لعينها لتتعرف من خلالها على الطريق، أما أن تتفنن في أن تظهر جمال عينها، وقد امتلأت كحلاً وجمالاً وفتنةً وتأثيراً، وظهر حاجبها وجزءٌ كبيرٌ من وجنتيها، وتدعي بأنها منتقبة، فإنما هي خادعة أو مخدوعة، فينبغي أن تتوب وأن ترجع إلى الله جل وعلا، وأن تتقي الله، وأن تعلم بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
هذا هو الخمار، وذاك هو النقاب، وهذا هو معنى الحجاب.
إذاً: هناك حجابٌ للأبدان وللوجوه معاً، إما من وراء ستارةٍ سميكة أو من وراء جدار كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] أو إذا خرجت المرأة من بيتها لحاجةٍ دينية أو دنيوية فعليها أن تلبس الثياب من رأسها إلى قدميها، وأن تغطي وجهها بالخمار أو النقاب، بالشروط والضوابط التي أشرت إليها آنفاً.(87/6)
الأدلة الشرعية من القرآن والسنة على وجوب الحجاب
أولاً: أدلة القرآن:(87/7)
الدليل الأول: قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك)
وهي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:59] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهل تعرف المرأة إلا من وجهها؟ انتبهوا معي أيها الأحبة، وانتبهن معي أيتها الفضليات؛ لنتعرف على هذه الآية، وعلى ما تحمله من أحكامٍ عظيمة غابت عن كثيرٍ من المسلمين والمسلمات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] إذاً: الأمر هنا من الله جل وعلا لزوجات النبي الطاهرات، وبنات النبي العفيفات، ونساء المؤمنين الصالحات القانتات، ليس الأمر هنا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن كما هو واضحٌ بمنطوق الآية ومفهومها أيضاً.
قال شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير آية الإدناء، واحفظوا هذا القول لـ ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنه قد افتري عليه قولٌ آخر، وقد ادعي عليه ما لم يقله وهو بريءٌ منه كما سنرى بالأدلة وبطرق أهل الحديث إن شاء الله جل وعلا، قال: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة] أي: لتتعرف بها على الطريق.
ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين رحمه الله تعالى عن عبيدة السلماني، وعبيدة السلماني هو التابعي الجليل الفقيه العلم الذي آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم ينزل المدينة إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة السلماني بـ المدينة حتى توفاه الله جل وعلا، وأنا تعمدت أن أقول ذلك لتعلم أنه إن فسر عبيدة السلماني آية الإدناء تفسيراً عملياً، فإنما هو يوضح حال نساء أصحاب النبي رضي الله عنهن جميعاً، ويوضح ما كان عليه النساء في عهد الصحابة رضي الله عنهم، يقول ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن معنى آية الإدناء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فقال عبيدة بثوبه هكذا، فغطى وجهه بثوبه، وأبرز بثوبه عن إحدى عينيه، توضيحٌ عملي من تابعيٍ جليلٍ عاش في المدينة المنورة من عهد عمر بن الخطاب إلى أن مات رحمه الله.
فقال بثوبه هكذا، فغطى رأسه ووجهه بثوبه وأبرز الثوب عن إحدى عينيه، تفسيرٌ عملي لآية الإدناء، ووالله إنه من أعظم الأدلة من تابعيٍ رأى ما كان عليه النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
وقال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورةٌ بستر وجهها عن الأجانب، وإظهار الستر والعفاف إذا خرجت لحاجة حتى لا يطمع أهل الريب فيها.
من العلماء من يقول: بأن الصحابيات رضي الله عنهن كنّ يخرجن كاشفات الوجوه، وهذا والله بهتانٌ عظيم؛ لأن الوجه أيها الأحبة هو أصل الجمال في المرأة، وأنا أسألك: بالله عليك أيها المسلم المنصف، لا أريد منك جواباً وإنما أريدك أن تجيب أنتَ بنفسك على نفسك في جلسة صدقٍ ولحظة صدقٍ مع الله جل وعلا: أسألك بالله لو أن شاباً تقدم لخطبة فتاة، وقيل له لن ترى الفتاة إلا في صورةٍ من الصورتين، فقال الشاب ما هما: قالوا: الصورة الأولى: أن تخرج الفتاة في كل زينتها وقد غطت وجهها أي: غطت بدنها بالثياب، وغطت وجهها، إلا أنها من تحت هذه الثياب، ومن تحت هذا الغطاء وضعت كل ما يمكن أن تضعه المرأة من زينة سبحان الله!! وماذا استفاد هذا المسلم؟ إذاً ما رأى شيئاً وما استفاد من تلك الزينة شيئاً.
الصورة الثانية قالوا: أن تقف لك الفتاة من خلف نافذة، وتنظر لك بوجه مبتسم وقد يتغطى كل البدن من خلف جدار هذه النافذة، بشرط أن تظهر الوجه فقط، فبالله عليك ماذا يختار الشاب؟ هل يختار الحالة الأولى التي خرجت إليه المرأة في كل زينتها وقد تغطت من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وغطت وجهها؟ أم أنه يريد أن ينظر إلى الوجه؛ لأنه هو عنوان الجمال الخلقي في الإنسان، ومن خلاله يستطيع الإنسان أن يتبين الجمال أو القبح، والدمامة أو النضارة فيقول بالمنطق -وهذا لا يحتاج إلى دليل- يقول: لا.
أريد الصورة الثانية، والحالة الثانية، ألا وهي أن ينظر إلى وجه المرأة ليتعرف من خلال وجهها على جمالها، وقبحها، أو دمامتها، وهذا لا يحتاج إلى دليل، وإن كل منصفٍ لم يمت إنصافه في قلبه -فيعمى بذلك قلبه وعقله- سيقول هذا.
إذاً أيها الأحباب: الله تبارك وتعالى هنا يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر زوجاته وبناته ونساء المؤمنين جميعاً بالحجاب الساتر لجميع الجسم، ومن العلماء من قال: بأن الحكم هنا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قلتُ: سبحان الله! كيف يكون الحكم خاصاً بزوجات النبي والله تبارك وتعالى يقول في نفس الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59]، ويقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وفي الآية قرينةٌ واضحة ٌعلى وجوب ستر الوجه، ما هي هذه القرينة؟ يقول: هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب:59] ومعلومٌ أن وجوب احتجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وسترهن لوجوههن أمرٌ لا نزاع فيه بين المسلمين، فكيف تستقيم دعوى الخصوصية لنساء النبي وحدهن والله تعالى يقول في الآية: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59] وهذا واضح.
وأكتفي بذلك القدر في هذه الآية؛ لأن الموضوع طويل.(87/8)
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وإذا سألتموهن متاعاً)
يقول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب:53].
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟ ما هي العلة من فرض الحجاب بين الرجال والنساء؟ قال الله تعالى الخالق وهو الذي يعلم من خلق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وقال جل وعلا: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هذه هي آية الحجاب، وهي معنىً واضح في وجوب احتجاب النساء عن الرجال، ولكن من العلماء أيضاً من قال -وإنا لله وإنا إليه راجعون- بأن هذه الآية خاصةٌ بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن.
قلتُ: إن كانت الآية خاصةً بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب، فهي عامةٌ من جهة الأحكام، والقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ولو فهمنا كل أوامر القرآن هكذا، بأنه لو جاء أمرٌ خاص لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا إذاً: هو لزوجات النبي وحدهن، لو جاء أمرٌ خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، قلنا إذاً: هو للنبي وحده دون سائر المؤمنين لو كان الأمر كذلك لعطلنا معظم أوامر ونواهي القرآن.
وبالله عليكم أيها الأحبة: هل تظنون أن الله جل وعلا لو أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله في أول سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] هل يقول عاقل بأنه لا يجب علينا أن نتقي الله لأن الأمر هنا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهل لو أمر الله نبيه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:73] هل يقول عاقل بأنه لا يجب علينا أن نجاهد الكفار والمنافقين؛ لأن الأمر هنا خاصٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وهل لو أمر الله المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب:53] هل يقول عاقل بأنه يجوز لهم أن يدخلوا غير بيوت النبي من غير أن يؤذن لهم.
إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا ما قال به علماؤنا، فالحكم هنا أيها الأحباب: إن كانت الآيات خاصةً بزوجات النبي الطاهرات من ناحية السبب فهي عامةٌُ من ناحية الأحكام، وإلا فبالله عليكم اسألوني: ما هي العلة في فرض الحجاب؟ سأجيب: بأن العلة من فرض الحجاب بنص الآية هو قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] أتدرون لمن هذا الأمر؟ إنه لنساء النبي الطاهرات، ولأشرف نساء العالمين، ولأطهر نساء الدنيا اللائى تربين في بيت النبوة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللائى شربن من نبع الوحي الزلال الصافي، وهن المطهرات من السفاح، والمحرمات علينا بالنكاح، والموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين؛ يأمرهن الله بالحجاب حمايةً لقلوبهن، وطهارةً لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن، فما نقول في غيرهن المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح، هل يجوز أن يخرجن، أو أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! الأولوية في هذه الآية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ لأنه إذا أمرت عائشة بالحجاب فهل يترك غيرها؟ وإذا أمرت حفصة بالحجاب طهارةً لقلبها وهي حفصة فهل يترك غيرها؟ أو فهل نترك غيرها؟ وإذا أمرت أم سلمة بالحجاب طهارةً لقلبها فهل نترك غيرها؟ وإذا أمرت سودة، وزينب وغيرهن رضي الله عنهن بالحجاب فهل نترك غيرهن؟ إن دليل الأولوية واضحٌ في هذه الآية، وهذا المسلك في القرآن معلومٌ عند أهل الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه.
إن الأمر بيِّن؛ إن الأمر واضح: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] لماذا؟! {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].(87/9)
الدليل الثالث: قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
وهي قول الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].
يستدل العلماء من هذه الآية بثلاث مواضع وهي: الموضع الأول: هو قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أعيروني القلوب والأسماع أحبتي في الله، يقول الله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] بغير قصدٍ وعمدٍ بل وهي مضطرة لإظهاره رغماً عنها، ألا وهو ظاهر الثياب، فإن الثياب على بدن المرأة زينة وأي زينة؟ إلا ما ظهر منها: ظاهر الثياب، وحتى لا نتهم بأننا نتعسف في لي أعناق الآيات لياً فتعالوا بنا إلى صحابيٍ جليلٍ، وعلم من أعلم الصحابة بكتاب الله جل وعلا، ما من آية نزلت إلا وهو يعلم متى نزلت وأين نزلت وفيم نزلت، إنه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ماذا قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية، والإسناد صحيحٌ إن شاء الله جل علا؟ قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال: الثياب] هذا قول ابن مسعود: زينة المرأة الظاهرة الثياب، وهذا ثابت عنه بإسناد صحيح.
أما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال: [الوجه والكفان] فإسناده إلى ابن عباس لا يصح بحال كما هو معروف لعلماء الحديث وعلماء التخريج لماذا؟ لأن هذا الأثر المروي عن ابن عباس ورد من طريقين: الطريق الأول: رواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري.
الطريق الثاني: أخرجه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، فتعالوا بنا نقف مع هذين الإسنادين لنتعرف على صحتهما من ضعفهما؛ حتى يتضح لنا أن هذا القول لا يصح إسناده بحالٍ إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
أما الطريق الأول: وهو الذي أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في التفسير: هذا لا يصح بحال؛ لأنه إسنادٌ ضعيفٌ جداً، بل هو منكر؛ لأن في رجاله مسلم الملائي الكوفي، قال فيه البخاري: تكلموا فيه، وقال الحافظ الذهبي: ضعفوه، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال يحي بن معين: ليس بثقة، وقال النسائي: متروكٌ الحديث.
إذاً: الإسناد بهذا الطريق لا يصح بحال كما هو معلوم لكل علماء الحديث.
أما الإسناد الآخر الذي أخرجه الإمام البيهقي، فهو ضعيف جداً أيضاً؛ لضعف راويين من رجال سند هذا الطريق الثاني: أحدهما أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعيف.
أما الرجل الثاني فهو عبد الله بن هرمز بن مسلم بن هرمز، قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: ضعيف، وقال فيه الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين والنسائي.
إذاً: الإسنادان لا يصحان بحال، ولا يصح أن يحتج بهما في المتابعات والشواهد فضلاً عن أن يحتج بهما عالمٌ في أمرٍ من الأمور الواجبة كما هو معلومٌ لكل طالب علمٍ مبتدئٍ في علم الحديث.
إذاً: لا يصح الإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما في أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، ويؤكد صحة ذلك ما ذكرته في أول اللقاء، حينما فسر آية الإدناء بقوله: [أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجةٍ أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة].
إذاً: الزينة الظاهرة هي الثياب، وهي ما يظهر من المرأة من غير عمدٍ وعلى حين غفلةٍ من المرأة، ومن علم أحوال النساء علم ذلك جيداً، إذا هبت ريح فتكشف وجه المرأة، أو اضطرت المرأة حين شرائها وبيعها لتكشف عن وجهها الغطاء فنظر رجلٌ خلسةً إلى وجهها على حين غرة منها، هذه زينةٌ تظهر من المرأة من غير عمد ومن غير قصد، وهي بإذن الله لا تؤاخذ عليها بدليل قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
الموضع الثاني في الآية: هو قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] وأوضحنا ذلك بأنه ضرب الخمار على الوجه وتغطية الوجه، بدليل حديث عائشة الذي رواه البخاري ومسلم: (فخمرت وجهي بجلبابي) وبدليل حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام) والحديث رواه مالك، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورواه الحاكم في المستدرك من طريقه، وقال: حديثُ صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي على ذلك.
ويؤكد ذلك أيضاً قول فاطمة بنت المنذر رحمها الله تعالى الذي أشرت إليه آنفاً، قالت: (كنا نخمر وجوهنا من الرجال ونحن مع أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها) والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك أيضاً من طريقه، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين البخاري ومسلم، وأقره الذهبي على ذلك.
إذاً: أيها الأحبة! {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] المفهوم من ضرب الخمار: هو أن تضرب المرأة الخمار من على رأسها على وجهها، وما سميت الخَمْر خَمْراً إلا لأنها تغطي العقل، وقال الحافظ ابن حجر في تعريف الخَمْر: ومنه خمار المرأة لأنه يستر وجهها.
أما الموضع الثالث في هذه الآية فهو قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].
قلنا: إن كان الإسلام قد حرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها؛ خشية أن يفتتن الرجال بسماع صوت خلخالها، فبالله عليكم هل يحرم الإسلام على المرأة ذلك ثم يبيح لها أن تكشف وجهها الذي قد امتلأ نضارةً وجمالاً وحسناً وتجميلاً وتزييناً! أي الفتنتين أعظم، فتنة الوجه أم فتنة القدم؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ورحم الله من قال:
إن الحجاب الذي نبغيه مكرمة لكل مسلمةٍ عادت ولم تعدِ
نريد منها احتشاماً عفةً أدباً وهم يريدون منها قلة الأدب
يا رُبَّ أنثى لها عزمٌ لها أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزمٍ ولا أدب
ويا لقبح فتاةٍ لا حياء لها وإن تحلت بغال الماس والذهبِ
إن الحجاب عفة، إن الحجاب مكرمة، إن الحجاب شرف، إن الحجاب مروءة، إن الحجاب إيمان، إن الحجاب طاعة، إن الحجاب امتثالٌ لأمر الله ولأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا أيتها اللؤلؤة المكنونة المسلمة! يا أيتها الدرة المصونة الغالية! والله ما نريد لك إلا العفة، ووالله ما أراد الإسلام لك إلا الكرامة وأن يحميك من عبث العابثين، ومجون الماجنين، والله لا نريد لك إلا الخير في الدنيا والآخرة:
أختاه يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي
صوني جمالك إن أردت كرامةً فالناس حولك كالذئاب الحومِ
إي والله! كالذئاب الحوم، خاصة في زمان قل فيه الإيمان والورع والزهد، وقلّت فيه التقوى، وإلى الله المشتكى، والله المستعان.
وأكتفي بهذا القدر من الأدلة القرآنية أحبتي في الله.(87/10)
ثانياً: الأدلة من السنة على وجوب الحجاب
أما الأدلة النبوية فهي كثيرة ولله الحمد والمنة، ووالله لو لم يكن منها إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري، ومالك في الموطأ، والترمذي في السنن وقال: حديثٌ حسن صحيح، ورواه أحمد في مسنده وغيرهم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين) أي: التي أهلت بالإحرام في الحج أو العمرة، لا تنتقب ولا تلبس القازين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: دل هذا الحديث على أن النقاب والقفازين كانا معروفين لدى النساء اللاتي لم يحرمن، وأظنه واضحٌ جداً: لا تنتقب المحرمة، إذاً: غير المحرمة كانت في الأصل منتقبة، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم في حال إحرامها ألا تنتقب، وهو الذي نهيت عنه، وهذا هو الذي أمرت به.
وفي الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان الركبان -أي: الرجال الذين يركبون الدواب- يمرون علينا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا -أي اقترب هذا الركب منا وفيه من الرجال من فيه- سدلت إحدانا جلبابها من على رأسها على وجهها، فإذا ما جاوزونا كشفناه) والحديث للأمانة بذاته ضعيف، وله شاهدٌ قوي من حديث أسماء، وحديث فاطمة بنت المنذر اللذين ذكرتهما آنفاً، والحديث الأول رواه مالك في الموطأ، وابن خزيمة في الصحيح، وابن حبان في الصحيح، والحاكم من طريقه في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي، والآخر رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
أما أحاديث النظر إلى المخطوبة، فهي والحمد لله أحاديث صحيحة بطرقها: الأول: كحديث محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم جميعاً، وهذه الأحاديث تدل على أن الخاطب كان يتكلف مشقة وعناءً في النظر إلى وجه مخطوبته، وهي تجيز أيضاً للخاطب أن ينظر إلى وجه مخطوبته، سأختار منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهذا الحديث يقول فيه جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب أحدكم المرأة؛ فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال جابر بن عبد الله: فخطبت جاريةً فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) يقول علماؤنا: إن المرأة في هذا الزمان تخرج متبرجةً مكتحلةً متزينةً متطيبةً متعطرة ما تكلف الرجل مشقةً في أن يختبئ لينظر إلى وجه مخطوبته، بل ما عليه إلا أن يمشي إلى جوارها في الشارع، ليرى منها كل شيء كما نرى في زماننا هذا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهكذا أيها الأحباب: إن من لم يمت إنصافه في قلبه، ومن لم يعمَ بذلك قلبه وعقله لا يحتاج إلى سرد هذه الأدلة، وإلى كل هذه الأدلة، وإنما هو بفطرته النقية الطيبة سيعلم علم اليقين أن أصل الفتنة والجمال في المرأة هو وجهها، وليعلم علم اليقين أن حجاب المرأة شرف لها قبل أن يكون شرفاً وكرامةً لأفراد المجتمع.
فيا أيها الأخ الكريم! عليك بزوجتك، وبابنتك، وبأختك، وأنتِ أيتها الأخت الفاضلة الكريمة! اتقي الله جل وعلا، واعلمي أن في الحجاب الشرف، والعزة، والمنعة، والكرامة، وخيري الدنيا والآخرة، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصواب.
يبقى لنا بعد ذلك أيها الأحبة أن نتكلم عن عنصرين أخيرين في هذا اللقاء ألا وهما: شروط الحجاب الشرعي وبعض الشبهات والرد عليها، وسوف أرجئ الحديث عن هذين العنصرين إلى ما بعد جلسة الاستراحة؛ لأشير إليهما في عجالةٍ سريعة.
وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(87/11)
شروط الحجاب الشرعي
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحبة: أما عن شروط الحجاب الشرعي؛ حتى تعلم المرأة أنه ليس كل ثوبٍ تستطيع أن تخرج به خارج البيت، فللحجاب الشرعي شروط فلتتعلمها كل امرأة:(87/12)
الشرط الأول: أن يكون ساتراً لجميع البدن
فلا يجوز بحالٍ أن تغطي المرأة رأسها وبدنها ثم يكون الثوب قصيراً لتظهر قدميها، أو ساقيها، ومنهن من تتفنن في ذلك لستر هذا الجزء الباقي من أسفل؛ فتلبس حذاءاً برقبة طويلة لتستر هذا الجزء، ثم تدعي وتزعم أنها محجبة.(87/13)
الشرط الثاني: ألا يكون زينةً في ذاته
ألا تلفت المرأة الأنظار إلى ثوبها بألوانه الفاقعة التي تلفت الأنظار، وتجذب الأنظار، فلا ينبغي أن يكون الثوب في حد ذاته زينة، لا ينبغي أن يكون معطراً حتى يلفت إليه الأنظار كما سنرى؛ لأن هذا شرطٌ مستقلٌ من شروط الحجاب الشرعي.(87/14)
الشرط الثالث: ألا يكون شفافاً
بل يجب أن يكون الثوب صفيقاً -أي: سميكاً- حتى لا يشد بدن المرأة أو ما تحته، ومن النساء من تلبس ثوباً صفيقاً -أي سميكاً- وتأتي على مكانٍ بمحاذاة الصدر، أو على الذراعين، وتلبس ثوباً شفافاً يظهر ما تحته، وهذه هي قمة الفتنة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: (صنفان من أهل النار لم أرهما -وذكر منهما عليه الصلاة والسلام- ونساءٌ كاسياتٌ عاريات) وهذا وجهٌ من أوجه التفسير لهذا الحديث؛ أن تلبس المرأة ثوباً شفافاً يُظهر ما تحته.(87/15)
الشرط الرابع: ألا يكون ضيقاً
لأن الثوب الضيق يكون من أعظم الفتن، ومن أعظم سهام الشهوات؛ لأن الثوب الضيق وإن كان صفيقاً وسميكاً لا يشد فإنه يبين حجم عظام المرأة، وهذه من قمم الفتن التي ترسل بها النساء -اللائي يلبسن مثل هذه الثياب الضيقة- إلى قلوب الشباب والرجال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(87/16)
الشرط الخامس: ألا يكون معطراً
أيضاً من الشروط -وهذا بإيجازٍ أيها الأحباب- ألا يكون الثوب مبخراً أو معطراً أو مطيباً، وهذا بالطبيعة هو الثوب الذي تخرج به المرأة إلى الشارع، أما الإسلام فيأمرها بأن تتعطر وتتطيب وتتزين لزوجها في داخل بيتها، وإن همت بالخروج فلا يجب أن يكون الثوب معطراً؛ لأن العطر من ألطف وسائل المخابرة بين الرجل والمرأة كما أوضحت قبل ذلك آنفاً، وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) فما ظنكم إذا خرجت إلى الأسواق والشوارع والطرقات!! والحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح من حديث أبي موسى الأشعري، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت فخرجت فمرت على قومٍ ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا -أي: زانية- وكل عينٍ زانية -أي: وكل عينٍ تنظر إليها بشهوة فهي زانية-) وأسلفنا أن العينين تزنيان وزناهما النظر.(87/17)
الشرط السادس: ألا يكون ثوب شهرة
أيضاً من شروط الحجاب الشرعي: ألا يكون ثوب المرأة لباس شهرة، كأن تلبس المرأة ثياباً غاليةً في الثمن، ليشار إلى ثوبها بالبنان، ويقال: إن فلانة بنت فلان تلبس من الثياب ما قيمته كذا وكذا، هذا ثوب شهرة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني، وحسنه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب عليه ناراً) ولا يشترط بالضرورة أن يكون ثوب الشهرة غالياً، وإنما من الممكن أن يكون ثوب الشهرة رخيصاً جداً، يلبسه الرجل ليظهر التواضع، وليظهر المسكنة، وليظهر الذلة، وهذا من ثوب الشهرة أيضاً.(87/18)
الشرط السابع: ألا يشبه ثياب الرجال
كذلك من شروط الحجاب الشرعي: ألا يشبه ثياب الرجل، وألا تتشبه المرأة في لباسها أو صوتها، أو حتى في مشيتها بالرجال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول والحديث رواه البخاري: (لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء) هذا ملعونٌ على لسان رسول الله، وهذه ملعونةٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث ابن عباس: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المرأة تلبس لبسة الرجل، والرجل يلبس لبسة المرأة) (ولعن النبي صلى الله عليه وسلم: المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء) أي: المرأة التي تريد أن تظهر كالرجل، بل وهي تسعد إن أشير إليها بذلك، هذه ملعونة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الرجل الذي يتشبه بالمرأة فرجلٌ مخنث، يتكسر في مشيته، ويتغنج في لفظه، ويلبس من الثياب ما لا يليق أن يلبسه، ولا تلبسه إلا المرأة، هذا ملعونٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(87/19)
الشرط الثامن: ألا يشبه ثياب الكافرات
الشرط الأخير أيها الأحباب: ألا يشبه ثوب المرأة لباس الكافرات، وهذه من النكسات النفسية التي أصبنا بها، حتى أصبحت المسلمة تقلد الكافرة في كل شيء، حتى في قصة شعرها، وهذه من الهزيمة النفسية التي أصابت قلوب كثيرٍ من النساء.
يجب على المسلمة ألا تقلد الكافرة في شيءٍ أبداً، وفي جزءٍ من الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ومن تشبه بقومٍ فهو منهم) إلخ، حسنه شيخنا الألباني، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح، وصححه الحافظ العراقي.
هذه بعض الشروط بإيجازٍ أيها الأحباب.(87/20)
شبهات والرد عليها
يبقى بعض الشبهات والرد عليها في كلمتين اثنتين وهي: الحديث الذي يستدل به بعض العلماء الذين يقولون بجواز كشف الوجه، ونحن نحسن الظن بهم ولا نتهمهم والعياذ بالله، فنحن نحب شيوخنا وعلماءنا، ولكن الحق أحب إلينا منهم، يستدلون بحديث أسماء الذي رواه أبو داود والبيهقي من حديث خالد بن دريك، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت أسماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رقاق -أو رقيقة- فأعرض عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وقال يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى وجهه وكفيه) هذا الحديث كما هو معروف لكل طالب علم مبتدئ في علم الحديث لا يصلح بحالٍ للمتابعات والشواهد، ولا يحتج به أبداً؛ لأن به ثلاث علل من علل الحديث القادحة: العلة الأولى: أنه حديثٌ مرسل من طريق خالد بن دريك عن عائشة؛ لأن خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، وخالد من أتباع التابعين، ومعلومٌ لكل علماء الحديث أنه لا يحتج بالحديث المرسل، بل ومنهم من قال: لا يحتج إلا بحديث مرسل عن كبار التابعين فقط، كـ سعيد بن المسيب وغيره، وخالد من أتباع التابعين.
العلة الثانية: فيه سعيد بن بشير الأزدي وهو ضعيفٌ كما ضعفه الحافظ الذهبي وضعفه الحافظ ابن حجر، ومن رجال هذا الحديث أيضاً قتادة وهو مدلس، فبالله عليكم! حديث انقطع فيه السند، مرسلٌ ضعيفٌ، وفيه ضعفٌ في رواته، وفيه تدليس، فعند كل طالب علم مبتدئ يعلم علم اليقين أن هذا الحديث لا يحتج به، ولا يصلح أبداً للمتابعات والشواهد.
كنتُ أود أن أفند معظم الشبه الباقية، ولكن إن في هذا كفاية، وإن هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ورحم الله من قال نداءً إلى المسلمة الطاهرة:
فلا تبالي بما يلقون من شبهٍ وعندك العقل إن تدعيه يستجب
سليه: من أنا؟ ما أهلي؟ لمن نسبي؟ من غرب أم أنا للإسلام والعرب؟ ِ
لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذبِ؟
فيا أيها الأحباب ويا أيتها الأخوات: أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الصواب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك ومولاه.
ومعذرةً لكم؛ لأنَّا قد أطلنا عليكم اليوم كثيراً، أسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الوقت في ميزان حسناتكم، وميزان أعمالكم في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
وأسأل الله جل وعلا أن يطهرنا وإياكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم بارك في حكام المسلمين، وفي نساء المسلمين، وفي شباب المسلمين، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(87/21)
الخلوة والاختلاط
جاء دين الإسلام بحفظ ضروريات خمس لا تقوم المجتمعات إلا بحفظها، ومن هذه الضروريات: حفظ الأعراض؛ ولأجل ذلك سن الدين الحنيف للمسلمين الزواج؛ حتى لا تختلط الأنساب، ومنع الفاحشة بعد أن وضع لها البديل، ثم لما حرم الفاحشة حرم مقدماتها، ومن مقدماتها: الخلوة والاختلاط.(88/1)
ضمانات وقائية من الوقوع في الفاحشة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فمرحباً بكم -أحبتي في الله- وأسأل الله جل وعلا بدايةً أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأن يجعل شهر رمضان شاهداً لنا لا علينا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة: لقد توقفنا في شهر رمضان مع فضائل هذا الشهر العظيم، فتعالوا بنا لنواصل حديثنا مرة أخرى ألا وهو: دروسٌ من سورة النور، فنحن اليوم على موعدٍ مع الدرس السادس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، وما زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام سياجاً حامياً وواقياً لأفراده من الوقوع في الفاحشة الكبرى -والعياذ بالله- ولقد جمعنا هذه الضمانات الوقائية في عدة ضمانات: أولاً: تحريم النظر إلى المحرمات.
ثانياً: تحريم التبرج وفرض الحجاب على المرأة المسلمة.
ثالثاً: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط المستهتر.
رابعاً: تحريم الغناء الخليع الماجن.
خامساً: الحض على الزواج لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، والحض على الصوم لمن لا يستطيع، والحض على عدم المغالاة في المهور.
ونحن اليوم بفضل الله جل وعلا على موعدٍ مع الضمان الثالث من هذه الضمانات ألا وهو: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط المستهتر، فأعيروني القلوب والأسماع -أحبتي في الله- ونسأل الله بدايةً أن يرزقنا التوفيق والصواب، إنه ولي ذلك ومولاه.
أيها الأحبة: إن الإسلام منهج حياةٍ متكامل لا يقوم على العقوبة ابتداءً، وإنما يقوم على توفير الأسباب للحياة النظيفة الطاهرة، ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الأسباب الميسرة، وذهب ليتمرغ في الوحل والطين والتراب طائعاً مختاراً غير مضطر.
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع طاهرٍ نظيف لا تستثار فيه الدوافع والشهوات الكامنة؛ لذا فقد وضع مثل هذه الضمانات والضوابط والقيود.
إن الإسلام العظيم إنما هو تشريع الذي يعلم من خلق: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} [البقرة:140] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] إنه دين الله جل وعلا، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.(88/2)
تحريم الخلوة والاختلاط
أيها الأحبة في الله: ومن أعظم الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام سياجاً واقياً للمرأة المسلمة أولاً، ولأفراد المجتمع الإسلامي ثانياً أن حرم الخلوة بين المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي، وأن حرم الاختلاط المستهتر بين الرجال والنساء، لماذا؟ لأن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميلٌ عميق في التكوين النفسي والحيوي؛ لأن الله قد أناط به امتداد الحياة على ظهر هذه الأرض، لذا فهو ميلٌ دائمٌ لا ينقطع ولا ينتهي، والمرأة بطبيعتها فطرت على الأنوثة والجمال وحب الزينة؛ ليتم الانسجام بينها وبين شريك حياتها كما أراد الله، والإسلام لم يتنكر لتلك الفطرة التي فطرت عليها المرأة، ولم يعاكسها الإسلام في أنوثتها، وحبها للزينة والجمال، ولكن الإسلام أحاطها بسياجٍ من الوقاية لا كما يقول زعماء وعبيد المدنية السوداء: بأنكم تخافون على نسائكم أكثر من خوف الغرب الملحد والكافر على نسائه، نقول: ليس كذلك يا دعاة الغربية والمدنية! تحت ستار التحرر والتطور الأسود، وإنما لأن امرأتنا في الإسلام درةٌ مصونة، ولؤلؤة مكنونة، لا يريد الإسلام لها أن تعبث بها الأيدي الآثمة، ولا أن تمتد إليها النظرات السانية، إنما هي أمنا وأختنا وبنتنا وزوجتنا، فهي في غاية من الصون والحفظ والعفاف.
الإسلام ما أحاط المسلمة بهذه الضمانات إلا حماية لها، وحرصاً عليها، وحفظاً لها ابتداءً، ولأفراد مجتمعها المسلم الذي تعيش فيه انتهاءً.
فالخلوة محرمة بين الرجال والنساء، والاختلاط محرم في دين الله جل وعلا، ونظراً لأن هذا الموضوع طويل -أيها الأحبة- فسوف أركز فيه الحديث في عدة عناصر: أولاً: خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية والأدلة على تحريمها.
ثانياً: صورٌ من الخلوة المحرمة شرعاً.
ثالثاً: مأساة من الواقع، وعظة من القرآن.
رابعاً: خطورة الاختلاط والأدلة على تحريمه.
خامساً: صورٌ من الاختلاط المحرم شرعاً.
سادساً: مأساة من الواقع، وصورة مشرقة من القرآن.
سابعاً: فهل من مدكر؟ فأعيروني القلوب والأسماع أحبتي في الله!(88/3)
خطورة الخلوة بالمرأة الأجنبية والأدلة على تحريمها
الخلوة هي: أن ينفرد الرجل بامرأة أجنبية عنه في غيبة عن أعين الناس، هذه خلوة محرمة في دين الله، ولو كانت بين أصلح الرجال وأتقى النساء فهي حرام في دين الله جل وعلا.
والأدلة على تحريمها من شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، من هذه الأدلة -أيها الأحبة- حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا مع ذي محرم) وفي رواية أخرى في البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أيضاً رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون أحدكم بامرأة ليس معها ذو محرم، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجّة -خرجت تحج بيت الله الحرام- وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا) أتدرون ماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (ارجع فحج مع امرأتك) هل تفلسف هذا الرجل وقال: لا يا رسول الله! كيف أدع الجهاد في سبيل الله وأذهب لمرافقة زوجتي؟ أنا أثق في أخلاقها يا رسول الله! أنا لا أشك في تربيتها يا رسول الله! كيف تأمرني بهذا وهي بنت بيت التقى والورع والدين والالتزام، لا، إن المرأة هي المرأة وإن الرجل هو الرجل، والمرأة تضعف أمام شهوتها وغريزتها ولو كانت ذات شرفٍ ومنصبٍ وجمال إلا لمن عصم الكبير المتعال جل وعلا.
فرجع الرجل فحج مع امرأته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه هي مكانتك عندنا أيتها الأخت الكريمة الفاضلة، هذه هي مكانتك أيتها المسلمة الكريمة، أنت درتنا المصونة، أنت لؤلؤتنا المكنونة التي حرص الإسلام على ألا تمتد إليك الأيدي العابثة، ولا أن تلوثك النظرات الآثمة، لا والله، بل أنت مكرمةٌ في دين الله وعزيزة في شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث -أيها الأحباب- الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه وقال: حديث حسنٌ صحيح، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الإمام الذهبي من حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) هذا كلام الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى.
أسمعت أيها الحبيب الكريم؟ أسمعتِ أيتها الأخت الكريمة الفاضلة؟: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) لا تقل: أنا أثق في أخلاق المرأة، ولا تقل: أنا أثق في تربيتها، ولا تقل: أنا أثق في أخلاق الرجل، وأثق في ورعه وزهده وتقواه، المرأة امرأة، والرجل هو الرجل: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) بشهادة من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأةٍ ليس معها ذو محرم، فإن ثالثهما الشيطان) هذا كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، إن الشيطان ثالثهما وشريكٌ في هذا اللقاء، فيزين المرأة للرجل ولو كانت دميمة، وسيزين الرجل للمرأة ولو كان قبيحاً، وكثيراً ما نرى من الجرائم والحوادث التي ينخلع لها القلب.
إننا نرى رجلاً قد ارتكب معصية الزنا مع امرأةٍ وهو متزوج، ولو نظرت إلى زوجته لرأيت أن الله قد أعطاه امرأةً حسناء جميلة، على خلقٍ ودين، وذهب إلى امرأةٍ قبيحة دميمة ليفعل بها الفاحشة، ما هذا؟! إن الشيطان قد زينها له، وزينه لها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا خرجت المرأة من بيتها استشرفها الشيطان) ما معنى استشرفها؟ علاها، أي: علا الشيطان المرأة، إنها جنديٌ من جنود إبليس إذا خرجت على غير شرع الله وعلى غير الضوابط التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا خرجت استشرفها الشيطان، فيزينها في قلوب الرجال، ويزين الرجال في قلبها، وربما تكون المرأة تقية نقية طاهرة وخرجت لحاجة من حوائجها الضرورية دينية كانت أو دنيوية، إلا أن الشيطان لا يدعها وإنما يزينها للرجال -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- فما ظنك بعد ذلك بامرأة متبرجة متعطرة متزينة متكسرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ولذا أيها الأحباب: حذر النبي صلى الله عليه وسلم، تحذيراً صريحاً واضحاً كما في حديث البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء -تحذير شديد اللهجة- فقام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الحمو الموت) وزاد مسلم قال الليث: الحمو: أخو الزوج وأقارب الزوجة من غير المحارم، إذا دخل أخوك على زوجتك وخلا بها فهي خلوةٌ محرمة في دين الله.
سترى كثيراً من الناس يعجبون لهذا الكلام، ويقول: ما هذا التنطع والتطرف يا شيخ؟! إنه أخي يدخل على أولادي ماذا في هذا؟! ما هذا التطرف الذي أنتم فيه؟! ما هذا الدين الجديد الذي جئتمونا به؟! هل أخي لا يدخل على زوجتي في غيبتي؟! نقول: نعم، لا يدخل عليها، إنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، دين الله -يا عبد الله- هل أنت أعلم بالناس من الله؟ هل أنت أعلم بطبائع البشر ممن لا ينطق عن الهوى، من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، الحمو هو: أخوك وأقاربك، وأقارب الزوجة من غير المحارم لا يدخلون على الزوجة في غيبتك، وإلا فالموت والهلاك والدمار بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) الهلاك في ذلك، وربما لا تقع المعصية من أول مرة، والشيطان له خطوات: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:208] وله مداخل -يا عباد الله- لا تقل: أنا أثق فيها، إنها امرأة يا عبد الله! وإنه رجلٌ يا عبد الله! هل يقرب (البارود) من النار ونقول: إننا قد وضعنا تحذيراً شديداً للنار ألا تشتعل في (البارود)؟! إنه خداعٌ في خداع، لا يدخل أخوك على زوجتك في غيبتك.(88/4)
مأساة من الواقع
إن ما سبق يجرنا للحديث عن العنصر الثاني ألا وهو: مأساة من الواقع، وهذه طالعتنا به جرائدنا السوداء التي راحت هي الأخرى تنم عن نفسها بمنتهى الصراحة والوضوح كوضوح الشمس في رابعة النهار، طالعتنا الجرائد بمأساة وسوف ألخصها بقدر ما يسمح به الحياء والمقام، وتتلخص هذه المأساة في قصة امرأة غاب عنها زوجها وترك لها من وسائل الإفساد والفساد ما الله به عليم؛ ترك لها التلفاز ذلك الصنم الأكبر، ذلك الشيطان الذي جثم على الصدور في البيوت والقلوب، ودخل عقر دور المسلمين برغبتهم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يبث الرذيلة بثاً، ويدمر الأخلاق تدميراً على مرأى ومسمعٍ منا، وكان لبناتها غرفة خاصةٌ بهن، أودعت بداخلها التلفاز والفيديو -احذر أيها المسلم! احذري أيتها المسلمة- تركت لبناتها في غرفتهن التلفاز والفيديو، وبعد مرور الزمان ومضي الأيام دخلت البنات بشريطٍ جنسيٍ -والعياذ بالله- ليشاهدنه في غرفتهن الخاصة، وأصبح الأمر عادياً لدى البنات بعد ذلك، والأب مشغول، والأم مشغولة لا تدري عن حال بناتها شيئاً، ولا يعلم الأب عن حال بناته شيئاً، إنه مشغولٌ بهذا أو ذاك، ودخل عم البنات يوماً عليهن، وكان يدخل كعادته بغير ضوابط وبدون قيود وشروط، أمر عادي، إنه عم البنات، إنه أخو الزوج، فما في ذلك؟ ما هذا التنطع والتشدد؟ دخل العم كعادته فما الذي جرى؟ دخل إلى غرفة البنات وهو لا يعلم شيئاً، وبتلقائية طبيعية وضع يده على زر جهاز الفيديو اللعين ليشغل الجهاز ليقضي الوقت حتى ترجع البنات، وإذ به يرى الفاجعة الكبرى، يرى الشريط الذي نسي في هذا الجهاز، ويضعف هذا الرجل أمام هذه المناظر التي تحول العباد الزهاد إلى فساق فجار، يضعف ويجلس ليرى، وتدخل عليه زوجة أخيه بكأس من الشاي قد أعدته له، فترى المرأة ما يحول التقيات الطاهرات إلى فاسقات ماجنات، وباختصار بقدر ما يسمح به الحياء والمقام أوقع الشيطان بينهما فزنى بها.
والمؤلم في هذه المأساة -يا عباد الله- أن المرأة تقول: إن الأمر أصبح عادياً، بعد ذلك كثرت هذه الكبيرة وهذه المعصية، والذي يزعجها على حد قولها: أنها أرسلت رسالة إلى أهل الفتوى من العلماء والدعاة تقول: إن ما يزعجني في هذه الأيام أنني حاملٌ من أخي الزوج، فماذا أصنع؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! هذه ثمرة حنظلٍ مرّة من ثمرات البعد عن كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أن عاند الناس شرع ربهم ونبيهم، هذه هي الثمار -يا عباد الله- هذه هي الثمرات المرة التي نجنيها من وراء عنادنا لشرع الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول حذرك تحذيراً صريحاً، وقال: (الحمو الموت) فأبيت إلا أن تعاند أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: أنا أثق في أخلاق زوجتي ولا أشك في تربيتها، وأثق في أخلاق أخي ولا أشك في تربيته، هذا -يا عبد الله- لا ننكره، ولكن المرأة تضعف أمام شهوتها، وكذلك الرجل، إلا من عصم الله جل وعلا، وإلا من رحم الله جل وعلا.(88/5)
صور من الخلوة المحرمة شرعاً
العنصر الثالث من عناصر هذا اللقاء هو: صور من الخلوة المحرمة شرعاً: لأن كثيراً من الناس قد وقع في الحرام وهو لا يدري، فمن صور الخلوة المحرمة: أن تفتح المرأة بيتها لأصدقاء زوجها، وأقاربها من غير المحارم، وأقارب الزوج من غير المحارم، تفتح البيت في غياب الزوج تقول: تفضل استرح وتعطيه فنجاناً من القهوة أو من الشاي حتى يعود زوجي، وحتى يعود صديقك، فيدخل الرجل ويخلو بها وتخلو به، وقد لا تقع المصيبة أول مرة؛ لأن الشيطان يسير على خطوات كما قال رب الأرض والسماوات، هذه خلوةٌ محرمة في دين الله عز وجل.
ثانياً: من صور الخلوة المحرمة: أن يخلو السائق بالمرأة في السيارة في غيبة عن أعين الناس، وهذا مما ابتلي به كثيرٌ من المسلمين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وربما كان السائق شاباً وسيماً جميلاً يخلو بالمرأة في سيارةٍ واحدة في غيبة في بعض الطريق عن أعين الناس، ولا يعلم طبيعة الحوار الذي يدور في السيارة إلا الذي يسمع ويرى، خلوة محرمة في دين الله.
ثالثاً: من صور الخلوة المحرمة: أن يخلو الخطيب بمخطوبته بحجة أن يتعرف كل منهما على أخلاق الآخر، وخاب الجميع وخسروا، وبعد ذلك نندم يوم لا ينفع الندم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! رابعاً: من مظاهر وصور الخلوة المحرمة: أن تذهب المرأة وحدها بغير محرم إلى الطبيب، فيخلو الطبيب بها بحكم عمله، ويكشف عن مواطن حساسة في جسدها بحكم وظيفته، وهي خلوة محرمة في دين الله، أسمعت يا عبد الله؟! أسمعت يا أمة الله؟! خلوة محرمة في دين الله جل وعلا، إن اضطرت المرأة إلى الطبيب حينما عجزت عن عدم وجود الطبيبة المسلمة فيجوز لها أن تذهب إلى الطبيب مع محرمٍ من محارمها، لا تذهب وحدها ويخلو بها الطبيب وتخلو بالطبيب، وهذه خلوة محظورة شرعاً في دين الله جل وعلا.
خامساً: من أخطر مظاهر وصور الخلوة المحرمة في دين الله عز وجل: أن يخلو الخادم في البيت بالمرأة وحدها، وأن يخلو الرجل في البيت بالخادمة وحدها، وكم وقع من المآسي والمصائب بسبب ذلك، أن يخلو الخادم بالمرأة، يخرج الرجل إلى عمله أو إلى شأنٍ من شئونه، ويترك الخادم في البيت طوال الساعات، وربما يكون الخادم شاباً وسيماً جميلاً، وربما يكون الزوج مسناً أو كبيراً أو دميماً أو مخاصماً لزوجته أو هاجراً لفراش زوجته، فتقع المصيبة -يا عبد الله- لأن الكلفة ترفع على مدى الأيام والزمان، هي تناديه وتأمره وتنهاه وهو يجيب بحكم طبيعة عمله، ولكن المرأة امرأة، والرجل هو الرجل، والرسول أخبر بأنه: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما) وقد تقع المصيبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(88/6)
عظة من القرآن
أليست لنا في القرآن عظة وعبرة؟ ألم يحكِ القرآن قصة امرأة شريفة عزيزة وجيهةٍ غنية جميلة مع يوسف عليه السلام؟ انتبهوا -يا عباد الله- ألم يقص القرآن علينا قصة امرأة عزيز مصر مع خادمٍ لها في البيت؟ هي من هي؟ هي في غاية الشرف والجمال والمال والجاه والسلطان، وهو من هو؟ هو عبدٌ لها وخادمٌ عندها في بيتها، ليس خادماً فحسب بل هو عبدٌ لها في بيتها يعيش معها في بيتٍ واحد، وتحت سقف واحد، ما الذي جرى؟ هكذا بإيجازٍ شديد وبدون مقدمات كما قال الله سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] هكذا بوضوح وبصراحة وبمنتهى المراودة المكشوفة الجاهرة: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] نعم، تقول لمن؟ لشابٍ في كامل فتوته وقوته وجماله وشبابه معها تحت سقف واحد، بل وأُغلق عليهما بابٌ واحد، ولكن يوسف كان قلبه موصولاً بالله جل وعلا: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] أنى للقلوب الموصولة بالله أن يؤثر عليها الشيطان، ألم يقل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]؟ ولقد حكم الله ليوسف أنه من عباده المخلصين: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] الذين لا تأثير ولا سلطان للشيطان عليهم، ولكن المرأة العنيدة التي ضعفت أمام شهوتها وأمام غريزتها لعبدٍ من عبيدها ولخادمٍ من خدامها تنتصر لكبريائها الذي وضعه يوسف في الوحل والطين والتراب، وينتشر الخبر ويسري كسريان النار في الهشيم: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:30 - 31] وكأن هذا الإعلان السافر من هؤلاء النسوة قد دفع المرأة دفعاً لأن تعترف اعترافاً صريحاً وأن تنتصر لكبريائها وشهوتها انتصاراً متبجحاً قالت: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وهنا لم يغتر يوسف بعصمته، وإنما اعترف بعجز وضعف بشريته ولجأ إلى الله الحفيظ العليم جل وعلا: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] لم تعد الدعوة من امرأة العزيز وحدها بل أصبحت الدعوة منهن جميعاً: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33] لم يقل: كيدها بل (كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] فماذا كانت النتيجة؟: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34].
الذي يسمع ويرى ويعلم القلوب التقية النقية من القلوب الكاذبة المنافقة إنه هو السميع العليم سبحانه وتعالى.
هذا نموذجٌ وعظة من كتاب الله الذي نقرءوه في الليل والنهار، ولكن أصبح القرآن كتاب ثقافة للتسلية وللمتعة، يجلس الرجل ليقرأ القرآن ولا هم للناس إلا أن يقولوا: هذا صوته جميل، وذاك صوته حسن، وهذا صوته غير طيب، ويؤمر وينهى ولا سمع ولا طاعة للأمر، ولا اجتناب للنهي؛ لأن القرآن حول إلى علب القطيفة وإلى البراويز الذهبية والفضية، وحول إلى حلي تحلي به النساء صدورهن، يقرأ على الأموات في القبور، والله جل وعلا يقول: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(88/7)
خطورة الاختلاط والأدلة على تحريمه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة: العنصر الرابع هو: خطورة الاختلاط، والأدلة على تحريمه.
والاختلاط أيها الأحباب: هو اختلاط الرجال بالنساء من غير المحارم بلا شك في مكانٍ واحدٍ بدون حجبٍ ولا حواجز، ووالله إن الاختلاط حتى في أماكن العبادة حتى في بيت الله الحرام خطر جسيم وشرٌ عظيم، ولقد قال الله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) [الأحزاب:53] ولكننا نرى النساء يدافعن ويزاحمن الرجال حتى حول بيت الله الحرام بصورة يندى لها الجبين ويقشعر لها البدن أسفاً وحزناً، ترى النساء بصورة متبجحة -إلا من رحم الله جل وعلا- وهن كثرة ولله الحمد والمنة، إن الخير لا ينقطع في هذه الأمة أبداً إلى قيام الساعة، فإننا نرى نساءً على قمة الحياء والالتزام والورع والدين -نسأل الله أن يكثر من أمثالهن، وأن يزيدهن حياءً وشرفاً وعفة.
الاختلاط أما تعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصص باباً في مسجده للنساء حتى لا يختلط النساء بالرجال، قال نافع: [لما خصص النبي صلى الله عليه وسلم باب النساء قال عبد الله بن عمر: والله لن أدخل منه أبداً.
فما دخل منه عبد الله حتى توفاه الله عز وجل] وهو بابٌ معروف الآن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بباب النساء إلى جوار باب جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر الرجال أن يتأخروا ولا ينصرفوا بعد السلام حتى ينصرف النساء، حتى لا يختلط الرجال بالنساء في موطن العبادة والصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) حتى لا يقترب الرجال من النساء ولا يقترب النساء من الرجال، وكانت المرأة في هذا العهد النبوي المبارك تستحي من الرجال، لا تدافع الرجال ولا تزاحمهم في المساجد والطرقات، وإنما كانت تطوف حول بيت الله بعيدةً عن مدافعة الرجال، ولما جاءت امرأة -والحديث في صحيح البخاري - إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: [قومي بنا، انطلقي نستلم يا أم المؤمنين! فقالت: انطلقي إليك عني] وأبت رضي الله عنها أن تقوم لتطوف مع هذه المرأة خشيت أن تدافع الرجال أو أن تزاحمهم، وروى الإمام الشافعي في مسنده: جاءت امرأة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت: [يا أم المؤمنين! لقد طفت بالبيت سبعاً واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً -أي: قبلت الحجر مرتين أو ثلاثاً أتدرون ماذا قالت عائشة -؟ قالت لها: لا آجرك الله تدافعين الرجال ألا كبرتِ ومررتِ؟ ألا كبرتِ ومررتِ تدافعين الرجال عند الحجر] وهذا ما نراه -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- بل والله ترى المرأة بغير خجل ولا حياء تقف أمام عينيك وبين يديك لتركع وتسجد بثيابٍ لا يعلم حالها إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون! إن الحياء هو شرف المرأة ورأس مالها وعظيم بضاعتها: (الحياء والإيمان مقرونان إذا رفع أحدهما رفع الآخر).
يا عباد الله! الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) إن الحياء خصلة عظيمة من صفات المرأة المسلمة النقية المؤمنة التقية، فنسأل الله أن يرزق نساءنا الحياء، وأن يرزقنا الحياء والتقى إنه ولي ذلك ومولاه.
أيها الأحبة: لقد قالت كاتبة إنجليزية هي إلذي كوك هذه المرأة تقول: "إن الاختلاط بين الرجال والنساء شيءٌ يألفه الرجال، وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا".
امرأة أجنبية كافرة تقول هذا الكلام؟! والحمد لله أثبتت الدراسات والإحصائيات كذب وافتراء ما كان يدعيه عبيد المدنية الغربية وعبيد التطور والتحرر تحت ستار المدنية الأسود، أثبتت الدارسات والإحصائيات عكس ما يقولون، كانوا يقولون: إن الاختلاط يهذب غريزة الرجل، إن الاختلاط يخفف من الكف الجنسي بين الرجل والمرأة، فعلامَ هذا الغلو والتطرف؟ أثبتت الإحصائيات والدراسات عكس ذلك، وتعد هذه الدراسات بمثابة الصفعة على وجوه هؤلاء؛ لأن الرجل مع المرأة بارودٌ إلى جوار النار، لا بد وأن يشتعل حتماً وإن تأخر، وقد أثبتت الدراسات بأن الجرائم تنتشر بكثرة، ولا أريد أن أعكر الصفو بأكثر من هذا، فوالله كنت قد أعددت قصتين تخلعان القلوب من الصدور، ولكن يكفي هذا، والأمر واضحٌ لكل المسلمين والمسلمات.
الإحصائيات بمثابة الصفعة على وجوه أدعياء الاختلاط مهلاً مهلاً يا دعاة المدنية والسفور!! مهلاً مهلاً يا دعاة الاختلاط!! ارجعوا واقرءوا الدراسات والإحصائيات لتعلموا أن كثرة الاختلاط كثرةٌ للجرائم والفواحش والزنا -والعياذ بالله- فإلى عبيد المدنية الغربية والمدنية الذين أطلقوا العنان لبناتهم ونسائهم فخالطن الرجال وخلون بالرجال.
اتقوا الله يا عباد الله! واعلموا بأنكم موقوفون بين يدي الله جل وعلا: (كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته) وستسأل بين يدي الله جل وعلا عن هذه البنت وعن هذه الزوجة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(88/8)
خامساً: صور من الاختلاط المحرم
من صور الاختلاط المحرم أيها الأحبة: أن يختلط الرجال بالنساء فيما يسمى بالجلسات العائلية، وتظهر المرأة فيها على أتم زينة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وهذا اختلاطٌ محرم في دين الله.
أيضاً من صور الاختلاط: الاختلاط في دور التعليم، وأصبح الأمر واضحاً لكل مسلم بأن الجامعات أو معظم دور الدراسة والتعليم قد تحولت إلى سباقٍ علني واضح لأرقى الموديلات وأحدث الأزياء وأرقى العطور والبرفانات.
ومن صور الاختلاط المحرم: الاختلاط في أماكن العمل، وهذا ما يغفل عنه كثيرٌ من الطيبين والطيبات، الإسلام لا يحرم عمل المرأة إذا اضطرت إلى ذلك وألجأتها الضرورة إليه، لكن بضوابط وشروط وقيود، ونحن في حاجة إلى أن تعمل المرأة في موطن الطب لتعالج النساء لا الرجال، وفي حاجة إلى معلمة مسلمة لتعلم البنات لا الأولاد والشبان، وهكذا -أيها الأحبة-.
أكتفي بذلك القدر، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعلنا وإياكم ممن يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل منا وأن يرزقنا وإياكم الزهد والحياء والإخلاص والتقى والعفاف، اللهم احفظ بناتنا، اللهم احفظ نساءنا، اللهم جملهن بالحياء يا رب العالمين!(88/9)
الشهوات والملذات
إن فتنة الشهوات والشبهات لا تأتي إلا عن قلة العلم، واتباع الهوى، وكثرة المعاصي، وسيطرة الدنيا على القلوب، ومما يساعد على انتشار هذه الشبهات الفتاوى المضلة، وكذلك الأفكار المنحرفة والقول على الله بغير علم.
والمخرج من هذه الفتنة وهذه الغربة في الدين هو بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(89/1)
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا الشهوات)
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، وجبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! وأشهد لك يا سيدي يا رسول الله، ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت للأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علَّمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج، وأمَّنت الخائف، وطمأنت القلق، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته.
أما بعد: فيا أيها الأحباب الكرام: تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا عز وجل، ومع اللقاء السابع والعشرين على التوالي، وما زلنا بفضل الله وطوله وحوله ومدده نطوف معكم في بستان سورة مريم، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وانتهينا من شرح هذه الآية في شطرها الأول {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59] ونحن اليوم على موعدٍ مع شطر الآية الثاني وهو قول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].(89/2)
أنواع الفتن وأسبابها
الشهوات: جمع شهوة، ولقد عرفها ابن منظور في لسان العرب فقال: إن الشهوة ليست خاصة بشيء معين أو محدد، ولكنها في كل شيء من معاصي الله عز وجل.
الشهوات أيها الأحباب: من أعظم الفتن على الإنسان؛ لأن الفتنة نوعان كما يقول الإمام ابن القيم: 1/ فتنة الشبهات.
2/ فتنة الشهوات.
فأما فتنة الشبهات فتأتي من قلة العلم، ومن اتباع الهوى، ولقد حذر الله جل وعلا من اتباع الهوى؛ لأن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال سبحانه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
وأما فتنة الشهوات فسببها كثرة المعاصي، وفسق الأعمال، وسيطرة الدنيا على القلوب، ولذا قال سلفنا الصالح: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه، وأقول -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-: لقد ابتلانا الله جل وعلا في بلادنا، وفي أيامنا هذه، وفي زماننا هذا بهذين الصنفين، ابتلانا الله جل وعلا ابتلاءً شديداً بكثير من الناس الذين قد أعمتهم شهوات الدنيا، وشبهات الباطل، فراحوا يقولون في هذا الدين بغير علم، ويفترون على الله جل وعلا، ويعلنون العداء لهذا الدين، ويظهرون حقدهم الدفين على هذا الدين، ويشنون عليه الحرب الهوجاء باسم الدين، ولكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر حقدهم الدفين على هذا الإسلام، وعلى هذا الدين العظيم ونفاقهم المبين في زلات ألسنتهم، وعلى صفحات وجوههم، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليعلم الموحدون العدو من الصديق.
أيها الأحبة الكرام: لقد ابتلانا الله جل وعلا في هذه الأيام ابتلاءً شديداً بكثيرٍ من الناس الذين يقولون في ديننا بغير علم، ويقولون في ديننا بالهوى، فقد أعمت أعينهم نارُ الشبهات وظلماتُ الشهوات، فراحوا يفترون على الله الكذب، ويعلنون العداء للإسلام ولرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل وعلا وعدنا بأنه هو الذي سيتولى أن يحفظ دينه، وهو الذي قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
اعلموا أيها الأحباب: أنه ليس من العيب أن يزل العالم؛ لأنه ليس بمعصوم؛ لأن العصمة للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولكن مكمن الخطر، ومصيبة المصائب أن يقول العالم في الدين بغير علم، أو يصر على خطئه وعلى عناده وكبره بعدما يتبين له الحق بالدليل الشرعي استحياءً من الناس، أو خجلاً من الناس، أو خوفاً منهم، والله لا يستحيي من الحق، أقولها بمنتهى الوضوح والصراحة: إننا نحب علماءنا، ونحب شيوخنا، ولكن الحق أحب إلينا من شيوخنا وعلمائنا، إننا نحب شيوخنا وعلماءنا، ولكننا نحب الحق أكثر من حبنا لعلمائنا وشيوخنا.(89/3)
خطورة الفتاوى المضللة والأفكار المنحرفة
أيها الأحبة الكرام: إن مكمن الخطورة في فتاوى عصرنا المنحرفة والمضللة أنها سرعان ما تنتشر، وسرعان ما يعرفها ملايين من البشر بواسطة وسائل الإعلام الحديثة المسموعة والمرئية والمقروءة.
وإن مكمن الخطر كذلك ومصيبة المصائب أن الذين يتحكمون في أئمة الفكر في بلادنا، والذين يسيطرون على عقول الناس بما يملونه عليهم من آراء وأفكار، هذا الصنف من الناس عادةً ما يحاط بهالة من الدعاية، تستر كذبه وجهله وتغطي حقده الدفين على الإسلام، وعلى هذا الدين، وعادةً ما يحاط هؤلاء بهالة عجيبة من الدعاية والإعلان ليلوي هؤلاء الناس أعناق الناس إليهم، وليلفت أسماع الناس إليهم، فيرضخوا لفتاويهم ولكلماتهم، ويأبى الله جل وعلا إلا أن يقيض لهذا الدين من يحذر الناس من فتاوى هؤلاء ودعاويهم.
اعلموا أيها الناس: أن هذه الهالة، والدعايات، وهذا الإعلان لا يقرب أصحاب الفكر من قلوب الناس، ولا يجعل من جهلهم علماً، ولا يجعل من بعدهم عن قلوب الناس قرباً، "مثلهم كمثل الطبل الأجوف يسمع صوته من بعيد، وباطنه من الخيرات خالٍ".
نعم إنني أقدم بهذه المقدمة الطويلة لماذا؟ لأنه مما يدمي الضمائر الحية؛ ويمزقها أن ينبري أعداء ديننا في هذه الأيام، وعبيد الفكر الغربي لحرب هذا الإسلام حرباً صريحة وحرباً هوجاء، وأرى أن أعداء هذا الفكر -أي: الفكر الإسلامي- وأنصار هذا الفكر -أي: الفكر الغربي- راحوا ينفثون سمومهم على صفحات الجرائد، وعبر شاشات التلفاز، وعبر الإذاعات المسموعة في كل زمانٍ ومكانٍ، يريدون إسلاماً على أمزجتهم، يريدونه خاصاً على أهوائهم، وبما يمليه عليهم قادة الغرب من المستشرقين، والمبشرين، والشيوعيين، والعلمانيين، فتارةً يقولون: إننا لا نأخذ بآراء الفقهاء ولا بآراء المفسرين ولا بآراء العلماء، لا نأخذ إلا بالوحي من القرآن والسنة، فإن وافقتهم جدلاً على أن يتركوا آراء الفقهاء وآراء العلماء، والمفسرين، ويأخذوا بالقرآن والسنة، بعد فترة يقولون لك: إننا لا نأخذ بالسنة بكاملها؛ لأن فيها ما هو ضعيف ومردود وموضوع، ولا نأخذ إلا بالقرآن الكريم، فإذا ما ضيعوا السنة ولم يبق أمامهم إلا القرآن، قالوا لك بعد ذلك: إن القرآن قد نزل ليعالج أوضاع البيئة العربية في أرض الجزيرة، ولذا فإنه ينبغي أن نأخذ من القرآن ما يتفق مع روح عصرنا، وما يتمشى مع روح التطور والتحرر.
أضاعوا آراء الفقهاء، وأضاعوا السنة، وفي النهاية قالوا: لا بد أن نأخذ من القرآن ما يتفق مع روح عصرنا ومع روح مدنيتنا وتطورنا، آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر.
فإن قلت لهم: إن القرآن الكريم قال: إن الخنزير رجس، ولقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، لقالوا لك: لقد وصف القرآن الكريم الخنازير ولحومها بأنها رجس؛ لأن وصفه كان لخنازير في العصور المتخلفة، كانت خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم -وما أكثرها- فإنها خنازير متطورة ومتحضرة، ليست بالخنازير المتخلفة كخنازير العصور الماضية.
فإن قلت لهم: إن القرآن الذي تؤمنون به يقول: للذكر مثلُ حظِ الأنثيين في الميراث، قالوا لك: لقد قال القرآن ذلك في عصورٍ ماضية، قبل أن تخرج المرأة لميدان العمل، أما يوم أن خرجت المرأة لميدان العمل فقد أصبحت تساوي الرجل في كل شيء وهكذا.(89/4)
غربة الدين والتدين
إنها نار الشهوات وفتن الشبهات، وأنا -كما قلت- أقدم بهذه المقدمة الطويلة لهذه الشهوات والشبهات التي يحارب بها إسلامنا وديننا في هذه الأيام؛ لأن قلبي كاد أن ينخلع، وكاد عقلي يطير، لما قرأته على صفحات جريدة إسلامية ولا أقول على صفحات جريدة شيوعية أو علمانية أو ماركسية، وإنما أقول: على صفحات جريدة إسلامية بعنوان: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) أسمعتم؟ أرأيتم؟ على صفحات جريدة إسلامية عنوانٌ ضخمٌ يقول: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) إلى هذا الحد يحارب الإسلام؟! إلى هذا الحد يحارب الالتزام؟! إلى هذا الحد يحارب الاحتشام؟! أنا لا أدري لماذا يثير النقاب هذه البغضاء في قلوب هؤلاء، والله لا أدري، فمنهم من يصف النقاب بأنه خيمة، ومنهم من يصف المنتقبات بأنهن متأخرات، ومتخلفات، ورجعيات، ومتحجرات، لا أدري لماذا كل هذه الحرب الشعواء؟! لماذا كل هذه الحرب الهوجاء على النقاب؟! لماذا لم تكن هذه الحرب على السفور؟ لماذا لم تكن هذه الحرب على العري والتبرج؟ لماذا لم تكن هذه الحرب على الاختلاط السافر؟ لماذا لم تكن هذه الحرب على المتبرجات العاريات الكاسيات المائلات المميلات اللائي يُفتح لهن الأبواب، وتيسر لهن الأسباب، وتذلل لهن الصعاب، وينلن كل الرضا والاحترام والتقدير من هؤلاء، أصحاب الشهوات وأصحاب القلوب المريضة، أما المنتقبات والعفيفات، والطاهرات، والمتوضئات، فإن الحرب تصب على رءوسهن صباً، لا تفتح لهن أبواب الجامعات، ولا أبواب المدارس، ولا أبواب الوزارات أو أبواب الأعمال، لا تفتح لهن الأبواب، ولا تذلل لهن الصعاب، ولا تيسر لهن الأسباب، ويصب هؤلاء الحاقدون على رءوسهن الحرب صباً، لماذا كل ذلك؟ لماذا هذه الحرب الشعواء على النقاب، وعلى الإسلام، وعلى الإخوة الذين توضئوا لله جل وعلا، وسجدوا له، والذين رفعوا شعار لا إله إلا الله، لماذا؟ إنني أتعجب! والله إنني لأتألم من هذه الحرب، ولكنني أتعجب ويزداد عجبي أن تكون هذه الحرب على النقاب ليست من أعداء الإسلام، وإنما ممن ينتسبون ظلماً وزوراً إلى الإسلام.
إلى هذا الحد تحارب المنتقبة من المسلمين، وممن يتسمون بسمة أهل العلم والدين؟! إلى هذا الحد؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولكنني أقول: أيتها الأخوات المتنقبات.
اصبرن، واعلمن علم اليقين أن في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم، وغيره من أهل السنن والمسانيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء فطوبى للغرباء) وفي رواية للإمام أحمد: (قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) الغرباء: الذين يتمسكون بالقرآن وهدي النبي عليه الصلاة والسلام في وقتٍ قل فيه التمسك بالقرآن، وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث الصحيح أيضاً الذي أخرجه الإمام الترمذي بسندٍ حسنٍ صحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس زمانٌ الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر) وهذا هو زماننا، وهذه هي أيامنا، فمن صبر في هذه الأيام، وفي هذا الزمان على دينه كمن قبض على جمر بين يديه.
فاصبري يا أختاه، واصبروا أيها الإخوة، اصبروا أيها الشباب، اصبروا أيها المسلمون، فإن الله جل وعلا قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6].
وأقول لكم: أبشروا، فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يأتي بعدها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم، ونور الإسلام قادم، ونور محمدٍ قادم، وعز الإسلام قادم، ولكننا نحتاج إلى الصبر، اصبري يا أختاه، اصبري يا من التزمت بشرع الله، وبشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنني أتعجب! النقاب حرام؟ هذا آخر ما كنت أتخيله، يخرج علينا بعد ذلك هذا الفذ، والعبقري بهذا الاختراع المدوي، وبهذا الاكتشاف الكبير، وبهذه القنبلة المدوية ليقول لنا: إن النقاب حرام، والله ما قال بذلك أحدٌ من أسلافك الأولين.(89/5)
المرأة سلاح ذو حدين
اعلموا أيها الناس: أن أعداء الإسلام علموا أن المرأة سبب فلاح الأمة الإسلامية، ومصدرٌ من مصادر نجاحها.
ويعلمون أن عز الأمة عند المرأة المسلمة، ويعلمون كذلك أن المرأة المسلمة مصدر من مصادر الفتن والهتك والتدمير، فإن المرأة سلاحٌ ذو حدين، ولقد علم أعداء الإسلام ذلك، ولقد قالها أحد أقطاب المستعمرين يوم أن قال: كأس وغانية يفعلان في الأمة المحمدية ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع.
فأغرقوا الأمة في الشهوات والملذات، هكذا أفلح أعداء ديننا، وهكذا خطط أعداء إسلامنا، علموا علم اليقين أن المرأة سلاحٌ ذو حدين، فهي مصدر عزة للأمة، ومصدر هتك وهدمٍ وتدمير، فهي سلاحٌ ذو حدين، ومن هذا المنطلق كان للمرأة النصيب الأكبر، والحظ الأوفر من المؤامرات والمخططات والمدبرات والتدبيرات التي دبرت لإسلامنا، والتي دبرت لأمتنا ولديننا، فانتبهوا جيداً.
علموا علم اليقين أن المرأة إن التزمت بما قال لها ربها، وبما قال لها نبيها صلى الله عليه وسلم فهي مصدر الرعب والإذلال.
لقد ظلت المرأة المسلمة طيلة القرون الماضية تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فعز على أعداء ديننا أن تعود المرأة في أيامنا وفي بلادنا وزماننا، فتنجب عمراً كـ عمر بن الخطاب، أو تنجب خالداً كـ خالد بن الوليد؟ أو صلاحاً كـ صلاح الدين؟ فراحوا يدبرون ويخططون، ووالله الذي لا إله غيره ما ترك الاستعمار بلادنا وما سحب الاستعمار جيوشهم من بلادنا ومن أرضنا إلا بعد أن اطمأنوا اطمئناناً كاملاً أنهم قد خلفوا لهم جيشاً جديداً أحرص على أهدافهم منهم عليها.
إي والله! ما ترك الاستعمار بلادنا، وما رفع الاستعمار يديه عن أرضنا إلا بعد أن اطمأن اطمئناناً كاملاً أنه قد ترك في بلادنا جيشاً جديداً من قادة الفكر، وقادة الأدب والفن، هؤلاء الذين سماهم الاستعمار -زوراً وبهتاناً لإضلال المسلمين- وأطلق عليهم صفات المحررين، وصفات المطورين، والمجددين، هذه الدعاوى الباطلة، وهذه الدعاوى الكاذبة.(89/6)
من شخصيات أصحاب الفكر المنحرف
ومن هؤلاء الذين انخدع بهم كثيرٌ من الشباب وكثيرٌ من المسلمين من قادة هذه الأمة: رفاعة رافع الطهطاوي، هذا الذي أعدت له المسلسلات، وأعدت له الكتب، وقررت سيرته على الشباب وعلى الطلبة والطالبات، هذا هو رفاعة رافع الطهطاوي يقول بالحرف الواحد في كتابه الشهير: تخليص الإبريز في تلخيص باريس: إن السفور والاختلاط بين الجنسين -أي: بين الرجل والمرأة- ليس داعياً من دواعي الفساد، وإن الرقص -انتبهوا واسمعوا التطور اسمعوا التحرر اسمعوا المدنية اسمعوا التقدمية اسمعوا الفسق تحت ستار التطور والتحرر، والمدنية السوداء، أباحوا العربدة، وأباحوا الفسق والفجور- يقول الطهطاوي: وإن الرقص على الطريقة الأوروبية -وأنتم تعلمون كيفية الرقص على الطريقة الأوروبية، أن يأخذ الديوث زوجة ديوث آخر، وهي مع زوجٍ آخر، وأن يتراقصا، يضع يده حول خصرها، ويضع خده على خدها، ومعذرة لهذه الألفاظ، لكن حتى يتضح الأمر لمن يعلم ولمن لا يعلم- يقول: إن السفور والاختلاط بين الجنسين ليس داعياً من دواعي الفساد، وإن الرقص على الطريقة الأوروبية ليس من الفسق -أسمعتم بهذا في آبائكم الأولين؟ - وإن الرقص على الطريقة الأوروبية ليس من الفسق، وأنه لا يخرج عن قوانين الحياء.
إذاً فأي حياء هذا الذي تريدون وإن كان الرقص على الطريقة الأوروبية لا يخرج عن قوانين الحياء؟ ومنهم أيضاً: نرقص فهمي الذي نادى في كتابه الذي أسماه: المرأة في الشرق، الذي نادى فيه بعدم الحجاب، ونادى فيه بالاختلاط السافر بين الجنسين.
ومنهم أيضاً: هؤلاء الذين صنعهم الاستعمار بيديه، وأبقاهم شوكةً في صدور المسلمين، وشوكة في صدر الإسلام: قاسم أمين الذي نادى في كتابه: تحرير المرأة، برفع الحجاب، ونادى فيه بالاختلاط، والسفور.
ومنهم أيضاً: هدى شعراوي، عندما رجعت إلى الإسكندرية بعد سفرها إلى باريس أول مرة، وتدخل إلى أرض مصر مع صديقتها شيزنبراوي، هذه الصديقة الملحدة الفاجرة الكافرة، يوم أن دخلت معها هدى شعراوي إلى أرض مصر فخلعت النقاب عن وجهها، وكانت لأول مرة تتجرأ امرأة على أن تخلع النقاب، وبعدها خلعت صفية زغلول النقاب عن وجهها، وغير هؤلاء، وهؤلاء هم الذين جعلهم الاستعمار شوكة في صدر الإسلام والمسلمين، ولقبهم بالمبددين، والمحررين والمطورين، فاعرفوا تاريخكم، وافهموا إسلامكم، واعرفوا دينكم لتميزوا الخبيث من الطيب، ولتعرفوا العدو من الصديق! وفي النهاية وأخيراً وليس بأخير: يتمخض الجبل فيلد فاراً، هذا الذي ظهر علينا في الأسبوع الماضي، وهذا الذي ينتسب زوراً وبهتاناً، وأما من قدم أو من أغرى الناس بعلمه، لا أقول: إنه يساويه في الوزر والإثم، هذا الذي فتح له صفحات الجرائد، وفتح له جريدته على مصراعيها ليقول بالخط العريض، والممشط الكبير: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، لا إله إلا الله! تمخض الجبل فولد فأراً، هل هذا هو اختراعك؟ هل هذا هو ابتكارك يا صاحب العقل؟ هل هذا هو اختراعك يا صاحب الاختراع؟ هل حلت جميع مشاكلنا ولم تبق إلا مشكلة النقاب؟ لقد سقطت ذبابة على نخلة -نخلة البلح- فلما أرادت الذبابة أن تنصرف قالت الذبابة للنخلة: تماسكي أيتها النخلة فإني راحلةٌ عنك، أمر عجيب! الذبابة تقول للنخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة فإني راحلةٌ عنك، فردت عليها النخلة العملاقة وقالت لها: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل أحسست بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عنيز قل ما شئت، وليقل الحاقدون ما شاءوا، فوالله الذي لا إله غيره، لا يضر السماء نبح الكلاب، ولا أنين الذئاب، والله لو اجتمع أهل الأرض على أن يطفئوا نور الله ما استطاعوا، والله ما استطاعوا، وسيعلو صوت الحق في كل زمانٍ وفي كل مكان، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] ولو كره المشركون، ولو كره الحاقدون، ولو كره المنافقون الذين يأبى الله جل وعلا إلا أن يظهر نفاقهم، ويظهر حقدهم على صفحات وجوههم، وعلى صفحات جرائدهم، وفي زلات ألسنتهم، ليميز الله الخبيث من الطيب، ولنعرف نحن الموحدين العدو من الصديق.
إن النقاب حرام؟! ليتك قلت: إن التبرج حرام، وليتك قلت: إن العري حرام، أو قلت: إن السفور حرام، أو إن الربا حرام، أو إن الخمر حرام، أو إن الزنا حرام، أو ليتك قلت: إن (كبريهات) شارع الهرم حرام، أو إن البنوك وفوائدها من الربا حرام، وليتك قلت: إن سلب الحريات حرام، أو: إن تكميم الأفواه حرام، أو ليتك قلت: إن الزنا حرام، أو إن قتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء على أرض فلسطين الذبيحة حرام، ليتك قلت: إن اجتماع الغرب بأسره على الإسلام حرام، أو ليتك قلت: إن حملات التبشير والتنصير والعداء للإسلام حرام، ليتك قلت ذلك، هل انتهيت من كل ذلك أيها العبقري أيها الدكتور لتترك كل ذلك وتقول: إن النقاب حرام؟! هل حُلت جميع مشاكل مصر؟! وهل حُلت جميع مشاكل الشباب؟ وهل حُلت جميع مشاكل النساء والفتيات ولم يبق لنا إلا مشكلة النقاب لنتبارى فيها بنار الشهوات والشبهات لنضل الناس بغير علم؟! ولقد كنت أعددت لكم الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب النقاب عند كثيرٍ من أهل العلم، ولكنني أرى الوقت لا يتسع، فالموضوع كاملاً يحتاج منا إلى جمعة كاملة لنعلم أن هؤلاء ما تحركوا بهذه الفتاوى إلا من منطلق الهوى، وفتن الشبهات والشهوات.(89/7)
المخرج من فتن الشبهات والشهوات
ولكن أيها المسلمون: اعلموا علم اليقين -والله الذي لا إله غيره- أنه لا عز لنا إلا بالإسلام، ولا قيام لنا إلا بالإسلام، ولا وجود لنا إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد ورد في مستدرك الحاكم، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم، ووافقه على ذلك الإمام الذهبي قال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يوماً إلى الشام ليلقى أبا عبيدة بن الجراح، وكان عمر بن الخطاب يركب ناقته، وفي الطريق مر عمر بن الخطاب على مخاضة -أي: على بركة من الطين والماء- ونظر عمر بن الخطاب إلى هذه المخاضة وإلى بركة الطين والماء، فماذا صنع أمير المؤمنين؟ أشفق عمر بن الخطاب على ناقته فنزل من على ظهرها وجرها سحباً بيديه وخلع نعليه ووضعهما على عاتقه وأخذ بزمام الناقة، خشي من الله جل وعلا أن يركب على ظهرها لتخوض به هذه المخاضة.
أرأيتم؟ فهو الذي كان يمد يده الشريفة في دبر البعير المريض ليداويه ويعالجه، وإذا ما نظر إلى البعير المريض وهو يشتكي وهو يئن بكى عمر بن الخطاب وقال له: [والله إني لخائف أن يحاسبني ربي عما بك من مرضٍ يوم القيامة].
عمر ينزل من على ظهر الناقة ويضع نعليه على عاتقه ويسحب ناقته من زمامها، وينظر أبو عبيدة بن الجراح ويتعجب لحال عمر ويقول له: يا أمير المؤمنين! أأنت تصنع ذلك؟! والله لا أحب أن القوم قد استشرفوك -أي: إنني أكره أن يراك أحدٌ وأنت على هذه الحالة، أتدرون ماذا قال عمر؟ - قال عمر: أوه يا أبا عبيدة؛ لو قالها أحدٌ غيرك لجعلته نكالاً لأمة محمد، ثم قال: [يا أبا عبيدة والله لقد كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله] لا عز لنا إلا بإسلامنا، ولا كيان لنا إلا بديننا، ولا بقاء لنا إلا بالتزامنا، أما أن ينعق كل ناعقٍ، ويفتري كل مفترٍ، ويقول في العلم والدين بغير علم أو بالهوى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا) أين أنتم يا هؤلاء، يا من تتبجحون على الدين بغير علم؟ ويا من تجترئون على الدين بغير علم؟ أين أنتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا ما سئل يقول: (انتظروا حتى يأتيني جبريل بالوحي من عند الله)؟ أين أنتم من صحابة رسول الله؟ أين أنتم من التابعين؟ وهذا هو القاسم بن محمد إمام من فقهاء المدينة السبعة، يأتيه سائل ليسأله عن شيء فيقول القاسم: إني لا أحسنه، إني لا أعرف ولا أدري، فتعجب السائل وقال له: يا قاسم، أنا أتيتك لا أعرف غيرك، وأنت تقول: لا أعرف، ولا أدري، فنظر إليه القاسم وقال: يا أخي لا تنظر إلى طول لحيتي، ولا إلى كثرة الناس من حولي، والله لا أحسنه، والله لا أعرف، ولا أدري، وكان شيخٌ إلى جوار القاسم من شيوخ قريش فقال له: أيها العالم يا ابن عمي! الزمها فوالله ما رأيناك في مجلسٍ أنبل منك اليوم فقال القاسم: والله لأن يقطع لساني خيرٌ وأحب لي من أن أقول في الدين بما لا علم لي به.
لكننا الآن نجد هؤلاء الذين يجترئون على الدين، ويقولون في الدين بغير علم من منطلق الهوى، والهوى يضل صاحبه عن سبيل الله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.(89/8)
انتشار الشهوات بين الناس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد: فيا أيها الأحباب الكرام: كنت قد أعددت لكم كثيراً؛ لأن الموضوع لم ينته بعد، لكن خشية أن يطول الوقت بنا جعلت لموضوع الشهوات جمعة أخرى؛ لأن كثيراً من الشهوات قد سيطرت على كثيرٍ من الناس في هذه الأيام، فهناك شهوة الغناء وحب الغناء، بل من العلماء من قال بأن الغناء لا شيء فيه، ومنهم من طالعنا في كتبه الأخيرة، وأنا لا أنتقد أحداً، وإنما أذكِّر، ووالله الذي لا إله غيره ليس من طبعي أن أجرح في أحد من العلماء، أو أنتقد أحداً منهم؛ لأني على يقينٍ كامل أنه لا ينبغي أن يخطّئ العالم إلا عالم، ولست من العلماء، ولكنني أقول من باب التذكير والتحذير: يقول عالمٌ من علمائنا، وكما قلت: إننا نحب علماءنا، ولكننا نحب الحق أكثر من حبنا لعلمائنا، يقول: لقد دخل عليّ شابٌ كنت مشرفاً على رسالته، فدخل علي وأنا أستمع إلى الغناء -كان يستمع إلى الغناء من صوت محبب إليه- ودخل هذا الشاب الصغير، فلما رأى أستاذه يستمع إلى الغناء، وأنتم تدرون وكلكم على علم بكلمات أغانينا في أيامنا هذه، لابد أن الشريط الملعون: (لولا) قد وزع منه ثمانية مليون نسخة من هذه الخزعبلات والهراءات، ثمانية مليون شريط أمرٌ عجيب! فدخل الشاب على أستاذه وتعجب! فقال أستاذه: إن الغناء لا شيء فيه، فلما لم يستطع التلميذ أن يناقش أستاذه استحلفه بالله أن يغلق المذياع، فاستجاب الأستاذ لتلميذه وأغلق الراديو، يقول أستاذنا: ولم أستطع أن أصمت، فجعلت أردد كلمات الأغنية بصوتي أنا.
وغيرها من الشهوات وغيرها.(89/9)
تنبيه على مسائل مهمة في العقيدة
أقول: إن الموضوع طويل، ولكن هناك نقطة أخيرة في غاية الأهمية أود أن أنبه إليها.
وهي: أن في الجمعة الماضية في مسجدٍ مبارك من مساجد السويس، كان أحد الدعاة الأفاضل والكرام يفسر على المنبر سورة الفجر، ولكنه أخطأ خطأً كبيراً أود أن أذكر العقول إليه، وأنا أقول بدايةً: والله الذي لا إله غيره ليس من باب تصيد الأخطاء، وليس من باب الانتقاد للدعاة، أو أن ينبري البعض للبعض الآخر، وليس من باب التقليل من شأن هذا الداعية الكريم، فإني أشهد الله والله شهيد على ما في قلبي أني أحبه في الله عز وجل، وأشهد له أنه من الدعاة الذين يحترمون المنبر، ويحترمون العقول، ويعدون للجمعة إعداداً جيداً وكاملاً، وأسأل الله أن يغفر لي وله، ولكن من باب التذكير، ومن باب النصح لا أكثر من ذلك والله الذي لا إله غيره.
لقد قال هذا الداعية الكريم في تفسير سورة الفجر في قول الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]-ولقد استمعت إلى الشريط بأذني رأسي حتى أكون على يقين- وقد ظل يعدد أن الله سبحانه يراك في كل مكان، ثم قال عبارة اقشعر منها بدني حينما قال: فلو ذهبت إلى الخمارة لو جدت الله هناك.
ثم قال في قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] قال بالحرف الواحد: لا مجيء لله أبداً، ونفى المجيء عن الله عز وجل، قلت: بأن هذا الموضوع جد خطير، وكان يحتاج مني إلى وقفة وإلى تذكير، والله لا من باب الانتقاص ولا الانتقاد؛ لأنه أمرٌ في صلب العقيدة، يقول علماؤنا -وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الأسماء والصفات لرب الأرض والسماوات-: إن الله جل وعلا له أسماءٌ وصفات، ومذهب أهل السنة والجماعة في هذه الأسماء والصفات: أننا نؤمن بها صريحة ونمرها كما هي من غير تحريف، ولا تكييف، ولا تأويلٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تشبيهٍ أو تمثيلٍ، كيف؟ الله سبحانه وتعالى له أسماء وله صفات أثبتها جل وعلا لذاته في القرآن الكريم، وأثبتها له نبينا صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نؤمن بهذه الأسماء وتلك الصفات كما أثبتها الله لنفسه، وكما أثبتها النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا.(89/10)
الإيمان بصفات الله عز وجل بلا تحريف
أولاً: أن نؤمن بصفات الله جل وعلا من غير تحريف، ما معنى ذلك؟ أي: نأخذ الصفة دون أن نحرفها عما جاءت في القرآن والحديث، وعلى سبيل المثال: أثبت الله جل وعلا لنفسه صفة الكلام في القرآن وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فرد هؤلاء الذين قالوا بتعطيل الصفات كـ الجهمية والمعطلة والمعتزلة وغيرهم وقالوا: بأن أهل السنة والجماعة ما فهموا هذه الآية حق فهمها، قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأن الآية معناها أو قراءتها الصحيحة: (وكلّم اللهَ موسى تكليماً) فجعلوا لفظ الجلالة (الله) في محل مفعول به مقدم، و (موسى) فاعلاً؛ ليكون الكلام من موسى، أي: أن الذي تكلم هو موسى؛ لينفوا صفة الكلام عن الله.
فرد عليهم علماؤنا وقالوا لهم: إذا كنتم تقولون في هذه الآية بأن المتكلم هو موسى لتقديمكم وتأخيركم الباطل، فماذا تقولون في قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟ الله أثبت لنفسه الكلام وأثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه الكلام، إذاً: نؤمن بأن الله يتكلم ولكن كيف؟ الله أعلم.(89/11)
الإيمان بصفات الله عز وجل بلا تأويل
ثانياً: أن نؤمن بصفات الله جل وعلا بدون تأويل، بمعنى: أن نأخذ الصفة ولا نؤولها على هوانا، فلا نقول في قول الله جل وعلا كما قال هؤلاء المعطلة للصفات من الجهمية والمعطلة والأشاعرة والمعتزلة، فإنهم في قول الله جل وعلا: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] أولوا صفة اليد لله جل وعلا، وقالوا: بل نعمتاه مبسوطتان، فجعلوا لله نعمتين اثنتين، والله جل وعلا يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فنأخذ الصفة بدون تأويل، وفسروا وأولوا أيضاً قول الله جل وعلا: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] فقالوا: إن معناها القدرة، وهذا تأويل باطل كما قال أهل السنة والجماعة، لماذا؟ لأن الله جل وعلا أثبت لنفسه يدين اثنتين وكلتاهما يمين، وأثبت الله جل وعلا لذاته ساقاً {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42].
وأثبت الله لنفسه قدماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم: (إن الله جل وعلا يلقي في جهنم من المشركين والكفار، وتظل جهنم تنادي وتقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ حتى يضع الحق عز وجل عليها قدمه، فتقول: قطٍ قطٍ قد امتلأت) بغير تأويل.(89/12)
الإيمان بصفات الله بلا تعطيل
ثالثاً: أن نؤمن بالصفات بلا تعطيل، لا كما قال أستاذنا في قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فهو عطل صفة المجيء عن الله عز وجل وقال: لا مجيء لله أبداً، ولكننا نقول: إن أهل السنة والجماعة يقولون: بأنه ينبغي أن نؤمن بالصفة بدون تعطيل، فقد أثبت الله لنفسه المجيء، وأثبت لنفسه الدنو، فنؤمن بهذه الصفات بدون تعطيل، لماذا؟ لأن تعطيل الصفة عن الموصوف يعني أن الموصوف لا وجود له -أنا أنفي صفة عن شيء إذاً: لا وجود لهذا الشيء- لأنه لا تمنع الصفة ولا تحجب إلا عن العدم المحض، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: لا تنفى الصفة إلا عن عدمٍ محضٍ، فنحن نؤمن بالصفات بدون تعطيل، فنقول: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] أي: أثبت الله لنفسه المجيء، ولكن نقول: جاء ربك مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار في بالك فالله بخلاف ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، فنؤمن بالصفات بدون تعطيل.
أما ما قال أستاذنا في قول الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] أي أن الله معك في كل مكان، على إطلاق العبارة هكذا، فلو ذهبت إلى الخمارة لوجدت الله هنالك، فإن هذا كلامٌ خطير، وإنما مذهب أهل السنة والجماعة في هذه العبارة أن الله جل وعلا ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، وإذا قلنا: إن الله موجودٌ في كل مكان على إطلاقها لجعلنا ذات الله في أماكن القاذورات والنجاسات، ولقلنا كما قال أهل الحلول والاتحاد، ولكن ينبغي أن نقول: الله جل وعلا بعلمه في كل مكان، أي: بإحاطته في كل مكان، أو الله مع الناس أو مع مخلوقاته في كل مكان بعلمه وقدرته وإرادته وقهره وإحاطته وسلطانه، ولا نجعل ذات الله في أماكن النجاسات أو أماكن القاذورات أبداً.
وكذلك في قوله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يقول الجهم بن صفوان عليه لعنة الله، هذا الذي كان قائداً للمعطلة: لو وجدت سبيلاً لإزالة هذه الآية من المصحف لأزلتها وحككتها، وجعلت بدلاً من: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] (الرحمن على العرش استولى) وقال جهم كما قال أسلافه من اليهود حينما قال الله جل وعلا لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: حط عنا ذنوبنا {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58] فخالف اليهود أمر الله، فبدلاً من أن يدخلوا الباب سجداً دخلوه وهم يزحفون على أستاههم، أي: على مقاعدهم، وبدلاً من أن يقولوا: حطة أي: حط عنا خطايانا، استهزءوا بكلمة الله فقالوا: حنطة.
فمذهب أهل السنة والجماعة في هذه الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته الكل محمولٌ بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته وكنت أقول معقباً على هذه العبارات في كل مرة أنه تعالى كان ولا مكان، ولقد قرأت والحمد لله أن هذه العبارة خطأ شنيع أيضاً.
وأسأل الله أن يغفر لي ما مضى، فقد قرأت أن ابن تيمية قال: بأن لفظة: (كان الله ولا مكان) عبارة خاطئة، وإنما الصحيح أن يقال: كان الله ولم يكن شيءٌ قبله.
فأسأل الله أن يغفر لي ما مضى، وأن يغفر لأستاذنا، وأن يغفر لجميع المسلمين، وكما قلت وأقول: والله ما أردت بهذا إلا النصح، وما أردت بهذا إلا أن أبين للناس.
اللهم صل وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله من أن أذكركم به وأنساه.(89/13)
فبهت الذي كفر
المخالفون المخاصمون لدين الله ولشرعه ولرسله كثر، يتزعمهم دجالون يناظرون عن باطلهم بحجج أوهن من بيوت العنكبوت ولقد تحدث الشيخ عن قصة مريم عليها السلام حينما حملت بعيسى عليه السلام، وكيف صبرت عند هذا الابتلاء وواجهت بني إسرائيل معتمدة على الله جل وعلا، ثم تكلم عن مناظرة حدثت بينه وبين أحد القساوسة من النصارى الذين يقولون: إن عيسى ولد الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(90/1)
التمسك بالدين مصدر عز الأمة
إن الحمد لله، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله: وبعد أن انتهت هذه الأحداث المؤلمة التي مرت بها أمتنا المسلمة في هذه الشهور والأيام الماضية، وكان من الواجب علينا أن نعلِّق على هذه الأحداث من منظور إسلامي، بعد أن أبطل الله جل وعلا نار هذه الحرب، نسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وباسمه الأعظم الذي إن سئل به أعطى، وإن دعي به أجاب، أن يجعل نهاية هذه الحرب بداية خير للإسلام والمسلمين، وأن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يوفق المسلمين ليعوا هذا الدرس جيداً، وأن يعودوا إلى الله عز وجل، وأن يعودوا إلى إسلامهم الذي ضمن الله لهم به العزة والكرامة في الدنيا والآخرة، فما دام المسلمون متمسكين بهذا الإسلام فهم أعزة، وهم أصحاب القيادة والريادة، وإن تخلى المسلمون عن إسلامهم وعن مصدر البقاء الحقيقي لهم بعزة وكرامة في هذه الأرض، إن تخلى المسلمون عن مصدر هذا العز والكرامة تخلى الله جل وعلا عنهم، وإن نسوا الله تبارك وتعالى نسيهم، وإن كان ذلك كذلك فسوف يصلون إلى حالة من الذل والهوان لا يكاد يصدقها عقل، فلقد أذل الله جل وعلا اليهود وكتب عليهم الذلة والمهانة، ولكن الله قد أذل المسلمين إلى كتب عليهم الذل، وهل هناك أذل ممن أذله الله للأذل؟! فلا مصدر لعزة المسلمين وكرامتهم وبقائهم وسيادتهم وقيادتهم -لأنهم ما خلقوا إلا ليقودوا ركب البشرية كلها- إلا إذا عادوا إلى الله جل وعلا، وتمسكوا بإسلامهم الذي ضمن الله لهم بتمسكهم به العزة والكرامة، فنسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعودوا إلى إسلامهم عوداً حميداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(90/2)
وقفات وعبر مع آيات من سورة مريم
وبهذه الجولة مع هذه الأحداث المؤلمة، تعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعود مرة أخرى إلى آيات القرآن الكريم، وإلى موضوعنا الذي كنا بصدده قبل بداية هذه الأحداث المؤلمة، فمع اللقاء العشرين ما زلنا نطوف بكم في بستان سورة مريم، وأظن أن الأحداث قد أنستنا ما ذكرناه في سورة مريم، فتعالوا بنا لنراجع أحداث السورة، ومع آيات الحق جل وعلا.
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:16 - 26].(90/3)
بشارة جبريل لمريم عليها السلام
توقفنا في اللقاء الأخير مع آيات هذه السورة المباركة عند هذا الحوار الكريم بين مريم وجبريل عليهما السلام، حينما خلت مريم بنفسها لشأن من شئونها الخاصة بها في هذا المكان الشرقي البعيد، وضربت الحجاب بينها وبين أعين الناس جميعاً، وفي هذا المكان الشرقي البعيد، وفي هذه الخلوة الكاملة التامة التي ضربت فيها الحجاب بينها وبين أعين الناس، إذ بها تفاجأ بمفاجأة عنيفة تهز القلب وتزلزل الفؤاد، إنه رجل سوي! بشر كامل مع مريم العذراء الطاهرة في هذه الخلوة الكاملة! وإذ بها تنتفض انتفاضة العذراء التي هُددت في عرضها، رجل وهي لا تعلم عن هذا الرجل شيئاً! فسرعان ما استجارت واستعاذت بالله جل وعلا قائلة: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] إن كنت ممن يتقي الله جل وعلا، وتزلزله كلمة الاستعاذة بالله عز وجل، فكم من الناس من يذكر بالله ولا يخشع قلبه! وكم من الناس من يوعظ ولا يتعظ! {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] فجاءتها البشارة الطيبة التي نزلت على قلبها نزول الندى على الزهرة الظمأى: {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [مريم:19] وهنا ترد مريم على هذه البشارة الطيبة رد الأنثى المهددة في عرضها وشرفها بمنتهى الصراحة والوضوح الذي لا لبس فيه ولا غموض، فإذا بها تقول: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] فيأتيها الجواب واضحاً وضوح الشمس في ضحاها: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] أي: إنه أمر يسير أمام قدرة الله جل وعلا {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] أي: علامة على عظيم قدرة الله جل وعلا، فالله له مطلق القدرة، وله كمال القدرة، وله تمام القدرة، فهو الفعال لما يشاء -كما يقول صاحب معارج القبول - كيف شاء، في أي وقت شاء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] أي: علامة على كمال ومطلق قدرة الله جل وعلا.
وأنا أقول دائماً: إن من كلف نفسه أن يبحث عن حدود قدرة الله كمن كلف نملة ضعيفة أن تنقل جبلاً عملاقاً من مكان إلى آخر؛ فقدرة الله لا تحدها حدود، فله مطلق القدرة وكمالها وتمامها، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فخلق الخلق، وبعث الخلق -في كمال قدرته- كنفس واحدة سبحانه وتعالى، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما من جبل على ظهر هذه الأرض إلا ويعلم الله ما في وعره، ولا بحر على سطح هذه الأرض إلا ويعلم ما في قعره، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:21] اختارك الله يا مريم ليعرض على البشرية من خلالك المعجزة الكبرى؛ لأنه إذا كان قد خلق آدم من غير أب وأم، وخلق حواء من أب دون أم؛ فإنه سيخلق عيسى من أم دون أب، ويخلق سائر البشر من أم وأب؛ لتظهر قدرة الله جل وعلا في جزئية الخلق، وليعلم الناس جميعاً أن الله على كل شيء قدير.(90/4)
قصة عزير ودلالتها على كمال قدرة الله تعالى
قال سبحانه في سورة البقرة في قصة عزير: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] مر عزير على قرية بيت المقدس، بعدما دمرها الله تعالى وأصبحت القرية خاوية على عروشها، فمر ووقف على هذه الأطلال ثانية، وتعجب وقال: هل يحيي هذه الله بعد هذا الموت والدمار والفناء؟! فأماته الله عز وجل مائة عام كاملة.
أيها الأحبة: أماته الله مائة عام وأحياه مرة أخرى؛ ليبرهن للناس أنه على كل شيء قدير.
وبعد ما أحيا الله عزيراً سأله عن طريق الملك: كم لبثت؟ فنظر -كما يقول الإمام ابن كثير - فوجد أن الشمس ما زالت باقية، فظن عزير أنها شمس نفس اليوم الذي نام فيه، {قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة:259] والدليل على ذلك -انظر إلى وجه المقارنة الأول الثابت الذي لا يتغير- {انْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] أي: لم يتغير لونه ولم يتغير طعمه -وانظر إلى الوجه الآخر من وجوه المقارنة- {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ)) [البقرة:259] فنظر إلى الحمار فوجده عظاماً بالية، قد تحول إلى رميم، وتراب، فهل يتحول هذا التراب بعد هذه الحالة التي وصل إليها إلى حالة كاملة مرة أخرى من الخلق؟!(90/5)
قصة العاص بن وائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذهب العاص بن وائل -عليه من الله ما يستحق- إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظام بالية، أخذها في يديه ووقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفتَّ العظام فحولها إلى رميم وتراب، ثم قال: (يا محمد! أتزعم أن الله يحيي هذه العظام بعد ما صارت رميماً؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: نعم، يميتك ثم يبعثك ثم يدخلك جهنم) فأنزل الله قوله تعالى في آخر سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:77 - 83].(90/6)
افتراء النصارى على الله سبحانه وتعالى
{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] قدرة كاملة، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] في علم الله جل وعلا: (فحملت) هكذا بفاء الترتيب والتعقيب.
وبداية -أيها الأحبة- أود أن أقول: إننا لو تتبعنا كتب النصارى التي تكلمت عن الحمل لانخلعت القلوب، وارتعدت الأفئدة، فإننا نجد كلاماً يستحي من ذكره في حق الله جل وعلا، فلقد وصفوا الله في هذه الجزئية بأوصاف شنيعة، وبكلمات تنخلع لها القلوب، وأنا لن أتكلم عن هذه الكلمات أبداً؛ لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تدنس بيوت الله عز وجل، أو حتى الأفواه بمثل هذه الكلمات التافهة الفارغة التي وصفوا الله عز وجل بها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد صفوا الله عز وجل بها في كيفية حمل مريم عليها السلام.
ولذلك لما سئل أحد قساوستهم الذي شاء الله أن يفضحه بعد ذلك على رءوس الخلائق والأشهاد، لما قيل له: إذا أردت أن تقص على ابنتك قصة مريم، وقصة حملها، وقصة ولادة عيسى، فمن أي الكتب تستطيع أن تقرأها عليها؟ فقال بجرأة متبجحاً: أقرؤها على ابنتي من القرآن.
لأن القرآن -أيها المسلمون- والإسلام قد كرم وشرف مريم أكثر من تشريف النصارى لها.
وقد جلست يوماً إلى أحد كبرائهم، بل إلى كبيرهم، وقد قدر الله هذا اللقاء، وطال المجلس والوقت، وظل يتحدث عن مريم وعيسى وعن توحيدهم المزيف، ويقول لي: إننا لا نختلف معكم في توحيدكم، قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنكم تقولون بأن الله عز وجل: هو الله، وهو الرحمن، وهو الكريم، أسماء متعددة، وكذلك نحن نقول: باسم الأب والابن وروح القدس، هذه مثل تلك، قلت: حاشا لله، تعالى الله عما قلت علواً كبيراً، وطال الحديث أيها الأحباب، وكان حديثاً في حلقة مفرغة؛ وأردت أن أنهي هذا اللقاء في حضور كثير من المسئولين، فقمت ونظرت إلى هذا الكبير وقلت له: أما قرأت هذا الخبر؟ قال: وأي خبر؟ قلت له: خبر عجيب ومرعب ومزلزل، فانتبه وجلس على الكرسي جلسة ما، ونظر إليَّ وأخذ يدقق النظر، ثم صرخ قائلاً: ما هو الخبر؟ فقلت: خبر زواج البابا.
فجلس على الكرسي براحة تنهد وتنفس الصعداء، ونظر إلى المسئول الكبير وقال له: ألم أقل لك بأن هذا الشاب كذاب؟ قلت: ولم هذا الاتهام؟ قال: من أين لك هذا الخبر؟ عليك أن تأتي بالجريدة التي قرأت فيها هذا الخبر، عليك أن تأتي بالدليل، قلت: وإن لم آتِ بالدليل فلماذا لا تصدقني؟ قال: لأن البابا لا يتزوج، هذا قانوننا وهذا ديننا وشرعنا، البابا أسمى من أن يتزوج.
فقلت: سبحان الله! إن كان البابا عندكم أسمى من أن يتزوج، فكيف تزوجون الله بمريم؟ أما تستحون؟ لمَ هذه البجاحة؟ البابا عندكم وفي قانونكم ودينكم المزيف لا يتزوج، أنتم وشأنكم، فإن كان هذا حال عبد حقير ذليل ضعيف تقولون: بأنه أسمى من ذلك، أسمى من أن يحتضن امرأة، أو أن يتزوج امرأة، أو أن يكون مرتبطاً بامرأة في الحلال، وما استحييتم أن تقولوا في قصة حمل مريم كلاماً تنخلع له القلوب وتقشعر له الأبدان، وتزوجوا الله -تعالى الله عن ذلك- بمريم؟! فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين.(90/7)
كيفية حمل مريم عليها السلام
أقول: إنهم قالوا كلاماً -أيها الأحبة- تنخلع له القلوب في حمل مريم، ولكننا نحن الموحدين لله عز وجل لا نقول ما قالته النصارى تعالى الله عن ذلك، وحاشا لله وعياذاً به جل وعلا.
نقول وأقولها بداية: ينبغي على كل موحد لله ألا يبحث على الإطلاق عن كيفية الحمل، الله جل وعلا قال: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] فلا ينبغي أن نتتبع الطريق كما تتبعه النصارى، أو أن نزل كما زلوا؛ بأن نبحث عن كيفية الحمل، فنقول: كيف حملت؟ هل نفخ الله في درعها؟ هل نفث الله في جيبها؟ هل كان النافخ هو الله؟ هل كان النافخ هو جبريل؟ لا ينبغي على الإطلاق أن نبحث وراء كل هذه الأمور أبداً؛ لأن المؤمن يثق بوعد الله جل وعلا، وبكلام الله عز وجل، ويصدق كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ} [مريم:22] كيف؟ لا تسأل، هذا أمر هين أمام قدرة الله الذي خلق آدم من غير أب وأم، أيعجز عن خلق عيسى من أُم دون أب؟! سبحان الله العظيم! {فَحَمَلَتْهُ} [مريم:22] انتهى الأمر بفاء التعقيب والترتيب، وحملت مريم بعيسى عليه السلام.
فهنا لو تتبعنا الإسرائيليات في كتب التفسير لوجدنا العجب، يقولون: إن مريم حملت بعيسى ووضعته في ساعة واحدة، وهذا أمر أيضاً هين أمام قدرة الله، لا نناقشه، لكن الذي عليه جمهور أهل التفسير: أن مريم عليها السلام قد حملت بعيسى حملاً عادياً كأي امرأة -وإن كان الأمر الأول كما قلت: هين أمام قدرة الله جل وعلا- فرد أصحاب الرأي الأول الذين قالوا: بل حملت ووضعت في ساعة واحدة وقالوا: إن الفاء في اللغة العربية تأتي للترتيب والتعقيب، فقال الله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:22 - 23] أي: طلق الولادة، والفاء هنا للترتيب والتعقيب.
ولكننا نرد ونقول: إن فاء الترتيب والتعقيب تأتي وتعقب كل شيء بحسبه، ما الدليل؟ الدليل قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14] انظر إلى الفاء التي جاءت هنا في مراحل ثلاث، والحديث الصحيح يخبر بأن بين كل صفتين وبين كل حالتين أربعين يوماً.
إذاً: فاء التعقيب تأتي مع كل شيء بحسبه، وقد ورد في الحديث الصحيح من حديث ابن مسعود الذي رواه البخاري ومسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- يقول: (إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك -أربعين يوماً- ثم يكسى باللحم، ويؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
إذاً: قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن بين كل مرحلة وأخرى أربعين يوماً، فتعقيب كل شيء بحسبه.
((فَحَمَلَتْهُ)) [مريم:22] حملت مريم حملاً عادياً، ولذلك لما رأى يوسف النجار -وكان بحدم معها بيت المقدس - معالم الحمل الحقيقية وبوادر الحمل ظهرت عليها، ذهب إليها -كما ذكر الإمام ابن كثير - وقال: يا مريم! إني سائلك عن شيء ولا تعجلي عليَّ فيه، فقالت مريم -وكأنها فهمت ماذا يريد أن يقول يوسف -: يا يوسف! قل ما شئت ولا تقل إلا قولاً حسناً.
فقال يوسف: يا مريم! هل يكون زرع بغير بذر؟ -يعرض لها في الكلام- وهل يكون شجر بغير غيث؟ وهل يكون ولد بغير أب؟ قالت: نعم يا يوسف! قال: كيف ذلك يا مريم؟ قالت: يا يوسف! ألم تعلم أن الله تعالى خلق الزرع يوم خلقه من غير حب ومن غير بذر، وخلق الشجر يوم خلقه من غير غيث، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ولا أم؟ قال: أقول: إن الله على كل شيء قدير، و {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس:82].(90/8)
ظهور الحمل الولادة
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] لما اتسع بطنها بالحمل، وكادت المدة أن تنتهي، وبدأ الخبر يتسرب إلى بني إسرائيل، واغتم بيت آل عمران غمة شديدة، فقد كانت شائعة مدوية، دوت في أرجاء بني إسرائيل، وما أدراكم من بنو إسرائيل في تزوير وإشاعة الشائعات والفاحشة! امتلأت البيوت بهذا الخبر المزري، وقالوا: ما فعل هذه الفعلة إلا يوسف النجار، فهو معها في خلوة واحدة، وفي مكان واحد.
ولما ضاق صدر مريم عليها السلام بهذه الشائعات والكلمات التي تزلزل قلب أي امرأة فضلاً عن العذراء الطاهرة العفيفة الشريفة، خرجت مريم عليها السلام ومعها حملها: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] أي: ذهبت إلى مكان بعيد، واختفت عن أعين الناس حتى لا يراها الناس ولا ترى الناس، وفجأة كما يقول الحق جل وعلا: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] فأجاءها إجاءةً، أجاءها الطلق حتى اضطرها إلى جذع نخلة لتتمسك به، وتعض عليه من شدة الألم {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] تألمت وهي العذراء التي لا علم لها بمثل هذا الأمر قبل ذلك، ولا يوجد معها امرأة تعينها، وتعلم كل امرأة على وجه هذه الأرض هذه الآلام المضنية، التي تتعرض لها الأنثى أثناء الولادة، فضلاً عن عذراء تلد لأول مرة ولا يوجد معها أنيس ولا جليس.
ولما رأت أن الأمر قد انتهى، وأن المدة قد انتهت، وأن الولد سينزل عن قريب؛ قالت بصوت ضعيف: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] يا ليتني لم أواجه مثل هذا اليوم، وهي تقول ذلك برغم الوعد الكريم الذي وعدها به جبريل عليه السلام، ولكنها تقول ذلك خوفاً من الناس الذين سيقعون في عرضها حين يتكلمون عنها، وقالت ذلك خوفاً من مواجهة الفضيحة أمام الناس من منظورهم البشري.
{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم:23] في هذه الآية دليل شرعي على جواز تمني الموت إذا ما وقع العبد في مصيبة أو فتنة يخشى منها ضياع الدين، ولكن يكره أن يتمنى العبد الموت إذا وقع به ضر أو بلاء من بلاء الدنيا، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي).(90/9)
ظهور الآيات ونزول الفرج
ومع هذه الآلام النفسية والبدنية امرأة ضعيفة، وحدها، عذراء طاهرة شريفة عفيفة، وإذ بها تلد الولد، ووسط هذه الآلام ومريم تقول هذه الكلمات التي تنم عن ألم شديد، تأتي المفاجأة الكبرى التي تريح القلب ويطمئن لها الفؤاد، فيناديها عيسى من تحتها، وهذا هو الراجح، قال ابن عباس: [(فناداها مَنْ تحتها) أي: جبريل] وقال مجاهد وقتادة عن سعيد بن جبير وغيرهم وكذلك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا) أي: عيسى.
وهناك القراءة الأخرى: (فناداها مَنْ تحتها) بالله عليك! تخيل طفلاً رضيعاً يناديها من تحتها ويطمئنها ويقول: {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:24 - 26] وأنا الذي سأبرئ ساحتك إن شاء الله عز وجل.
يا لها من بشارة عجيبة! هذا وعد الله للمتقين أيها الأحباب، وعد قطعه الله جل وعلا على نفسه، حق على الله لمن اتقاه أن يتولى هدايته، ورعايته، ونهايته، حق على الله لمن اتقاه أن يستره فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] طفل رضيع ما زال مولوداً ينادي أمه بهذه الكلمات التي تطمئن القلب والفؤاد: لا تحزني والله معك، لا تحزني ومعك قدرة الله، لا تحزني ومعك رحمة الله، لا تحزني والله جل وعلا معك بقدرته، وبرحمته، وبلطفه، وبإرادته، لا تحزني وانظري إلى آثار رحمة الله عز وجل، فلقد فجر الله لها جدولاً من الماء لتشرب منه، وأنبت لها التمر في النخل وكانت النخلة يابسة: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] وهذا الجدول من الماء من تحت قدميك فاشربي الماء وكلي التمر.(90/10)
موقف هاجر عند فراق زوجها إبراهيم عليهما السلام
وهنا أذكر موقف هاجر عليها السلام، يوم أن ذهب بها الخليل إبراهيم مع ولدها الرضيع إسماعيل، وتركهما إلى جوار بيت الله الحرام، ونظرت هاجر عليها السلام إلى هذا المكان المقفر الموحش الذي لا سبب فيه من أسباب الحياة الظاهرة، وقالت له حينما هم بالانصراف: يا إبراهيم! لمن تتركنا في هذا المكان؟ وإبراهيم لا يرد، وأخيراً مع توسلات هاجر عليها السلام ينظر إبراهيم إلى السماء، ففهمت هاجر أن الله جل وعلا أمره بذلك، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أن نعم، فقالت: إذاً فلن يضيعنا الله أبداً.
هذا وعد الله لأوليائه ولأحبابه وللأتقياء: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] والرسول صلى الله عليه وسلم يوم أن أخذ بكل ما يمكن أن يؤخذ به من الأسباب في يوم الهجرة، ويوم أن انقطعت به الأسباب، وقال الصديق رضي الله عنه: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) ومن كان الله معه فمن ضده؟ ومن عليه؟ ومن يكيده؟ وكما يقول الإمام ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم: فمن كان الله معه فمعه القوة التي لا تقهر، والفئة التي لا تغلب ولا تهزم، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
وكما قال الله جل وعلا لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46].
{فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:24 - 26].
ونعاود الحديث بعد جلسة الاستراحة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(90/11)
التوكل على الله والأخذ بالأسباب
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة: انظروا إلى آيات قدرة الله جل وعلا: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] حتى إن كان المنادي هو جبريل كما قال أصحاب الرأي الأول، فإنها أيضاً كرامة، فجَّر الله لها عيناً من الماء، أو نهراً من الماء، وأسقط جل وعلا عليها الرطب، ولكن هنا ملحظ جميل ينبغي أن يتوقف عنده: يقول لها المنادي: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] سبحان الله! يوم أن سألت مريم عن الأسباب قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] وقبل ذلك كان رزقها يأتيها بدون أسباب، {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ولكنها حينما سألت عن الأسباب، وعن الكيفية، وكيف ذلك، وكيف يكون {أَنَّى يَكُونُ لِي} [مريم:20] قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25].
وهنا ملحظ آخر: وهو أنه لا بد من الأخذ بالأسباب، فمن التوكل على الله جل وعلا الأخذ بالأسباب وترك النتائج إلى مسبب الأسباب، أما أن نقول: نحن متوكلون على الله، وندع الأسباب، ولا نأخذ بأسباب القوة، وبأسباب البقاء والقيادة والكرامة في الأرض، ونقول: إننا موحدون ومؤمنون، ولم تأتنا قوة؛ فهذا أمر غير شرعي، بل لا بد من الأخذ بالأسباب، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، علينا أن نحرث الأرض ونلقي البذر في الأرض ونتولاه بالعناية والرعاية، ومع ذلك لا نتوكل على الأسباب، ولا نعتمد على الأسباب، وإنما نترك النتائج لمسبب الأسباب جل وعلا.
يقول الإمام الشاطبي في الموافقات: فمن أخذ بالأسباب وتوكل عليها واعتمد عليها، وظن أن الأسباب وحدها ترزق وتنصر فقد أشرك بالله عز وجل.
خذ بالأسباب كما أمرك الله، ولكن إياك أن تعتقد أن الأسباب وحدها ترزق أو تنصر، وإنما توكل على مسبب الأسباب جل وعلا، خذ بالأسباب واترك النتائج لمسبب الأسباب تبارك وتعالى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25].
وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي بسند حسن، ورواه أبو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26] لا تحزني ولا تقلقي، فإن الذي أجرى لك هذه الكرامات، وأجرى أمام عينيك هذه الآيات البينات الواضحات على كمال قدرته جل وعلا، هو وحده القادر على أن يبرئك.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] وهذا كان وارداً في شرعهم، يقول الإمام ابن حجر والإمام ابن قدامة: كان جائزاً في شرعهم.
{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] فاطمأن قلبها، وانشرح صدرها، وقويت على أن تواجه القوم بعد هذه الآيات البينات، وحملت ولدها المبارك، وذهبت به لتواجه القوم ومعها كل هذه الأدلة والبينات، وقبل كل ذلك وبعده معها الله عز وجل الذي قدر ولا راد لمشيئته ولا راد لقدرته.
أسال الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، وباسمك الأعظم الذي إن دعيت به أعطيت، وإن سئلت به أجبت، نسألك اللهم بعزك أن تنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم وفق ولاة الأمر للعمل بكتابك، والاقتداء بنبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم أصلح ذات بين المسلمين، اللهم ألف بين قلوبهم يا رب العالمين، اللهم وحد صفوفهم يا أرحم الراحمين، اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: ما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(90/12)
بشرى وأمل!
إن آلام المسلمين وجراحهم قد كثرت، حتى أصبح المسلمون يعيشون في ذل وهوان، إلا أن ذلك لا يعني اليأس من التغيير، والرضا بالهزيمة؛ لأن موعود الله قادم لا محالة؛ ولأن المسلمين الصادقين هم أهل النصر وليس المتخاذلين.
ولنا في رسول الله وأصحابه مثل وعبرة في الصبر والصدق والتحمل.
وما يعيشه المسلمون من اضطهاد وحروب لا يعني أن الوضع سلبي على إطلاقه، بل إن له إيجابيات، وإن كانت الكفة لصالح الكفر وفق سنن الله الكونية، إلا أن النصر قريب.(91/1)
المسلمون آلام وجراح
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمد عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولا ً عن دعوته ورسالته، وصلَّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، التي سيطول والله شوقنا إليها، وزكَّى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور العامرة التي جمعنا وإياها كتاب الله تعالى.
طبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذا الملتقى المبارك -بدولة قطر المباركة- على طاعته، وأن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: بشرى وأمل! هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الميمونة المباركة.
بشرى وأمل! وقد يئن كثيرٌ من الأحبة الآن ويقول بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال، ويمنعه الحياء أن يعلو وأن يرفع صوته بهذا ويقول: أية بشرى وأي أمل؟ أية بشرى تريد أن تضمد بها جراحنا الليلة؟ وأي أمل تريد أن تطمئن به قلوبنا الليلة؟ أية بشرى وأي أمل وبرك الدماء وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة وتحكي المأساة؟! أية بشرى وأي أمل وقد زال ظل الخلافة، وتمزقت الأمة إلى أجزاء، بل وتفتتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء؟! أية بشرى وأي أمل وقد بتر من جسد الأمة القدس الحبيب: أولى القبليتين، ومنتهى مسرى سيد الثقلين؟! أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام على الرغم من اختلاف عقائدهم، و (أيديولجياتهم) ونظمهم وأفكارهم، ما اتفقوا على شيء بقدر ما اتفقوا على الكيد للإسلام، واستئصال شأفة المسلمين؟! أية بشرى وأي أمل وطلائع البعث الإسلامي الأبية تتعرض الآن لأشد الضربات وأعنف الهجمات؟!
ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان
ذبحٌ وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران
يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان
هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان
أية بشرى وأي أمل والإبادة الجماعية للمسلمين في كل مكان في البوسنة، والشيشان، وطاجكستان، وتركستان، بورما، وكمبتسيا، وسيرلنكا، والفلبين، والهند، وفلسطين الذبيحة وفي كل مكان؟ أية بشرى وأي أمل وقد ذلت الأمة كلها بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها، بل وتعرضت الآن للذل والخزي والهوان والعار، وضربت من قِبَل أذل وأخس وأنذل وأحقر أمم الأرض؟! أية بشرى وأي أمل وقد أصبحت الأمة -كما ذكرت- قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض، وتحولت إلى غثاء من النفايات البشرية على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية، وتفصل بينها الآن حدودٌ جغرافية، ونعراتٍ قومية مصطنعة، وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية، وتحكمها قوانين الغرب العلمانية، وتدور بها الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه؟ أهذه هي الأمة التي ذكرها الله عز وجل في قرآنه بالخيرية وعلل خيريتها بقوله: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]؟ وقد بات في الأمة الآن من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، بل ولو رفعت صوتك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأصبحت متهماً تؤخذ بالنواصي والأقدام.
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتعالي
صحفي يتهمني في إحدى المجلات ويقول: إنك إن جلست معه انهال عليك بسيلٍ من الأدلة من القرآن والسنة! هذه سبة؟! هذه تهمة؟!
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتعالي
أو قلت قد قال الصحابة والألى تبعاً لهم بالقول والأعمال
أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي
صدوا عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال
يا أمةً لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال
حاشا رسول الله يحكم بالهوى تلك إذاً حكومة الضلال
أية بشرى وأي أمل وقد تحولت الأمة الآن إلى هذا الحال، وبات فيها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؟! أهذه الأمة التي زكاها الله بالوسطية في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] وقد جنحت الآن إلى اليسار أو اليمين، أو إلى الشرق أو الغرب؟ أهذه هي الأمة التي زكاها الله في القرآن بالوحدة فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] وقد تشرذمت وتشتتت وتفتتت إلى أجزاءٍ ودويلات، بل وتفككت الأجزاء الأخرى إلى أجزاءٍ كما ذكرت؟ ما الذي جرى لأمةٍ دستورها القرآن؟ ما الذي حدث لأمةٍ نبيها محمد عليه الصلاة والسلام؟ ما الذي بدل عزها؟ ما الذي بدل علمها؟ ما الذي أذلها لمن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة من أبناء يهود؟ أية بشرى وأي أمل؟؟!! أبعد هذا كله تريد أن تقدم لنا في هذه الليلة بشرى وأمل بعد أن بدأت أول ما بدأت بالعزف، على وتر الجراح والآلام؟ هل عندك بعد ذلك من بشارات؟ هل عندك بعد ذلك من آمال تريد أن تزفها الليلة إلينا؛ لتضمد الجراح ولتطمئن القلوب؟(91/2)
إن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب
أيها الأحبة أيها الأخيار أيها المسلمون يا من تقرءون القرآن في الليل والنهار، أقول لكم: رويداً رويداً! ومهلاً مهلا! فبالرغم من هذا كله، وبالرغم مما ذكرت، أقول لكم بلغةٍ يحدوها الأمل، وبقلبٍ يملؤه اليقين في موعود الله وموعود رسول الله أقول لكم:
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجا فلله أوسٌ قادمون وخزرج
وإنّ كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكائد تخرج
إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم رغم كيد الكائدين، وإن أمة الإسلام قد تمرض، نعم.
بل قد مرضت، وقد تعتريها فترات من الركود بل وربما من الركود الطويل، ولكنها بحمد الله جل وعلا لا تموت ولن تموت.
وإن الذي سيفصل في الأمر عند نهايته ليس ضخامة الباطل، أبداً، وإنما الذي سيفصل في الأمر في نهاية الطريق قوة الحق، ولا شك على الإطلاق أن معنا الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض، ومن أجله خلق الله الجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أرسل الله الرسل، ومعنا رصيد فطرة الكون، ومعنا رصيد فطرة الإنسان، ومعنا قبل كل ذلك وبعد كل ذلك الملك جل وعلا، ويا لها والله من معية كريمة مباركة لو عرفنا قدرها، قال جل وعلا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
وعد الله جل وعلا، ووعد الله لا يتغير ولا يتبدل، فالنصر لهذا الدين سنة ربانية ماضية كما تمضي النجوم والأفلاك والأقمار في مدارها الذي حدده لها الملك جل وعلا.
وهاهو القرآن يؤكد، وهاهو الصادق المصدوق يؤكد، وهاهو التاريخ والواقع يشهدان، فانتبه معي أيها الحبيب:(91/3)
جراح النبي قبل النصر والتمكين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وحده في مكة يدعو إلى لا إله إلا الله مع فئة قليلة مستضعفة، ويوم أن صعد على جبل الصفا؛ ليعلن هذه الدعوة بصورة جهرية؛ أرعدت مكة وأبرقت، ودقت طبول الحرب على أشدها على رأس النبي والموحدين معه، وما من مكان تحرك فيه المصطفى في أرض مكة إلا ووجد أرض مكة أرضاً صلبةً صلدة لا تتلقى بذرة التوحيد.
فعُذِّب، ووضعت النجاسة على ظهره، ووضع التراب على رأسه، بل وتقدم إليه المجرم عقبة بن أبي معيط وخنقه خنقاً شديداً، حتى كادت أنفاس الحبيب أن تخرج، وجاء صديق الأمة الأكبر ليدفع عقبة عن رسول الله وهو يقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم] ولا يجد في أرض مكة الأرض الخصبة التي تتلقى بذرة التوحيد، فيأمر أصحابه المضطهدين المعذبين بالهجرة، وبترك الديار والأوطان إلى أين؟ إلى الحبشة.
لماذا؟ لتغسل شلالاتها دماء وجروح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن بـ الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد، بل ويضطر النبي صاحب الدعوة إلى ترك مكة للهجرة إلى أين؟ إلى الخروج إلى الطائف، يمشي على قدميه المتعبتين بلا راحلة، ولا زاد.
والله ما انطلق إلى أهل الطائف يريد مالاً، ولا جاهاً، ولا وجاهة، ولا ثراءً، بل خرج يريد لهم خيري الدنيا والآخرة، ويريد أن يُخرجهم من أوحال الشرك والوثنية إلى أنوار الإيمان والتوحيد برب البرية جل وعلا.
وفعل أهل الطائف بالحبيب ما تعلمون! فعلوا به أسوأ ما يُفعل بالإنسان، بل وذهب إليهم في اليوم الأخير يرجوهم رجاءه الأخير أن اكتموا خبر زيارتي عن أهل مكة حتى لا يشمت بي الأعداء هناك، فأبى أهل الطائف على النبي أن يحققوا له حتى هذا الرجاء الأخير، واضطروا النبي إلى أن يرفع هذه الدعوات وهذه الكلمات الحارة الصادقة، وإن كان الشيخ الألباني قد ضعف إسناد الحديث، إلا أن الحديث رواه الإمام الطبراني وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات إلا ابن اسحاق وهو مدلسٌ ثقة، ووقفت على طريقٍ آخر لهذا الحديث ولله الحمد والمنة رواه ابن اسحاق موصولاً عن محمد بن كعب القرظي، والروايتان تقوي الأولى الأخرى وهكذا فلا بأس على الإطلاق أن أستشهد بهذه الرواية لا أن أستأنس بها.
رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أكف الضراعة قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟! أم إلى عدوٍ ملكته أمري؟! إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن لا ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
ويعود المصطفى، وفي الطريق يؤيده الله بهذا النصر الغيبي، وانتبه إلى أولى البشارات: ينادي منادٍ من السماء إنه جبريل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! لقد سمع الله ما قاله قومك لك، وقد أرسل الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فمره بما شئت يا رسول الله، فسلم ملك الجبال على المصطفى -والحديث في الصحيحين - وقال: مرني بما شئت يا رسول الله، لو أمرتني أن أُطبق عليهم الأخشبين لفعلت، والأخشبان: جبلان عظيمان بـ مكة يقال للأول: أبو قبيس، ويقال للثاني: الأحمر.
انتبهوا أيها الأخيار والله الذي لا إله غيره لو كان ممن ينتقم لذاته ولمنصبه ولزعامته وقيادته وصدارته وريادته؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ملك الجبال فلحطم ملك الجبال أهل الطائف، ولهدم ودمدم هذه الرءوس الصلبة والجماجم العنيدة، ولسالت دماءٍ غزيرة ليرى أهل مكة بـ مكة دماء أهل الطائف في مكة.
ولكن ماذا قال نهر الرحمة، وينبوع الحنان؟ قال: (بل إني أرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله جل وعلا).(91/4)
تمكينه تعالى لرسوله بعد الابتلاء
يصبر الحبيب، ويضطر لترك بلده إلى المدينة، وفي مدة لا تساوي من حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، بل ولا تساوي في بناء الدول شيئاً على الإطلاق، يرجع المصطفى مع عشرة آلاف موحدٍ لله جل وعلا ليفتح مكة؛ وليأمر النبي بلالاً رضي الله عنه ليصعد على سطح الكعبة، ليرفع الأذان لأول مرة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتتهلل حجارة الكعبة فرحاً لهذا التوحيد، ولهذا الثوب الجديد الذي كساها إياه إمام الموحدين، وقدوة المحققين محمد صلى الله عليه وسلم.
ويحطم النبي الأصنام، ويردد قول الله جل وعلا: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].
من كان يظن في أول الأمر عندما وقف النبي على جبل الصفا لدعوة قومه؛ أن تمر هذه الرحلة بهذه السرعة؛ ليرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً؟ إنه وعد الله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]؟(91/5)
صبر أبو بكر حتى كان التمكين
من كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وظهرت فتنة الردة بصورة تكاد أن تلتهم الأخضر واليابس، من كان يظن في هذا اليوم العصيب الذي جسده عروة بن الزبير رضوان الله عليه وقال: [كان المسلمون كالغنم المبعثرة في الليلة الشاتية الممطرة؛ لفقد نبيهم ولقلة عددهم وكثرة عدوهم].
انظر إلى هذا الواقع، وإلى هذا الحال، مات النبي فارتد كثيرٌ من العرب، وظهرت فتنة الردة، وفتنة من يدعي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ذهب أحد المسلمين لـ أبي بكر رضي الله عنه ليقول له: يا خليفة رسول الله! الزم بيتك، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، فماذا قال الرجل الذي يزن في ميزان الرجال أمة؟ ماذا قال الصديق الذي قيضه الله للأمة يوم الردة كما قيض الله للأمة أحمد بن حنبل يوم المحنة؟ أبو بكر الذي يكاد القلب يهتز حياءً ووجلاً من هذا الرجل؛ لأن التاريخ قد ظلمه، فكم من المسلمين الآن لا يعرف عن أبي بكر الكثير! بل ولست مبالغاً إن قلت: والله لا يعرف كثيرٌ من المسلمين عن أبي بكر إلا القليل، بل ومنهم من لا يعرف عن هذا العملاق شيئاً.
إنه صديق الأمة الذي لخص الإمام ابن القيم حياته تلخيصاً بديعاً فقال وتدبر معي كلامه؛ فلا يتسع الوقت لأقف معك وقفة موجزة مع أبي بكر، فخذ هذا الوصف الدقيق من ابن القيم رحمه الله تعالى، يقول في حق أبي بكر رضي الله عنه: هذا هو أبو بكر الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار؛ فألقى له الصديق حب الحُب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة وتركه هنالك، ثم علا الطائر على أفنان شجرة الصدق يغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح وهو يتلو في قول الصديق قول ربه جل وعلا: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
قيض الله للإسلام وللأمة أبا بكر فقال قولته الخالدة: [والله لو منعوني عقال بعيرٍ كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه بالسيوف] وأمر بإرسال وبإنفاذ بعث أسامة.
قالوا: يا خليفة رسول الله! لقد ظهرت فتنة الردة، وظهر مدعو النبوة، ولا داعي الآن لأن ترسل هذا الجيش، ولا بد أن يبقى هذا الجيش في المدينة ليؤمنها، فقال الصديق قولته الخالدة: [والله لأنفذن بعث أسامة وإن تخطفتني الذئاب]، وفي لفظ: [وإن جرت الكلاب بين أرجل أمهات المؤمنين لأنفذن بعث أسامة، كيف يبرم رسول الله عقداً ولا أبرمه أنا].
وسار جيش أسامة الذي كان فتحاً عظيماً من الله على أبي بكر رضي الله عنه، حيث أن المرتدين خارج جزيرة العرب قد نظروا إلى هذا الأمر نظرة عجيبة، وقالوا: لولا أن أبا بكر يملك من القوة ومن الجيوش في المدينة ما يستطيع أن يدفع بها الشر عن المدينة ما أرسل بعث أسامة.
انظر إلى الفتح والتأييد والمدد من الله جل وعلا! وانطلق الجيش، وانتهت فتنة الردة، وقيض الله للأمة خالد بن الوليد رضي الله عنه، وانتهت حروب الردة، وقتل من ادعى النبوة، وخرج الإسلام من هذه الفتنة قوياً شديداً، وفي أول الأمر ظن كثير من الناس أنه لن تقوم للإسلام قائمة.(91/6)
جراح أعقبها النصر والتمكين
ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد الحروب الصليبية المتكررة، بعد سفك الدماء، وانتهاك الأعراض، وهدم المساجد والبيوت، حتى قيض الله للأمة صلاح الدين -أسأل الله أن يرزق الأمة بـ صلاح الدين - فهزم الصليبيين الحاقدين في معركة حطين، وخرج الإسلام قوياً بعد الحروب الصليبية؟ من كان يظن أن تبقى للإسلام قائمة بعد حروب المغول والتتار، وبعد الهجمة الشرسة التي روعت البلاد والعباد، حتى جسَّد الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى هذه المأساة المروعة، فقال: "لقد انصرفت عدة سنين عن تسجيل هذه الحادثة، فأنا أقدم قدماً وأؤخر أخرى؛ فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين، فليتني لم أولد قبل هذا اليوم وكنت نسياً منسيا".
حتى قيض الله للأمة البطل الفاتح قطز، فحرر البلاد والعباد، وخرج الإسلام من هذه الأزمة الطاحنة قوياً شديداً صلباً؟ ومن كان يظن أن تبقى في وقتنا المعاصر امرأة بوسنية واحدة، أو رجلٌ بوسني واحد، أو طفلٌ بوسني واحد، لقد قرر جميع الخبراء العسكريين مع بداية حرب البوسنة منذ ثلاث سنوات تقريباً أن الحرب لن تستمر أكثر من أسبوع، وسيفني الجيش الصربي شعب البوسنة، ووالله لو علم الصرب أن هذه الحرب ستعيد الإسلام من جديد إلى هذه الأرض، وسترد كثيراً من البوسنيين إلى الإسلام، والله ما أطلق الصرب على البوسنيين رصاصة واحدة.
انظروا إلى المحن! {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] إنه التمحيص: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
انتهت الآن الحرب البوسنية وإن كانت في الواقع والحقيقة لم تنته بعد -أسأل الله أن يضمد الجراح، وأن يسكن الآلام- وبقي البوسنيون، بل وعاد الكثير من البوسنيين إلى الإسلام، بل ورفع اسم الإسلام في هذه المنطقة ودب الرعب في قلوب هؤلاء، مع أن المسلمين في قمة الضعف والذل والهوان.
من كان يظن أن تستمر الحرب في الشيشان إلى يومنا هذا؟ لأنه بكل أسف حينما يتناول كثيراً من دعاتنا كثير من هذه القضايا، يطرح دائماً وأبداً جانب السلبيات فحسب، ولو نظرنا إلى هذا النصر العظيم في مقابل قوة أهل الباطل، وحجم أهل الباطل، وما يملكون من عتاد وسلاح، لكان ما يحققه المسلمون من نصرٍ زهيدٍ -في أعيننا ونظرنا- لكان هذا النصر نصراً عظيما بالمقارنة إلى حجم وقوة أعداء الدين.
فينبغي ألا ننظر بمنظار قاتم على طول الخط، ولا مانع من أن نشخص الداء، ولكن ينبغي أن نصف الدواء، ولا مانع من أن نبين المرض، لكن لا يمنع على الإطلاق في الوقت ذاته أن نقول بأن هناك بوادر للشفاء، وللأمل، وللخير، فهذه الفتن ما ضرت الإسلام قط، بل هذه الفتن في صالح الإسلام، كيف ذلك؟! إنه التمحيص، حتى لا يثبت على الصف ولا يحمل هذه الراية إلا الرجال الأطهار الذين هم أهل لأن يكونوا من حواري وأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يحملون الدعوة ويتاجرون بها في سوق الشهوات؛ تشترى منهم أو لا تُشترى؛ فهؤلاء لا يصلحون ابتداءً أن يكونوا أصحاب رسالة، فإذا ما هبت عاصفة أو فتنة سرعان ما تبعثر هؤلاء كما تتفرق الفئران، وهذه من رحمة الرحيم الرحمن؛ ليبقى على الصف من صفت نفسه، وخلصت سيرته، وطهر الله قلبه؛ ليرفع راية لا إله إلا الله كيف لا وأنت ستمضي على طريق محمد بن عبد الله.
فإن الطريق ليس هيناً لينا، وليس مفروشاً بالورود ولا بالرياحين، وهأنذا ألخص لك الطريق أيها الحبيب المبارك في كلماتٍ حتى لا تُنسى، وأقول لك: إن سلكت طريق الدعوة إلى الله ورأيت أن الطريق ممهدة، وأنها مفروشة بالورود والزهور والرياحين؛ فاعلم علم اليقين أنك قد ضللت الطريق، وابتعدت عن طريق محمد ونوح وموسى وعيسى وكل الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
الطريق بينٌ واضح، فتن ومحن وابتلاءات للتمحيص والتمييز، ليثبت على الصف الخالصون المخلصون، أسأل الله أن يشرفنا وإياكم أن نكون منهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة: من كان يظن أن تبقى الحرب الشيشانية إلى يومنا هذا، والشيشان شعبٌ صغير أعزل، يحارب القوة الثانية في العالم كله؟ بل ومن كان يظن أن الأفغان يخرجون الدب الروسي الغبي الوقح بعد هذه السنوات الطوال؟ ولكن بكل أسف! رأينا ما رأينا يوم أن دبت الفرقة والخلاف بين القلوب والصفوف؛ فسقط على كابول من الصواريخ والقنابل ما لم يسقط عليها طيلة الحرب مع الروس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!! وهذه أيضاً سنةٌ ربانية فمحالٌ أن يتنزل النصر مع الخلاف، ومحالٌ أن تتنزل السكينة مع التشرذم والتهارش، ولا يختلف اثنان ممن يعملون الآن على الساحة الإسلامية في أن العقبة الكئود الأولى في طريق العمل الإسلامي هي: عقبة التشرذم والتهارج والاختلاف والبعد عن المنهج: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تذهب قوتكم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
من كان يظن أيها الأحبة أن تستمر الحرب إلى الآن، بل ويكبد المجاهدون الشيشان الروس الخسائر الفادحة؟(91/7)
بشائر النصر
أيها الأخيار الكرام: إنه وعد الله، ولا بد أن يبقى هذا الإسلام، ولا بد في النهاية أن ينتصر الإسلام، ووالله إننا لا نخاف على الإسلام، بل نخاف على المسلمين إن تخلوا عن الإسلام، أما الإسلام في ذاته كدين وكمنهج فإنه قادم كقدوم الليل والنهار.
وخذوا معي بعض الأدلة القرآنية والنبوية على هذه الحقائق.(91/8)
كتابة النصر لمن قاتل في سبيل الله
وأستهل هذه البشريات والآمال بآية من كتاب الكبير المتعال، يقول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40] وقد تحقق وعد الله عز وجل في عهد نبيه، ونصر الله القلة الضعيفة المستضعفة يوم أن نصرت دين الله عز وجل، ووعد الله محفوظ، ووعد الله قائم لكل من ينصر دين الله أن ينصره الله جل وعلا.
ما علينا إلا أن ننصر دين الله، ولكن بماذا؟ بما منَّ الله عز وجل به علينا من قوة، فلم يأمرنا الله أن نعد الإعداد الذي يخرج عن طوقنا واستطاعتنا أبداً.
بل ما أمرك الله إلا بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وأمرك الله عز وجل بالتقوى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فابذل ما استطعت من الإعداد لتنصر بهذا الإعداد دين الله، واترك النصرة بعد ذلك لمن وعد بالنصرة كل من نصر دينه جل وعلا.
ما علينا إلا أن ننصر الدين على قدر استطاعتنا، وإلا فإن العلمانيين الآن يريدون أن يوقعوا بالإسلاميين، ويقولون لهم: ماذا تملكون وماذا بأيديكم، وأنا لا أقلل أبداً على الإطلاق من شأن القوة المادية، فإن هذه (دروشة) لأنه بكل أسف أمتنا الآن فيها من هم (دراويش) لا يجيدون إلا الكلام، شأنها في ذلك شأن جحا، هل تعرفون جحا الذي صنع يوماً ساقية على النهر لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فقالوا: عجباً لك يا جحا! تصنع ساقية على النهر لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر؟! فقال جحا: يكفيني نعيرها، منشورات بيانات صاخبة خطب رنانة.
هذا لن يعيد الإسلام إلى الأرض، وإن كان هذا نوع من أنواع العمل؛ لكننا لن نعيد الإسلام مرة أخرى إلا إذا حولنا الإسلام إلى منهج حياة، إلى واقع يتألق سمواً وروعة وجلالاً؛ فإن العالم الغربي الآن يحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم.
فيجب علينا أن نبذل قدر استطاعتنا، وليس معنى ذلك أنني أقلل من شأن القوة المادية في مواجهة أعداء الإسلام أبداً، وإنما أقول: نعد على قدر المستطاع وعلى قدر الطاقة؛ فالأمة تحتاج إلى تنظيم جهود، ووالله إن الأمة مليئة بالطاقات وبالخيرات.
ولعلكم تذكرون سلاحاً واحداً استخدمته هذه الأمة، لا لمدة أسابيع ولا لمدة شهور بل لمدة أيام؛ فوقف الشرق الملحد والغرب الكافر يوم أن استخدم المسلمون سلاح البترول في حرب أكتوبر.
الأمة مليئة بالطاقات المادية والعددية، وتعجبني الآن كلمة لـ جمال الدين الأفغاني، مع تحفظي على كلماتٍ كثيرة للقائل، إلا أننا نقول بأننا نقبل الحق على لسان أي أحد، ونرد الباطل على لسان أي أحد، يقول هذا الرجل للهنود يوم أن احتلهم الإنجليز: (لو أن ملايينكم ذباب يطن في آذان الإنجليز لخرقتم آذانهم).
أمةً تملك طاقة عددية هائلة جبارة، وتملك طاقة مادية جبارة هائلة، ولكن الأمة تحتاج إلى التقاء الصفوف، وإلى تجميع الطاقات، وتنظيم الجهود، وكلمة واحدة، ونظام الصف ماذا أعني بنظام الصف؟ أمتنا أمة النظام، وبكل أسف! تذهب إلى بلاد الغرب فترى نظام الصف موجوداً في أقل الأمور، ففي المطعم ترى نظام الصف، وفي المطار ترى نظام الصف، وفي الركوب على الباص ترى نظام الصف، فإذا ما أتيت إلى هذه الأمة رأيت نظام القطيع -الذي يقوى على الآخر يدوسه- وتردد الأمة بلسان الحال قول الشاعر الجاهلي القديم:
ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا
نظام القطيع في كل شيء، مع أن الأمة صاحبة نظام الصف، يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] ليس صفاً معوجاً ولا مختلاً، وإنما كأنه البنيان المرصوص الذي رصت لبناته بمنتهى الدقة والإحكام، والبراعة والجمال في آن واحد، بل وقال المصطفى في الصلاة: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) يا سبحان الله! ما علاقة تسوية الصف بالقلب؟! انظر إلى هذا الحديث، فالأمة تحتاج إلى تنظيم وتجميع للطاقات، وكلٌ مسئول على قدر استطاعته.
ابذل ما استطعت، واتصل بالمسئولين بمنتهى الأدب والحكمة والرقة والبلاغة، واتصل بمن تظن أنه يبذل شيئاً لدين الله، لتلتقي الجهود، ولتلتقي كل هذه الطاقات، وسترون والله العجب العجاب، ولكن ليبدأ كل واحدٍ منا بنفسه؛ لأننا بكل أسف نعلق الأخطاء دوماً على الآخرين، وقد حذرنا الله من هذا الداء فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
إذاً: من هذه البشارة أخلص إلى أنه من نصر دين الله على قدر استطاعته، وعلى قدر ما مكنه الله عز وجل من قوة ومن طاقة سينصره الله عز وجل، وهل تستطيع قوةٌ على ظهر هذه الأرض أن تحارب ملك الملوك؟!! يا إخوة: ترون الآن سيولاً تجرف بيوتاً ومدناً، وترون زلازل وبراكين تدمر حضارات، وتزلزل وتبيد مطارات: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
سبحان الله! تعجبني عبارة هذا العربي في أرض الجزيرة في القديم يوم أن خوفوه من الإنجليز، وقالوا: هؤلاء يملكون طائرات، قال: ما معنى طائرات؟ لا يعرف معنى الطائرات، قالوا: هذه طائرات تطير في السماء تنزل وتسقط النار، لا يستوعب هذا المشهد، ولا يعرف معنى الطائرة لكن انظروا إلى التوحيد الذي استقر في قلبه، وإلى اليقين الذي افتقدته الأمة الآن، قال قولةً عجيبة: الطائرة أعلى أم ربنا أعلى؟! قالوا: لا، ربنا أعلى، قال: إذاً فلا تخف، سبحان الله! إنها الفطرة التي تفتقدها الأمة الآن، بل والله إن من أبناء الأمة الآن من يشك في رزق الرزاق، ونسمع على أعلى مستوى من يقول: "كنت أعتمد على الشرق والآن أنا أعتمد على الغرب، فإن لم أعتمد على الغرب فعلى من أعتمد؟!! " على الله الذي وعد برزق كل دابة: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وربك يرزق الكفار؛ فهل ينسى أن يرزق من وحدوا العزيز الغفار؟ هذا محال.(91/9)
استخلاف الله للمسلمين في الأرض
خذوا البشارة الثانية: يقول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] هذه شروط الاستخلاف يا إخوة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55].
ووالله لقد حقق الله وعده، وتحقق وعد الله لرسوله وأصحابه والموحدين معه، واستخلفهم الله في الأرض، فأذلوا الأكاسرة، وأهانوا القياصرة هذا هو الإسلام وهذه هي العبودية لله، من رعاة للغنم في أرض الجزيرة إلى سادة وقادة لجميع الأمم.
وجيء بتاج كسرى إلى عمر بن الخطاب في مدينة رسول الله، فقال عمر قولته الجميلة: [والله إن قوماً أدوا هذه الأمانة كاملةً غير منقوصة، والله إنهم لأمناء؛ فقال له علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين! عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا].
جيء بتاج كسرى إلى عمر رضي الله عنه؛ لأنهم حققوا شروط الاستخلاف، صرفوا العبادة لله جل وعلا، وحققوا العبودية لله سبحانه، واستكملوا الشروط فكانت: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55].
وشروط الاستخلاف والتمكين لا زالت في أيدينا؛ لأن وعد الله لكل فئة تحقق شروط الاستخلاف والتمكين بصرف العبادة كاملة إلى الله، وبتحقيق العبودية خالصة إلى الله جل وعلا، أن يمكن الله جل وعلا لهذه الطائفة التي ستكون حينئذٍ جديرة بالاستخلاف والتمكين.(91/10)
صدود الكفار بأموالهم هو حسرة عليهم
ويشرق علينا نور البشارة الثالثة من سورة الأنفال، ويا لها والله من بشارة! يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] هل تصدقون الله رب العالمين؟! إنه كلام الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] لتتم هنالك إن شاء الله تعالى حسرتهم الكبرى.
أيها الأحبة: كم من أموالٍ أنفقت لتنصير المسلمين؟ وكم من أموال أنفقت للقضاء على طلائع الصحوة؟ وكم من أموال أنفقت لتقويض صرح الأسرة المسلمة، ببث الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة؟ وكم من أموال أنفقت على أندية الروتر العالمية؟ وكم من أموال أنفقت على أندية الماسونية العالمية؟ وكم من أموال أنفقت بالجملة لإخراج المسلمين عن إسلامهم؟ ولكن ما هي النتيجة؟ النتيجة بموعود الله {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وعلى أرض الواقع جسدت هذه المعاني العظيمة وثيقة للتنصير الكنسي التي صدرت عبر مائة وخمسين صفحة، وأجريت خلال خمس سنوات، ونشرتها لأول مرة جريدة " نيويورك تايمز إنترناشيونال " في عددها الصادر في شهر يناير لعام (1991م) وفي هذه الوثيقة يصرخ بابا الفاتيكان جنبلي الثاني، وينادي على المسحيين -على حد تعبيره وإلا فهم النصارى- ويأمرهم بالوقوف صفاً واحداً أمام الزحف الإسلامي الهائل في بلاد أوروبا على الرغم من أنك لو فتشت لوجدت الجهود المبذولة لدين الله لا تساوي شيئاً على الإطلاق، ولكنه دين الفطرة.
ولا أدري هل تابع أحدكم هذا الخبر أم لا؟ فقد نشرته جريدة بريد الإسلام التي تتابع أخبار الإسلام والمسلمين في بلاد الغرب، نشرت خبراً عجيباً في حديقة (الهايفبارك في بريطانيا وفي إنجلترا) هذه الحديقة تضم كل المآسي.
وجاء بعض الشباب المسلم العاقل الواعي، الذي تحتاج الأمة إليه الآن، وينظر إلى الأمور كلها نظرة واعية دقيقة، ليعيش العصر بالقرآن والسنة، فقالوا: لماذا لا نتخذ ركناً في هذه الحديقة لندعو هذه الجموع إلى الإسلام؟ لماذا لا نعرف هؤلاء بالإسلام؟ وبكل أسف حضرت مؤتمراً في " دتريت " ودعي إلى هذا المؤتمر رئيس تحرير جريدة " نيويورك تايمز إنترناشيونال "، وقال هذا الرجل كلمةً حتى وإن كانت خبيثة آلمت قلبي وقلب كل مسلم حين ذاك، يوم أن قال: أيها المسلمون! أنتم تعلمون أن صورة الإسلام مشوهة في الشرق وفي الغرب بصفة خاصة، لكن هل بذلتم الجهود لتظهروا الصورة الحقيقية لإسلامكم؟ عار وشنار على مليار مسلم، تبذل الأموال الطائلة في أمورٍ تافهة، ولا تُبذل لتبني هذه القضية عبر هذه الوسائل الإعلامية العالمية؛ لنبين صورة الإسلام المشرقة التي شوهت ولوثت ومسخت، على أن الإسلام دين العدل والرحمة، والأمن والأمان.
وما يوصم به الإسلام الآن من رعب وإرهاب وتطرف؛ فإن الإسلام بريء منه كبراءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.
أيها الأحبة الكرام: هذه الأموال الطائلة التي تنفق وبالرغم من ذلك ينتصر دين الله عز وجل ويمتد، فوقف هؤلاء الإخوة في هذه الحديقة وأرادوا أن يبينوا للناس الإسلام، فقام قسيس ليرد على هذا الأخ المبارك البريطاني المسلم، ولما ضعفت حجته لجأ إلى الأسلوب الآخر المعروف، ألا وهو السب والشتم والتسفيه، فسب هذا القسيس رب العزة والنبي محمداً صلى الله عليه وسلم.
سبحان الله! هذا نصرٌ غيبي يرسله الله من آن إلى آخر ليطمئن القلوب القلقة، فيقول الخبر: يصاب هذا القسيس بدورانٍ شديد ويسقط على الفور مغشياً عليه، فلما اقتربوا منه وجدوه قد هلك، وقد فارق الحياة، فاقترب رئيس الشرطة الذي كان مكلفاً بحراسة هذا الجمع من هذا الأخ المبارك، وقال له: أربك قويٌ بهذه الصورة؟! فقال له: ولكن اعلم أن الذي قدّر هذا قد يُقدِّر أن يقول غير هذا أكثر مما قال هذا، ولا يفعل به بمثل ما فعل بهذا، حتى لا نعتمد على مثل هذه الأمور: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62].
لا بد من أن يبذل المسلمون سبل النصر: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
وأختم البشائر القرآنية بهذه البشارة في سورة الصف، يقول جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] لا بد من إظهار الدين، هل يضر السماء نبح الكلاب؟! وهل تستطيع جميع الأفواه وإن اجتمعت أن تطفئ نور الله في السماء؟ وهل تستطيع الطحالب الحقيرة أن توقف سير البواخر العملاقة على سطح الماء؟ لا والله أبداً: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] وعد الله عز وجل.(91/11)
بشائر نبوية بالفتح
وخذوا بعض البشائر السريعة من كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أحمد، والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، عزاًَ يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، والطبراني في الأوسط، والبزار بسند حسن، وقال الهيثمي: رجاله ثقات من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً؛ فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) ونحن الآن نعيش مرحلة الحكم الجبري، والمرحلة القادمة بموعود رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
وفي الحديث الذي رواه أحمد، والحاكم بسندٍ جيد، من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رجل: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً، أقسطنطينة أم رومية -أي روما -؟ فقال المصطفى الصادق المصدوق: مدينة هرقل تفتح أولاً) أي: تفتح القسطنطينة أولاً، هل تعلم متى فتحت القسطنطينة، فتحت بعد هذه البشارة النبوية بثمانية قرون، ويبقى الشطر الثاني في الحديث وعدٌ لا يتخلف إن شاء الله جل وعلا.
وأختم البشائر النبوية بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود).
بل ستعجب أن النبي قد حدد أرض المعركة كما في رواية البزار، وقال الهيثمي في المجمع: ورجالها رجال الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شرقي نهر الأردن وهم غربيه) ولم تكن هناك يومها دولة تسمى بـ الأردن، ولكنه كلام الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، والواقع والتاريخ يشهدان بأن الإسلام قادم، وبأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.(91/12)
انتشار الإسلام في الغرب
إن أصواتاً مرتفعة الآن تصرخ في الغرب وتنادي وتحذر من قدوم الإسلام، يقول المفكر الشهير اسبنجلز: "إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام، الذي يملك وحده أقوى قوة روحانية عالمية نقية".
فلا تغتروا بما عند الشرق أو الغرب، فإن الغرب الآن ينهار من الداخل، وتعجبني عبارة سيد قطب رحمه الله وغفر له إذ يقول: "إن أحشاء الغرب تتمخض الآن بمولود جديد يسمى الإسلام" إنها الفطرة، فطرة الله جل وعلا، ما من واحدٍ من هؤلاء عرف الإسلام وحقيقة الإسلام إلا وشرح الله عز وجل صدره له.
لكن يبقى أن نبذل نحن لهؤلاء، وأن نقدم نحن لهم الإسلام الجميل بصورته المشرقة التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الغرب هذه البالونة الضخمة التي تعبد الآن في الأرض من دون الله من قِبل كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، لا بد أن نعرف حقيقتها أيها الأحبة:
قالوا لنا فالغرب فيه صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا
لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا
الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا
الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يدٌ أبدى لها السكينا
الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا
الغرب يحمل خنجراً ورصاصةً فعلام يحمل قومنا الزيتونا
كفرٌ وإسلامٌ فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا
أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا
وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا
وألوم فينا نخوةً لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا
أيها الأحبة: إن أطباء الغرب وعلماء الغرب يقفون الآن في دهشة وحيرة أمام حالات الانتحار الجماعية، أمام الحالات المتزايدة للمصابين بالحالات النفسية والعصبية؛ لأن هؤلاء قد أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماق البدن تصرخ وتبحث عن دواءٍ، وتبحث عن غذاء، ولا يعلم دواء وغذاء الروح إلا خالق الروح: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
ونرى في الأفق كوكبة مضيئة، إنه أعظم حدثٍ في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا من الآمال العظيمة، والبشارات الكبيرة أن نرى شباباً في ريعان الصبا، ونرى فتياتٍ في عمر الورود، ما من يومٍ يمر إلا وتلتحق جموع بالصحوة الراشدة، أسأل الله أن تكون كذلك.
نرى الآن في مصر والجزائر وغيرها، نرى بدون مبالغة عشرات الألوف من الإخوة الشباب، والأخوات الملتزمات وسط هذه الفتن، ووسط هذه الضربات، يحرص الجميع على حضور المحاضرات، وعلى حضور خطب الجمعة، لا في المساجد بل في الشوارع، وتحت حرارة الشمس المحرقة، يصلون على الأرض وعلى التراب.
فأينما توجهت يا عبد الله وجدت خشوعاً ورجوعاً جديداً إلى الله، ووجدت شباباً يبكي ويتضرع وقد ولى ظهره لـ واشنطن وبنكوك ولندن وباريس ومدريد، ووجه وجهه من جديد لـ مكة زادها الله تشريفاً وتكريماً، ولى وجهه صوب بيت الله الحرام، وأعطى ظهره لعواصم الكفر على ظهر الأرض، ويصرخ بأعلى صوته، ودموع الخشوع والبكاء والندم تتلألأ على وجهه الأنور الأزهر، وهو يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، نريد كتاب الله، نريد سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إنها الصحوة المباركة، إنه الأمل الذي أقلق العالم كله الآن في النصف الثاني من القرن العشرين.
صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا
وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا
ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذعٌ قويٌ في التراب وأعذقا
هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا
فجرٌ تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا
يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى
قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا
ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على ضرب الكرامة وارتقى
أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا
أتطرفٌ إيماننا بالله في عصرٍ تطرف بالهوى وتزندقا
إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا
إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا
إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا
إن التطرف وصمة في وجه من جعل البوسنة رماداً محرقا
شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمزقا
يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا
لك في كتاب الله فجرٌ صادقٌ فاتبع هداه ودعك ممن فرقا
لك في رسولك أسوةٌ فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا
يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(91/13)
الأسئلة(91/14)
حكم تعدد الجماعات الإسلامية
السؤال
نظراً لوجود الجماعات في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وتعددها، فهذا من الأنصار وهذا من المهاجرين، وهذا من أهل الصفة، وهؤلاء أهل البيعة، ومع اختلاف الجماعات في أيامنا هذه وبعد الشق بينها وبين الجماعات الأولى التي كانت في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه الجماعات الإسلامية في هذا العصر؟
الجواب
أيها الأحبة: أركز المنهج في نقاط محددة فأقول: تعلموا الإسلام بشموله وكماله، وافهموا الإسلام فهماً صحيحاً كما أراده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفهمه، ثم حولوا هذا الإسلام الذي فهمتموه بشموله وكماله في حياتكم وبيوتكم إلى منهج حياة، وإلى واقع، ثم تحركوا بهذا الإسلام بشموله وكماله إلى الدنيا كلها، وارفعوا عن العوام جهلهم، واربطوهم بالإسلام وبينوا لهم حقيقة الدين، فلقد آن دورك أيها الموحد وأيها العملاق الحنون؛ فقم بعد فهمك للإسلام بشموله، واعمل به في بيتك وبين إخوانك وبين أهلك وأحبابك، وقم بعد ذلك وضم العالم كله إن استطعت إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا.
قم ودثر العالم كله ببردتك ذات العبق المحمدي، قم واسق الدنيا كأس الفطرة لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موت، ولتهدى بعد ضلال، فمعك الحق والنور، اعرف هذا الحق، وحول هذا الحق في حياتك إلى منهج، وتحرك بهذا المنهج بعد ذلك إلى الآخرين.
ابذل على قدر استطاعتك لدين الله، وعلى قدر ما منَّ الله به عليك من طاقات.
يا إخوة! ذكرت أننا لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على المنصات أو على المنابر، بل إننا نحتاج أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة لدين الله كل من موقع إنتاجه، وموطن عطائه ومسئوليته، نريد الآن الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تكون قادرة على تسيير شئون الحياة كلها من منظور الإسلام.
أريد الطبيب المسلم الذي يجسد الإسلام في موطن عمله، والمهندس المسلم الذي يحول الإسلام إلى واقع على أرض عطائه وإنتاجه، وكذا أريد المدرس المسلم، والمرأة المسلمة، أريد الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تخدم دين الله في كل مكان، وهناك الدعاة لهم دورهم ولهم وظيفتهم، أما أن نعتقد أنا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة وخطباء ووعاظ، فلا.
كان هناك خالد بن الوليد اذهب يا خالد وادع الناس في اليمن، لا.
لا يقدر، ليست وظيفته هذه، بل اذهب أنت يا معاذ على اليمن، وأنت يا خالد أمْسِك السيف، فأنت سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه حسناً وأبي بن كعب؟ لا.
أتركه في القرآن يعلم الأمة القرآن، وعبد الله بن مسعود؟ علم القرآن، وحذيفة؟ احفظ أحاديث الفتن، وتعرف على الشر، وزيد تعلم الفروض والفرائض كل له دوره.
وهذا هو الذي أظهر لنا عظمة أصحاب النبي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اختار الرجل المناسب فوضعه في المكان الذي يتناسب مع قدراته وكفاءاته وعطاءاته؛ فبذل كل واحد في الموطن الذي يناسبه أقصى ما عنده من طاقة لدين الله عز وجل، فبرع وأبدع وأفاد واستفاد.
تدبروا معي هذه الرسالة المباركة التي يرسل بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح على جبهة الشام، والجيوش على جبهة الشام بدأت تتخلخل، فأمر خالد بن الوليد أن يذهب بسرعة إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأن يتولى القيادة العامة على جبهة الشام، وخالد بن الوليد سيف الله، ترياق الوساوس والشياطين، ويكتب رسالة، وانتبه لهذه الرسالة الجميلة الرقيقة، يقول أبو بكر الصديق: [بسم الله الرحمن الرحيم من خليفة رسول الله إلى أخيه أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خير منه].
هنا التجرد، هنا العمل للدين بحق، وبصدق، وبرجولة، خالد رجل الساعة اذهب يا خالد فـ أبو عبيدة أمين الأمة تأخر الآن.
المكان لـ خالد، إذاً: يبرز خالد.
ونأتي لتعلم القرآن فنقول: لا.
تأخر يا خالد، وتقدم أنت يا بن مسعود كفاءات قدرات فليس كل الأمة نريد أن نحولها إلى وعاظ على المنصات، لا.
فمن يصنع؟ ومن يتاجر؟ ومن يرزع؟ ومن يبدع؟ نريد كل الطاقات التي في الأمة أن تتفجر على هذا الأساس.
أنا أقول: وجود الجماعات التي في الساحة من أكبر النعم لو كان الاختلاف بينها اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، لو كان الخلاف الموجود الآن بين الجماعات التي تعمل للإسلام اختلاف تنوع، أي: هذه تجيد التنظيم، وهذه جماعة تجيد الحركة والتحرك لتبليغ الدعوة، وهذه جماعة تجيد التمحيص والتحقيق للروايات والتصفية والتربية، وهذه جماعة تجيد تحريك روح الجهاد في قلوب الأمة، وأنا أقف وأبدأ من حيث انتهى إخواني، وأبني من حيث بنى الآخرون لتتظافر الجهود، لا آتي وأهدم ما بنيت أنت.
إذاً: الخلاف هنا اختلاف تنوع يثري العمل الإسلامي، ويثري الحركة كلها، وحينئذٍ ليس هناك مشكلة في المسميات، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن المسميات هذه كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان هناك المهاجرون والأنصار، وأهل الصفة، وأهل بيعة الرضوان، لكن متى أنكر النبي أن توجد هذه المسميات؟ عندما تحولت إلى نعرات كما هو الواقع حينما تحولت إلى نعرة فقال: (دعوها فإنها منتنة) مجرد مسميات، والكل يعمل تحت لواء: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78].
إذاً: التنوع إثراء للحركة كلها، ولكن الواقع يقول غير هذا؛ فالاختلاف الآن اختلاف تضاد، أنا الذي أقعد على المنصة، وأنت تتأخر ومن أنت لتقول ومن أنت ليرجع إليك؟ إنه مرض في القلب.
مرضان خطيران يا إخوة: الجهل والهوى، الهوى ملك ظلوم غشوم يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، فشيخي الذي أتلقى العلم على يديه هو الأوسع علماً، والأبلغ حجة، والأقوى بياناً، والأعظم دليلاً، والأسطع برهاناً، وجماعتي هي جماعة المسلمين، وما عداها من الجماعات فليست من جماعة المسلمين، قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] ما شاء الله!! هذا هو الاستشهاد بالأدلة؟!! لا يليق هذا أبداًَ، فلو كان الاختلاف الآن اختلاف تنوع لأثرى هذا العمل كل على قدر استطاعته لخدمة الحركة الإسلامية، فنريد أن تتضافر الطاقات والجهود، ولو أن كل مسلم حمل هم الدين في قلبه، وفكر وهو نائم في الدين، وفي الدعوة: أعمل ماذا؟ وكيف أفكر؟ وكيف أخطط؟ وكيف أستغل المال؟ وكيف أستغل الزوجة؟ وكيف أستغل الولد؟ وكيف أستغل الكرسي؟ وكيف أستغل الوظيفة؟ وكيف أستغل كل طاقة منَّ الله بها علي في دين الله لتلتقي الجهود وتتضافر في وقت استغلت فيه كل الطاقات للباطل وللكفر.
إذاً: كلنا نفهم الإسلام بكماله وشموله، فلنعمل نحن بالإسلام؛ لأن مسألة أننا: إن شاء الله نكون (كنيفاً ملئ علماً) دون أن نحول هذا العلم إلى واقع، ليس له حاجة أبداً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
نحن لا نطلب العلم على أساس أن طلب العلم غاية يا إخوة، لا.
نحن نقول: إن طلب العلم وسيلة لغاية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ليس مسألة أننا نأتي بالشباب احفظ كذا واحفظ كذا واحفظ كذا، وفي النهاية لا نجد شيئاً على أرض الواقع أخلاق بعيدة عن العلم الذي تعلمه، ومعاملات سيئة إلا من رحم ربك، ليس هذا هو الهدف، وليست هذه هي الغاية.
يقول علي: [يا حملة العلم! اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون حلقاً، يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه وجلس إلى غيره، أولئك لا ترفع أعمالهم إلى الله عز وجل].
القضية ليست قضية تحصيل وهي الغاية، بل إنها وسيلة لغاية، لا خير في علم لم يورثك الخشية، ولا بركة في علم لم يقربك إلى الله، ولا نفع في علم لم يملء قلبك ذلاً ورهبة لله، إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل القطر عن الصفا، وكم من مذكر بالله وهو ناسٍ لله، وكم من مخوف من الله وهو جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله وهو بعيد عن الله، وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله.
إذاً: نعلم ونتعلم ونفهم ونعمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقني وإياكم الصدق.
ثم بعد ذلك نحول هذا العمل إلى دعوة، فأنا أدعو بلساني، وأنت تدعو بمالك، وهذا يدعو من خلال وظيفته، وهذا يدعو بأولاده، وهذا يدعو بكتاب، وهذا يدعو بشريط، وهذا يدعو بهدية، وهذا يدعو بزيارة، وهذا يدعو بحضور محاضرة، وهذا يدعو بلصق إعلان.
الطاقات موجودة لكن نريد العمل، هذا دورك أيها المسلم ودور الأخت المسلمة، فقد آن الأوان لتبذل كل الجهود، ولتجيش الأمة كل الطاقات.
ثم بعد ذلك أيها الأحبة أقول: لا تتعجلوا لا تتعجلوا، من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، أتأتي(91/15)
مضمون الدعوة السلفية
السؤال
هل من دعوة للشباب إلى الدعوة السلفية؟
الجواب
السلفية ليست جماعة، وليست حزباً ضيقاً، وفي الوقت ذاته ليست دروشة، السلفية تُظلم كثيراً ممن يظنون أنهم سلفيون، كلام أقوله بمنتهى الصراحة والوضوح وبعلو الصوت، السلفية تيار نوراني ممتد على رأسه المصطفى، ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ وأبي وأصحابه، ومن خلف هؤلاء التابعون، ومن خلف هؤلاء تابعو التابعين، ويتبع هؤلاء كل من سار على دربهم واقتفى أثرهم إلى يوم القيامة.
ومن ثم ومن هذا المنطلق فـ السلفية ليست حكراً على أحد، وليست من حق أحد دون أحد، إنما كل مسلم يقرأ القرآن، ويقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبحث عن فهم القرآن والسنة بفهم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، والأوزاعي، والثوري، فهؤلاء هم سلف الأمة، من الذي ينكر هذا ويرد هذا؟ من الذي يقول: أنا لا أريد أن أفهم القرآن بفهم ابن مسعود الذي قال: [ما من آية من كتاب الله نزلت إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت، وفيما نزلت، ولو أعلم أن أحداً من أهل الأرض أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطايا لركبت إليه] من يكره بعد هذا ألا يفهم القرآن بفهم هذا العملاق القرآني؟ هذا عبد الله بن مسعود، من من إخواننا في الإخوان يكره هذا؟ ومن في التبليغ يكره هذا؟ أو في الجماعة الإسلامية يكره هذا؟ أو في السلفيين يكره هذا؟ في أي فصيلة من الفصائل من يقول بغير هذا؟ ونحن لا نريد بهذا أن نقطع الطريق ونقول: حده إلى الصحابي، لا.
أبداً، الخير ممتد إلى قيام الساعة: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي نصر الله وهم ظاهرون على الناس) أبواب الاجتهاد ما أغلقت ولن تغلق إلى قيام الساعة، ويبقى علماء على الخط والطريق، فكل من اقتفى أثر الصحابة والتابعين ومن سار على دربهم فهو منتسب إلى السلف، وكل من عاش مع السلف ولم يقتفِ أثرهم، ولم يسر على دربهم فلا ينتسب لا من قريب ولا من بعيد إلى السلف.
فكم من أناس عاشوا معهم وليسوا منهم، وكم من أناس لم يعيشوا معهم وهم منهم، لابد أن نفهم هذا الفهم أيها الأخيار الكرام حتى لا تثور من آن إلى آخر مثل هذه النعرات، جماعتنا جماعة المسلمين، بل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج:78].
وأنا أوالي كل مسلم على ظهر الأرض يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قدر قربه وبعده من منهج الله جل وعلا، نريد أن نفهم هذا الفهم لتلتقي الصفوف وتلتقي القلوب.
أما: أنا سلفي وأنت إخواني، أو أنا إخواني وأنت سلفي، بمجرد أني لا أنتمي إلى جماعتك وأنت لا تنتمي إلى جماعتي فلن ألقي عليك السلام، ولا أعترف لك ألبتة بأي مساحة أرضية ألتقي فيها معك أو تلتقي فيها معي، فهذا ظلم مزق الشمل وشتت الصف.
أنا أحب كل مسلم على ظهر الأرض يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله على قدر قربه أو بعده من المنهج، محال أن يكون ولائي لرجل تقي نقي من أهل السنة والجماعة يعمل لله كحبي لرجل مسلم بسيط متكاسل، يصلي فرضاً ويدع فروضاً، لا.
أنا أحب هذا لإسلامه لكن محال أن أسوي بين هذا وذاك، فولائي لكل مسلم يوحد الله ويؤمن برسول الله على قدر قربه أو بعده من منهج الله جل وعلا، هذا هو الإنصاف، بل ولو زل مسلم بكبيرة لا أكفره، ولا أخرجه من الملة، بل لقد أقيمت الحدود على أصحاب رسول الله منهم من زنى، ومنهم من شرب الخمر، بل ويوم أن سب صحابي هذا الشارب للخمر ما قَبِل الرسول، وقال: (لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم) وفي لفظ قال: (والله ما أعلم إلا أنه يحب الله ورسوله) وهو شارب للخمر!! لأنه ما خرج بكبيرته من الدين ولا من الملة أبداً.
يوالى على قدر طاعته، ويعادى على قدر معصيته، الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من الشرك والمشركين، هذه مفاهيم لابد أن ترسخ وتستقر في القلوب والأذهان.
أيها الأحبة: في هذه المرحلة الحرجة لابد أن تلتقي الصفوف والقلوب على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، إذ أننا نلتقي على أصول كبيرة جداً وكثيرة جداً، وهذا الخلاف في أمور فرعية، أو حتى يا أخي لو خالفتك في أمر عقدي -وأنا أعي ما أقول جيداً- ولا أقول في أمر منهجي، فمن سيصحح لي خطئي إن ابتعدت أنت وانصرفت عني؟! أنا على خطأ عقدي، تعال اقترب مني، حقي عليك النصيحة، لا تصعد على منبرك اليوم الثاني وتقول: فلان الفلاني عنده خطأ في العقيدة، وعنده خلل وعنده وعنده حسناً تعال، هل جربت هذا؟! هل اقتربت مني وذبت معي في بوتقة الحب في الله، ووجهت إليَّ النصيحة بحكمة ورحمة وتواضع؟ هل أشعرتني أنك مخلص في نصحك لي؟ هل أشعرتني أن قلبك يحترق على خطئي العقدي؟ والله الذي لا إله غيره لو أشعرتني بذلك لذلل الله قلبي للحق الذي أجراه هو على لسانك، جربوا هذا يا إخوة، وهذا الكلام كله معروف واضح لا يحتاج إلى توضيح، وكله منصب في دائرة إخواننا في أهل السنة والجماعة، إنما ليس المراد بهذا إطلاقاً أنني أريدها وحدة كما ذكرت تجمع شتاتاً متناقضاً متناثراً على غير حق واتباع وهدى؛ لا! فإن تضميد الجراح على ما فيها من عفن وقذر ونتن لن يزيد الجراح إلا سقماً، لكن نخرج العفن والنتن وبعد ذلك نضمد الجراح، هذا هو الذي يبقي الوحدة والصف متميزاً إن شاء الله تعالى، وأسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا وإياكم على الحق.(91/16)
آه آه يا مسلمون!
في هذه المادة يتحدث الشيخ عن بعض مآسي المسلمين في العالم، والأوضاع المتردية التي تحياها الشعوب المسلمة، ومن تكالب الأعداء عليهم، واتفاق الخصوم فيما بينهم على عداوة الإسلام والمسلمين، متبعاً إياها بالحديث عن الموت وشيء من التذكير والوعظ.(92/1)
غربة الدين وأهله
الحمد لله رب العالمين، نحمدك يا رب ونستغفرك ونستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك وعظم جاهك ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو القاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور:
أحبائي يا ملء الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سدٍ وعائقِ
لقد شدني شوق إليكم مكللٌ بالحب والتقدير والدعاء المشفقِ
وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائقِ
طلبتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما طلبوا إلا حقير المآزقِ
فسدد الله على درب الحق خطاكمُ وجنبكم فيه خطير المزالقِِ
طبتم جميعاً أيها الأطيار الأطهار، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وحيى الله صاحبة النقاب والحجاب في عهد غربة الإسلام الثانية التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فاسمحوا لي أن أكرر هذه التحية إلى صانعة الأجيال ومربية الرجال، إلى من تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها:
يا درة حفظت في الأمس غاليةً واليوم يبغونها للهو واللعبِ
يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل أو غريبة النسبِ
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهبِ
وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطبِ
فلا تبالي بما يلقون من شبهٍ وعندكِ الشرع إن تدعيه يستجبِ
سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعربِ
لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذبِ
وما مكاني في دنيا تغوث بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنبِ
هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالثٍ فاكسبي خيراً أو اكتسبي
سبيل ربك والقرآن منهجه نورٌ من الله لم يحجب ولم يغبِ
فاستمسكي بعرى الإسلام واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي
حياكِ الله يا صاحبة النقاب، حياكم الله يا أصحاب أوسمة السنة والشرف، يا أصحاب اللحى، حياكم الله جميعاً، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يربط على قلوبكم، وأن يثبتنا وإياكم على الحق، وأن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين، وأن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيءٍ قدير.(92/2)
المستقبل لهذا الدين
أيها الأحبة في الله: تلبيةً لرغبة أحبابنا وإخواننا فإن حديثي الليلة مع أحبابي في الرقائق، وكم كنت أتمنى أن أعتذر عن الحديث في هذا الموضوع؛ لأنني أعلم يقيناً أنه لا يجيد الحديث عن الرقائق إلا أصحاب القلوب الحية، وأشهد الله أني لست منهم، كما كنت أتمنى أن يكون حديثنا في كل وقتٍ وفي كل مكان عن تصحيح بعض المفاهيم، وإيقاظ العقول والقلوبِ لهذه التحديات الخطيرة، ولهذه المؤامرات الكبيرة الرهيبة التي تحيط بأمتنا في الليل والنهار، والتي تحاك لهذا الدين، وتُحاك للمسلمين لاستئصال شأفتهم، وللقضاء على هذا الدين، ولكنني أقول بملء فمي: إن هذه المؤامرات، وإن هذه المكائد، التي تكاد لهذا الدين ولهذه الأمة في الليل والنهار، إنما هي إلى زوال، وإن أهلها إلى فناء، وسيبقى الإسلام شامخاً يناطح كواكب الجوزاء؛ لأنه دين رب الأرض والسماء.
إن المستقبل يا شباب الصحوة لهذا الدين ورب الكعبة رغم كيد الكائدين، ولن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
نعم.
أقول بملء فمي: نامت الأمة بل وراحت في سباتٍ عميق، وأقول بملء فمي: مرضت واعتراها الركود إلى سنوات طويلة، ولكن الأمة بحمد الله لم تمت، ولن تموت بإذن الله جل وعلا.
نعم.
ما تجنيه الأمة اليوم من ثمار الحنظل المرة إنما هي نتيجةٌ لفترة رقادها الطويلة التي طالت وطالت، فسلبت أرضها، وسفكت دماؤها، وانتهك عرضها، وهانحن نرى الآن، وينطبق على الأمة الآن قول القائل الصادق:
آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق
أي شيءٍ في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج تساق
نحن لحمٌ للوحش والطير منا الـ جثث الحمر والدم الدفاق
وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق
سراييفو تباد والعالم كلـ ـه خسة وخيانةً ونفاق
سراييفو من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق
سراييفو من قلب مكة بالتو حيد يعلو لواءها الخفاق
تركوها وحولها من كلاب الصـ ـرب طوقٌ من خلفه أطواق
قدمتها الصلبان للصرب قربا ناً وللصرب كلهم عشاق
فوالله لو فعلنا بالصرب ما فعلو هـ لرأينا مثل الذي رآه العراق
انتهك عرضنا، وضاع شرفنا، ومسخت هويتنا، وراح عزنا، وزالت سيادتنا، وزعزع انتماؤنا يوم أن رقدت الأمة وطال رقادها، ونامت فطال سباتها؛ ولكنني أبشركم -أيها الأحباب- وأقول: إن أمة الإسلام قد مرضت واعترتها فترات من الركود الطويل، ولكنها بحمد الله تعالى ما ماتت ولم تمت ولن تموت بإذن الله مصداقاً لبشرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس) فأسأل الله جلا وعلا أن يشرفني وإياكم لأن نكون من أفراد هذه الطائفة؛ إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيءٍ قدير.(92/3)
حياة القلوب وموتها
إذاً: أيها الأحباب! إن حديثنا الليلة في الرقائق لا ينقسم عن هذه التحديات، فإننا لن نواجه هذه المؤامرات الموثورة إلا برجال، وإننا الآن نريد أن نربي هؤلاء الرجال، وهؤلاء الرجال لن نبدأ تربيتهم إلا بتصفيح وتصليح قلوبهم، فإن الحديث عن الرقائق ليس بمعزلٍ عن مجابهة هذه التحديات؛ لأننا نرى الآن من بين أبناء الأمة قلوباً صدئة علاها الران، نرى أصحاب هذه القلوب الآن مع أنهم يتكلمون بألسنتنا ويلبسون زينا إلا أنهم قد انطلقوا بدون أدنى خجلٍ أو وجلٍ يحاربون الله ويصدون عن سبيل الله جلا وعلا.
فهؤلاء هل تعتقدون أنهم يحملون في صدورهم قلوباً تعرف ملك الملوك جل وعلا؟ هل يحملون في صدورهم قلوباً ترق إذا ذكر لله؟ وتبكي عيونهم إذا تلي كلام الله؟ وترق أفئدتهم إذا ذكِّروا بالله جل وعلا؟ وبيومٍ سيتركون فيه الجاه، والكراسي الزائلة، والمناصب الفانية، لا وزارة، ولا إمارة، ولا سيارة، ولا عمارة، ولا جاه، ولا منصب، وإنما سيقف هذا عارياً يبن يدي ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض ليكلمه ربه جل وعلا دون ترجمان: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
هؤلاء نسوا يوماً سيعرضون فيه على الله، لماذا؟ لأن قلوبهم قد ماتت في أكفان صدورهم، كفنتها الصدور منذ زمن، إذا ذكِّروا بالله سخروا، وإذا ذكِّروا بحديث رسول الله استهزءوا، وصفوا النقاب بأنه خيمة، ووصفوا اللحية بأنها عفن، ووصفوا شريعة الله بأنها تخلف، هل تعتقدون أن هؤلاء وإن كانوا يتحركون بين الأحياء يحملون قلوباً حية تعرف ملك الملوك جل وعلا؟ لا والله.
لا والله.
إذاً: فالنقطة الأولى -أيها الأحباب- هي كما قال الحبيب: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) فلنفتش جميعاً في قلوبنا وعن قلوبنا.
أين يقع قلبك أيها الحبيب؟! هل قلبك من القلوب الحية؟ هل قلبك من القلوب السليمة؟ هل قلبك من القلوب المريضة؟ هل قلبك من القلوب الميتة؟ سل نفسك أيها الحبيب فتعالوا بنا لنخاطب القلب والعقل معاً بهذه الحقيقة الكبيرة، فوالله ما ظلم الظالمون، وما جار المتجبرون، وما ظلم الطغاة المتكبرون إلا يوم أن غفلوا عن يومٍ سيعرضون فيه بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، إلا يوم أن اعتقد أنه إله مخلد، إلا يوم أن رن في أذنيه قول فرعون -وهؤلاء أتباع الفراعنة- كما قال الله تعالى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] إلا يوم قال بلسان الحال: {يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].(92/4)
(وجاءت سكرة الموت بالحق)
فيا أيها الحبيب! أخاطب الجميع الآن، أخاطب الكبير والصغير، أخاطب الرجل والمرأة، أخاطب الشاب والفتاة، أخاطب كل مسلم بهذه الحقيقة التي غفل عنها كثيرٌ من الناس، والتي سماها الله في قرآنه (بالحق) فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] والحق أنك تموت، والله حيٌ لا يموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أن قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب وتجري وتفر، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا؟ أيها القوي الفتي، يا أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير!
كل باكٍ فسيُبكى
كل ناعٍ فسيُنعى
كل مذخورٍ سيفنى
كل مذكورٍ سينسى
ليس غير الله يبقى
من علا فالله أعلى
يا من غرك جاهك! يا من غرتك وزارتك! يا من غرك كرسيك! يا من غرك منصبك! يا من غرك مالك! يا من غرك جندك! يا من غرتك قوتك! تذكر يوم أن تخرج من هذه الدنيا وقد انفض عنك الجمع، انفض عنك الجند والمال والأهل، انفض عنك الأحباب، فوقفت بين يدي الله جل وعلا ليسألك عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير.
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيضٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
قال الجليل خذوه
خذوه هو الذي حارب الله وحارب سنة رسول الله، وحارب النقاب، وهو الذي أعلن الحرب على الحجاب، وحارب الأبرار، وحارب الأخيار، خذوه.
قال الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تهرب:: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] من الذي يرقيه؟ من الذي يبذل له الرقية؟ ومن الذي يقدم له الطب والعلاج؟ من الذي يحول بينه وبين أمر الله جل وعلا؟! انظر إليه وهو على فراش الموت، وهو من هو؟ صاحب الجاه والوزارة والإمارة والملك، نام على فراش الموت، التف الأطباء من حول رأسه، ذلك يبذل له الرقية، وذلك يقدم له العلاج، فهم يريدون شيئاً، وملك الملوك يريد شيئاً آخر.
انظر إليه وقد زحف الموت إليه، وقد اصفر وجهه، وشحب، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهريرٍ قارص يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله، لأهل الإيمان، ولأهل التوحيد، ولأهل الاستقامة.
في هذه السكرات ينظر فإذا وعى ما حوله في لحظة الصحوات بين السكرات والكربات، ينظر فيرى ملائكة من بعيد تقترب يفرح أهذه ملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب؟ يا ترى أهذا الذي جالسٌ عند رأسي الآن من هو؟ إنه ملك الموت، يا ترى ماذا سيقول لي؟ هل سيقول لي: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان وربٍ راضٍ غير غضبان، أم سيقول لي: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وعذاب؟ فإذا نظر إلى أهله وأولاده وأحبابه ووعاهم نظر إليهم نظرة استعطاف ورجاء وأمل، وهو يقول بلسان الحال بل بلسان المقال: يا أحبابي! يا إخواني! يا أولادي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا كبيركم، أنا الذي بنيت لكم القصور، وعمرت لكم الدور، أنا الذي كان يقف الناس بين يدي، وكان يركع الناس بين يدي، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أفدوني بأعماركم وبأموالكم، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، فهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوبٍ لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني
وقد أتوا بطبيبٍ كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍِ ولا هونِ
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقام من كان أغلى الناس في عجلٍ نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وغادروني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفنِ
وحملوني على الأكتاف أربعةً من الرجال وخلفي من يشيعني
فقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليَّ صلاةً لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وقدموا واحداً منهم يلحدني
فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني
وقال هلوا عليه الترب
يا مسكين! يا من ضحك الناس عليك! يا من نفخك الناس نفخاً! يا من غرك الناس غروراً! يا مسكين! رجعوا وتركوك، يا مسكين! في التراب وضعوك، يا مسكين! للحساب عرضوك، يا مسكين! والله لو ظلوا معك ما نفعوك، فلم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي الذي لا يموت.
وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المننِ
يا نفس! ويحك توبي! اتق الله، اتق الله ولا تحارب الله ورسوله، ولا تحارب الأطهار، ولا تحارب الأخيار.
يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عساك تجزين بعد الموت بالحسنِ
وامنن علي بعفوٍ منك يا أملي فأنت الرحمن ذو المننِ
: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:27] من يرقيه؟ من يبذل له الرقية؟ من يقدم له العلاج؟ من يحول بينه وبين ما وقع به؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [المدثر:27] من يرتقي بروحه إلى السماء؟ تفسيرٌ آخر من يحمل روحه ويرتقي بها إلى الله جل وعلا؟ أي: من الملائكة التي نزلت لتشيع هذه الروح بعد معالجة ملك الموت لها.(92/5)
الحقيقة الكبرى
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] إنها الحقيقة الكبرى التي تصبغ الحياة البشرية بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض.
إنها الحقيقة الكبرى التي تُعلن على مدى الزمان والمكان، في أذن كل حاكم، وكل أديب، وكل مفكر، وكل سامع، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت.
إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون.
إنها الحقيقة التي شهد كأسها الأنبياء والمرسلون.
إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية للحي الذي لا يموت جل وعلا.
أيها الحبيب الكريم: إنها الحقيقة التي أمرنا الحبيب بالإكثار من ذكرها: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟! قال: الموت) والحديث رواه بعض أصحاب السنن من حديث عمر بن الخطاب، وهو حديثٌ حسن.
تذكر
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليلُ
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويلُ
فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليلُ
وليركبن عليك فيه من الثرى ثقلٌ ثقيلُ
قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليلُ
لقي الفضيل بن عياض رجلاً فسأله الفضيل عن عمره، قال الفضيل: كم عمرك؟ قال الرجل: ستين سنة، قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم عرفت أني لله عبدٌ وأني إليه راجع، قال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبدٌ وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوفٌ بين يديه، ومن عرف أنه موقوفٌ عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: وما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتقي الله فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى.(92/6)
رسالة إلى أصحاب الكراسي والأقلام
إلى أصحاب الكراسي، إلى أصحاب الأقلام، إلى أصحاب صفحات الصحف والمجلات
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم
تعبي الذنب بالذم وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب
وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم
فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو
وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
وزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم
بذا أوصيت يا صاح وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتىً راح بآدابيَ يأتم
وصدق الله إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
ويفتح سجله، ويفتح ملفه، ويفتح كتابه وإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32].(92/7)
مواقف البعث والنشور
: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20] لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس، يموت الصالحون والطالحون، يموت الظالمون والمظلومون، يموت المجاهدون والقاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة والمستذلون للعبيد، يموت المخلصون الصادقون، الرجال الذين يأبون الضيم والذل، والجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف الراقية العالية، والفارغون التافهون الذين لا يعيشون فقط إلا من أجل شهواتهم ونزواتهم، ومن أجل متعهم الرخيصة: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:19 - 20].
ليت الأمر توقف عند الموت، لكن كلا.
من علم أن الموت موعده، والقيامة مورده، والوقوف بين يدي الله مشهده، فحق له أن يطول بالدنيا حزنه.
من النافخ؟ إسرافيل، ويأمره الله جل وعلا أن ينفخ نفخة الفزع: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل:87] فيأمره أن ينفخ نفخة ثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:68] أي: فمات، وحينئذٍ إذا أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق، ومات كل حيٍ على ظهر هذه الأرض، بل وأمر الله بموت الملائكة جميعاً يسود صمتٌ رهيب، يشق هذا الصمت صوت جليل مهيب، يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما من سائل يومئذٍ غيره ولا مجيب، كما في الصحيحين: (إذا مات كل حي ينطق الحق جل وعلا، ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتكبرون؟! أين الجبارون؟!) وفي رواية مسلم: (يقول الحق جل وعلا: لمن الملك اليوم؟ فيجيب على ذاته ويقول: {الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]).
أين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟!
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلماً وطغيان
هل أبقى الموت عزٍ لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدمٍ الكل يفنى فلا إنس ولا جان
أنا الملك {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:67] ثم يُؤمر إسرافيل بالنفخة الثالثة ألا وهي: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] قيامٌ انظر إلى هذا المشهد، فوالله أنه من أرهب مشاهد القيامة، يوم ترى الأرض كلها تتشقق هنا وهناك، ليخرج الناس جميعاً من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليخرج الناس من قبورهم حفاةً عراةً مرتاعين: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8].
أيها الحبيب: يخرج الناس جميعاً ممتدة رقابهم، شاخصة أبصارهم، يستجيبون لهذا الداعي الذي جاء ليقودهم إلى أرض المحشر، ليرى العبد نفسه واقفاً بشخصه ولحمه عارياً بين يدي ربه جل وعلا، ليعطى صحيفته، هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، هذه الصحيفة التي لا تغادر مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها.(92/8)
تكليم الله للعبد وأخذ الكتاب باليمين أو بالشمال
انتبه أيها الحبيب! سينادى عليك في هذا المشهد الرهيب، في يوم الفضائح، ويوم القيامة والزلزلة والحسرة، في يوم الحاقة والقارعة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30]
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك: أين نسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنبٍ يخاف جنايةً كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
ينادى عليك باسمك لترى نفسك بين يدي الله بدون متكلمٍ أو ترجمان، كما في حديث عدي بن حاتم وهو مخرج في الصحيحين: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
إن كنت من المؤمنين الموحدين قربك الله جل وعلا منه، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يُدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة لا تأويلاً للصفة: هو الستر والرحمة، فلا تؤولوا صفة ولا تعدوها: (حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) هذا العبد المؤمن، يقرره الله بذنوبه ويقول له: (أنت عملت كذا يوم كذا، وعملت كذا يوم كذا، فيقول المؤمن: ربِ أعرف! ربِ أعرف! فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) اللهم اجعلنا من هؤلاء.
ويعطيك الله كتابك بيمينك، وتنطلق ينير وجهك، ويشرق النور من على يمينك، ومن بين يديك: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
أهل الأنوار إذا أعطاه الله الكتاب بيمينه انطلق في أرض المحشر وقد أشرقت أعضاؤه وأنار وجهه، ينطلق إلى أحبابه وإخوانه وإلى من هم على شاكلته ليبشرهم، فلقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، وفاز فوزاً لن يخيب بعده أبداً، ينطلق في أرض المحشر وكتابه بيمينه، ويقول لأحبابه ولإخوانه ولخلانه: هيا اقرءوا معي كتابي، انظروا هذا توحيدي وصلاتي وزكاتي وحجي ودعوتي وصبري على الابتلاء واحتسابي، وهذا ديني: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
وإن كانت الأخرى -والعياذ بالله- أعطاه الله كتابه بشماله أو من وراء ظهره، واسود وجهه، وكسي من سرابيل القطران، وقيل له: انطلق إلى أمك الهاوية، فينطلق في أرض المحشر وكتابه بشماله، وقد اسود وجهه، ويقول كما قال الله حكاية عن هذا الصنف الخبيث: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37] نسأل الله أن يسترنا وإياكم يوم العرض، وتحت الأرض، وفوق الأرض، إنه ولي ذلك ومولاه.(92/9)
حقارة الدنيا
أيها الحبيب الكريم: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] (يُؤتى بأنعم رجلٍ في الدنيا، ويغمسه الله غمسة واحدة في جهنم، ويقول له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا وعزتك ما رأيت نعيماً قط، ويؤتى بأتعس رجل من أهل الدنيا -ولكنه يوم القيامة من أهل الجنة- فيغمسه الله غمسة واحدة في جنات النعيم ويقول له: هل رأيت بؤساً قط؟) تذكر الآلام والمحن والفتن والاتهامات والابتلاءات والأذى: (هل رأيت بؤساً قط؟! فيقول: لا وعزتك ما رأيت بؤساً قط) أنساه نعيم الجنة كل بؤسٍ وشقاء، كما أن الأول أنساه جحيم جهنم كل نعيمٍ في الدنيا.
أيها الحبيب: إن الدنيا قصيرة، مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر، وأريد أن أبشركم أيها الشباب! أيها الأطهار! أيها الأخيار! يا من عضضتم بالنواجذ على دينكم، في وقتٍ تكال لكم فيه الضربات كيلاً، وتصب على رءوسكم المحن صباً! اعلموا أن سلعة الله غالية: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].(92/10)
هل من مشمر للجنة؟
أيها الشاب الحبيب: يا من ابتليت في عرضك! يا من ابتليت في رزقك! يا من ابتليت في عملك! يا من ابتليت في دينك! اصبر فورب الكعبة ما هي إلا أيام وستجد نفسك بين يدي الله جل وعلا، فإن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وإن دنياكم دار ممر، وإن أخراكم هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم.
أيها الحبيب: اصبر فإن سلعة الله هي الجنة، وما أدراكم ما الجنة؟ في الجنة: (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ورد في سنن ابن ماجة وصحيح ابن حبان، وفي إسناد الحديث سليمان بن موسى مختلفٌ فيه، وبقية رجال الإسناد ثقات من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم وصف الجنة يوماً لأصحابه، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصرٌ مشيد، ونهرٌ مضطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجةٌ حسناء جميلة، ثم قال الحبيب: ألا من مشمرٍ للجنة؟ فقال الصحابة: نحن المشمرون لها يا رسول الله! فقال لهم: قولوا: إن شاء الله عز وجل) أسأل الله أن يمتعني وإياكم بالنظر إلى وجهه الكريم.
أيها الحبيب الكريم
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وكم من مدائن في الآفاق قد بنيت أمست خراباً وأفنى الموت أهليها
أين الملوك التي كانت مسلطنةً حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
إن المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها والجود خامسها والفضل باقيها
لا تركنن إلى الدنيا وزخرفها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غدٍ رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
أنهارها لبنٌ مصفى ومن عسلٍ والخمر يجري رحيقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها
من يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
أيها الحبيب الكريم: اعلم بأن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا في خمرها، ولا في حورها، ولا في قصورها، ولا في ذهبها، ولكن نعيم الجنة الحقيقي في التمتع بالنظر إلى وجه ربها: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك، فيقول ربنا جل وعلا: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى -وفي لفظ مسلم: ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تنجنا من النار؟ ألم تبيض وجوهنا- فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول أهل الجنة: وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً -وفي لفظ مسلم: فيكشف الله الحجاب بينه وبينهم فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا، ثم تلا النبي قول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]) والحسنى: هي دخول الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه الله جل وعلا في الجنة.
أيها الحبيب: هل ستموت؟ إنك تعلم يقيناً بأنك ميت، وتعلم أن الموت نهاية كل حيٍ وإن تعددت الأسباب، فلم الجبن والكسل والخوف والتواني عن دعوة الحق؟
تعددت الأسباب والموت واحدُ
لماذا يتحرك كل أهل الباطل غضباً لباطلهم، ولا يتحرك أهل الحق لحقهم؟ ماذا تنتظر؟ ومن تنتظر؟ هل تنتظر الأوباش الأنجاس يتحركون لدعوة الله جل وعلا؟!!(92/11)
الدعوة إلى الله مسئولية الجميع
أيها الشباب: إنني أحملكم المسئولية جميعاً أمام الله، ليست الدعوة مسئولية الدعاة فحسب، ولكن كل مسلمٍ ومسلمة مسئولٌ مسئولية كاملة عن دين الله، فهيا -أيها الشباب- تحركوا من الآن، أيها الشاب صحح دينك، صحح اعتقادك، افهم إسلامك فهماً كاملاً شاملاً، وحول الإسلام في حياتك إلى واقع، وإلى منهج حياة، ثم انطلق على بركة الله، بقدر ما منَّ الله به عليك من علم وصدقٍ وإخلاص، لدعوة الناس إلى دين الحق بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والكلمة الطيبة، فإن الله جل وعلا يقول لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
أيها الحبيب: كن من حواري وأنصار رسول الله، ففي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبيٍ بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا وكان له في أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف -أسأل الله ألا نكون منهم- يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يُؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
أيها الحبيب الكريم: خذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) والحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر.
يا طالب العلم: فرق بين طلب العلم وبين الدعوة إلى الله، فإن طلب العلم لا ينتهي البتة، كما قال أحمد بن حنبل: مع المحبرة إلى المقبرة.
لكن الدعوة إلى الله واجب كل مسلمٍ ومسلمة، فلتتحرك أيها الحبيب للدعوة إلى الله، ولدين الله، بكلمتك الطيبة، وبدعوتك الصادقة، وبسلوكك وأخلاقك لنظهر للدنيا كلها حقيقة إسلامنا، فإننا الآن نعيش زماناً أصبح يُحكمُ فيه على الإسلامِ من خلال مكانة المسلمين المنحطة.
فنسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بأن نكون من حواري وأنصار رسول الله، وأن نتحرك للدعوة إلى الله، ولدين الله، ونحن على يقين جازم أن الأجل لا يقربه جبن جبانٍ ولا حرص حريص، وأن الرزق بيد الله جل وعلا، وبأن الأمر كله لله، فكن على يقينٍ بالله وثقةٍ بالله، واعلم بأن الملك كله لله، والأمر كله لله، وأسكن في قلبك الطمأنينة التي لا يجب على الإطلاق أن تشيبها شائبة شكٍ، أو أن تعصف بها رياح قنوط وأن الإسلام قادمٌ، وأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله.(92/12)
أبناؤنا بين البر والعقوق
لقد كثر عقوق الوالدين في زمننا، وأسباب ذلك كثيرة، منها: إهمال الوالدين تربية أبنائهما التربية الصحيحة.
ومنها: عدم اختيار الأم الصالحة عند الزواج.
ومنها: دور الإعلام في فساد الأخلاق.
ومنها: تقصير المدرسة في تعليم الأبناء الفضائل ومحاسن الصفات، بالإضافة إلى دور الشارع في فساد الأخلاق الحسنة.
فعلى الأبناء أن يعوا خطورة العقوق في الدنيا والآخرة، وكذلك على الآباء والإعلام والمدرسة أن يقوموا بدورهم في تربية الأبناء.(93/1)
حقاً إنها مأساة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! أبناؤنا بين البر والعقوق، هذا هو عنوان لقائنا هذا، وسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان المهم في العناصر الآتية: أولاً: حقاً إنها مأساة.
ثانياً: خطر العقوق.
ثالثاً: فضل البر.
رابعاً: حقوق تقابلها واجبات.
وأخيراً: إنها مسئولية المجتمع.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون من الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.
أحبتي في الله! لا شك أن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى حب ورعاية الأولاد، بل وإلى التضحية للأولاد بكل شيء، حتى بالذات، فكما تمتص النبتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، وكما يمتص الفرخ كل غذاء فى البيضة فإذا هي قشرة هشة؛ فكذلك يمتص الأولاد كل رحيق وعافية واهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية، ومع كل ذلك فهما سعيدان، ولكن من الأولاد من ينسى هذا الحب والعطاء والحنان، ويندفع في جحود وعصيان ونكران؛ ليسيء إلى الوالدين بلا أدنى شفقة أو رحمة أو إحسان، وتتوارى كل كلمات اللغة على خجل واستحياء، بل وبكاء، حينما تكتمل فصول المأساة، ويبلغ العقوق الأسود منتهاه، حينما يقتل الولد أمه أو أباه! فعلى مقربة منا في إحدى القرى المجاورة حدثت جريمة مروعة؛ هي التي دفعتني للحديث عن هذا الموضوع: في أسرة فقيرة تتكون من عشرة أبناء، يقضى الوالد المسكين ليله ونهاره ليوفر لأبنائه العيشة الطيبة الكريمة، وبالفعل وفق الله الوالد في ذلك توفيقاً عظيماً، فقد استطاع أن يلحق أولاده جميعاً بالكليات والجامعات، ومن بين هؤلاء الأبناء ابن عاق؛ فبدلاً من أن يساعد أباه في نفقات هذه الأسرة الكبيرة ذهب يثقل ظهر والده بالنفقات؛ ليضيعها على (البانجو) والمخدرات والفتيات، فقال له والده المسكين: أي بني! أنا لا أقدر على نفقاتك ومصروفاتك، دعني لأواصل المسيرة مع إخوانك وأخواتك، وأنت قد وصلت إلى كلية العلوم فاشتغل أنت، وشق طريقك في الحياة، ولكن هذا الولد الذي تمرد على التقاليد والقيم وعلى سلطان البيت، بل وعلى سلطان الأسرة، بل وعلى سلطان الدين؛ قام هذا الولد العاق ليفكر بتفكير شيطاني خبيث؛ إنه يفكر كيف يقتل أباه، ولكن كيف قتل الولد أباه؟! إنه طالب في كلية العلوم، فقام يستغل دراسته وعلومه استغلالاً شيطانياً خبيثاً، حيث أعد مادة كيمائية بطريقة علمية معينة، وأخذ منها كمية كبيرة، وعاد إلى البيت، وانتظر حتى نام أبوه، فسكب المادة الكيميائية على أبيه وهو نائم، فأذابت المادة لحم جسده حتى بدت العظام! الله أكبر!! لا إله إلا الله!! لا إله إلا الله!! والله! إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع وإن الكلمات لتتوارى على خجل وحياء وبكاء أمام هذه المأساة المروعة بكل المقاييس.
قد يأتي الآن والد كريم من آبائنا أو أخ عزيز يجلس معنا ويقول: إنه الفقر، قاتل الله الفقر!! والجواب مع تقديري لكل آبائي وأحبابي: لا، لم يكن الفقر سبباً ليقتل الولد أباه، وإذا أردت الدليل فخذ الحادثة الثانية المروعة التى طالعتنا بها جريدة الأهرام: كان في محافظة الإسماعيلية أسرة غنية ثرية؛ وصل الوالدان فيها إلى مكانة اجتماعية مرموقة، فالأم في هذه الأسرة دكتورة مهندسة، وليس بعد ذلك درجة، جلست هذه الأم المثقفة لتناقش ابنها الذي أنهى دراسته الجامعية في أمر خطيبته التي أراد أن يتزوج بها، وأبت الأم على ولدها أن يرتبط بهذه الفتاة، فاحتج الولد على أمه وقال: كيف ذلك وهذا اختياري، وهذه رغبتي، وهذه حريتي؟! وما كان من هذا المجرم العاق إلا أن أسرع إلى المطبخ ليرجع بسكين كبيرة، ثم ينقض بالسكين على أمه بطعنات قاتلة حتى فارقت الحياة، ما هذا؟! ما هذا؟! والله! إن الحلق ليجف، وإن القلب لينخلع، وإن الكلمات لتتوارى على خجل واستحياء، بل وبكاء أمام هذه الصور البشعة من صور العقوق للآباء والأمهات، وقد حذر الله جل وعلا من العقوق في أدنى صوره، وأقل أشكاله وألوانه، فقال جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] رب ارحمهما كما ربيانا صغاراً؛ برحمتك يا أرحم الراحمين!(93/2)
خطر العقوق
أيها المسلمون! أيها الأبناء! يا أبناء الجامعات! أيها الأحباب الأعزاء! اعلموا بأن العقوق كبيرةٌ تلي كبيرة الشرك بالله.
العقوق من أكبر الكبائر، ففي الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان المصطفى متكئاً فجلس ثم قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فمازال النبي يكررها حتى قلنا: ليته سكت) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه -لا أن يقتل الرجل والديه- فقال الصحابة: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟! -الصحابة في مجتمع الطهر استغربوا أن يشتم الرجل والديه- فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه) إن شتمت أبا رجل شتم أباك، فتكون قد شتمت أنت أباك، وإن شتمت أمه شتم الرجل أمك، فتكون قد شتمت أمك؛ فالعقوق من أكبر الكبائر والعياذ بالله! أيها الأبناء! العقوق سبب للحرمان من الجنة وسبب للطرد من رحمة الله الذي وسعت رحمته كل شيء، ففي الحديث الذي رواه النسائي والبزار بسند جيد، وحسنه الألباني، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة) وتدبروا -أيها الأبناء! وتدبروا أيها الآباء! - هذا الحديث العظيم؛ فإن هؤلاء قد خابوا والله! وخسروا؛ لأنهم طردوا من رحمة الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة والديوث) والمرأة المترجلة أي: المرأة المتشبهة بالرجال، وكم من امرأة تنتسب إلى الإسلام تتشبه في زيها، وفي مشيتها، وفي كلامها، وفي طريقة معاملتها بالرجال! بل وهي تشعر بلذة حين تتشبه بالرجال، والديوث هو: الذي يقر الزنا والفسق في أهله والعياذ بالله! وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان).
أيها الأبناء! أخاطبكم بكل قلبي وكياني، أيها الأبناء! يا من منَّ الله عليكم الآن بنعمة الأمهات والآباء! وأنتم لا تدركون قدر هذه النعمة، ولن تشعروا بها إلا إذا فقدتم الوالدين، أسأل الله أن يبارك في أعمار آبائنا وفي أعمار أمهاتنا، وأن يختم لنا ولهم بصالح العمل؛ إنه على كل شيء قدير.
أيها الأبناء! عقوق الوالدين لا ينفع معه أي عمل، فإن صليت أو اجتهدت وأنت عاق لوالديك فلن ينفع مع العقوق عمل، ففي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وابن أبي عاصم في كتاب السنة -وحَسَّنَ الحديث الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة- من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً -أي: لا فرضاً ولا نفلاً ولا عملاً-: العاق لوالديه، والمنان، والمكذب بالقدر).
أيها الأحباء! أيها الأعزاء! أختم بهذه الكلمات؛ لأعرج على بقية عناصر الموضوع، فأقول: إن العقوق دين لابد من قضائه في الدنيا قبل الآخرة، فكما تدين تدان، فإن بذلت البر لوالديك سَخَّرَ الله أبناءك لبرك، وإن عققت والديك سَلَّط الله أبناءك لعقوقك، وستجني ثمرة العقوق في الدنيا قبل الآخرة، ففي الحديث الذي رواه الطبراني والبخاري في التاريخ وصححه الألباني من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين).
أي: الظلم، فمهما كنت قادراً قوياً واستخدمت وجاهتك أو منصبك أو مالك في ظلم العباد؛ فاعلم بأن الله سيسلط عليك من يظلمك.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم عقوق الوالدين يعجل الله لك بسببه عقوق أبنائك في الدنيا، وتدبر معي والدي الكريم وأخي الحبيب: هذا ابن عاق يعيش معه والده في بيته، فكبر الوالد، وانحنى ظهره، وسال لعابه، واختلت أعصابه؛ فاشمأزت زوجة الابن من والد زوجها -وكم من أبناء يرضون الزوجات على حساب طاعة الآباء والأمهات، فاتق الله! وإياك أن تقدم امرأتك على أمك أو أبيك، فالمرأة لها حقوق، والأم لها حقوق، والأب له حقوق، فإياك وأن تقدم حق الزوجة على حق أبيك أو على حق أمك، فالحق الأول للأمهات، والحق الثاني للآباء، فلما اشمأزت هذه الزوجة من والد زوجها بدأت تعلم الأبناء هذا الشعور من جدهم، فأراد الولد أن يطرد أباه من البيت، فَرَقَّ طفلٌ صغير في البيت لجده، فقال لأبيه: لماذا تطرد جدنا من بيتنا يا أبت؟! فقال: حتى لا تتأففون منه، فبكى الطفل لجده، وقال: حسناً يا أبت! سوف نصنع بك ذلك غداً إن شاء الله!! إنه دَين والله! لابد من قضائه.
وهذا ابن آخر يقوم ويصفع والده على وجهه، فيبكي الوالد ويرتفع بكاؤه، فيتألم الناس لبكاء هذا الشيخ الكبير، وينقض مجموعة من الناس على هذا الابن العاق ليضربوه، فيشير إليهم الوالد ويقول لهم: دعوه، ثم بكى وقال: والله! إني منذ عشرين سنة وفي نفس هذا المكان صفعت أبي على وجهه!! فالعقوق دَين لابد من قضائه.
وهذا ابن ثالث يجر أباه من رجليه ليطرده خارج بيته، وما أن وصل الولد بأبيه حتى الباب، وإذا بالوالد يبكي ويقول لولده: كفى يا بني! كفى يا بني! إلى الباب فقط، إلى الباب فقط، فقال: لا، بل إلى الشارع، قال: والله! ما جررت أبي من رجليه إلا إلى الباب فقط!! فكما تدين تدان.
أيها الأخ الحبيب! اذهب اليوم إلى أبيك فقبل رجله، وارجع اليوم إلى أمك فقبل رجليها؛ فثمَّ الجنة.
العقوق خطره عظيم، وما أشقاها والله! من حياة! إنها حياة العقوق، وما أطيبها وأروحها وأسعدها وألذها من حياة! ألا وهى حياة البر، وهذا عنصرنا الثالث.(93/3)
فضل البر
أيها الحبيب الكريم! يكفي أن تعلم أن الله جل وعلا قد قرن بر الوالدين والإحسان إلى الوالدين بتوحيده، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83].
قال ابن عباس: (ثلاث آيات نزلت مقرونة بثلاث، لا يقبل الله واحدة بدون قرينتها: أما الأولى: فهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [محمد:33] فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
وأما الثانية: فهي قول الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فمن أقام الصلاة وضيع الزكاة فلن يقبل منه.
وأما الثالثة: فهي قول الله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه).
قوله: (أن اشكر لي ولوالديك) ما أروحها والله! من حياة! إنها حياة البر، فإذا كنت باراً ستشعر بلذة، وبانشراح صدر، وستشعر بسعادة في كل الخطى، وسيوسع الله عليك رزقك، بل سيبارك الله لك في عمرك، كل هذا في بر الوالدين.(93/4)
البر سبب لدخول الجنة
تدبر معي كلام النبي صلى الله عليه وسلم: روى مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه -أسلوب نبوي بياني بلاغي عجيب! أي: ذل وهان وتعرض للخيبة والخذلان- قيل: من يا رسول الله؟! - أي: من هذا الذي تعرض للخيبة والذلة والمهانة -فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: من أدرك والديه الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة).
فإياك وأن تضيع هذا الخير يا من منَّ الله عليك به الآن!(93/5)
بر الوالدين من أعظم القربات إلى رب الأرض والسماوات
اسمع -حبيبي في الله- لكلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ فقال: الصلاة في وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في الجهاد، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: أحي والداك؟ قال: نعم.
قال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ففيهما فجاهد).
وفي رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! جئت أبايعك على الهجرة والجهاد، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: هل من والديك أحدٌ حي؟ فقال الرجل: نعم، كلاهما يا رسول الله! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: تبتغى الأجر من الله؟ قال: نعم، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).(93/6)
بر الوالدين سبب لتفريج الكربات
في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار، فسقطت صخرة من أعلى الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً -أي: وكنت لا أقدم عليهما في الشراب أهلي، لا زوجتي ولا أولادي، ولا أقدم عليهما مالي أي: خدمي ورقيقي- فنأى بي طلب الشجر يوماً -كان يعمل حطاباً، فانطلق ليجمع الحطب فتأخر على الوالدين حتى ناما- فعدت إليهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أوقظهما، فحملت قدح اللبن على يدي، وانتظرت استيقاظهما حتى برق الفجر).
فبر الوالدين يفرج الهم، ويكشف الغم، ويزيل الكرب، بإذن الله جل وعلا.(93/7)
تقديم الأم على الأب في البر
أيها الأحبة الكرام! اعلموا أنه لابد أن نعي أن بر الأم مقدم على بر الأب، ففي الصحيحين من حديث أبى هريرة رضي الله عنه (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! مَنْ أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
وتدبر معى! هذا الحديث الرقيق الرقراق الذي رواه البيهقي وابن ماجة، وحسنه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث معاوية بن جاهمة: (أنه رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أردت أن أغزو -أي: في سبيل الله- وقد جئت أستشيرك، فبماذا تشير علي؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ألك أم؟ قال: نعم.
فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: الزم رجلها فثمَّ الجنة، الزم رجلها فثمَّ الجنة).(93/8)
صور من بر الوالدين بعد موتهما
قد يتحسر الآن كثير من آبائنا وأحبابنا ممن حرموا من نعمة الوالدين، لكن جاء في حديث في سنده علي بن عبيد الساعدي لم يوثقه إلا ابن حبان وبقية رجال السند ثقات: (أن رجلاً من بني سلمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هل بقي عليَّ من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم، الصلاة عليهما -أي: الدعاء لهما، والترحم عليهما- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما).
فادع لوالديك، واستغفر الله لوالديك، وتصدق لوالديك، وحج لوالديك، وأنفق لوالديك، وتضرع إلى الله في صلواتك بالدعاء لوالديك أن يرحمهما كما ربياك وأنت صغير، فالبر -يا إخوة- لا ينقطع، أما أنت يا من منّ الله عليك بالوالدين، وقد ضيعت وفرطت وقصرت؛ فتب اليوم، ولا تضيع هذا الباب من أبواب الجنة، فلقد كان السلف رضوان الله عليهم إذا ماتت أم أحدهم بكى وقال: ولم لا أبكي؛ وقد أغلق اليوم عليَّ باب من أبواب الجنة؟! أيها الموحدون! أيها الأبناء! أيها الآباء! لا تضيعوا هذا الحق، فما أسعدها -والله- من حياة، ألا وهي حياة البر للوالدين.
أسأل الله جل وعلا أن يعيننا وإياكم جميعاً على هذه النعمة وعلى هذا الفضل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(93/9)
حقوق الأبناء على الآباء
كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء فإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، فكم من آباء، وكم من أمهات قد ضيعوا الأبناء! فالتربية منذ أول لحظات الحياة للأبناء مسئولية كاملة على الوالدين، بل وقبل أن يأتي الولد للحياة، فالوالد مسئول عن هذا الابن الذى لم يأت بعد، كيف ذلك؟! باختيار أمه التى يجب أن تربيه بعد ذلك على الصلاح والفضائل.
يا إخوة! أسألكم بالله أن تتدبروا معي هذه الكلمات التي سأطرحها عليكم: ماذا تقولون لو قلت لكم الآن: إن أباً قد عاد اليوم إلى داره فأخرج ورقة وكتب عليها استقالة من تربية أبنائه؟! حتماً سيتهم هذا الوالد بالجنون.
وماذا تقولون لو أن أمّاً عادت اليوم من عملها إلى بيتها، فسحبت ورقة وكتبت عليها استقالة من تربية الأبناء؟! حتماً ستتهم هذه المرأة بالجنون، بل وقد يفكر زوجها المسكين في طلاقها.
فماذا تقولون لو قلت لكم: إن نظرة صادقة إلى الواقع الذي نحياه تبين أن استقالات تربوية جماعية قد حدثت في كثير من بيوت المسلمين؟ نعم لقد استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقالت كثير من الأمهات تربوياً، فالولد ينظر إلى الوالد بأنه تسبب في تعكير حياته؛ لأنه لم يجد أبوة الأب بمعناها الواسع، لم يجد أبوة التربية، ولم يجد أبوة النصح، ولم يجد أبوة الرجولة، ولم يجد أبوة الخبرة، ولم يجد أبوة التوجيه، ولم يجد أبوة الحنان، ولم يجد أبوة العطف، ولم يجد أبوة الشفقة والإحسان.
فالوالد المسكين يظن أن دوره يتمثل في أن يكون وزيراً للمالية والنفقات، يدخل البيت فيقول: ماذا يحتاج الأولاد؟ وتقول الأم: يحتاج الأولاد كذا وكذا، فيخرج المال ثم ينصرف هائماً على وجهه للتجارات وللسفر وللترحال، بل وإذا عاد إلى بيته في آخر النهار ووجد عنده قليلاً من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام المسلسلات والأفلام، ولا يفكر أن يخلو في أوقات قليلة بأولاده وزوجته.
وأنا لا أقول لك: فَرِّغ كل وقتك لولدك؛ لأنني أعلم ظروف الحياة، وأعلم الحالة الاقتصادية الطاحنة التي ترهق ظهور الآباء.
لكن أقول لك: والله! إن جلوس الأب بين أبنائه وهو صامت لا يتكلم فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالكم لو تكلم فَذَكَّر بجنةٍ، وحَذَّرَ من نارٍ، وحل مشكلة، ووجه نصيحة، وأشعر أولاده بأنه يشعر بهم وبأحاسيسهم، وسأل عن صديق الولد، وسأل عن صاحبة البنت، ونقب في حقيبة ابنته، ونقب في حقيبة ولده، ونظر إلى قصة شعر ولده، ونظر إلى البنطلون الجنز الممزق من ركبتيه الذي يلبسه ولده، فنقب عن هذه الأمور، وبذل النصيحة بحنان وبرحمة، وبأبوة حانية؟! هذه هي الأبوة في أجل معانيها، فإن الأبناء ينظرون إلى من تسبب في وجودهم، ولكنهم لا يجدون أبوة الأب بمعناها الواسع الشامل.
والله -يا أخوة- لقد جاءني في الأسبوع الماضي شاب تزين اللحية وجهة، وهذا الشاب كاد أن يبكي فقلت له: مالك؟ قال: إن أبي يقسم عليَّ بالله إن ذهبت إلى المسجد فسوف يطردني من البيت!! ثم يشكو الآباء بعد ذلك من العقوق!! أيها الوالد! أنت مسئول أن تربي نبتتك من أول لحظة.
مشى الطاووس يوماً باختيالٍ فقلد شكل مشيته بنوه فقال علام تختالون فقالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه فخالف سيرك المعوج واعدل فإنا إن عدلت معدلوه وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوه أما تدري أبانا كل قرع يجاري بالخطى من أدبوه فإن ربيت ولدك -أيها الوالد الكريم- على الفضائل والأخلاق والصلاح منذ أول لحظة من لحظات حياته، ومنذ ترعرعه في بيتك؛ شب حتماً على هذه الأخلاق.
وقد يقول لي والد: إنني قد أربي ولدي في البيت، وسيخرج إلى الشارع ليعود وقد طُمِس بناؤه الجميل، الذي اجتهدت في تزيينه وتجميله في البيت، فأقول له: أبشر واطمئن، فما دام الأصل سليماً والجوهر نقياً فسرعان ما يزول هذا الغبش الذي تأثر به ظاهر ولدك، وسرعان ما يعود إلى أخلاقه وجوهره التقي النقي الذي اجتهدت في تأصيله في بيتك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه.
أيها الوالد الحبيب! ابنك أمانة، ابنتك أمانة، فاجتهد ولا تضيع ولدك؛ فسوف تسأل عنه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل في أهل بيته راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).
واسمع -أيها الوالد الكريم- إلى هذا التهديد والوعيد، ففي الصحيحين من حديث معقل بن يسار أن النبي المختار صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).
وتزداد المأساه -يا مسلمون- إذا انضم إلى استقالة الآباء استقالة الأمهات، فالأم هي الحضن التربوي الطاهر، والأم هي المدرسة الأولى للتربية، فماذا تقولون لو أغلقت المدرسة الأولى للتربية، ألا وهي مدرسة الأم، وانشغلت الأم بالمسلسلات وبالأفلام، وانشغلت الأم بالتجوال في الأسواق وبالجري وراء أحدث الموضات والموديلات، وانشغلت عن أولادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟! تزداد المأساة إذا استقالت الأم تربوياً، بالإضافة إلى استقالة الآباء تربوياً، فيا إخوة: ليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في هم الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا فليس اليتيم من مات أبواه وتركاه في الحياة ذليلاً، إن اليتم الحقيقي هو اليتم التربوي، إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت عنه، أو أباً مشغولاً عنه، فماذا تقولون لو علمتم أن من الآباء من يمنع ولده من إعفاء لحيته، أو يمنع ولده من الذهاب إلى المسجد، أو يمنع ولده من الذهاب إلى مجالس العلم؟! وأسأل الله أن يجعلني من المنصفين، أنا لا أريد بعدما أصلت للوالدين من حقوق أن أقلل من شأنهما عند الأبناء، وإنما أود أن أقول لإخواني وأبنائي: قد يأمرك الوالد بذلك من منطلق الخوف عليك، وهذا هو الواقع، فالولد قرة عين أبيه، والولد ثمرة فؤاد أبيه، فإن أمر الوالد ولده بذلك فليعلم بأن المصيبة أكبر، وبأنه سيزداد خوفه بصورة أكبر، فإذا منع الولد من أن يعرف طريق المساجد، وإذا حال بين الولد وبين طريق السنة، وبين طريق الالتزام؛ فسوف يبكي الوالد دماً بدل الدمع إذا رأى ولده يحقن نفسه بحقنة مخدرات، أو يشم البانجو، أو يمشى مع فتاة في الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لذا أذكر آبائي الكرام بأن يفتحوا الباب على مصراعيه لأبنائهم؛ ليسلكوا طريق الالتزام، وليسلكوا طريق سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وليعلموا يقيناً بأن السعادة كل السعادة، وبأن الالتزام والهداية والتفوق في أمور الدنيا والآخرة لا يكون أبداً إلا إذا عرف الولد طريق الله جل وعلا، وراقب الله في سره وعلنه، فقد ينجح الوالد في مراقبة أبنائه في ساعة من ليل أو ساعة من نهار، ولكنه لا ينجح في أن يراقب أولاده طيلة الليل وطيلة النهار، فدرب ورب ولدك على أن يراقب العزيز الغفار، ورب ولدك على القرآن والسنة.
وقد يقول لي والد كريم من آبائنا الطيبين: فماذا سيكون جوابك إذا سألتك وقلت: إن الوالد نفسه يحتاج إلى أن يتعلم هو القرآن والسنة؟
و
الجواب
حياك الله، ثم حياك الله أنت وأولادك جميعاً في المساجد؛ لتجلسوا بين أيدي العلماء المتحققين بالعلم الشرعي، لتتعلم أيها الوالد الكريم مع ولدك كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها الآباء الكرام! إن للوالدين حقوقاً على الأبناء، وإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، وإن من الآباء من يقع في عقوق ولده قبل أن يعقه ولده.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: (يا أمير المؤمنين! أشكو إليك عقوق ولدي، فقال: ائتني به، فجاء الولد إلى عمر رضي الله عنه، فقال عمر: لمَ تعق أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين! ما هو حقي على والدي؟ فقال عمر: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن.
فقال الولد: والله ما فعل أبي شيئاً من ذلك، فالتفت عمر إلى الوالد وقال: انطلق؛ لقد عققت ولدك قبل أن يعقك).
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الصادقين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأسأل الله أن يشفينا، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يتقبل منا صالح الأعمال.
وأخيراً: إنها مسئولية الجميع، أرجئ الحديث عن هذا العنصر إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(93/10)
تربية الأبناء مسئولية الجميع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفي أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! إنها مسئولية الجميع، يجب أن نعلم أن المسئولية تقع على كواهلنا جميعاً، فعلى الأسرة مسئولية، وعلى الإعلام مسئولية، وعلى المدرسة مسئولية، وعلى الشارع مسئولية، وعلى مناهج التعليم مسئولية، فالمسئولية تقع على كواهل الجميع.(93/11)
مسئولية الشارع في تربية الأبناء
وعلى الشارع دوره في التربية، فلو خرج الأبناء إلى الشوارع بأخلاق البيوت الطيبة لتغير الحال.
إذاً: المسئولية مشتركة على الجميع، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك.
أسأل الله أن يقر أعيننا وإياكم بصلاح أبنائنا وستر بناتنا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، واحفظ بناتنا، واهد شبابنا، واهد شبابنا، وأصلح أولادنا، واجعلهم قرة عين لنا.
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربيانا صغاراً، اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا كما ربيانا صغاراً، اللهم من كان من آبائنا وأمهاتنا بين يديك فتغمده برحمتك، اللهم من كان من آبائنا وأمهاتنا بين يديك فتغمده برحمتك، ومن كان منهما حياً فأحيه على طاعتك، وتوفه على ملتك وعلى سنة نبيك برحمتك يا أرحم الراحمين! رب ارحمهما كما ربيانا صغاراً، رب ارحمهما كما ربيانا صغاراً.
اللهم ارزق أولادنا البر للوالدين، اللهم ارزق أولادنا البر للوالدين، اللهم جنب أولادنا العقوق للوالدين، اللهم جنب أولادنا عقوق الوالدين، اللهم ارزق أبناءنا البر يا رب العالمين! اللهم ارزق أبناءنا البر يا أرحم الراحمين، واحفظ أبناءنا وبناتنا من العقوق يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا؛ إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم عليك باليهود وأعوانهم يا رب العالمين! اللهم املأ قلوب وبيوت اليهود ناراً، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى، وحرق بيوتهم قبل أن يحرقوا الأقصى، وأرنا في اليهود يوماً كيوم عاد وثمود بقدرتك يا رب العالمين! اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والفتن والبلاء برحمتك يا رب الأرض والسماء وجميع بلاد المسلمين؛ إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(93/12)
مسئولية المدرسة في تربية الأبناء
وعلى المدارس دور في تربية الأبناء، وإني والله أستحي أن أقول هذا الكلام: لقد أخبرني مدير إحدى مدارس البنات -ولن أسمي المكان- أخبرني بكلام يخلع القلب، وهي مدرسة ثانوية للبنات، وأنا أستحي والله! أن أقول: المدارس، فقد أصبح الولد الآن لا يحترم مدرسة، لماذا؟ لأن البركة في مدرسة المشاغبين حيث لا بركة! علموا الأولاد كيف يتطاولون على الأساتذة والمدرسين، كان الطالب قديماً يهاب أستاذه إن رآه أو إن سمع صوته من بعد، ولكن الولد أصبح الآن يتطاول على أستاذه وعلى مدرسه، فالمدرسة لها دور، لابد أن تعود المدرسة لدورها الريادي في التربية قبل أن تعلم أبناءنا العلوم، ومن جميل ما قاله محمد إقبال رحمه الله: إن العلوم الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعاني والمعارف، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع!(93/13)
مسئولية الإعلام في تربية الأبناء
أيها الوالد الكريم! أيتها الأم الفاضلة! تبدأ المسئولية في تربية الأبناء من عندكما من البيت فاجتهدا، ثم على أهل الإعلام أن يتقوا الله؛ فإنني أدين لله بأن الإعلام يتحمل المسئولية الكبرى في إفساد أخلاق أبنائنا وبناتنا، أعلنها لله.
إن الإعلام الذي لا يرقب في المؤمنين إلاً ولا ذمة، والذي يعكف في المسلسلات والأفلام على وتر الجنس، وعلى وتر الدعارة، وعلى وتر أفلام الإجرام، وعلى وتر التحرر؛ جعل الولد ينظر إلى أبيه المحافظ صاحب الأخلاق نظرة احتقار وازدراء وسخرية، ويقول الولد لوالده: هكذا نرى في المسلسلات والأفلام، وهذه موضة قديمة، فأنت لا تعيش عصرك، وأنت لا تعيش زمانك، وأنتم لا زلتم تعيشون في مجاهل القرون الماضية! إنه العزف بصورة واضحة على نغمة التحرر، مما جعل أبناءنا يتحررون من كل شيء، فرفض الأولاد سلطة الأسرة، ورفض الأولاد سلطة الوالدين، بل ورفض الأولاد أخيراً سلطة الدين ولا حول ولا قوة إلا بالله! فعلى الإعلام وعلى القائمين على الإعلام أن يتقوا الله، وقد يقول لي الآن قائل: الآن أنت تخاطب الآباء، فلماذا لا تخاطب الإعلام؟ فأقول: أنا أعي ما أقول؛ فإن من بيننا في هذا الجمع الكريم من يحتل مكانة، ومن يحتل كرسياً ومنصباً، وهؤلاء جميعاً هم أبناؤنا، فإن استطعت أن تخاطب مسئولاً بكلمة طيبة وبكلمة رقيقة أن يتقوا الله في أبنائنا وبناتنا فافعل، وإلا فأنت مضيع للأمانة، أسأل الله أن يجعلنا جميعاً أهلاً لهذه الأمانة.(93/14)
مسئولية الأسرة في تربية الأبناء
تبدأ المسئولية من البيت ومن الأسرة، ولكن قد يتألم بعض الأحبة ويقول: نسيت أن تذكرنا بأنه إذا كان الوالد والأم في البيت من الصالحين، واجتهد الوالدان في تربية الأبناء تربية ترضي الرب سبحانه، ولكن مع ذلك خرج من بين هؤلاء الأبناء ابن عاق انحرف عن الطريق، فما ذنبهما؟
الجواب
هذا لا يقدح في أصل القاعدة، فإنني أرى بيتاً في بيوت المسلمين، يشرف على التربية فيه نبي كريم من أنبياء الله، وهو نبي الله نوح عليه السلام، ومع ذلك لم يخرج ابنه في هذا البيت عاقاً، وإنما خرج كافراً بالله والعياذ بالله! وألمح بيتاً آخر يقوم على أمر التربية فيه فرعون مصر، أكثر أهل الأرض فساداً، ومع ذلك يخرج من هذا البيت موسى كليم الله جل وعلا.
فابذل ما استطعت واجتهد، وضع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم كل شيء، والذي يعلم الحكمة لكل شيء، إنه عليم حكيم.(93/15)
الأخوة في الله
الأخوة في الله من الواجبات الضرورية خاصة في زمننا هذا؛ وذلك لقلتها -إن لم نقل: لانعدامها- حتى بين أبناء الدعوة الواحدة.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الأخوة في سنته، وبين الطريق الموصل إليها، وإن للأخوة حقوقاً يجب معرفتها والعمل بها.(94/1)
حقيقة الأخوة في الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانةَ، وبَلَّغَ الرسالةَ، ونَصَحَ للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً.
وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى صلى الله عليه وسلم في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إننا على موعد مع محاضرة عامة هامة ومهمة، وهي بعنوان: الأخوة في الله، وسوف ينتظم حديثنا تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: حقيقة الأخوة في الله.
ثانياً: حقوق الأخوة.
ثالثاً: الطريق إلى الأخوة.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
أحبتي في الله! لقد أصبحت الأمة الآن كما ترون غثاءً من النفايات البشرية، وتعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متمزقة متناثرة متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية بغيضة، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه! لقد تمزق شمل الأمة، وتشتت صفها، وطمع في الأمة الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة قصعة مستباحة لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض من إخوان القردة والخنازير.
والسبب الرئيسي: أن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء، والأمة أصبحت ضعيفة؛ لأن الفرقة سبب من أسباب الضعف والخذلان والضياع، والقوة ثمرة طبيعية من ثمار الألفة والوحدة والمحبة، فما ضعفت الأمة بهذه الصورة المهينة إلا يوم أن غاب عنها أصل وحدتها وقوتها وألفتها وحبها، ألا وهو: الأخوة في الله بالمعنى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ إن الأخوة في الله لا يمكن أبداً أن تتحقق إلا على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها، ومحال أن تتحقق أخوة بمعناها الحقيقي إلا على عقيدة صافية بشمولها وكمالها، كما حولت هذه الأخوة الجماعة المسلمة الأولى من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم، يوم أن تحولت هذه الأخوة التي بنيت على العقيدة بشمولها وكمالها إلى واقع عملي ومنهج حياة، وقد تجلى هذا الواقع المشرق يوم أن آخى النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً بين الموحدين في مكة، وهذه هي المرحلة الأولى من مراحل الإخاء، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل التوحيد في مكة وبين الذين اختلفت ألوانهم وأوطانهم وألسنتهم وأشكالهم، آخى بين حمزة القرشي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وأبي ذر الغفاري، وكان هؤلاء على اختلاف ألوانهم وأوطانهم -بعد أن آخى بينهم رسول الله- يهتفون بهذه الأنشودة العذبة الحلوة: أبي الإسلام لا أبَ لي سِوَاهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ وبعد أن تصافحت القلوب مع القلوب، وامتزجت الأرواح بالأرواح، ذهبوا يرددون جميعاً قول الله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
ثم آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة من الأوس والخزرج بعد حروب بينهم دامية طويلة، وبعد صراع مرير دمر الأخضر واليابس!! ثم آخى رسول الله بين أهل مكة من المهاجرين وبين أهل المدينة من الأنصار، في مهرجان حُبٍّ لم ولن تعرف البشرية له مثيلاً في مهرجان حب تصافحت فيه القلوب في مهرجان حب امتزجت فيه الأرواح! وتأمل هذا المشهد الرائع الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد لأخيه عبد الرحمن الذي جاء إلى المدينة من مكة مهاجراً: يا عبد الرحمن! إنني أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولي زوجتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك! بل دلني على السوق، فدله سعد بن الربيع على سوق بني قينقاع، فانطلق عبد الرحمن بن عوف ليتاجر ويبيع ويشتري، فما لبث أن عاد ومعه فضل من أقط وسمن، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه صفرة، فقال له المصطفى: مهيم؟ -أي: ما الذي بك يا عبد الرحمن؟! - فقال عبد الرحمن: تزوجت امرأة من الأنصار يا رسول الله! فقال المصطفى: فما سقت إليها؟ -أي: من صداق- فقال عبد الرحمن: سقت لها مقدار نواة من ذهب، فقال له المصطفى: أولم ولو بشاة).
وقد يتحسر الآن كل الإخوة على زمن سعد بن الربيع ويقولون: أين سعد بن الربيع الذي يشاطر أخاه في ماله، بل وفي زوجتيه؟
و
الجواب
ضاع زمن سعد بن الربيع وذهب يوم أن ذهب عبد الرحمن بن عوف.
فلئن سألت: من الذي يعطي الآن عطاء سعد؟ فسأجيبك وأقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن بن عوف؟!! لقد ذهب رجل إلى أحد السلف فقال: أين الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً؟ فقال له: ذهبوا مع من لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا.
فلا تسل: أين سعد؟ بل سل قبلها: أين عبد الرحمن؟ وأين أهل العفة؟ وأين أهل الحياء؟ وأين أهل الفضل؟ وهذا مشهد من مشاهد الإخاء، والله! لولا أن الحديث في أعلى درجات الصحة لقلت: إن هذا المشهد من مشاهد الرؤى الحالمة الوديعة الرقراقة الرقيقة! هذه هي الأخوة الصادقة، هذه هي حقيقتها، تلكم الأخوة التي لا يمكن أبداً على الإطلاق أن تدانيها أخوة بنيت على أواصر الوطن أو العرق أو النسب أو الدم أو اللون؛ لأن الأخوة في الله لا تنبني إلا على أواصر العقيدة، وأواصر الإيمان، وأواصر الحب في الله، تلكم الأواصر التي لا تنفك عراها أبداً.
والأخوة في الله نعمة من الله وفيض منه، يغدقها الله على المؤمنين الصادقين.
والأخوة في الله شراب طهور يسقيه الله المؤمنين الأصفياء الأتقياء؛ ولذا فإن الأخوة في الله قرينة الإيمان، فلا تنفك الأخوة عن الإيمان، ولا ينفك الإيمان عن الأخوة، فإن وجدت أخوة من غير إيمان فاعلم بأنها التقاء مصالح وتبادل منافع، وإن رأيت إيماناً بدون أخوة صادقة فاعلم بأنه إيمان ناقص، يحتاج صاحبه إلى دواء وإلى علاج؛ ولذا جمع الله بين الإيمان والأخوة في آية جامعة فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
فالمؤمنون جميعاً كأنهم روح واحد حل في أجسام متعددة، كأنهم أغصان متشابكة تنبثق كلها من دوحة واحدة، أين هذه المعاني الآن؟!! لو تحدثت الآن عن مشهد كهذا الذي ذكرت، ربما استغرب بعض أهل الإسلام هذه الكلمات، وظنوها من الخيالات والأوهام؛ لأن حقيقة الأخوة قد ضاعت الآن بين المسلمين، وإن واقع المسلمين اليوم ليؤكد الآن تأكيداً جازماً لا لبس فيه انعدام حقيقة الأخوة، فلم تعد الأخوة إلا مجرد كلمات جوفاء باهتة باردة، فأنت تنظر إلى المسلم الآن ينظر إلى إخوانه هنا وهناك يذبحون ذبح الخراف، وتقطع أثدية نسائهم، وتنتهك أعراضهن، بل ويطردون من أرضهم وديارهم وبلادهم، ومع ذلك ينظر المسلم إلى هؤلاء الإخوة فيضحك بملء فيه، ويأكل ملء بطنه، وينام ملء عينه، ويهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد!! الأخوة الموصولة بحبل الله نعمة امتن بها ربنا جل وعلا على المسلمين الأوائل، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103].
فالأخوة في الله نعمة امتن الله عز وجل بها على المسلمين، فمستحيل أن تجد قانوناً وضعياً على ظهر الأرض يؤلف بين القلوب، قال عزوجل: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، ومحال أن ترى قانوناً وضعياً بشرياً يؤلف بين قلوب أهله وأصحابه، فهذه نعمة لا يمنحها الله عز وجل إلا لأهل الإيمان، فإن رأيت محبة بين غير أهل الإيمان فاعلم بأن قلوب هؤلاء متناثرة متشتتة، كما قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، أما التقاء القلوب بصدق وصفاء فلا يكون إلا لمن ملأ الله قلوبهم بالإيمان.(94/2)
حقوق الأخوة
أشهد الله أنني كنت أعد هذه المحاضرة وأنا أشعر بخجل؛ لتقصيري ابتداء في حق الأخوة، ويتردد الآن في أذني قول الشاعر: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس والطبيب عليل فأنا لا أتكلم عن الأخوة وحقوقها من منطلق شعوري أنا بالأهلية، وإنما من منطلق شعوري بالمسئولية، وهذا ما تؤصله القاعدة الأصولية: (من عدم الماء تيمم بالتراب)، والله أسأل أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يفرج همنا، وألا يجعل حظنا من ديننا قولنا، وأن يحسن نياتنا وأعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
أرجو أن تهتموا جيداً بهذه المحاضرة، فما أحوج الأمة بصفة عامة، وما أحوج الإخوة الذين يعملون الآن للإسلام بصفة خاصة لمثل هذه المحاضرة في هذه الأيام؛ إن الأمة الآن متشرذمة متهالكة مشتتة ممزقة، ولن تقوم لها قائمة ولن يكون لها كيان إلا إذا اتحد صفها، والتقى شملها، وتجمع أبناؤها، ولن يجمع هذا الشتات المتناثر إلا الأخوة الصادقة في الله، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.(94/3)
من حقوق الأخوة قضاء حوائج الدنيا على قدر الاستطاعة
الحق الرابع: من حق الأخ على أخيه إن استطاع أن يعينه في أمر من أمور الدنيا ألا يبخل عليه، ويجب على الأخ أن يحسن الظن بأخيه إن طلب منه أمراً من أمور الدنيا، وعجز عن أن يساعده فيه، فلا يتهمه أنه فرط وضيع؛ لأن هذه هي حياة الأُخوة، فقد أكلفك بأمر وأنت تتمنى من كل قلبك أن تقضيه لي، ذهبت إلى موطن عملك ومنصبك فعجزت عن أن تؤدي لي هذه الخدمة، فهل أبغضك وأهجرك؟! لا، فليس هذا هو حسن الظن بالإخوة، فالتمس لأخيك الأعذار، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
فيا أخي المسئول! يا من منّ الله عليك بمنصب! ويا من منّ الله عليك بمال! ويا من منّ الله عليك بوجاهة أو جاه، إن استطعت أن تنفع إخوانك فافعل ولا تبخل.
وبالمقابل يجب على الإخوة ألا يكلفوا إخوانهم ما لا يطيقون، فإن كلفوهم فعجزوا فليعذروهم، وما أجمل أن يقول الأخ لأخيه: أخي في الله! أسأل الله أن يجعلك مفتاح خير، وهذه حاجتي إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك؛ هذه هي الأخوة! فعليك أن تعين إخوانك على حوائجهم الدنيوية على قدر استطاعتك؛ فإن الله جل وعلا يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وأنا لا أظن البتة أن مسلماً يستطيع أن ينفع إخوانه يسمع هذا الحديث الواحد فقط ويتخلى بعد ذلك عن أن ينفعهم ولو بكلمة طيبة، ولو بشفاعة مخلصة؛ فإن المحروم من حرمه الله من هذا الفضل، أسأل الله ألا يحرمنا وإياكم من فضله.(94/4)
من حقوق الأخوة النصيحة بضوابطها وشروطها
الحق الخامس من حقوق الأخوة: التناصح، فالمؤمنون نصحة، والمنافقون والمجرمون غششة.
في صحيح مسلم من حديث أبي رقية تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة.
قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
لكن أتمنى من الله أن يعي إخواني الضوابط الشرعية للنصيحة.
قال الشافعي: (من نصح أخاه بين الناس فقد شانه، ومن نصح أخاه فيما بينه وبينه فقد ستره وزانه).
فقد يأتي أخ لينصحك فتشم من رائحته الحقد والغل، ولا تشعر أبداً بحب.
وأما الناصح الصادق فهو رقيق القلب مخلص، نقي السريرة؛ يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإن رأى أخاه في عيب أو على معصية أو خطأ دنا منه، وتمنى أن لو ستره بجوارحه لا بملابسه، ثم قال له: حبيبي في الله! هذه نصيحتي لك يكللها الحب والصدق والإخلاص والغيرة، فأنا لا أحب أن يظهر خطؤك للآخرين، وليبين له النصيحة بأدب ورحمة وتواضع؛ أما أن يأتي أخ لينصحك أو أن يرسل إليك رسالة بحجة أنها نصيحة، فترى التوبيخ والتقريع وسوء الأدب، فهذا المسكين يظن نفسه أنه ناصح أمين، وهو خبيث القلب لم ينصح، بل كتب ليؤذي أخاه، أو تكلم ليؤذي أخاه، بل ليتهم أخاه، بل -والله! - إنه قد يسطر بعض التهم دون بينة أو دليل، ويزعم أنه نصح فلاناً من الناس، وهو كذاب؛ فالنصيحة لها آداب، ولها ضوابط، ولها شروط، فلتشعر أخاك وأنت تنصحه بحبك وبتواضعك وبخفضك لجناح الذل له.
قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، جلس رجل في مجلس عبد الله بن المبارك الإمام المجاهد التقي العابد الورع، فاغتاب أحد المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: (يا أخي! هل غزوت الروم؟! قال: لا.
قال: هل غزوت فارس؟! قال: لا.
فقال عبد الله بن المبارك: سلم منك الروم، وسلم منك الفرس، ولم يسلم منك أخوك!!) يا لها من مصيبة، ويا له من عار، نجلس ونتفنن ونتحذلق في تصيد أخطاء بعضنا البعض، ويجلس الأخ منتفخاً منتشياً يتكلم عن أخيه وكأنه يتكلم عن مشرك، وكأنه لا يتكلم عن أخ يربط بينه وبينه رباط الإسلام ورباط الحب في الله، بل يتمنى أن لو ذبح أخاه ونشر لحمه بين الناس، فأين الأخوة؟! والله! إن القلب ليتمزق، وهذا الذي أحكي عنه موجود بين الإخوة الذين يعملون على الساحة للإسلام، فما ظنكم بما يحدث بين بقية المسلمين؟! والله! إننا لا نستحق تمكيناً، والله! إننا لا نستحق نصراً، والله! إننا لا نستحق رفعة ولا عزة؛ إن لله سنناً ربانية في الكون، لا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة.
اليهود في العالم كله يشعر بعضهم ببعض، ويأتي أصحاب الأموال من قلب نيويورك ليقيموا المستوطنات لإخوانهم في القدس، ويذهب بعض أثرياء العرب إلى الشرق والغرب لينفق على عاهرة في ليلة ما يزيد على عشرة آلاف دولار! إن لله سنناً ربانية في الكون، لا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
فمن الحقوق التي يجب علينا أن نعيدها في حياتنا إلى واقع عملي بضوابطها الشرعية: التناصح، فعليك أن تنصح أخاك بأدب وتواضع وحكمة ورحمة! وأشدد عليكم يا طلاب العلم! إذا كانت النصيحة لشيخ من شيوخكم أو لعالم من علمائكم فإياك أن تنسى قدرك، وإياك أن تغض الطرف عن فضل شيخك، فليس هذا من الأدب، ووالله! لا بركة في علمك ولا فيما تعلمت إن كنت ممن يسيء الأدب لمن علمك عن الله وعن رسول الله.
كنت أجلس ذات يوم مع شيخي الفاضل محمد بن حسين بن يعقوب، وكان يرد على سؤال لطالب من طلابنا، وكان السؤال بسوء أدب، وكأن الشيخ ما علَّم هذا السائل شيئاً عن الله ولا عن رسول الله.
فإنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل، فاعرف قدر شيوخك، وعلى كل أن يعرف قدر نفسه.
من حق الدين وحق الأخوة أن تنصح أخاك، لكن بضوابط النصيحة وشروطها، وإن لم تكن عالماً بضوابط النصيحة الشرعية فاسأل عنها، وتعلمها قبل أن تبذل النصيحة لأحد إخوانك؛ حتى لا تريد أن تنصحه فتقع في فضيحته، أسأل الله أن يستر علي وعليكم في الدنيا والآخرة.(94/5)
من حقوق الأخوة التناصر
الحق السادس من حقوق الأخوة: التناصر.
يقول صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم، فذاك نصره) فانصر أخاك في كل الأحوال، فإن كان ظالماً فخذ بيده وكفه عن الظلم، وإن كان مظلوماً -وأنت تملك أن تنصره- فانصره ولو بكلمة، وإن عجزت فبقلبك.
إن استطعت أن تنصر أخاك بيدك فانصره بيدك، وإن عجزت عن نصرته باليد فانصره بلسانك، وإن عجزت عن ذلك فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان.
فهذه مسلمة استغاثت في أقصى بلاد الروم ونادت وقالت: وا إسلاماه! وا معتصماه! فنصرها المعتصم وقال: لبيك لبيك أختاه! فأين التناصر الآن بين هذه (الملايين المملينة)؟! آخر إحصائية لتعداد المسلمين في العالم مليار ومائتان وخمسون مليون مسلم، إحصائية ستة وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد، وقد كنا نقول: المسلمون مليار مسلم، لكن إحصائية سنة ستة وتسعين تبين أن عدد المسلمين في العالم بلغ ملياراً ومائتين وخمسين مليون مسلم، إحصائية كبيرة، وعدد ضخم، ومع ذلك يصرخ المسلم هنا، وينتهك عرض الأخت هنالك، وينادي الجميع، ولكن من يجيب؟! أين المعتصم؟! فالتناصر من حقوق الأخوة، من حقوق الأخوة أن تنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، تنصر أخاك ظالماً بكفه عن الظلم، وتنصر أخاك مظلوماً بعونه وإعانته إن كنت تقدر على ذلك، إما بيدك، فإن عجزت فبلسانك، فإن عجزت فبقلبك، وذلك أضعف الإيمان.(94/6)
من حقوق الأخوة الستر
الحق السابع: الستر.
وهو من أعظم حقوق الأخ على أخيه، فمن حق الأخ على أخيه أن يستر عليه، فالأخ ليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فإن زل الأخ في هفوة فهو بشر، فاستر عليه قال علماؤنا باتفاق: الناس صنفان: صنف اشتهر بين الناس بالصلاح والبعد عن المعاصي، فهذا إن زل ووقع وسقط في هفوة من الهفوات لبشريته؛ وجب على المسلمين أن يستروا عليه؛ لأنه رجل مشهور بالصلاح والدين والأخلاق والعلم والفضل، وهو بشر ليس بملك ولا نبي، ولقد مضى زمن العصمة بموت المعصوم المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإن زل أخوك فاستر عليه، ولا تتبع عوراته.
ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث أبي برزة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه في جوف بيته).
اللهم استرنا ولا تفضحنا.
يأتي الأخ يتكلم على أحد إخوانه، وكأنه مبرأٌ من كل ذنب، وكأنه مبرأ من كل عيب، ونسي المسكين أن بيته من الزجاج وهو يقذف الناس بالطوب والحجارة، فكل يتذكر ضعفه ونقصه وعيبه، قال عز وجل: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94]، فإن رأيت أخاً من إخوانك من أهل الفضل والصلاح قد زل فاستر عليه، بل يجب عليك ذلك، أما إن كان الرجل -والعياذ بالله! - ممن يبارز الله بالمعاصي وممن يجهر ويتباهى بالمعصية، فهذا هو الفاسق الفاجر الذي لا غيبة له.
في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أن تذكر أخاك بما يكره.
قال: فإن كان في أخي ما أقول؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهتان هو: الظلم العظيم، فهذه هي أخلاق نبينا، وهذه هي سنة نبينا، ومع ذلك كأن بيننا وبين هذه السنة العظيمة بعد المشرقين.
إذاً: إن زل أخوك وجاء ليعتذر إليك فاقبل عذره، ولا تتعنت، فهذه أمراض منتشرة الآن.
فإن زل الأخ في حق أخيه زلة فقد تراه ينسى كل أعمال هذا الأخ المسكين؛ لمجرد أنه زل زلة، ولا يريد أن يتغاضى معه أبداً، مع أن الله سبحانه يعاملنا يوم القيامة بالحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته نجا، فالله يعامل العباد يوم القيامة بالحسنات والسيئات، ونحن لا نريد أن نعامل إخواننا بهذا! قد نرى الأخ من إخواننا قد بذل وأعطى فإذا زل زلة هل تقوم فتنسف كل أعماله نسفاً؟ أنا أتكلم الآن عن إخواننا من أهل السنة والجماعة، عن إخواننا الذين معنا على المنهج، عن إخواننا الذين يدينون معنا دين الحق، فأنا لا أقصد أبداً سمك لبن تمر هندي، لا أريدها وحدة تجمع شتاتاً متناقضاً على غير حق واتباع وهدى، كلا! بل أنا أتكلم الآن عن إخوة لنا معنا على الطريق، يدينون لله بدين الحق، ومع ذلك إن زل هذا الأخ زلة نسف جهاده، وأصبح الحال كما قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.(94/7)
من حقوق الأخوة التورع في القول
الحق الثالث: من حق أخيك عليك -إن لم تستطع أن تنفعه بمالك- أن تكف عنه لسانك، وهذا التورع في القول أضعف الإيمان، فإن ترك الألسنة تُلقي التهم جزافاً دون بينة أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، فتصبح الجماعة وتمسي وأعراضها منتهكة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالة من القلق والشك والريبة لا يمكن أن تطاق بحال من الأحوال، فكيف يعيش مسلم في هذه البيئة؟! يخرج وهو متهم أو خائف من أن يتهم؛ لأنه يرى إخوانه يراقبونه ويرصدونه، وهم له على كل كلمة وعلى كل سلوك بالمرصاد! فمن كان كذلك فهو يعيش في حالة قلق واضطراب.
فتورع في القول عن إخوانك، فإن اللسان من أخطر جوارح هذا الجسم، قال الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
وقال الله جل وعلا: {إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23 - 25].
فتورع عن إخوانك، وأمسك عليك لسانك، وتورع عن العلماء، وتورع عن الخوض في أعراض كواكب الأمة ومصابيح الدجى وأئمة الهدى، تورع عن الخوض في أعراض الشيوخ، وعن الخوض في أعراض الإخوة والأخوات، واتق الله، فوالله! ما من كلمة إلا وهي مسطرة عليك في كتاب عند ربي، لا يضل ربي ولا ينسى.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى: (أنه قال: يا رسول الله! أي المسلمين أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة -واللفظ للبخاري - أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) والعياذ بالله! وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والحاكم وأحمد، وصححه الألباني من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:: (الربا اثنان وسبعون باباً: أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْضِ أخيه).
فاستطالتك في عرض أخيك أبشع من الربا، بل أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه.
وأختم هذه الطائفة النبوية الكريمة بهذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب، والحديث رواه الطبراني، وقال عنه شيخنا الألباني في السلسلة الصحيحة: حديث صحيح بمجموع طرقه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، قيل: ما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار، حتى يخرج مما قال وليس بخارج).
ووالله! لو كنا نحمل في قلوبنا ذرة إيمان، ونسمع حديثاً من هذه الأحاديث؛ لألجم الإنسان منا لسانه بألف لجام قبل أن يتكلم بكلمة، ولكنه لا أقول: إنه ضعف إيمان، بل إنا لله وإنا إليه راجعون.(94/8)
من حقوق الأخوة طهارة القلب من الغل والحقد والحسد
الحق الثاني من حق الأخ على أخيه: ألا يحمل الأخ على أخيه غلاً في صدره ولا حقداً ولا حسداً؛ لأن المؤمن سليم الصدر، طاهر النفس، زكي النفس، تقي القلب، نقي القلب.
المؤمن ينام على فراشه من الليل وهو يشهد الله في عليائه أنه لا يحمل ذرة غل أو حقد أو حسد على مسلم على وجه الأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيحين من حديث أنس -: (لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا -عباد الله- إخواناً).
فالحقد والحسد من أخطر أمراض القلوب والعياذ بالله! فقد يرى الأخ أخاه في نعمة فيحقد عليه ويحسده، ونسي هذا الجاهل أنه ابتداءً لم يرض عن الله الذي قسم الأرزاق، فمن الذي وهب؟ إنه الله، ومن الذي أعطى هذا العلم، وأعطى هذا المال، وأعطى هذه الزوجة الصالحة، وأعطى هذا الولد الطيب، وأعطى هذا الحلم، وأعطى هذا الفضل؟ إنها أرزاق قسمها الرزاق، فالذي يحسد إخوانه هو في حقيقة الأمر معترض على الله جل جلاله، فليتق الله، وليتب إلى الله، وليعد إلى الله سبحانه، وليسأل الله الذي وهب هذا أن يعطيه من فضله وعظيم عطائه، كما أعطى إخوانه من عظيم فضله وواسع عطائه.
والحسد من خصال اليهود، فكل منا ينقب الليلة في قلبه، ابحث في قلبك يا من تستمع إلي الآن! ويا من تستمع إلي بعد ذلك عبر شريط الكاسيت! فأنا لا أخاطبكم أنتم فقط، بل أخاطب ملايين الأمة ممن يسمعون هذا الشريط، فكل ينقب في قلبه، هل خلا قلبك من الحقد؟ وهل طهر قلبك من الغل؟ وهل طهر قلبك من الحسد؟ هل رددت هذا الدعاء مع هؤلاء الصادقين: {وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]؟ فردد هذا الدعاء مع هؤلاء بصفاء، وصدق، وعمل، قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9 - 10].
فلماذا الحقد والحسد، وصاحب الفضل هو الله، والذي يقسم الأرزاق بعدله هو الله؟ هل تشك في عدل الله؟ سل الله الذي أعطى إخوانك أن يعطيك من فضله، وهو الواسع العليم.
روى أحمد في مسنده بسند جيد من حديث أنس قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فخرج علينا رجل تقطر لحيته من أثر الوضوء، وقد أخذ نعليه بشماله، فدخل فصلى وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف، وفي اليوم التالي قال النبي صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فدخل الرجل نفسه، وفي اليوم الثالث قال النبي كذلك، فانطلق وراءه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، وقال: يا أخي! لقد تلاحيت مع أبي -أي: تشاجرت مع أبي- وأقسمت ألا أبيت في داره ثلاث ليال، فإن رأيت أن أبيت هذه الليالي معك فعلت، قال: نعم أفعل -فبات عبد الله بن عمرو معه؛ ليراقب هذا الرجل في عمله فيقتدي به؛ ليكون من أهل الجنة، كما قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] فهم كانوا يتسابقون في الخيرات لا في كشف العورات، ولا في هتك العورات.
قال:- فكان عبد الله بن عمرو يراقب الرجل، فلم ير كثير عمل، ولم ير الرجل يقوم من الليل، إلا أنه إذا استيقظ من نومه ذكر الله ونام، حتى إذا حان وقت صلاة الفجر قام فصلى الفجر -يحافظ على الصلاة في بيت الله خلف رسول الله- ولا يتكلم إلا بخير، فلما انقضت الليالي قال له ابن عمرو: يا أخي! والله! ما تلاحيت مع أبي، ولكن رسول الله قال كذا وكذا، وأنا أتيت لكذا وكذا فلم أر شيئاً، فقال الرجل: هو ما رأيت، فلما انصرف نادى عليه وقال: هو ما رأيت إلا أنني أبيت ولا أحمل لأحد من المسلمين في قلبي غشاً ولا حقداً ولا حسداً، فقال عبد الله بن عمرو: هذه هي التي بلغت بك) إنها سلامة الصدر للمسلمين؛ ولذا -يا أخي- أنا بشر وأنت بشر، فلا تعكر صفاء قلبي لإخواني بكلمات من عندك، ولا تعكر حب أخيك لأخ من إخوانه بنميمة خبيثة بحجة أنك تنصحه! الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب أسلم صدر على وجه الأرض، وصاحب أطهر قلب- كان يأمر أصحابه ألا يخبروه بشيء عن أصحابه؛ حتى يخرج إليهم وهو يحمل للجميع صدراً سليماً، وقلباً طاهراً نقياً، إنها أخلاقيات لا توجد الآن إلا بين القلة القليلة من الموحدين الذين عرفوا قدر الأخوة الصادقة في الله.(94/9)
من حقوق الأخوة الحب في الله والبغض في الله
الحق الأول من حقوق الأخوة في الله: الحب في الله والبغض في الله.
محال أن تتحقق أخوة صادقة من غير حب في الله وبغض في الله، فالحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، كما في الحديث الذي رواه أبو داود والضياء المقدسي، وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحبَّ لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) فهل تحبني لله؟ وهل أنا أحبك لله؟ وهل تحب أخاك لله؟ وهل تبغض أخاك لله؟ وهل تعطي أخاك لله؟ وهل تمنع فلاناً لله؟ سل نفسك الآن بصدق؛ فإن عقد الولاء والبراء الآن ليس لله إلا من رحم الله، وإنما من أجل رايات ومسميات وجماعات، فأنا أحب أخاً ينتمي لجماعتي، ويجلس معي بين يدي شيخي الذي أتتلمذ على يديه، وأتلقى العلم عنه، أما هذا الأخ الصادق المتبع المخلص الناصح الأمين فأنا أبغضه، فهو لا يفهم ولا يعي ولا يدرك عن الواقع شيئاً، وهو رجل جهول، ولا حديث له إلا في الحيض، ولا يتكلم إلا في النفاس، ولا يجيد الحديث إلا في الرقائق، ولا يحسن القول إلا فيما يبكي الناس، فأنا أبغضه؛ لأنه لا ينتمي إلى جماعتي!! هذه مصيبة تحطم القلب.
فهذا نتنياهو يصفع الأمة بالنعال على الأقفية، ولا زال إخواننا الذين يعملون للدين، والذين يرفعون راية الإسلام، يوالون ويعادون على مسميات ما تعبدنا الله بها، وما أنزل الله بها من سلطان!! فهل تحب لله؟ وهل تبغض لله؟ وهل تعطي لله؟ وهل تمنع لله؟ ولماذا أتيت؟ ولماذا لم تأت؟ ولماذا تكلمت؟ ولماذا صمت؟ ولماذا أعطيت؟ ولماذا منعت؟ ولماذا ابتسمت؟ ولماذا غضبت؟ ولماذا أحببت؟ ولماذا واليت؟ ولماذا عاديت؟ سل نفسك الآن أيها المسلم! هل عملك لله؟ واصدق الله، فلو خادعت الخلق فلن تخادع الذي يعلم منك السر وأخفى، فمن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان.
وتدبروا هذه الطائفة النبوية الشريفة من الأحاديث الصحيحة: في الصحيحين من حديث أنس، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار) أولها: وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فإذا كانت هذه فيك تذوقت حلاوة الإيمان؛ فإن للإيمان طعماً وحلاوة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وأرجو ألا تسمع هذا الحديث وتجعله كلاماً عابراً، فإن هذا يكاد أن يمزق القلب، فإني أرى بعض الإخوة يستمعون، وكأن الكلام لا يصل إلى القلوب البتة! يقول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، فهل فكرت في هذه العبارة النبوية؟! يوم القيامة ستدنو الشمس من الرءوس، فلا عمارات ولا أشجار ولا بيوت ولا مكيفات، فالشمس فوق الرءوس، والرءوس تلتهب من حرارتها، والزحام يكاد وحده أن يخطف الأنفاس، والبشرية كلها من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه الساعة واقفة في أرض واحدة، وجهنم تزفر وتزمجر، (قد أتي بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) كما روى مسلم من حديث ابن مسعود، وفي ظل هذه المشاهد التي تخلع القلب ينادي الله جل وعلا على سبعة أصناف من البشرية في أرض المحشر؛ ليظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وهؤلاء هم: (إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه -من منا يعجز عن هذه؟ - ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه -أي: اجتمعا على الحب في الله، وتفرقا على الحب في الله- ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال -أي: للزنا- فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
اللهم ارزقنا عيناً دامعة، وقلباً خاشعاً، وعملاً متقبلاً يا رب العالمين! والشاهد هنا قوله: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زار أخاً له في قرية، فأرصد الله له على مدرجته ملكاً، فلما أتى الملك قال له الملك: أين تريد؟ قال له: إلى أخ لي في هذه القرية، فقال له الملك: فهل لك من نعمة تربها عليه -أي: تبتغي زيادتها- قال: لا؛ غير أني أحببته في الله، فقال له الملك: فإني رسول الله إليك أخبرك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)، وأرجو ألا تمر أخي المسلم! على هذه الكلمات النبوية مرور الكرام، بل قف عليها متأملاً متدبراً، فمن أنت ليخبرك الملك بأن الله قد أحبك كما أحببت أخاك فيه؟! وفي الحديث الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه مالك في الموطأ بسند صحيح، أن أبا إدريس الخولاني رحمه الله قال: (أتيت مسجد دمشق فإذا فتىً براق الثنايا، والناس من حوله، وإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه -أي: أنه شاب صغير في حلقة من الناس فيهم الكبار والصغار، ولكنهم إذا اختلفوا في شيء سألوا هذا الشاب المبارك، فإذا ما أفتاهم أخذوا بقوله وفتواه- فقال أبو إدريس: من هذا؟ فقالوا: إنه معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال أبو إدريس: فلما كان من الغد هجّرت إلى المسجد -أي: بكرت إلى المسجد- فوجدت معاذاً قد هجر وسبقني، ووجدته يصلي، فانتظرت حتى قضى صلاته، فجئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله! إني لأحبك، فقال معاذ: آلله؟ فقال أبو إدريس: آلله.
فقال معاذ: آلله؟ فقال أبو إدريس: آلله.
قال أبو إدريس: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال لي: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في).
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: أفشوا السلام بينكم) فسلم على أخيك بصدق وحرارة، ولا تسلم سلاماً باهتاً بارداً، ووجهك في الاتجاه الآخر، خذ على يد أخيك بحب، فإنك قد ترى الأخ يأخذ بيد أخيه بطرف أصابعه، ويلوي عنقه إلى ناحية أخرى، ولا تشعر بحرارة اللقاء، ولا بإخلاص المصافحة، ولا تشعر بأن القلب قد صافح القلب، ولا تحس بأن الروح قد سلمت وامتزجت بالروح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، قال الخطابي: فالخيِّر يحن إلى الأخيار، والشرير يحن إلى الأشرار، وهذا هو معنى: (ما تعارف من الأرواح ائتلف، وما تناكر من الأرواح اختلف) ولذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمان، ولا يبغض المؤمن إلا منافق خبيث القلب، قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] أي: محبة في قلوب عباده المؤمنين، اللهم اجعل المحبة والود لنا في قلوب عبادك المؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين! وهذه -أخي الحبيب- لا ينالها مؤمن على ظهر الأرض إلا بإذن الله، يعني: لا يضع الله محبتك في قلوب المؤمنين الصادقين إلا إذا أحبك ابتداءً، في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل فقال: يا جبريل! إنى أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض -اللهم اجعلنا من هؤلاء الصادقين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، وينادي جبريل في أهل السماء: يا أهل السماء! إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم توضع له البغضاء في الأرض) اللهم سلم سلم يا أرحم الراحمين! اللهم عاملنا بفضلك ورحمتك، واستر ذنوبنا وعيوبنا بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين! إذاً: أيها الأحبة الكرام! الخيِّر لا يميل إلا إلى الأخيار، ولذا لو سافر إنسان حتى إلى بلاد الكفر وكان مؤمناً صادقاً فإن أول ما سيسأل عنه: المسجد أو المركز الإسلامي في هذه الولاية، وسرعان ما يسرع إليه فتلتقي روحه بأرواح إخوانه، أما الخبيث الذي ذهب للفسق والعربدة فإنه بمجرد أن يصل فسيسأل عن الخمارة، وعن أماكن الدعارة، اللهم استرنا ولا تفضحنا، فالخيِّر يحن إلى الأخيار، والخبيث يحن إلى الخبثاء الأشرار.
وهناك أحاديث كثيرة في الحب في الله، ولا زلنا مع الحق الأول فقط من حقوق الأخوة الصادقة في الله جل وعلا، لكن أرجو أن ينتبه الإخوة إلى أن المرء لن يحشر يوم القيامة إلا مع من أحب، ففتش عن قلبك الآن، فهل أنت تحب الممثلين والممثلات؟ فإن كنت كذلك فستحشر معهم، وهل تحب الساقطين والساقطات، واللاعبين واللاعبات؟ إن كنت كذلك فستحشر معهم، أم هل أنت تحب الأطهار والأخيار والأبرار ابتداءً بنبيك المختار وصحابته الأبرار؟ إن كنت كذلك فستحشر معهم، في الصحيحين من حديث(94/10)
الطريق إلى الأخوة
أعتقد اعتقاداً جازماً أن الطريق إلى الأخوة قد وضح في ثنايا المحاضرة، لكنني أجمل هذا الطريق في خطوتين اثنتين لا ثالثة لهما: الخطوة الأولى: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، قال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا فعلينا أن نعود إلى هذه الأخلاقيات التي ذكرتها في ثنايا المحاضرة، حتى تعود لنا الأخوة الصادقة الحقيقية، فتلتئم الصفوف، وتضمد الجراح، وتلتقي الأمة على قلب رجل واحد.
أما وحال الأمة على هذه الحالة فوالله! لا وحدة، ولا ألفة، ولا نصرة، ولا عزة، ولا تمكين، فهذه سنن ثابتة لله في كونه، فتجب العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، وإن شئت فقل: العودة الصادقة إلى أخلاق سيد النبيين، فلقد لخصت عائشة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في كلمات قليلة فقالت: (كان خلقه القرآن) لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم قرآناً متحركاً في دنيا الناس، رأى الناس صدقه ونبله وعفته وشرفه وحياءه وكرمه وبطولته وشجاعته ورجولته وسخاءه وعبادته وخشوعه وزهده وورعه وتقواه؛ فعلم الناس يقيناً أن هذا المنهج ما أنزله الله إلا ليتحول في دنياهم إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة؛ فصدقوا هذا المنهج الرباني، وتحولوا بهذا المنهج من رعاة للغنم إلى ساسة وقادة لجميع الأمم.
أيها الأحبة! قد يكون من اليسير جداً تقديم منهج نظري في التربية والأخلاق، بل إن المنهج موجود بالفعل، ومسطر في بطون الكتب والمجلدات، ولكن هذا المنهج لا يساوي قيمة الحبر الذي كتب به إن لم يتحول في حياة الأمة مرة أخرى إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، فإن البون شاسع بين منهجنا المنير، وواقعنا المرير.
الخطوة الثانية: وجوب دعوة المسلمين إلى أخلاق الدين بحكمة.
بعد أن نحول هذه الأخلاق في حياتنا إلى واقع، يجب علينا بعد ذلك أن نتحرك لدعوة المسلمين إلى هذه الأخلاق بالحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، والكلمة الرقيقة الرقراقة، وبالرفق والحلم، فهذا هو مقام دعوة الناس إلى الله في كل زمان ومكان، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
أسأل الله جل وعلا أن يربط بين قلوبنا برباط الحب في الله، اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب نبيك وحب من أحبك، اللهم املأ قلوبنا بحب أوليائك، اللهم املأ قلوبنا ببغض أعدائك، اللهم املأ قلوبنا بحب أوليائك، واملأ قلوبنا ببغض أعدائك، اللهم املأ قلوبنا بحب أوليائك، واملأ قلوبنا ببغض أعدائك.
اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، واجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم شتت صف عدونا، اللهم شتت صف عدونا، اللهم شتت صف عدونا.
اللهم اربط بين قلوبنا برباط الأخوة فيك، اللهم اربط بين قلوبنا برباط الأخوة فيك، اللهم اربط بين قلوبنا برباط الأخوة فيك؛ إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وأرجو رجاءً من أحبابي وإخواني أن يهتموا بهذه المحاضرة، وليعاهد الله كل أخ يقدر على أن يشتري من هذه المحاضرة بالذات خمسة أشرطة، ويوزعها ابتغاء وجه الله عز وجل بين إخوانه، وأتمنى لو دخل هذا الكلام كل بيوت المسلمين، وأتمنى من الله عز وجل أن يسعد قلوبنا بتحويل هذه الكلمات الربانية والنبوية إلى واقع يتألق روعة وجلالاً، إنه على كل شيء قدير، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(94/11)
الاستنساخ
قضية الاستنساخ قنبلة علمية أذهلت العالم كله، فزعزعت عقيدة مرضى القلوب، وضعاف النفوس، وكان لابد من إجلاء حقيقة هذه القضية، وذلك ببيان ثلاثة عناصر: الأول: أن العلم يدعو للإيمان، وأن نور الوحي لا يطمس نور العقل.
الثاني: هل علماء الجيولوجية خلقوا نعجة؟ الثالث: أن ما تراه من عجيب الصنعة هو من خلق الله، فهو الذي أوجد من العدم، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه.(95/1)
خطورة قضية الاستنساخ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا الصباح الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع حضراتكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! قنبلة علمية أذهلت العالم كله في الأيام الماضية!! بل وأصابت العالم كله بالدوار، وانطلق العلمانيون للصيد في الماء العكر، وخرجوا علينا بكلمات خبيثة عبرت تعبيراً صادقاً عما يدور في صدورهم، وخلجات نفوسهم.
أيها الأحبة الكرام! هذه القنبلة العلمية التي أصابت العالم بالدوار، وأصابت العلمانيين بالشجون، وانطلقوا من خلالها ليدمروا بقية باقية من عقيدة باهتة مشوشة في قلوب مريضة لا يخلو منها زمان ولا مكان، هذه القضية هي: قضية الاستنساخ.
إن القضية تمس العقيدة بطريق مباشر، وتمس قدرة الله وجلال الله وعظمة الله في نفوس المؤمنين؛ لذا رأيت من واجبي في هذا الجمع المهيب، وفي هذا اليوم الحبيب: أن أجلي الحق في هذه القضية الخطيرة، وفي هذه المسألة التي هزت القلوب المريضة والنفوس الضعيفة؛ لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا ينبغي أن يكون العلماء والدعاة بموضوعاتهم في واد من الأودية، وأن يكون العالم بصفة عامة، وأن تكون الأمة بصفة خاصة في واد آخر، ومن هذا المنطلق كان لقاؤنا في الجمعة الماضية بحول الله وتوفيقه عن الطريق إلى القدس، أسأل الله أن يحرره من دنس اليهود، وأن يرده إلى الأمة رداً جميلاً، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
وإن لقاءنا مع حضراتكم عن قضية الساعة التي زلزلت العقيدة في قلوب مريضة، ونفوس خبيثة ألا وهي قضية (الاستنساخ).
أيها الأحبة! واجب عليكم جميعاً ألا ينصرف من بين يدي أحد إلا إذا أنهيت هذا الموضوع الخطير؛ فإنه يجب عليك أن تقف اليوم على أبعاده، هذا لزام على كل مسلم في هذه اللحظة، فإن لم تصبّر نفسك ساعة لله؛ لتتعرف على قضية خلخلت العقيدة في قلوب عباد الله، فمتى ستبذل وقتك لدين الله جل وعلا؟! وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية: أولاً: العلم يدعو إلى الإيمان.
ثانياً: هل خلقوا نعجة بالفعل؟! ثالثاً: هذا خلق الله.
وأخيراً: يا أيها الإنسان ما غرك!! فأعيروني القلوب والأسماع جيداً والله أسأل أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال.(95/2)
العلم يدعو إلى الإيمان
أولاً: العلم يدعو إلى الإيمان: إن نور الوحي لا يطمسُ نور العقل أبداً، بل يباركه ويزكيه ويقويه، شريطة أن يذعن العقل مع الكون كله لله رب العالمين، وإنه لواجب علينا أن نحترم العقل والإدراك البشري، بالقدر الذي أراده الله له من التكريم في مجاله الذي يبدع ويحسن فيه، حتى لا نمضي بالعقل البشري والإدراك البشري بعيداً عن مجاله وحدود قدراته وإبداعه، وحتى لا نمضي في التيه والضلال بلا دليل أو برهان.
أيها الأحبة الكرام! ما كان الإسلام أبداً ولن يكون ضداً للعلم، وكيف ذلك والإسلام هو الذي دعا للعلم منذ لحظاته الأولى؟! يوم أن تنزلت الآيات على قلب النبي الأمي الذي علم المتعلمين! قال الله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] فعلم الله علم محيط كامل، فالله جل جلاله يعلم ما كان وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، ولكن الله جل وعلا قدر منذ الأزل وشاء منذ الأزل أن يعلم الإنسان شيئاً من علمه سبحانه في الوقت الذي يشاؤه الله، وبالقدر الذي يريده الله، قال جل في علاه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].
فالإنسان لا علم له بأي شيء في هذا الكون إلا بالقدر الذي أراده الله، وفي الوقت الذي يريده الله، وإلا فإن ما اكتشفه الإنسان كان موجوداً مخبوءاً في الكون منذ الأزل، وما اكتشفه الإنسان إلا يوم أن أراد الله، ويوم أن أذن الله للإنسان أن يكتشفه، قال جل جلاله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33]، فكل علم يعلمه الإنسان اليوم إنما ورثه الله جل وعلا لهذا الإنسان من خلال أبيه آدم الذي علمه الله أسماء وعلوم كل شيء، وظل هذا العلم مخبوءاً في هذا الكون، فإذا شاء الله في وقت من الأوقات أن يكتشفه الإنسان اكتشفه في الوقت الذي يشاء الله، وبالقدر الذي يريده الله جل وعلا، إلا أن الإنسان الذي أسكرته نشوة العلم، وأعماه غرور العلم، جاء في هذا القرن متبجحاً بعلمه، مستعلياً على الله باكتشافاته، مع أنه إلى الآن لا يعلم حقيقة نفسه!! لا يعلم حقيقة مشاعره!! لا يعلم حقيقة عقله!! لا يعلم حقيقة روحه!! ومع ذلك فإنه يتبجح ويستعلي على الله بما شاء الله وأراده الله له أن يكتشفه! ومن هنا فإن العلماء ينقسمون تجاه الآيات الكونية والعلمية إلى قسمين: القسم الأول: فريق من العلماء إذا ما كشف آية من آيات الله، وكشف اكتشافاً علمياً في كون الله، يتبجح ويزداد عناداً وإلحاداً وكبراً وطغياناً وكفراً، وهؤلاء عند الله بعلومهم أضل من البهائم قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
القسم الثاني: فريق إذا ما اكتشف آية لله في كونه، ووقف على قانون علمي أو اكتشاف علمي، ازداد إجلالاً لله، وازداد خشوعاً لله، وفي هذا الصنف يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
أيها الأحبة الكرام! العلم يدعو إلى الإيمان بالله جل وعلا، وأختم هذا العنصر الهام بكلمات دقيقة لعالم الطبيعة والفيلسوف الأمريكي (ماريت ستانلي) إذ يقول: إن العلوم التي يصل إليها الإنسان تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي كذلك بالاحتمالات، وإن أي نتيجة يصل إليها الإنسان من خلال نظرية علمية ليست نهائية، وإنما هي اجتهادية؛ ولذلك فإن العالم إذا ما وصل إلى نظرية أو قانون يقول: هذا هو آخر ما وصل إليه العلم، ولكنه يترك الباب مفتوحاً لما يستجد من نظريات ومن علوم.
هذه الكلمات الدقيقة تبين حقيقة ما وصل إليه العلم في العصر الحديث في أي مجال من المجالات، فوسيلة الإنسان لأي نظرية علمية هي التجربة والقياس، وهذه التجربة والقياس -باتفاق أهل العلم- لا يمكن أبداً أن توصل الإنسان إلى نتيجة حتمية يقينية نهائية، وإنما توصله إلى نتيجة ظنية، وهذا هو ما أثاره كثير من العلماء على قضية الاستنساخ، وهذا هو عنصرنا الثاني: هل خلقوا نعجة بالفعل؟!(95/3)
هل خلقوا نعجة بالفعل؟
اصطاد العلمانيون في الماء العكر، وخرجوا علينا بكلمات خبيثة، خرج علينا من يقول: انتهت أسطورة الأمومة!!! وخرج علينا من يقول: لم تعد هناك حاجة لدور ملُحٍّ للرجل!!! وخرج علينا من يقول: لقد آن الأوان للعذراء التي لم تتزوج أن تختار طفلاً بالصفات الوراثية التي تشاء! دون الزواج بأي رجل على وجه الأرض!!! وخرج علينا من العلمانيين من يقول: لقد أحدثت النعجة (دوللي) انقلاباً في كل الموازين والمقاييس!!! اسمع! انقلاباً في كل المقاييس والموازين البيولوجية والأخلاقية والدينية، منذ أن خرجت إلى النور في يوليو الماضي، فجعلت الإنسان في حَيْص بَيْص، هكذا يقول: فجعلت الإنسان في حيص بيص؛ وذلك لسبب واحد وهو: أنها ولدت بدون أب!! ونسي العالم المجنون المخدوع أن الله خلق عيسى بدون أب! وخلق آدم بدون أم وأب! وصار العالم والعلمانيون يطبلون ويزمرون: انتهى عالم الشرع والدين، وليس هناك مجال للخطباء الذين يصرخون على المنابر أن يتكلموا بعد اليوم، لماذا؟! لقد خلق العلماء نعجة!! كذب وخداع، فما الذي حدث؟ ركزوا معي جيداً لتقفوا على حقيقة ما حدث، وليمتلئ قلبك الآن بعظمة الملك، وجلال الملك، وقدرة الملك جل جلاله.
كل ما حدث أنهم أخذوا خلية -وركز معي جيداً، فلن أسمح لك أن تنصرف إلا بعد أن تسمع الموضوع بكاملة وإلا فوالله لا عذر لك إن اختل الإيمان في قلبك من كلام العلمانيين -وهذه الخلية الحية أخذوها من ثدي نعجة- ومنطقة الثدي تسمى: (( active area)) أي: منطقة نشطة، وهذه الخلية الحيوانية تحتوى على اثنين وخمسين كروموسوماً، والكروموسوم: هو الذي يحمل الصفات الوراثية كلها، وهذه الخلية لا يمكن على الإطلاق أن تتكون إلا إذا التقى الحيوان المنوي بالبويضة، فإذا خصبت البويضة بالحيوان المنوي وتجمعت الكروموسومات من الحيوان المنوي ومن البويضة تكونت الخلية، والحيوان المنوي يحتوي على ستة وعشرين كروموسوماً في الشواذ، والنواة في البويضة تحتوي على ستة وعشرين كروموسوماً، فإذا ما اجتمع هذا العدد في الحيوان المنوي مع هذا العدد في نواة البويضة وخصبت البويضة، تكونت الخلية التي تحتوي على (52) كروموسوماً، هذا في الحيوان.
أما الخلية في الإنسان: فإنها تتكون من ستة وأربعين كروموسوماً، (23) كروموسوماً في الحيوان المنوي للرجل، و (23) كروموسوماً في بويضة المرأة، فإذا لقح الحيوان المنوي البويضة تجمعت كل هذه الأعداد من الكروموسومات التي تحمل كل الصفات الوراثية في الحيوان أو في الإنسان، ماذا صنع هذا الفريق العلمي في أسكتلندا؟ أخذوا خلية من نعجة تتكون من (52) كروموسوماً، ثم في المرحلة الثانية: أخذوا بويضة من نعجة ثانية، وهذه البويضة لم تخصب بحيوان منويّ أي أنها: تحتوي على (26) كروموسوماً فقط، واستطاعوا بإبرة دقيقة تصنع بالكمبيوتر أن يأخذوا حمض الـ: ( DN
الجواب
) الذي يحمل كروموسومات هذه البويضة، فأصبحت البويضة بسائلها فقط دون حمض الـ: ( DN
الجواب
) أي: بدون الكروموسومات، ووضعوا الخلية الأولى التي جاءوا بها من النعجة الأولى إلى جوار البويضة التي حصلوا عليها من النعجة الثانية، وعن طريق الحث الكهربائي اندمجت الخلية في هذه البويضة، وبعد ستة أيام نقلوا البويضة التي وضعوا بداخلها الخلية -التي تحتوي على جميع الصفات- إلى النعجة الثالثة، وبدأ الحمل يسير في رحم النعجة الثالثة حتى وضعت النعجة نعجة تشابه النعجة الأم، أي: التي أخذوا منها الخلية الأولى.
هذا هو كل ما حدث في الاستنساخ.(95/4)
الرد على من يظن أن البشر خلقوا نعجة
أقول بعد هذا البيان: هل يدعي عاقل يحترم نفسه ويحترم عقله أنهم خلقوا نعجة؟!! إن الخلق إيجاد من عدم، وليس تركيب مكونات هي أصلاً من خلق الملك.
وأنا أتحدى أمام هذا الجمع أن يخلق علماء الهندسة الوراثية حيواناً منوياً واحداً، أو أن يخلقوا بويضة، أو أن يخلقوا خلية.
لماذا ذهبتم إلى الخلية -التي هي أصلاً من خلق الملك- فأخذتموها وأجريتم عليها التجارب؟!! لماذا لم توفروا على أنفسكم هذا الجهد الهائل، وهذه المليارات الطائلة، وتخلقوا خلية من أول الأمر تحمل الصفات الوراثية التي تريدونها؟!! فالخلية خلق مَنْ؟! والحيوان المنوي خلق مَنْ؟! والبويضة خلق مَنْ؟! {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام:95]، وأنا أتحدى علماء الهندسة الوراثية على وجه الأرض وأقول لهم: أيهما أيسر: أن نستنسخ إنساناً جديداً أم أن نبقي حياة إنسان يعيش بيننا؟!
الجواب
أن نبقي حياة إنسان يعيش بيننا، فلا نحتاج إلى نواة ولا إلى خلية ولا إلى تجارب ولا إلى سنوات ولا إلى مليارات.
نتحدى الدنيا وعلماء الهندسة الوراثية في أمريكا وبريطانيا وأسكتلندا وإيطاليا والصين وفى كل الأرض نتحداهم أن يخلدوا (بيل كلينتون) أو (جون ميجور) أو (نتنياهو)، نتحدى العالم كله.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:34 - 35].
اسمع أيها الموحد لربك؛ ليمتلئ قلبك إيماناً بالله، اسمع لقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} هل تصدقون الله؟! هذا كلام ربنا، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74].(95/5)
هذا خلق الله
ثالثاً: هذا خلق الله.
أيها الإنسان المغرور! يا من أنفقت المليارات! وتحديت رب الأرض والسماوات، انظر لخلق الله، يلتقي الرجل بالمرأة ويستمتع ويتلذذ كل منهما، ويلقي الرجل نطفته، وهذه النطفة تحتوي على مئات الملايين من الحيوانات المنوية، تنطلق هي بدورها لتبحث عن البويضة، وتخرج البويضة كأنها عروس في كامل زينتها عليها تاج مشع، نعم عليها تاج مشع! وهذا مفهوم علمي وليس مفهوماً أدبياً، عليها تاج مشع لعلها تجذب إليها حيواناً منوياً واحداً، فتهلك كل هذه الملايين من الحيوانات، ولم تكتشف هذه القضية العلمية إلا في القرن العشرين، في الوقت الذي أخبر عنها المصطفى منذ مئات السنين، اسمع لحبيبك محمد -والحديث في صحيح مسلم - قال صلى الله عليه وسلم: (ما من كل الماء يكون الولد) بل تهلك كل الحيوانات، ويبقى حيوان منوي واحد: (ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء)، فيصل هذا الحيوان المنوي الواحد إلى جدار البويضة، فتخرج له سائلاً لزجاً لعله يتعلق بجدارها! ويفرز هو الآخر سائلاً لعله أن يذيب هذا الشعاع الملتف حول البويضة، ثم يخترق الحيوان المنوي جدار البويضة، فإذا ما أخصبت البويضة بأمر الملك تكون ما يسمى بالنطفة الأمشاج، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، تتكون هذه النطفة الأمشاج، ثم تبدأ الخلية في الانشطار إلى خليتين، والخليتان إلى أربع، وهكذا حتى تتكون في صورة تشبه الدودة، فتتعلق هذه الدودة بجدار الرحم، فتتحول إلى المرحلة التالية ألا وهي مرحلة العلقة، وسميت بالعلقة لتعلقها بجدار الرحم، وتبدأ هذه العلقة بالتمايز إلى طبقتين: طبقة خارجية وظيفتها أن تأكل الرحم؛ لتحصل على الدماء لتغذي الجنين، أما الطبقة الداخلية في العلقة فوظيفتها: تخليق الجنين وإنشاؤه في الرحم.
وبعد مرحلة العلقة تتحول هذه العلقة إلى مضغة، وسميت مضغة؛ لأن العلماء اكتشفوا على ظهرها أشباه أثر أسنان وكأنها قد مضغت، وهذه المضغة بعد مرحلة تكون عظاماً، ثم يكسوا الله جل وعلا العظام باللحم، ثم ينشئ الله الإنسان خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، قال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:12 - 14].
أيها المسلمون! أئله مع الله؟! هذا خلق الله جل وعلا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وقد قفت على كلمة لعالم فرنسي شهير كبير تابع نمو الجنين في رحم الأم: نطفة ثم علقة ثم مضغة، وفجأة -في الوقت الذي شاء الله أن يرسل الملك فينفخ فيه الروح- تحرك هذا الجنين لما نفخت فيه الروح، فصرخ العالم الذي كان يتابع النمو ساعة بساعة وقال: (هنا الله)! توقف كل العلم البشري، من أين جاءت الحياة إلى هذا الجنين؟! لماذا تحرك؟! ما الذي حدث؟! إنها الروح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وفي الصحيحين من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وَكَّلَ الله بالرحم ملكاً فيقول الملك: أي رب! نطفة.
أي رب! علقة، أي رب! مضغة.
أي رب! أذكر أم أنثى؟ أي رب! ما رزقه؟ ما أجله؟ أي رب! أشقي أم سعيد؟ فيكتب الملك ما شاء الله) وفي رواية: (فيقضي ربك ما شاء).
أئله مع الله؟! العلم الحديث يقول: إنه يعلم الآن الجنين أهو ذكر أم أنثى! وأنا أقول لهم: نعم، لا ننكر عليكم أن تعلموا أن الجنين في بطن أمه ذكر أم أنثى، ولكن متى علمتم ذلك؟ لقد علمتم ذلك في مرحلة معينة من مراحل النمو، ولكننا نقول: إن الله جل وعلا قد علم أن فلاناً من الناس سيلتقي بفلانة، ويتزوج بها في الليلة الفلانية، ويقدر الله بينهما الإنجاب، ويعلم الله هل سيكون المولود ذكراً أم أنثى، ويعلم الله أيكون هذا المولود شقياً أم سعيداً، ويعلم الله أجله، ويعلم الله رزقه، ويعلم الله بأيِّ أرض يموت.
اسألوا أهل العلم وقولوا لهم: أأنتم أعلم أم الله؟! قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعُوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح مات لا من علة من يا صحيح بالمنايا دهاك بل وسل البصير كان يحذر حفرةً فهوىَ بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فسله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى من بين فر ث ودم من ذا الذي صفاك وإذا رأيت الحي يخرج من ثنا يا ميت فاسأله من أحياك وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أرباك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك لله في الآفاق آيات لعـ ل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك والكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياك أئله مع الله؟! سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا سل هذه الأنسام والأرض والسما سل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربى يرجع الصبح ثانيا أئله مع الله؟! انظر لتلك الشجرة ذات الغصون النضرة كيف نمت من حبة وكيف صارت شجرة ابحث وقل من ذا الذي يخرج مها الثمرة ذاك هو الله الذي أنعمه منهمرة ذو حكمة بالغة وقدرة مقتدرة(95/6)
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
؟!! اعرف قدر ربك لتعرف قدر نفسك اعرف عظمة ربك لتعرف عجز نفسك اعرف جلال ربك لتعرف ضعف نفسك.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17].
اللهم املأ قلوبنا إيماناً، اللهم املأ قلوبنا إيماناً، اللهم املأ قلوبنا إيماناً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم لا تدع لأحد من هذا الجمع المهيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم حرر الأقصى من دنس اليهود، اللهم حرر الأقصى من دنس اليهود، اللهم حرر الأقصى من دنس اليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم دمر كل من كاد دينك، اللهم دمر كل من كاد دينك، اللهم أعل بفضلك كلمة التوحيد والإيمان، واجعل مصر واحة للأمن والأمان برحمتك يا رب العالمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وجزاكم الله خيراً، وكل عام وأنتم بخير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(95/7)
الأمن والأمان
يعيش العالم اليوم صراعاً نفسياً، ورعباً يجتاح الأعماق ويقضي على الطمأنينة والرخاء، رغم ما حققه من التقدم في عالم الماديات، وما وفره من وسائل حماية الأمن والاستقرار، والسبب في ذلك هو البعد عن منهج الله الذي لو رجع الناس إليه لسكب الله في نفوسهم السكينة، ولملأ قلوبهم طمأنينة، ومن قرأ تاريخ المسلمين وجد ذلك واقعاً.(96/1)
فقدان الأمن والأمان في عصرنا
الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(96/2)
تحول وسائل الأمن الحديثة إلى وسائل رعب
أحبتي في الله! إن العالم اليوم محروم من الأمن والأمان، رغم هذه الوسائل الأمنية المذهلة التي وصل إليها العلم الحديث، ورغم هذه الاختراعات والابتكارات المذهلة التي يكتشف ويخترع منها كل يوم الجديد والجديد، ورغم هذا التخطيط الهائل المبني على الأسس العلمية والنفسية لمحاربة الجريمة.
بالرغم من هذا كله فإن العالم بأسره لا زال محروماً من الأمن والأمان، وإن الملايين من البشر في عالمنا اليوم يعيشون في حالة من الرعب والفزع والذعر والخوف والقلق، بل وينتظرون الموت في كل لحظة من لحظات حياتهم، لما يرونه بأم أعينهم من إبادة للجنس البشري، ولما يرونه بأم أعينهم من رخص شديد للدم البشري! بل لقد تحولت هذه الوسائل الأمنية نفسها من رءوس نووية وطائرات وصواريخ وقنابل وبنادق وغيرها، هذه هي الوسائل الأمنية التي اخترعها وابتكرها العالم لحمايته ولأمنه ولاستتباب استقراره، تحولت هذه الوسائل الأمنية نفسها إلى مصادر رعب وفزع وهلاك وخوف واضطراب، وتعالت الأصوات، وصرخ المفكرون والأدباء والسياسيون هنا وهناك لنزع هذه الرءوس ولتقليص هذه الوسائل، وبالرغم من هذا كله لا زالت الملايين من البشر في عالمنا اليوم تعيش حالة من القلق والفزع والخوف والاضطراب، وأصبحت الدنيا في أعين هؤلاء الضعفاء البائسين المشردين مظلمة على الرغم من كثرة الأضواء من حولهم، وأصبحت الدنيا في أعينهم ضيقة على الرغم من كثرة الميادين والحدائق واتساع الصحراء بعدما طردوا من ديارهم وأموالهم وأوطانهم! وهكذا حرم العالم اليوم من الأمن والأمان على كثرة هيئاته ومنظماته وقوانينه ومواثيقه، حرم بعد هذا كله من نعمة الأمن والأمان، بل ووالله لا أكون مغالياً إن قلت: لقد أصبح الإنسان في عالمنا اليوم يفعل بأخيه الإنسان ما تخجل الوحوش أن تأتيه في عالم الغابات.(96/3)
الحرمان من الرخاء الاقتصادي
وأصبح العالم اليوم أيضاً محروماً من الرخاء الاقتصادي بعد أن حرم من الأمن والأمان، على الرغم من كثرة الأسواق والأموال والبنوك والتجارات.
وعلى الرغم من اختراع أحدث الوسائل في كل مجالات الاقتصاد إلا أن العالم اليوم محروم من الرخاء الاقتصادي، ولا زالت الملايين من البشر في عالمنا المنكوب تبحث عن لقمة الخبز فلا تجدها! ولا زالت الملايين من البشر تبذل ماء وجهها للحصول على ثوب تستر به عوراتها، ولا زالت الملايين من البشر تبحث وتبذل نفسها للحصول على المسكن، ومنهم من يموت جوعاً، ومنهم من يموت عطشاً، ومنهم من يموت برداً، ومنهم من يسكن الجبال ويعيش بين المخاطر محروماً من الرخاء والسعة.(96/4)
عدم الاستقرار النفسي والطمأنينة
والعالم اليوم أيضاً محروم من الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر.
بعد الأمن والأمان وبعد السعة والرخاء حرم أيضاً من الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر، والنفس إن لم تتوفر لها الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر، لا تستلذ بعيش وإن كان صاحبها غنياً، ولا تهنأ بثوب وإن كان فاخراً ولا تهنأ بمركب ولو كان فارهاً، هذه فطرة الله جل وعلا التي فطر الناس عليها.
حرم العالم اليوم من الطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر، ولا تظن أن هذا المال والمتاع، وأن هذه الشهرة وأن هذا الجاه وهذه المناصب، لا تظن أن هذا كله يعيد للنفس طمأنينتها، أو يعيد للقلب انشراحه، أو يعيد للإنسان السعادة وهذا وإن كان جزءاً قليلاً من أجزاء السعادة، إلا أن راحة القلب وانشراح الصدر وطمأنينة النفس لا تتحقق بمثل هذا، وإنما لا بد لها من دواء آخر.(96/5)
أسباب الشقاء وحياة الضنك في العالم
والحرمان الأمني والاقتصادي والنفسي الذي يعيشه العالم اليوم وصفه الله جل وعلا في القرآن الكريم بكلمتين اثنتين، ألا وهما: المعيشة الضنك، ووصفه من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم).(96/6)
ظهور الفاحشة
من منا في الأمس القريب كان يسمع عن الإيدز؟! من منا بالأمس القريب كان يسمع عن الأزمة القلبية؟! من منا بالأمس القريب كان يسمع عن جلطة المخ؟! من منا بالأمس القريب كان يسمع عن الزهري والسيلان والفشل الكلوي؟! من كان يسمع عن مثل هذا وذاك؟! لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم.(96/7)
نقص المكيال والميزان ومنع الزكاة
قال: (ولم ينقصوا المكيال والميزان)، بأبي هو وأمي! والله ما نقص المكيال وما نقص الميزان ولو نقص المكيال والميزان لكان الأمر هيناً، بل لقد انقلبت الموازين بأسرها واضطربت المقاييس كلها، (ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا)، هذا المطر الذي يتنزل بعد هذا كله إنما هو رحمة من الله من أجل البهائم والشيوخ الركع والأطفال الرضع، ولو نزل بلاء بهذه الأرض فإن الحشرات والهوام يسبان ويلعنان بني آدم؛ لأنه لا ينزل البلاء إلا بذنب، ولا يرفع البلاء إلا بتوبة.
ومن أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق ولا تكذب كما قال صلى الله عليه وسلم: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، مما ذكره الحافظ ابن كثير: أنه في عهد سليمان -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- أجدبت الأرض وجف الضرع وهلك الناس، فقال سليمان لبني إسرائيل: هيا بنا لنخرج لصلاة الاستسقاء، لنضرع إلى الله جل وعلا لينزل علينا المطر، وفي طريقه مر على وادي النمل، فنظر سليمان وسمع نملة تناجي ربها جل وعلا.
وهو الذي فك الله له رموز لغة النمل والطير، كما قال الله عز وجل حكاية عنه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:18 - 19].
عرف سليمان لغة النمل فاستمع إليها وهي تقول: اللهم إنك تعلم أنه لا ينزل البلاء إلا بذنب، ولا يرفع البلاء إلا بتوبة، ونحن خلق من خلقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم! والله تحيلنا على الزكاة، ومنعنا الصدقات ومنعنا الزكوات إلا من رحم الله جل وعلا.
(ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ذلك هو الضنك، ذلكم هو الشقاء، ذلكم هو الهلاك الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حينما يعرض الناس في أرض الله، في كل زمان وأوان عن منهج الله جل وعلا.
هكذا أيها الأحبة! حرمان أمني، وحرمان اقتصادي، وحرمان نفسي وضيق في الصدر، ضنك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان عظيمة، ضنك وشقاء، ضنك في كل شيء، وضيق في كل شيء، في كل زمان وفي كل مكان، والله ما من يوم إلا وتسفك فيه دماء، وتتمزق فيه أشلاء، وتحرق بيوت وتدمر مصانع ومدارس ومزارع وصوامع، بل وتباد حضارات بأكملها على يدي هذا الإنسان الذي اخترع بنفسه وبيديه وسائل إبادته ووسائل إفنائه، ووسائل تدميره ووسائل إنهائه من هذه الحياة ومن هذا الوجود.(96/8)
الرجوع إلى منهج الله هو المخرج من حياة الضنك والحرمان
إنه الضنك بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] نتيجة عادلة وجزاء عادل، نعم أحبتي في الله! احفظوا هذه العبارات وانقلوها ورددوها: إن هذه الحياة البشرية من صنع الله الذي أتقن كل شيء، ولا غضاضة أن أقول من صنع، بدلاً من أن أقول: خلق، كما قال ربنا جل وعلا: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88].
إن هذه الحياة البشرية من صنع الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي سيقدم إليها من يد الله.
أكرر: إن هذه الحياة البشرية من صنع الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي سيقدم إليها من يد الله، وإن هذه الحياة البشرية بكل ما تملك من حضارات ووسائل تقنية حديثة، لتبدو تافهة القيمة مبتورة الهدف معدومة النفع إن لم تكن مرتبطة بمرشدها الأول وقدوسها الأجل الأعظم.
لا بد من عودة العالم إلى الله جل وعلا، وسيظل العالم كله بصفة عامة والإسلامي منه بصفة خاصة يمشي في هذه الهاجرة، ويلفح وجهه هذا الحر القاتل، وسيظل يمشي في هذا التيه والضلال، وسيظل يمشي ويمر بهذا القلق والضنك والضيق والذعر ما لم يرجع إلى منهج الله جل وعلا مرة أخرى من جديد.(96/9)
الإسلام قول وعمل وخلق
إن العالم الإسلامي فضلاً عن العالم الغربي والشرقي قد عاند منهج الله عز وجل، وأعرض عن ذكر الله عز وجل إلا من رحم الله تبارك وتعالى، فأين قرآن الله جل وعلا؟! أين: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]؟! أين القرآن في معاملاتنا الاقتصادية، وفي أحكامنا وفي بيوتنا وفي مصانعنا وفي مزارعنا؟! أين أخلاق الإسلام؟! والله لقد اتصلت عليَّ أخت كريمة فاضلة من مدينة رابغ، وهي تبكي في المكالمة وتصرخ وتتألم لما رأته من أحوال المسلمين في الحج، وتقول لي: والله يا شيخ! ونحن نطوف، كانت معنا أخت لنا وجاءتها حالة غيبوبة وحالة إغماء، وجعلنا نبحث عن قطرة ماء فلا نجد؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن نترك هذا الزحام الهالك القاتل أثناء الطواف، معذرة! ليس طوافاً ولكنه قتال، ولكنه نزال، ولكنه صراع، ولكن القوي يريد أن يدمر الضعيف، ولكن الرجل لا يراعي للمرأة حرمة ولا يراعي لها نقاباً ولا حجاباً! المرأة التي صرخت يوم أن نزعت ثيابها وكشفت عورتها ماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة جيوشاً جرارة أجلت اليهود من المدينة، ولكن المسلمة في بيت الله نزع نقابها ونزع حجابها على أيدي يهود؟! على أيدي منافقين؟! كلا، وإنما على أيدي إخوانها من المسلمين وإنا لله وإنا إليه راجعون! تقول: ونظرنا فوجدنا امرأة في الطواف تحمل إبريقاً من الماء البارد وحمدنا الله عز وجل أن كان الماء قريباً منا، وذهبنا وقلنا: نريد قليلاً من الماء، أختك تموت، تقول: والله أبت هذه المسلمة أن تعطينا قطرة ماء! عند بيت الله يا عباد الله! حول بيت الله! أعاد الله أياماً مرت فيها جرعة الماء على الأطهار الأبرار الأخيار فكان كل واحد يؤثر أخاه على نفسه، ومرت جرعة الماء على الجميع حتى عادت مرة أخرى إلى الأول، وكان الكل قد سعد بشهادة وبجنة عرضها السماوات والأرض، أين نحن من هؤلاء؟! أين الإسلام؟! أين أخلاق الإسلام؟ هل الإسلام كلمة؟! الإسلام خلق، الإسلام واقع، الإسلام تعامل، الدين المعاملة، أين إسلامنا العظيم؟! أين الرحمة؟! أين الحب؟! أين السماحة؟! أين الود؟! أين القرب؟! أين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؟ أين قوله عليه الصلاة والسلام: (الرحماء يرحمهم الرحمن)؟ أين قوله عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد)؟ أين هو الجسد الواحد، بل إن المسلم أصبح ينهش في هذا الجسد، ولو استطاع أن يأكله لأكله، بل ووالله إنا لنأكله في الليل والنهار وهو ميت، كما قال ربنا جل وعلا: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].(96/10)
نماذج الأمن والأمان في ظل الإسلام
الإسلام واقع، ومنهج حياة، سيظل العالم الإسلامي يعيش في هذا القلق والضنك بعيداً عن منهج الله جل وعلا، وإن أراد السعادة والريادة والسيادة والقيادة، فليرجع إلى أصل عزه ومصدر شرفه وكرامته ألا وهو: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
إنه الذل لله، والحب لله، والانقياد لمنهج الله، وشرع ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(96/11)
تقاضي علي رضي الله عنه مع اليهودي على الدرع
نعم أيها الأحبة! لقد حقق منهج الله في الأرض الأمن والأمان والسعة والرخاء، والطمأنينة القلبية والسعادة النفسية وانشراح الصدور، لا أقول هذا رجماً بالغيب، ولكنه واقع، ولكنه تاريخ مفتوحة صفحاته لكل من أراد أن يقرأ وأن يتعرف على الحقائق، أقول بملء فمي: لقد حقق منهج الله في الأرض الأمن والأمان، نعم لقد تحقق الأمن والأمان، لا أقول للمسلمين الذين نفذوا منهج الله فحسب، بل للمسلمين ولليهود والنصارى الذين عاشوا تحت ظلال منهج الله في أي بقعة من أرض الله جل وعلا.
إن ذلكم اليهودي -وكلكم يعلم القصة، وغيرها كثير وكثير- اليهودي الذي سرق درع علي، وعلي حينئذ كان خليفة المسلمين وأميراً للمؤمنين، ولما رأى علي درعه عند اليهودي قال: هذا درعي، لا أتركك.
فقال اليهودي: بل هو درعي.
أتدرون ماذا حدث؟ مَثَلَ علي أمير المؤمنين وخليفة المسلمين مع اليهودي أمام قاضي المسلمين، وقفا في ساحة القضاء أمام شريح رحمه الله رحمة واسعة الذي ضرب بعدله المثل، ولما دخل علي مع اليهودي أمام شريح، فنادى شريح على علي قائلاً: يا أبا الحسن! فغضب علي، فظن شريح سوءًا، قال: ما الذي أغضبك، فقال علي -الذي غضب للعدل والحق- قال: يا شريح! أما وقد كنيتني -أي: ناديت عليَّ بكنيتي وقلت: يا أبا الحسن - فلقد كان من واجبك أن تكني اليهودي هو الآخر، أي: فإما أن تكنيني أنا وخصمي أو تدع.
ما هذا الخلق وما هذا الدين العظيم؟! ومَثَلَ علي واليهودي أمام شريح، فنظر شريح إلى علي وقال: يا علي ما قضيتك؟ قال: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، أي: لم أهب له هذا الدرع ولم أبعه، فنظر شريح إلى اليهودي قال: ما تقول في كلام علي؟! فقال اليهودي: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب! خبث ودهاء معهودان: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب، فنظر شريح إلى علي وقال: هل عندك من بينة؟ يقول هذا، لـ علي وهو أمير المؤمنين، هل عندك من بينة؟ فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، قاعدة شرعية عظيمة أول من وضعها أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم.
قال شريح لـ علي: هل عندك من بينة؟ قال: لا، وكان شريح رائعاً بقدر ما كان أمير المؤمنين عظيماً، وقضى شريح بالدرع لليهودي.
وأخذ اليهودي الدرع وخرج، ومضى غير قليل، ثم عاد مرة أخرى ليقف أمام علي وأمام القاضي وهو يقول: ما هذا! أمير المؤمنين يقف معي خصماً أمام قاض من قضاة المسلمين ويحكم القاضي بالدرع لي! والله ليست هذه أخلاق بشر، إنما هي أخلاق أنبياء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وقال اليهودي: يا أمير المؤمنين! الدرع درعك ولقد سقطت منك فأخذتها، فنظر إليه علي مبتسماً وقال: أما وقد شرح الله صدرك للإسلام فالدرع مني هدية لك! هذا الأمن والأمان لمن؟ لأبناء يهود، تحت ظلال الإسلام الوارفة.(96/12)
قصاص القبطي من ابن الأكرمين
ذاك يهودي، وهذا نصراني قبطي سبق ابن عمرو بن العاص في مصر، وغضب ابن والي مصر كيف يسبقه القبطي؟! وجاء بعصا وضرب هذا القبطي في رأسه وقال: خذها وأنا ابن الأكرمين! وما كان من هذا القبطي الذي عرف عظمة الإسلام إلا أن يسابق الريح إلى واحة العدل، إلى المدينة المنورة زادها الله تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، إلى أمير المؤمنين، إلى فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويرفع له الشكوى.
فما كان من عمر إلا أن يرسل فوراً بأن يأتي ابن عمرو وأبوه عمرو؛ لأن ابنه ما تجرأ على فعلته إلا لوجود أبيه.
ويأتي عمرو بن العاص والي مصر مع ولده، فيقفان أمام أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، ويقف القبطي ويدفع عمر العصا للقبطي ويقول له: اضرب ابن الأكرمين! هذا إسلامنا، هذا هو العدل في ديننا، هذه عظمة دين محمد صلى الله عليه وسلم! ويأخذ القبطي العصا ويضرب رأس ولد عمرو، ويقول عمر قولته الخالدة التي لا تكتب بماء الذهب فحسب، وإنما تكتب بماء من النور: يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً! لله ما أورعه وما أتقاه وما أنقاه، ولله ما أعظم إسلامنا! يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! ذاك يهودي وهذا قبطي! ويوم أن فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الشام وفرض عليهم الجزية شريطة أن يدافع عنهم وأن يحميهم من شر الروم على أيدي هرقل، ويوم أن سمع أبو عبيدة رضي الله عنه بأن هرقل قد جهز له جيشاً جراراً، خاف ألا يستطيع أن يدافع عن هؤلاء الذين أخذ منهم الجزية، فرد عليهم الجزية مرة أخرى وقال: لقد سمعتم بـ هرقل وأنه قد جهز لنا جيشاً، ونخشى ألا نتمكن من الدفاع عنكم فخذوا جزيتكم، وإن نصرنا الله عليهم عاودنا الحماية والدفاع عنكم مرة أخرى.
أي دين هذا! هذا منهج الله يحقق الأمن والأمان في أرض الله، لا للمسلمين فحسب، وإنما لليهود وللنصارى الذين عاشوا في ظلاله الوارفة اليانعة! نريد أن تتضح الحقائق لهؤلاء الذين يخافون من دين الله عز وجل الذي وفر لهم الأمن والأمان أكثر مما وفرته لهم دياناتهم وقوانينهم ومواثيقهم.(96/13)
منهج الله يحقق الرخاء الاقتصادي
ومنهج الله قد حقق الرخاء الاقتصادي، أجل والله لقد جاء اليوم الذي أرسل فيه أمير من أمراء المؤمنين وخليفة من خلفاء المسلمين منادياً ينادي في الناس: من كان فقيراً فحاجته من بيت مال المسلمين.
فأغنى الفقراء، وظلت البركة في بيت المال، وأعاد الله زماناً كانت حبة القمح فيه بمقدار نواة التمرة، وكتب عليها: هذا يوم أن كانت بركة الله في الأرض، كما قال عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند، حبة القمح بمقدار نواة التمرة يوم أن كانت البركة في الأرض.
ونادى المنادي مرة أخرى: من كان عليه دين فسداد دينه من بيت مال المسلمين.
وسددت الديون، وبقيت البركة باركة في بيت المال.
ونادي المنادي مرة ثالثة: يا معشر الشباب! من أراد منكم الزواج فزواجه من بيت مال المسلمين.
فزوج الشباب، وحقق منهج الله الرخاء في الأرض.
ألسنا على يقين من قول الله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، ألسنا على يقين من قول الله جل وعلا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10]، ذلك وعد الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فيا أيها الأحبة: لا سعادة ولا فلاح إلا بالعودة إلى منهج الله كما أراد الله وكما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة كبيرة ذات أعباء، ومسئولية عظمى ذات مقتضيات، ورحم الله الحسن حيث قال: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.
إننا في أمس الحاجة إلى أن نحول إسلامنا إلى عمل وإلى واقع، أذكر نفسي وإياكم بذلك، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عاصياً إلا هديته.(96/14)
الزواج العرفي
الزواج العرفي قضية خطيرة، انتشرت في المجتمعات الإسلامية انتشار النار في الهشيم، وقد بين العلماء صورته وحكمه وأضراره، وأسباب انتشاره وعلاجه، فينبغي على الدعاة تحذير الناس منه، وتبيين آثاره السيئة، ومفاسده الكبيرة.(97/1)
الزواج آية ربانية وسنة نبوية ومملكة إيمانية
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الزواج العرفي: هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذه الليلة الكريمة الطيبة، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الخطير في العناصر التالية: أولاً: الزواج آية ربانية، وسنة نبوية، ومملكة إيمانية.
ثانياً: الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً.
ثالثاً: الضحايا يعترفون، والمأساة مروعة!! رابعاً: هذه هي الأسباب، وهذا هو العلاج.
وأخيراً: فهل من توبة؟!! فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء من الأهمية والخطورة بمكان.
والله أسأل أن يجعلنا ممن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أولاً: الزواج آية ربانية، وسنة نبوية، ومملكة إيمانية: أحبتي في الله! إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها، وإنما ينظمها ويطهرها ويرفعها عن المستوى الحيواني والبهيمي، ويرقيها إلى المستوى الإنساني الطاهر، الذي يليق بالإنسان الذي كرمه الله جل وعلا كما في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].
من أجل ذلك، فإنه يقيم العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من المشاعر النبيلة الراقية الرقيقة الطاهرة النظيفة، والتي تنبني على السكن النفسي والبدني والمودة والرحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
فالزواج آية ربانية، وسنة نبوية، وفطرة إنسانية، وضرورة اجتماعية، وسكن للغريزة الجسدية، أما بيت الزوجية فمملكة كريمة إيمانية، الزوج ملكها وربانها، والمسير لشئونها وأمورها، بما جعل الله له من قوامة في قوله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، والزوجة ملكة متوجة هي الأخرى في هذه المملكة الإيمانية؛ لأنها شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، والرعية في هذه المملكة بين هذين الملكين الكريمين، هم ثمرة الفؤاد ولب الكبد وزهرة الحياة الدنيا هم الأولاد، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46].
هذه المملكة الإيمانية إن ظلل سماءها منهج رب البرية وسيد البشرية، وروي نبتها بماء المودة والرحمة الندية؛ آتت ثمارها كل صبح وعشية، وأينعت فيها زهرات الحب والوفاء والأخلاق العلية.(97/2)
الزواج يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها
هذا الزواج الشرعي -أيها المسلمون- هو السبيل الوحيد الذي يحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها، وللأولاد مكانتهم وحقوقهم في المجتمع؛ لأن الزوج مسئول عنهم مسئولية كاملة في الدنيا والآخرة؛ لقوله الله عز وجل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7]، ولقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر -: (كلكم راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته).
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله -: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، -ثم قال صلى الله عليه وسلم-: ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).
هذا الزواج الذي يباركه الله جل وعلا، ويمضيه شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشهده المجتمع الإسلامي ويفرح به؛ هو الذي عرفه المسلمون منذ بداية الوحي إلي أن صرنا إلى هذا الزمان، زمان الفتن، فتن الشهوات والشبهات، ذلكم الزمان الذي ضاعت فيه المقاييس الصحيحة للحلال والحرام!! وتجرأ فيه كثير من الناس على محارم الله جل وعلا!! فرأينا فيه ظاهرة جديدة وخطيرة تنتشر الآن في مجتمعات المسلمين انتشار النار في الهشيم، وقع فيها كثير من الشباب والفتيات، إما جهلاً بالدين وإما جرأة على الدين، تلك الظاهرة التي تسمى بـ (الزواج العرفي) هي عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء المهم.(97/3)
الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً
الزواج العرفي باطل شرعاً وعرفاً، ونظراً لخطورة هذا العنصر فاسمحوا لي أن أركز فيه الحديث مع حضراتكم في المحاور التالية: أولاً: صورة الزواج العرفي القائم.
ثانياً: بطلانه عرفاً.
ثالثاً: بطلانه شرعاً.(97/4)
صورة الزواج العرفي
أولاً: صورة الزواج العرفي القائم الآن: تتلخص في التقاء الرجال بالنساء أو الشباب بالفتيات في العمل أو في المدارس أو الجامعات في اختلاط رهيب مدمر، فيترصد الشاب لفتاة مستهترة!! يعرفها الشباب جيداً، فهي تعلن عن نفسها بصراحة ووضوح من خلال ثوبها العاري أو الضيق الذي يظهر كل مخبوء من مفاتنها، ومن خلال شعرها المكشوف، وعطرها الأخاذ، وصوتها المؤثر، وحركاتها المثيرة، فيترصد الشاب لها، ويلهب مشاعرها بوابل من كلمات الحب والعشق والغرام التي حفظها من كتب الأدب المكشوف، والمسلسلات والأفلام، ويقسم لها أنه يحبها حباً قد أحرق فؤاده، وأنه مصر على أن يتزوج بها، ولكن ظروفه لا تسمح الآن!! ومن هنا يحاول إقناعها بالزواج في السر بغير ولي -أي: بدون علم والد الفتاة- وبغير إشهار، ولا إعلان، ولا مهر، ولا نفقة، ولا مسكن، وليكمل فصول خديعته الكبرى يأتي بورقة، ويشهد عليها زميلين من زملائه المقربين ممن يعرفون علاقاته المحرمة والمشبوهة؛ ليكون هو الآخر بدوره شاهداً لواحد منهم على عقد عرفي باطل جديد، هذه هي الصورة المشئومة للزواج العرفي المزعوم، التي نراها الآن في مجتمعات المسلمين.(97/5)
بطلان الزواج العرفي عرفاً
هل يقر عرف الناس هذا الزنا؟!
الجواب
لا ورب الكعبة، بل العرف يبطله، وهذا هو المحور الثاني، فالعرف عند علماء الأصول: هو ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملاتهم، وقد يكون هذا العرف معتبراً شرعاً، وقد لا يكون معتبراً شرعاً، بمعنى: أن الشرع المطهر قد يقر عرفاً، وقد يبطل عرفاً آخر، ومن ثم فالعرف المعتبر شرعاً: هو الذي لا يخالف نصاً شرعياً أو قاعدة من قواعد الشريعة.
وعلى هذا التأصيل، فإن الناس لم يعرفوا أبداً هذا الزواج العرفي المزعوم، ولم يعتادوا في تزويجهم لأبنائهم وبناتهم على هذه الصورة الخبيثة، والعلاقة المحرمة التي تتم في السرية والظلام والخفاء، والتي تقوم على النفاق والغش والخداع والخيانة بين شاب وفتاة، بين شاب مستهتر خان أهله ومجتمعه بعد أن خان الله ورسوله، وفتاة مستهترة خانت أهلها ومجتمعها بعد أن خانت الله ورسوله، وإن توهم أحدهم وخادع نفسه، وظن أنه متزوج بالحلال، وأن ذلك هو عرف الناس اليوم، فأنا أسأله وأرجو أن يصدق في الجواب: لماذا أخفيت هذا الزواج عن أقرب الناس إليك إن كنت تعلم أنه زواج شرعي صحيح؟ لماذا أخفيته عن أهلك الذين لا زالوا ينتظرون اللحظة التي ستتخرج فيها من الجامعة؛ ليفرحوا بك وأنت مع زوجتك في الحلال الطيب؟ ثم ألا تشعر بالخيانة والنفاق والخداع وأنت تأخذ المصروف في الصباح من والدك، وتذهب بعد ذلك من الجامعة إلى شقة مفروشة أو إلى غرفة مظلمة لتزني بفتاة بدعوى الزواج؟! ثم لماذا تتلصص وتبحث عن مكان خفي لا يراك فيه أحد من الناس لتقضي وقتاً في الرذيلة والحرام مع فتاة تدعي أنها زوجتك؟ ثم هل تقبل أن يأخذ شاب من زملائك في الجامعة أختك أنت إلى نفس الشقة المفروشة ليزني بها بدعوى أنها زوجته؟ ثم هل تقبل بعد ذلك أن تخرج ابنتك إلى الجامعة؛ لترجع إليك بحمل في بطنها بدعوى أنها متزوجة، وأنت لا تعلم عن هذا الأمر شيئاً؟! أخي! أجبني بصدق وتذكر قول القائل: يا هاتكاً حرم الرجال وتابعاً طرق الفساد فأنت غير مكرم من يزني في قوم بألفي درهم في قومه يزنى بربع الدرهم إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم ثم لا تنسى أبداً قول الله تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15]، وردد كثيراً قول الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وأنت أيتها الفتاة الجريئة! يا من وضعت رأس والدك في الوحل والطين والتراب إلى الأبد، يا من وضعت شرف العائلة بأسرها في الوحل والطين والتراب إلى الأبد، يا من ضيعت أطهر وأشرف وأغلى ما تعتز به كل فتاة طاهرة شريفة، يا من دنست طهرك بأوحال الرذيلة والعار؛ لا تخدعي نفسك بأنك متزوجة في الحلال الطيب، وإن كنت لا زلت تتوهمين وتظنين ذلك، وتدعين أنك أيضاً متزوجة في الحلال، وأن هذا هو عرف الناس اليوم؛ فأنا أسألك وأرجو أن تصدقي في الجواب: هل يعقل أن تتزوج فتاة طاهرة شريفة في السر والظلام بدون علم والدها المسكين، وبدون علم أمها التي سهرت وربت، بل وهي لا زالت إلى الآن تتضرع إلى الله أن يرزقك بالزوج الصالح، وهي مسكينة لا تدري أنك متزوجة؟! ثم ألا تشعرين بالخيانة والنفاق والخداع وأنت ذاهبة في الصباح إلى الجامعة أمام الأهل والأسرة، ومنها إلى شقة مفروشة أو غرفة مظلمة بين أحضان شاب في الحرام؟ يا للعار!!! يا للخيانة!!! يا للخداع!!! وبعد ذلك تكذبين وتزعمين وتتوهمين أن هذا هو عرف الناس اليوم!!! لا والله، بل العرف يبطله، بل وكذلك شرع الله يبطله، وهذا هو المحور الثالث.(97/6)
بطلان الزواج العرفي شرعاً
أيها المسلمون! أيها الشباب! أيتها الفتيات! إن الزواج في الإسلام ميثاق غليظ له قدسيته ومكانته، وله أركانه وشروطه، ولا يحل للزوجين أن يستمتع كل منهما بالآخر إلا على الوجه الذي شرعه الله عز وجل، إلا بالقبول والإيجاب والولي والشهود والإعلان والمهر.
أما القبول والإيجاب: فهما ركنان عظيمان، وهي صيغة العقد المعروفة، ومذهب جمهور العلماء أنه ينعقد بكل لفظ يدل عليه.
أما الولي: فهو شرط لا يصح العقد إلا به بنص القرآن والسنة في أيِّ أرض وتحت أيِّ سماء، ولأي ظرف من الظروف، قال الله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، والعضل: هو المنع والتضييق والتعسير، قال الإمام الشافعي: وهذا أبين ما في القرآن على أنه لا نكاح إلا بولي، وبهذا قال جمهور المفسرين، وستعجبون إذا علمتم سبب نزول هذه الآية، فلقد نزلت في معقل بن يسار رضي الله عنه الذي زوج أخته لرجل، وأحسن إليه وأكرمه، ولكن الرجل طلق أخت معقل بعد فترة من الفترات، فلما انقضت عدتها عاد الرجل مرة أخرى إلى معقل بن يسار ليرد المرأة، فقال له معقل بن يسار: زوجتك وأكرمتك فطلقتها! ثم جئت تخطبها، لا والله لا تعود إليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله عز وجل قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، فلما قرأ الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم على معقل بن يسار قال: (الآن أفعل يا رسول الله) وفي لفظ: (سمعاً وطاعة) فزوجها إياه، وأعادها إليه بعقد جديد.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المرأة لا تزوج نفسها حتى ولو كانت ثيباً لهذه الآية؛ لأن أخت معقل بن يسار لم تكن بكراً وإنما كانت ثيباً، والآية الكريمة نص صريح لا تأويل فيه.
وقال الله عز وجل: {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25]، ذهب جمهور المفسرين إلى أن المرأة لا تزوج نفسها ولا غيرها؛ لقوله تعالى: (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ)، وقال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] هذا خطاب من الله لأولياء المرأة، وترجم الإمام البخاري بهذه الآية باباً بعنوان: لا نكاح إلا بولي.
وقال تعالى: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، وهذه الآية قد استدل بها أيضاً جمهور المفسرين على أن المرأة لا تزوج نفسها؛ لأنه خطاب من الله عز وجل لأولياء المرأة.
وتأتي السنة النبوية المطهرة بعد كتاب الله عز وجل لتؤكد تأكيداً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض ولا تأويل بطلان الزواج الذي يتم بدون الولي، في أيِّ أرض وتحت أيِّ سماء، ولأيِّ ظرف من الظروف، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبغوي والبيهقي والطبراني والحاكم عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) تدبروا قول الحبيب النبي: (لا نكاح إلا بولي)، وفي رواية: (لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له)، وفي الحديث الصحيح الصريح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارقطني والبيهقي والبغوي والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).
ماذا تريدون أيها المسلمون بعد ذلك؟! ماذا تريدون أيها الشباب وأيتها الفتيات من أدلة صحيحة صريحة بعد ذلك على بطلان هذا الزواج العرفي المزعوم المشئوم، الذي لا يعلم عنه ولي البنت شيئاً على الإطلاق؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: الزانية هي التي تزوج نفسها.
وقال ابن عباس: البغي هي التي تزوج نفسها، وحكى ابن المنذر إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث ابن عباس: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وأذنها سكوتها) فالمراد عند جمهور أهل العلم: أن الولي لا يجوز له أن يزوج الثيب إلا بأمرها ورضاها، فإن زوجها وليها بغير أمرها ورضاها فالنكاح مفسوخ، كما في حديث خنساء بنت خزام الذي رواه البخاري وأحمد: (فقد زوجها أبوها وهي امرأة ثيب فكرهت ذلك، فاشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي نكاحه).(97/7)
عدم جواز رد الأدلة الصريحة لقول أبي حنيفة رحمه الله
لا يجوز -يا مسلمون- لأيِّ منصف على وجه الأرض بعد هذه الأدلة الناصعة من القرآن والأحاديث الصحيحة الصريحة من سنة النبي عليه الصلاة والسلام أن يحتج علينا بقول لـ أبي حنيفة رحمه الله أجاز فيه النكاح بدون ولي محتجاً بالقياس على البيع، بمعنى: أن المرأة تستقل ببيع سلعتها ومن ثم فلها أن تزوج نفسها! هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه قياس مع وجود نص، والقاعدة الأصولية تقول: لا قياس مع النص، هذا باتفاق علماء الأصول، والذي أدين به تبجيلاً مني لـ أبي حنيفة رحمه الله: أن الدليل الصريح في هذه المسألة لم يبلغه، وهذا لا يقدح في علم أبي حنيفة فإن من الصحابة رضي الله عنهم من لم يبلغه الدليل في كثير من المسائل، بل وأنا أكاد أجزم أن أبا حنيفة لو بلغه الدليل في هذه المسألة -أي: الدليل الصريح- لقال به، ولم لا! وأبو حنيفة رحمه الله هو القائل: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلنا؟ وستعجبون إذا علمتم أن الإمام الطحاوي رحمه الله قد ذكر في شرح معاني الآثار: أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن -وهما أتبع الناس لـ أبي حنيفة، وأعلمهم بقوله- خالفا أبا حنيفة في هذه المسألة، بل وفي كثير من المسائل الأخرى وقالا: لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها إلا بإذن وليها، فهل يجوز بعد ذلك لمسلمة أو مسلم أن يقدم قول أبي حنيفة على قول الله جل وعلا أو على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(97/8)
شروط عقد الزواج
يا أيها الشباب! ويا أيتها الفتيات! اعلموا بأن أي زواج بغير إذن الولي فهو زواج باطل باطل باطل وإن سجل في أوراق عادية، بل ولو سجل في وثيقة زواج رسمية، وأكرر أقول: إن أي زواج بغير إذن الولي فهو زواج باطل وإن سجل في ورقة كراسة عادية، بل وإن سجل في وثيقة زواج رسمية عند مأذون.
واعلموا أن أيَّ زواج يباركه الولي، ويأذن به ويعقده بنفسه، ويشهد عليه الشهود، ويعلن، ويفرح به المجتمع الإسلامي؛ فهو زواج شرعي صحيح، وإن لم يسجل أو يوثق في وثيقة رسمية عند مأذون، فهذه الوثيقة من باب المصالح المرسلة لضمان حقوق النساء في زمان خربت فيه الذمم، وقل فيه أهل الأمانة.
إذاً: كل زواج يتم بدون إذن الولي فهو زواج باطل بنص القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الشرط الأول الشرط الثاني من شروط العقد: الإعلان والإشهار: فلقد أوجب الإسلام إعلان الزواج وإشهاره، فالإسلام لا يعرف ولا يعترف بالزواج في السر أبداً، ففي الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان والبيهقي والطبراني بسند حسن من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعلنوا النكاح)، وفي رواية للطبراني بسند حسن بشواهده من حديث يزيد بن السائب: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: هل يرخص لنا في اللهو عند العرس؟ قال: نعم، إنه نكاح لا سفاح إنه نكاح لا سفاح، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أشيدوا النكاح) أي: أعلنوه وأظهروه ولا تسروه.
الشرط الثالث من شروط العقد: المهر، فالمهر واجب على الرجل، وهو حق كامل للمرأة، قال الله جل وعلا: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4]، وقد حث الإسلام على التخفيف وعلى التيسير في المهر، بل وستعجبون إذا علمتم أن النبي صلى الله عليه سلم قد زوج رجلاً بامرأة بما يحفظه من كتاب الله تعالى، والحديث في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! لقد وهبت نفسي لك)، وأود أن أبين أيضاً: أن الوهب أمر خاص بالنبي، فلا يجوز لامرأة على وجه الأرض أن تهب نفسها لرجل أياً كان، هذا أمر خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام: (فلما لم يخطبها النبي لنفسه قال رجل من الصحابة: زوجنيها -يا رسول الله- إن لم يكن لك بها حاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فهل معك من شيء تصدقها إياه؟ يعني: تقدمه لها مهراً، قال: لا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فعاد الرجل وقال: يا رسول الله! لا أملك إلا إزاري، فقال له النبي: لو أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، اذهب فالتمس شيئاً قال: لا أجد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل تحفظ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم، أحفظ سورة كذا وسورة كذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن).
الشرط الرابع: الشهود، ففي الحديث الذي رواه ابن حبان والبيهقي والدارقطني وصححه الألباني في إرواء الغليل من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين)، وفي رواية عمران بن حصين التي صححها الألباني بشواهدها في إرواء الغليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) والشاهد العدل باتفاق علماء الأصول يشترط فيه: الإسلام، والبلوغ، والعقل، وعدم الفسق، هذه صفات مجمع عليها عند علماء الأصول في الشاهد العدل.
والله لقد أرسلت إلي فتاة جامعية رسالة سطرتها بدموع الندم يوم لا ينفع الندم تقول: إن زميلها في الجامعة قد خدعها بهذا الزواج العرفي المزعوم، وكانت تلتقي معه في شقة مفروشة حتى فوجئت يوماً بأنها حامل، ففزعت وأسرعت إليه لتتوسل بين يديه أن يتقدم لأهلها ليتزوجها زواجاً صحيحاً، فتنكر لها ومزق الورقة بين يديها وقال لها: ومن يدريني أنه ولدي؟! ولا تعجبوا! فلقد نشرت جريدة الأهرام الرسمية في ملحقها خبراً خطيراً بالبند العريض يقول: اثنا عشر ألف طفل ثمرة الزواج العرفي لا يعرفون آباءهم، إنها كارثة حين يتنكر الشاب للفتاة بعد أن يخدعها.
تقول: وكانت الكارثة الأخرى، والصدمة العنيفة، أن أتى إليها شاب من الشابين اللذين شهدا على العقد العرفي الباطل، وطلب أن يزني بها، فلما رفضت هددها بأنه سيفضحها بزواجها العرفي، وتسألني وتقول: هل تمكنه من نفسها ليزني بها؛ حتى لا تفضح نفسها في الجامعة أو بين أسرتها؟ وكثير من هؤلاء يذهبن بعد ذلك إلى طبيب لا يتقي الله -عز وجل- ليعيد إليها غشاء البكارة مرة أخرى، وهي تظن أنها خدعت بذلك المجتمع، خدعت أسرتها وخدعت زوجها الذي سيتقدم إليها بعد ذلك في الحلال الطيب، ولكن أين ستذهب من الله عز وجل الذي يسمع ويرى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟! هؤلاء -يا مسلمون- هم الشهود العدول الذين يشهدون اليوم لبعضهم البعض على ورقة الزواج العرفي المزعوم المشئوم الباطل! أيها المسلمون! أيها المسئولون! أيها الشباب! أيتها الفتيات المسلمات! هل يستطيع مخلوق بعد ذلك أن يزعم أن هذا الذي نراه الآن زواج شرعي؟ لا والله، إنها حيلة باطلة حقيرة، وعلاقة محرمة خبيثة لا يقرها الشرع، ولا يقرها العرف.
والذي يدمي القلب أنهم يتمسحون بالدين، فيلبسون الباطل ثوب الحق، ويلبسون الحرام ثوب الحلال، ويلبسون الزنا ثوب الزواج، وهذا والله لا يمكن أن يكون أبداً حتى ولو تغيرت الأسماء، فالعبرة بالمسميات والحقائق لا بالأسماء والأشكال، فلو سميت الخمر بالشمبانيا أو الكنياك أو البرانزي أو الوسكي فالمسمى واحد، وهو الخمر الحرام، ولو سمي الربا بالفائدة أو العائد أو المعاملة، فهذا لا يخرج الربا عن كونه رباً حرمه الله عز وجل.
فالزواج العرفي المزعوم ظاهر البطلان، وعيش في الحرام، وصورته الزنا، فهو نكاح السر، ونكاح البغايا، وهو زواج نفاق لا يباركه الرحمن، بل يباركه الشيطان، ولا أظن أن مسلماً على وجه الأرض يرضاه لأمه أو لأخته أو لابنته أو حتى لابنه؛ لأنه خروج عن الدين والأخلاق والفطرة السليمة، بل هو مكر وخداع وخيانة واستهزاء ولعب بشريعة الله المحكمة، وتحليل للمحرمات، وانتهاك للأعراض والحرمات يأباه رب الأرض والسموات، بل إن الواقع المر الأليم الآن ليؤكد تأكيداً جازماً أن المأساة مروعة، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.(97/9)
الضحايا يعترفون والمأساة مروعة
ثالثاً: الضحايا يعترفون والمأساة مروعة!! وسأكتفي بذكر ثلاث حالات فقط لنقف على خطورة المأساة.
فهذه فتاة جامعية تقول: شكلت أنا وزميلي ثناء عاطفياً كان محل أنظار الجميع، وفي السنة الرابعة قررنا أن نتزوج زواجاً عرفياً مزعوماً لنضع الأسرتين أمام الأمر الواقع!! تقول: وبالفعل كنا نلتقي في شقة أسرتي أثناء غيابهم أو في شقة زميل من زملائه سافر أهله إلى الخارج، تقول: ويوم أن ظهرت النتيجة اتصلنا بالأسرتين لنخبر الأسرتين معاً بخبر نجاحنا، تقول: فاتصلت بأمي، وأعطيتها بعد ذلك هذا الزوج المزعوم ليخبرها بخبر زواج ابنتها أي: بهذا الزواج العرفي، فلما اتصل الفتى على أم هذه الفتاة وأخبرها الخبر صرخت صرخة عالية، تقول البنت: سمعتها وأنا إلى جواره في التلفون، وأسرع الوالد إلى هذه الأم المسكينة ليتعرف على الخبر، فلما أخبرته بأن ابنته متزوجة أي: زواجاً عرفياً وهو لا يعلم، وأمها لا تعلم، سقط الوالد على الأرض، وحملوه إلى المستشفى في التو واللحظة، وفي غرفة العناية المركزة قال الطبيب: لقد أصيب هذا الرجل المسكين بجلطة في المخ تسببت في شلل نصفي، هذه ثمرة مرة من ثمار الزواج العرفي المشئوم المزعوم الباطل.
وهذه مضيفة جوية قتلت وأحرقت جثتها بسبب الزواج العرفي المزعوم، ونشرت الجريمة تحت عنوان: الطيار قاتل المضيفة يعترف ويقول: هددتني بإعلان زواجنا، فقتلتها بالسكين في شقتها، ثم أحرقت جثتها بعد ذلك.
وهذه حالة ثالثة: زوج أراد أن يتزوج على امرأته، لكنه خاف من زوجته ومن المجتمع الظالم الذي انقلبت فيه الموازين، وراح المجتمع ينظر إلى التعدد الحلال الذي شرعه الله على أنه جريمة وفضيحة، فتزوج في السر بهذا العقد العرفي الباطل، واستطاع لسنوات طويلة أن يخفي أمر زواجه العرفي عن أسرته الأولى، بل وعن المجتمع، فلقد تزوج المرأة الثانية بالعقد العرفي في بلد بعيد عن بلده الذي يسكن فيه مع أسرته الأولى حتى لا يفتضح أمر زواجه العرفي، ورزقه الله من زوجته الأولى بالأولاد، ورزق من المرأة الثانية أيضاً بالأولاد، ويقدر الله عز وجل أن يدخل ولده من زوجته الأولى إلى الجامعة، وأن تدخل البنت من المرأة الثانية إلى الجامعة، ويقدر الله أن يلتقي الشاب بالفتاة، ويحب كل منهما الآخر، فقررا الزواج العرفي، وسبحان الله! علم كل واحد منهما التطابق الكامل في الاسمين، ومع ذلك قال أحدهما للآخر: هذا من يمن القدر حتى الأسماء متطابقة إلى هذا الحد! وفي يوم من الأيام تقول الفتاة: شعرت بالحمل في أحشائي، وذهبت إلى هذا الشاب لتصرخ بين يديه ليتقدم إلى أهلها ليطلبها رسمياً، وحددت له موعداً، وفي اليوم المحدد، أتى هذا الشاب إلى أسرة هذه الفتاة ليطلبها، وكانت المفاجأة، وكانت الصدمة الحادة العنيفة، وهو يطرق الباب، والباب يفتح، من الذي يفتح الباب؟! إنه أبوه، ما الذي جاء به إلى هنا؟! فلما ظهرت الحقيقة، وعرف الشاب الخطر، ألقى بنفسه منتحراً، ولما علم الوالد الحقيقة سقط على الأرض وأصيب بأزمة قلبية، ولما علمت الفتاة الخبر أصيبت بحالة من الذهول، وفقدت النطق، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126].
هذه ثمرة مرة للإعراض عن شرع الله، وللبعد عن منهج الله جل وعلا.
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه: أليست هذه الظاهرة الخطيرة بكل ما تحمله من مآس مروعة نتيجة مؤكدة وطبيعة لأسباب محددة؟ والجواب بملء الفم وأعلى الصوت: نعم نعم.
فما هي أهم هذه الأسباب وما علاجها؟(97/10)
هذه هي الأسباب وهذا هو العلاج
عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء: هذه هي الأسباب، وهذا هو العلاج:(97/11)
البعد عن الله
السبب الأول: البعد عن الله عز وجل، وضعف الإيمان، وقلة الخوف من سخط الله وعذابه في الدنيا والآخرة، والجرأة على محارمه، والاستهتار بشرعه وحدوده، كل هذا مع كثرة الفتن بنوعيها ألا وهما فتنة الشهوات والشبهات.
ولا شك أيها الإخوة! أن القلب الذي لم يعرف الله عز وجل، ولم يتذوق صاحبه حلاوة الإيمان، ولم يرتجف إجلالاً لله وخوفاً منه سبحانه، لا شك أن صاحب هذا القلب يعيش في ظلمة ووحشة وضنك، وإن كان يتقلب في النعيم المادي الزائل، ولا شك أن صاحب هذا القلب يعيش فريسة سهلة للشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء، هذا عندي هو أول وأخطر الأسباب للوقوع في هذه المصيبة والكارثة، بل وفي كل مصيبة وكارثة، وإن أردتم الدليل العملي على قولي، فعليكم أن تنظروا نظرة سريعة إلى أولئك الشباب الطاهر الطائع، وإلى أولئك الشباب التائه الضائع، كلهم شباب في سن واحدة في بيئة واحدة يتعرضون لنفس الفتن والمؤثرات، ولكن شتان شتان بين شاب يقف بين يدي الله جل وعلا متذللاً متضرعاً يخاف الفتنة، ويخشى الوقوع في المعصية، ويهرع إلى المساجد، وإلى مجالس العلم، ويحرص على مصاحبة الأطهار، ويبتعد عن الاختلاط الحرام، ويذهب إلى الجامعة وهو يحمل هموم أمته ودعوته وأسرته، شتان شتان بين هذا وبين شاب لا يعرف الله جل وعلا، ولم يتذوق حلاوة الإيمان، ولم يعرف طريق المسجد، ولم يحضر مجالس العلماء، ولم يستمع إلى القرآن، بل ولا يفارق سمعه الغناء الماجن والموسيقى الصاخبة، ولا يستحي أن يخلو هنا أو هنالك بفتاة متبرجة لا تعرف للدين حرمة، ولا للحياء مكانة، فما العلاج؟! العلاج يكمن أيها الشباب! وأيتها الفتيات! في العودة إلى الله عز وجل، فو الله ثم والله لا سعادة ولا فلاح ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا في صدق اللجأ إلى الله جل وعلا، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم وابن ماجة والحاكم والبغوي بسند صحيح بشواهده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي: إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعة الله).
نعم أيها الشباب! وإذا رأيتم شاباً على المعصية وقد أعطاه الله من النعيم ومن فضله فاعلموا بأنه مستدرج من الله جل وعلا، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلم بأنه مستدرج من الله تعالى، وقرأ النبي قول الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]).(97/12)
غياب الأسرة وضياع القدوة وانعدام الرقابة
السبب الثاني: غياب الأسرة، وضياع القدوة، وانعدام الرقابة بدعوى الحرية المزعومة للأولاد والبنات، وهذا من باب التقليد الأعمى للغرب الذي تصطدم سلوكياته وأخلاقياته مع عقيدتنا وأخلاقنا وقيم مجتمعنا الإسلامي اصطداماً مباشراً، فالوالد لا يفكر أن يسأل ابنته عن جدول محاضراتها في الجامعة، ولماذا تتأخر؟ وأين تذهب؟ ومع من تمشي؟ ومع من تتكلم في التلفون كل هذه الساعات؟ والأم هي الأخرى لا تفكر في هذا، بل ويترك الأب الوقور المحترم ابنته الجامعية تخرج في الصباح إلى الجامعة بهذه الثياب الضيقة والزينة الخطيرة، ولم يسأل نفسه مرة: لماذا كل هذا؟! وأين ستذهب البنت بهذا الشكل المثير؟! وما علاقة هذا بالعلم في الجامعة؟! ولم يغضب لله مرة، بل ولا حتى للرجولة مرة فوقف وقفة ليمنع ابنته أن تفارق البيت بهذه الصورة المزرية، التي لا تمت إلى الدين ولا إلى الأخلاق بأدنى صلة، بل ولم تفكر الأم هي الأخرى في شيء من ذلك، بدعوى الحرية المشئومة.
والعلاج أن ترجع الأسرة إلى الله عز وجل، وأن يعي الوالدان المسئولية العظيمة التي سيسألان عنها بين يدي الله تعالى، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع ومسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها).
بل وتذكر أيها الوالد! وتذكري أيتها الأم! حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث معقل بن يسار: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الحنة).(97/13)
التبرج والاختلاط والخلوة
السبب الثالث: التبرج والاختلاط والخلوة بين الرجل والمرأة، وبين الطالب والطالبة، وهذا سبب من أخطر الأسباب أيضاً؛ لأن الميل بين الرجل والمرأة أمر فطري عميق في التكوين البشري؛ لأن الله قد أناط به امتداد النسل البشري على ظهر الأرض، والجسم العاري، والنبرة المؤثرة، والرائحة المؤثرة، كل هذا يشعل نار الفتنة بتحريك الغرائز الهاجعة والشهوات الكامنة، فإذا تم الاختلاط بين الرجال والنساء والشباب والفتيات على هذه الصورة الخطيرة، كانت الكارثة أعظم، وسبحان من قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فما حرم الإسلام الاختلاط والتبرج والخلوة إلا لأنه يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر نظيف، ولقد استوقفتني كلمات خطيرة لكاتبة إنجليزية تسمى اللاديكوك تقول: على قدر كثرة الاختلاط يكثر أولاد الزنا، ولا شك أن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط والخلوة حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المزرية، التي تمثل صفعة قوية على وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين، فعلى الذين تربوا على موائد المدنية الزائفة، وأطلقوا العنان للرجال والنساء في الخلوة والاختلاط المحرم بدعوى أن الظروف قد تغيرت، وأن المرأة قد تعلمت وتثقفت وتنورت، وهي محل ثقة الزوج والأب والأسرة، على هؤلاء جميعاً أن يعلموا أنهم يرتكبون جرماً عظيماً وحرمة كبيرة، وعليهم في الوقت ذاته أن يراجعوا بعد ذلك الدراسات والإحصائيات والجرائم الكثيرة المنتشرة التي يعلن عنها يومياً؛ ليعلموا يقيناً أنه لم تقع ولن تقع جريمة ينهش فيها العرض، ويذبح فيها العفاف، ويضيع فيها الشرف إلا بسبب الجرأة والتعدي على حدود الله جل وعلا، فمحال -يا أصحاب العقول الراشدة- أن نسكب البنزين على نار مشتعلة ثم نقول للنار: إياك والاشتعال، محال أن نقيد شاباً بالحبال وأن نلقيه في اليم ثم نقول: إياك والغرق، إياك أن تبتل بالماء! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا محال، والعلاج في العودة إلى شرع الكبير المتعال، أن نذعن لحكمه، ونحن على يقين أن السعادة في الدنيا والآخرة بالتسليم المطلق لأمر الله ورسوله، ويجب أن نتخلص من التقليد الأعمى للغرب، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فدعوه).(97/14)
الإعلام بكل وسائله
السبب الرابع: الإعلام بكل وسائله، فهو يقدم كل ألوان الخلاعة والإغراء، بدءاً بما يسمى بالأدب الجديد وهو الأدب المكشوف، أدب الجنس الماجن الخليع، ثم تأتي الأفلام الغرامية التي تعرض على شاشات السينما والتلفزيون، ثم تأتي المسرحيات الهابطة الساقطة التي تعرض على خشبات المسرح، ثم يأتي الغناء الماجن، والموسيقى الصاخبة، والرقص المثير، والصور، كل هذا مع العزف المستمر على وتر التمجيد لأهل الفن، وتشويه الدين وأهله، هذا كله -ورب الكعبة- يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
والعلاج في كلمات قليلة: أن يعود الإعلام إلى الهدف الذي من أجله أقيم، أن يعود القائمون على الإعلام إلى الحق وإلى الفضيلة، يجب أن يقوم الإعلام بنشر الأخلاق والفضيلة، وقتل الشر والرذيلة، وليس العكس؛ لأن دوره الآن خطير، فهو يوجه ويحرك، ولا ينكر منصف على وجه الأرض خطر البرامج الإعلامية في كل الوسائل التي تقدم للشباب والشابات، فإن هذه البرامج تهيج الغرائز الهاجعة، وتثير الشهوات الكامنة.(97/15)
المغالاة في المهور وتكاليف الزواج
السبب الخامس: وهو من أخطر الأسباب على الإطلاق: المغالاة في المهور وتكاليف الزواج بصورة خطيرة زادت عن الحد، وفاقت كل تصور، فكم من شبابنا أصبح عاجزاً عن تكاليف الزواج! وكم من فتياتنا أصبحن عوانس فاتهن سن الزواج، كل هذا بسبب تعنت كثير من الآباء والأمهات في المغالاة في المهور ونفقات الزواج.
فيا أيها الآباء! ويا أيتها الأمهات! ارحموا الشباب والفتيات، فهناك الذي يفني زهرة شبابه، وأجمل سنواته، في تحصيل القليل من تكاليف الزواج.
ارحموا البنات فورب الكعبة لولا حياؤهن لصرخن في وجوهكم: ارحموا ضعفنا، واستروا عوراتنا، وخلوا بيننا وبين شاب مسلم ولو كان فقيراً، لنكون عوناً لبعضنا البعض على أمر الدين والدنيا.
والعلاج بلا ريب يكمن في العودة إلى الإسلام، إلى أوامره الربانية الطاهرة، فالإسلام يأمر بتيسير الزواج، ويحرم المغالاة في المهور، فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) وفي الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وغيره من حديث أبي هريرة بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد عريض).
نداء إلى الآباء والأمهات أن ييسروا أمر الزواج لشبابنا وبناتنا، فإن الأمر والله في غاية الخطورة.
أسأل الله عز وجل أن يلقى هذا النداء قلوباً رحيمة، وآذاناً وعاية، فإن الخطر يهدد الجميع.(97/16)
المدارس والجامعات التي لا تربي على الإيمان
السبب السادس: المدارس والجامعات ومناهج التعليم التي تحسن أن تعلم أبناءنا وبناتنا المعارف والعلوم، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع، كيف ذلك مع هذا الاختلاط الرهيب بين الشباب والفتيات في سن خطيرة، وتجاهل لمادة الدين؟! والأمر يحتاج والله إلى وقفة صادقة من كل القائمين على أمر التعليم؛ لمناقشة هذه الحلول العملية التي أقدمها كعلاج لهذا السبب الخطير من أسباب هذه الظاهرة.
أولاً: إلغاء الاختلاط بين الطلاب والطالبات ولو في الفصول الدراسية على الأقل، وذلك أضعف الإيمان.
ثانياً: جعل مادة الدين من المواد الأساسية، ومن مواد الرسوب والنجاح، على أن يقوم بوضعها نخبة من العلماء الأجلاء والأساتذة الفضلاء؛ ليختاروا المعلومة الدينية الصحيحة الهادئة الهادفة، التي تتناسب مع أعمار كل مرحلة من مراحل التعليم.
ثالثاً: إلغاء الرحلات المختلطة بين الطلاب والطالبات إلغاءً تاماً وكلياً؛ لأنها من أخطر أسباب الانحراف.
رابعاً: إلغاء الدراسة المسائية للطالبات في الكليات العملية والنظرية.
خامساً: المحافظة على قيم الجامعة ورسالتها، وعدم السماح لأي طالبة تدخل إلى الجامعة بلبس خليع ضيق أو عار مكشوف لا يتفق أبداً مع المكان الذي ستدخله، وعدم السماح لهذه الثنائيات المشبوهة بين الطلاب والطالبات التي تنتشر هنا وهنالك في زوايا الجامعات.
سادساً: وضع عقوبات شديدة رادعة لكل طالب وطالبة يأتي بسلوك يخالف القيم والأخلاق في الجامعة.
سابعاً: فتح الباب بصورة منظمة للعلماء والدعاة الصادقين للدخول إلى المدارس والجامعات لإلقاء المحاضرات الدينية الهادئة الهادفة، على أن يتولى الأمر بنفسه رئيس الجامعة أو وكيل الكلية، على أن يدعى لهذه المحاضرة الكبيرة المدرسون والمدرسات والطلبة والطالبات.
ثامناً: مراعاة أوقات الصلوات أثناء وضع الجدول الدراسي، والسماح للطلاب والطالبات بأداء الصلاة مع أساتذتهم.
هذه بعض الحلول العملية التي أسأل الله أن تجد قلوباً وآذاناً عند أساتذتنا الأجلاء الفضلاء من القائمين على أمر التربية والتعليم في المدارس والكليات والجامعات، فإن المشكلة ليست لفئة دون فئة، بل إن الخطر ورب الكعبة يهدد الجميع.(97/17)
عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها
وأخيراً: من الأسباب الخطيرة أيضاً: عدم قيام المؤسسات الدينية والتربوية بدورها الذي يجب أن تقوم به، والعلاج يكمن في أن تهتم وزارة الأوقاف والأزهر بهذا الأمر الخطير، وأن تكون الدعوة تدور حول مشاكل الشاب، وعلى مستوى فكر الشباب، ولا ينبغي في ظل هذه الظروف الحرجة أن نفصل بين الدعاة الرسميين والدعاة غير الرسميين ممن فتح الله عز وجل عليهم، وجعل لهم قبولاً بين المسلمين والمسلمات، وبين الشبان والفتيات، بل يجب الآن على كل من منّ الله عز وجل عليه بالعلم الشرعي الهادئ الهادف الصحيح أن يتحرك لدين الله تبارك وتعالى.
أحبتي في الله! وأحب بعد هذه الأسباب والعلاج أن أذكر شبابنا وبناتنا وأخواتنا بهذه الكلمات: قلنا أأنت تباهي بالزنا فرحاً أأنت تعبث بالأعراض تياها فقال بل ذاك شرع صار متبعاً كم تاه غيري قبلي وكم باها فقلنا: ألست تخاف الله منتقماً فقال في كبر: لا أعرف الله ويح الشباب إذا الشيطان نازعهم على القول فأوهاها وألغاها قد علمتهم أفانين الخنا وسائل غشى بصائرها زيغ وأعماها ومطربة ومطرب في المذياع لقنهم ألحان فحش وزكاها وغناها ووالد غافل لاهٍ ومدرس نظامها من نظام الدين أقصاها لو أن لي قوة في أمتي ويداً ألزمت حواء مثواها ومأواها البيت كان لها ملكاً تعز به وفيه كانت ترى السلطان والجاها فقوضت بيديها عرشها وغدت رعية وذئاب الأرض ترعاها هذي الحضارة دين لا أدين به إني كفرت بمبناها ومعناها(97/18)
هل من توبة؟
وأخيراً: فهل من توبة؟! أيها المسلمون! أيها الشباب! أيتها الفتيات! إنني أعلم أن من سقط في هذا المستنقع الآثم ينقسمون إلى فريقين من الناس: الأول: من وقع في هذا الحرام جهلاً بأنه يزني ويأتي الفاحشة، وقد غرر بهم الشيطان وأغواهم وأعمى بصائرهم، وخيل لهم أنهم متزوجون في الحلال، وأن ما هم فيه ضرورة للبعد عن الزنا، وهم في مستنقع الزنا ذاته، وهذا الجهل لا يعفيهم من المسئولية العظيمة، ولا يرفع عنهم الإثم الخطير، فالطريق إلى النار يفرش أحياناً بالنوايا الطيبة، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً: أن هؤلاء مهما ظنوا أنهم لم يخالفوا الشرع فإن في داخلهم هاجساً دائماً وشعوراً بالذنب، وخوفاً من أن يكونوا قد وقعوا في الحرام، وإلا فلماذا استتروا، وبالغوا في التخفي والسرية والكتمان؟ فالحلال لا حاجة فيه إلى السراديب تحت الأرض، والحق دائماً لا يخشى الظهور في النور.
أما الفريق الثاني: وهو الأكثر عدداً، فهو يعلم جيداً أنه يتلاعب بالأعراض، وينتهك الحرمات، ويخادع وينافق ويتمسح بالدين للوصول إلى غرضه الدنيء الحقير، وهؤلاء يتجرءون على الدين، ويستهزئون بالشرع، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ويزدادون إصراراً على التنقل في أوحال الرذيلة والعار؛ لأن أحكام الله معطلة، وحدوده مهملة، والمسلمين في غفلة، ومع ذلك فإلى هؤلاء وهؤلاء أقول: فهل من توبة؟! هيا أيها الشاب! وهيا أيتها الفتاة! يا من وقعت في هذه الرذيلة، ويا من وقعتي في هذا المستنقع! توبوا إلى الله عز وجل، أقلعوا عن هذا الذنب، واندموا على ما مضى، وتضرعوا إلى الله تبارك وتعالى أن يغفر ما قد سلف، واعلموا يقيناً بأن الله جل وعلا يفرح بالتائب حين يتوب إليه، وهو الغني عن العالمين، فهو سبحانه وتعالى الذي يفتح باب التوبة لعباده، يقول سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وينادي سبحانه وتعالى أهل الإيمان بالتوبة وتجديدها، فإن الإنسان لا ينفك عن معصية صغيرة أو كبيرة، ومن ثم فالله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، ويقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وما من يوم -أيها المسلمون! وأيها الشباب! وأيتها الفتيات! - إلا ورب العزة جل جلاله يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله، ويقول سبحانه: (أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر).
وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى -في الحديث القدسي-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).(97/19)
رحمة الله بعباده
وأختم هذا اللقاء بهذا الحديث الجليل الكريم الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فأثر هذا المشهد الرقراق الحاني في قلب النبي الكريم، فسأل النبي أصحابه فقال: (هل ترون أن هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
فهيا أيها الشباب! وهيا أيتها الفتيات! إلى التوبة إلى رب الأرض والسموات.
وا أسفاه إن دعيت اليوم إلى التوبة وما أجبت وا حسرتاه إن ذكرت الآن بالله وما أنبت.
ماذا ستقول لربك غداً؟! وماذا ستقولين لربك غداً؟! تذكر أيها الشاب وتذكري أيتها الفتاة تذكروا أيها المسلمون: تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرف غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا عد إلى الله، وتذكر أنك ميت، لا تغتر بشبابك، ولا تغتر بصحتك، ولا تغتر بقوتك، فالموت لا يترك صغيراً ولا كبيراً، ولا شاباً ولا شيخاً، ولا رجلاً ولا امرأة.
وأنت أيتها الفتاة! لا تغتري بشبابك ولا بجمالك ولا بصحتك، ولا بخديعتك لأسرتك ولا للمجتمع، فستقفين يوماً بين يدي الله جل وعلا الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
أيها المسلم! أيتها المسلمة! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب وصدق ربي جل وعلا إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:26 - 40].
أسأل الله أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
اللهم استر نساءنا وبناتنا، واحفظ شبابنا وردهم إلى الحق رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله! هذه صرخة ونصيحة من أخ يحبكم في الله، أسأل الله عز وجل أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن ينفع بها المسلمين والمسلمات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو زلل أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(97/20)
الوقت هو الحياة
إن أعظم ما يملكه الإنسان وقته، وسيسأل عنه، وعن كل ساعة من ساعاته، وعن كل لحظة من لحظات أيامه.
فعلى المسلم أن يحذر من إضاعة الأوقات، وليستغل ساعات أيامه في فعل الخيرات، فإن عمره الحقيقي هو ما استغله في طاعة الله.(98/1)
قيمة الوقت
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! تقبل علينا اختبارات آخر العام؛ فترفع البيوت حالة الطوارئ إلى أقصى درجة، فإذا ما أنهى أبناؤنا الاختبارات عادت البيوت مرة أخرى إلى حالة قاتلة من الفراغ والارتخاء! وترى قليلاً من البيوت هي التي تعرف قدر الوقت وقيمة العمر، فإذا ما أقبلت الإجازة الصيفية استغلوا هذا الوقت استغلالاً طيباً بما يعود على أبنائهم بالنفع في الدنيا والآخرة، فأحببت مع إقبال الإجازة الصيفية علينا أن أذكِّر نفسي وآبائي وإخواني بقيمة الوقت وشرف الزمان؛ لذا فإن لقاءنا اليوم مع حضراتكم بعنوان: (الوقت هو الحياة) وكما تعودنا فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: قيمة الوقت.
ثانياً: عوائق الاستفادة من الوقت.
ثالثاً: كيف يطول عمرك؟! وأخيراً: رسالة إلى القتلة! فأعيروني القلوب والأسماع.
والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: قيمة الوقت.
أيها الأحبة الكرام! إن الوقت هو الحياة، والعاقل هو الذى يعرف قدر وقته، وشرف زمانه؛ فلا يضيع ساعة واحدة من عمره إلا في خير للدنيا أو للآخرة؛ حتى لا يتحسر على هذه الساعة في ساعة لا تنفع فيها الحسرة ولا يجدي فيها الندم.
إن الوقت من أعظم نعم الله، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، ويلفت ربنا أنظارنا إلى قدر الوقت وقيمة الوقت حين أقسم بالوقت في آيات كثيرة من قرآنه، قال جل وعلا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]، وقال جل وعلا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، وقال جل وعلا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالوقت -يا إخوة- هو العمر هو الحياة.
والعاقل هو الذى يدرك شرف زمانه وقدر وقته، ولا تراه في ساعة من عمره إلا منشغلاً بعمل نافع للدنيا، وإما بعمل نافع للآخرة.
وها هو نبينا يعلمنا أن الإنسان سيسأل عن ساعات عمره، وعن أيام عمره، وعن شهور عمره، وعن سنوات عمره، سيسأل الإنسان عن عمره كله بين يدي الله جل وعلا كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذى من حديث أبي برزة الأسلمي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسمه فيما أبلاه،-وفي لفظ: وعن شبابه فيما أبلاه-، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).
لن تتحرك من أرض المحشر ومن موقف الحساب بين يدي الله حتى تسأل عن أربع، كيف قضيت الأيام؟ كيف قضيت الساعات؟ كيف قضيت العمر؟ ستسأل عن عمرك كله، فيم أفنيت هذه الأيام، وهذه السنوات الطوال؟ هل أفنيتها في طاعة الكبير المتعال، وفي نفع لدنياك وأخراك، أم ضيعت عمرك وسنواتك كلها في معصية الله، وفيما لا يعود عليك بخير للدنيا أو للآخرة؟! وها هم سلفنا رضوان الله عليهم يعلموننا الحرص على الوقت، وأن الوقت هو الحياة، وأن العمر هو الحياة، فهم يعلموننا أن من عقوق الزمن أن تمضي ساعة واحدة لا يستغلها الإنسان لخير في حياته أو لآخرته، فهاهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (ما ندمت على شيء كندمي على يوم غربت شمسه، قرب فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي).
تدبر هذه الكلمات! ولله در القائل: إذا مر يومٌ ولم أقتبس هدىً ولم أستفد علماً فما ذاك من عمري.(98/2)
الوقت يمر مر السحاب
يزداد الأمر خطراً إذا علمنا أن من أهم خصائص الوقت: أنه يمر مر السحاب، ويجري جري الرياح، فدنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، فالأيام تمر ونحن في غفلة، الأيام تمر والأشهر تجري وراءها، وتسحب معها السنين، وتجر خلفها الأعمار، وتطوى حياة جيلٍ بعد جيل.
وبين يدي الملك الجليل سيعلم الذين خسروا أنفسهم وضيعوا أوقاتهم وأعمارهم أنهم ما لبثوا في هذه الدنيا إلا ساعة إلا يوماً أو بعض يوم، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:112 - 118] ومن أهم خصائص الوقت: أنه ما مضى منه لا يعود أبداً ولا يعوض.
أتحداك أن تسترد اليوم الذي فات، لقد انتهى اليوم.
كان الحسن البصري رحمه الله يقول: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو ينادي بلسان الحال: يابن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد؛ فاغتنمي فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
ومع أن الوقت أيها الأخيار هو أغلى وأثمن ما يملكه الإنسان، فإننا نرى كثيراً من إخواننا يقتلون الوقت قتلاً، ويضيعون العمر تضييعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل ولا يقفون على خطر العوائق التي تحول بينهم وبين الاستفادة من أوقاتهم وأعمارهم.(98/3)
معوقات الاستفادة من الوقت
تعرف على عوائق الاستفادة من الوقت؛ لتحذرها أيها الكريم!(98/4)
اتباع الهوى
العائق الأول: اتباع الهوى، والهوى مَلِكٌ ظلوم غشوم جهول، يهوي بصاحبه إلى الشر في الدنيا، والهلاك في الآخرة.
يقول ابن عباس: ما ذكر الله الهوى في موضع من كتابه إلا وذمه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] ولقد حذر الله نبياً كريماً من أنبيائه من الهوى فقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] وخاطب الله نبيه المصطفى بقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] فالهوى يهوي بصاحبه إلى الشر في الدنيا والآخرة، وفي الحديث الذي رواه البزار والبيهقي والحاكم -والحديث حسن بمجموع طرقه- من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث مهلكات وثلاث منجيات، أما الثلاث المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه).
هذه إن اجتمعت على عبد أهلكته (شح مطاع) أي: رجل شحيح بخيل يدعى إلى الإنفاق في سبيل الله فيحول الهوى والشح بينه وبين ذلك.
قال: (وأما الثلاث المنجيات: فخشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا).
هذه هي طريق الهلاك، وهذه هي طريق النجاة، يلخصها لنا من آتاه الله جوامع الكلم في ست كلمات فقط: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات).
فلو انقاد الإنسان لهواه لزين له جلسة الفارغين وجلسة البطالين، وزين له تحلل المتحللين من أوامر رب العالمين.
ترى المسلم يقضي الساعات الطويلة في الليل على المقهى، أو يقضي جل الليل أمام المسلسلات والأفلام، وإن سألت واحداً من هؤلاء: ما الذي أجلسك هذه الجلسة الطويلة على المقهى أو أمام التلفاز؟ يقول لك: أضيع الوقت أقتل الوقت إنا لله وإنا إليه راجعون!! وهو لا يدري أنه يقتل نفسه، وأنه ينتحر انتحاراً بطيئاً؛ لأن الإنسان مجموعة أيام، فإن انقضى يوم من أيامه استقبل به الآخرة، واستدبر به الدنيا.
كان لقمان يقول لولده: (أي بني! إنك من يوم أن نزلت إلى الدنيا استدبرت الدنيا واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقبل عليها أقرب من دار تبتعد عنها!) فيا أيها المسلم! إن وقتك هو الحياة إن وقتك هو العمر فلا تضيع ساعة من عمرك إلا وأنت في خير للدنيا أو في خير للآخرة، وإلا فورب الكعبة سنندم على كل ساعة مضت من أعمارنا قضيناها في معصية ربنا ونبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالهوى مَلِكٌ ظلوم غشوم، سيزين لك الفراغ سيزين لك المعصية سيزين لك الباطل سيزين لك الفراغ القاتل، ولا يصل العبد إلى حقيقة الإيمان إلا إذا وافق هواه ما جاء من عند الله وما جاء به رسول الله، قال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
فالهوى من أخطر العوائق التي تصرف العبد عن استثمار وقته فيما يُرضي الله جل وعلا.(98/5)
طول الأمل
العائق الثاني: طول الأمل، جميل أن تحمل أملاً في قلبك لتعمر الكون، فالإنسان مفطور على حب الحياة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل بالقرآن والسنة.
جميل أن أعيش في الدنيا وأنا أحمل الأمل في قلبي أن أُعَمِّر بيتاً لأولادي، وأن أصل إلى أعلى المناصب، وأرقى الدرجات، وأن أحصل على الملايين المملينة من الأموال من الحلال الطيب.
هذا شيء جميل، لكن الخطر أن يحول طول الأمل بينك وبين طاعة الله جل وعلا!! فطول الأمل -مع قتل الوقت وتضييع العمل- مصيبة كبيرة، ومرض عضال، إن أصاب الانسان شغله عن طاعة الكبير المتعال، وفتنه بالدنيا وأنساه الآخرة، فتراه لطول أمله في غفلة يقضي الليل والنهار في أمور الدنيا، إن ذكَّرته بالله ما تذكَّر، إن تلوت عليه القرآن ما تأثر، إن ذكرته بحديث النبي ما تحرك قلبه، إنه في غفلة، ومع ذلك يمنيه طول الأمل بـ (سوف)! واحسرتاه من (سوف)! سوف أصلي غداً، سوف أقيم الليل غداً، سوف أتصدق غداً، سوف أتفرغ للعبادة إذا خرجت على المعاش، سوف أرتدي الحجاب أيها الشيخ إذا تزوجت! سوف وسوف وسوف سوف أحج في العام المقبل.
ويرى الإنسان نفسه في لحظة بين عسكر الموتى بين يدي الله جل وعلا، يتمنى الرجعة، فيقال له: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] لا وزن لها، ولا يجيبه الله جل وعلا.
جميل أن تحمل الأمل في قلبك، لكن احذر أن يحول طول الأمل بينك وبين طاعة الله سبحانه، وأن يمنيك بكلمة: سوف تفعل، وسوف تفعل، وسوف تفعل! ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من طول الأمل فقال كما في صحيح البخاري لـ ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
الغريب في بلد يفكر في العودة إلى موطنه، وعابر السبيل في بلد يفكر في العودة إلى بلده، فكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل.
وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
هذا هو الفهم الحقيقي للأمل، فلا تكن أيها المسلم! مثل من قال الله تعالى فيهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
قال القرطبي: أي: يشغلهم الأمل عن طاعة الله جل وعلا.
أخي الحبيب! أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).
وهذا ليس من كلام النبي، وإنما هي حكمة لأحد السلف، والراجح أنها من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
اخرج لعملك وأنت مستعد للقاء الله، بل وأنت في شوق في كل يوم للقاء الله جل وعلا، ففي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة: فكلنا يكره الموت.
قال: ليس ذلك يا عائشة، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه كره لقاء الله وكره الله لقاءه)، يمنيك بطول الأمل، ويقول لك: لا تعمل الآن كذا، فرِّغ نفسك الآن للمعصية أو للهو أو لمتع الدنيا أو للشهوات أو للملذات، يقول الرجل لنفسه: أنا لا زلت شاباً، ولا زالت بين يدي حياة أستمتع بها وأتلذذ بها! أذهب إلى هنا، وأنطلق إلى هنالك، وأعدك -يا شيخ- إذا بلغت سن المشيب لن أفارق بيت الله جل وعلا لحظة! قال لي إخواننا في أمريكا: إن رجلاً من الله عليه بالأموال، وهو جار للمسجد، وما دخل المسجد مرة، ذكَّروه بالله فما تذكر، حذروه من النار فما خاف النار، ذكروه بكلام النبي المختار فما تحرك قلبه، وصدق فيه قول الله عز وجل: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، أسأل الله أن يحفظنا من الغفلة.
فذهبت إلى هذا الرجل، فرأيته يبيع الخمر في محله، ويبيع لحم الخنزير، فقلت له: يا أخي! اتق الله! ألست مسلماً؟! المسجد إلى جوارك، وما خطوت إليه خطوة! تلوت عليه القرآن، وذكرت هذا المسكين بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي -ورب الكعبة-: يا شيخ! أعدك إن عدت إلى بلدي -بعد ما أحصل من المال ما أريد- أن أبني لله مسجداً، وأن أعتكف فيه، ولن أفارقه! قلت له: انتظر حتى أوقع هذا العقد بينك وبين ملك الموت! أعطني هذه الفرصة لأوقع لك هذا العقد بهذه الصورة بينك وبين ملك الموت!!! هل ضمنت يا مسكين أن تعود إلى بلدك؟!! هل ضمنت يا مسكين أن تصبح إلى اليوم التالي! فنظر إلي وقال -وهو الذي صار عبداً للدولار-: أشهد الله، ثم أشهدك أنني إذا أصبت بحالة إعياء وحالة صداع فإني أضع ورقة الدولار من فئة المائة على رأسي فيطير الصداع والألم في الحال! قلت: أنت عبد للدولار، وأنت عبد للدرهم والدينار كما قال النبي المختار: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) أنت تعيش من أجل المال، وتعيش من أجل الدنيا، والمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، والدنيا إلى زوال وإلى فناء، ولو دامت لأحد لدامت لسيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه القائل: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، فلا يغرنك طول الأمل.
ورحم الله الحسن إذ يقول: (ما أطال عبد الأمل إلا وقد أساء العمل).(98/6)
الفراغ
العائق الثالث: الفراغ.
آهٍ من الفراغ على شبابنا وأخواتنا!! آهٍ من الفراغ وخطره!! الفراغ يعد نعمة من أجل النعم ونحن لا ندري!!(98/7)
نعمة الصحة ونعمة الفراغ
روى البخاري من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
الصحة نعمة ونحن لا نشعر بقدر هذه النعمة، بل يظن كثير منا أن النعمة فقط هي الأموال، فإن منَّ الله علينا بالأموال فهذه هي النعمة، وإن حجب الله عنا المال، ومنَّ علينا بنعمة الإيمان ونعمة الإسلام، فهذه نعمة، فمن أجل النعم نعمة الإيمان والتوحيد لله جل وعلا.
قال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها وقال آخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن ما أخذ دولاراً ولا ديناراً ولا سيارة ولا عمارة، ما أخذ شيئاً إلا العمل الذي سينفعه بين يدي الله جل وعلا، فالفراغ مقتلة وهو في الوقت نفسه نعمة إن استخدمت هذه النعمة في طاعة الله، والصحة نعمة وهي في الوقت نفسه مقتلة إن استخدمها الإنسان في معصية الله وتجبر بها على خلق الله، وطغى بها على عباد الله، (الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) قال الحافظ ابن حجر: فمن استغل صحته وفراغه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استغل صحته وفراغه في معصية الله فهو المغبون.(98/8)
أنواع الفراغ
الفراغ أنواع: الفراغ القلبي، والفراغ النفسي، والفراغ العقلي.
هذه هي أنواع الفراغ.
الفراغ القلبي: وهو أخطر أنواع الفراغ على الإطلاق، أن يفرغ القلب من الإيمان، أن يفرغ القلب من اليقين، أن يفرغ القلب من الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالمصطفى نبياً ورسولاً.
إن فرغ القلب من الإيمان فصاحب هذا القلب ميت وإن تحرك بين الأحياء، فالقلب وعاء الإيمان كما قال المصطفى في حديث النعمان الذي رواه الشيخان وفيه: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ورعاياه: فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا.
فإن عمر القلب بالإيمان ما شعر الإنسان أبداً بالفراغ؛ لأنه في كل لحظة سيتلذذ بالأنس بالله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مساكين والله أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطعم وأحلى ما فيها.
قيل: وما أطعم ما فيها؟! قال: ذكر الله، والأنس بلقائه.
الأنس في طاعة الله، والأنس في ذكر الله جل وعلا، فإذا عمر القلب بالإيمان شعر الإنسان بلذة الحياة، وبطعم الطاعة والعبادة لله جل في علاه، روى أبو نعيم والديلمي وصححه الألباني من حديث علي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، فبينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا تجلت عنه أضاء)، فكذلك نور الإيمان في القلب، إن حجب نور الإيمان بسحائب الظلم والذنوب والمعاصي؛ فتر الإنسان عن طاعة الله، بل وربما انجرف وانحرف؛ لأن القلب سيفرغ من حقيقة الإيمان، وفراغ القلب من الإيمان هلاك للعبد في الدنيا، وخسران له في الآخرة؛ لأن أصل النجاة هو الإيمان، ولأن مدار الفلاح على الإيمان بالله تبارك وتعالى.
فالفراغ القلبي من الإيمان سيعرض القلب لكل أنواع الفتن، روى مسلم من حديث حذيفة أن المصطفى قال: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مُربادّاً كالكوز مُجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فالقلب وعاء الإيمان ومحط الفتن، فإذا فرغ القلب من الإيمان تعرض الإنسان لكل فتنة، وتشربها قلبه.(98/9)
علاج الفراغ القلبي
علاج الفراغ القلبي ودواء الفراغ القلبي بزيادة الإيمان؛ إذ إن الإيمان يزيد وينقص، كيف يزداد الإيمان في قلبي؟ يزداد الإيمان بالطاعات، وينقص الإيمان بالمعاصي والزلات، ونقب عن قلبك أيها الحبيب! وأنت الآن في مجلس علم كهذا، ثم نقب عن قلبك وأنت أمام التلفاز أو في مجلس غيبة أو نميمة، فتقف على حجم الفارق بين حال قلبك في الطاعة، وبين حال قلبك في المعصية.
يقول عبد الله بن مسعود: (تفقد قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر والعلم، وفي وقت الخلوة بينك وبين ربك).
ابحث عن قلبك في هذه المواطن: عند سماع القرآن إن وجل القلب، في مجالس العلم إن وجل القلب، في وقت الخلوة إن وجل القلب، فاحمد الله أنك تحمل قلباً، وسل الله أن يملأه إيماناً ورضى وتقىً، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن، فابحث عن قلب؛ فإنه لا قلب لك!! يقول ابن مسعود: إن لم تجد قلبك في هذه المواطن فابحث عن قلبك فإنه لا قلب لك، فإن القلب يمرض والإنسان لا يدري، وإن القلب يموت والإنسان لا يدري، إذا تعب القلب بمرض من الأمراض العضوية أسرعنا إلى الأطباء، هذه فطرة، لكن القلب قد يمرض بالشهوات وقد يموت بالمعاصي والملذات وصاحبه لا يدري على الإطلاق!!! يقول المصطفى كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) فالذاكر لله حي وإن حبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء!! وخذوا هذه الوصفة البليغة من سفيان الثوري لرجل مريض القلب مثلي، ذهب إليه رجل فقال: يا سفيان! لقد ابتليت بمرض قلبي فصف لي دواءً.
فقال سفيان: عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن على المعصية، وصفِّه بمصفاة المراقبة له، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد عن الحرص والطمع، يشفى مرض قلبك بإذن الله.
أسأل الله أن يعيننا على هذا الدواء الناجع النافع!! والفراغ الأخير هو الفراغ النفسي، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، إن لم تفطمها بالطاعات قادتك إلى المعاصي والزلات، قال الله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53] فاللهم ارحمنا بفضلك.
فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيها الوالد الكريم! الفراغ النفسي مقتلة شبابنا، فإذا فرغت نفوسهم قاموا إلى كل معصية، وانحرفوا في كل واد وفي كل طريق ضال، إذا لم يجد الشاب عملاً يقوم به، ورأى نفسه في فراغ، انشغل بالمعاصي انشغل بالفتن والشهوات انشغل بالأفلام والمباريات والمسلسلات انشغل بالمجلات الخليعة الجنسية الماجنة، وبقراءة القصص التي تحول الزهاد العباد إلى فساق فجَّار! إنه فراغ النفس، فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وإن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
يظن الإنسان أنه يصعب عليه أن يطيع الله، والأمر سهل، فلو فطمت نفسك كفطمك للرضيع عن اللبن وعن ثدي أمه مرة بعد مرة لاعتادت الطاعة، ولشعرت براحة ولذة في أي طاعة لله، ولن تشعر بثقل على الإطلاق؛ لأن الله جل وعلا قد زكى النفس، ودلَّها على هذين الطريقين فقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9].
وقال جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
فالناس صنفان: صنف قد انتصر على نفسه وقهرها، وألجمها بلجام الطاعة، وجعل النفس مطية إلى رضوان الله والجنة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، وصنف قهرته نفسه، وانتصرت عليه نفسه، وغلبته وقادته إلى كل شر في الدنيا، وإلى الهلاك في الآخرة.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من نفوسنا الأمارة بالسوء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ملء الفراغ النفسي يكون بالطاعة، فاشغل نفسك بطاعة الله وبعمل مفيد.
والعقل نعمة، والفراغ العقلي حياة صاحبه دمار، وآخرته بوار، بدليل أن أهل النار وهم في النار بين يدي الواحد القهار يتصايحون بأنهم كانوا لا يحملون عقولاً يفكرون بها، سمعوا القرآن فما اتعظوا، سمعوا الحديث فما اعتبروا، ذكروا فما تذكروا، فكان المصير أن يتصايحوا في النار، وأن ينادوا على العزيز الغفار، ولكن هيهات!! قال الله جل وعلا عن هؤلاء الذين لا يحملون عقولاً يفكرون بها: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، لو كنا نحمل عقولاً سليمة نسمع بها الحق، ونذعن بها للحق، ونخضع بها لله ولرسوله ما كنا بين هؤلاء المجرمين من أصحاب النار.
فيا أيها الوالد الكريم! ويا أيها الأخ الحبيب! لقد آتانا الله عقولاً، وهي من أعظم نعم الله علينا.
وأنا أقول أيضاً: نحن لا نفكر في نعمة العقل، وقد ذكرتكم مراراً حينما ذهبنا مع إخواننا، لنزور إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، ودخلنا عنبراً للنساء، ورأينا النساء بين أيدينا، وقد أعطاهن الله كمال الخلق، وفجأة اقتربت منا فتاة في الثانية والعشرين من عمرها؛ لتأخذ الغطاء الذي على الرأس، ولتمسك باللحية!! وفجأة رأينا هذه الفتاة ذهبت إلى جانب في العنبر، وتجردت من كل ثيابها كما ولدتها أمها! فخرجنا، وقلت لإخواني يومها: أشهد الله، ثم أشهدكم أنني ما عرفت قدر نعمة العقل إلا في هذه اللحظة، فلا تترك عقلك فارغاً للتفاهات للمسلسلات التافهة، وللأفلام القذرة، وللقصص الماجنة، بل املأ عقلك بالعلم النافع، بالقراءة الجيدة، بالأفكار الهادفة، واعلم بأنك تحمل قضية دين، وتحمل قضية أمة تُضرب الآن بالنعال على أم رأسها، فلا تشغل ولا تملأ فراغ عقلك -أيها الأخ الحبيب- بمثل هذه التفاهات، فوقتك أغلى من هذا، وعمرك أغلى من هذا الضياع الذي تضيعه أمام مسلسل أو فلم أو مباراة، أو على مقهى تقضي فيه الساعات الطوال.(98/10)
الفتن
أيها الأحبة الكرام! من أخطر العوائق: الفتن، والفتن التي بين أيدينا كثيرة، وهي بالجملة تنقسم إلى نوعين: فتن الشهوات، وفتن الشبهات.
ولا عون لك -لتستفيد من وقتك وسط هذه الفتن- إلا إذا استعنت بالله جل وعلا، وحرصت على مجالس الخير، وعلى مجالس العلم.
أسأل الله أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك ومولاه.(98/11)
العمر الحقيقي وكيفية إطالته
ثالثاً: سؤال قد يستغربه الجميع: كيف يطول عمرك؟! الإنسان مفطور على حب الحياة، ويرجو أن لو طال عمره، بل ويتمنى الخلود إن استطاع، ولكن الموت يختطف الشاب في ريعان شبابه!! ويختطف الفتى المدلل الوحيد من بين أهله!! ويختطف العروس في ليلة عرسها!! ويختطف الحاكم القوي المرهوب من بين حرسه وجنوده!! فالأيام محسوبة، والآجال معدودة، وما دام الموت هو نهاية الحياة فإن العمر حينئذ قصير.
الأيام تمر، والأشهر تجري، والسنين تولي، والعمر ينقضي!! فما دام الموت هو آخر المطاف فالعمر قصير، ولم يستطع العلم -بل ولن يستطيع- أن يرد الشيخوخة إلى شباب، أو أن يحول بين الإنسان وبين الموت، ومع ذلك قد يستطيع الإنسان أن يطيل عمره!! كيف؟! اعلم أيها الأخ الكريم! أن العمر الحقيقي للإنسان لا يقاس بسنواته التي قضاها من يوم ولادته إلى يوم وفاته، وإنما العمر الحقيقي للإنسان يقاس بقدر ما قدم الإنسان في سنوات عمره من عظائم الأعمال، وجلائل الأعمال الخيرات الصالحات الطيبات.
إذاً: عمرك الحقيقي يقاس بعمل الخيرات وبالطاعات.
فكم من عمر طالت آماده، وقلت خيراته وأمداده!! وكم من عمر قلَّت آماده، وكثرت خيراته وأمداده!! فالعمر الحقيقي يقاس بالأعمال يقاس بالطاعات، ولا يقاس بالسنوات، فكم من أناس قد مكثوا مائة سنة أو يزيد، ومع ذلك رصيدهم عند الله صفر أو دون الصفر بلغة المصارف والبنوك.
بل عليه من الأوزار والذنوب ما تنوء بحملها الجبال، ومن الناس من يقضون سنوات قليلة: قد يموت الشاب في الثلاثين من عمره، أو في الأربعين من عمره، ورصيده عند الله جل وعلا مشرق منير، وعمره عند الله جل وعلا عظيم كبير؛ لأن الأعمار لا تقاس بالسنوات، وإنما تقاس بأعمال الخيرات والبر والطاعات.(98/12)
بركة أعمار الأنبياء
انظر إلى نبي الله نوح قضى ألف سنة إلا خمسين عاماً في الدعوة إلى الله، وقدر الله جل وعلا ألا يؤمن معه إلا قليل! وانظر إلى عمر المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم كم عاش؟ وكم كان عدد سنوات دعوته؟ تزيد عن العشرين، فهي قليلة جداً، ومع ذلك استطاع المصطفى في هذا العمر القليل أن يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء! استطاع أن يرد الناس في صحراء تموج بالكفر موجاً إلى الله العلي الأعلى جل وعلا.(98/13)
بركة عمر أبي بكر الصديق
صديق الأمة الأكبر مدة ولايته لا تزيد على سنتين ونصف، حَوَّلَ فيها المحن التي أصابت الأمة إلى منح! في سنتين ونصف قضى على فتنة الردة! في سنتين ونصف أنفذ بعث أسامة! في سنتين ونصف جمع القرآن الكريم، وَرَدَّ الأمة إلى منهج النبي الكريم!! فاستحق من النبي أن يبشره بأن أبواب الجنة كلها ستنادي عليه يوم القيامة؛ إذ إن كل باب من أبواب الجنة يريد أن يدخل منه أبو بكر رضي الله عنه، هل تصدق هذا؟! عبد من عباد الله تتمنى أبواب الجنة أن يمر منها، جاء في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير.
فإن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، وإن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان.
فقال أبو بكر: يا رسول الله! فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها؟ قال المصطفى: نعم، وأنت منهم يا أبا بكر).(98/14)
بركة عمر أمير المؤمنين عمر
فاروق الأمة عمر خلافته عشر سنوات وستة أشهر فقط، قدم فيها للدنيا كلها قدوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، في هذه الفترة القليلة التى لا تساوي أي شيء في حساب الزمن، يقدم عمر لدنيا الناس كافة قدوة لا تبلى بل ولن تبلى، إنها قدوة تتمثل في حاكم بركت الدنيا كلها على عتبة داره وهي مثقلة بالغنائم والأموال والكنوز والطيبات! فقام عمر يسرحها سراحاً جميلاً، قام لينثر على الناس خيراتها، وليدرأ عن الناس مضلاتها وفتنها، حتى إذا ما نفض يديه من علائق هذا المتاع الزائل، قام ليستأنف سيره ومسراه إلى مولاه، انظر إليه هنالك، ستراه يجري في وقت الظهيرة المحرقة وراء بعير من إبل الصدقة قد ند يخشى عليه الضياع، فيلتفت إليه عثمان من شُرفة بيته، يا ترى! من هذا الذي يجري في هذا الوقت الحار؟! إن الشمس تذيب الحجارة والحديد، بل وتكاد أشعتها التي انعكست على الرمال أن تخطف الأبصار، ولما دنا من هذا الذي يجري فإذا به عمر أمير المؤمنين! فقال عثمان: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذه الساعة المحرقة؟! فيرد عمر: بعير من إبل الصدقة قد ند -يا عثمان - أخشى عليه الضياع!! وأخشى أن أسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة!! فقال عثمان: تعال إلى الظل وإلى الماء البارد يا أمير المؤمنين! وكلف أحد عمالك بالبحث عن البعير، فالتفت إليه عمر وقال: عد إلى ظلك ومائك البارد يا عثمان، أأنت ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة؟! إنه عمر الذي أرهب الملوك والحكام، وجاءت تحت قدميه مفاتيح أعظم الإمبراطوريات: إمبراطورية فارس، وإمبراطورية الروم، وانتشر الإسلام في عهد عمر شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بل ورفرفت راية الإسلام على روسيا في عشر سنوات وستة أشهر! إنها بركة الأعمار! إنها الأعمار الطويلة المزكاة المباركة من الله.(98/15)
بركة عمر معاذ بن جبل
معاذ بن جبل شاب من شباب الأمة، شاب أسلم في الثامنة عشرة من عمره، وتوفي في الثالثة والثلاثين من عمره.
لا أقول: في الثالثة والتسعين، ولا في الثالثة بعد المائة، بل في الثالثة والثلاثين من عمره!! في هذه السنوات القليلة، في عشر سنوات أو تزيد قليلاً استطاع معاذ أن يسطر على جبين الزمان، وعلى صفحات التاريخ والأيام، هذا المجد وهذه العظمة وهذا الخلود حتى قال له المصطفى يوماً: (يا معاذ! والله إني لأحبك).(98/16)
بركة عُمْرِ عُمَرَ بن عبد العزيز
عمر بن عبد العزيز شاب في ريعان الشباب، استمرت ولايته قرابة سنتين ونصف، واستطاع فيها أن يضع يده على الداء الذي استشرى في أمة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ونجح في أن يستل جرثومته بيد بيضاء نقية، وأن يعيد البشرية عوداً حميداً إلى الهدى والنور، وكأنها تعيش في زمن الوحي، حتى خرج المنادي يقول: من كان عليه دين فسداد دينه من بيت مال المسلمين!! وهذا الشبل من ذاك الأسد، سدد عمر بن عبد العزيز الديون، وبقيت البركة باركة في بيت المال، فخرج المنادي يقول: من أراد -من شباب المسلمين- أن يتزوج فزواجه من بيت مال المسلمين!! فزوج الشباب، وبقيت البركة باركة في بيت المال!! فخرج المنادي للمرة الثالثة -وهي أعجب- ليقول: أيها الناس! من أراد حج بيت الله -وهو لا يستطيع- فحج بيت الله على نفقة بيت مال المسلمين! وخرج من أراد الحج وبقيت البركة باركة في بيت المال! هل فعل هذا في مائة سنة؟! في ألف سنة؟! لا والله، في سنتين ونصف، ألم أقل لكم: إن العمر يطول بجلائل الأعمال، وعظائم البطولات؟! فيأيها المسلم! أطل عمرك بعمل الخيرات وعمل الطاعات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس، -هذا أمر نبيك، وهذه وصية حبيبك محمد، والحديث رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح- اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك).
اغتنم هذه الغنائم: اغتنم الغنى قبل الفقر، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل المرض، والحياة قبل الموت!! اغتنم هذه الغنائم، ولا تضيع عمرك، ولا تضيع ساعات وقتك، فإن العمر يولي، وغداً سترى نفسك بين يدي الله.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(98/17)
رسالة إلى قتلة الوقت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة الكرام! رسالة أخيرة إلى أشر القتلة! إلى من يقتلون الوقت قتلاً إلى من يقتلون العمر قتلاً إلى من يضيعون الحياة تضييعاً.
يا من تضيع الوقت! أنت تضيع عمرك، وتضيع حياتك، وتنتحر انتحاراً بطيئاً وأنت لا تدري، بل ولا يذكرك أحد بهذه الجريمة الشنعاء التي ترتكبها في حق نفسك.
تسأل الكثيرين الآن: لماذا تفعل كذا؟ يقول: أضيع الوقت!! بل -ورب الكعبة- رأيت بعيني على جبل عرفات في يوم عرفة ناساً بلباس الإحرام قد جلسوا على (الشيشة)! ورأيت بعضهم يجلس على السّلَّم والثعبان! ورأيت بعضهم يلعب (الكوتشينة)؛فتعجبت! واقتربت منهم، وقلت لأحدهم: يا أخي! اتق الله، أنت بلباس الإحرام في يوم عرفة، جئت لتتطهر من كل ذنب، ولترفع إلى الملك أكف الضراعة، وأراكم على هذا اللهو والعبث!! والله لقد رد عليّ جلهم، وقالوا: يا شيخ! اليوم طويل، ونحن نُضيِّع وقتنا! أتضيع وقت عرفات؟! أتضيع وقت الطاعات؟! أتضيع وقتاً يتنزَّل فيه رب الأرض والسماوات؛ ليباهي الملائكة بعباده الذين ذهبوا إليه شعثاً غبراً يطلبون رضوانه ومغفرته؟! أيها القاتل لوقتك، بل لعمرك، بل لحياتك!! والله الذي لا إله غيره ستندم يوم لا ينفع الندم، وستأتي عليك ساعة ستعرف فيها قدر الساعة، وسيأتي عليك زمن تعرف فيه قدر الزمن، وسيأتي عليك وقت تعرف فيه قدر الوقت!!(98/18)
الحسرة على ضياع الأوقات عند الموت
إذا نمت على فراش الموت ستتمنى من الله أن تعود إلى الدنيا ساعة واحدة؛ لتعمل فيها عملاً صالحاً لله جل وعلا.
انظر إليه وهو على فراش الموت، وهو صاحب الجاه والمنصب والأموال والسيارات والعمارات والدولارات! انظر إليه على فراش الموت، وقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة (لا إله إلا الله)، فيشعر أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله! فينظر في لحظة صحوه بين السكرات والكربات الناس من حوله مرة يقتربون، ومرة يبتعدون! ويرى الغرفة التي هو فيها مرة تتسع، ومرة تضيق! وفجأة! يا ترى من هذا الذي أراه يقترب إلي من بعيد، إنه ملك الموت! يا ترى! بأي شيء سينادي علي الآن؟! هل سيقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض غير غضبان أم سيقول: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وعذاب؟! فإذا أفاق لحظة صحوه بين السكرات والكربات، رأى أهله من حوله، ورأى الأطباء من فوق رأسه، فقال بلسان الحال، بل وربما بلسان المقال: يا أولادي! يا أهلي! يا أحبابي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعماركم، افدوني بأموالي، أنا أبوكم! أنا الذي بنيت لكم القصور، وأنا الذي عمرت لكم الدور، وأنا الذي نمَّيت لكم التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! يريد أن يرجع إلى الحياة ساعة، وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96] يتمنى الرجعة، فيقال له: لا.
قال جل وعلا: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:102 - 108] يتمنى أهل النار أن يعودوا إلى الدنيا؛ حتى لا يعودوا إلى الكفر، ولا إلى المعاصي ولا إلى الظلم أبداً، ولكن هيهات هيهات! يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
وقال جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:97 - 100] اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض.
أيها الحبيب الكريم! اعرف قدر وقتك وشرف زمانك، وحقيقة عمرك، وحقيقة ساعات أيامك، فعد الليلة إلى الله، البدار البدار، قبل فوات الأعمار! واسمع إلى العزيز الغفار، وهو ينادي ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم يسر لأبنائنا التوفيق والنجاح يا رب العالمين! ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أقِرَّ أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقِرَّ أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(98/19)
بل هم الخنازير
لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحن وحوادث بسبب الحقد الدفين الذي يحمله اليهود من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، فقد حاولوا في حياته قتله عدة مرات، وبعد موته حاولوا نبش قبره فأحبط الله كيدهم ومكر بهم، وهاهم اليوم يسخرون به صلى الله عليه وسلم في الصحف والجرائد والقنوات، ويتطاولون على جنابه -أخزاهم الله- وهذا مبشر بفتح وخير، ومخرج لهذا الأمة من أزمة الذل والعار والاضطهاد إلى العزة والتمكين بإذن الله!(99/1)
إخوان القردة والخنازير يتطاولون على البشير النذير
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفر، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، نضر الله وجوهكم، وزكى الله نفوسكم، وشرح الله صدوركم، وأسأل الله أن يجمعني مع حضراتكم مع سيد النبيين في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إخوان القردة والخنازير يتطاولون على البشير النذير، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الميمون المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان المخجل في العناصر التالية: أولاً: بل هم الخنازير.
ثانياً: حقد قديم لن يزول.
ثالثاً: الله يدافع عن نبيه.
وأخيراً: نستبشر خيراً ولكن بشرط.
فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأحبة الكرام! وأنا أعلم أن من الأحباب من استمع إلى هذا الموضوع عبر شريط الكاست، ولكنني لا أود أن أحرم هذه الألوف المؤلفة ممن لم يستمعوا إلى هذا الموضوع الهام، أرجو أن لا أحرم أحبابي من هذه الكلمة التي أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.(99/2)
عصر الذل والهوان
أولاً: بل هم الخنازير: آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق آه يا مسلمون في زمن الردة والبهتان، والكل مهان وجبان! يتطاول الكلاب الحمير إخوان القردة والخنازير على البشير النذير، على النبي الكريم، على إمام الأنبياء، وقائد الأصفياء، وسيد الأتقياء، وحبيب رب الأرض والسماء.
لم نر للأمة حتى في مؤتمر صحفي بارد كبرود الثلج موقفاً جاداً ولو بكلمات بائسة تلوكها ألسنة زعماء العرب، أو دخاناً يطير في الهواء، لتعبر الأمة أمام العالم الغربي العميل وأمام الدنيا عن غضبها لنبيها الكريم، لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ماذا تنتظر الأمة بعد هذا الذل؟! لم يكتف اليهود باحتلال الأرض، لم يكتف اليهود بتدنيس الأرض، لم يكتف اليهود بالتخطيط لتدمير الأقصى، بل جاءوا في المرحلة الأخيرة ليجسوا نبض المسلمين، فإن أعظم ما يجب أن يعتز به مسلم هو دين الله، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليهود قد اطمأنوا طمأنينة كاملة إلى أن المسلمين قد كفنوا وماتوا، ودفنوا منذ أمد بعيد! فهم يجسون نبض المسلمين بالإهانة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كبروفة عملية قبل هدم الأقصى، كما قال أكبر حاخامات اليهود: (اهدموا الأقصى، واعلموا أن المسلمين سيغضبون في أول الأمر، ثم بعد ذلك سرعان ما يتناسون هذه القضية)، فهم يعلمون نفسيات الأمة، ويعلمون ذل الأمة، ويعلمون ضعف الأمة، ويعلمون أن الأمة الآن لا تعيش إلا للعروش والكروش والفروش ولا حول ولا قوة إلى بالله! ماذا بعد هذا الذل؟! ماذا بعد هذا الهوان؟! أن يتطاول الكلاب الخنازير على البشير النذير، ويصورونه على صورة خنزير، يطأ بقدميه قرآن الملك القدير، آه حال أمتنا حال عجيبه وهي لعمر الله بائسة كئيبه يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبه ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبه وسيحفرون لأمتنا قبوراً ضمن خطتهم رهيبه قالوا السلام قلت يعود الأهل للأرض السليبه وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبه فإذا السلام هو التنازل عن القدس الحبيبه بئس سلامهم إذاً وبئست هذه الخطط المريبه فالمسجد الأقصى الجريح بالدماء له ضريبه ما هذا الذل والهوان؟ والله والله إن الحياة بعد إهانة رسول الله لرخيصة، والله إن الحياة بعد إهانة رسول الله لحقيرة، ماذا تنتظر الأمة بعد ذلك؟! والله لو دخل اليهود لطحنوا الجميع، والله لن يستقر الكرسي تحت أحد إذا ما دخل اليهود الأرض، وهم الآن يلوحون بالحرب، بل لقد قال نتنياهو في اليابان في الأسبوع الماضي بالحرف الواحد: لقد قبل عرفات قبلة الموت لمحادثات السلام! لقد قبل عرفات قبلة الموت لمحادثات السلام! هم يلوحون الآن بشن حرب على سوريا، بل ويشنون الحرب الآن على جنوب لبنان، على إخواننا المسلمين في لبنان على مرأى ومسمع من العالم الغربي الحقير العميل.
الأمة تنتظر بكل سذاجة أن الغرب سينصر قضيتها، غباء، بل قمة في الغباء، فإن الغرب يحمل نفس العقيدة، فالكفر ملة واحدة، يقول الله سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ولكن الأمة لا تصدق الله، وتصدق مجلس الأمن، وتصدق حلف الأطلسي، وتصدق هيئة الأمم التي وعدت الأمة منذ سنوات بأنها ستعيد لها أرضها المسلوبة، وستعيد لها مقدساتها، وستعيد لها عرضها، ولكن لا زالت الأمة تضرب بالنعال، وستظل الأمة تضرب بالنعال حتى تفيء إلى دين الكبير المتعال، وحتى تنصر دين سيد الرجال صلى الله عليه وآله وسلم.
والله إن القلب ليكاد ينخلع، والله إن حلقي ليجف، والله إن كلمات اللغة في كل قواميسها لتتوارى من بين يديَّ الآن خجلاً وحياءً، ماذا أقول؟! لقد مضى زمن التنظير، مضى زمن المحاضرات الرنانة، مضى زمن المحاضرات والخطب النارية المؤثرة، إن الأمة الآن لا يصلحها إلا الجهاد، إن اليهود الآن لن يتأدبوا إلا بالجهاد، لا تقلم أظفار اليهود إلا بالجهاد، لقد مضى زمن القلم، ومضى زمن الكلمة، وحان وقت الجهاد، حان وقت الجهاد في سبيل الله.
أسأل الله أن يرفع علمه، وأن يرد الأمة إلى الجهاد في سبيله رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله أن يرزقنا شهادة في سبيله إنه على كل شيء قدير.(99/3)
زمن العزة والتمكين
في زمن العزة تطاول يهودي وقح على امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع، فعقد طرف ثوبها من أسفل إلى أعلى، فلما قامت المرأة المسلمة انكشفت سوأتها، فضحك اليهود، فاليهود متخصصون في كشف السوءات والعورات فصرخت المرأة الحيية، فانقض رجل مسلم غيور على هذا اليهودي الخبيث فقتله، فانقض اليهود المجرمون على المسلم فقتلوه، فجر النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً جراراً، فأخرج يهود بني قينقاع إلى أذرعات الشام، وأجلاهم عن المدينة المطهرة المنورة بعدما غنم المسلمون أموالهم.
في زمن العزة تلمح رجلاً اعتز بدينه، يقف بكل استعلاء -استعلاء العقيدة والإيمان- أمام قائد الجيوش الكسروية رستم.
فيقول له رستم: ما الذي جاء بكم إلى هنا؟ فقال له ربعي: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فلقد ابتعثنا الله لندعو الناس إلى دينه، فمن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات في سبيل الله، والنصر لمن بقي من إخواننا.
فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤجلوا هذا الأمر لننظر فيه ولتنظروا فيه؟ فقال ربعي بكل عزة: لا.
ما سن لنا رسول الله عند لقاء العدو أن نؤخره أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك الآن وأمرهم، واختر لنفسك واحدة من ثلاث.
قال رستم: ما هي؟ قال ربعي: أما الأولى: الإسلام، ونقبل وندعك وأرضك.
قال: والثانية؟ قال ربعي: الجزية، ونقبل منك ونكف عنك، وإن احتجت إلينا لنصرتك نصرناك.
قال: والثالثة؟ قال: أما الثالثة فالحرب، ولسنا نبدؤك بقتال فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، أنا كفيل بذلك عن أصحابي.
فقال رستم: أسيدهم أنت؟ أي: هل أنت قائد المعركة؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجبر أدناهم على أعلاهم.
بهؤلاء انتصر الإسلام، وبالرويبضات في عصرنا هزم الإسلام، وتطاول اليهود على نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الحملة الشعواء التي يشنها اليهود الآن على الأقصى، وعلى رسول الله، وعلى الأمة ليطفئ اليهود بها مراجل الغل والحقد التي تغلي في صدورهم منذ أول لحظة بعث فيها المصطفى.
أيها الآباء الفضلاء! أيتها الأخوات الفضليات! يجب أن يتعلم الآن كل مسلم هذه العقيدة، أعني: عقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وعقيدة البراء من الشرك والمشركين، لتعلم -أخي- هذه العقيدة أولادك، ولتخرج من بيتك رجلاً يعرف الولاء والبراء، ليوم قادم حتماً بموعود الله وموعود رسوله، أسأل الله أن يجعل هذا اليوم قريباً.(99/4)
حقد قديم لن يزول
اليهود منذ أول لحظة يحقدون على رسول الله، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء، (حقد قديم لن يزول): لقد استفتح اليهود على الأوس والخزرج قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النبي المنتظر، وقالوا: لنتبعن هذا النبي، ولنقتلن به المشركين قتل عاد وإرم، فلما بعث النبي من العرب حقدوا عليه صلى الله عليه وسلم، وناصبوه العداء منذ أول لحظة وصل فيها رسول الله إلى المدينة، بل وأعلنوا العداء ورسول الله في مكة، فلما هاجر جهروا بعدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم.(99/5)
تخطيط اليهود لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
ولم يكتف اليهود بذلك أيها الإخوة الفضلاء! بل خططوا لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النظير ليستعينهم في دية تحملها عن أصحابه، فاستقبله الخبيث حيي بن أخطب الثعبان وقال: نعم، لقد آن الأوان لنعطيك ما تريد منا يا محمد، اجلس هنا! وأجلس الوقح رسول الله إلى جوار حائط لبيت يهودي خبيث منهم، ثم خلا هذا الثعبان بإخوانه من اليهود، وقال: إنها فرصة، هيا اصعدوا إلى سطح هذه الدار وحطموا رأس محمد بهذه الحجرة العظيمة لنستريح من شره أبداً، وصعد المتآمرون إلى سطح الدار وحملوا حجرة عظيمة ليسقطوها على رأس المصطفى، ولكن هيهات هيهات! فإن الله لا يغفل ولا ينام، أطلع الله نبيه على هذه المؤامرة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً وامتن الله بهذا على نبيه والمؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11].
الفضل لله ابتداءً وانتهاءً، {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة:11] فلما علم الصحابة بهذه المؤامرة، خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاصروا يهود بني النضير، وأجلاهم البشير النذير صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة المنورة.(99/6)
تخطيط اليهود لقتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم
ولم يكتف اليهود بذلك، بل خططوا لسم النبي في خيبر، فلما فتح رسول الله خيبر سم اليهود شاة، وقدموا الشاة لرسول الله ليأكلها فيقتل، وأخذ منها قطعة فتوقف عن أكلها وقال: (إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم -بأبي هو وأمي- وجمع النبي اليهود وسألهم، فصدقوه في هذه وقالوا: نعم، لقد وضعنا فيها السم، قال: لماذا؟ فقال اليهود الخبثاء المجرمون: قلنا لو كنت نبياً لن يضرك مثل هذا، ولو كنت كاذباً استرحنا منك).
فاليهود يحقدون على رسول الله، وعلى الأمة، وعلى الإسلام منذ أول لحظة بعث فيه النبي من العرب من غير جنس اليهود، ولن يرضى اليهود عن محمد وأمته ودينه أبداً إلا بشرط واحد ألا وهو: أن يقلع النبي عن دينه، وأن تقلع الأمة عن دين رسول الله، وأن تتبع الأمة دين اليهود المحرف المزور المبدل، كما قال الله جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].(99/7)
تشكيك اليهود في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته
ثم شككوا في النبي وفي دعوته ونبوته يوم أن تحول النبي صلى الله عليه وسلم من استقبال بيت المقدس إلى استقبال بيت الله الحرام، فأثار اليهود -كشأنهم في كل زمان ومكان- شبهات خطيرة؛ لتحويل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة، فقال اليهود: لماذا تحول محمد من قبلته الأولى إلى بيت الله الحرام؟! لو كانت القبلة الأولى حقاً ثم تحول عنها محمد فقد تحول من الحق إلى الباطل! ولو كانت القبلة الأولى باطلة فإن صلاتكم في السنوات الماضية إلى هذه القبلة الباطلة باطلة! ولو كان محمد نبياً حقاً ما ترك قبلة الأنبياء من قبله وما فعل اليوم شيئاً وخالفه غداً! فنزل قول الله جل وعلا: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:142 - 143]، والإيمان في هذه الآية هو الصلاة، أي: وما كان الله ليضيع صلاتكم إلى القبلة الأولى، {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:143 - 144].(99/8)
إعلان اليهود الحرب والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم
ذهب -في أول يوم وصل فيه المصطفى إلى المدينة- حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب، فنظرا إلى وجه النبي فعرفاه، فقال أبو ياسر لأخيه حيي: أهو هو؟ قال: نعم، والله إنه لهو.
فقال أبو ياسر: هذا هو النبي الذي كنا ننتظر؟ فقال حيي: إي والله إنه لهو.
فقال أبو ياسر: تعرفه بصفته؟ فقال حيي: نعم، أعرفه بصفته.
فقال أبو ياسر: فماذا تجد في نفسك؟ فقال المجرم: عداوته والله ما بقيت.
يا مجرم! أنت الذي ذكرت أنه هو النبي الذي ذكر في التوراة بصفته! ولكنه الحقد، وفي هذا اليوم جاء عبد الله بن سلام عالم اليهود الأكبر وحبر اليهود الأعظم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري من حديث أنس - فقال: (يا محمد! إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فقال المصطفى: ما هي؟ قال عبد الله بن سلام: أسألك عن أول أشراط الساعة؟ وما هو أول طعام أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال المصطفى: لقد أخبرني بهذا جبريل آنفاً، أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة: فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع -أي: كان المولود ولداً- وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت -أي: كان المولود بنتاً- وفي لفظ مسلم من حديث ثوبان: إذا علا مني الرجل مني المرأة كان ذكراً بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل كأن أنثى بإذن الله، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله)، عالم منصف.
ثم قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، يعرفون الحق وينكرونه ويكذبونه، فأرسل إلى اليهود واسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فأرسل النبي إلى بطون اليهود فأقبل اليهود، فقال لهم بعدما اختفى ابن سلام: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، -وفي رواية: وأفضلنا وابن أفضلنا- فقال لهم المصطفى: فماذا لو أسلم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله بن سلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرد اليهود المجرمون على لسان رجل واحد وقالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا، وشرنا وابن شرنا).
فاليهود قوم بهت، عرفوا النبي تماماً ولكنهم شككوا في نبوته منذ اللحظة الأولى، ونزل قول الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
من أجمل ما قاله عبد الله بن سلام: (والله إني لأقر لمحمد بالنبوة أكثر مما أقر لابني بالبنوة) فإن الذي أخبر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو الله رب العالمين، فشكك اليهود في نبوته منذ أول لحظة وصل إلى المدينة المنورة، بل منذ أول لحظة بعث فيها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: يا محمد! إن كنت رسولاً من عند الله فلقد جاءنا موسى بالألواح من السماء، فإن كنت نبياً حقاً فاطلب من ربك أن ينزل عليك ألواحاً من السماء لنطمئن لنبوتك، فنزل قول الله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء:153]، أي: لموسى.
وذهبوا للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: اطلب من ربك يا محمد أن يكلمنا وأن يخبرنا أنه قد أرسلك رسولاً، فنزل قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء:153]، وقال الله جل وعلا: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118].(99/9)
إن الله يدافع عن نبيه
أيها الأحبة الكرام! أبشروا فإن الله جل وعلا هو الذي يدافع عن نبيه، فلئن خذلت الأمة الآن رسول الله فوالله سيثأر الله وينتقم لرسوله، كما انتقم الله لرسوله في كل مرة تطاول فيها وقح مجرم على جناب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو العنصر الثالث: (إن الله يدافع عن نبيه).
أيها الأحبة الكرام! والله ما تعرض أحد لرسول الله بسوء أو أذى إلا قصم الله ظهره، ودق الله عنقه، وأخزاه الله في الدنيا قبل الآخرة، وتدبروا معي هذه الأدلة الكريمة القوية الطيبة التي تؤكد لحضراتكم بأن الله جل وعلا هو الذي سيثأر لرسوله، في وقت خذلت فيه الأمة نبيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(99/10)
قصة النصرانيين اللذين أرادا سرقة الجثة النبوية من القبر الشريف
أختم هذه الأدلة في هذا العنصر الثالث من عناصر لقائنا بهذه الحادثة المفجعة، التي ذكرت في كل كتب التاريخ، والتي أرخت للمدينة المنورة، ذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام المراري، وذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام المطري، وذكرت في الرياض النضرة لـ محب الدين الطبري، وذكرت في كتاب تاريخ المدينة المنورة للإمام السمهودي، وذكرت في كل الكتب التاريخية التي أرخت لمدينة رسول الله، هذه الحادثة حدثت في السنة السابعة والخمسين بعد الخمسمائة، في عصر السلطان العادل الزاهد الورع التقي محمود نور الدين زنكي، قام هذا الرجل يصلي، فلقد كان الزعماء قديماً يقومون الليل لله.
قام هذا الرجل يصلي، فقرأ ما يسر الله له من القرآن، وصلى ما يسر الله له أن يصلي ثم نام، فجاءه المصطفى في المنام، وأشار المصطفى إلى محمود، ثم أشار إلى رجلين أشقرين، وقال المصطفى لـ محمود نور الدين زنكي: يا محمود! أنقذني من هذين الرجلين، فقام محمود من نومه فزعاً، فتوضأ وصلى، ثم نام، فما أن نام الرجل حتى جاءه النبي مرة ثانية وقال: أنقذني من هذين الرجلين يا محمود، فاستيقظ الرجل فزعاً فتوضأ وصلى وجلس، ثم نام، فجاءه النبي للمرة الثالثة وأشار على نفس الرجلين، وقال: أنقذني من هذين يا محمود، فقام الرجل وقال: والله لا نوم بعد الساعة، وأرسل إلى وزير صالح تقي في بطانته يقال له جمال الدين الموصلي، فجاء جمال الدين الموصلي في جوف الليل إلى السلطان التقي الزاهد الورع، فقص عليه السلطان ما رأى.
فقال له جمال الدين: اخرج الآن يا مولاي إلى مدينة رسول الله، ولا تخبر أحداً لما ذهبت، فخرج في نفس الليلة مع جند من جنده وحمل أموالاً طائلة، وذهب إلى المدينة ووصل المدينة في أسبوعين فقط، ثم زار المسجد النبوي، ثم ذهب للسلام على الحبيب النبي، فلما سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم -أسأل الله أن يرزقني وإياكم زيارة لمسجد حبيبه، وأن يشرفنا وإياكم بالسلام على المصطفى إنه ولي ذلك والقادر عليه- جلس السلطان الورع في الروضة الشريفة يبكي ويفكر ماذا يصنع؟ وماذا يفعل؟ فلما التف الناس حول السلطان من المدينة، قام الوزير الذكي العبقري جمال الدين الموصلي وقال: أيها الناس! لقد أتى مولاي لزيارة المسجد النبوي، وللسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء بأموال كثيرة، وهو يريد أن يوزع هذه الأموال بنفسه على كل فرد من أفراد المدينة، ليرى السلطان الوجوه بنفسه، فجاء أهل المدينة إلى السلطان، وأخذ السلطان يمنح الأموال وينظر ويدقق النظر في الوجوه، فلم ير وجهاً من الوجهين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم، ففزع الرجل وقال: ألم يبق أحد؟! قالوا: لا.
يا مولانا، فقال الرجل: لا والله، فكروا وتدبروا.
قالوا: لم يبق أحد والله يا مولانا من أهل المدينة، فقال رجل: يا مولاي! لم يبق أحد إلا رجلين صالحين، وهما غنيان ثريان ينفقان على المسلمين، ولا يحتاجان الصدقة من أحد.
فقال: عليّ بهما، فجاء الرجلان، فلما نظر إليهما السلطان العادل بكى، وقال: اللهم صل على محمد، هما والله هما، هما والله هما، قال: ما شأنكما؟! فقالا: أتينا حاجين، أتينا لنجاور الأسرة النبوية الشريفة، ولنتعبد لله إلى جوار رسول الله، ولنكثر الصدقة والنفقة على فقراء المسلمين.
قال السلطان: أين بيتكما؟ والناس في حيرة ودهشة، ما هذا؟! لماذا يهتم السلطان لمثل هذا الأمر؟! وخرج السلطان بنفسه إلى بيت المجرمين الخبيثين، فدخل الحجرة فلم يجد شيئاً، بل وجد مصحفين، ووجد مسبحتين، ووجد أموالاً طائلة، ولم ير شيئاً يلفت النظر، فسأل عن الرجلين، وأهل المدينة يثنون على الرجلين خير الثناء.
ودخل السلطان غرفة من غرف البيت فوجد حصيراً في جانب البيت، فرفع الحصير فوجد سرداباً تحت الأرض كاد أن يصل إلى قبر المصطفى، فقال: ما هذا؟ قصا عليَّ الخبر.
فقالا: أرسلنا قومنا من النصارى بأموال طائلة لنتظاهر بالزهد والعبادة والورع، ولنحفر سرداباً تحت المسجد، لنصل إلى جثمان محمد لنخرجه من قبره! وظن هؤلاء الخبثاء المجرمون أنهم يستطيعون أن يصلوا إلى الجسد الطاهر، ولكن هيهات هيهات! ففي الليلة التي كادا أن يصلا فيها إلى القبر رعدت السماء وأبرقت، وظهر المصطفى في المنام لهذا السلطان الورع العادل، فلما عرف الأمر ضرب رأس كل واحد منهما تحت شباك الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وجلس السلطان يبكي بكاءً مريراً لهذا الشرف العظيم الذي شرفه الله عز وجل به، ولم يغادر مدينة رسول الله حتى أمر بصب سور ضخم من الرصاص القوي المتين حول الحجرة النبوية الشريفة كلها، وقد ظن هؤلاء المجرمون أنهم سيصلون إلى الجثمان الطاهر، إلى جثمان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونسي هؤلاء أن الذي حفظ نبيه وهو حي هو الحي الباقي الذي لا يموت، فالله جل جلاله هو الذي يثأر لنبيه ويدافع عن نبيه.
يا إخوتي! والله إني لأستبشر الآن خيراً بعدما وقع اليهود في عرض رسول الله، أستبشر الآن خيراً بعدما سب اليهود رسول الله، أستبشر بقرب الفتح إن شاء الله جل جلاله، فلقد وقفت على كلام كثير لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الشهير الممتع: الصارم المسلول على شاتم الرسول، قال ابن تيمية: حدثني العدول من أهل الفقه أنهم كانوا يحاربون الروم، ويحاصرون الحصن أو المدينة شهراً أو أكثر فلا يستطيعون فتحه، يقول: حتى إذا وقع أهل الحصن في عرض رسول الله استبشرنا خيراً بقرب فتح الحصن، يقول: فوالله لا يمر يوم أو يومان إلا وقد فتحنا الحصن عليهم بإذن الله جل وعلا، ثم قال: كانوا يستبشرون خيراً بقرب الفتح إذا ما وقعوا في عرض رسول الله، مع امتلاء قلوبهم غيظاً على ما قالوه في حق المصطفى.
ونحن والله نستبشر خيراً بقرب الفتح إن شاء الله، فالله يهيئ الأرض الآن لأمر أراده، الله يهيئ الكون الآن لأمر دبره: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، نستبشر الآن خيراً ولكن ليس بالأماني ولا بالكلمات بل بشرط عملي أرجئه إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(99/11)
عاقبة أبي جهل
وهذا هو فرعون هذه الأمة أبو جهل عليه لعنات الله بقدر ما آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه: أنه سأل إخوانه من صناديد الشرك يوماً وقال: أيعفر محمد وجهه بين أظهركم -يعني: يسجد محمد بين أظهركم-؟ واللات والعزى؛ لئن رأيت محمداً لأطأن على عنقه، ولأعفرن وجهه بالتراب، فسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء هذا الوغد الوقح يزعم أنه سيطأ بنعليه على رقبة رسول الله وهو ساجد، فلما اقترب من النبي عاد القهقرى -عاد إلى الوراء- وهو يجمع بيديه هكذا وهكذا، فلما وصل إلى إخوانه من أهل الشرك قالوا: ما بالك رجعت؟ فقال أبو جهل: والله إن بيني وبين محمداً لخندقاً وهولاً وأجنحة، فقال المصطفى: (والله لو دنا مني لتخطفته الملائكة عضواً عضواً).
هل تعرف نهاية أبي جهل؟ قتل في بدر، سقط وهلك في بدر، قتله صقران من صقور المسلمين، شابان في ريعان الشباب، اقتربا من عبد الرحمن بن عوف، وقال كل واحد منهما لـ عبد الرحمن: يا عماه! أين أبو جهل؟ فاستصغر عبد الرحمن بن عوف هذا الشاب الصغير، ماذا تريد من أبي جهل؟ فقال: سمعت أنه يسب رسول الله، والله لئن رأيته لأقلتنه، والتفت إلى يساره ووجد شاباً آخر يقول له مثل هذا الكلام، فلما رأى أبا جهل أشار إليهما فانقضا عليه كالصقرين، فقتلاه، وعادا في غاية الفرح والسرور إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول كل واحد منهما: أنا الذي قتلت أبا جهل، والآخر يقول: لا، بل أنا الذي قتلت أبا جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما الدماء عن سيفيكما؟ قالا: لا، فأخذ النبي السيف الأول، وأخذ السيف الآخر، فنظر إلى دماء المجرم على السيفين فقال لهما: كلاكما قتله)، لم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما من هذا الشرف.
وخلص ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك على هذا المجرم، وأهلكه الله تبارك وتعالى، ورمي كالجيفة النتنة كما هو معلوم من كتب السير، هذه نهاية هذا المجرم الذي طالما سب وآذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها الأحبة الكرام! أقول: والله ما تعرض أحد للمصطفى بسوء أو أذى إلا قصم الله ظهره، ودق الله عنقه، وأخزاه الله في الدنيا قبل الآخرة، وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنهما قال: (كنا في غزوة ذات الرقاع، إذ رأينا شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنام النبي ذات يوم تحت الشجرة، وعلق سيفه عليها، فجاء رجل مشرك فأخذ سيف نبي الله، وأراد أن يهوي بالسيف على النبي وهو نائم، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه والسيف على رأسه، فقال له هذا المشرك واسمه غورث بن الحارث: أما تخافني يا محمد؟ قال المصطفى: لا، فقال غورث: فمن يمنعك مني الآن؟ قال المصطفى: الله، فسقط السيف من يد هذا الرجل، فأخذ النبي السيف بيده وقال له: من يمنعك مني الآن؟ قال: كن خير آخذ يا محمد، فقال له المصطفى: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال الرجل: لا، إلا أني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فانطلق الرجل إلى قومه ليقول لهم: يا قوم! والله لقد جئتكم من عند خير الناس، من عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم).
فالله عز وجل هو الذي يحفظ نبيه، وهو الذي يدافع عن نبيه، ولا أريد أن أكثر من الأدلة في هذا الباب، فإنني أرى إخواني -جزاهم الله خيراً- يقفون في الشمس قبل أن أرتقي المنبر، أسأل الله أن يقيهم وأن يقينا معهم حر جهنم، وأن يتقبل منا ومنهم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعنا هكذا في جنات النعيم مع سيد الرجال، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(99/12)
عاقبة عقبة بن أبي معيط
والله لا يعرف قدر رسول الله إلا الله، لذا تولى الله الثأر والانتقام والدفاع عن نبيه، وفي الحديث الذي رواه الطبراني بسند رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو نعيم في الدلائل بسند صحيح، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عقبة بن أبي معيط -عليه لعنات الله بقدر ما آذى رسول الله- أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في مجلسه فبصق في وجه المصطفى)، وهو الذي وضع النجاسة على ظهره يوماً، والحديث في البخاري، وهو الذي خنق النبي صلى الله عليه وسلم يوماً حتى كادت أنفاسه أن تخرج، والحديث في البخاري.
جاء هذا المجرم الوقح فبصق في وجه الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، فما زاد النبي على أن مسح البصاق عن وجهه الأزهر الأنور، والتفت إلى هذا الوغد الوقح وقال: (والله لو رأيتك خارج جبال مكة لأضربن عنقك)، فارتعد هذا المجرم من هذا الوعد النبوي، انظر لتعلم نهاية كل من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
في غزوة بدر أبى هذا الجبان أن يخرج مع المشركين، قالوا: كيف يا عقبة؟ قال: أنسيتم ما وعدني به محمد أنه لو رآني خارج جبال مكة ليضربن عنقي! قالوا: إن لك ناقة لا تسبق، فإذا كانت الهزيمة طرت عليها إلى مكة، فخرج معهم هذا الجبان المجرم، ولكن أنى لهذا الوقح أن يفلت من وعد الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لما تبعثر المشركون في أرض الجزيرة كتبعثر الفئران أمام ضربات الحق من سيوف الموحدين الصادقين مع رسول الله، جرى هذا الجبان على ظهر بعيره، ولكن هيهات هيهات فقد سقط به بعيره في بركة من طين، ووقف البعير لم يستطع أن يتحرك، وأخذ هذا المجرم مع أسرى المشركين، فقدم لرسول الله ليضرب عنقه فقال له عقبة: أتقتلني من بين هؤلاء يا محمد؟ فقال له المصطفى: (نعم أقتلك إذ بصقت في وجهي يوماً، أنسيت أني قلت لك: والله لو رأيتك خارج جبال مكة لضربت عنقك؟ فأمر النبي علياً فضرب علي عنقه)، هذه نهاية عدل.(99/13)
انتقام الله لنبيه من رجل اتهمه بالغباء حال حياته
فلقد روى البخاري ومسلم من حديث أنس: (أن رجلاً نصرانياً أسلم وكتب الوحي لرسول الله، وقرأ البقرة وآل عمران، ثم ترك الإسلام وعاد إلى نصرانيته مرة أخرى، ثم كذب على النبي فقال: لا يعلم محمد إلا ما كنت أكتبه له، فأهلكه الله جل وعلا، فدفنه أصحابه فأصبحوا فوجدوا الأرض قد لفظته لم تقبل الأرض مثل هذا الخبيث الذي آذى وكذب على رسول الله فقد أصبحوا فوجدوا الأرض قد لفظته -أي: أخرجته على سطحها- فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم صاحبنا وعاد إلى ديننا أخرجوه ونبشوا عليه القبر، فدفنوه فلما أصبحوا وجدوا الأرض قد لفظته)، فأعمقوا له في الأرض، وقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، فلما أصبحوا وجدوا الأرض قد لفظته، فأعمقوا له ما استطاعوا ودفنوه، فلما أصبحوا وجدوا الأرض قد لفظته، فعلموا أن هذا ليس من فعل الناس، وعلم الناس يقيناً أن هذا من فعل رب الناس، ثأراً منه ودفاعاً عن سيد الناس صلى الله عليه وآله وسلم.
فالله جل وعلا هو الذي يدافع عن نبيه، بل ما من نبي من الأنبياء إلا وقد دفع عن نفسه التهم التي وجهت إليه من قبل القوم الذين أرسل إليهم: قال قوم نوح لنوح: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60]، فقال نوح عليه السلام مدافعاً عن نفسه: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ} [الأعراف:61].
وقال قوم هود لهود عليه السلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66]، فقال هود مدافعاً عن نفسه: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67].
وقال فرعون لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، فدافع موسى عليه السلام عن نفسه وقال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
أما المصطفى فإن الذي تولى الدفاع عنه هو الله جل جلاله: اتهمه القوم بالجنون؛ فدافع الله عن حبيبه المصطفى فقال: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، واتهمه القوم بالشعر والكهانة، فدافع الله عنه فقال: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41 - 42].
اتهمه القوم بالضلال؛ فدافع الله عنه فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
اتهمه القوم بأن ربه قد غضب عليه وهجره وقلاه؛ فأقسم الله بالضحى والليل إذا سجى أن محمداً هو حبيبه، وأنه ما هجر محمداً وما قلاه، فقال جل في علاه: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3].
أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد(99/14)
وقوع اليهود في عرض النبي صلى الله عليه وسلم بشارة بعقابهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! أقول: نستبشر خيراً أن وقع اليهود في عرض النبي صلى الله عليه وسلم نستبشر بقرب الفتح إن شاء الله تعالى، ولكن بشرط ما هو؟ أن ترفع الأمة الآن راية الجهاد في سبيل الله، وأن يعود الزعماء بالأمة ابتداءً إلى شرع رب الأرض والسماء، وأن يصححوا العقيدة، ويخلصوا العبادة، ويحكموا شريعة النبي الطاهرة، وأن يرفعوا راية الجهاد في سبيل الله، فوالله -وأنا أعلنها وأدين لله بها- إن هذه المرحلة لا يصلحها ولا يصلح معها إلا أن تضحي الأمة بعشرات الآلاف من شبابها الطاهر الذي يتشوق الآن للجهاد في سبيل الله، ويكاد قلبه أن يحترق لينال هذا الشرف العظيم، لا سبيل لكرامة الأمة إلا أن تضحي بعشرات الآلاف من شبابها الصادق الطاهر لترفع دين الله، ولتعلي شأن شريعة رسول الله، ولتثأر من إخوان القردة والخنازير، للبشير النذير صلى الله عليه وسلم، فإن اليهود جبناء: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
والله والله لو تبناها زعيم عربي واحد فاصطلح هو ابتداءً مع الله، وعاد إلى الله، وحكم شرع الله، وبين عشية وضحاها رفع راية الجهاد في سبيل الله، لانطوى تحت الراية ملايين الرجال، وملايين الشباب، وعشرات الآلاف من الأخوات والنساء، وخرج الجميع يقولون: حي على الجهاد، حي على الفلاح، وحينئذٍ سترى الأمة صدق وعد الله وصدق وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا عز لها إلا بالجهاد، ولا شرف لها إلا بالجهاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وقال المصطفى كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
فلا عز للأمة إلا بالجهاد، وأنا أعلم أن للجهاد ضوابط، وأنا أعلم أن للجهاد أصولاً، فيجب على هذه الأمة أن تفسح المجال، وأن تهيئ الوقت والبيئة لتنال هذا الشرف بالجهاد في سبيل الله، فإن شباب الأمة الآن يحترق قلبه ويتشوق للجهاد، وأنا أعلم علم اليقين أنه ما من رجل أو شاب أو امرأة إلا ويتمنى أن لو نودي الآن في مثل هذه اللحظات: حي على الجهاد، والله لن يخرج كل هؤلاء من بين يدي إلا على ساحة الجهاد، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله.
فليكلفنا زعيم عربي واحد، فليكلف الدعاة وليكلف العلماء بعدما يعود هو ابتداءً إلى الله جل جلاله، ويحكم شريعة الله، وليكلف العلماء والدعاة، وسيجيش العلماء والدعاة ملايين الشباب من هذه الأمة، يخرج الكل يشتاق للشهادة في سبيل الله، ولصحبة رسول الله، وسيخرج أبناؤنا ليهتف الجميع: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.(99/15)
واجبنا في الدفاع عن الجناب النبوي الشريف
أيها المسلم بين يدي! تعلم عقيدة الولاء والبراء، هذا هو ما في مقدورك الآن، فأنا لا أريد أن أنظر فقط، وأن يخرج الجمع يلتهب، ثم يتساءل: ماذا نصنع؟ وماذا نفعل؟ لا أريد التنظير، وإنما سأحدثك بما يمليه علينا الواقع الآن، أما إن أردت التنظير فما أيسره! فأقول لك أيها الحبيب: تعلم الآن عقيدة الولاء والبراء، تعلم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وتعلم البراء من الشرك والمشركين، وحول هذه العقيدة في حياتك العملية إلى واقع عملي وإلى منهج حياة.
ثانياً: علم هذه العقيدة لأولادك.
ثالثاً: أخرج من بين أولادك رجلاً، وقل: اللهم إني قد نذرت هذا لك، فتقبله مني يا رب العالمين شهيداً في سبيلك، رب أولادك على روح الجهاد.
رابعاً: استعد أنت استعداداً نفسياً وبدنياً ليوم قادم بموعود الله، إن أدركته فأنت مستعد، وإن لم تدركه فقدم له ولدك، قدم لهذا اليوم المقبل ولدك، أخرج من بيتك رجلاً بطلاً، يعرف الإسلام ويعيش للإسلام وبالإسلام.
وأنتِ يا أختاه كوني عوناً للزوج في هذه المرحلة على أن تربي أولادكِ تربية طيبة، تليق بهذه الظروف الحرجة التي تمر بها أمتنا، فلن يحرر الأقصى إلا جيل تربى على القرآن والسنة، وإن أول من سيفر من الميدان هم الذين يرفعون الآن فوق الرءوس والأعناق من الممثلين والممثلات، والمطربين والمطربات، واللاعبين واللاعبات، ولن يقف في الميدان برجولة إلا من كان من أبناء الأمة الصادقين في مشارق الأرض ومغاربها، أسأل الله أن يرد الأمة إلى الحق رداً جميلاً.
أيها المسلم الكريم: أرجو الله أرجو الله أرجو الله أن نكون كهؤلاء البكائين الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم إلى الجهاد في سبيل الله، فاعتذر لهم النبي أنه لا يجد لهم الناقة، ولا يجد لهم الدابة، ولا يجد لهم النفقات، فمنا الآن من لا يملك الناقة، ومن لا يملك النفقات، بل ومن ملك الذهاب إلى ساحة جهاد فسيحال بينه وبين الجهاد على أيدي هؤلاء الذين رفعوا الذل والمهانة.
فأرجو الله -والله يعلم ضعفنا وفقرنا وذلنا- أن نكون من بين هؤلاء الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحملهم معه، فلما اعتذر لهم رسول الله تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن رسول الله لا يقدر على أن يحملهم للجهاد، فعادوا إلى بيوتهم وهم يبكون، عادوا إلى بيوتهم وهم يتضرعون إلى الله أن يفتح لهم باباً للجهاد في سبيل الله.
فأر الله اليوم من قلبك هذه النية، أروا الله اليوم من أنفسكم خيراً، فوالله ثم والله ثم والله لو سألنا الله الشهادة بصدق لكتبنا الله عنده في الشهداء، ولبلغنا الله منازل الشهداء ولو مات الواحد منا في مسجده الآن أو في فراشه أو في وظيفته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث سهل بن سعد، قال عليه الصلاة والسلام: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء)، وفي الصحيحين: (إن في المدينة أقواماً ما قطعتم وادياً، ولا سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة إلا كانوا معكم شاركوكم الأجر، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: حبسهم العذر).
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راح اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك عمالة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الموحدين، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واكشف همومنا، اللهم فك أسرنا، اللهم تول أمرنا، اللهم أحسن خلاصنا، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا.
اللهم عليك باليهود، اللهم أذل اليهود، اللهم املأ بيوتهم ناراً، اللهم املأ قلوبهم ناراً، اللهم زلزل حصونهم، اللهم دمر بيوتهم، اللهم رمل نساءهم، اللهم شتت أطفالهم، اللهم املأ قلوبهم ناراً كما ملئوا قلوب الموحدين غيظاً، اللهم دمرهم قبل أن يدمروا الأقصى، اللهم دمر اليهود قبل أن يدمروا الأقصى، إلهنا! لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، يا منجي الهلكى، يا منقذ الغرقى، يا منجي الهلكى، يا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا ألله يا ألله يا ألله ارفع مقتك وغضبك عنا، لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، وعز الموحدين، اللهم ائذن في تحرير الأقصى الأسير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره برحمتك يا أرحم الراحمين! نعوذ بك أن نغتال من فوقنا، نعوذ بك أن نغتال من تحتنا، نعوذ بك أن نغتال عن يميننا ويسارنا.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، اللهم احفظنا بحفظك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني أنا ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(99/16)
تحذير الأحباب ممن حرم النقاب
لا يزال الحق والباطل يصطرعان ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولا يزال أهل الحق يكشفون شبه أهل الباطل المزخرفة، ويردون عليهم، ويفندون آراءهم، وإن من الأباطيل المحدثة: القول بحرمة النقاب، ووصفه بالتشدد والتنطع، وقد رد أهل العلم على هذه الدعوى السافرة والإفك المبين بالحجج البينات، والأدلة الواضحات.(100/1)
تحية وبشرى إلى بنت الإسلام
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فمرحباً مرحباً بأحبابي وإخواني في الله عز وجل، ومرحباً مرحباً بأخواتي الفضليات، واسمحوا لي أن يكون هذا اللقاء رداً علمياً هادئاً على من حرم النقاب، وأضرع إلى الله جل وعلا أن ينفع بهذا اللقاء، وأن يجعله خالصاً لوجهه، وأن يكون زاداً لنا يوم نلقاه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف أركز الحديث في عدة عناصر: أولاً: تحية وبشرى إلى بنت الإسلام.
ثانياً: دعوى محدثة وأقوال خطيرة.
ثالثاً: كتاب تذكير الأصحاب في الميزان.
رابعاً: الأدلة الشرعية على وجوب الحجاب.
خامساً: عتاب ودعوة.
سادساً وأخيراً: أيتها المنقبة! أولاً: تحية وبشرى إلى بنت الإسلام: هذا نداء أصل العز والشرف والحياء، إلى صانعة الأجيال ومربية الرجال، إلى من تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها.
إلى أختي المسلمة التي تصمد أمام تلك الهجمات الشرسة، وتصفع كل يوم دعاة التحرر والسفور بتمسكها بحجابها ونقابها.
تحية وبشرى إلى هذه القلعة الشامخة أمام طوفان الباطل والكذب، إلى أختي الفاضلة التي تحتضن كتاب ربها وترفع لواء نبيها وهي تصرخ في وجوه المبتدعين قائلة: بيد العفاف أصون عز حجابي وبعصمتي أعلو على أترابي إليك أيتها الدرة المصونة! إليك أيتها اللؤلؤ المكنون! أقدم لك التحية والبشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الغربة الثانية التي تنبأ بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (بدأ الإسلام وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، طوبى لك يا بنت الإسلام! وهنيئاً لك يا صاحبة الحجاب! يا درة! حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا درة! قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب؟ وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب؟ أختاه نفسك نبت لا جذور لها ولست مقطوعة مجهولة النسب أنت ابنة العرب والإسلام عشت به في حضن أطهر أم من أعز أب أيتها الأخت الفاضلة الصابرة! لقد علم أعداء ديننا أن المرأة المسلمة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، فراحوا يخططون لها في الليل والنهار؛ لشل حركتها والزج بها في مواقع الفتنة، وأعلنوها صريحة في هذه المقولة الخطيرة، حيث قال أحدهم: كأس وغانية يفعلان في تحطيم الأمة المسلمة أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات.
لقد عز عليهم أن تجود المسلمة من جديد على أمتها بالعلماء العادلين والمجاهدين الصادقين، فصار همهم أن تصير المسلمة عقيماً لا تلد، خشية أن تلد من جديد خالداً وصلاح الدين وابن تيمية وغير هؤلاء.
ولذلك لم يرفعوا أيديهم عن أمتنا ويسحبوا جيوشهم العسكرية من بلادنا، إلا بعد أن اطمئنوا أنهم خلفوا وراءهم خطاً فكرياً جديداً أميناً على كل أهدافهم، وأطلقوا على أفراد هذا الجيش أفضل الألفاظ والأوصاف كالمحررين والمجددين وأحاطوا هذا الصنف بهالة من الدعاية الفاسدة تخفي جهله، وتغطي انحرافه، وتنفخ فيه ليكون شيئاً مذكوراً، وتحدث حوله ضجيجاً يلفت إليه الأسماع ويلوي إليه الأعناق، وكل هذا في الحقيقة والله لا يفيد من جهله علماً، ولا من قلبه تقوى، ولا من بعده عن قلوب الناس قرباً، فهو كالطبل الأجوف يسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خال.
ومما يمزق الضمائر الحية أن يكون من بين هؤلاء بعض المتصدرين للفتوى، والمتسمين بسمة أهل العلم الشرعي الديني، الذين يزورون لأهل الباطل وأعداء الدين شبهاً عرجاء يتكئون عليها، لينفذوا مآربهم من تدمير صفة هذه الأمة، وتدمير وجهتها وقبلتها من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!(100/2)
بدعة القول بتحريم النقاب
أيها الأحبة! إن مما ابتلينا به في هذه الأيام: بدعة محدثة خطيرة، وقولة آثمة شريرة، ألا وهي القول بتحريم النقاب، تولى كبرها طبيب بيطري يرأس تخصصات الطب الشرعي والسموم بجامعة القاهرة.
إن هذه الدعوى أوسع من الغبراء، وأكبر من أن تظلها الخضراء دعوى مخترعة محدثة لم تسمع من قبل من أحد من العلماء دعوى فاسدة يغني فسادها عن إفسادها باطلة يغني بطلانها عن إبطالها.
إنها دعوى أن المحجبة المنقبة آثمة عاصية مجرمة مستحقة لعقاب الله وغضبه بسبب ارتدائها النقاب، وأن المتهتكة المتبرجة أفضل منها؛ لأنها أقل ابتلاءً وأقرب إلى سواء السبيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون! هل سمعتم -يا عباد الله! - قولة خطيرة على مدى التاريخ كله كهذه القولة الجائرة الظالمة؟! لماذا يثير النقاب هذه البغضاء الكامنة في قلوب هؤلاء؟ لماذا لا يطيقون رؤية النقاب؟ لماذا يعلنون الحرب على الستر والعفاف؟ لماذا لا تكون هذه الحرب الهوجاء على التبرج والعري والعهر والفجور والإباحية والعربدة تحت ستار المدينة والتطور المظلم الأسود؟ لماذا لا تكون هذه الحرب الشعواء على المتبرجات على الكاسيات العاريات المائلات المميلات، اللائي ينفثن سموم الفتنة في قلوب الشباب والرجال في الليل والنهار؟ لقد أصبحت المنقبة الطاهرة آثمة في عصر تبدلت فيه الحقائق، وانقلبت فيه الموازين، فصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة.
أصبحت المنقبة هي الآثمة العاصية المجرمة، والمتهتكة الخليعة المتبرجة هي الأقرب إلى سواء السبيل!! رويداً رويداً، ومهلاً مهلاً يا دعاة التبرج والسفور! فأين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأحمد وهو من معجزات النبي الخالدة من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
وفي رواية الإمام الطبراني: (العنوهن فإنهن ملعونات).
فلا تبال بما يلقون من شبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب؟ لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب؟ وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يهزم ولم يغب في ركبه شرف الدنيا وعزتها ويوم نبعث فيه خير منقلب هذه الدعوة خطيرة، وكان من الواجب على كل العلماء والدعاة أن يتصدوا لها، لماذا؟ لأنها اشتهرت وانتشرت، وفرضتها جريدة النور -حيث لا نور- على الناس فرضاً ولمدة تسعة أشهر كاملة! وأخيراً تحولت هذه الفتوى إلى كتاب كبير يعلن عنه في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ومما يؤلم القلب أن مجلة (أكتوبر) قد أجرت حواراً مع فضيلة المفتي بعنوان (مجرد غسيل مخ)، وزعم فضيلته أن النقاب ليس من الإسلام في شيء، ثم أثنى ثناءً حميداً على مقالات: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، ووصفها بأن حجتها قوية وقاطعة.
ونود أن نذكر فضيلة المفتي بما كتبه هو بيده في تفسيره للقرآن العظيم في سورة الأحزاب، فلقد فسر فضيلته آية الإدناء بأنها تشمل تغطية الوجه من المرأة، ولكن هذا الحكم الذي كتبه فضيلته كان قبل أن يتولى فضيلته منصب الإفتاء، نسأل الله الثبات على الحق، ونسأل الله حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي عمرو جرير بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).
أيها المسلمون! أيتها المسلمات! إليكم بعض الأقوال الخطيرة التي نشرها صاحب هذا الكتاب لتشهدوا عليه وعليها أمام الله عز وجل -إن لم يتب ويرجع إلى الله- في يوم سيعرض فيه الجميع على الله جل وعلا في يوم لا تنفع فيه الكراسي الزائلة، والمناصب الفانية، في يوم تنصب فيه الموازين، وتتطاير الصحف، وتقرأ الكتب، وصدق الله إذ يقول: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
وصدق من قال: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبد على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا نسأل الله أن يسترنا وإياكم في يوم الفضائح، إنه ولي ذلك ومولاه، وأن يجعل قولنا وعملنا خالصاً لوجهه إنه سميع مجيب الدعاء!(100/3)
تدليس الكاتب وتحريفه
ثانياً: إن الكاتب -وهذا أمر خطير- استحل واستباح التدليس والتلبيس والتحريف والمراوغة، ولم يكن أميناً في نقل أدلة من خالفه من العلماء، بل كذب على العلماء وافترى على العلماء وقال عليهم ما لم يقولوه، لا ندعي ذلك جزافاً، ومن ذلك أنه دلس على شيخ الإسلام ابن تيمية وكذب عليه.
فالكاتب يقول في صفحة رقم (مائة وواحد وتسعين): قال ابن تيمية رحمه الله في الصراط المستقيم: ومن أجل ذلك كان من شروط المسلمين الأول على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن لكي لا يتشبهن بالمسلمات، ثم يعلق الكاتب ويقول: ويفهم -هذا ما يفهمه الكاتب- ويفهم من كلام ابن تيمية رحمه الله: أن الوجه لنساء المؤمنين لم يكن مغطى، وهذا عين الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كيف فهم الكاتب هذا؟ ومن أين جاء بهذا الفهم؟ وهو يعلم -وأنا واثق من ذلك- أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أوائل من يقولون بوجوب النقاب وبوجوب ستر الوجه، حيث يقول شيخ الإسلام في آية الحجاب، أي في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]: والجلباب هو الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره الرداء، وتسميه العامة الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها، وقد حكى عبيدة السلماني وغيره: أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب، فكان النساء ينتقبن، وفي الصحيح: (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين)، فإذا كن -وما يزال الكلام لـ شيخ الإسلام - فإذا كن (أي: النساء) مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بنصه من مجموع الفتاوى المجلد الثاني والعشرين صفحة رقم مائة وعشرة ومائة وإحدى عشر، ذكرت هذا ليتبين لكم -أيها الأحباب وأيتها الفضليات- كيف سمح هذا الكاتب لنفسه أن يكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يقول عنه ما هو بريء عنه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
وقد أوهم الكاتب القراء الذين يقرءون كتابه، من الذين لا حظ لهم من علم الأصول أو من الفهم الدقيق؛ أوهم أن الإمام ابن القيم رحمه الله يصف النقاب بالتنطع والغلو والتشدد والتكلف، فيأتي الكاتب بعدما وصف النقاب بأنه غلو وتنطع وتشدد، يأتي ببعض الألفاظ التي قالها الإمام ابن القيم ليرد بها على أهل الغلو والتنطع، يأتي بها الكاتب ليصف بها ما يقوله هو من أن النقاب تنطع وغلو؛ ليوهم الناس بأن هذه الكلمات التي ذكرها الإمام ابن القيم إنما يصف بها النقاب، وأنه من الغلو والتنطع والتشدد، ومعلوم أن الإمام ابن القيم يقول بوجوب النقاب كما في إعلام الموقعين عن رب العالمين في الجزء الثاني في فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة، ويوهم الكاتب أيضاً أن الإمام القرطبي يوافقه في مذهبه من تخصيص الحجاب بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فيقول الكاتب في صفحة رقم مائة وسبعة وأربعين بهذه الروح العجيبة التي أشرنا إليها آنفاً يقول: وقد فهم القرطبي هذا المعنى الأساسي مثلما ذهبنا إليه تماماً.
سبحان الله! القرطبي هو الذي فهم مثل ما ذهب إليه الكاتب، مع أن الإمام القرطبي رحمه الله يقول في تفسير نفس السورة في آية الحجاب: ويدخل في ذلك -أي: في عموم الحجاب لجميع البدن- جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة، هذا قول الإمام القرطبي الذي أوهم الكاتب أنه وافقهم في مذهبه بتخصيص أمهات المؤمنين بالحجاب وحدهن رضي الله عنهن.
ثم يكذب الكاتب على العلماء الذين قالوا: بأن الحجاب ليس خاصاً بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحده وهم كثرة، كما سنرى ليأتي بهذا الإجماع الغريب العجيب فيقول في صفحة رقم ثلاثة وعشرين: وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن النقاب خاص بأزواج النبي وحده، ثم نقل الإجماع! ومن أين جاء به؟ والله إنه عين الكذب على من قال: إن تخصيص الحجاب لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن، وهذا ليس صحيحاً على الإطلاق كما سنرى في الأدلة الشرعية، وهذا الكاتب يقول: أجمع على ذلك المؤيدون لتعليمه والمعارضون، وهذا بهتان عظيم! وأكتفي بهذا القدر لضيق الصدر وتألم النفس، وإلا فوالله لو وقفنا مع كل صفحة من صفحات هذا الكتاب لرددنا عليه.(100/4)
كتاب (تذكير الأصحاب) في الميزان
العنصر الثالث من عناصر هذه المحاضرة: كتاب تذكير الأصحاب في الميزان.
أيها الأحباب! أيتها الفضليات! إن نظرة سريعة للكتاب تضحك وتبكي في آن واحد، نعم، فالكاتب الذي يقول دائماً: كما هو مقرر في الأصول؛ لا يحسن معنى الدليل، ولا يحسن مراتب الأدلة، ويجهل قواعد الجمع والترجيح، ويسيء فهم قواعد علم الأصول، ومن ذلك حتى لا يظن أحد أننا ندعي ذلك جزافاً: أولاً: أن الكاتب لا يعلم كيف يستفاد الحكم بالتحريم، فمعلوم أن الحرام كما يقول الدكتور زيدان في كتابه القيم: الوجيز في أصول الفقه: الحرام هو ما طلب الشارع الكف عنه على وجه الحتم والإلزام، فيكون تاركه مأجوراً مطيعاً، وفاعله آثماً عاصياً، سواءً أكان دليله قطعياً لا شبه فيه كحرمة الزنا، أم كان دليله ظنياً كالمحرمات بالسنة (الأحاديث).
ثم يقول (أي الدكتور زيدان حفظه الله): ويستفاد الحكم بالتحريم -انتبه وانتبهن أيتها الفضليات! ويستفاد الحكم بالتحريم من استعمال لفظ يدل على التحريم بمادته كلفظ الأم أو لفظ البنت كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه البيهقي والدارقطني.
أو يستفاد الحكم بالتحريم من صيغة النهي المقترنة بما يدل على الحتم كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، وكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90].
أو يستفاد الحكم بالتحريم من ترتيب العقوبة على الفعل كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
والشرع الحكيم -وما يزال الكلام للدكتور زيدان حفظه الله- والشرع الحكيم لم يحرم شيئاً إلا لمفسدته الخالصة أو الغالبة، وهذه المفسدة إما أن ترجع إلى ذات الفعل المحرم، وهذا هو المحرم لذاته أو لعينه، وإما أن ترجع المفسدة إلى أمر اتصل بالفعل المحرم، وهذا هو المحرم لغيره كالصلاة في الأرض المغصوبة، أو كالبيع في وقت نداء الجمعة، فالبيع مثلاً في ذاته مباح، ولكن لوقوعه في وقت نداء الجمعة وإعاقته عن السعي إلى أداء صلاة الجمعة جاء النهي عنه من الشرع الحكيم.
هذه هي قواعد علم الأصول التي تعلمناها من علمائنا ومشايخنا، والتي يستفاد منها الحكم بالتحريم، فأين هذه القواعد من هذه الفتوى الجائرة الظالمة بتحريم النقاب، كيف فهم الكاتب هذه القواعد التي يستفاد منها الحكم بالتحريم؟ اسمعوا واستمعن، هل ورد نص بلفظ حرمة النقاب؟ هذه هي قواعد علم الأصول التي يستفاد منها الحكم بالتحريم، هل ورد نص بلفظ حرمة النقاب؟ أو هل ورد نص بنفي الحل عن النقاب؟ أو هل ورد نهي من الشرع عن ارتداء النقاب، سواء على سبيل التحريم أو حتى على سبيل الكراهة؟ أو هل ورد نص يحتم العقوبة على من تلبس النقاب؟ أجبنا أيها الكاتب! ومما يزيد الأسى أن الكاتب لا يعرف الفرق بين النقاب والحجاب، نعم، لا يعرف الفرق اللغوي بين معنى النقاب والحجاب، فهو يقول: إن كلامنا عن النقاب أفضل من كلامنا عن الحجاب؛ لأن الأول -أي: كلامنا عن النقاب- يدرأ فتنة، أما الثاني (أي: كلامه عن الحجاب) فيجلب المصلحة، ومعلوم أن درأ الفتن أو المفاسد مقدم على جلب النعم أو المصالح كما هو مقرر في الأصول، وليعلم الكاتب أن الحجاب أشمل وأعم من النقاب، والنقاب جزء من الحجاب الشرعي أو صورة من صور الحجاب الشرعي، فليتعلم معنى النقاب ومعنى الحجاب ليطبق القاعدة التي ذكرها آنفاً في علم الأصول تطبيقاً صحيحاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(100/5)
الرد على دعوى عدم وجود دليل شرعي على مشروعية النقاب والقفازين
ومن أقواله الخطيرة التي يسخر فيها من العلماء، يسخر فيها من الأئمة الأعلام ومصابيح الظلام، ويتهم العلماء بالإفلاس وعدم الفهم وقلة العقل، يقول في صفحة رقم (مائتين وثلاثة عشر): انظر كيف يفعل الإفلاس بأصحابه حين أصبحوا عاجزين عن الإتيان بدليل شرعي يقيني واحد على مشروعية النقاب أو القفاز، فلما لم يجدوا الدليل ألجأهم العجز إلى القصص، إلى القصص والإشاعات التي لا يعرف لها مصدر علمي، علهم يجدون فيها ما ينقلهم من الحرج الذي وضعوا أنفسهم فيه، إنها رواية أشبه بما يحكى عن أبي زيد الهلالي والزير سالم وغيرهما، فهل يمكن الاحتجاج بما يقال فيه: قال الراوي: يا سادة! يا كرام! فيقدم للناس على أنه من الدين الحنيف.
أسمعتم أيها الأحباب! إلى هذا الحد صارت السخرية والاستهزاء بأئمة الهدى ومصابيح الظلام! ثم يقول في صفحة رقم (مائتين وخمسة وعشرين): إن كل مدافع عنه (أي: عن النقاب) عاجز تماماً عن الإتيان بدليل شرعي واحد يعتد به على جواز التمسك به، وإن الذين زينوا للعوام الجهلة فعل التنقب ولبس النقاب، إنما هم في أكثرهم نقلة صحف، لا يفقهون ما ينقلون، ولا يعقلون ما يكتبون، وفي أقلهم حفظة يرددون ما يحفظون دون أن تترسخ لهم قدم، فيحسبون أنهم على شيء من العلم بدقائق الشرع الشريف الحنيف، وهم واهمون؛ لأنهم عادة متحمسون وأنى للمتحمسين أن يحسنوا الحياد في العلم والموضوعية في البحث؟! هكذا أيها الأحباب! وهذه حروف الكاتب تماماً، أسأل الله العافية، فالعلماء الأجلاء وورثة الأنبياء في نظر هذا الكاتب نقلة صحف، لا يفقهون ما ينقلون، ولا يعقلون ما يكتبون، فإلى الله المشتكى، والله المستعان، ونسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.
ومن أقواله التي تفوح منها هذه الروح قوله في عدد (28/ 1/1411هـ) من جريدة النور قال: وقد صدق ظني عندما أصدرت كتابي عن النقاب، وقلت: إنه لا يستطيع نقده أو الرد على بعض ما فيه، فليست العصمة إلا للأنبياء، إلا واحد من اثنين: إما الألباني العلامة المشهور، وإما ابن باز العالم الكبير -هذا على حد تعبير الكاتب-، وإني أتشوق لذلك، وإن كنت أتوسم بفضل الله تعالى أن أدافع عما يوجه إلي منهما إلى آخر كلامه، وسوف أرد عليه بكلام مصباحي الدجى، ومجددي شباب الأمة، بكلام شيخنا الألباني وشيخنا ابن باز في موضعه بإذن الله جل وعلا.
ثم تعلن هذه الروح عن نفسها صراحة، فيقول في عدد (2/ 4/1411هـ) من جريدة النور: إنني أطلب من علماء الكرة الأرضية بقاراتها السبع أن يأتي واحد منهم بدليل واحد على كون النقاب من الإسلام! وسوف آتيه بعشرات الأدلة بإذن الله جل وعلا.
وأكتفي أيها الأحباب! بذكر هذه الأقوال، وإلا فهي خطيرة كثيرة تبعثرت في الكتاب كله، فيشهد الله لقد ضاق صدري، وتألمت نفسي وكفى، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]: هذه بعض الأقوال التي ذكرها الكاتب، وسأترك للمسلم والمسلمة أن يحكم على هذه الأقوال الخطيرة، وليشهد بها وعليها أمام الله عز وجل، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
ونسأل الله العفو والعافية.(100/6)
الرد على القول بأن المتبرجة أفضل من المنقبة
من أقواله الخطيرة: قوله في صفحة رقم (مائتين وستة وعشرين) و (مائتين وسبعة وعشرين): إن المتبرجة أفضل من المنقبة -اسمع لقوله- يقول: لأن الأولى (أي: المتبرجة) عاصية تعلم أنها عاصية بينما الثانية المنقبة عاصية تعلم أنها فاضلة.
كما أن الأولى (أي: المتبرجة) ليست عرضة للكبر والعجب المانعين من دخول الجنة، بينما الثانية (أي: المنقبة) أكثر عرضة لذلك، يقول: فأيهما أحق بالإشفاق؟ وأيهما أقرب للتوبة؟ وأيهما أولى بالاستغفار؟ إن المنقبة -هذا قوله- إن المنقبة تحتاج إلى أن نستغفر لها مرتين، بينما المتبرجة مرة واحدة؛ لأنها أقل ابتلاءً، وأقرب إلى سواء السبيل.
إنا لله وإنا إليه راجعون، وأنا أسأل كل عاقل على وجه الأرض، هل المنقبة التي غطت نفسها تماماً، وتمشي على استحياء، شاخصة ببصرها إلى موضع قدمها، هي التي يتملكها العجب والكبر والغرور أم المتبرجة التي خرجت تتفنن بعرض زينتها وفتنتها وجمالها وهي تقول بلسان الحال: ألا تنظرون إلى هذا الجمال؟ هل من راغب في القرب والوصال؟ إنها تعرض جمالها في الأسواق والشوارع والطرقات كما يعرض البائع المتجول سلعة.
سأترك لك الجواب أيها المسلم! وأيتها المسلمة!(100/7)
الرد على القول بأن النقاب بدعة
ومن أقواله التي استدل بها على تحريم النقاب: قوله في صفحة رقم (مائتين وثمانية وعشرين) و (مائتين وتسعة وعشرين) من كتابه: إن المنقبة تشبهت ببعض طوائف أهل الكتاب، طوائف من الراهبات يلبسن مثل هذا النقاب.
وأنا أسألك أيها الكاتب! لأني رأيت صورته على غلاف كتابه بلحية كبيرة كثة، أسألك: هل يجوز أن تحلق لحيتك؛ لأن بعض القساوسة قد أعفى وأطلق لحيته؟ ومن أقواله الخطيرة التي استدل بها أيضاً على تحريم النقاب: قوله في صفحة رقم (مائة وثمانين) و (مائة وواحد وثمانين): إن تنقب عموم النساء أمر محدث في الدين، وكل محدث حرام ومردود، ولا يرد إلا الحرام والخبيث، والحرام معروف حكمه، والخبيث في النار، وأصحابه هم الخاسرون ثم يشير إلى أن النقاب من هذا الخبيث ومن الخبائث ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، إنا لله وإنا إليه راجعون! ومن أقواله الخطيرة: أنه ادعى أن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا إجماعاً فعلياً -أي: عملياً- على وجوب كشف الوجه، كما يقول في صفحة رقم (مائتين وسبعة وعشرين)، وهذا والله بهتان عظيم، فمن أين جاء بهذا الإجماع؟ من أين جاء بهذا الإجماع الخطير؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! ومن أقواله الخطيرة التي يستدل بها أيضاً على تحريم النقاب: قوله في صفحة رقم (سبعة وثلاثين): الوجه أصل الفطرة والفطرة، محمودة دائماً، وديننا هو دين الفطرة، ومن أدان الفطرة فقد أدان الإسلام.
ما شاء الله على هذا الاستدلال المنطقي! وهو كقول من قال: كل فرار من العدو جبن، وكل جبن مصنوع من اللبن، إذاً: كل فرار من العدو مصنوع من اللبن.(100/8)
الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب
أيها الأحباب وأيتها الفضليات: تعالوا بنا إلى العنصر الرابع من عناصر المحاضرة وهو: الأدلة الشرعية على وجوب الحجاب:(100/9)
الدليل الأول: آية الإدناء
أيها الأحباب وأيتها الفضليات: تعالوا بنا إلى العنصر الرابع من عناصر المحاضرة وهو: الأدلة الشرعية على وجوب الحجاب:(100/10)
كلام الإمام الرازي في آية الإدناء
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب في الآية (59) بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].(100/11)
ذكر كثير من العلماء القائلين بوجوب الحجاب
أيها الأحباب: رجح كثير من أهل العلم وجوب النقاب -كما سمعتم آنفاً إلى أقوالهم القيمة الطيبة- ولولا أنني أخشى الإطالة لذكرت كل أقوالهم مفصلة، ولكنني سأكتفي بذكر مزيد من أسماء هؤلاء الأئمة العلماء مشيراً فقط إلى المصدر الذي ورد فيه قولهم بوجوب النقاب أو بوجوب ستر الوجه، من هؤلاء العلماء الذين قالوا بوجوب ستر الوجه: - الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم في تفسير سورة الأحزاب الآية (59).
- ومنهم الإمام البغوي في معالم التنزيل في تفسير سورة الأحزاب الآية (59).
- ومنهم الإمام الزمخشري في الكشاف في تفسير سورة الأحزاب الآية (59).
- ومنهم الإمام ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير في تفسير سورة الأحزاب الآية (59).
- ومنهم الإمام البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل في تفسير سورة الأحزاب الآية (59).
- وبه -أي: بوجوب ستر الوجه- قال الإمام النسفي في مدارك التنزيل وحقائق التأويل في تفسير سورة الأحزاب.
- وبه قال الإمام ابن حيان الأندلسي في البحر المحيط في تفسير سورة الأحزاب في الآية (59).
- وبه قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأحزاب ذاكراً تفسير عبيدة السلماني رحمه الله.
- وبه قال الإمام الخطيب الشربيني في السراج المنير في تفسير سورة الأحزاب.
- وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة النور وغيرها.
- وبه قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين في فصل: الفرق بين النظر إلى الحرة والأمة.
- وبه قال الإمام ابن حزم في المحلى في الجزء الثالث تحقيق الشيخ أحمد شاكر رحمهم الله.
- وبه قال العلامة الشوكاني في فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير في تفسير سورة الأحزاب.
- وبه قال العلامة الألوسي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني في تفسير سورة الأحزاب.
وبه قال علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل في تفسير سورة الأحزاب.
- وبه قال علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، في تفسير سورة الأحزاب.
- وبه قال الدكتور محمد محمود في التفسير الواضح في تفسير سورة الأحزاب.
- وبه قال شيخنا أبو بكر الجزائري حفظه الله في أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير في تفسيره لسورة الأحزاب.
- وبه قال فضيلة الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي رحمه الله في كتابه القيم: يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي.
وأعتقد أيها الأحباب! أن هذا يكفي رداً على قول الكاتب وتحديه لكل علماء الكرة الأرضية أن يأتوا بدليل واحد على كون النقاب من الإسلام.
وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وصدق من قال: إن الحجاب الذي نبغيه مكرمة لكل مسلمة ما عابت ولم تعب نريد منها احتشاماً عفة أدباً وهم يريدون منها قلة الأدب يا رب أنثى لها عزم لها أدب فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدب ويا لقبح فتاة لا حياء لها وإن تحلت بغالي الماس والذهب(100/12)
كلام الشيخ المودودي في الأمر بالحجاب
قال الشيخ المودودي رحمه الله في آية الإدناء صفحة رقم (250): نزلت خاصة في ستر الوجه.
ثم يقول: ومعنى الآية بالحرف: أن يرخين جانباً من خمورهن أو ثيابهن على أنفسهن، وهذا هو المفهوم من ضرب الخمار على الوجه، والمقصود به ستر الوجه وإخفاؤه، سواء كان بضرب الخمار أو بلبس النقاب أو بطريقة أخرى غيره.
ثم يقول الشيخ المودودي رحمه الله في صفحة رقم (330): وإن الوجه هو المظهر الأكبر للجمال الخلقي والطبيعي في الإنسان، فهو أكثر مفاتن الجمال الإنساني جذباً للأنظار واستهواءً للنزعات، ثم هو العامل الأقوى للجاذبية الجنسية بين الصنفين.(100/13)
كلام الشيخ ابن عثيمين في وجوب الحجاب
ويقول شيخنا الحبيب ابن عثيمين حفظه الله في رسالة قيمة بعنوان (توجيهات للمؤمنات حول التبرج والسفور).
يقول في صفحة (17 - 18 () من هذه الرسالة القيمة: وقد دلت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر الصحيح والاعتبار والميزان على أنه يجب على المرأة أن تستر وجهها عن الرجال الأجانب الذين ليسوا من محارمها.
ثم يقول: وإذا تأمل العاقل المؤمن هذه الشريعة وحكمها وأسرارها تبين أنه لا يمكن أن تلزم -أي: الشريعة- المرأة بستر الرأس والعنق والذراع والساق والقدم، ثم تبيح -أي: الشريعة- للمرأة أن تخرج كفيها ووجهها المملوء جمالاً وتحسيناً، فإن ذلك خلاف العفة إلى آخر كلامه حفظه الله.(100/14)
كلام الشيخ الشنقيطي في الحجاب
يقول العلامة الرباني الشيخ الشنقيطي رحمه الله في آية الإدناء: وفي الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] يدخل في معناه: ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها.
والقرينة المذكورة هي قوله تعالى: (قل لأزواجك)؛ ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن لا نزاع فيه بين المسلمين، بل هذا مما يوافق عليه الكاتب.
يقول الإمام الشنقيطي: فذكر الله تعالى الأزواج مع البنات مع نساء المؤمنين في آية واحدة وفي حكم واحد يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب، فكيف تستقيم دعوى الخصوصية والله تعالى يقول: (ونساء المؤمنين)؟ اهـ.
وهذا واضح جداً لمن لم يدخل الهوى في قلبه، فيعمي بذلك عقله والعياذ بالله.
ويقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله في كتابه القيم: نظرات في حجاب المرأة المسلمة في صفحة رقم (48) في الهامش، يقول عن آيات الإدناء: لو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص من الله تعالى لكفى به حكماً موجباً؛ لأن الوجه هو العنوان من المرأة لنعرف بها من الناحية الشخصية ومن الناحية التي تجلب الفتنة.
ثم يقول: وهذا الأمر يقتضي الوجوب ولا يوجد أي دليل ينقله من الوجوب إلى الاستحباب أو الإباحة.(100/15)
كلام ابن جرير الطبري في تفسير آية الإدناء
يقول شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير آية الإدناء في سورة الأحزاب: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: -واحفظوا هذا القول لـ ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه سيفترى عليه قولاً آخر- أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة.
ويقوي هذا الإسناد ما صح عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني -وعبيدة السلماني هو التابعي الجليل الفقيه العلم، آمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل المدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يزل عبيدة في المدينة حتى مات رحمه الله، وقد فسر آية الإدناء تفسيراً عملياً وفعلياً وواقعياً يوضح ما كان عليه نساء الصحابة رضي الله عنهن جميعاً- يقول ابن سيرين: سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، يقول: فأخذ بثوبه فغطى رأسه ووجهه، وكشف ثوبه عن إحدى عينيه.
هذه صورة فعليه عملية للتابعي الجليل الذي عاش في المدينة المنورة في زمن عمر رضي الله عنه وإلى ما بعده، وهو يوضح فعل الصحابيات وما كن عليه رضي الله عنهن، فإلى الله المشتكى والله المستعان على ما قيل كذباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهم أجمعوا إجماعاً فعلياً على وجوب كشف الوجه والكفين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!! يقول الإمام الرازي في آية الإدناء أيضاً: وفي هذه الآية دلالة على أن المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبيين، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريبة فيها.(100/16)
كلام الشيخ ابن باز في الحجاب
يقول والدنا الكريم وشيخنا الحبيب الشيخ ابن باز حفظه الله -ولقد تعمدت أن أبدأ بقوله؛ لأن الكاتب قد طلب أن يرد عليه الشيخ ابن باز أو الشيخ الألباني - يقول شيخنا ابن باز -واسمع أيها الكاتب- في هذه الآية، في كتاب (ثلاث رسائل في الحجاب) صفحة رقم (7): أمر الله -والأمر صيغة من صيغ الوجوب كما تعلمنا في علم الأصول- يقول الشيخ: أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة إلى آخر كلامه حفظه الله.
فالشيخ أيها الكاتب يقول بوجوب النقاب؛ لأن الأمر صيغة من صيغ الوجوب.(100/17)
الدليل الثاني: آية الحجاب
الدليل الثاني: قول الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب في الآية (53) بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وهذه الآية هي التي تسمى بآية الحجاب، نزلت في ذي القعدة في السنة الخامسة من الهجرة، وهي نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم، وهذا لا خلاف فيه بنص الآية، ولكن الذي يحتاج إلى البحث: قول الكاتب: إن هذه الآية -بما تحمله من حكم بوجوب الحجاب- خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن فقط دون غيرهن من النساء.(100/18)
ذكر كلام أهل العلم في تفسير الآية
يقول الإمام القرطبي في: (الجامع لأحكام القرآن الكريم): ومما يؤيد عموم آية الحجاب وأنها ليست خاصة بأمهات المؤمنين رضي الله عنهن قوله تعالى بعدها: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55] إلى آخر الآية.
ويقول العلامة القرآني الأمين الشنقيطي رحمه الله: وفي هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء لا خاص بأزواجه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أصل اللفظ خاص بهن؛ لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] هو علة قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]، وهو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه.
وقال مفتي مصر سابقاً الشيخ حسنين مخلوف رحمه الله في تفسيره (صفوة البيان لمعاني القرآن): وحكم نساء المؤمنين في ذلك حكم نسائه صلى الله عليه وسلم.
ويقول صاحب كتاب (فقه النظر في الإسلام): فإن قال قائل: إن هذه الآية خاصة بأمهات المؤمنين وقد نزلت بحقهن، قلت: إنها وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم من جهة السبب فهي عامة من جهة الأحكام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم يقول: فادعاء أنها خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم لا ينهض حجة؛ لأن الاستثناء في آية: (لا جناح عليهن في آبائهن) إلى آخره عام وهو فرع من الأصل وهو الحجاب، فدعوى تخصيص الأصل يستلزم تخصيص الفرع وهو غير مسلم.
ويقول صاحب كتاب (كشف النقاب): وإذا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم المطهرات من السفاح، المحرمات علينا بالنكاح، الموصوفات بأنهن أمهات المؤمنين قد أمرن بالحجاب طهارة لقلوبهن وقلوب أبنائهن المحرم عليهم نكاحهن، فماذا نقول في غيرهن، المحللات لنا بالنكاح، المتطلع لهن أهل السفاح، هل يجوز لهن أن يكن سافرات غير منتقبات، وبارزات غير محجبات؟! ويقول صاحب كتاب (فقه النظر) في قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:32 - 33].
يقول: إنها وصايا ربانية، وأوامر إلهية، فأي منها لا يتصل بعامة النساء المسلمات؟! وهل النساء المسلمات لا يجب عليهن أن يتقين الله أو قد أبيح لهن أن يتبرجن تبرج الجاهلية؟ ثم هل ينبغي لهن أن يتركن الصلاة ويمنعن الزكاة ويعرضن عن طاعة الله ورسوله؟ وهل يريد الله أن يتركهن في الرجس؟ فإذا كانت هذه الأوامر والإرشادات عامة لجميع المسلمات، فما المبرر بتخصيص ما ورد في سياق مخاطبة أمهات المؤمنين من قرار في البيوت وملازمة للحجاب وعدم مخالطة الأجانب بهن خاصة؟ نعم.
ما هو الدليل على أن هذه التكليفات والأوامر خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحدهن؟ وهكذا أيها الأحباب! وأيتها الفضليات! فدليل الأولوية واضح وضوح الشمس في هذه الآيات الكريمات، وهو أن أمهات المؤمنين كن أطهر نساء الدنيا قلوباً، وأعظمهن قدراً في قلوب المؤمنين، ومع ذلك أمرن بالحجاب طلباً لتزكية قلوب الطرفين، فغيرهن من النساء أولى بهذا الأمر والتكليف.
وقال الشيخ عبد العزيز بن خلف حفظه الله: لم يرد في آية النور وآية الأحزاب أي تخصيص لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بما قضت به من الأحكام، فهي أحكام عامة للمسلمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وإن من الزعم الباطل أن يقال: إن آية الحجاب خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر ما ذكره في كتابه: (نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة) في صفحة (99 - 93) حفظه الله.
ويقول شيخنا أبو بكر الجزائري حفظه الله في كتابه (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) صفحة (34 - 35): ومن عجيب القول: أن يقال: إن هذه الآية نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فهي خاصة بهن دون باقي نساء المؤمنين، إذ لو كان الأمر كما قيل لما حجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم، ولما كان لإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للخاطب أن ينظر لمن يخطبها معنى أبداً.
اهـ وهذا واضح وضوح الشمس في ضحاها، ولولا أنني أخشى الإطالة لتعاملت مع هذا الدليل بإطالة، وذكرت أقوال أهل العلم مفصلة كما تعاملنا مع الدليل الأول في آية الإدناء.(100/19)
الديل الثالث: قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها)
الدليل الثالث: قول الله تعالى في سورة النور الآية (31)، ويستدل العلماء بثلاث مواضع من هذه الآية الكريمة على وجوب الحجاب: الموضع الأول: قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة وزينة غير ظاهرة، وجوز لها -أي: للمرأة- إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم، وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم.
وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] الثياب.
وإسناده في غاية الصحة، رواه ابن جرير الطبري وابن أبي شيبة والحاكم من طريقه وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص.
وأما ما ينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسر الزينة الظاهرة بالوجه والكفين؛ فلا يصح إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الأثر المروي عن ابن عباس أخرجه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره، والإمام البيهقي في (السنن الكبرى) فلنتعرف على صحة هذين الإسنادين من عدمها.
الطريق الأول: قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا مروان قال: حدثنا مسلم الملائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال ابن عباس: الكحل والخاتم.
قال الشيخ عبد القادر السندي: قلت: إسناده ضعيف جداً، بل هو منكر.
قال الإمام الذهبي في ترجمة مسلم الملائي الكوفي: متروك الحديث، وقال عنه يحيى: ليس بثقة.
وقال البخاري: يتكلمون فيه.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال الشيخ السندي: وهذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفى على أهل هذا الفن.
الطريق الثاني: ما ورد في السنن الكبرى للإمام البيهقي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) ما في الكف والوجه.
قال الشيخ السندي: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما: أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال الذهبي: ضعفه غير واحد.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي.
وقال مطين: كان يكذب.
وقال ابنه عبد الرحمن: كتبت عنه وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه.
وقال الحافظ في التقريب: ضعيف.
والراوي الثاني هو عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين.
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وضعفه النسائي.
وقال الحافظ في تقريب التهذيب: ضعيف.
قال الشيخ السندي: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد، لا يحتج بهما ولا يكتبان.
أيها الأحباب: ويؤكد صحة ذلك أيضاً ما ذكرناه سابقاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة قال: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة.
يقول شيخنا ابن باز حفظه الله: وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه.
وقال شيخنا الحبيب محمد بن عثيمين حفظه الله: إن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة مطلقاً إلا ما ظهر منها، وهي التي لابد أن تظهر كظاهر الثياب؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، ولم يقل: إلا ما أظهرن منها، ثم نهى تبارك وتعالى مرة أخرى عن إبداء الزينة إلا لمن استثناهم، فدل هذا على أن الزينة الثانية غير الزينة الأولى، فالزينة الأولى: هي الزينة الظاهرة التي تظهر لكل أحد ولا يمكن إخفاؤها، والزينة الثانية: هي الزينة الباطنة التي يتزين بها، ولو كانت هذه الزينة جائزة لكل أحد لم يكن للتعميم في الأولى والاستثناء في الثانية فائدة معلومة.
ويقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، يقول: توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة قول من قال: هي الوجه والكفان، وهذه القرينة هي أن الزينة في لغة العرب هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها كالحلل والحلي، فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر، ولا يجوز الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه.
ثم استشهد على ذلك بأن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن الكريم مراداً به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها، كقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، وكقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، وكقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7]، وكقوله تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59] وهكذا وأما الموضع الثاني في هذه الآية الكريمة فهو قول الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخمر التي تغطي الرأس والوجه والعنق، والجلابيب: التي تسدل من فوق الرءوس حتى لا يظهر من لابسها إلا العينان.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرح حديث عائشة: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، شققن مروطهن فاختمرن بها.
يقول إمام أهل الحديث الحافظ ابن حجر: فاختمرن بها، أي: غطين وجوههن.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله: وهذا الحديث صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن لوجوههن تصديق لكتاب الله وإيمان بتنزيله كما ترى.
ثم يقول: فالعجب ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة لوجهها عن الأجانب، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيماناً بتنزيله، ومعنى هذا ثابت في الصحيح كما تقدم عن البخاري، وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين كما ترى.
والموضع الثالث في هذه الآية: قول الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، يقول الشيخ الجزائري حفظه الله: فإذا حرم الله تعالى بهذه الآية على المرأة أن تضرب الأرض برجلها؛ خشية أن يسمع صوت حليها فيفتن به سامعه، كان تحريم النظر إلى وجهها وهو محط محاسنها أولى وأشد حرمة.(100/20)
الدليل الرابع: قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي)
الدليل الرابع من الأدلة التي استدل بها العلماء الذين يقولون: بوجوب ستر الوجه: قول الله تبارك وتعالى في سورة النور في الآية رقم (60) بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60].
أكتفي بتعليق شيخنا ابن باز حفظه الله في: رسالة الحجاب والسفور صفحة رقم (6 - 7 - 8) إذ يقول في هذه الآية: يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً، لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة، فيعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها، وأن عليها جناح في ذلك ولو كانت عجوزاً؛ لأن كل ساقطة لها لاقطة؛ ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزاً، فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت؟ لاشك أن إثمها أعظم، والجناح عليها أشد، والفتنة بها أكبر.
وشرط الله سبحانه في حق العجوز ألا تكون ممن يرجون النكاح، -وما زال الكلام لشيخنا ابن باز - وما ذاك والله أعلم إلا لأن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج طمعاً في الأزواج، فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة، ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف، وأوضح أنه خير لهن، فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز، وأنه خير لهن من وضع الثياب، فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيراً للشابات من باب أولى وأبعد لهن عن أسباب الفتنة.
وسأكتفي أيها الأحباب! بهذه الأدلة القرآنية على وجوب ستر الوجه رداً على الكاتب الذي تحدى علماء الكرة الأرضية بقاراتها السبع على أن يأتي عالم واحد بدليل واحد على كون النقاب من الإسلام، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولضيق الوقت فقط ما استطعت أن أسرد أقوال أهل العلم في كل دليل كما فعلنا وتعاملنا مع الدليل الأول في آية الإدناء.
فيا أيتها الأخت الفاضلة! أختاه يا بنت الإسلام تحشمي لا ترفعي عنك الحجاب فتندمي صوني جمالك إن أردت كرامة فالناس حولك كالذئاب الحوم ما كان ربك جائراً في شرعه فاستمسكي بعراه حتى تسلمي ودعي هراء القائلين سفاهة إن التقدم في السفور الأعجم حلل التبرج إن أردت رخيصة أما العفاف فدونه سفك الدم فتعلمي وتثقفي وتنوري والحق يا أختاه أن تتعلمي لكنني أمسي وأصبح قائلاً أختاه يا بنت الإسلام تحشمي(100/21)
الأدلة من السنة على وجوب الحجاب
أما الأدلة من الأحاديث النبوية فكثيرة ولله الحمد والمنة، وسأشير إلى بعضها، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب أهل العلم التي استشهدت بها آنفاً في خلال هذه المحاضرة:(100/22)
الدليل الأول: حديث: (لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين)
الحديث الأول: ما رواه البخاري ومالك في الموطأ والترمذي وقال: حسن صحيح، وأبو داود والنسائي وأحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين).
يقول الشيخ أبو هشام الأنصاري في: إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب: هذا الحديث أحسن دليل على ما وقع من التغيير والتطور في ألبسة النساء بعد نزول الحجاب، والأمر بإدناء الجلباب وأن النقاب قد صار من ألبسة النساء، وحيث لم يكن يخرجن إلا به، وليس معنى النهي عن الانتقاب للمحرمة أنها لا تستر وجهها، وإنما المراد أنها لا تتخذ النقاب لباساً على حدة من ألبستها، وإنما تستر وجهها بجزء من لباسها.
وقال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن.(100/23)
الدليل الرابع: حديث: (المرأة عورة)
الدليل الرابع: حديث صحيح رواه الإمام الترمذي وقال: حسن غريب.
ورواه الطبراني وصححه الألباني في إرواء الغليل من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المرأة عورة)، ولقد أوضحت ذلك آنفاً مفرقاً بين العورة بالنسبة للصلاة وبالنسبة لنظر الأجانب، وسأكتفي أيها الأحباب! بهذا القدر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكم كنت أود أن أفند كل الحجج التي استدل بها من خلال بعض الأحاديث التي ذكرها كحديث الخثعمية والمرأة سفعاء الخدين وغيرهما، ولكن أختم ببعض ما قاله شيخنا الألباني، فعلى الرغم من أنه لم يقل بالوجوب -أي: بوجوب تغطية الوجه- إلا أنه لم يقل بالحرمة ولم يقل بأن النقاب بدعة، بل قرر الشيخ أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة، وأنه كان معهوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وساق الأدلة على ذلك حفظه الله.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي في (الإحياء): لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات.
وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني: إن العمل استمر على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات لئلا يراهن الرجال.
وفي هذا كفاية أيها الأحباب! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].(100/24)
الدليل الثاني: حديث عائشة: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات)
الحديث الثاني: ما رواه أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجة والبيهقي والدارقطني عن عائشة قالت: (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه).
وهذا الحديث للأمانة حديث ضعيف، ولكن له شاهد قوي من حديث فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنا نمتشط قبل ذلك) فهو حديث صحيح صححه ابن خزيمة، وأخرجه مالك والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأقره الذهبي.
يقول شيخنا ابن عثيمين حفظه الله: وكشف الوجه في الإحرام واجب على النساء عند الأكثر من أهل العلم، والواجب لا يعارضه إلا ما هو واجب، فلولا وجوب الاحتجاب وتغطية الوجه عند الأجانب ما ساغ ترك الواجب من كشفه في حالة الإحرام.(100/25)
الدليل الثالث: أحاديث النظر إلى المخطوبة
الدليل الثالث: أحاديث النظر إلى المخطوبة، وهي أحاديث صحيحة، كحديث جابر والمغيرة ومحمد بن مسلمة، وأكتفي بقول الشيخ أبي هشام الأنصاري معلقاً عليها: وهذا يدل -أي: معاني هذه الأحاديث- وهذا يدل على أن النظر إلى النساء لم يكن سهلاً، ولو كانت النساء تخرج سافرات الوجوه في ذلك الزمان لم يكن لشرط الاستطاعة في النظر إليهن معنى، وهذا واضح جداً.(100/26)
عتاب ودعوة
ومن عناصر هذه المحاضرة حتى لا أطيل عليكم أكثر من ذلك: عتاب ودعوة: عتاب إلى صاحب جريدة النور الذي وقف مع أعداء الصحوة الإسلامية في خندق واحد، في الوقت الذي تصب فيه الفتن على رءوس أبناء الصحوة صباً، وتكال لهم الاتهامات كيلاً، وكم كنت أتمنى أن يفي صاحب الجريدة بما قطعه على نفسه من عهد، حيث قال لصديقه الحميم صاحب فتوى التحريم: إننا اعتدنا أن ننشر في جريدة النور الرأي والرأي الآخر، بل كنت أتمنى أن ينشر في الجريدة الردود على كتاب صاحبه كرد الشيخ محمد بن إسماعيل حفظه الله: بل النقاب واجب، أو غيره من الردود.
وكم كنا نود أن يفعل صاحب الجريدة مع إخوانه وأخواته ما فعله مع السكرتير الثاني لدولة أفغانستان الشيوعية، فلقد نشرت له جريدة النور مقالة طويلة بطول الصفحة هاجم فيها المجاهدين الأفغان، ودافع عن الحكومة الشيوعية العميلة، ونشرت الجريدة مقالته بمنتهى الأمانة.
ما كنا نتوقع ذلك أبداً من صاحب الجريدة، ولكن بالرغم من كل ذلك فإننا على يقين أن الكمال لله وحده، وأن العصمة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن الخطأ صفة ملازمة للبشر ولا عيب في أن يخطئ الإنسان فهو بشر، ولكن العيب والخطر أن يتمادى الإنسان في خطئه، فهذه ذكرى ودعوى، نسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، وندعو الكاتب الذي سمعت عنه أنه كان من المحاربين للبدع والمبتدعين، وكان من المدافعين بقوة وصراحة عن السنة المطهرة، وندعو صاحب جريدة النور، وندعو كل من افتتن بهذه الفتوى وهذا الكتاب؛ أن يرجعوا جميعاً إلى الله عز وجل، وأن يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى، ورحمة الله وسعت كل شيء، وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، ولكني أود أن أذكر أن من شروط هذه التوبة: البيان والإعلان؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160].
نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة، وأن يغفر لجميع المسلمين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(100/27)
صبراً أيتها المنقبة الطاهرة
وأخيراً: أيتها المنقبة الطاهرة! اصبري وصابري واحتسبي، واعلمي أن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم، وفجر الحق قادم، ولن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت على أن تطفئ نور الله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وفي الحديث الذي رواه أحمد والطبراني وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال الألباني: بل هو على شرط مسلم من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
فليكن ردك أيتها المنتقبة على كل هذه الحملات المسعورة المزيد من التمسك بالحجاب، والصبر على هذه الفتن، والإصرار على السير على طريق الحق والهدى وإن قل السالكون، ولا تغتري بطريق الضلالة وإن كثر الهالكون.
بلغت يا ذات الحجاب مناك وحباك ربك عزه ورعاك لبيت صوت الحق دون تلعثم وعصيت صوت الفاجر الأفاك جانبت أخلاق العدو تكرماً وتبعت خلقاً سنه مولاك أختاه إن خسر العدو بجولة سيعاود الأخرى ولن ينساك فتأهبي دوماً وكوني حرة لا يخدعنك كاذب متباك زعموا الدعارة والخنا حرية هتكاً لعرضك فاحذري إياك أختاه! قد تلقين ضيماً أو أذى فثقي بربك واثبتي لعداك فالابتلاء يزيد دينك قوة والمؤمنات صبرن قبل أذاك فلأم عمار وأم عمارة أسمى المواقف من ذوي الإدراك وكذاك أسماء وإن تستخبري عنهن تاريخ العلا أنباك يا بنت فاتح لقنيهم في الصبا تاريخ مجد كان من أسراك شهدت به الدنيا وذل لسيفه كل الملوك وكان فيه علاك أضحى به صرح الشريعة شامخاً وهوت لديه معاقل الإشراك أختاه! إن الدرب صعب مجهد يحتاج زاداًً والتقى بيداك قومي إذا جن الظلام ورتلي آيات ربك ولتجد عيناك فالله حرم أن تمس جهنم عيناً بكت فلتسعدي ببكاك ولتذكري بظلامه قبراً غداً يمسي من الدنيا به مثواك صومي نهارك ما استطعت فإنه يطغي به يوم الحساب ضماك ولتحكم الأخلاق عمرك كله حب النبي وقربه وكفاك أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل قولنا وعملنا خالصاً لوجهه، إنه ولي ذلك ومولاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(100/28)
حسن الخلق
لقد امتدح الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق، والله سبحانه لا يمتدح إلا من كان أهلاً لذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً مع أمته ورعيته وأهل بيته، فكان صلى الله عليه وسلم حليماً متواضعاً سمحاً كريماً رحيماً، وما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى التأسي بخلقه صلى الله عليه وسلم والمضي على دربه.(101/1)
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله -جميعاً- أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! حسن الخلق يُحَب لذاته، فكيف لو اجتمع مع حسن الخلق حُسنُ الخَلق؟! ذلكم هو المصطفى صلى الله عليه وسلم.(101/2)
إسلام ثمامة بن أثال وبيان جميل خلقه صلى الله عليه وسلم معه
روى البخاري ومسلم رضوان الله ورحمته عليهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربط الصحابة ثمامة بن أثال في سارية -أي: في عمود من أعمدة المسجد النبوي- فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد ثمامة مربوطاً في سارية من سواري المسجد فعرفه -لأن ثمامة كان سيداً في قومه- فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقل ذا دم! -يعني: إن قتلتني قتلت رجلاً له مكانته في قبيلته، ولن تفرط قبيلتي في دمي وفي الأخذ بثأري -إن تقتل تقتل ذا دم وإن تُنْعِم تنعم على شاكر- يعني: فإن أطلقتني سأعترف لك بهذا الجميل وسأشكره لك ما حييت- وإن كنت تريد مالاً فسل تعط من المال ما شئت، فتركه صاحب الخلق الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثاني دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فأقبل على ثمامة فقال له: ماذا عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت، فتركه صاحب الخلق الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثالث دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فأقبل على ثمامة فقال: ماذا عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت، فقال المصطفى: أطلقوا ثمامة أطلقوا ثمامة لا نريد فدية ولا مالاً، بل ولا نلزمه بالإسلام، ولا نكرهه على الإيمان أطلقوا ثمامة فانطلق ثمامة.
بعد أن فكوا قيده وانطلق إلى أقرب نخل إلى جوار المسجد النبوي فاغتسل، ثم عاد مرة أخرى إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله).
أخي الحبيب! تدبر معي قول ثمامة: يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينُك أحبَّ الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلدٌ أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إلي! ثم قال: يا رسول! الله لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، وقد كانوا يعتمرون ويحجون إلى البيت وهم على الكفر والشرك.
كان أحدهم يلبي فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فإذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلمات يقول: قط قط.
يعني: قد اكتفيتم قفوا عند هذا القدر ولا تزيدوا، ثم يزيدون قائلين لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك! ولو تدبر أحدهم في الإضافة بتعقل لوجد أن هذا الإله المعبود من دون الله لا يملك لنفسه شيئاً.
ولو تدبر أحدهم بتعقل لعلم أن هذه الآلهة لا تضر ولا تنفع، ورحم الله من رأى يوماً على صنمه بولاً فنظر حواليه فوجد ثعلباً يلعب بالقرب من معبوده، فعلم أن الذي فعل هذه الفعلة الشنعاء هو هذا الثعلب، فنظر إلى إلهه والنجاسة تنساح عليه، وتفكر وتدبر في الأمر وقال بعقل راجح راشد: رب يبول الثُعلبان أو الثَعلبان -واللغتان صحيحتان كما قال ابن منظور في لسان العرب- ربٌ يبول الثُعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فلو كان رباً كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب يقول ثمامة: (لقد أخذتني خيلك يا رسول الله! وأنا أريد العمرة فماذا ترى أن أصنع؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر).
قال الحافظ ابن حجر: فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: بالجنة أو بخيري الدنيا والآخرة، أو بمحو سيئاته.
يا له من فضل (وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتمر، فأقبل ثمامة إلى مكة ملبياً، فكان ثمامة هو أول من جهر بالتلبية في مكة، فأخذته قريش وقالوا: من هذا الذي اجترأ علينا -أي: جهر بالتلبية بين أظهرنا- من هذا الذي يردد الكلمات التي يعلمها محمد -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه؟! فأخذوه وضربوه ضرباً شديداً حتى قال قائلهم: دعوه إنه فلان فأنتم تحتاجون الميرة من اليمامة فجلس ثمامة وهو يقول: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله) هذا لفظ مسلم والحديث في الصحيحين.
وفي رواية ابن إسحاق بسند صحيح: (لما جهر ثمامة بالتلبية وأقبل عليه المشركون فضربوه، وقال أبو سفيان: ألا تعرفون الرجل؟ إنه ثمامة سيد أهل اليمامة، دعوه فأنتم تحتاجون إلى الحنطة -أي: القمح- والميرة من اليمامة، فلما جلس ثمامة قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله).
أقول: من أول لحظة دخل فيها ثمامة الإسلام جعل ووضع كل طاقاته ووجاهته ومكانته وقدراته وإمكانياته في خدمة الدين، عرف الإسلام فوضع كل ما يملك من قدرات وطاقات في خدمة دينه الذي اعتنقه، وأنار الله قلبه به، وبالفعل أدى العمرة.(101/3)
التسليم لأقدار الله
وهنا أقف مع جزئية أخرى فريدة ألا وهي: أن أسر ثمامة كان سبب نجاته من النار، وسبب سعادته في الدنيا والآخرة! ولو علم أن أسره سيكون سبباً لسعادته في الدنيا والآخرة؛ لرحب به، فلقد خرج ليؤدي العمرة على الشرك فأبى الله إلا أن يؤدي العمرة على التوحيد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إذاً: لابد أن نسلم لكل أقدار الله، ولابد أن تعلم يقيناً أن قدر الله دائماً هو الخير، فقد ينظر أحدنا إلى قدر الله من وجهة نظره، فيراه شراً عليه، لكن الله جل وعلا يقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تُسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيقُ وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يريد فلا تكن متعرضا قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].(101/4)
الولاء والبراء في الله
انطلق ثمامة إلى اليمامة فمنع الميرة عن قريش، وقال: (والله لا تصل إليهم حبة حنطة بعد اليوم إلا أن يأذن رسول الله) إنه الولاء لله ورسوله والمؤمنين! إنه البراء المعلن من الشرك والمشركين.
فلابد من هذه المفاصلة، ولابد من هذا الفرقان، فإنك إن عشت طوال حياتك حالة الغبش التي يحياها كثير من المسلمين اليوم، فلن تنصر ديناً ولن تنشر سنة.
لا تكن مذبذباً بين هؤلاء وهؤلاء، فهناك صنف من الناس الآن كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة، وهي لا تسير مع هذه الأغنام، ثم تأتي في المنتصف لتيعر إلى هذه مرة، وهي لا تسير أيضاً مع هذه الأغنام، وهذا شأن النفاق وأهله، فهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ترى أحدهم إن جلس مع عامة المسلمين مع بداية انتخابات مقبلة لمجلس شعب أو لمجلس شورى، إن جلس مع أهل الالتزام والسنة قال: قال الله جل وعلا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا والله أحب اللحية وأحب الحجاب، بل وأنا ألزم بناتي بذلك! فإن جلس مع غير هذا الصنف الكريم، وجلس مع العلمانيين المجرمين ممن يعزفون على وتر التحرر والمدنية والبعد عن الرجعية! ومحاربة التزمت والتخلف والرجعية إلى آخر هذه التهم المعلبة! إن جلس معهم قال: أعوذ بالله، عقول جامدة متخلفون متأخرون رجعيون متنطعون أصوليون وصوليون فوضويون! وحاله كما وصف الله فقال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والأولو تبعٌ لهم في الفضل والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشى رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].
أعلن ثمامة المفاصلة الحاسمة بصدق، فلنقتد به، ولنخرج من حالة الغبش والتذبذب بين الإيمان والنفاق بين أهل الإيمان تارة وأهل النفاق تارة، بين أهل الطاعة تارة وأهل المعصية تارة، بين أهل السنة تارة وأهل البدع تارة، فبهذا لا تصح لك حياة، وبهذه الشاكلة وبهذا الغبش يحيا الآن كثير من الناس! لابد من أن تعلن المفاصلة، ولابد أن تستبين سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين، ولابد من إقامة الفرقان الإسلامي الآن؛ لأن كثيراً ممن ينتمون إلى الإسلام، بل من الكتاب والمفكرين والأدباء يغنون للحاكم بالإشتراكية إن كان الحاكمُ إشتراكياً، ويرقصون ويعزفون على الديمقراطية المزعومة إذا كان الحاكم ديمقراطياً، فهم يركبون كل موجة ويعيشون في كل بيئة، ويتلونون بلون كل أرض، فهم يعيشون حالة غبش وتذبذب لا ينبغي لمسلم صادق يحترم نفسه أن يحيا هذه الحياة أبداً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الممتحنة:1] نداء لأهل إيمان: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له؟! إن حبيب حبيبي حبيبي، وعدو حبيبي عدوي، هذا هو الولاء، وهذه قاعدة الولاء والبراء: حبيب حبيبي حبيبي وعدو حبيبي عدوي، من أحب الله ورسوله فهو حبيبي في أي أرض وتحت أي سماء، ومن عادى الله ورسوله فهو عدوي فوق أي أرض وتحت أي سماء!! أتحب أعداءَ الحبيب وتَدَّعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلافك ما يحبُ فأنت ذو بهتان وقال آخر: لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهلَ الحقِ سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلمٌ ولكن بأشراطِ هُنالك تُذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68].
فنحن أولى الناس بإبراهيم عليه السلام.
أعلن ثمامة الفرقان، أعلن ثمامة المفاصلة: (والله لا تصل إليكم حبة حنطة إلا أن يأذن فيها رسول الله)(101/5)
قصة رأس النفاق مع ولده
روى الطبري بسند حسن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! هل سمعت ما قال أبوك؟! فقال عبد الله: وماذا قال بأبي أنت وأمي يا سول الله؟! فقال المصطفى: قال أبوك: لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل -يذكر رأس النفاق أنه سيخرج من المدينة رسول الله، وهو الذي قال قولته الخبيثة: سمن كلبك يأكلك- فقال عبد الله: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فوالله لأنت الأعز وهو الأذل)! انظروا إلى المفاصلة! وقفوا على الفرقان: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
قال عبد الله رضي الله عنه: (بأبي أنت وأمي يا رسول! فوالله لأنت الأعز وهو الأذل! ثم قال: يا رسول الله! والله لقد قدمت يثرب ولا يعلم أحد من أهل يثرب أن هناك من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال، لتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله! وأخذ عبد الله السيف وانطلق إلى ناصية المدينة، فلما أقبل أبوه وقف له ولده ورفع السيف في وجهه وقال: إلى أين؟! قال: إلى بيتي إلى المدينة، فقال عبد الله: والله لا يأويك ظلها -يعني: المدينة- ولن تبيت الليلة في دارك إلا بإذن من رسول الله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل! إنه الفرقان إنها المفاصلة فصرخ رأس النفاق: يا للخزرج! يا للخزرج! ابني يمنعني داري! وأبى عبد الله أن يأذن لوالده فانطلقت الرسل إلى خير رسل الله في الأرض إلى المصطفى: يا رسول الله! قد حدث كيت وكيت وكذا وكذا، فأرسل صاحب الخُلق الرفيع إلى عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وقال له: يقول لك رسول الله: ائذن لأبيك، فقال عبد الله: أما وقد جاءك الإذن من رسول الله فلتدخل الآن لتعلم من الأعز ومن الأذل) إنه الفرقان!(101/6)
أهمية تحقيق الولاء والبراء لا سيما في زماننا
إننا في أمس الحاجة الآن إلى هذا الفرقان، فلا تكن مذبذباً وكن على سنة ولا تحد عن الطريق، ولا تطلق اللحية مرة فإذا وقفت أمام المرآة شعرت أنك تحتاج إلى حلقها بالمرة، لا تجلس في مجالس العلم مرة فإذا تعرضت لفتنة تركت مجالس العلم بالمرة.
لا تجلس أمام كتاب الله مرة، ثم تتخلى عن كتاب الله بالمرة، لا ترتدي النقاب، ثم إذا تعرضتي لمحنة تجردتي من ثوب العزة والشرف.
أخي! لا تكن مذبذباً، بل كن مستقيماً، كما قال المصطفى: (قل آمنت بالله ثم استقم) وكما قال عمر رضوان الله عليه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] قال: ثم استقاموا على دين الله فلم يروغوا روغان الثعالب، فلا تكن كل يوم على حال، إن جلست مع المتبعين فأنت متبع، وإن جلست مع العلمانيين فأنت كذلك.
قال ثمامة: (والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله ومنع الميرة حتى أكلت قريش العلهز، -أي: وبر الإبل مع الدم يضعونه على النار ويشوونه ليأكلوه في وقت المجاعة- فأرسل أبو سفيان إلى صاحب الخلق صلى الله عليه وسلم، يقول له: إنك تصل الرحم ونحن رحمك -مع أنهم على الكفر والشرك- إنك تصل الرحم ونحن رحمك، ولقد منع ثمامة عنا الميرة فاكتب إليه، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي بين قريش وبين الميرة، التي كانت تصل إليهم من اليمامة).
أيها الإخوة! أعترف منذ البداية أنني عاجز عن أن استخراج الدروس والعظات والعبر من هذا الحديث الجليل المبارك، لكنني أود أن أقف وقفات متأنية مع هذا الحديث العظيم الغالي؛ لأبين لحضراتكم أن الرفق والحلم والخلق حوّل البغض في قلب ثمامة إلى حب فياض.
تدبر معي كلمات ثمامة: (والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إليّ).
لماذا؟ إنه الرفق إنه الحلم إنه الخلق إنه الأدب، ولقد تعمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يظل ثمامة مربوطاً في المسجد، وهذا دليل آخر على جواز دخول المشرك إلى المسجد، إن دخل في حاجة أو لغاية بشرط أن لا يدخل للإفساد أو للنجاسة أو لامتهان مقدسات المسلمين.
ظل ثمامة في المسجد ثلاثة أيام، وقد تعمد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ثمامة في داخل المسجد؛ ليسمع القرآن غضاً طرياً بأذنه من فم المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليرى الصحابة بين يدي رسول الله كيف يعاملونه؟ وكيف يتأدبون في حضرته؟ وكيف إذا أمرهم ابتدروا أمره؟ وكيف يسمعون له؟ وكيف وكيف؟ رأى ثمامة في هذه الأيام الإسلام يتحول إلى واقع عملي وإلى منهج حياة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فتعلق قلبه بهذا الدين والنبي العظيم صلى الله عليه وسلم.
إنه الخلق، والحديث عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم أحوج ما تكون الأمة إليه الآن.
الكل ينادي بالعودة إلى خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن من منا الليلة سيتخلق بخلق النبي؟! كلنا يعلم حلمه كلنا يعرف كرمه كلنا يعرف رقته كلنا يعرف أدبه كلنا يعرف تواضعه كلنا يعرف فضله كلنا يعرف رفقه كلنا يعرف جماله كلنا يعرف حسن خلقه وخلقه لكن من منا سيشهد الليلة أو من الليلة لدين النبي شهادة عملية على أرض الواقع، ليحول شيئاً من خلق النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إلى واقع عملي ومنهج حياة؟!(101/7)
تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
قال ربنا جل في علاه لسيدنا رسول الله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، بل وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] قال ابن عباس: فرسول الله رحمة للبار والفاجر، فمن آمن به تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن كفر به أجلت له العقوبة إلى الآخرة مصداقاً لقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] قال ابن عباس: (والله ما ذرأ الله وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس والحديث في البخاري أيضاً قال: (لما أوتي بالبراق -واللفظ لـ مسلم - للنبي صلى الله عليه وسلم ليركبه ليلة المعراج فانتقض البراق، فقال جبريل للبراق: أبمحمد تفعل هذا؟! فوالله ما ركبك قط رجل هو أفضل عند الله من محمد فارفض البراق عرقاً، وقال المصطفى: فارفض البراق عرقاً)، ما من نبي ولا رسول إلا وله مكانة عند الله، لكن تتجلى مكانة سيد رسل الله في الأرض حينما نقف مع آيات القرآن، فنرى ربنا جل وعلا يخاطب كل الأنبياء والرسل بأسمائهم مجردة إلا المصطفى، فيقول الله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35] {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48] (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30] {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود:81] {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} [مريم:7] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26].
ولما خاطب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41].
وناداه بصفته: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2].(101/8)
وجوب الاقتداء العملي بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم
هذه مكانة النبي عند الله وهذا قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند الرب العلي جل في علاه، فمن منا سيشهد من الليلة عملياً للنبي صلى الله عليه وسلم ودينه؟ ما أيسر التنظير لمن يدعى حب النبي صلى الله عليه وسلم هو بعيد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ما أيسر أن نتكلم كلاماً نظرياً جميلاً! لكن من منا سيتحلى في مظهره بشكل النبي عليه الصلاة والسلام؟! من منا سيتحلى في مخبره بالنبي عليه الصلاة والسلام؟! من منا سيسير على منهج النبي صلى الله عليه وسلم فيمتثل أمره ويجتنب نهيه؟! ومن منا سيتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أيها الأحبة! ما أحوج الأمة الآن بحكامها وعلمائها ودعاتها ورجالها ونسائها وأطفالها إلى أن ترجع من جديد إلى أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.(101/9)
حلمه صلى الله عليه وسلم
أيها الأحبة! روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً قام في طائفة المسجد النبوي - يعني: في جانب من جوانب المسجد النبوي- يتبول في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه! فقام الصحابة وقالوا: مه مه! ماذا تصنع أيها الأعرابي الجلف؟! لم تجد مكاناً لتتبول فيه إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحب الخلق يقول: لا تزرموه) ووالله لو سكت لكان فعلاً كريماً، ولكان هذا الفعل خلقاً كريماً، لكنه يقول: (لاتزرموه) يعني: دعوه يكمل بوله! والآن ماذا لو تبول طفل من أطفالنا في المسجد؟! ماذا لو دخل سفيه إلى مسجدنا في جميع كبير كهذا الجمع وتبول، أو وقف أمام الشيخ وتبول؟! ماذا لو دخل سفيه الآن فسبني وأنا أتكلم؟! ولكن صاحب الخلق يقول: (لا تزرموه) يعني: لا تقطعوا عليه بوله، وأكمل الأعرابي تبوله تماماً بطمأنينة كاملة وكأنه في خلاء بيت: (ثم نادى عليه رسول الله وقال له: إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، وإنما جُعلت للصلاة ولذكر الله ولقراءة القرآن، يا فلان! ائتني بدلو من الماء، فأفاضوا عليه دلواً من الماء فطهر المكان) وهكذا أنهى الإشكال كله، فانفعل الأعرابي بهذا الحلم وهذا الخلق والرفق، فدخل في الصلاة -والحديث في صحيح البخاري في كتاب الأدب- فدخل الصلاة وقال بصوت مرتفع: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال له صاحب الخلق بخلق: لقد حجرت واسعاً!).
يعني: لماذا تضيق ما وسع الله عز وجل وهو القائل سبحانه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]؟!(101/10)
رفقه في تعليم المخطئين صلى الله عليه وسلم
وروى مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (دخلت الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله.
يقول معاوية: فرماني القوم بأبصارهم، -يعني: نظروا إليه- فقلت: وا ثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! يقول: فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يصمتونني فسكت، فلما قضى النبي صلاته بأبي هو وأمي والله لم أر معلماً قبله ولا بعده أحسن منه، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني إنما قال لي: إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن).
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(101/11)
حكمته صلى الله عليه وسلم
وأختم هذا الدرس بهذا الحديث الغالي جداً، والحديث في البخاري ومسلم ومسند أحمد وعند أصحاب السنن وغيرهم، من حديث أبي سيعد وعلي وعبد الله بن عمرو وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنائم يوم حنين أعطى المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، ووكل الأنصار إلى إيمانهم بالعزيز الغفار وحبهم للنبي المختار، وأعطى المال للمؤلفة قلوبهم ليتألفهم، وليحببهم في الإسلام، فوجد الأنصار في أنفسهم، وقالوا كلمات شديدة، منها: (غفر الله لرسول الله، غفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ولا يعطينا ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم؟!).
وقالوا أيضاً: (والله لقد لقي رسول الله قومه) يعني: من لقي أحبابه نسي أصحابه؟! لما رأى النبي قومه من قريش نسينا فأعطاهم ولم يعطنا، فسمع سعد بن عبادة هذه الكلمات وهو سيد الأنصار فأسرع إلى النبي المختار وأخبره بما قال الأنصار، فقال المصطفى: اجمع لي الأنصار يا سعد فإذا اجتمعوا فأعلمني، فانطلق سعد بن عبادة فجمع الأنصار جميعاً، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! قد جمعت لك الأنصار حيث أمرتني فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب! أعرني قلبك وسمعك وانتبه! قام النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار خطيباً، وهو أفصح الخطباء الذي كانت تهتز بين يديه لكلماته أعواد المنابر، فهو أفصح من نطق بالضاد وأصدق الناس لهجة: (قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الأنصار فقال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! عالة -أي: فقراء- فأغناكم الله؟! أعداءً فألف الله بين قلوبكم؟! فقالوا: المن لله ولرسوله، المن لله ولرسوله، فقال المصطفى: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك عائلاً فواسيناك مخذولاً فنصرناك، فقالوا: المن لله ولرسوله، فقال: يا معشر الأنصار! أوجدتم في أنفسكم في لعاعة -أي: في أمر تافه من أمر الدنيا- أتألف به أقوماً ووكلتكم إلى إيمانكم بالله جل وعلا؟! يا معشر الأنصار! والله لولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباًَ لسلكت شعب الأنصار، فاللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى الأنصار جميعاً حتى اخضلت لحاهم، ثم قال: يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير وترجعون أنتم إلى رحالكم برسول الله؟! فقال الأنصار جميعاً على قلب ولسان رجل واحد: رضينا بالله ورسوله قسماً ومغنماً).
أيها الأحبة! إنه الخلق، فوالله ثم والله لو ظللت أتحدث طوال الليل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم -على رغم جهلي وقلة بضاعتي- ما مللتم.
أيها الإخوة! ما أحوج الأمة الآن أن تحول خلق النبي صلى الله عليه وسلم في حياتها إلى منهج حياة إلى واقع يتألق سمواً وعظمة وروعة وجلالاً، ما أيسر أن تحتفل الأمة وتحتفي بالمولد تارة وبالهجرة تارة، وبليلة النصف من شعبان تارة إلى آخره من هذه الاحتفالات والأعياد التي كثرت في أمتنا، أسأل الله أن يكثر أعيادها على السنة.
ما أحوج الأمة التي تجيد الكلام والخطابات والاحتفالات والقصائد والأشعار إلى أن تحول خلق النبي المختار إلى واقع عملي ومنهج حياة.
أيها الأحبة! لو ظللنا الدهر كله نتغنى بخلق النبي صلى الله عليه وسلم ونحن لم نمتثل أمره ولم نجتنب نهيه ولم نقف عند حده، ولم نذب وندافع عن سنته ولم نحمل هم دعوته، فوالله لن نغير من الواقع شيئاً، فما أحوج الأمة في هذا الشهر الذي تحتفل فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحول خلقه إلى واقع عملي ومنهج حياة.
وقبل أن أنهي الحديث أريد أن أشير وأنبه إلى ما حدث في أثناء المحاضرة: أقول: أنا قلت للأخ السائل أثناء المحاضرة: اجلس ولم أجبه لسؤاله، وهذا من السنة، والدليل على ذلك: ما رواه البخاري ومسلم: (أن رجلاً دخل المسجد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فقال: يا رسول الله! متى الساعة فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب السائل، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: أين السائل؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال السائل -الفقيه-: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فمن السنة أن يقول الخطيب أو المتكلم للسائل: اجلس حتى ينهي حديثه، فإن أراد أن يسأل عن السائل فعل وإلا فلا حرج ولا عيب.
أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إلى القرآن والسنة رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(101/12)
الأسئلة(101/13)
حكم منع المرأة من زيارة أمها
السؤال
أخ ملتزم وزوجته ملتزمة، ولكن ظروفه المادية صعبة، وعنده مشاكل مع أم زوجته، فمنع زوجته من زيارة أمها، فهل هذا يجوز؟
الجواب
لا يجوز له أن يمنع زوجته من أن تزور أمها وأن تبر بها، حتى ولو كانت أمها على الشرك، قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، لكن يجوز له هو أن يمتنع عن زيارة أم زوجته، يقول: والله أنا لا أريد أن أذهب إلى هناك، ولا حرج عليه لاسيما إذا شعر أن هذا قد يسبب له ضرراً أو فتنة في دينه، لكن ليس من حقه أن يمنع الزوجة، وإن قال: إن بيت أم زوجته فيه معاصي، فأقول: فلتذهب زوجتك للبيت ولتجلس قليلا بنية الصلة ولترجع، فلا ذنب بعد الشرك ولا ذنب بعد الكفر، وقد أمر الله بالصلة مع الشرك والكفر، فلا تمنع امرأة من أن تكون برة واصلة لأمها.
أقول: وصّل الزوجة إلى بيت أمها، واتفق معها على موعد محدد لترجع لها، ولكن لا تقطع الرحم.
أسأل الله أن يرشدنا وإياكم بهداه.(101/14)
التوبة الصادقة طريق التخلص من الذنوب
السؤال
أسأل عن معصية تراودني فترة بعد فترة، فهل هذا نفاق، وما الحل للتخلص منها؟
الجواب
إن كانت المعصية تراودك بعد توبة صادقة فجدد توبة أخرى ولو وقعت في المعصية ألف مرة! واعلم بأن الله لا يمل حتى تملوا، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة في حديث ثانٍ لـ عمر سأذكره الآن: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم) واحذر أن تفهم هذا الحديث على أنه حث على المعصية، وإنما يفتح باب الرجاء لكل مذنب، فإن زلت قدمك في بؤرة معصية فعد إلى الله وأنت على يقين بأن الله سيغفر لك، واعلم بأن الله لا يمل حتى تملوا.
والمهم أن تقلع عن المعصية وأنت نادم، وأن تدخل في التوبة وأنت صادق، فإن عاودت المعصية فجدد التوبة مرة أخرى وأخرى وأخرى، فجدد لكل معصية توبة وأسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).(101/15)
حكم العمل في محلات تبيع أشرطة الغناء
السؤال
أعمل في سوبر ماركت، ولكن السوبر ماركت يبيع أشرطة الغناء، فماذا أفعل؟
الجواب
اجتهد في نصح صاحب المحل بأن يتخلص من أشرطة الغناء، وذكّره بالله ولو أهديته بعض الأشرطة فقد أحسنت وأجملت، وإن كنت تقدر على عمل آخر لا شبهة فيه فانتقل إليه، وإلا فكن في عملك مع البحث الجاد الصادق حتى ييسر الله لك عملاً آخر.
وأسأل الله أن يرزقنا الحلال الطيب.(101/16)
حكم الهجرة إلى بلاد الكفار
السؤال
شركة أمريكية تطلب شباباً للهجرة إلى أمريكا، وأنا أبحث عن مخرج من هذا البلد، فهل يجوز لي الهجرة إلى أمريكا؟
الجواب
لا تجوز الهجرة إلى بلاد الكفر إلا لضرورة شديدة جداً، وأنا سافرت إلى أمريكا وإلى أوروبا، وأنا أنصح كل شاب يسألني عن السفر إلى هذه البلاد أن يجتهد قدر الإمكان ألا يسافر إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها؛ لأنك ستذهب من أجل الدنيا فسترجع بلا دين في الغالب، ولا أحكم على الجميع، ولكن هذا هو الغالب، فهذه البلاد لاسيما إذا سافر الشاب بدون زواج وبدون عقيدة صلبة صحيحة فيخشى عليه الفتن، فالفتن هناك مشتعلة تموج كموج البحر، ووالله لولا الدعوة ما سافرنا إلى تلك البلاد، ولولا أن نخشى أن نأثم ما سافرنا إليها فتن شديدة جداً.
كم من شباب سافر إلى أمريكا وإلى أوروبا وإلى إسرائيل، فعاد بغير دين.
أقول لهذا الشاب: ابحث عن عمل في بلد مسلم، وإن لم يتيسر لك هنا في مصر، ففي أي بلد آخر من بلاد المسلمين، اجتهد والله تبارك وتعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] والضرورة تقدر بقدرها.(101/17)
الحث على ارتداء النقاب
السؤال
أنا فتاة أرغب في ارتداء النقاب وهناك معارضة من العائلة، ويقولون لي: إن ارتديت النقاب فلن أتزوج؟
الجواب
البسي النقاب وأنا آتي لك بمائة عريس تختارين من تريدين! أقول: أنا أنصح العائلة الفاضلة بأن تحرص على أن ترتدي ابنتها النقاب، ولتعلم العائلة علم اليقين أن الشباب المسلم الملتزم لا يبحث إلا عن المنتقبات، ولا يبحث إلا عن الطاهرات الفاضلات، أما السافرات فلا والله، فممكن أن يلعب عليها أو يكلمها وتجلس معه والعياذ بالله في الحرام، لكن عندما يريد أن يتخذ الخطوة الحقيقة للزواج يقول: أنت لعبتِ معي، فلا آمن أن تلعبي! ويبحث عن الطاهرة العفيفة الشريفة.(101/18)
الصبر على الأذى في ذات الله
السؤال
والدي يصر عليَّ بأن أقصر لحيتي -خوفاً عليَّ- وقد استنفذت معه جميع طرق الإقناع، ولكنه مازال مصراً عليَّ بأن أقصرها، فما هو توجيهكم؟!
الجواب
اثبت واصبر فالله يقول: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ولا تتخلى بسهولة.
يعني: نحن ما عُمل فينا ما عُمل في بلال وخبيب وعمار وزنيرة وخباب إن كان الوالد يشتمك أو يضربك، أيش المشكلة؟! ولابد من الرجولة ولابد من الثبات، والله العظيم لو وجدك والدك ثابتاً صادقاً لتركك، وأسأل الله أن يثبتنا وإياك.(101/19)
طريقة العلاج من المس الشيطاني
السؤال
أنا فتاة على خلق والحمد لله، وأرتدي الحجاب الشرعي، وأحافظ على الصلاة وعلى مجالس العلم في أحيان كثيرة، لكن يحدث لي شيء غريب وهو أن بي مساً من الجن، علماً بأنني ذهبت إلى كثير ممن يدعون المعرفة بالقرآن فوجدتهم على غير ذلك، وأتمنى أن توضح لي الحل في نقاط محددة لأتبعها وجزاك الله خيراً.
الجواب
أنصح كل من ابتلي بمس الجن -بمس الشيطان- أو بالسحر أن يحافظ على الرقية الشرعية، وليس بالضرورة أن يذهب إلى المعالجين أو إلى من نصبوا أنفسهم للعلاج.
وأيضاً أنصح كل من نصب نفسه للعلاج أن يخشى على نفسه وعلى قلبه، ووالله العظيم إنه فتنة، ولا أود بذلك أن أقول: اتركوا، وإنما أنصح المريض ابتداءً أن يحرص على أن يرقي نفسه بنفسه بعد تحقيق تمام التوكل على الله عز وجل، ولو اجتمع أهل الأرض لرقيه وهو بعيد عن التوكل وعن اليقين فلن ينفعه ذلك على الإطلاق.
فلو أن أختاً مصابة بمس من الشيطان وهي لا تصلي فلو قرأ عليها محمد حسان وأبو إسحاق ومصطفى العدوي ومحمد يعقوب وغيرهم فلا فائدة؛ إذ لابد من تحقيق التوحيد، ولابد من أن تحقق الأخت الفاضلة وكل أخت حقيقة التوكل على الله عز وجل.
إذاً: لنعلم أولاً أن الشيطان لا سلطان له على المخلصين، فقد يؤذى الإنسان، وقد سحر النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد المخلَصين وسيد الذاكرين ابتلاءً؛ ليبين الله عز وجل لنا بشرية النبي من جانب؛ وليبين الله لنا العلاج لهذا الداء من جانب آخر.
فنقول: العلاج بخطوات كالتالي: الأمر الأول: المحافظة على الصلوات، فلابد من المحافظة على الصلوات وترك الجلسة أمام التلفزيون ليلاً ونهاراً.
الأمر الثاني: المحافظة على الأذكار: أذكار الصباح والمساء، فهي أمر في غاية الأهمية، وقد يستهين بها كثير من الإخوة والأخوات ولترجع -مثلاً- لكتاب رياض الصالحين، أو القصاصات التي تباع فيها الأذكار: أذكار الصباح والمساء، احفظ أي نوع من أنواع الذكر، وليس بالضرورة أن تحفظ الأذكار كلها، لكن احفظ شيئاً من الأذكار كأذكار الصباح وأذكار المساء، ولابد أن يكون لسانك رطباً بذكر الله عز وجل.
الأمر الثالث: المحافظة على الورد اليومي من القرآن.
الأمر الرابع: المحافظة على قيام الليل، فصلاة الليل تحفظك بإذن الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة عن السيئات، ومنهاة عن الإثم) فالصلاة بالليل تنهاك عن الآثام، وتحثك البعد عن الآثام، وهي قرب من الرحمن، فهي طاعة يتقرب بها إلى الله.
الأمر الخامس: المحافظة على الوضوء، والأعظم من كل هذا: أن تحقق التوكل على الله، وأن تعلم يقيناً أن الضار والنافع هو الله، قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] فالضار النافع هو الله ولا يقع شيء في الأرض إلا بإذنه وأمره جل وعلا.
الأمر السادس: قراءة سورة البقرة، فإن عجز عن قراءة سورة البقرة فعن طريق شريط الكاست، فتقرأ في البيت كل ثلاثة أيام مرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة)، يعني: السحرة.
الأمر السابع: قراءة آية الكرسي، فالذي يقرأها بالليل لا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، ومن قرأها الصبح لا يزال عليه من الله حافظ حتى يمسي، وقراءة أواخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] إلى آخره: (من قرأ آيتين من أواخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) أي: من كل هم وغم وجور.
الأمر الثامن: أكل سبع تمرات من تمر العالية وهي منطقة في مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من تصبح بسبع تمرات من تمر العالية لا يصيبه في هذا اليوم سم ولا سحر).
الأمر الثامن: الصبر.
فسيدنا أيوب -على الراجح من أقوال أهل العلم- بقي مريضاً ستة عشر سنة، والابتلاء له ثلاث درجات: الدرجة الأولى: للتمحيص: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
إذاً: المرتبة الأولى من مراتب الابتلاء: التمحيص.
المرتبة الثانية من مراتب الابتلاء: التطهير: (ما من مسلم يصيبه أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) إذاً: الابتلاء مع الصبر طهارة من الذنوب.
المرتبة الثالثة من مراتب الابتلاء: رفع الدرجة؛ لأن الله قد ابتلى نبيه المصطفى؛ لرفع الدرجة، قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:2] والابتلاء للنبي صلى الله عليه وسلم رفع لدرجته.
إذاً: الابتلاء إما أن يكون للتطهير، وإما أن يكون للتمحيص، وإما أن يكون لرفع الدرجة، فاصبر فأنت على خير في كل أحوالك، فإذا ابتلي إنسان ورقى نفسه ولم يقدر الله له الشفاء؛ فلا يتعجل ولا ييأس من المداومة والمواظبة على الرقية، بل يجب عليه أن يستمر على ذلك، وأن يصبر، ونسأل الله أن يرفع البلاء عن السائل وعن كل مرضى المسلمين من الرجال والنساء، إنه على كل شيء قدير.
وهناك رسالة في الوقاية من الشيطان للشيخ الفاضل مصطفى العدوي فيها ما ذكرت وزيادة، وأسأل الله أن يتقبل منا ومنه ومن جميع إخواننا صالح الأعمال.(101/20)
دعاء لشاب أسلم حديثاً
السؤال
يجلس بيننا الآن شاب يبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً، كان نصرانياًَ فأسلم بين أيدينا، ويصلي معنا في مسجد بعيد عن المنزل حتى لا يراه أهله، ونحن نطلب من حضرتك الدعاء له.
نسأل الله أن يشرح صدره وأن يثبتنا وإياه على الحق، وأن يتقبل منا ومنه صالح الأعمال، وأوصي هذا الأخ بالثبات، فإن الإسلام غال، وأحمد الله الذي شرح صدره للحق، وأسأله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياه على الحق حتى نلقاه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(101/21)
رحلتي إلى أمريكا
حري بمن أنعم الله عليه فهداه للإسلام، وجعله من أمة خير الأنام صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله على هذه النعمة، وأن يشكره على هذه المنة.
وإن من الأسباب التي تدفع المرء لحمد الله على الهداية أن يطوف في أرض الله؛ ليطلع على حال من حرمه الله من نعمة الإسلام، فظل يتخبط في ظلمات الكفر والشرك، وينبغي على كل مسلم ساقته قدماه إلى بلد من بلدان الكفر أن يكون داعية إلى دين الله بقوله وفعله وسمته لعل الله أن يهدي به رجلاً واحداً.(102/1)
انطباعات حول رحلة أمريكا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، طبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! اسمحوا لي أن يكون لقاؤنا اليومَ بعنوان: (رحلتي إلى أمريكا بين الحقائق والآمال والواجبات).
فلقد شرفني اللهُ جل وعلا في الأيام القليلة الماضية بالمشاركةَِ في ثلاثة مؤتمرات إسلامية في أمريكا، أستطيع أن أعطي حضراتكم لمحة سريعة عن هذه المؤتمرات، قبل أن أسجل بين يدي حضراتكم بعض انطباعاتي عن هذه الزيارة: أما المؤتمرُ الأول: فقد عُقد في مدينة (إنديانا بوليس) تحت إشراف جمعية القرآنِ والسنة التي يقوم عليها إخوةٌ فضلاء كرام، يقدمون الإسلام غضاً طرياً صافياً خالصاً من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة.
يقدمون الإسلام بهذه الصورة المشرقة في بيئة قد أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأرهقها وأضناها طول المشي في التيه والظلام، هذا المؤتمر الذي يقوم عليه هؤلاء الإخوة الفضلاء كان الموضوع الذي طرحه في هذا العام: (العملُ الإسلاميُ المعاصر بين عذاب الاختلاف ورحمة الائتلاف).
وشارك فيه مجموعةٌ من العلماء والدعاة وحضر المؤتمر عدةُ مئات من المسلمين والمسلمات.
أما المؤتمر الثاني: فكان في مدينة (ديترويت) تحت إشراف رابطة الشباب المسلم العربي، هذه الرابطة المباركة التي بدأت بأفراد قلائل، ويقوم عليها إخوة يعتز بهم كل مسلم، هؤلاء الإخوة الذين رأيت منهم مواصلة الليل بالنهار، وبذل الجهود والطاقات لإنجاح هذا المؤتمر الكبير، هؤلاء الإخوة يتطوعون بعملهم هذا لله جل وعلا، هذا المؤتمر الذي كان موضوعه الذي طرحه في هذا العام بعنوان: (الأمة الإسلامية شروق لا غروب)، وحضر في هذا المؤتمر عدد كبير من أكابر علماء الأمة ودعاتها من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وأصغ لي السمع أيها الحبيب وانتبه! فإن عدد الحضور في هذا المؤتمر في أمريكا بلغ ستة آلاف مسلم ومسلمة، وقد احتلوا أكبر فندق في هذه المدينة، وتحول هذا الفندق بقاعة المؤتمرات إلى تظاهرة إسلامية شماء شامخة تبكي العيونَ فرحاً، وتهز القلوبَ أملاً لدين الله جل وعلا!! وفي أول ليلة من ليالي هذا المؤتمر قام أحد الإخوة بدعوة المسلمين إلى مد يد العون لإخوانهم في البوسنة والهرسك وفي فلسطين وفي كشمير، وكانت العجيبة التي لا أصدقها إلى الآن أن الإخوة جمعوا في هذه الليلة ما يزيد على مائتين وأربعين ألف دولار في نصف ساعة! وفي الليلة التالية جمعوا أكثر من مائة وثمانين ألف دولار! إنه الإسلام! إنه العمل الجاد! ولا يفوتني هنا أن أسجل كلمة حق لله جل وعلا، وهي أنه على الرغم من وجود بعض الملاحظات على هذا المؤتمر إلا أنها تذوب تماماً مع الحسنات الكبيرة الكبيرة، فقد بلغ الإخوة في هذا المؤتمر درجة من التنظيم والتنسيق والترتيب والإبداع يسعد ويعتز بها كل مسلم ومسلمة في أرض الله جل وعلا، لاسيما وقد علمتم أن الحضور قد بلغ في هذا المؤتمر قرابة ستة آلاف مسلم ومسلمة.
أما المؤتمر الثالث: فكان في (كندا) في مدينة (توزنتو) تحت إشراف الاتحاد الإسلامي الصومالي، أسمعتم؟! تحت إشراف إخوان لنا من الصوماليين الذين هاجروا من بلادهم هرباً بدينهم من نيران الحروب الأهلية الطاحنة، وذهبوا إلى كندا وتحركوا لدين الله جل وعلا، وتعجبون إذا علمتم أن الطرح الذي طرحه المؤتمر في هذا العام كان بعنوان: (نحو منهج السلف)، أي: نحو منهج أبي بكر وعمر وعثمان وعلي!! على أيدي إخوة صوماليين يتحركون لدين الله جل وعلا في بلد مثل كندا!! وقد شارك في المؤتمر عدد من العلماء والدعاة، وكذا حضره عدة مئات من المسلمين والمسلمات.
ثم يسر الله لنا بعض الزيارات لبعض المساجد والمراكز الإسلامية، وكادت سعادتنا وفرحتنا أن تبلغ عنان السماء ونحن نتجول بين أجهزة حديثة وصرح شامخ في ولاية (فرجينيا) في معهد الدراسات الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، هذا الصرح الشامخ الذي يسعد ويعتز به كل مسلم ومسلمة، أنشئ منذ ثلاث سنوات فقط وافتتح رسمياً منذ عام واحد، وبالرغم من ذلك، لو وقفتم على نشاطات هذا المعهد لعجبتم، ومن أروع ما قدمه هذا المعهد: برنامجاً بالكمبيوتر لتعليم الإسلام باللغة الإنجليزية للمسلمين ولغير المسلمين من الأمريكيين، مع طبع النشرات والدوريات والمجلات وترجمة بعض الكتب، فضلاً عن أنه يدرس للطلاب العرب والأمريكيين ويمنح البكالوريوس مع الماجستير في الدراسات العليا للدراسات الإسلامية.
من كان يظن أن هذا العمل للإسلام يكون يوماً ما في أمريكا! أنا لن أتحدث اليوم عن أمريكا، ولا عن الشعب الأمريكي، ولا عن أخلاقه، وإنما أحدثكم اليوم عن الأمل عن البسمة عن السرور عن الفجر الذي بدأ يتدفق ويتحرك كالنسيم في كل بقاع الدنيا، حتى في قلب أمريكا يعمل هذا العمل المنظم لدين الله جل وعلا، وعلمنا ونحن في مؤتمر (ديترويت) أن هناك مؤتمراً آخر يعقد في فرنسا، وما استطعنا أن نلبي الدعوة ونذهب إلى هناك، وحضر المؤتمر في فرنسا ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف مسلم ومسلمة! شيء عجيب! ولا أريد أن أطيل عليكم أيها الأحبة! فدعوني أسجل لحضراتكم بعض انطباعاتي عن هذه الرحلة بين الحقائق والآمال والواجبات(102/2)
نعمة الإيمان والعيش في بلاد الإسلام
أولاً: الحقائق: إن أكبر حقيقةٍ أذكر بها نفسي وإياكم أن من قدَّر الله له زيارة تلك البلاد عَلم عِلم اليقين أن أعظم نعمةٍ امتن الله بها علينا -ونحن نغفل عنها- هي نعمةُ الإسلام والإيمان، نعمة التوحيد لله العزيز الحميد، أعظم نعمة وأكبر نعمة امتن الله بها علينا من غير اختيار منا ومن غير فضل منا، ولا بقوة عقولنا، فإن القوم هناك قد ناطحوا السحاب بما أبدعته عقولهم، وعرفوا كل شيء في الكون إلا خالقه جل وعلا! فالفضل لله ابتداءً وانتهاء أن من علي وعليك بالتوحيد والإيمان والإسلام.
ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا من أنا ومن أنت ليشرفنا الله بعبادته وتوحيده جل وعلا؟! إنه محض فضل الله على العباد ابتداء وانتهاء، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7 - 8] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
ذلك الفضل من الله جل وعلا، فيا منْ منَّ الله عليك بلا إله إلا الله وبنعمة الإسلام وبنور الإيمان! لا تغفل عن هذه النعمة، واسجد لربك شاكراً، واحمد الله مع كل نفس من أنفاس حياتك أن خلقك الله موحداً بغير رغبة منك ولا اختيار، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي لفظ مسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه) ينشأ في بيت يهودي يقول: عزير ابن الله! فينشأ يهودياً كافراً بمولاه.
(أو ينصرانه) ينشأ في بيت يقول: عيسى ابن الله، أو المسيح ابن الله! فينشأ كافراً بمولاه.
(أو يمجسانه) ينشأ في بيت يعبد النار من دون الله فيخر لها ساجداً من دون مولاه! قال: (يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء -أي: مكتملة- ثم قال أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]).
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء) أي: على الملة الحنيفية السمحة، وعلى فطرة التوحيد، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] قال: (إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) فالفضل لله ابتداء وانتهاء.
وإذا منَّ الله عليك -بعد نعمة الإسلام والإيمان- ببيئة تعينك على طاعة الله، وعلى ذكر الله، وتحول بينك وبين معصية الله فهي نعمة أكبر ونعمة أعظم، ولا يعرف قدر بيئة الطاعة التي ذكرتها إلا من ذهب إلى تلك البلاد، فإن البيئة هناك تؤزك إلى المعصية أزاً، وتدفعك إلى معصية الله دفعاً، فلا تقع عينك في أي مكان إلا على معصية، في المطار في القطار في الطائرة في المصنع في الفندق في الشارع في المحل في التلفاز في المجلة في الجريدة، لا تقع عينك -بلا ذرة من المبالغة- إلا على معصية.
ففي كل لحظة تنظر وفي كل وقت تمشي لا تقع عينك في تلك البيئة إلا على معصية الله جل وعلا، ولا يعصمك إلا الله، لا يوجد أحدٌ يذكرك بالله، إلا إذا التقيت بأخ من إخوانك يتلهف لرؤياك وتتلهف لرؤيته، كل ما في تلك البيئة يؤزك إلى المعصية أزاً، ومن رأى تلك البيئة عرف فضل بيئة الطاعة التي نعيشها.
ووالله إن أطهر وأشرف بيئة على ظهر الأرض تعينك على طاعة الله هي بيئة بلاد الحرمين، أقولها لمرضاة الله جل وعلا، هذه البلاد بلاد الحرمين التي هي جزيرة الإسلام، وفيها مهبط الوحي وأرض الرسالات فيها بيت الله جل وعلا، ومسجد رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، فكلما تجاذبت الإنسان أشواك الطريق هرول مسرعاً إلى بيت الله أو إلى مسجد رسول الله شاداً إليه الرحال؛ ليغتسل هناك، وليرفع إلى الله أكف الضراعة، ليرجع وقد شرح الله صدره، وغفر ذنبه، وفرج كربه، إنها بيئة تدفعك إلى الطاعة دفعاً، وتحول بينك وبين المعصية حولا، إلا لمن بحث عن المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر، فهذه ما خلا منها زمان ولا مكان، بل لقد كانت على عهد سيد ولد عدنان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
كيف لا وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى كما في صحيح البخاري ومسلم واللفظ لـ مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين -أي: المسجد الحرام والمسجد النبوي- كما تأرز الحية في جحرها) ومعنى يأرز: أي يتجمع وينضم كما تنضم وتتجمع الحية في جحرها، فالإسلام -بشهادة رسول الله- يأرز وينضم ويتجمع بين المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
بل وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، إلا في التحريش بينهم) أي: يوقع بينهم من الفساد والعداوة والبغضاء، لكن أن يعبده المصلون من دون الله جل وعلا في الجزيرة فلا، فالشيطان ما يئس من أن يعبد في أرض من أرض الله -بشهادة رسول الله- إلا في أرض الجزيرة العربية، وهذه نعمة من الله جل وعلا، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وكما أن الله سبحانه قد اختار من الخلق الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم الخمسة، واختار من أولي العزم الخليلين الكريمين إبراهيم ومحمداً، فكذلك اختار الله جل وعلا له أرضاً، فاختار مكة وشرفها على بقاع الأرض كلها، وقد جاء في سنن الترمذي وابن ماجة بسند حسن صحيح أن رسول الله حين خرج مهاجراً قال يخاطب مكة: (والله إنك لخير أرض الله، وإنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت أبداً)، ويوم أن ترك مكة وذهب إلى المدينة دعا لها وقال -كما في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك -: (اللهم اجعل في المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة) واستجاب الله دعاء حبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
بل وقال كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أنس: (إن على مناقب المدينة ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا يدخلها الدجال) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فمن من الله عليه بالإيمان وببيئة تعينه على طاعة الرحيم الرحمن فليسجد لله شكراً، وليعرف قدر هذه النعمة، وليضرع إلى الله جل وعلا أن يثبته عليها وأن يتوفاه عليها، أسأل الله أن يجعل بلاد الحرمين أمناً أماناً، سخاء، رخاء، وسائر بلاد المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(102/3)
المستقبل للإسلام
ثانياً: الآمال: الآمال كثيرة، ولله الحمد والمنة، وكُلها تنادي بصوت مرتفع وتقول: إن الإسلامَ قادم، كقدوم الليل والنهار.
فإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً مصابرة رغم المكائد تخرج أيها الأحبة! إن أمة الإسلام مرضت وطال مرضها، ونامت وطال رقادها، ولكنها بحمد الله لم تمت.
وإن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف ليس هو كثرة الباطل، ولا قوة الحديد والنار، ولكن الذي يفصل في الأمر في نهاية المطاف هو قوة الحق.
ولا شك أننا نملك الحق الذي من أجله خلقت السموات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل.
معنا رصيد الفطرة فطرةُ الكون وفطرة الإنسان وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها والله من معية عظيمة جليلة مباركة، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] بشرط: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] إنه وعد الله الذي لا يتخلف، وسنة الله التي لا تتغير.
ومن أروع ما قرأت -وأنا أعد هذا اللقاء- قول المفكر الكبير ماكنيل: (إن الحضارة الغربية في طورها الأخير من أطوار حياتها).
ومن سافر إلى تلك البلاد عرف هذه الحقيقة التي بدأت تنادي ويصرخ من أجلها المفكرون هناك: إن الحضارة الغربية في طورها الأخير من أطوار حياتها.
نعم أيها الأحبة! لا ننكر أن الحضارة الغربية قد قدمت تقنية علمية رائعة مذهلة، انطلقت بعيداً بعيداً في أجواء الفضاء، وغاصت بعيداً بعيداً في أعماق البحار والأنهار والمحيطات، وفجرت الذرة، بل وحولت العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم العلمي المذهل، والتقنية الحديثة في عالم الاتصالات والمواصلات.
ولكنها بالرغم من ذلك فشلت في أن تمنح الإنسان طمأنينة النفس، وسعادة القلب، وراحة البال، واستقرار الضمير، وهدوء الأعصاب، ومن أراد أن يتحقق من ذلك فليراجع أي إحصائية تقع عليها عينه؛ ليتعرف على هذه الحقائق التي ذكرتها.
والسبب في ذلك: أن الحضارة تتعامل مع شق واحد من هذا الإنسان، ألا وهو البدن، فأعطت هذه الحضارة البدن كل ما يريد، وكل ما يشتهي، وكل ما يرغب، وبقي الشق الآخر وهو الروح، وهذه الأمور لا تتعامل مع الروح؛ لأن الروح لا تقاس بالكيلومترات ولا توزن بالجرام، ولا تخضع للترمومتر الميتافيزيقي مثلاً، ولا تخضع ولا تتجسد في بوتقة اختبار في مصنع أو معمل كيمياء أو فيزياء كلا، بل إنه لا يشبع الروح ولا يغذيها ولا يسعدها ولا يفرحها، إلا منهج خالقها جل وعلا، هذه حقيقة بدأ يصرخ بها الآن المفكرون في هذه الحضارات الغربية وينادون بها، ومن أعجب ما قرأت في هذا ما قاله المفكر الشهير اكسنجل، حيث يقول في كتابه القيم سقوط الحضارة: إن للحضارة دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة جديدة أوشكت على الشروق في أروع صورة، هي حضارة الإسلام، فهو وحده الذي يملك أقوى قوة روحانية عالمية نقية، إنه دين الفطرة، دين الله الذي خلق هذا الإنسان ويعلم ما يفسده وما يصلحه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وبدأت البشارات تتوالى، ومن هذه البشارات أنه في الأسبوعين الماضيين حدث في أمريكا حدث لأول مرة في تاريخ أمريكا، فلقد احتفل البنتاغون -وزارة الدفاع الأمريكية- بتنصيب أول إمام للمسلمين في الجيش الأمريكي، وهذا حدث فريد من نوعه، وقد تلقفت هذا الخبر وكالات الأنباء والإذاعات والمجلات في أمريكا، وركزت عليه تركيزاً شديداً، إنه حدث فريد في تاريخ أمريكا كله أن ينصب رجل مسلم في مثل هذا المنصب، واسم هذا الرجل عبد الرشيد محمد وقد نصب إماماً للمسلمين في الجيش الأمريكي والذين يزيد عددهم عن ستة آلاف مسلم، وسمح لهم رسمياً بإقامة الصلوات في أوقات الدوام الرسمي.
خذ المزيد: وصل عدد المسلمين في أمريكا إلى ما يزيد عن ستة ملايين مسلم! خذ المزيد: بلغ عدد المساجد في أمريكا ما يقرب من ألف مسجد يرفع التكبير لله العلي الكبي! ألف مسجد يؤذن ويصلي فيه المسلمون الصلوات الخمس لله جل وعلا! خذ المزيد: مؤسسة كبيرة تسمى بمؤسسة الأخت كليرا محمد هذه الأخت الفاضلة المليونيرة المسلمة الأمريكية سخرت مالها لدين الله، وأنشأت خمسين مدرسة إسلامية، والعام الماضي انتهت من إنشاء كلية في ولاية فرجينيا، وهذه الكلية تسمى بكلية المعلمين؛ لتخريج المدرسين الذين يدرسون في هذه المدارس الإسلامية.
خذ المزيد: في الشهر الماضي، بل في الأيام القليلة الماضية افتتح في أمريكا أول برنامج إذاعي ليبث للمسلمين والأمريكيين باللغة الإنجليزية تعاليم دين الرحيم الرحمن في إذاعة تسمى (صوت الحق).
خذ المزيد: معهد الدراسات الإسلامية والعربية التابع لجامعة الإمام يمنح (البكالوريوس) و (الماجستير) في الدراسات الإسلامية، ويقدم برامج علمية هادفة مثقفة مركزة باللغة الإنجليزية للمسلمين الأمريكيين ولغير المسلمين، بالإضافة إلى هذه التجمعات والمؤسسات الإسلامية والمؤتمرات والندوات والمجلات والدورات والنشرات والمحاضرات في كل أنحاء أمريكا، بل تعجبون أيها الأحبة! لقد علمت أن في مدينة واحدة -وهي مدينة (ديترويت) - أكثر من سبعين مسجداً، ويزيد عدد الإخوة اليمنيين في هذه المدينة عن مائتي ألف يمني مسلم! كادوا أن يستقلوا بحياتهم ومطاعمهم ومآكلهم ومشاربهم في هذه المدينة، إنه فضل الله جل وعلا، إنه وعد الله الذي لا يتخلف، وسنة الله التي لا تتغير، إن يد الله جل وعلا تعمل ولكننا في غفلة.
وأخيراً أيها الأحبة الكرام! يبقى أن نقول: فما واجبنا وما دورنا؟ وهذا نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(102/4)
واجب المسلم في نشر دين الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة! يزيد هذا الأمل ويضاعف هذه البشريات ما نراه من صحوة إسلامية عالمية مباركة، يحلو لي أن أكررها وأن أذكر بها في كل لقاء؛ فإنها أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من هذا القرن، هذه الصحوة التي يغذيها كل يوم شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تأتي هذه الكوكبة المباركة والثلة العظيمة الأبية، تأتي بعد بدر والقادسية واليرموك وحطين، تأتي في كهولة من الزمن؛ لتمضي على طريق الدعوة الطويل الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، تأتي هذه الكوكبة لتمضي على نفس الطريق مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، فتسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة بانتصار الحق ومحق الباطل حتى وإن طال الطريق، إنه صبح كريم مبارك: صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى دربا وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا ولكن أيها الأحبة! ما هو دورنا نحن؟ وما هو واجبنا؟ إنني أخاطبك أيها المسلم! وأخاطبك أيتها المسلمة! في كل مكان من أرض الله يسمع هذا الكلام، أخاطبك وأخاطبك كي نتحرك جميعاً لدين الله، وأن نكون إيجابيين، دعونا من الكسل، ودعونا من الكلام المثبط للهمم، كقول: ماذا أصنع؟! وماذا أفعل؟! وما هو دوري؟! أنت أدرى بدورك، وأنت أعلم بوظيفتك، أنت تستطيع أن تبدع في مجالك لدين الله بدلاً من أن يملي عليك غيرك.
فهيا تحرك يا أخي! تحرك أيها الحبيب! لدين الله جل وعلا بكل ما تملك، كفانا كلاماً، نريد أن نحول بعض هذه الكلمات إلى واقع وعمل، تحرك لدين الله على قدر استطاعتك وبكل ما تملك، لقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وهو حديث صحيح- أنه قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها، فليغرسها؛ فإن له بذلك أجراً) لا تقل: متى أغرس؟! ومتى تثمر؟! ومن يأكل؟! إن القيامة ستقوم.
لا يا أخي! اغرس ولا تهتم بالثمرة، ولا تحرص على أن تكون أنت آكل الثمار، اغرس وليأكل ولدك، وليأكل حفيدك، فهيا اغرس لدين الله جل وعلا وتحرك من الآن لدين الله جل وعلا، وتحركي يا أختاه! من الآن لدين الله جل وعلا.
بماذا؟ بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى! بالتربية تربية صحيحة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله بفهم سلف الأمة الصالح، حتى ولو تأخرت نتيجة التربية فإن الله جل وعلا لن يسألنا: لماذا لم تنتصروا؟ ولكنه سيسألنا: لماذا لم تعملوا؟ {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
فهيا نتحرك بالدعوة إلى الله جل وعلا، وأقول هنا: حتى لو كانت الدعوة المتخصصة لا يقوم بها إلا أهلها، إلا أنني على يقين جازم بأن كل مسلم ومسلمة بإمكانه الدعوة إلى الله جل وعلا، ونحن لا نريد أن يتحول الناس جميعاً إلى خطباء وإلى محاضرين على المنابر، ويتركوا مجالات الأعمال وحقول الإنتاج كلا، بل إننا نريد من كل مسلم ومسلمة أن يتحول إلى داعية عظيم لدين الله في موطن إنتاجه وموقع عطائه، وإن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام أن نشهد للإسلام شهادة عملية واقعية سلوكية؛ لأنه أصبح يحكم على إسلامنا من خلال واقعنا المر الأليم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) حديث صحيح رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، فكم تحفظ من الآيات؟! وكم تحفظ من الأحاديث؟! هيا تحرك بما عندك لدين الله جل وعلا.
وأقول مكرراً: حتى وإن كانت الدعوة المتخصصة لها رجالها، ولها الدعاة، ولها العلماء، إلا أن الدعوة العامة واجبة عليك أيها المسلم! فيجب عليك أن تدعو إلى الله جل وعلا، إن لم يكن بلسانك العذب الرقيق فبسلوكك بأخلاقك بمالك بشريط بكتاب بهدية بدورة بنشرة براتب تخصصه لدين الله في هذه البيئات وفي هذه البقاع وفي هذه البلاد، فإن المنصرين يغدقون الأموال والعطاءات على هؤلاء الشباب؛ ليحركوهم لباطلهم في كل بقاع الدنيا، ونحن أهل الحق لا نتحرك للحق الذي من الله جل وعلا به علينا! فهيا أيها الحبيب! لنتحرك جميعاً، ولنتشرف بأن نكون من حواريي رسول الله وأصحابه وأنصاره كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
أيها الأحبة الكرام! أسأل الله جل وعلا أن يُقر أعيننا وإياكم جميعاً بنصرة الإسلام وعز المسلمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، اللهم اكس المسلمين العراة، اللهم أطعم المسلمين الجياع، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدميره في تدبيره إنك ولي ذلك والقادر عليه يا أرحم الراحمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والحمد لله رب العالمين.(102/5)
قواعد منهجية لترشيد الصحوة الإسلامية
شاء الله أن يبزغ في الأفق نور مشرق، وأمل متجدد، أضحى حقيقة كبرى لا تنكر، وهو هذه الصحوة الإسلامية المباركة، ولابد لهذه الصحوة من قواعد وأصول تسير عليها؛ لتؤتي ثمارها، وتنتج خيراتها.(103/1)
انتشار الصحوة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقي إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله.
أحبائي يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا في البوائق أردتم رضا الرحمن سمتاً وقالباً وما أرادوا إلا خطير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق مرحباً بأحبابي، مرحباً بإخواني، أسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين، في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله: لقد شاء الله جل وعلا -وهو الحكيم الخبير- في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض مرة أخرى للقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين أن يبزغ في الأفق نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، كيف لا وهي أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، متمثلاً في هذه الصحوة الإسلامية العالمية المباركة؟! فها نحن نرى -بفضل من الله جل وعلا- كوكبة كريمة وثلة مباركة عظيمة من طلائع البعث الإسلامي المرتقب، من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تلكم الكوكبة الكريمة التي بدأت تتنزل -بفضل من الله جل وعلا وحكمة- في كل بقاع الدنيا، كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، تلكم الكوكبة الكريمة المباركة من هذا الشباب الكريم الطاهر، ومن هؤلاء الفتيات الطيبات الطاهرات العفيفات الشريفات، تلكم الكوكبة الكريمة التي جاءت من جديد بعد القادسية واليرموك وحطين وبدر وأحد، جاءت لتمضي على طريق الدعوة الطويل، على طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، جاءت لتمضي على ذات الطريق الطويل، جاءت لتنضم إلى ركب الدعاة المبارك، الموغل في القدم، الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح عليه السلام.
جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الشوك والصخور والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق هنا وهناك أشلاء، ولكن الركب الكريم من هذه الكوكبة الكريمة في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة، وعلى يقين جازم بنهاية الطريق، وعلى ثقة أن قوى الباطل مهما رصدت من قوى الحديد والنار لهذا الدين العظيم، فإن النهاية كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فإن النهاية تتألق كالأمل، وتشرق كالفجر، وتتحرك كالنسيم، كما قال الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
تأتي هذه الكوكبة الكريمة المباركة من جيل الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام الجيل الذي انشرحت بصيرته لتقبل الحق الجيل الذي لم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الخاطف للأبصار الجيل الذي لم يؤثر فيه سحر الحضارة الغربية المغير للعقول والأفكار الجيل الذي بدأ يوجه وجهه من جديد إلى مكة المكرمة، زادها الله تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، ويولي ظهره لواشنطن وباريس ولندن وبانكوك ومدريد، إنه الجيل الكريم المبارك.
يا أحبابي! أبشركم -والله- حيثما توجهتم في كل بقاع الدنيا وجدتم صحوة إسلامية عظيمة كريمة مباركة، وجدتم إقبالاً شديداً على الله جل وعلا، وجدتم نفوساً مشتاقة لدين الله، وجدتم نفوساً متعطشة للإسلام بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها وأرهقها طول المشي في التيه والظلام، حيثما توجهتم وجدتم نفوساً راجعة خاشعة خاضعة، ووجدتم شباباً وفتيات، وجدتم عودة صادقة إلى الله جل وعلا، وسمعتم آهات التائبين ونبرات العابدين تردد، ودموع الخشية من الله تبلل خديها، وهي تناجي ربها وتقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، والله إنه لصبح كريم مبارك، صبح هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي بدأت تتنزل بفضل الله جل وعلا في كل بقاع الدنيا.(103/2)
الصحوة الإسلامية تبشر بخير قادم
أبشركم أيها الأحبة! والله لقد رأينا في مصر في خطب الجمعة وفي المحاضرات ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الشباب والفتيات، وجدنا عودة صادقة إلى الله جل وعلا، ورأينا دموع الخشوع، ودموع الخشية، ودموع الخوف، وسمعنا آهات التائبين، ونبرات العائدين تناجي ربها جل وعلا، وتسأل الله التوبة والأوبة والصفح والعفو والمغفرة، وجدنا نفوساً قد اشتاقت للإسلام، وجدنا نفوساً قد تعطشت للقرآن وسنة الحبيب عليه الصلاة والسلام، والله إنه لصبح كريم مبارك.
صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى فيا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك قدوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بالتزامك أسمقا(103/3)
قواعد وأصول لترشيد الصحوة المباركة
هذه الصحوة الإسلامية المباركة من أجل أن تكون صحوة قوية بناءة مثمرة راشدة تحتاج إلى منهج يضبطها، ويقوم مسيرتها، ويقود سيرها وخطاها ومسراها، وما لم تكن هذه الصحوة الكريمة منضبطة بهذا المنهج الشرعي، فإنها ستضيع كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب.
واسمحوا لي أيها الأحبة -كابن من أبناء هذه الصحوة الكريمة المباركة- أن أضع اليوم بين أيدي حضراتكم بعض قواعد وأصول هذا المنهج الشرعي؛ لترشيد هذه الصحوة الكريمة المباركة.(103/4)
العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة
القاعدة الأولى من قواعد ترشيد هذه الصحوة هي: وجوب العودة إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، والعودة إلى القرآن وإلى السنة ابتداءً ليست نافلة، ولا تطوعاً، ولا اختياراً، لا، بل إنه الإيمان أو لا إيمان، إنه شرط الإسلام وركن الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
العودة إلى القرآن الكريم بائتمار أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، وأن نحول هذا القرآن في حياة الأمة إلى تشريع، وإلى واقع، وإلى منهج حياة، وإلى مجتمع متحرك به، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] إلى كتاب الله جل وعلا وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ما ذلت الأمة إلا يوم أن ضيعت كتاب ربها، وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وسلم، وراحت تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، وبين يديها مصدر عزها، وأصل شرفها وكرامتها، وبقائها ووجودها.
فالعودة إلى القرآن بالوقوف عند أوامره، بأن نمتثل أوامره أمراً أمراً ونهياً نهياً، وحداً حداً، بل وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وأن نرجع إلى سنة الحبيب الصحيحة صلى الله عليه وسلم.
وها نحن نسمع شنشنة قديمة حديثة، ونرى من ينادي بين أبناء الأمة بوجوب العودة إلى القرآن دون السنة، ويقولون بأن السنة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فلابد من العودة إلى القرآن فقط وتنحية السنة، وهذه شنشنة قديمة حديثة، فقديماً جلس الصحابي الجليل عمران بن حصين يحدث الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: يا أبا نجيد! حدثنا بالقرآن -أي: لا تحدثنا بالسنة-.
فقال الصحابي الجليل رضوان الله عليه: أنت وأصحابك تقرءون القرآن، فحدثني عن الصلاة، وأركانها، وشروطها، وحدودها، هل هناك آية في القرآن الكريم تقول بأن الجمعة ركعتين؟! هل هناك آية في القرآن تقول بأن الظهر أربع ركعات؟! هل هناك آية في القرآن تقول بأن الصبح ركعتين؟! كلا، إن السنة هي التي بينت، وهي التي وضحت؛ لأن السنة مبينة وموضحة ومفسرة للقرآن، ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود، وصحح الحديث شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه)، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5]، (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) أي: يقول: عليكم بالقرآن فقط دون السنة، وهذا من أعلام نبوته، وقد وقع ما أخبر به رسول الله؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، ألا وإن رسول الله قد آتاه الله الكتاب والحكمة، والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة، (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) أي: السنة.
فلابد -أيها الأحبة- من العودة إلى القرآن والسنة الصحيحة، ولكن هناك قيد وشرط؛ لأن كل من يعمل الآن على الساحة يقول: إنني أعمل بالقرآن والسنة.
وحتى تتآلف القلوب، ويتحد الصف، ويجتمع الشمل، لابد من هذا القيد ومن هذا الشرط، ألا وهو وجوب العودة إلى القرآن والسنة بفهم سلف الأمة الصالح، مَن مِن المسلمين لا يريد أن يفهم القرآن والسنة بفهم أبي بكر رضي الله عنه؟! مَن مِن المسلمين لا يريد فهم عمر؟! مَن مِن المسلمين لا يريد فهم علي؟! أو فهم عثمان؟ أو فهم معاذ؟! أو فهم أبي ذر؟! أو فهم غيرهم من الصحابة الأخيار الأبرار الأطهار؟! ومن تبعهم في القرون الخيرية الثلاثة الأولى، وكما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)، فإن الطائفة المنصورة قائمة في كل زمان ومكان، لا يخلو منها زمان ولا مكان بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد من أن نعود إلى القرآن والسنة بفهم السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، لابد من العودة إلى هذين النبعين الصافيين بهذا القيد وهذا الشرط، لماذا؟ لأن سلف الأمة هم أفهم الناس للقرآن والسنة، وهم أقعد الناس بالعلم، وهم أقرب الناس للحق، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
هذا هو الطريق يا أبناء الصحوة! هذا هو السبيل أيها المسلمون! هذا هو السبيل لرضوان الله جل وعلا ولمرضاته، ولجنات النعيم في الآخرة.
والله لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط وهذا السبيل تحديداً جلياً واضحاً، كما في الحديث الذي رواه الدارمي في السنن، وأحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، إلا أن الحديث ما ارتقى لدرجة الصحة فهو حديث حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وقال: هذا سبيل الله، وخط عن يمينه وعن شماله خطوطاً متعرجة، ثم قال الحبيب: وهذه سبل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا النبي قول الله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]).
بل وحدد النبي أهل هذا السبيل وأهل هذا الصراط، كما في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام الترمذي في السنن، وأحمد في المسند، واللالكائي في السنة، والطبراني في معجمه الكبير وغيرهم، من حديث معاوية وأبي هريرة وأنس وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، وفي رواية: (على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار).(103/5)
اعرف الحق تعرف أهله
أيها الأحبة الكرام: أكتفي بقاعدة أخرى ثانية من قواعد ترشيد الصحوة الإسلامية المباركة، وهي من أهم القواعد التي يحتاجها أبناؤنا وأحبابنا وإخواننا من أبناء هذه الصحوة، ألا وهي: اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق.
ومن أروع ما قاله الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى في كتابه القيم الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل.
إننا نريد من أبناء الصحوة تحرراً، لا نريد تعصباً بغيضاً أعمى، لا للجماعات ولا للأفراد ولا للشيوخ ولا للمناهج، بل نريد من شباب الصحوة تعصباً وتمسكاً بالحق وللحق.
لماذا؟ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، فإننا لا زلنا نرى من بين أبنائنا وأحبابنا وإخواننا من يتعصب لجماعته، فجماعته هي جماعة المسلمين، وهي وحدها التي على الحق وما عداها من الجماعات فهي على الباطل؛ ولذا فإن كل ما يصدر عن جماعته فهو شرعي، كل ما ينتج عنها من نظريات، ومن أفكار وفتاوى نظرية، أو حتى اجتهادات حركية؛ هو الشرعي، وهو الصواب، وهو الصحيح، ومن ثم فإن شيخه في هذه الجماعة هو الأوسع علماً، وهو الأنصع حجة، وهو الأقوى بياناً، وهو الأعظم دليلاً، حتى ولو لم يكن عند شيخه دليل يقنع، ولا علم يشبع، ومن ثم فهو لا يقبل في شيخه نقداً ولا مراجعة على الإطلاق، وهذا -أيها الأحبة- من التعصب الذي لا يقره الإسلام، ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وحذر منه الله تبارك وتعالى.
لماذا؟ لأن نتيجة هذا التعصب ظاهرة لكل أحد، ولا يمكن على الإطلاق أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام، وأن نبرئ بعض أفراد الصحوة الإسلامية من هذا الداء العضال، ومن هذا المرض الفتاك الخطير، لا ينكر هذا المرض إلا أحد جلس ينظِّر للحركة الإسلامية المعاصرة من برج عاجٍ، أو من مكتب مغلق مكيف.
إن هذا الواقع نعيشه ونحياه، وإن هذا التعصب شتت الصف، وزرع بذور العداء، وبذر بذور الخلاف، ولابد من التعالي على هذا التعصب، لابد من التحرر منه والتخلص منه، وذلك لا يكون إلا بتجرد القلوب لله جل وعلا، وبأن ننطلق في أعمالنا ودعوتنا قاصدين وجه الله، لا نريد قومية ولا عصبية ولا راية ولا شارة، ولا ندعو لمصلحة أو مغنم، ولا ندعو لتملق أو هوى، إنما ندعو إلى الله جل وعلا وحده، بفهم سلف الأمة الصالح، والله إن هذه الدعوة تجمع القلوب، وتوحد الصفوف، وتزيل بذور العداء والشقاق والنزاع من بين هذا الصف، وإننا لعلى يقين جازم أن أعداء الإسلام قد فشلوا في الوصول إلى قلب الصحوة الإسلامية من الخارج، ولكنني على يقين أنهم يستطيعون أن يدخلوا إلى قلب الصحوة من داخلها، ببذر بذور العداء والخلاف بين أفرادها؛ امتثالاً عملياً لمقولتهم الخبيثة الخطيرة التي تقول: لابد أن يتسبب في قطع الشجرة أحد أغصانها، فلابد أن نكون على مستوى هذه المؤامرة، ولابد أن نكون على مستوى هذه الأمانة وعلى مستوى هذا الدين؛ بالتحرر من التعصب البغيض الأعمى لأي أحد، بل إننا يجب أن نتعصب للحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذي يعرفون بالحق، ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه يقول: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي من أجله غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل إن هذا من فعل أهل البدع والأهواء الذين ينصبون للأمة شخصاً أو كلاماً يوالون ويعادون عليه، ويفرقون به بين الأمة.
ويقول شيخ الإسلام في موضع آخر من مجموع فتاويه المبارك: ومن تعصب لواحد من الأئمة بعينه فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه، كالرافضي الذي يتعصب لـ علي، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي، فمن تعصب لواحد بعينه من الأئمة ففيه شبه من هؤلاء، وهذه طرق أهل البدع والأهواء.
أيها الحبيب! اعرف الحق تعرف أهله، وينبغي أن نتعالى وأن نتجرد في دعوتنا لله جل وعلا، وأن نخلص أعمالنا لله عز وجل، لاسيما إذا علمنا أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن.
لأنه ما ابتغى بعلمه ولا بقرآنه الله جل وعلا، وإنما عمل من أجل الزعامة، أو من أجل الريادة، أو من أجل القيادة، أو من أجل السمعة، أو من أجل الشهرة، أو من أجل أن يقال: إنه داعية وإنه عالم، وإنه قارئ، أو إنه منفق، أو إنه مجاهد وقد قيل، فيأمر الله جل وعلا به فيسحب على وجهه في جهنم والعياذ بالله.
وفي الصحيحين من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه -أي: أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه).
أيها الحبيب! لابد من التجرد والإخلاص لله جل وعلا، أسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين ومن المتجردين في أقوالهم وأفعالهم لله رب العالمين.
أيها الأحبة! ينبغي أن تتحرر الصحوة من هذا الداء ومن هذا المرض، لينتهي هذا الخلاف الذي هو شر كله، ووالله ما ذكر الله الخلاف إلا وحذر الأمة منه، قال الله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] نتيجة حتمية {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وقال الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119]، ولقد أخرج الله من رحم من الوقوع في شر وبراثن الخلاف.
فيا أيها الحبيب! لابد أن نكون على مستوى هذا الدين، وعلى مستوى هذه الأمانة، وأن نتحرر من هذا التعصب البغيض الأعمى، وأن نتمسك بالحق جاء على لسان أي أحد، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، ولقد ذكر الله أهل الكتاب وشهد لهم بالخيرية التي تمثلوا بها، فقال عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75].(103/6)
التورع في الأقوال والأفعال
وأخيراً: لابد من أن نتورع في أقوالنا، وأفعالنا، فإنني أرى كثيراً من أحبابنا وإخواننا لا يتورعون أن يحكموا حتى على النيات، وعلى نيات من؟ على نيات بعض العلماء وبعض الدعاة وبعض أهل الخير من المصلحين الصالحين، وهذه مزلة خطيرة أيها الأخيار الكرام! لأن النية لا يعلم بها إلا الله جل وعلا، أما نحن فلا ينبغي أن نتعدى الحكم على الظواهر، أظهروا لنا أحسن أعمالكم، والله أعلم بالسرائر، كما قال فاروق الأمة رضي الله عنه وأرضاه.
فينبغي أن نتورع في أقوالنا في الحكم على الناس، لاسيما على العلماء وعلى الدعاة، ونحن نرى حملة شرسة ضارية في الإعلام الغربي وذيوله على الإسلام بصفة عامة، وعلى العلماء والدعاة الصادقين بصفة خاصة، وقد ينجر بعض المسلمين الكرام في ترديد هذه الأقوال وهذه الإشاعات على علماء الأمة ودعاتها دون تورع أو دون خجل أو وجل، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، قال جمهور المفسرين: والظن الذي أمر الله عز وجل أن ينتهي المسلمون عنه هو ظن السوء والشر بأهل الخير والصلاح.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم).
وأختم بقولة الحافظ الكبير ابن عساكر رحمه الله تعالى إذ يقول: اعلم يا أخي! وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته: بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذه الصحوة صحوة راشدة، صحوة مثمرة، صحوة قوية بناءة، وأن يجعلها سبب خير للإسلام والمسلمين.
اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين، اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ وأهل الفساد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم وفق حكام المسلمين إلى ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين! اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه، هذا وما كان من توفيق فمن الله، ومن كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.(103/7)
هيا بنا نؤمن ساعة
القلب هو ملك الأعضاء والمهيمن عليها، فإن صلح صلحت سائر الأعضاء، وإن فسد فسدت سائر الأعضاء، ومن أجل ذلك لزم العناية بصحة القلب وصلاحه، ولا يتم ذلك إلا بتجديد التوبة، والإكثار من عمل الطاعات، واجتناب المعاصي والمنكرات فهي لا تزيد القلب إلا قسوة، ولا تزيد الإيمان إلا ضعفاً ورقة؛ لأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، يزيد وينقص، ويبلى ويتجدد.(104/1)
دعوة إلى تجديد الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله أجمعين.
أما بعد: فمن المفترض أن يكون حديثنا اليوم عن الأحداث المؤسفة الأخيرة، من اعتداء أمريكي سافر على السودان وأفغانستان، أسأل الله جل وعلا أن يفرج الكرب عن بلاد المسلمين وعن أمة محمد إنه ولي ذلك والقادر عليه، ولكن الإخوة جزاهم الله خيراً أخبروني أن مجموعة كبيرة من الشباب تحضر معنا اليوم لأول مرة، واستحلفوني بالله أن أرقق قلوبهم لعل الله أن يشرح صدورهم للالتزام، على وعد مني إن شاء الله تعالى بأن أعلق على هذه الأحداث المؤلمة في الخطبة التي كنت قد أعددت لها بعنوان: (عالم الغاب والذئاب).
وأسأل الله جل وعلا أن ييسر لنا أن نذكر بهذا الموضوع إنه ولي ذلك ومولاه؛ لذا فإن عنوان لقائنا اليوم: (هيا بنا نؤمن ساعة).
وكما تعودت -حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا- فسوف أركز الحديث اليوم مع شبابنا وأحبابنا في العناصر المحددة التالية: أولاً: جدد إيمانك.
ثانياً: قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب.
ثالثاً: إلى أين المصير؟! وأخيرًا: متى سنتوب؟ فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
أولاً: جدد إيمانك.
أخي الحبيب! إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وهو يزيد بالطاعات وينقص بالزلات والعصيان، قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
إخوتي الكرام! إذا تراكمت سحب المعاصي على القلب حجبت نور الإيمان في القلب كما تحجب السحابة الكثيفة نور القمر عن الأرض، فإذا انقشعت السحب ظهر نور القمر لأهل الأرض مرة أخرى، كذلك إذا انقشعت سحب المعاصي والذنوب عن القلب ظهر نور الإيمان في القلوب.
فلابد من تعهد القلب أيها الشباب! لابد من تجديد الإيمان في القلب وتقويته من آن لآخر، وذلك بتعريض القلب لمواد تقوية الإيمان بالله جل وعلا، كقراءة القرآن، وذكر الرحمن، والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والاستغفار، وزيارة المقابر، وزيارة المرضى، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، والإنفاق على الفقراء والمساكين، والإحسان إلى الأرامل واليتامى والمحرومين.
هذه هي الأعمال التي تقوي وتجدد الإيمان في القلب؛ فإن القلب -أيها المسلمون- هو ملك الأعضاء، والأعضاء والجوارح هي جنوده ورعاياه، فإن طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإن خبث الملك خبثت الجنود والرعايا، كما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب أن البشير النذير صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فلابد من تعهد الإيمان في القلب، ولابد من تجديد الإيمان في القلب من آن لآخر؛ لأن الإيمان يقوى ويضعف، ويتجدد ويبلى، ووالله الذي لا إله غيره، لا أعلم زماناً قست فيه القلوب وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل الخوف فيه من علام الغيوب كهذا الزمان.(104/2)
قسوة القلب
ثانياً: قسوة القلوب وقلة الخوف من علام الغيوب.
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
ألم يأن للقلوب أن تخشع لذكر الله جل وعلا؟! ألم يأنِ لقلوب من وَحّدوا الله وآمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تخضع لعظمة الله تبارك وتعالى، وأن تذعن لأمره، وأن تجتنب نهيه، وأن تقف عند حدوده تبارك وتعالى؟! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16](104/3)
صور من خوف السلف الصالح من الله وإشفاقهم من عذابه
والله لو وقفنا مع خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وهو أعرف الناس به، وأتقى الناس له، وأخشى الناس منه؛ لرأينا العجب العجاب، ولو وقفنا على حجم الهوة الرهيبة بيننا وبين ما كان عليه نبينا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم، لعرفنا قسوة قلوبنا.
فاروق الأمة الأواب عمر الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه، كان رضوان الله عليه يخاف الله جل وعلا خوفاً مزق قلبه، وهو الذي لما وضع على فراش الموت دخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما وقال: أبشر يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم حكمت فعدلت، ووالله لئن مت اليوم فإن أصحاب رسول الله عنك لراضون.
فالتفت عمر إلى ابن عباس وقال: ذلك ما مَنَّ الله به علي، وإن المغرور والله من غررتموه، فوالله إني لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا عليّ، والله يا ابن عباس! لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه! يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي والذنوب! تذكر وتدبر قول عمر: والله لو أن لي طلاع الأرض -أي: ملء الأرض- ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه.
وهذا حِبُّ المصطفى وحبيب رسول الله معاذ بن جبل، الذي أقسم له النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك).
ماذا يقول معاذ بن جبل حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يبتلى معاذ رضي الله عنه بطاعون الشام، وينام على فراش الموت وهو الشاب الذي لم يبلغ الثالثة والثلاثين من عمره، فيقول لأصحابه: هل أصبح الصباح؟ فينظر أصحابه فيقولون: لا بعد، -أي: لم تطلع الشمس بعد- فيقول معاذ مرة أخرى: هل أصبح الصباح؟ فيقول أصحابه: لا بعد.
فيقول معاذ: هل أصبح الصباح؟ فيقول أصحابه: لا بعد! فيبكي معاذ بن جبل ويقول: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار! وسفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والورع والحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة، فيقول له: أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فيبكي سفيان ويقول لـ حماد بن سلمة: أسألك بالله يا حماد، أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا إمام الدنيا الشافعي رحمه الله تعالى، يدخل عليه الإمام المزني وهو على فراش الموت فيقول له: كيف أصبحت يا إمام؟! فيقول الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولعملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ثم بكى وقال: فلا أدري والله يا مزني أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟! وهذا مالك بن دينار وهو من أئمة السلف الأخيار، كان يقوم بالليل يصلي للعزيزِ الغفار ويقبض على لحيته ويبكى ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة وساكن النار؛ ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟! هل فكرت في المصير يا عبد الله؟! هل فكرت في مصيرك: أتصير إلى الجنة أم إلى النار؟!(104/4)
معرفة الله سبب لخشيته والانكسار بين يديه
أيها الأحباب! إن الذي يعرف الله ويخشى عذابه ويستحيي منه -حتى ولو زلت قدمه في المعصية، فارتكب كبيرة من الكبائر في حال ضعف بشري منه، أو وقع في صغيرة من الصغائر، أو بارز الله بمعصية من المعاصي- سرعان ما يجدد التوبة والأوبة والندم، وسرعان ما يطرح قلبه بين يدي الله بذل وانكسار، وهو يعترف لله بفقره وعجزه وضعفه.
فعلى قدر علمك بالله يكون حياؤك وخوفك منه، يقول المصطفى: (أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية)، لذا (كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المِرجل من البكاء)، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
بل وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: (بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء، فخطب فقال: عرضت علي الجنة والنار -خطبة ما سمعت مثلها قط- إلى أن قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا).
يقول أنس: (فغطى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين) أي: ولهم بكاء بصوت مكتوم.
عندما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً)، تأثر أصحاب القلوب الرقيقة من أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الكلمات على الرغم من قلتها.
بل وورد في مسند أحمد وسنن الترمذي بسند صحيح بالشواهد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن -أي: صاحب الصور وهو إسرافيل- القرن، وأصغى سمعه وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر أن ينفخ؟ فشق ذلك على أصحاب البشير النذير صلى الله عليه وسلم، فقالوا للمصطفى: فماذا نقول يا رسول الله؟! فقال لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).(104/5)
قسوة القلب سبب لقلة الخوف من الله
إخوتي الكرام! والله الذي لا إله غيره إن قلة الخوف من الله جل وعلا في هذا الزمان ثمرةٌ مرةٌ لقسوة القلب وظلمته ووحشته، فنرى منا الآن من يسمع القرآن يتلى ولا تدمع عينه، ولا يتحرك قلبه، ولا تلين جوارحه، ولا يخشع جلده!!! لماذا؟ لأن القلوب قست، ولأن القلوب في وحشة، ولأن القلوب في ظُلمة، فقلة الخوف من الله ثمرة مرة لقسوة القلب وظلمة القلب ووحشة القلب.
كما أن الخوف من الله جل وعلا ثمرة حلوة للإيمان بالله تبارك وتعالى، فلا يتصور أبداً -أيها الأخيار الكرام- أن ينفك مؤمن عن خوف من الله جل وعلا، فعلى قدر إيمانك بالله، وعلى قدر حبك لله، وعلى قدر علمك بالله، وعلى قدر معرفتك بالله جل وعلا يكون حياؤك وخوفك، ومراقبتك لله تبارك وتعالى، فلو وقف كل واحد منا على هذه المعادلة ونظر في نفسه: هل يحمل في صدره قلبًا رقيقًا أم يحمل في صدره قلبًا قاسيًا وهو لا يدري؟!! إن كنت عارفاً عالماً بالله؛ اشتد خوفك وحياؤك من الله جل وعلا، فعلى قدر العلم بالله يكون الخوف وتكون الخشية، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].(104/6)
قلة العلم بالله وضعف التوحيد سبب لقسوة القلب
البعض لا يتأثر بالقرآن، ولا يتأثر بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يتأثر بالموعظة ولو كانت مؤثرة، بل ولا يتأثر بعبرة على أرض الواقع مؤلمة، كأن يهلك الله طاغوتاً من الطواغيت، أو كأن يأخذ الله فرعوناً من الفراعنة، أو كأن يرى الإنسان حادثاً مؤلماً بين يديه على الطريق، فيرى إنساناً مزقت أشلاؤه أو تناثرت دماؤه، ومع ذلك قد ينظر بعين جامدة وبقلب قاسٍ إلى كل هذه العظات والعبر.
وقد تسمع أذنه الموعظة فلا يتحرك قلبه، ولا يخشع جلده ولا تلين جارحته! لماذا؟ لأنه لا يتأثر بكل هذا -أيها الأحبة- إلا من وحد الله جل وعلا وخاف الله سبحانه، وعمل حساباً لعمل الآخرة، قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [هود:102 - 103]؛ من الذي يعتبر بها؟ من الذي يتعظ ويتأثر بها؟ تدبر كلام الله جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:103 - 108]، فعلى قدر علمك بالله يكون الحياء والخوف منه، فقف على حسب معرفتك وعلمك بالله! يا من تتجرأ على معصية الله جل وعلا! يا من ترخي الستور، وتغلق الأبواب، وتبارز الله جل وعلا بالمعصية، وأنت تظن -يا مسكين- أنه لا يسمعك ولا يراك! كن اليوم على يقين أنك لا تعرف الله جل وعلا؛ لأنه على قدر علمك بالله يكون حياؤك منه، وعلى قدر معرفتك بالله يكون خوفك منه، كما قال أعرف الناس بربه صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله، وأنا أشدكم له خشية)(104/7)
أين المصير
ثالثاً: أين المصير؟ والله إنه لسؤال يحتاج أن يطرحه كل واحد منا على نفسه في الليل والنهار.
مع كل معصية قل لنفسك: إلى أين المصير؟ مع كل كبيرة قل لنفسك: إلى أين المصير؟ يا من بارزت الله بالزنا قل لنفسك: إلى أين المصير؟! يا من خنتِ زوجكِ الذي سافر ليأتيكِ أنت وأولادك بالطعام الحلال! سلي نفسك يا مسكينة وقولي: إلى أين المصير؟ يا من تلاعبت ببنات المسلمين وبارزت الله بالمعاصي! سل نفسك يا مسكين وقل: إلى أين المصير؟(104/8)
بيان حال أهل الجنة
أما الجنة، فلا يعلم ما أعد فيها من كرامة للمؤمنين إلا العزيز الغفار، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة؛ لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، وريحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين).
ويكفي أن تقف مع أدنى -أي: أقل- أهل الجنة منزلة؛ لتعلم قدر أعلى أهل الجنة منزلة، ففي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى ربه جل وعلا فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله تعالى: أدنى أهل الجنة منزلة رجل يجيء وقد دخل أهل الجنة الجنة فيقول الله عز وجل له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! -يخيل إليه أن الجنة ملأى، حتى لا يرى لنفسه مكاناً في الجنة- فيقول الله جل وعلا له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب! فيقول الله جل وعلا: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فيقول العبد في الخامسة: رضيت يا رب! رضيت يا رب! فيقول الرب سبحانه: لك ذلك وعشرة أمثاله معه.
قال موسى: يا رب! هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فما أعلاهم منزلة؟ قال الله: أولئك الذي أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر).
وإن أعلى نعيم في الجنة -أيها المسلمون- هو النظر إلى وجه الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك! فيقول الله سبحانه: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة، ونجيتنا من النار، وبيضت وجوهنا يوم تسود الوجوه؟! فيقول الله تعالى: أفلا أعطيكم أفضل من ذلكم؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا).
وفى رواية أبي سعيد: (فيكشف الحجاب؛ فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا) قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس:26] وهي الجنة، (وزيادة) وهي التمتع بالنظر إلى وجه الله جل وعلا في الجنة، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(104/9)
قصة محزنة لمن ينتهكون محارم الله
والله لقد قرأت ومن أعجب ما قرأت: أن ثلاثة من الشبان في المملكة كانوا يتفننون في تصيد بنات المسلمين، وفي ليلة من الليالي اصطاد كل ذئب من هؤلاء الذئاب فتاة مسلمة، وانطلق الشباب بثلاث فتيات إلى الصحراء؛ ليفجر كل شاب بالبنت التي معه، ولما وصلوا إلى هنالك يقول أحدهم: كان بين أيدينا الشراب الملعون -أي: الخمر- وكان بين أيدينا كل ما نشتهيه، ولكننا نسينا أن نأتي بالطعام فشعرنا بالجوع، فأرسلنا أحدنا ليأتي لنا بالطعام من أقرب مكان؛ حتى نقضي ليلة حمراء ساهرة.
يقول: وذهب هذا الشاب وطالت غيبته، فانتظرناه ساعة فلم يأت، وانتظرنا الثانية فلم يأت، وكاد الصبح أن يشرق علينا، يقول: فانطلقت بسيارتي؛ لأبحث عن زميلي، وعلى جانب الطريق رأيت ناراً مشتعلة متأججة فاقتربت من السيارة فعلمت أنها سيارة صاحبنا، ونظرت في داخلها فوجدت النار قد وصلت إلى صاحبي وقد أحرقت نصفه تماماً، وهو يصرخ ويقول قولة واحدة: ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! يقول: فعجزت أن أخرج صاحبي من السيارة، ولكن شغلني كلامه، وشغلني سؤاله الذي ما زال يردده: ماذا أقول له؟! فقلت له: من تقصد؟! ومن الذي تريد؟! فقال: الله.
ماذا أقول لربي غداً؟! ماذا أقول وأنا الذي ألقاه وأنا زان؟! ماذا أقول لربي غدا وأنا ألقاه وَعَلَيَّ جنابة الزنا؟! ماذا تقول لربك أيها الزاني؟! وماذا تقولين لربك أيتها الزانية؟! ماذا تقول لربك أيها الظالم؟! وماذا تقولين لربك أيتها الظالمة؟! ماذا تقول لربك أيها الشاب؟! يا من انحرفت عن طريق الله، وعن هدي الحبيب رسول الله، ماذا تقول لربك غداً؟ فارتجف هذا الشاب وعاد إلى رفاقه وهو يبكي ويرتعد ولا ينطق إلا بهذه الكلمة: وأنا ماذا أقول له غداً؟! ماذا أقول له غداً؟! فيا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! ماذا تقول له غدا؟! مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا ماذا تقول لربك غداً إن وقفت بين يديه عارياً؟! أين المنصب؟ ضاع.
أين الجاه؟ زال.
أين الأموال؟ تبددت.
ماذا تقول لربك غدا؟ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]، فماذا تقول لربك غداً أيها المسكين؟ إلى أين المصير؟ وجه لنفسك اليوم هذا
السؤال
هل أنت ممن عمل الطاعة وتنتظر الجنة من الله جل وعلا، أم أنك مسرف على نفسك بالمعصية، ومع ذلك تتمنى على الله الأماني وترجو الجنة؟ ما أقل حياء من طمع في جنة الله وهو لم يعمل بطاعة الله سبحانه!!(104/10)
بيان حال أهل النار
من يقوى منا على أن يقتحم حريقاً هائلاً شب في بيت من البيوت؟! من منا يقوى على نار الدنيا؟! وقد جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية! فقال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها!).
عباد الله! اتقوا النار فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها من حديد.
إن الطعام في النار نار، وإن الشراب في النار نار، وإن الثياب في النار نار؛ فطعام أهل النار من الزقوم والغسلين والضريع.
هل تعلم عن الزقوم والضريع والغسلين شيئاً؟ الزقوم: شجرة طلعها كأنه رءوس الشياطين، تنبت في أصل جهنم، يقول ابن عباس: لو أن قطرة واحدة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامهم؟! أي: فكيف بمن يكون الزقوم طعامهم؟! {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:62 - 66].
أما الضريع: فهو نوع من أنواع الشوك الذي ينبت في أرض الجزيرة، يأكله أهل النار يوم القيامة: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1 - 7].
أما الغسلين: فهو عصارة أهل النار من قيح وصديد، قال جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37] فالغسلين هو عصارة أهل النار من قيح وصديد، فإذا تأججت النار في بطونهم استغاثوا يريدون الماء، فيغاثون بماء، ولكن ما هو الماء؟ {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15]، هذا كلام ربنا جل وعلا.
وقال جل وعلا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
وهنا يستغيث أهل النار بخزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50].
فإن يئس أهل النار من خزنة النار نادوا على مالك رئيس الخزنة: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77].
فيتذكر أهل النار إخوانهم من أهل التوحيد ممن أساءوا إليهم وآذوهم في الدنيا، فينادون عليهم ليغيثوهم بقليل من الماء أو بشيء من رزق رب الأرض والسماء: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:50 - 51].
فإن يئس أهل النار من الخلق أجمعين استغاثوا بالملك الكريم جل وعلا، الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم الراحمين ومع ذلك اسمع بماذا يرد جل وعلا على أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108].
فالطعام نار، والشراب نار، حتى الثياب من النار: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21].(104/11)
الحث على المسارعة في التوبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام، أيها الآباء الفضلاء، وأيتها الأخوات الكريمات، وأيها الشباب! متى سنتوب؟! متى سنرجع إلى علام الغيوب؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع، وأن تخضع وأن ترجع وأن تنيب، والله إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره جميعاً هو الموت، فلا تسوف أخي الكريم وعجل بالتوبة، وعاهد ربك الآن بين يديه أن تنيب، وأن ترجع إليه سبحانه، وأن تمتثل أمره، وأن تجتنب نهيه، وأن تقف عند حدوده، وأن تراقب الله في سرك وعلنك، وفي خلوتك وجلوتك، وأن تحرص على مجالس العلم، وأن تفرغ لها من الوقت والجهد والمال، فإن مجالس العلم تجدد الإيمان في القلب، وتحول بينك وبين معصية الله بإذنه جل وعلا؛ لأن مجلس العلم طريق يقربك إلى الجنة ويبعدك عن النار، كما قال النبي المختار: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سَهَّلَ الله له طريقاً إلى الجنة).
فعد وارجع وتب إلى الله، وأرجو ألا تيأس أو تقنط، فالفقه كل الفقه أن نرهب دون يأس أو تقنيط -نسأل الله أن يرزقنا الفقه والعلم- فالفقه كل الفقه أن نرهب بكلام الله وكلام رسوله دون أن نوصل الناس إلى حد القنوط واليأس من رحمة الله.
حاشا ثم حاشا أن ييأس مسلم يعرف الله جل وعلا من رحمته ومن فضله وعظيم عفوه، لكن المسلم العاقل الذي يرجو الله هو الذي يدفعه الرجاء في الله إلى العمل الصالح والتوبة والأوبة.
أيها الشاب! مهما بلغت ذنوبك ومهما بلغت ذنوبك أيتها المسلمة! فلتعاهد الله جل وعلا جميعاً من الآن على أن تعود إليه، وعلى أن تجدد له التوبة والأوبة.
ونحن على يقين بأنه سبحانه وتعالى سيفرح بتوبتنا وهو الغني عنا، فهو سبحانه لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ما دمت توحد الله جل جلاله فاعلم بأن التوبة تجب كل كبيرة وصغيرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48](104/12)
دعوة للإنفاق في سبيل الله
وأود أن أذكر هذا الجمع الكريم بين يدي بالحق الذي عليهم لله تبارك وتعالى، فأنتم ترون هذا المسجد المبارك الذي شيده إخواننا -أسأل الله أن يتقبل منا ومنهم صالح العمل- إلا أنه يحتاج إلى إتمام دوره العلوي، فأرجو أن نقف اليوم مع إخواننا وقفة رجل واحد، وألا ينصرف أحد من الإخوة أو من الأخوات إلا وقد ساهم -ولو بالقليل- لإنهاء بيت الله الجليل تبارك وتعالى، وأسأل الله أن يجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ثم أود أن أذكر -وأرجو أن يبلغ الحاضر منكم الغائب- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، إن مصر بلد الخير وبلد العطاء بلا نزاع، ولا نجامل بها ورب الكعبة مخلوقاً، فإني أذكر أن التاريخ قص علينا يوماً لما وقعت المجاعة في مدينة المصطفى وأرسل فاروق الأمة عمر إلى عمرو بن العاص في مصر: أن: أرسل إلينا مدداً من مصر، فقرأ عمرو بن العاص في مسجده رسالة عمر بن الخطاب على أهل مصر: إن إخوانكم من أصحاب النبي في المدينة يذوقون الجوع؛ فيطلبون منكم الغوث والمعونة والنجدة.
فخرج أهل مصر بعطاء لم يعرف التاريخ له مثيلاً على الإطلاق، حتى أرسل عمرو بن العاص رسالة إلى عمر بن الخطاب وقال فيها: يا أمير المؤمنين! لقد أرسلت إليك قافلة من المئونة أولها عندك وآخرها عندي.
فمصر بلد العطاء والجود والخير، وأنا أعلنها لله: إن أهل مصر لم يصابوا بأزمة بخل وإنما أصيبوا بأزمة ثقة، إذ لم يجدوا من يثقون فيه ليسلموا له أموالهم بنفس سخية وبيد معطية منفقة.
أقول: يعيش بيننا في مصر العطاء والخير إخوان لنا وأخوات من ماليزيا وغيرها من بلاد شرق آسيا، وهم مسلمون فقراء، منهم والله من لا يجد الطعام فضلاً عن أجرة بيته، وقد وقف أهل الفضل -في المنصورة بالذات- وقفة ترضي الرب وتذهل اللب، وللأمانة فلقد قام كثير من أهل الخير بالإنفاق بسخاء على هؤلاء الإخوة والأخوات، ولكنهم لا زالوا في حاجة إلى المزيد، فأرجو من المسلمين، وأرجو بأن يبلغ الحاضر منكم الغائب عن هؤلاء الإخوة، فإننا نذكر الإخوة المسلمين في المنصورة وفي غيرها بأن يكفل كل مسلم طالباً أو طالبة من هؤلاء؛ ليساعده على إتمام دراسته الشرعية في مصر، لينصرف هؤلاء بعد ذلك دعاة إلى دين الله جل وعلا.
أسأل الله أن يجعل لهذه الدعوة في قلوبكم مكاناً، وأن يرقق قلوبكم لها، وأن يبحث كل واحد منكم عن هؤلاء الإخوة والأخوات.
وأدلكم على أخصر طريق: فمن ذهب منكم إلى كلية الدراسات الإسلامية هنا استطاع أن يحصل على رقم الحساب، أو استطاع أن يكفل طالباً أو طالبة، أو أكثر من ذلك، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجمعنا جميعاً في جنات النعيم.(104/13)
شروط قبول التوبة
ولكني أود أن أذكرك -أخي وأختي في الله- بأن للتوبة شروطاً وأركاناً.
فأول شروط التوبة: أن نقلع عن الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، ثم الندم على ما مضى، فلا تباه ولا تفاخر بأنك أوقعت فلانة، أو بأنك ارتكبت المعصية الفلانية، إن سترك الله فاستر على نفسك وتب إليه: (فكل أمتي معافى إلا المجاهرين) كما قال النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
ثم عليك بالندم، فالندم ركن التوبة الأعظم، ليرى الله من قلبك الحرقة والألم على ما مضى من إفراط وإسراف.
ثم المداومة على العمل الصالح: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ أهلنا في السودان، اللهم احفظ أهلنا في السودان، وفي أفغانستان، وفي فلسطين، والصومال، وفي كشمير وطاجكستان، وفي الفلبين، وفي الجزائر وفي كل مكان، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أرنا يوماً كيوم عاد وثمود في أمريكا ومن شايعها، اللهم عليك بأمريكا ومن شايعها، اللهم إن أمريكا قد طغت وبغت ولا قدرة للمسلمين عليها، اللهم إنا مغلوبون فانتصر، اللهم إنا مغلوبون فانتصر، اللهم إنا مغلوبون فانتصر، اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين وضعف الموحدين! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، ولا تهتك سترنا، وفك أسرنا، وتول خلاصنا، واختم بالصالحات أعمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم احفظ شبابنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل بلدنا واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عنا البلاء والوباء والفتن ما ظهر منها وما بطن، برحمتك يا أرحم الراحمين! إخوتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(104/14)
واقع الأسرة المسلمة في الغرب
لقد ابتعدت الأمة اليوم عن منهج ربها في شتى الجوانب الاعتقادية والأخلاقية والتشريعية ونحوها، وحصل هناك انفصام نكد بين المنهج المنير، والواقع المرير، وإننا اليوم نواجه تحديات خطيرة داخلية وخارجية ضد الأسرة المسلمة تريد تفكيك المجتمع المسلم بأسره، وأن ينحل من قيمه وأخلاقه، وخصوصاً من يعيش داخل المجتمعات الغربية، ولابد من حلول تجابه هذا التحدي، وأولها: العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي، وتأسيس الأسرة المسلمة على ذلك، ومن هنا يكون المنطلق إن شاء الله تعالى!(105/1)
واقع الأسرة المسلمة وتحديات المستقبل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.
أما بعد: أحبتي في الله! واقع الأسرة المسلمة وتحديات المستقبل، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم -تحت هذا العنوان المهم- في العناصر التالية: أولاً: الانفصام بين المنهج والواقع.
ثانياً: تحديات خطيرة.
ثالثاً: ما السبيل.
وأخيراً: فجر قادم وأمل يتجدد.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].(105/2)
الانفصام بين المنهج والواقع
أولاً: الانفصام بين المنهج والواقع، إن المجتمع المسلم الذي شاد القرآن صرحه الشامخ، وأرسى لبناته على يد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان مجتمعاً فريداً، لم ولن تشهد البشرية له مثيلاً على الإطلاق، كان مجتمعاً فريداً في عقيدته، امتثالاً عملياً -من أفراد هذا المجتمع- لقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وكان مجتمعاً فريداً في عبادته، امتثالاً عملياً لقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وكان مجتمعاً فريداً في شريعته، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وكان مجتمعاً فريداً في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، امتثالاً عملياً -من أفراد هذا المجتمع الكريم- لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90].
وكان مجتمعاً فريداً في محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واتباع هديه، امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وكان مجتمعاً فريداً في إقامة بنيان الأسرة المسلمة، أفراد هذه الأسرة يعيشون جميعاً بالإسلام وللإسلام، ويحمل كل أفراد هذه الأسرة هم الإسلام، فالرجل في الأسرة يعمل لدين الله، والزوجة في الأسرة تعمل لدين الله، حتى الأطفال يعملون لدين الله جل وعلا.
جاء في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يمنيني وشمالي فتيان حديثا السن -أي: رأى صبيين صغيرين إلى جواره في الصف يوم بدر- فلم آمن على نفسي بمكانهما -تمنى أن يكون بين بطلين عظيمين- فغمزني أحدهم سراً من صاحبه، وقال لي: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تصنع بـ أبي جهل يا ابن أخي؟ فقال هذا الفتى المبارك: لقد بلغني أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله إن رأيت أبا جهل ألا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول عبد الرحمن: فتعجبت! فإذا الفتى الآخر يغمزني سراً من صاحبه: يا عم! يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تصنع أنت الآخر بـ أبي جهل يا ابن أخي؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله، ولقد عاهدت الله إن رأيت أبا جهل أن أقتله، أو أموت دونه، وفي لفظ: ألا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول: عبد الرحمن: فوالله ما سرني أن أكون بين رجلين مكانهما، فرأيت أبا جهل يجول في الناس -يعني: يأتي ويروح- فقلت: انظرا! هل تريان هذا؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه.
يقول عبد الرحمن: فانقضا عليه كالصقرين، فقتلاه، وأسرع كل واحد منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! قتلت أبا جهل!! والآخر يقول: لا، بل أنا الذي قتلته!! فقال المصطفى: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا.
فنظر النبي في السيفين، فرأى دماء أبي جهل على السيفين معاً، فالتفت إلى الصبيين -أستغفر الله، بل إلى البطلين، بل إلى الرجلين- وقال لهما: كلاكما قتله).
البطل الأول: هو معاذ بن عمرو بن الجموح، والبطل الثاني: هو معوذ بن عفراء، فتيان صغيران، تربى كل واحد منهما في أسرة مسلمة، حملته هم الدين!! إن الناس جميعاً -أيها الأحبة- يحملون هموماً على اختلاف عقائدهم ومشاربهم، ولكن الهموم تتفاوت بين الناس جميعاً بتفاوت الهمم، والهمة رزق من الله تعالى: فمن الناس من يحمل هم الدين، ومنهم من يحمل هم الطين، ومنهم من يحمل هم أن يستمتع بامرأة جميلة حسناء في الحلال أو في الحرام سواء، ومنهم من لا هم له إلا أن يحصل على المال ولو من الحرام، ومنهم من لا هم له إلا أن يحصل على المجد والجاه والشهرة، ولو على حساب دينه.
قال الشاعر: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم فكل الناس -أيها الأحبة- يحملون هموماً، لكن: انظروا إلى الهموم التي يربي الآباء والأمهات عليها الأبناء في هذه الأيام، والهموم التي كان يتربى عليها أولاد سلفنا الصالح في بيوت عاشت بالإسلام وللإسلام!! أيها الأحبة! ظل هذا المجتمع الإسلامي العظيم يرفل في ثوب التوحيد الخالص، الذي كساه إياه إمام الموحدين، وقدوة المحققين صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما ابتعد هذا المجتمع المسلم رويداً رويداً عن أصل عزه، ونبع شرفه، ومعين كرامته، وتجرد رويداً رويداً من ثوب التوحيد الخالص، فانكشفت سوءاته، وظهرت عوراته، وراح المجتمع المسلم يحاكي الشرق الملحد، والغرب الكافر، ترك شرع الله المحكم، وتخلى عن المنهج التربوي الإسلامي العظيم، واستبدل بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، فوقع في هذا الخلق الشائن، والانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، ففي الجانب العقدي نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثير من أفراد المجتمع الإسلامي!! وفي الجانب التعبدي نرى كثيراً من الأفراد قد صرفوا العبادة لغير الله.
وفي الجانب التشريعي وقع المنكر الأعظم الذي لم يكن يخطر ألبتة لأحد على بال، يوم نحيت شريعة الكبير المتعال، وحكم بالقوانين الوضعية الفاجرة الجائرة في الأعراض والأموال والدماء والفروج، وظنت الأمة المسكينة أنها قد ركبت قوارب النجاة، فغرقت وأغرقت، وهلكت وأهلكت، وظلت وأظلت.
وفي الجانب الأخلاقي والسلوكي حدث ولا حرج! ترى انتكاسة خطيرة في الأخلاق، وترى فجوة رهيبة بين منهجنا المنير، وواقعنا المؤلم المرير.
وفي الجانب الأسري ترى استقالة تربوية -لا أقول: فردية بل جماعية- في كثير من بيوت المسلمين، استقال كثير من الآباء تربوياً، واستقال كثير من الأمهات تربوياً، وظن الوالد المسكين أن وظيفته أن يقدم لأولاده الطعام والشراب، والمسكن والملبس فحسب، وظنت الأم هي الأخرى أن وظيفتها أن تغذي الأبدان فحسب، وانشغلت بالضرب في الأسواق، والبحث عن أرقى الموضات والموديلات، وأرقى العطور والملابس والثياب، وراحت الأم تحاكي المرأة في الغرب، وتحاكي المرأة في الشرق؛ فشعر كثير من أبنائنا في بيوتنا باليتم التربوي، وخرج الأولاد من البيوت ليقتاتوا قوتهم التربوي في السينما والمسرح عند أصحاب السوء: في الشارع! أو في وسائل الإعلام المدمرة! ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا هذا هو الواقع المر الأليم.(105/3)
تحديات خطيرة
ثم عرف أعداء الإسلام -أيها الإخوة والأخوات- أن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأولى الصحيحة في صرح المجتمع المسلم، بل عرف أعداؤنا أن الأسرة المسلمة هي الأمة الإسلامية الصغيرة، فخطط الأعداء بكل سبيل، للقضاء على المجتمع الإسلامي، وبالقضاء على النواة الأولى في صرحه الشامخ، ألا وهي: الأسرة المسلمة.
وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز، تحديات خطيرة في طريق الأسرة المسلمة، وأستطيع أن أقدم لحضراتكم التحديات في نقاط ثابتة محددة أيضاً، وسأقسم التحديات إلى قسمين: أولاً: تحديات خارجية.
ثانياً: تحديات داخلية.(105/4)
التحديات الخارجية ضد الأسرة المسلمة
القسم الأول: وهو التحديات الخارجية: وتتمثل في المخطط اليهودي الصليبي الحاقد؛ لإخراج الأسرة المسلمة من المجتمع الإسلامي عقيدة وعبادة وشريعة، وأخلاقاً وسلوكاً، وذلك عبر نقاط محددة، وهي: أولاً: التشكيك، ثم التذويب، ثم إفساد المرأة المسلمة باعتبارها العمود الفقري، والمحور المركزي، لقيام الأسرة المسلمة الصحيحة.
أما التشكيك فقد جعل المخطط الصليبي اليهودي يشكك الأسرة، بل ويشكك الأمة الإسلامية الكبيرة، يشككها في منهجها الرباني: في القرآن، وفي السنة، وقالوا: إن القرآن كان يخاطب أناساً في أرض الجزيرة العربية، لكننا نعيش الآن في عصر (الإنترنت)، عصر أتوبيس الفضاء (دسكفري)، إننا نعيش عصراً قد وصل فيه العقل البشري والعلم المادي إلى مكانة عالية: صنع العقل القنبلة النووية، وفجر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق في أجواء الفضاء، فماذا تريدون؟ إن أردتم -أيها المسلمون- التقدم والحضارة والمدنية لابد أن تنبذوا دينكم، وأن تنظروا إلى النموذج الغربي الذي قفز قفزات هائلة في الجانب العلمي، وفي التقدم المادي، وأنا لست كالنعام: أدفن رأسي الآن في الرمال؛ لأنكر ما وصل إليه الغرب في الجانب المادي، كلا، كلا، بل أنا أقر به، لكن يا إخوة! اعلموا يقيناً بأن الحياة لا تتوقف عند الجانب المادي فحسب، ولو أن طائراً عملاقاً أراد أن يحلق في أجواء الفضاء لفترة طويلة؛ فطار بجناح واحد، فإنه حتماً سيسقط، فينكسر جناحه الآخر، فالحياة ليست مادة فحسب، بل إن الغرب وقف عاجزاً أمام الشق الآخر: أمام الروح؛ لأن الروح لا تقاس بالترمومتر، ولا توزن بالجرام، ولا توضع في بوتقة التجارب في معامل الكيمياء والفيزياء، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وأنتم تعلمون يقيناً أن الأسرة في الغرب تفككت وتشتتت، بل إن الغرب يعيش الضنك بكل معانيه، مصداقاً لقول الله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:123 - 124]، انظروا إلى عدد عيادات الطب النفسي! انظروا إلى حالات الانتحار الفردي والجماعي! انظروا إلى حالات القلق النفسي! انظروا إلى حالات الاضطراب! انظروا إلى التفكك الأسري! فأنا لا أنكر أن الغرب وصل في الجانب المادي إلى ما وصل إليه، لكنه يعاني في الجانب الآخر.
والله لا أنسى ذلك الموقف وأنا ألقي محاضرة في يوم من الأيام في مركز من المراكز الإسلامية هنا في أمريكا، وإذ بأحد الإخوة يستوقفني، ويقول لي: لو سمحت -يا شيخ- نريد أن يردد هذا الأمريكي الشهادة خلفك، فلقد جاء مسلماً لله جل وعلا، فقلت: تفضل أيها الأخ الكريم! وقبل أن يردد خلفي الشهادتين قلت له: أخي! ما الذي أتى بك إلينا، وأنت ترى أحوال المسلمين لا تسر عدواً ولا حبيباً؟! ما الذي جاء بك إلينا؟ فقال هذا الأمريكي: بأنه ملياردير، يملك الأموال والشركات والأساطيل.
ثم يقول: ما شعر هذا الرجل بطعم السعادة قط، يقول: انتشلوه من محاولة الانتحار أكثر من عشر مرات، ثم قال لي: دخلت يوماً على هذا الموظف -وأشار على أخ سوري معه وهو يعمل في شركة من شركاته- فرأيت هذا الموظف يغسل قدمه في حوض الماء الذي أغسل فيه وجهي، فتعجبت وقلت: كيف تغسل قدمك في هذا الحوض؟! قال: أنا أتوضأ وأغسل قدمي خمس مرات في اليوم، فقال: ما الوضوء؟ فأخبره، قال: ولماذا؟ قال: للصلاة، قال: ما الصلاة؟ فعلمه، فقال: تصلي لمن؟ لله، قال: من الله؟ فأخبره، فقال له: لماذا كلما دخلت عليك وجدت السعادة في وجهك، ورأيتك نشيطاً، ما رأيتك سكراناً قط؟! قال: إن ديني يحرم عليّ الخمر، وإن نبيي يعلمني حديثاً يقول فيه: (عجباً لأمر المؤمن!! إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له) فقال: ماذا لو دخلت في دينك هذا، هل سأشعر بالسعادة التي تشعر بها؟ قال: نعم، قال: أدخلني.
وأنتم تعلمون أنهم لا يتعصبون لعقيدة، وأنا أقول لإخواني دائماً: الذي يسبق إلى الشعب الأمريكي يكسب الجولة، فإنه شعب لا تعصب عنده، لكن المشكلة عندنا، فإننا لا نتحرك لدين ربنا، ولا لدين نبينا صلى الله عليه وسلم، قال: أدخلني، فجاء به إلى المركز الإسلامي، تعجبت حينما قال: بأنه لم يشعر بطعم السعادة، بعدما أصر أن أذهب معه إلى قصره أو إلى بيته؛ لأتناول معه طعاماً في بيته، فدخلت بيتاً مصنعاً من الزجاج على الشاطئ، نصف البيت في المحيط، والنصف الآخر على الشاطئ في اليابسة، فتعجبت كيف يعيش هذا الرجل في هذا النعيم، ومع ذلك لم يشعر بطعم السعادة! فلما قام بين يدي وردد الشهادة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، بكى بكاء هستيرياً طويلاً!! فأراد الإخوة أن يسكتوه، فقلت: دعوه، اتركوه، فلما كف عن البكاء، وسكنت جوارحه، قلت له: أخي! لماذا بكيت؟ فرد في ترجمة حرفية قائلاً: والله! إني أشعر الآن بسعادة في صدري ما ذقت طعمها قبل الآن! قلت: إنها نعمة شرح الصدر بالإسلام!! ولا يذوق طعمها إلا من شرح الله صدره للإسلام، أنتم -أيها الإخوة الكرام- في نعمة والله! أنتم في نعمة! يا من خلقك الله موحداً وأرسل إليك محمداً! لو وضعت رأسك على التراب؛ لتشكر الله على هذه النعمة حتى تلقاه ما وفيت الله حقه.
قال الشاعر: ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبيا وقال الله تعالى قبل ذلك: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، فالمخطط الصليبي اليهودي يسعى للتشكيك في الدين في المنهج الإسلامي التربوي، بل ورأينا الآن رجالاً ونساء من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، يرددون ما ردده وأصله اليهود والنصارى، فهم يشككون الآن في الثوابت، وإن المؤتمر الذي عقد في مصر في الشهر الماضي والذي يسمى بمؤتمر تحرير المرأة، وسميته في خطبة جمعة مباشرة: بمؤتمر انفلات المرأة، فهم يشككون في ثوابت الدين في أصول هذا الدين وأركانه، تخرج علينا امرأة تنسب إلى الإسلام، فتقول: لا بد من إلغاء قوامة الرجل، وأخرى تقول وهي دكتورة: إن الرجال يركعون أمام ركبتي مادلين وأولبريت الجميلتين، ويفعلون كذا -لفظة يعف لساني والله عن ذكرها- يفعلون فعلة معروفة بين شبابنا إلا من رحم ربك، ويفعلون كذا على صور مارلين مونرو، ثم تقول أخرى: لا بد من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وتقول أخرى: لا بد من إلغاء العدة والاكتفاء بالعودة إلى الطب الحديث؛ للتحقق من إبراء الرحم من الحمل من عدمه، حرب على الثوابت، حرب على الأصول والأركان والكليات، مخطط للتشكيك.
ثم بعد هذا التشكيك -يا إخوة، ويا أخوات -يكون التذويب يصبح المسلم- الذي هزم فكرياً ونفسياً- مستعداً للذوبان في بوتقة الغرب أو الشرق، وصدق المصطفى إذ يقول، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب -وفي لفظ: خرب- لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) من غير هؤلاء؟! إنه الذوبان، وقدموا لنا النموذج الغربي على أنه النموذج الأوحد الفريد في السعادة والتقدم.
قال الشاعر: قالوا لنا الغرب قلت: صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا(105/5)
دعوى تحرير المرأة
التشكيك ثم التذويب في بوتقة المناهج الغربية، ثم إفساد المرأة المسلمة؛ لأن المرأة المسلمة هي العمود الفقري، وهي المحور المركزي لبنيان الأسرة الصحيحة، فحاول هؤلاء أن يفسدوا المرأة، وأرجو من أخواتي الفاضلات الطاهرات أن ينتبهن لهذا المخطط الخبيث، عز على أعداء ديننا -أيتها المسلمة- أن تجود المسلمة من جديد على أمتها بالعلماء العاملين، والمجاهدين الصادقين، فراحوا يشككون المرأة في دينها، وراحوا يفتعلون قضية في بلاد المسلمين تسمى بقضية تحرير المرأة، بل إنهم يريدون أن ينزلوها من عرش حيائها للزج بها في مستنقع الرذيلة الآسن العفن، شككوها في الحجاب، وقالوا لها: لا بد من التحرر، إن القول بالعزل والفصل بين الرجل والمرأة كلام المتخلفين، كلام المتأخرين، تحرري، وهي الحرة بالإسلام، يحررون المرأة من ماذا؟! يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب؟ وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب؟! فلا تُبالي يا أختاه! أيتها المسلمة الصابرة! أيتها المسلمة الصابرة على الحجاب! الصابرة على العفة والشرف، الصابرة على تربية الأولاد! لا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب أنت درتنا المصونة، أنت لؤلؤتنا المكنونة، أنت الأم، أنت الزوجة، أنت البنت، أنت الأخت، أنت الخالة، أنت العمة، أنت المجتمع بأسره، صحيح أن المرأة تشكل نصف المجتمع، ولكنها تقدم للمجتمع نصفه الآخر من أولاد من شباب من رجال ونساء، فهؤلاء عرفوا خطر المرأة، وعلموا أن المرأة المسلمة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، فحاربوها وحارب حجابها وخلقها ودينها وعفتها وشرفها.
والذي يدمي القلب أن كثيراً من المسلمات قد تأثرن بهذه الدعاوى الخطيرة التي يغني بطلانها عن إبطالها، وظنت المسلمة أنها بالفعل مظلومة، وأنها شبه مهملة، وأنها رئة معطلة، وأن البيت سجن مؤبد، وأن الزوج سجان قاهر، وأن الأمومة تكاثر حيواني لا يليق بحضارة القرن العشرين، إن ما يزعمونه في المرأة هو المأساة، وظنت المسكينة أنها ظلمت بالفعل.
ومن هنا انبرى بعض إخواننا من أهل العلم للرد على هذه الشبهة، من منطلق أن الإسلام بالفعل في قفص الاتهام، فجاءت الردود هزيلة، ومهزومة كهزيمة من رد بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! بل يجب على المسلمة أن تعلم أن الإسلام ما أمرها بالحجاب، وما حرم عليها الخلوة، وما حرم عليها الاختلاط، وما حرم عليها السفر بدون محرم إلا ليحفظ كرامتها، وليصون عرضها وشرفها؛ لأنها لؤلؤة مكنونة، ودرة مصونة، وجوهرة غالية، وأنا لا أتصور عاقلاً من العقلاء يرزق بجوهرة، ثم يلقي بهذه الجوهرة في أي مكان من أماكن البيت، بل سيبحث عن آمن الأماكن؛ ليحتفظ فيه بهذه الجوهرة، وبهذا اللؤلؤ المكنون.(105/6)
التحديات الداخلية ضد الأسرة المسلمة
هكذا أنت أيتها المسلمة الفاضلة! يا صاحبة الحجاب! يا صاحبة العفة والشرف! فهذا هو التحدي الخارجي، أما التحدي الداخلي فحدث ولا حرج، ومنه الجهل بالإسلام، وضعف الإيمان، فأنا لا أتصور أن مسلماً أو مسلمة يعيش بالإسلام للإسلام، وهو يجهل الإسلام!! ومن هذه التحديات غياب القدوة، أختي الفاضلة! أخي الحبيب! إن التربية بالقدوة في داخل الأسرة من أعظم وسائل التربية، فلا يمكن أبداً أن يتعلم الولد الصدق إذا رأى أباه يكذب! ولا يمكن أبداً أن تتعلم البنت الفضيلة، إن رأت أمها مستهترة! ولا يمكن أن تتعلم الأمانة إن رأت أمها خائنة لأبيها أو لزوجها.
مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد شكل مشيته بنوه فقال علام تختالون قالوا بدأت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه وأيضاً من هذه التحديات الصحبة السيئة، فالصحبة السيئة تؤثر على أولادنا، وعلى أسرنا تأثيراً بالغاً؛ لأن الولد قد يتأثر بأصحابه تأثراً يفوق تأثره بالبيت؛ لذلك قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي).
ومن التحديات الداخلية عدم قيام المسجد والدعاة إلى الله بدورهم الحقيقي، لا أنكر هذا، قد يأتي الشاب إلى المسجد فيرى طرحاً دعوياً مملاً، لا يتناسب مع مشكلاته وأزماته، بل نرى أحياناً القائمين على المساجد يطردون الأطفال، ويسيئون إليهم لمجرد البكاء والضوضاء، هذه عادة الطفل وطبيعته، فهل تريد أن تحكم على الطفل بعقليتك؟! لا تريد منه أن يلعب أو أن يمرح، فإن طردت الأطفال من المساجد، فأين سيتربى أبناؤنا؟! فهذا من عدم قيام المسجد بدوره الحقيقي، والقصور الشديد في الطرح الدعوي.
لقد قدر الله أن أكون مسافراً في يوم جمعة، وقلت لأهلي: هيا لنصلي الجمعة ولنسمع، فمنذ زمن وأنا خطيب لا أسمع الخطباء، مع أن المسافر لا جمعة عليه، لكن أحببت ذلك، والله لقد قال الخطيب على المنبر كلاماً لولا خشية الفتنة لارتقيت المنبر، وأتيت به من رقبته، لقد قال هذا الخطيب: لما قتل عثمان بعث معاوية -رضوان الله على معاوية - لـ نائلة رضوان الله عليها، وقال لها: يا نائلة! ها هو ذا عثمان قد قتل، وأنا أريد أن أتزوجك.
قالت له: ما الذي يعجبك فيّ يا معاوية؟ -هكذا على المنبر بهذه الطريقة- قال لها: عيونك! قالت له: طيب، انتظر قليلاً، ودخلت فخلعت عيونها، ووضعتها على طبق، وخرجت لـ معاوية قائلة: يا لي أنت غاوي الجمال روح القبر واطلع تلاقي الجمال بقى رمم وعظم منخلع أهذا يقال على المنابر؟!! فنحن نرى قصوراً خطيراً في الطرح الدعوي، لا يتلاءم ولا يتفق مع مشكلات أولادنا، ومشكلات عصرنا.
إن الداعية الأمين -أسأل الله أن يجعلنا منهم- هو الذي لا تغيب عنه أمته بمشكلاتها وأزماتها وجراحها وآلامها، بل يشخص الداء، ويحدد الدواء من القرآن، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يأتي الإعلام كتحد سافر يحطم الأسرة المسلمة بلا نزاع، فإنني أقول باطمئنان وثقة: إن وسائل الإعلام كلها من التلفاز والجرائد والمجلات والفيديو والإعلانات والمسلسلات والأفلام والمسرحيات تعزف كلها على وتر واحد، على وتر الجنس، على وتر الدعارة، على وتر العنف والجريمة، وإن وسائل الإعلام مسئولة مسئولية كبيرة عن انحراف أبنائنا، وذوبان أسرنا في بوتقة الشرق الملحد والغرب الكافر.
والتعليم الذي كان من المفترض أن يكون عوناً لأبنائنا وبناتنا بعد البيت على التربية، ولكن بكل أسف لا يوجد ذلك، ورحم الله محمد إقبال إذ يقول: إن المناهج التعليمية الحديثة تحسن أن تعلم أبناءنا المعارف والمعاني والعلوم، ولكنها لا تحسن أن تعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع.
تلك تحديات خارجية وتحديدات داخلية خطيرة كثيرة، تهدم ما يبنيه كثير من الآباء والأمهات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(105/7)
ما هو السبيل؟!
والسؤال الآن: ما السبيل؟ وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.(105/8)
العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي
والجواب في نقاط محددة أيضاً، أولاً: العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي، فهو منهج رباني مصدره القرآن والسنة، هذه النقطة العملية الأولى على الطريق، تملكها أنت أيها الوالد! وتملكينها أنت أيتها الأم! ألا وهي: العودة إلى المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني مصدره القرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو منهج يتميز بالتكامل، والشمول، والتوازن، والاعتدال، والتميز، والمفاصلة.
منهج يمزج بين الجسد والروح، بين الدين والدنيا، بين الحياة والآخرة، ويجسد هذا المنهج هذا الدعاء النبوي الرقراق الرقيق، كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله ويقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).(105/9)
تأسيس الأسرة المسلمة على المنهج التربوي الإسلامي
ثانياً: تأسيس الأسرة المسلمة منذ البداية على هذا المنهج التربوي الإسلامي، وذلك باختيار الزوجة الصالحة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، وحسبها، ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)، والمسلمة تتخير الزوج الصالح أيضاً، فإن الحياة الزوجية -إن بنيت على هذا الأساس التربوي الإسلامي النبوي- تسعد الأسرة، وتُسعد الأسرة مجتمعها الإسلامي الكبير، إن الحياة الزوجية مملكة إيمانية، الزوج ملكها وربانها، والمسير لدفة شئونها وأمورها؛ بما جعل الله له من قوامة، والزوجة ملكة متوجة هي الأخرى في هذه المملكة؛ لأنها شريكة الحياة، ورفيقة الدرب، وقرة العين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، والرعية بين هذين الملكين الكريمين هم: لب الفؤاد وفلذة الكبد، وهم زهرة الحياة الدنيا، هم الأولاد، الذي قال الله تعالى فيهم: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فإذا ظلل الحياة الزوجية منهج رب البرية وسيد البشرية، عاشت هذه المملكة حياة إيمانية كريمة، وآتت هذه المملكة ثمارها كل صبح وعشية، ولو ظهر في يوم من الأيام نبتة شوك في أرضها -لخلاف ما أو لمشكلة أسرية- فسرعان ما تذبل هذه النبتة؛ لأنها لا يمكن أبداً أن تحيا في أرض طاهرة زكية، تظلل بمنهج رب البرية وسيد البشرية صلى الله عليه وسلم، هنا سيرحم الزوج امرأته، وسترحم المرأة زوجها، وسيتخلق هذا البيت بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم.
جميل -والله- أن أبلغ حضراتكم أن المصطفى قد حرم على نفسه ما أحل الله له؛ من أجل أن يرضي نساءه، هل تعلمون ذلك؟ الحديث في الصحيحين: (لقد اتفقت عائشة وحفصة -رضوان الله عليهما وعلى زوجات النبي الطاهرات-، على رسول الله؛ غيرة من زينب بنت جحش، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على حفصة فابتعدت عنه، وقالت: إني أجد -أي: أشم- منك ريح مغافير) ومغافير: نبتة أو زهرة تنبت في أرض المدينة، لها رائحة كريهة، هل تتصور ذلك وعرق المصطفى أطيب من المسك؟! والله لا أقول ذلك من باب العاطفة، بل أقول ذلك من باب التحقيق العلمي: إن عرق الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك؛ ففي الصحيحين من حديث أنس قال: (خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من ريح رسول الله) وفي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أم سليم: (نام النبي عندها في وقت القيلولة، فعرق رسول الله، فجاءت أم سليم بقارورة، وأخذت تسلت عرق المصطفى في هذه القارورة، فاستيقظ النبي وهو يقول: ما تصنعين يا أم سليم؟! فقالت: فقال: عرقك أطيب من طيبنا يا رسول الله!) والشاهد: (أن النبي دخل النبي على حفصة فابتعدت عنه، وقالت: إني أشم منك ريح مغافير، فقال الحبيب: والله ما أكلت شيئاً -يعني: ليغير رائحة فمي- والله ما أكلت إلا العسل عند زينب، وترك النبي حفصة، ودخل على عائشة، فقالت مثل ما قالت حفصة بترتيب واتفاق، فقالت: إني أجد منك ريح مغافير يا رسول الله! قال: والله ما أكلت شيئاً، والله ما أكلت إلا العسل عند زينب، والله لا آكل العسل بعد اليوم، فنزل القرآن -وتدبر كلام الرحيم الرحمن-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]).
فالحياة الزوجية إن أسست وأصلت، ووضع أساسها وبنيانها على المنهج الرباني والنبوي سعدت هذه الأسرة، وأسعدت أسرتها الكبيرة التي تتمثل في أمة الإسلام والتوحيد.(105/10)
تحمل مسئولية التربية من قبل الآباء والأمهات
ثالثاً: تحمل مسئولية التربية، فالتربية مسئولية مشتركة بين الآباء والأمهات، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته)، وفي الصحيحين من حديث معقل بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) فوظيفتك -أيها الوالد الكريم- ليست مجرد التغذية، كلا.
أيها الإخوة! أنا أقول دائماً: إن وجود الأب بين أبنائه -ولو كان صامتاً لا يتكلم- فيه من عمق التربية ما فيه، فكيف لو تكلم فذكر بالله، ودعا إلى الجنة، وحذر من النار، وحمل هموم الأولاد، وأشعر الأولاد بأنه معهم وأنهم في قلبه وكيانه؟! وتزداد المأساة إن استقالت الأم، ماذا تقولون في أم عادت اليوم إلى زوجها، وقالت: زوجي العزيز! سلام الله عليك.
أما بعد: فإني أقدم لك اليوم استقالتي من تربية أولادك؟! وماذا تقولون في زوج يذهب إلى امرأته ليقول: زوجتي العزيزة! سلام الله عليك.
أما بعد: فإني أقدم لك اليوم استقالتي من تربية الأولاد؟! سيتهم هذا الزوج بالجنون، وكذلك الزوجة، بل أنا أؤكد لحضراتكم: بأن نظرة صادقة مدققة فاحصة لواقع كثير من الأسر المسلمة تبين لنا أن استقالة تربوية جماعية وقعت في كثير من البيوت، فاستقال كثير من الآباء تربوياً، واستقال كثير من الأمهات تربوياً.(105/11)
ملء فراغ الأولاد بما ينفعهم
رابعاً: ملء فراغ الأولاد بأي عمل نافع في الدنيا أو في الدين، لا تترك ولدك فارغاً، وأنت أيها الوالد، وأنت أيتها الأم لا بد أن تشغل نفسك؛ فالنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.
وأخطر أقسام الفراغ: الفراغ القلبي من الإيمان، والخوف من الله والمراقبة، والفراغ النفسي، فالنفس أمارة بالسوء، إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
وكذلك الفراغ العقلي، فاشغل عقلك بالنظر في آيات الله، وبالنظر في الكتب الهادفة؛ لتملأ عقلك بالإيمان وبالمعرفة، فإن الفراغ العقلي حياة أهله بوار، وآخرة أهله نار؛ بدليل تصايح أهل النار في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:8 - 10].(105/12)
تكوين تجمعات صالحة في المجتمع الغربي
ثم الحرص على الصحبة الطيبة، فأنتم في هذه البيئة إن لم تحرصوا على أن تكونوا جماعات طيبة في المساجد والمراكز الإسلامية، والمدارس والأندية، فإن الأسر ستذوب، وسيذوب الأولاد في هذا المجتمع الغربي، الذي يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا وأخلاقنا، فلا بد من أن تبحث عن صحبة طيبة؛ لتعينك ولتعين أولادك على طاعة الله تبارك وتعالى، بإيجاد المحاضن التربوية في الأندية والمدارس والمراكز الإسلامية والحضانات، بشرط أن يقوم عليها رجال وأخوات من الإسلاميين المؤهلين عقدياً وفكرياً وثقافياً، ويحملون هم الأمة، لما يرون من واقع الأمة الأليم.
أيها الأحبة الكرام! هذه نقاط سريعة لهذا الواقع المؤلم، أسأل الله عز وجل أن يعيننا جميعاً وإياكم عليها، وأن يحفظ نساءنا وبناتنا، وأن يصلح أولادنا وشبابنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومع هذا الواقع المؤلم أقول: الفجر قادم، والأمل يتجدد، وإن ما أراه الآن بين يدي لمن أعظم الأدلة العملية على ذلك: فكثير من الأسر المسلمة بدأت تنتقل من أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، فكلكم بلا استثناء ما حرصتم على هذا المؤتمر -بنسائكم وأولادكم-، إلا وكلكم حريص على أن يبدأ بأسرته بداية جديدة، كلكم بلا استثناء يتمنى أن يحفظ أولاده وبناته القرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه هي البداية الحقيقية للعودة، فأرجو ألا نحكم على هذه الصحوة الكريمة بالفشل؛ لأنها لم تحكم الشريعة في الأمة؛ لأن ما هدم في سنوات لا يمكن -على الإطلاق- أن يبنى في أيام.(105/13)
فجر الإسلام قادم!
فجر قادم، وأمل يتجدد، نراه في هذه الصحوة التي بدأت تتنزل في كل بقاع الأرض تقريباً، كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، لقد ولت هذه الصحوة الكريمة برجالها ونسائها وأولادها ظهرها لواشنطن وبانكوك ومدريد وباريس وتل أبيب وتوجهت من جديد للقبلة التي ارتضاها الله جل وعلا لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة! إن وعد الله قائم بنصرة هذا الدين، وبالتمكين لسنة سيد النبيين، هل تصدقون الله؟ هل تصدقون رسول الله؟ لم اليأس ولم القنوط؟! قال الله جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان -: (إن الله زوى لي الأرض؛ فرأيت مشارقها ومغاربها.
وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وقال صلى الله عليه وسلم -كما في معجم الطبراني بسند صحيح من حديث تميم الداري -: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، انظروا إلى واقع أمريكا من عشر سنوات، هل كنا نرى هذه المراكز، وهذه المساجد، وهذه الملايين من الموحدين والمسلمات والمؤمنات؟ لا، إن الصحوة تتنزل الآن في كل بقاع الأرض، إنه وعد الله! قال الشاعر: لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكايد تخرج لم اليأس؟! ولم القنوط؟! ولم الهزيمة النفسية؟! إن المهزوم نفسياً مشلول الفكر والحركة، فاعتز -أيها المسلم وأيتها المسلمة- بهذا الدين الذي ارتضاه الله للبشرية ديناً، وإنا ما نراه الآن في هذه القاعة لمن أعظم الأدلة العملية على أن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم بإذن الله جل وعلا.
قال الشاعر: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى دربا وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنمى لها جذع قوي في التراب وأغدقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أو كان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر الليئم وأطرقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا(105/14)
وأنذرهم يوم الحسرة
يوم القيامة يوم عصيب، وفيه من الأهوال ما يجعل الولدان شيباً، وفيه ينقسم الناس إلى: أهل حسرات، وأهل مسرات، أما أهل الحسرات: فتتابع عليهم الحسرات والندامات أبد الآبدين.
وأما أهل المسرات: فتتابع عليهم المسرات في جنات النعيم إلى أن يصلوا إلى أعظم مسرة وهي: النظر إلى وجه الله تعالى.
فعلى العبد أن يحرص على فعل الخيرات، واجتناب المنكرات؛ ليسعد في يوم الحسرة.(106/1)
الندامة يوم الحسرة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.
أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي بعد فناء خلقه جل وعلا ويقول: أنا الجبار! أنا الجبار! أنا الجبار! أنا العزيز! أنا الكريم! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! ثم يجيب جل وعلا عن ذاته ويقول: لله الواحد القهار، سبحانه سبحانه سبحانه سبحان ذي العزة والجبروت!! سبحان ذي الملك والملكوت!! سبحان الحي الذي لا يموت!! سبحان من كتب الفناء على الخلائق ولا يموت.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه الله جل وعلا في كل شيء.
زكاه الله جل وعلا في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
وزكاه فى صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وزكاه في خلقه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وبعد كل هذا جعل الله جل وعلا حبيبه صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين، ووهبه الحوض المورود، وأعطاه اللواء المعقود، وبعد ذلك كله قال له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! فهذا اللقاء الثالث والعشرون، وما زلنا مع آيات سورة مريم، وإن كنا سنواصل الحديث مع أول جمعة من شهر رمضان في تفسير آيات القرآن الكريم، فلسنا ممن يجافي هذا الشهر العظيم، فإن شهر رمضان هو شهر القرآن؛ لقول الله جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
فتعالوا بنا لنواصل المسيرة مع القرآن الكريم، فما أجمل أن تكون اللحظات التي نقضيها مع آيات من كتاب الله جل وعلا، مع هذا الذكر الحكيم، ومع هذا النور المبين، ومع هذا الصراط المستقيم، مع مأدبة الله جل وعلا؛ مع القرآن الكريم.(106/2)
استغاثة أهل النار بأهل الجنة
ومن موجبات الحسرة يوم القيامة أنه تنخلع القلوب حينما يرون جهنم على حقيقتها وعلى طبيعتها لأول مرة وهم في أرض المحشر، يأمر الله جل وعلا أن يؤتى بجهنم، فيؤتى بها لها سبعون ألف زمام! مع كل زمام سبعون ألف ملك، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود؛ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23 - 24].
يا ليتني حافظت على الصلوات، يا ليتني وحدتُ ربَّ الأرض والسماوات، يا ليتني عبدت الله جل وعلا، يا ليتني صمت النهار، يا ليتني قمت الليل، يا ليتني ما عصيت الله، يا ليتني ما انشغلت بالشهوات، يا ليتني ما انشغلت بالشبهات، يا ليتني يا ليتني يوم لا ينفع الندم، إنه يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع التحسر، ولا ينفع الندم.
(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يرون جهنم فيتحسرون ويتألمون وتنخلع القلوب لهول ما رأوا، يرون جهنم يؤتى بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأوها لا يبقى ملك ولا يبقى نبي ولا يبقى صِدِّيق إلا خَرَّ على ركبتيه في أرض المحشر؛ لهول ما رأى! {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] فإذا رأوا هذا الهول وهذا المنظر الذي يخلع القلوب والأفئدة، اضطربت الجوارح والأفئدة وفزع الجميع، فإذا انتهى الحساب واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يبدأ هذا الحوار بين أهل الجنة وأهل النار.
وربما سأل سائل، وقال: كيف يسمع أهل الجنة أهل النار، وكيف يسمع أهل النار أهل الجنة؟! نقول: ألم نقل لكم في اللقاء الماضي: إن الله جل وعلا سيبدل كل شيء، وسيحول كل شيء؛ حتى سمع الإنسان يتغير فيسمع أي شيء، ويرى أي شيء: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [مريم:38]، تغير كل شيء فبصرك اليوم حديد.
يبدأ أهل الجنة بهذا الحوار: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف:44] ينادي أهل الجنة على أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف:44]، جواب قاطع مختصر.
{فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
ويستمر الحوار بين أهل الجنة وأهل النار، وبعد بضع آيات في سورة الأعراف ينتهي هذا الحوار بتلهف واستغاثة واستجداء من أهل النار لأهل الجنة: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50] هذه هي الاستغاثة استجداء طلب رجاء يا أهل الجنة يا أهل الجنة! أفيضوا علينا شيئاً من الماء، نريد قليلاً من الماء اشتد بنا العطش في هذه النيران المتأججة! (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيأتي الجواب الذي يزيد تحسرهم الذي يزيد تألمهم الذي يزيد فيهم الهم والغم، فيقولون لهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، أي: لقد حرم الله على الكافرين هذا في هذا اليوم، ألم ينزل عليكم القرآن؟! ألم يرسل إليكم الرسل؟! ألم يذكروكم بهذا اليوم؟! ولكنكم تعاليتم على الله جل وعلا، واستكبرتم على رسل الله، واستهزأتم بالعلماء، وأبيتم إلا أن تعاندوا الله جل وعلا، وأن تعاندوا شرع الله عز وجل، فقلتم: لا ربا، وقلتم: لا خمر، بل إن الربا هو الفوائد، وإن الخمر هي المشروبات الروحية، وإذا ما أمركم الله جل وعلا استهزأتم بأوامر الله، وإذا ما نهاكم رسول الله سخرتم بنهي رسول الله، وإذا ما ذكركم العلماء قلتم: هؤلاء هم المتنطعون المتطرفون.
أبيتم إلا أن تعرضوا عن منهج الله جل وعلا، و {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]؟! كذلك لا جزاء لهذا الكفر ولهذا العناد والإعراض إلا ما ترون: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44]، هل وجدتم ما كنتم تكفرون به، وما كنتم تكذبون به، وما كنتم تعارضونه؟ هل وجدتموه اليوم على حقيقته؟! قالوا: نعم فتزداد الحسرة ويزداد التألم.(106/3)
حرمان الكافرين من النظر إلى وجه الله الكريم
ومن موجبات الحسرة لهؤلاء أيضاً -والعياذ بالله- حينما تتم السعادة لأهل الجنة بالنظر إلى وجه الله كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي الحق جل وعلا يوم القيامة على أهل الجنة، ويقول لهم: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك.
فيقول الله جل وعلا: هل رضيتم يا أهل الجنة؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من هذا؟).
وفي رواية مسلم: (يقولون: وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول جل وعلا: أن أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
يا للكرامة!! (أن أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وفي رواية مسلم: (فيكشف الحجاب)؛ لأن الله جل وعلا حجابه النور كما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ولكن يوم القيامة يتبدل كل شيء، ويتغير كل شيء، فيكشف الله الحجاب، فيتمتعون بالنظر إلى وجه الله عز وجل، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: ({لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26])، والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه ربنا جل وعلا.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ليس نعيم الجنة في لبنها ولا في خمرها ولا في حريرها ولا في ذهبها ولا في حورها ولا في نعيمها! ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه الله جل وعلا، هذا هو النعيم الذي ما انشغل به أهل الجنة إلا نسوا كل نعيم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25].(106/4)
حال المجرمين يوم الحسرة
قال الله جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
أحبتي في الله! أعيروني القلوب والأسماع؛ لنعيش مع هذه الآيات والكلمات النيرات الطيبات المباركات.
هذا هو الإنذار العام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض، من الله جل وعلا لحبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، والإنذار في اللغة: هو الإعلام المقترن بالتهديد والوعيد.
والحسرة في اللغة: هي أشد الندم والتلهف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه.
يقول الله جل وعلا: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ): إنه يوم القيامة يا عباد الله إنه يوم الحسرة والندامة إنه يوم الحاقة إنه يوم القارعة إنه يوم الزلزلة إنه يوم الصيحة إنه يوم الصاخة إنه يوم الطامة الكبرى إنه يوم الآزفة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
{يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل:14].
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111].
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30].
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66].
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27].
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49].
قال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39] إنه يوم القيامة إنه يوم الحسرة والندامة: وأنذرهم يا محمد! هذا اليوم الذي تنخلع القلوب من أهواله، أنذر الغافلين، وأنذر المؤمنين، وأنذر الصادقين، وأنذر العصاة، إنذارٌ عام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).(106/5)
ذبح الموت والإيذان بالخلود
موجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة يا عباد الله! فمنها ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ينادى عليهم: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون -أي: يرفعون رءوسهم تجاه هذا النداء- ثم ينادى على أهل النار: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ثم يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح)، والكبش الأملح: هو الذي كثر بياضه، أو هو الأبيض بياضاً كاملاً.
يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح في موضع بين الجنة والنار، وينادى على أهل الجنة، وينادى على أهل النار، ويقال لهم: هل تعرفون هذا؟! فيقولون: نعم نعرفه، هذا هو الموت، (فيؤمر بذبحه، فيذبح الموت -وهو في صورة هذا الكبش الأملح في موضع بين الجنة والنار- ثم ينادى على أهل الجنة: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).
الله أكبر!! يا أهل الجنة! خلود في النعيم أبد الآبدين، ويا أهل النار! خلود في الجحيم أبد الآبدين إلا ما شاء الله جل وعلا، وإلا من شاء الله له أن يخرج من النار.
يا أولياء الله! يا أصفياء الله! هنيئاً لكم بهذه الكرامة، خلود في هذا النعيم أبد الآبدين، ويا أهل النار! خلود فلا موت إلا من شاء الله جل وعلا له أن يخرج في الوقت الذي يشاء، وبالكيفية التي يشاء جل وعلا.
هذا من موجبات الحسرة يوم القيامة يا عباد الله!(106/6)
خطبة إبليس
وتزداد حسرتهم بعد أن تتم السعادة لأهل الجنة بخطبة إبليس اللعين! يوم أن يقف إبليس فيهم خطيباً؛ لتزداد الحسرة ولتتم الحسرة والألم، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في سورة إبراهيم بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
هذه بعض موجبات الحسرة في هذا اليوم.(106/7)
أهوال القيامة
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العِشَارُ تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير وإذا البحار تفجرت من خوفها فرأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الجليل طوى السما بيمينه طَيَّ السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت فتطايرت وتهتكت للعالمين سطور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:1 - 19].
ويقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:1 - 8].
مثّل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفاناً نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ} [مريم:39]، واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] أي: أن أهل الدنيا في غفلة، والكفار منهم لا يؤمنون بهذا اليوم.
وبعدها يأتي الجواب الفصل، وتأتي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، يأتي قول الحق جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
لنتعرف على معاني هذه الكلمات بعد جلسة الاستراحة، أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يغفر لنا الذنوب، إنه ولي ذلك ومولاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(106/8)
لمن الملك اليوم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الغر المحجلين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحبتي في الله! هكذا يقول الحق جلا وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:4] هذه هي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود.
يا من غرك غناك! يا من غرتك قوتك! يا من غرتك أموالك! يا من غرك جاهك! يا من غرتك وزارتك! يا من غرك جندك! اعلم بأنك موروث اعلم بأنك راحل إلى لله جل وعلا، فمهما طالت دنياك فهي قصيرة ومهما عظمت دنياك فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، إن الله جل وعلا هو الوارث لكل شيء، وهو والوارث لكل حي: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
ويقول سبحانه: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8].
ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم:40].
إذا أمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، مات كل حي على ظهر هذه الأرض، وكل حي في السموات إلا من شاء الله جل وعلا كما قال ربنا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فإذا ما أفنى الله خلقه وذهب كل شيء، فلا يبقى إلا الله، فهو الأول والآخر، هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
سكون مذهل وخشوع مزلزل، لا حس ولا حركة ولا صوت، ضاع كل شيء، وذهب كل شيء، وأفنى الله كل شيء، وفي وسط هذا السكون وهذا الصمت وهذا الخشوع، ينطلق صوت رهيب جليل مهيب! يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما في الوجود يومئذٍ من سائل غيره ولا مجيب، يهتف الحق جل وعلا بصوته ويقول: (أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتجبرون؟! أين المتكبرون؟!).
وفي رواية مسلم: يقول جل وعلا: (لمن الملك اليوم؟ فيجيب سبحانه عن ذاته بقوله: لله الواحد القهار)، أين الملوك؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وقال الآخر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
فيا من غرتك أموالك! يا من غرتك الدولارات والريالات! اعلم بأنك راحل إلى رب الأرض والسماوات، اعلم بأنك موقوف بين يدي الله جل وعلا.
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني وبعد كل ذلك فإن الجميع موروث إلى الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
اعلم بأنك راحل إلى الله وموقوف بين يدي الله، ستعرض على محكمة قاضيها الله، لتقرأ كتابك الذي سطر عليك كل شيء، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى! فيا أيها المسكين! أيها الغافل! أيها اللاهي الساهي! إلى متى إلى متى؟ عد إلى الله ارجع إلى الله جل وعلا إن العمر قليل، وإن الأنفاس محسوبة، وإن الأيام معدودة.
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
اللهم اقبل منا الصيام والقيام اللهم اقبل منا الصيام والقيام اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع اللهم لأحد منا في هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه، ووفق اللهم ولاة الأمور للعمل بكتابك، والاقتداء بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فإن الله جل وعلا وملائكته يصلون عليه، وقد أمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو زلل أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويقذف به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(106/9)
يوم الحساب
من تمام حكمة الله أن جعل يوماً للحساب الأعظم، يحاسب فيه خلقه على ما فعلوه في دار الابتلاء، وقد بين سبحانه في كتابه أهوال يوم الحساب وشدائده، وأوضح كيف سيكون ذلك الحساب، وعلام يحاسب المرء؟ فعلى العبد أن يستعد لذلك اليوم، وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، وأن يقتدي بسلفه الصالح الذين كانوا يحاسبون أنفسهم محاسبة الشريك الشحيح لشريكه.(107/1)
لا ظلم اليوم
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلا، وأسأل الله الكريم الحليم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: في رحاب الدار الآخرة، سلسلة علمية هامة تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ ليتوبوا إلى الله جل وعلا، ويتداركوا ما قد فات قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وهذا هو لقاؤنا الثالث عشر من لقاءات هذه السلسلة العلمية الكريمة، وكنا قد توقفنا في اللقاء الماضي مع هذا المشهد المهيب الكريم، حينما يأتي الحق جل جلاله إلى أرض المحشر إتياناً يليق بكماله وجلاله، مصداقاً لقوله سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210].
يضع الحق جل جلاله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول سبحانه: (يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا اليوم إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، وهنا يبدأ الحساب للعباد، وهذا هو موضوعنا اليوم مع حضراتكم بإذن الله جل وعلا، وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا مع هذا المشهد الرهيب المهيب في العناصر التالية: أولاً: لا ظلم اليوم.
ثانياً: العرض على الله وأخذ الكتب.
ثالثاً: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
فأعيروني القلوب والأسماع.
والله أسال أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض، ويوم العرض إنه حليم كريم رحيم! أولاً: لا ظلم اليوم: أيها الأحباب الكرام: والله لو عذب الله أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، فهم عبيده في ملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه جل وتعالى قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] وقال جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] وقال الله جل وعلا: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} [آل عمران:108] وقال أيضاً في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: (يا عبادي! إني حَرَّمْتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا).(107/2)
قواعد الحساب يوم القيامة
إن الله جل وعلا عدل، لطيف، حليم، كريم لا يظلم أحداً من خلقه، ولا يظلم أحداً من عباده، ولذا فإن الله جل وعلا يحاسب العباد يوم القيامة وفقاً للقواعد التالية:(107/3)
تبديل السيئات حسنات
القاعدة السادسة: تبديل السيئات حسنات، وذلك لعباد الرحمن من المؤمنين والموحدين، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70].
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: حدثنا الصادق المصدوق فقال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة، دخولاً الجنة وآخر أهل النار دخولاً إلى النار، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقول الحق جل جلاله لملائكته: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيشفق، ويقال له: لقد عملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم.
يقول المصطفى: لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه).
وفي هذه الحالة الرهيبة من الرعب والفزع يقال له: (إن لك مكان كل سيئة حسنة)، والحديث في صحيح مسلم.
يقول الله: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:26 - 29].(107/4)
مضاعفة الحسنات
أما القاعدة الخامسة والسادسة فلأهل التوحيد والإيمان، أسأل الله أن يختم لنا ولكم به.
القاعدة الخامسة: مضاعفة الحسنات لأهل الإيمان: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فالله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها.
قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه وحسن الحديث شيخنا الألباني من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: (ألم) حرف، ولكن (ألف) حرف، (ولام) حرف، (وميم) حرف) بل قد يضاعف الله الحسنة إلى سبعمائة ضعف: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] بل قد يضاعف الله الحسنة إلى أكثر من سبعمائة ضعف، وهناك من الأعمال ما لا يعلم ثوابها إلا الله.
قال تعالى في الحديث القدسي المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ولك أن تتصور الجزاء من الواسع الكريم جل جلاله.
وأما الصبر فقال الله فيه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].(107/5)
إقامة الشهود
القاعدة الرابعة: إقامة الشهود على العباد، وأعظم شهيد على العباد يوم القيامة هو الملك الذي يعلم السر وأخفى، وعلم ما كان وما هو كائن، وما سيكون، فالله جل وعلا هو أعظم شهيد علينا يوم القيامة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء:33] ثم تأتى الرسل فيشهد كل رسول على أمته، وتأتى أمة الحبيب لتشهد على جميع الأمم.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] وقال تعالى مخاطباً حبيبه المصطفى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُدْعَى نوح يوم القيامة فيقال له: يا نوح، فيقول: لبيك وسعديك.
فيقول الله: هل بَلَّغْتَ قومك؟ فيقول نوح: نعم يا رب! فيقول الله جل وعلا لقوم نوح: هل بَلَّغَكُم نوح؟:فيقولون: لا، ما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا: من يَشْهَد لك يا نوح؟ فيقول نوح: يشهد لي محمد وأمته، يقول المصطفى: فتدعون فتشهدون له، ثم أشهد عليكم فذلكم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]) ثم تشهد الملائكة، قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] ثم تشهد الأرض بما عملت على ظهرها من طاعات وسيئات، ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم: قرأ يوماً قول الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4].
فقال: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها: أن تشهد الأرض على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظَهْرِهَا، فتقول: يا رب! لقد عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا)، فهذه أخبارها، فيجادل العبد اللئيم ربه الكريم ويقول: يا رب! أنا أرفض هذه الشهادة، وأرفض هؤلاء الشهود.
يا سبحان الله! يظن أنه في محكمة من محاكم الدنيا! يقول العبد اللئيم لربه الرحيم الكريم: أنا أرفض هذه الشهادة ولا أعترف بشهادة هؤلاء الشهود! كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث أنس (أنه صلى الله عليه وسلم ضحك -بأبي هو وأمي-، ثم قال لأصحابه: لم لا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال المصطفى: أضحك من مجادلة العبد لربه يوم القيامة، يقول العبد لربه: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟! فيقول الله: بلى، قد أجرتك من الظلم.
فيقول العبد: فإني لا أجيز شاهداً علي إلا من نفسي، فيقول الله سبحانه: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، فيختم الله على فيه -على فمه، وعلى لسانه، الذي تعود الجدال والكذب واللؤم والنفاق- ويأمر الله أركانه وجوارحه أن تنطق، فتشهد عليه جوارحه وأركانه، فإذا خلي بينه وبين الكلام، سب ولعن أركانه وقال لها: سحقاً لكن سحقاً لكن فعنكن كنت أناضل!).
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].(107/6)
لا تزر وازرة وزر أخرى
القاعدة الثانية: أن لا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى، بل إن كل نفس تؤاخذ بإثمها وتعاقب بجرمها: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15].
وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وفي * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:36 - 41].
فلا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل سيمر الولد يوم القيامة على والده، فيقول له والده: أي بني! أنا أبوك أعطني حسنةً من حسناتك فلقد كنت لك نِعْمَ الأب، فيقول الابن لأبيه: نفسي! ويقول الابن لأمه: نفسي.
كيف لا؟!! وقد قال كل نبي من الأنبياء في هذا اليوم العصيب: نفسي، نفسي، نفسي إلا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.(107/7)
إعذار الله لخلقه
القاعدة الثالثة: إعذار الله لخلقه.
من قواعد العدل التي سيحاسب الله بها عباده يوم القيامة: إعذار الله لخلقه، فالله جل وعلا هو الحكم العدل، هو اللطيف العليم الخبير، وهو الذي يعلم ما علم العباد من يوم أن خلقهم إلى يوم أن قبضهم، ومع ذلك فمن عظيم عدله وعظيم فضله أنه يعرض أعمال العباد عليهم يوم القيامة، حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه جل وعلا.
قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] وقال سبحانه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] وقال جل وتعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] فالله يقيم الحجة على خلقه في الدنيا، بل ويبين لهم ويعرض عليهم أعمالهم في الآخرة، حتى لا يكون لأحد عذر بين يديه سبحانه وتعالى!(107/8)
العدل التام
القاعدة الأولى: العدل التام الذي لا يشوبه أي ظلم.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] كفى بالله حسيباً.
اعلم أنك لن تعرض على محكمة كمحاكم الدنيا، ففي محاكم الدنيا قد يجيد المحامون التزويرَ والتحريفَ، أو قد يجيد المحامون إقامة الحجة للخصم وربما يخرج الخصم وهو مدان، ولكن اعلم بأن الذي سيتولى حسابك من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقال جل وعلا: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:47 - 49] قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] فالمقصود أن عمل ابن آدم كله محفوظ ومسطور في كتاب عند الله جل وعلا، لا يضل ربي ولا ينسى.
واعلم بأن ما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمان.
دع عنك ما قد كان في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب فما نسيه الإنسان لا ينساه الرحمن.
إذاً: القاعدة الأولى هي العدل، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40].(107/9)
العرض على الله وأخذ الكتب
في الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عُذِّبْ، قالت عائشة: يا رسول الله أو ليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، فقال المصطفى: إنما ذلك العرض، وليس ذلك هو الحساب يا عائشة، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب).
سينادى عليك ليكلمك الله كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تُرجُمَان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
تنادي الملائكة: أين فلان بن فلان؟!! فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب، قرع النداء قلبك، فاصفر لونك، وتغير وجهك، وطار قلبك، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين، وعلى رءوس الأشهاد، ويرفع الخلائق جميعاً أبصارهم إليك وأنت في طريقك للوقوف بين يدي الملك، تتخطى الصفوف.
أسألك بالله أن تتصور هذا المشهد الذي يكاد يخلع القلوب.
تتخطى الصفوف صفوف الملائكة صفوف الجن صفوف الإنس، في أرض المحشر لترى نفسك واقفاً بين يدي الحق جل جلاله ليكلمك الله لتعطى صحيفتك!! هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها؟! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها!! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فإن كان العبد من أهل السعادة وممن رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، أعطاه الله كتابه بيمينه وأظهر له في ظاهر الكتاب الحسنات، وفي باطنه السيئات فيؤمر العبد أن يبدأ فيقرأ السيئات فيصفر لونه! ويتغير وجهه! فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد في آخر الكتاب، هذه سيئاتك قد غفرتها لك، فيتهلل وجهه ويسعد سعادة لا يشقى ولن يشقى بعدها أبداً! ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل إلى آخر الكتاب قرأ الحسنات فازداد وجهه إشراقاً وازداد فرحاً وسروراً، وقال له الملك جل جلاله: انطلق إلى أصحابك وإخوانك -أي: من أهل التوحيد والإيمان- فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت فينطلق وكتابه بيمينه والنور يشرق من وجهه وأعضائه يقول لأصحابه وخلاَّنه: ألا تعرفونني؟! فيقولون: من أنت لقد غمرتك كرامة الله؟!! فيقول: أنا فلان بن فلان، انظروا هذا كتابي بيميني! اقرءوا كتابيه! اقرءوا هذا الكتاب معي! شاركوني السعادة والفرحة! انظروا! هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذه زكاتي، وهذا حجي، وهذا برى بوالدي، وهذه صدقتي، وهذا إحساني للجيران، وهذا ولائي وبرائي، وهذا بغضي لأعداء الله، وهذه دعوتي، وهذا أمري بالمعروف، وهذا نهي عن المنكر، وهذا بعدي عن الغيبة والنميمة، وهذا بعدي عن ظلم العباد.
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
فإن كانت الأخرى -أعاذني الله وإياكم من الأخرى- وكان العبد من أهل الشقاوة وممن غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة، ينادى عليه: أين فلان ابن فلان -وسبحان من لا تختلف عليه الأصوات، ولا تشتبه عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات- أين فلان ابن فلان؟ فيتيقن العبد أنه اسمه ماذا تريدون يا ملائكة الله؟ فيقولون: هلم إلى العرض على الله جل وعلا، فيتخطى الصفوف ليرى نفسه بين يدي الله فيعطى كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، فيقرأ فيسود وجهه، ثم يكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى منهم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت، فينطلق في أرض المحشر وقد اسود وجهه وعلاه الخزي، والذل والعار، وكتابه بشماله، أو من وراء ظهره! فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته: ألا تعرفونني؟! فيقولون: لا إلا أننا نرى ما بك من الخزي والذل فمن أنت؟! فيقول: أنا فلان وهذا كتابي بشمالي ولكل واحد منكم مثل هذا، ويصرخ في أرض المحشر! فلقد شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، يصرخ بأعلى صوته ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37].
ولله در القائل: مثل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانَا والنار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأتَ ولم تنكر قراءتهُ أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل: خذُوهُ يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يَلتَهبُوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(107/10)
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلَّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: هذه صورة مصغرة على قدر جهلي أقدمها لحضراتكم عن الحساب، ولك -أخي- أن تعيش بقلبك وكيانك كله هذا المشهد الذي يكاد أن يخلع القلوب، هذا إن كنا ممن يحمل في الصدور القلوب، فإنه لا يتأثر بموعظة ولا يستجيب لآية أو حديث إلا من كان له قلب.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
وكم من الناس الآن من يتحرك في هذه الدنيا وهو لا يحمل قلباً، فقد مات قلبه منذ زمن، وكفن منذ أمد، يسمع القرآن يتلى ولا حياة لمن تنادي، يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فربما يسخر ويهزأ بمذكره.
فيا أيها الأخ الكريم: حاسب نفسك الآن قبل أن تحاسب بين يدي الجبار.
قال عمر -والأثر رواه أحمد والترمذي بسند صحيح-: (أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخفف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا).(107/11)
أقسام النفس
أخي الحبيب! حاسب نفسك الآن، واعلم بأن النفس أمارة بالسوء، ولقد وصف الله النفس في القرآن بثلاث صفات ألا وهي: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء.
فالمطمئنة: هي التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالمصطفى رسولاً.
المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده.
المطمئنة: هي التي اطمأنت إلى ذكر الله وعبوديته، وتشتاق دوماً للقاء الله سبحانه.
واللوامة: هي التي تلوم صاحبها على الخير وعلى الشر، تلوم صاحبها على الخير لماذا لم تكثر منه، وتلوم صاحبها على الشر لماذا وقعت فيه؟ ولماذا تسوف التوبة؟ ولماذا تتخلف عن الصلاة في بيوت الله؟ إلى متى وأنت على هذا الضلال؟ فاللوامة تلوم صاحبها على الخير والشر.
أما النفس الأمارة: فهي التي تريد أن تخرجك من طريق الهداية إلى طريق الغواية من طريق النعيم إلى طريق الجحيم، ومن طريق السنة إلى طريق البدعة ومن طريق الحلال إلى طريق الحرام، قال تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
فهذه النفس إن لم تشغلها بطاعة الله شغلتك بالمعصية، وإن لم تلجمها بلجام التقوى شغلتك بالباطل، فالنفس كالطفل فإن فطمت الطفل عن ثدي أمه انفطم، وكذلك النفس إن فطمتها عن معصية الله وألجمتها بلجام الطاعة والتقوى انقادت، فإن زلت نفسك لبشريتك ولضعفك فلست ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً فسرعان ما يدفع إيمانك وعلمك بنفسك الأمارة إلى التوبة والأوبة والعودة إلى الله جل وعلا، وأنت على كل حال من الأحوال على طريق طاعة الكبير المتعال، وسيد الرجال صلى الله عليه وسلم.
أيها الحبيب! النفس أمارة، فحاسب نفسك الآن قبل كل عمل وبعد كل عمل: لماذا أتيت؟ لماذا سأتكلم؟ لماذا أسكت؟ لماذا أنفقت؟ لماذا أمسكت؟ لماذا أحببت؟ لماذا أبغضت؟ لماذا خرجت؟ لماذا دخلت؟ وبعد العمل: هل كان العمل موافقاً لهدي المصطفى؟ هل اتبعت رسول الله أم أنا ضال مبتدع؟ فالسؤال الأول عن الإخلاص، والسؤال الثاني عن المتابعة؛ إذ لا يقبل الله أي عمل إلا بهذين الشرطين، لا يقبل الله العمل إلا إذا كان خالصاً لوجهه، على هدي الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيَّب الله ثراه: إن دين الله -الذي هو الإسلام- مبني على أصلين: الأول: أن تعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن يعبد بما شرعه على لسان رسوله، وهذان الأصلان الكبيران هما حقيقة قولنا: نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً رسول الله.
فحاسب نفسك قبل كل عمل وبعد كل عمل، وحاسب نفسك على التقصير: يا نفس إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟ يا نفس إلى متى هذا الانحراف عن طريق الله جل وعلا؟ إلى متى تأكلين الربا؟ إلى متى تأكلين الحرام؟ إلى متى تأكلين مال اليتامى؟ إلى متى تتركين الجماعة؟ إلى متى تجلسين على المقاهي والشوارع والطرقات وتسمعين نداء رب الأرض والسماوات: (حي على الصلاة حي على الفلاح) وأنت قابعة على معصيتك؟! إن كنت تعتقدين أن الله لا يراك فما أعظم كفرك بالله! وإن كنت تعلمين أنه يراك وأنت لا زلت مصرة على المعصية فما أشد وقاحتك وقلة حيائك من الله جل وعلا! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة الإسلام؟! يا نفس ويحك! ألا تعرفين قدر نعمة بعثة سيد الأنام؟! يا نفس! اتق الله وتوبي إلى الله وعودي إليه.(107/12)
أحوال السلف وأقوالهم في محاسبة النفس
أيها المسلم! حاسب نفسك محاسبة الشريك الشحيح لشريكه.
قال ميمون بن مهران: (لا يبلغ العبد درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح لشريكه).
إياك إياك أن تغتر بطاعة، إياك إياك أن تغتر بعلم، كن دائماً على وَجَل فإن العبرة بالخواتيم، أسأل الله أن يحسن لنا الخاتمة.
هذه الصديقة بنت الصديق عائشة الطاهرة المبرأة من السماء، يسألها أحد المسلمين عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32] ما معناها يا أماه؟ فقالت عائشة: يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد فقوم ساروا على دربه وماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك.
عائشة لا تغتر بنسبها، لا تقول إنني زوج النبي، بل والله لقد بشرها المصطفى بالجنة ومع ذلك لا تغتر، تعرف قدر النفس وخطر النفس ولؤمها.
وهذا فاروق الأمة عمر وما أدراكم ما عمر؟! تعجز العبارات عن وصف عمر.
ينام الفاروق عمر على فراش الموت بعدما طعن، فيدخل عليه ابن عباس فيثني عليه بالخير، فيقول عمر: والله إن المغرور من غررتموه، وددت أن أخرج اليوم من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله لو أن لي ملأ الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه.
وهذا هو معاذ بن جبل حبيب المصطفى الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأحبك يا معاذ، لما نام على فراش الموت بعدما أصيب بطاعون الشام، قال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ هل أصبح الصباح؟ هل أصبح الصباح؟ ثم بكى معاذ وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار.
وهذا سفيان الثوري إمام الورع والحديث، ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله، إنك مُقْبِلُُ على من كنت ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فبكى سفيان وقال: أسألك بالله يا حماد أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! ونحن جميعاً يقول كل واحد منا: أتظن أن مثلي لا يدخل الجنة! فيا أيها المسلم: لا تغتر بطاعة، ولا تغتر بعلم، ولا تغتر بعمل، وكن دائماً على وجلٍ كما كان رسول الله وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه، فحاسب نفسك بعد كل عمل، وحاسب نفسك بعد كل معصية، وحاسب نفسك على كل تقصير، وحاسب نفسك على كل تفريط.
إلى متى تسمع عن الله، وإلى متى تسمع عن رسول الله وأنت مفرط مضيع؟ عباد الله! إن الموت يأتي بغتة، وإن أقرب غائب ننتظره هو الموت قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: يا أبا حازم مالنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ فقال أبو حازم: لأنكم عَمَّرتُم دنياكم وَخَرَّبتُم أُخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان: فما لنا عند الله يا أبا حازم؟ قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم مالك عند الله.
فقال سليمان: وأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال أبو حازم: عند قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14].
فقال سليمان: فأين رحمة الله؟ فقال أبو حازم: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
قال سليمان: فكيف القدوم على الله غداً؟ قال أبو حازم: أما العبد المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يرجع إلى مولاه.
أسأل الله أن يستر علي وعليكم في الدنيا والآخرة! اللهم لا تجعل لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يارب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوما، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروما! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض! اللهم أكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وإن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أقر أعيننا بتحرير الأقصى المبارك، اللهم ائذن بتحرير الأقصى المبارك، اللهم ائذن بتحرير الأقصى المبارك، اللهم عليك باليهود، وأعوان اليهود، وأتباع اليهود، وعملاء اليهود، اللهم حرق قلوبهم، واملأ بيوتهم ناراً، اللهم حرق قلوبهم واملأ بيوتهم ناراً! اللهم كما سخر اليهود من رسولك فانتقم لرسولك يا رب العالمين، اللهم انتقم لرسولك يا رب العالمين، اللهم انتقم لرسولك بعد خذلان المنافقين، اللهم انتقم لرسولك بعد خذلان المجرمين، اللهم انتقم لرسولك بعد خذلان الخائنين! اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا وضعفنا، اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا وضعفنا، اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا وضعفنا! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وانتقم من المجرمين المنافقين الذين ضيعوا مكانة سيد النبيين برحمتك وقدرتك يا رب العالمين! اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، وعملاء اليهود، يا عزيز يا حميد! اللهم انصرنا فلقد قل الناصر، اللهم أعنا فلقد قل المعين، اللهم أعنا فلقد قل المعين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا غياث المستغيثين، يا كاشف الهم عن المهمومين، اللهم اكشف همنا، وفرج كربنا، واكشف الهم عن أمة حبيبك، وفرج الهم عن أمة حبيبك، وقيض للأمة القائد الرباني، وأبرم للأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم لا تجعل حظي من ديني قولي، وأحسن نيتي وعملي.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(107/13)
أدب الخلاف
الخلاف ضرورة وطبيعة بشرية، وهو أنواع: فمنه ما هو مذموم، ومنه ما هو جائز، وللخلاف بأنواعه أسباب بيّنها أهل العلم، كما بينوا أدب الخلاف، وينبغي على المسلمين -لاسيما طلبة العلم- معرفة هذه الآداب، والتأدب بها، وفي ذلك خير عظيم للفرد والمجتمع.(108/1)
الخلاف شر وعذاب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا الصرح الطيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! والله الذي لا إله غيره ما شعرت في نفسي أنني أساوي حبة رمل وطئتها نعال العلماء، بل ووالله أذكر نفسي دوماً بقول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل بل والله لا أرجو من الله عز وجل إلا أن أكون من طلاب العلم المخلصين الصادقين، فأسأل الله أن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يجعل باطننا أحسن من ظاهرنا، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وأن يرزقنا وإياكم حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! أشهد الله أنني أشعر بسعادة غامرة، فهذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها هذا المكان الطيب المبارك، وما توقعت أن يكون المسجد بهذه العظمة، وأسأل الله عز وجل أن يتم بناءه على خير وتقى، وأن يؤسس ويؤصل ويقعد بنيانه على التقوى، وأن يبارك في القائمين على أمر هذا البناء وأمر الدعوة في هذا المكان، وأن يؤلف بين قلوبهم، وأن يوحد صفهم، وأن يبارك في أوقاتهم وأموالهم وأعمالهم وأولادهم؛ ليرفعوا لنا بأمر الله هذا البناء الذي أسأل الله أن ينفع به.
وأن يجعله فاتحة خير لهذا البلد الكريم، وأن يجعله غصة في حلوق المجرمين والمنافقين.
أحبتي في الله! تعالوا بنا لنعيش الليلة مع محاضرة هامة، عنوانها: أدب الخلاف، وسيكون حديثنا معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الخلاف شر وعذاب.
ثانياً: أنواع الخلاف.
ثالثاً: أسباب الخلاف.
وأخيراً: أدب الخلاف.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، فوالله إن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.(108/2)
انتشار الصحوة الإسلامية المباركة
أيها الخيار الكرام! لا ينكر عاقل منصف على الإطلاق أننا نعيش الآن صحوة إسلامية مباركة، تتمثل في شباب في ريعان الصبا، وشواب في عمر الورود، كوكبة كريمة من الفتيان والفتيات، أتت هذه الكوكبة من جديد لتمشي على الطريق التي مشى عليه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، تسري هذه الكوكبة بدعوته بين الصخور والحجارة كسريان الماء، وتنزلت في بقاع الأرض كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، إنه وعد الله، ويحلو لي أن أنشد: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طابت ثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من قد حولوا البوسنا رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تدفقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخا ولسوف تبقى باتباعك أسمقا إننا نرى الصحوة في كل بقاع الأرض، لا نراها في مصر فحسب، أسأل الله أن يحفظ مصر، وأن ينمي الخير في مصر، فوالله إن الخير في مصر، لا نرى الصحوة فقط في مصر، بل ولا في البلاد الإسلامية فقط، وإنما نرى الصحوة في بلاد الكفر، بل على ظهر قلعة الكفر في الأرض (أمريكا!).
أشهد الله -من باب البشارة والله أعلم بنيتي- أنني كنت منذ شهر تقريباً أخطب الجمعة في مسجد الفاروق في بروكلين في نيويورك، وهاهو أحد إخواننا ممن صلى معي الجمعة هناك يشرفنا الآن، فقد زارنا في الله، فجزاه الله خيراً، والمسجد أربعة طوابق، وأعلن الإخوة عن خطبة الجمعة في التلفاز وفي المساجد، فأقبل إلى المسجد المسلمون، وجاء بعضهم من ولايات تبعد عن المسجد بأربع ساعات بالطائرة! والله يا إخوة! رأيت بعيني أن الإخوة قد فرشوا للمصلين خارج المسجد، قلت: وعد الله عز وجل، حتى قلت للإخوة وأنا على المنبر: لا أشعر الآن أنني أخطب في أمريكا على تراب قلعة الكفر في هذه الأرض، وإنما أشعر أنني أخطب بين الموحدين في مصر! وعد الله، الصحوة الآن أكبر حدث إنساني في النصف الثاني من القرن العشرين، وأقول لكم بملء فمي، بلغة يحدوها الأمل، وبقلب يملؤه اليقين: إن هذه الصحوة قد بدأت بالفعل تنقل الأمة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة، شبابنا الآن يتكلم عن اليهود، شباب الصحوة الآن يعرف تاريخ اليهود الأسود، شباب الصحوة الآن يعرف الولاء والبراء، شباب الصحوة الآن يعرف هذه الشلة التي لمعت، وأحيطت بهالة من الدعاية الكاذبة؛ لتغطي هذه الهالة الدعائية انحرافهم، هؤلاء الذين ربوا في مدارس أعداء الدين، ثم عادوا إلينا لينفثوا سموم فكرهم العفن النتن، شبابنا الآن يعرف حقيقة هؤلاء من أمثال: المصلح الاجتماعي الأول للأزهر، من أمثال عميد الأدب العربي، إلى آخر هؤلاء، فشباب الصحوة الآن يعرف حقيقة تاريخهم الأسود.
انتقلت الأمة في غالبها على أيدي شباب هذه الصحوة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة.
ثم انظروا أيها الآباء الكرام وأيها الشباب الأخيار إلى دعاتكم وشيوخكم الذين يبصرونكم الآن ويعلمونكم على مستوى العالم، سترون أن الغالبية من هؤلاء هم من الشباب، وعد الله عز وجل، فلا ينكر الآن الصحوة إلا من عمي بصره بعد أن عميت بصيرته، الصحوة الآن هي محط الحديث، ومحور الحديث على مائدة المفاوضات لكل زعماء العالم، إن اجتمع زعماء الغرب، إن اجتمع زعماء الشرق، إن اجتمع زعماء العالم العربي، فالصحوة هي محور حديثهم، وإن كان الإعلام يتحدث عن الصحوة بلغة التفرق والإرهاب والأصوليين والمتطرفين والإرهابيين، فإن الحديث في الأصل عن الصحوة وعن شباب الصحوة، أسأل الله أن يبارك فيها، وأن ينقيها، وأن يجعلها غصة في حلوق المجرمين والمنافقين، وأن يرد الأمة على أيدي شبابها رداً جميلاً إليه، إنه هو مولانا ورب العالمين.(108/3)
الخلاف أعظم عقبة تقف في طريق الدعوة
أصارحكم -أيها الأحباب- أن هذه الصحوة إن لم يمتن ربنا عليها بحداة صادقين، وعلماء مخلصين، يصححوا للصحوة ولشبابها الانحراف العلمي، بل والعقدي بل والعملي؛ فيستبدد جهد الصحوة كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، اللهم احفظها يا رب العالمينّ! إن الصحوة تحتاج إلى العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، الذين لا يجاملون الصحوة على حساب المنهج، يقف الداعية ناصحاً وإن ظن أن أحبابه وطلابه سيغضبون عليه فليعلم يقيناً أنه لا يعمل لحساب مخلوق، إنما يعمل من أجل مرضاة الخالق، لو خشيت أن تقول خوفاً من أن تتهم؛ فصحح الأوبة وجدد التوبة، فإنك تحتاج إلى صدق نية، وإخلاص سريرة، وتصحيح عمل.
ولا يكاد يختلف اثنان ممن يعملون الآن للإسلام أن العقبة الكئود التي تقف في طريق الصحوة، وفي طريق الحركة الإسلامية هي الخلاف، التشرذم، التهارج، فالخلاف شر وعذاب، ويكفي أن تعلم أن الذي حذر من ذلك هو الملك التواب، وحذر من ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] فالفشل قرين التنازع، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فالتنازع يبدد القوى، التنازع يبدد الجهود ولو كانت جبارة.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:105 - 106] قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدعة والاختلاف، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107]، اللهم بيض وجوهنا يوم تسود الوجوه، واجعلنا من أهل رحمتك يا أرحم الراحمين! وقال الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، الخلاف شر، وأود أن أنبه أحبابي من طلاب العلم ومن الدعاة إلى حديث باطل يتردد في الغالب على ألسنة البعض، ألا وهو (خلاف أمتي رحمة)، فهذا حديث باطل لا أصل له، فالخلاف شر وعذاب.(108/4)
أنواع الخلاف
يحسن بنا أن نبين أنواع الخلاف؛ حتى لا ينسحب هذا الحكم على نوعي الخلاف، وهذا هو العنصر الثاني من عناصر المحاضرة، فالخلاف نوعان: النوع الأول: خلاف في أصل الملة، وهذا هو الذي قال الله عنه: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] اتفق على ذلك أئمتنا كـ ابن تيمية والشاطبي والحافظ ابن رجب والإمام ابن حزم وغيرهم من أهل الأحكام وأهل الأصول، قالوا: الخلاف الوارد في الآية إنما هو خلاف في أصل الملة، فمن خالف التوحيد كان أهلاً لعذاب الله، وخرج من رحمة الله، فكل فرق الضلال التي خرجت عن القرآن والسنة خارجة عن رحمة الله، وهي أهل لعذاب الله، فتدبر معي جيداً.
إذاً: هذا هو النوع الأول من أنواع الخلاف، وهو خلاف في أصل الملة، فكل فرق الضلال كالخوارج، كالقاديانية، كالبهائية، كالرافضة بطوائفها، كل فرق الضلال التي شذت عن القرآن وسنة سيد الرجال فهي التي خرجت عن رحمة الكبير المتعال، وهي أهل لعذاب الله عز وجل، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، فمن كان على القرآن والسنة فهو أهل للرحمة، ومن شذ عن القرآن والسنة فهو أهل للعذاب وللنقمة.
النوع الثاني من أنواع الخلاف: الخلاف في الفروع والمسائل الاجتهادية، وهذا باتفاق أئمة السلف أنه لا إشكال فيه، ولا غضاضة فيه، بل لقد أثبت الله لأهله محض الرحمة، فأول من اختلف في الفروع والمسائل الاجتهادية هم أصحاب خير البرية، وقد حصل لهم محض الرحمة من رب البرية جل وعلا.
تدبر معي جيداً: الخلاف في مسائل الفروع، الخلاف في المسائل الاجتهادية لا يخرج أصحابه من رحمة رب العباد، أما الخلاف المذموم فهو الخلاف في أصل الملة، الخروج عن أصل التوحيد وعن سنة محرر العبيد، أما الخلاف في مسائل الفروع، في مسائل الاجتهاد؛ فلا غضاضة في ذلك ولا إشكال، فلقد اختلف خير الرجال من أصحاب سيدنا رسول الله في بعض المسائل الاجتهادية، وقد حصلت لهم محض رحمة رب البرية، فهم أهل الرحمة باتفاق أئمة السنة والجماعة.
فقس على نوعي الخلاف حتى لا تختلط بين يديك الأوراق: خلاف في أصل الملة وهو شر كله، وخلاف في المسائل الفرعية والاجتهادية، ولا إشكال في هذا النوع من أنواع الخلاف.(108/5)
أسباب الخلاف
يجب أن نعلم ما هي الأسباب التي أدت إلى وقوع هذا الخلاف؟ وهذا هو العنصر الثالث من عناصر المحاضرة، وأنا أقصد: أسباب الخلاف الثاني الخلاف في الفروع ومسائل الاجتهاد فأسباب الخلاف هي: السبب الأول: طبيعة البشر، أتحداك أن تخرج لي من هذا الجمع الكريم المبارك رجلين يتشابهان في كل شيء! محال أبداً، طبيعة البشر الأصل فيها الاختلاف، فالبشر على ظهر البسيطة يختلفون في طبيعتهم، في ألوانهم، في بشرتهم، في لغتهم، في قلوبهم، في ذكائهم، في فكرهم، في فهمهم، في صفائهم، في استقبالهم للمعلومات، في بصمة بنانهم، بل وفي أصواتهم، لا يتفق اثنان على ظهر الأرض اتفاقاً كاملاً في كل شيء أبداً، تدبر معي قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] فالاختلاف مراد لرب العالمين في هذه الطبائع بنص القرآن الكريم.
(وَمِنْ آيَاتِهِ) جعل الله الاختلاف في طبيعة البشر آية للعالمين، أي: لأهل العلم الذين يتفكرون ويتدبرون، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) فهذا عربي، وهذا عجمي، وهذا فرنسي، وهذا هندي، وهذا كذا وهذا كذا، (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) فالبشر يتفاوتون، وإذا كان ذلك كذلك فمحال أن يتلقى المعلومة مني الآن فلان كما تلقاها فلان، ولو تلقوها جميعاً بمفهوم واحد فستختلف النتائج، كل له فكره، كل له فهمه، كل له استيعابه، كل له إدراكه، كل له طبيعته، كل له خصائصه، فطبيعة البشر سبب رئيسي من أسباب الخلاف بين الناس.
ثانياً: عدم بلوغ الدليل، قد يبلغني دليل وقد لا يبلغ الدليل شيخاً آخر من المشايخ، فتأتي فتواي مخالفة لهذا الشيخ المبارك، لماذا؟ لأنه قد بلغه دليل أفتى به، ولم يبلغني دليله الذي أفتى به فأخالفه، وقد وقع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل لقد غاب عن جمع من أصحاب رسول الله كثير من الأدلة وهم الذين كانوا يعايشون النبي، ويسمعون النبي، مع أنهم لا يتلقون العلم إلا عن معلم واحد، فما ظنك بأناس يتلقون العلم على يد آلاف العلماء، فلابد أنه سيختلف الفهم ويتشعب، كان عمر بن الخطاب مع أصحابه وهو في طريقه إلى الشام سمع بالطاعون، فانقسم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى فريقين: الفريق الأول يقول بالدخول إلى أرض الشام، والفريق الثاني يقول: لا يجوز لنا أن ندخل إلى الأرض ما دمنا لم نكن فيها، وكان على رأي الفريق الثاني الذي أبى الدخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال حينما قال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! تفر من قدر الله؟ فقال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وهذه المقولة الجميلة قمة الفقه، والشاهد أن الصحابة اختلفوا، فريق يأبى الدخول، وفريق يأمر بالدخول وغاب الدليل في هذه المسألة عن عمر، بل وعن جمع كبير من أصحاب النبي المختار صلى الله عليه وسلم، حتى جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال لهم: لقد سمعت في ذلك حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يقول: (إذا وقع الطاعون في أرض ولستم بها فلا تدخلوا إليها، وإذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) والحديث رواه البخاري ومسلم.
والشاهد: أن عمر وعدداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغهم الدليل الذي ذكرهم به عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم جميعاً، فعدم بلوغ الدليل كان سبباً في الخلاف.
ثالثاً: عدم العلم بنسخ الدليل، قد يخطئ صحابي من الصحابة في مسألة فيأخذ بدليل معين وهو لا يدري أن هذا الدليل قد ورد دليل آخر ينسخه، سواء كان هذا الدليل من القرآن أو من السنة، مثل حديث: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فنسخ النبي عليه الصلاة والسلام الحكم الأول وهو النهي عن زيارة القبور بدليل آخر يسمى بالدليل الناسخ، فعدم بلوغ الناسخ والمنسوخ للمفتي قد يكون سبباً من أسباب الخلاف.
رابعاً: النسيان، وجل من لا ينسى، والنسيان أمر يعتري البشر على وجه الأرض، بل إن النسيان اعترى النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، ورد في مسند أحمد وسنن الترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً في الصلاة فنسي آية، فلما سلم تذكر الآية، فقال لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (يا أبي! هلا ذكرتني بها!) يعني: تذكرني بالآية وأنت في الصلاة، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون).
فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، فقد أنسى دليلاً، وقد تنسى دليلاً، فأقول بقول يخالف ما عندك من الدليل؛ لأني نسيت دليلك الذي تستدل به، وقد نسي عمر بن الخطاب حديث التيمم الذي ذكره به عمار بن ياسر، والحديث طويل مشهور، فالنسيان سبب من أسباب الخلاف، بل أنت قد تنسى أمراً في بيتك فتختلف بسببه مع زوجتك، وقد تنسى زوجتك أمراً فتختلف معك، فالنسيان أمر يعتري البشر جميعاً.
خامساً وأخيراً: من أسباب الخلاف اختلافهم في فهم المراد من الدليل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) هذا دليل صريح واضح، ومع ذلك اختلف الصحابة في فهم الدليل، فانقسموا إلى فريقين: فريق صلى العصر في الطريق، وقال: ما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، إنما أراد أن يحثنا على الخروج لمقاتلة بني قريظة.
والفريق الآخر قال: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فلن نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو دخل وقت المغرب، فانقسم الصحابة، وكان سبب الخلاف أنهم اختلفوا في فهم المراد من الدليل.(108/6)
فهم الأدلة فضل يؤتيه الله من يشاء
الفهم للأدلة فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فهم الدليل لا يوزن بالأعمار، ولا يوزن بالسبق في طلب العلم، لكن يقاس ويوزن بالصدق، فأخلص يفتح الله عليك: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} [البقرة:282] لا تستهينوا بأمر التقوى في طلب العلم، كان ابن تيمية طيب الله ثراه إذا استشكلت عليه مسألة من المسائل أقام الليل لله جل وعلا وسجد بين يدي الله، وبلل الأرض والثرى بدموع الخشوع والتذلل والتضرع للملك، وسأل الله عز وجل بهذا الدعاء الكريم فقال: يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني! تضرع إلى الله، والله لو علم الله منك الإخلاص والصدق لفتح عليك من كنوز فضله بما لا يمكن على الإطلاق أن يعبر عن هذا الفتح بلغة بليغ أو فصاحة فصيح، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
غضب كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر كيف يأذن لـ ابن عباس رضي الله عنهما أن يدخل مع مشايخ أصحاب رسول الله في مجلس الشورى، ومن أبنائهم من يكبر ابن عباس! فأراد عمر أن يبين لهم أن الأمر لا يقاس بالأعمار، ولا يقاس بالسبق، إنما يقاس بالصدق، وذلك فضل الغفار يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فأراد عمر أن يبين لهم ذلك، فسأل الصحابة عن سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] قال لهم عمر: ما تقولون في هذه الآيات؟ فقالوا: نقول فيها: إن الله يأمر نبيه إن نصره وفتح عليه مكة أن يكثر من الاستغفار والتوبة، فالتفت الفاروق الملهم إلى ابن عباس وقال: ما تقول أيها الشاب الكريم في هذه الآيات؟ فالتفت ابن عباس إلى عمر وقال: أقول فيها بخلاف هذا يا أمير المؤمنين، أقول: إن الله قد نعى بهذه السورة لرسول الله أجله.
يعني: قد أتم الله عليك النصر، وأكمل لك الدين، وأتم بك النعمة؛ فاستعد للقاء الملك.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3] أي: أكثر من العمل الصالح، وداوم على الاستغفار، واستعد بعدها للقاء الملك الغفار.
فهم عجيب! {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
قصة أخرى: كاد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يرجم بريئة اتهمها البعض بالزنا؛ لأنها وضعت ولدها لستة أشهر، فقال علي بن أبي طالب: رويداً يا أمير المؤمنين! فإني أرى أن الله عز وجل قد ذكر في قرآنه أن المرأة قد تضع ولدها لستة أشهر، قال: أين ذلك يا علي وقد قرأت القرآن من أوله إلى آخره وما وقفت على هذه الآية؟! قال: اقرأ قول الله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة:233] فهذه أربعة وعشرون شهراً، والآية الأخرى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15] اخصم أربعة وعشرين من ثلاثين يبقى ستة شهور، قال: جزاك الله خيراً يا أبا الحسن! فهم يؤتيه الله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.(108/7)
أدب الخلاف
العنصر الرابع من عناصر المحاضرة: أدب الخلاف، بعد ما توقفنا عند خطورة الخلاف، وذكرنا نوعي الخلاف، وأسباب الخلاف، نذكر أدب الخلاف، وما أحوجنا إلى أدب الخلاف، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم الصدق والعمل.
الأمة تعاني من الفرقة، تعاني من الشقاق، تعاني من الخلاف، وأقول: لو اجتمع زعماء العرب كل ليلة، فلن تلتقي الصفوف، ولن تلتقي القلوب، ما دامت الأمة -على أيدي زعماء العرب- قد نحت شريعة ربها، لن تلتقي القلوب إلا على مصدر التلقي، ما هو مصدر التلقي وأصل اللقاء؟ القرآن والسنة، والله لن تلتقي الأمة إلا على هذا الطريق، والله مهما شرقت وغربت وخضعت وسجدت فلن تلتقي صفوف الأمة، ولن تتوحد كلمتها، ولن تأتلف قلوب أبنائها إلا إذا التقت الأبدان بعد القلوب على كلام علام الغيوب، وكلام الحبيب المحبوب {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فالسبل ضلال، والصراط المستقيم نجاة وسعادة وفلاح في الدنيا والآخرة.
(خط النبي عليه الصلاة والسلام خط على الأرض خطاً مستقيماً وقال: هذا صراط الله مستقيماً، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً متعرجة وقال: هذه سبل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) فاختر لنفسك أن تسلك طريق الرحمن أو طريق الشيطان، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم سلوك طريق الرحمن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(108/8)
عدم التعصب
أول أدب من أدب الخلاف: نبذ التعصب للأشخاص والجماعات.
يا إخوة! الدكتور بدير والشيخ أبو إسحاق، والشيخ محمد يعقوب، والشيخ مصطفى العدوي، ومحمد حسان، وشيوخنا الكبار: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ناصر، والشيخ ابن عثيمين، كل هؤلاء إلى فناء وإلى زوال، فالدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون، وتبقى الدعوة خالدة على مر الأجيال والقرون، فاجعلوا ولاءكم لله، ولا تجعلوا ولاءكم لأشخاص الدعاة.
يا شباب الصحوة! اجعلوا ولاءكم لله لا لأشخاص الدعاة، الدعاة إلى زوال، قد أسجن، قد أمرض، سأموت، فهل تتوقف الدعوة؟! إذا سافر الدكتور بدير هل تتوقف الدعوة؟ لا، ثم لا، ولو توقفت الدعوة بموت دعاتها لماتت دعوة الإسلام بموت سيد الدعاة.
ماذا قال صديق الأمة يوم أن جاء من منزله بالسنح، ورأى الجموع الملتهبة تصرخ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وحول حجراته الطاهرات، فكشف الغطاء والبردة عن وجه الحبيب الأزهر الأنور، وقبل الحبيب بين عينيه، وبكى وقال له: طبت حياً وميتا ًيا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم، وخرج الصديق لينادي في تلك الجموع: على رسلك يا عمر! والتف الناس حول صديق الأمة، وأعلنها مدوية: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
انبذوا العصبية للشيوخ، انبذوا العصبية للجماعات كلها، والله لا ندين الله بلافتة أو باسم جماعة، والله لا ندين الله بهذا، قال ابن القيم: إن سألوك عن شيخك فقل: شيخي رسول الله، وإن سألوك عن جماعتك فقل: {هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ} [الحج:78] وإن سألوك عن منهجك فقل: الكتاب والسنة، وإن سألوك عن بيتك فقل: إن بيوت الله في الأرض المساجد.
انبذوا العصبية للجماعات، انبذوا العصبية للشيوخ، اقبلوا الحق على لسان أي أحد، وردوا الباطل على لسان أي أحد، إذا كانت الجماعة الفلانية عندها حق، فضع الحق على رأسك، أو كانت جماعتك التي تنتمي إليها عندها باطل، فاضرب بباطلها عرض الحائط، هذا أول أدب ينبغي أن نؤصل عليه، والله لا أملّ من أن أكرره وأذكر به، وسأكرر وسأذكر به، بل وأدعو جميع إخواني من الشيوخ والدعاة أن يكرروا وأن يذكروا به، وأن يؤصلوا في قلوب شبابنا وطلابنا نبذ العصبية لجميع المشايخ ولجميع الدعاة، ليكون الولاء لدين الله عز وجل ولدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
جاءك الشيخ فلان يقول: قال الله قال رسول الله، اجلس تحت قدميه، لا تقل: من هذا؟ بل قل: ماذا يقول هذا؟ يقول: قال الله قال رسوله قولاً صحيحاً عن رسول الله ليس مبتدعاً، ليس صاحب فكر منحرف ضال، اجلس تحت قدميه وتعلم، لا تقل: أنا لا أحضر إلا لفلان! انبذوا هذا التعصب، وتخلصوا من هذا الأمر أيها الأخيار الكرام، وبلغوا هذا الكلام لكل شباب الصحوة، اعرف الحق تعرف أهله، نكرر هذا مئات المرات! اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق.
التعصب البغيض يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، أقول: يا أخي! قال الله عز وجل وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: لكن الشيخ فلان قال كذا وكذا، أعوذ بالله! أقول لك: قال الله وقال رسول الله، وتقول لي: قال الشيخ فلان! أمر عجب! ابن عباس يقول لخير الناس بعد الأنبياء -للصحابة-: أقول لكم قال رسول الله وأنتم تقولون قال أبو بكر وعمر؟! ابن عباس ينكر، وأنا والله لا أعلم قولاً واحداً خالف فيه أبو بكر وعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعصب البغيض يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، ولو كان كالشمس في وضح النهار، قال الإمام الأصولي الفذ العلم الشاطبي في كتابه الاعتصام: ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال، وخرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، فاتبعوا أهواءهم بغير علم، وضلوا عن سواء السبيل.
وقال بركة الأيام، وحسنة الزمان، وإمام الأئمة الأعلام، ابن تيمية طيب الله ثراه -واحفظوا هذا الكلام، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم العمل به- قال: ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاماً يدعو إليه ويوالي ويعادي عليه غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، ومن فعل هذا فقد فعل فعل أهل البدع والأهواء.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في موضع آخر في مجموع الفتاوى: من تعصب لواحد من الأئمة بعينه دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة بعينه دون الباقين، كالرافضي الذي يتعصب لـ علي، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي، من فعل ذلك فقد فعل فعل أهل البدع والأهواء.
أيها الأحباب! لا يجوز التعصب، بل تنظر ماذا يقول الشخص، ثم تعرض كلامه على القرآن والسنة، فإن وافق القرآن والسنة فضع قوله على رأسك.
أعجب من أحد طلابنا الصغار حينما كنت أخطب الجمعة في مصر يوم وفاة الشيخ محمد الغزالي، فدعوت الله له بالمغفرة والرحمة، وبعد الجمعة أقبل علي الشاب، وقال لي: يا شيخ! هل يجوز أن ندعو الله للشيخ محمد الغزالي؟! قلت: سبحان الله! ولم يا بني؟! قال: لقد أخطأ في كذا وكذا، قلت له: ائتني بعالم واحد من علمائنا بعد رسول الله لم يخطئ، فلو عاملنا شيوخنا جميعاً بما نريد أن نعامل به الشيخ الغزالي ما بقي لنا شيخ واحد على وجه الأرض لنتلقى العلم على يديه، فلقد مضى زمن العصمة بموت رسول الله، يا أخي! خالف الشيخ في أخطائه وبين أخطاءه بأدب، لكن مَنْ مِن الشيوخ على وجه الأرض لم يخطئ؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل -وكل من صيغ العموم- بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) اللهم ارزقنا التوبة قبل لقاك يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا الحكمة والرحمة، فإن أصحاب القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع الغلظة والقسوة والانتقام، لأنك لا تدري بأي شيء يختم لك، أسأل الله أن يرزقني وإياكم جميعاً حسن الخاتمة، وأن يختم لنا ولكم بخاتمة التوحيد والإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إذاً: أول أدب من آداب الخلاف: نبذ التعصب للأشخاص وللجماعات.(108/9)
الإخلاص والتجرد من الأهواء
ثانياً: الإخلاص والتجرد من الأهواء، والله الذي لا إله غيره لن يقبل الله منك كلمة ولا حركة إن لم تبتغ بها وجهه، ولو ملأت الدنيا ضجيجاً.
يا أخي! سل نفسك: أنت تناقشني أمام الناس، الله عز وجل وحده يعلم بنيتك، هل تريد إحراجي؟ هل تريد النصح لي؟ هل التزمت أدب النصيحة؟ هل تريد البيان لي؟ هل تريد السمعة؟ هل تريد الشهرة؟! لو خدعتني وخدعت الخلق فلن تخادع الخالق، فتش في النية، لماذا أتيت أنت الآن إلى هذا المسجد؟ ما هي نيتك؟ هل خرجت لله أم لسبب آخر يعلمه الله؟ الإخلاص، إن ناقشت أحد إخوانك ففتش عن نيتك قبل أن تتكلم، هذا يريد الزعامة، هذا يريد الصدارة، هذا يريد الشهرة، هذا يريد المال، هذا يريد المنصب، هذا يريد الجماعة، لو صدقنا الله عز وجل ونقبنا لرأينا أن الهوى كان سبب معظم الخلافات على أرض العمل الإسلامي، الهوى ملك ظلوم غشوم جهول، يصم الآذان ويعمي الأبصار، وقد حذر الله عز وجل منه نبياً من أنبيائه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]، وفي الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن، وهو حديث حسن، قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة، رجل عرف الحق وحكم به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار) أنت تجهل الأدلة، ومراتب الأدلة، ومناطات الأدلة، فلماذا تتكلم في دين رب البرية جل وعلا؟! قاض عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، وقاض عرف الحق وحكم بخلافه فهو في النار، يا رجل! أنت تعرف الحق، وتعرف الدليل! سبحان الله! يفتح المراجع، إذا ظهر له بين يديه في المرجع دليل يخالف قوله يخبئه؛ لأنه ليس له، عرف الحق وقضى بخلافه، والله إن هذا السبيل يمرض القلوب.
وهناك ممن يعملون بالدعوة لا وظيفة لأحدهم إلا أن يجلس ليترصد أخطاء الدعاة، هذه وظيفته! تخيل محاضرة مثل هذه فيها عشرات الآلاف من الكلمات، قد أزل في كلمة منها، يطلع ويقول: سمعت الشيخ قال كذا؟! ويدق الطبول، ويشنع لهذه الكلمة، أو لهذه الجملة أو الفقرة.
سبحان الله يا أخي! لماذا لم تأتني إن كنت صادقاً في النصيحة، والله لو صدقت الله لعلمت أنك كاذب، سامحوني! أين النصيحة أين آدابها أيها الناصح؟! يجلس عالم في مجلس علم وهو لا يدري كم جلس هذا الرجل ليعد المحاضرة بالساعات، بل بالأيام، بل والله بالأسابيع، وأمام كلمة زل فيها لبشريته، لا يخرج من هذا المجلس كله إلا بها! هذا قمة الظلم، أين الإنصاف؟! أين العدل؟! يقول ابن تيمية: من حكم على الناس بغير علم فقد خالف قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، ومن حكم على الناس بغير عدل فقد خالف قول الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] تكلم في الناس بعلم وعدل، تكلم في المناهج بعلم وعدل، تكلم عن الشيوخ بعلم وعدل، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم العلماء إلا عالم، وأرى أنه لا ينبغي أن يقيم الشيوخ إلا شيخ، وأرى أنه لا ينبغي أن يجرح العلماء إلا عالم بالجرح والتعديل.
اعلم -يا أخي- وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب.
رحم الله الحافظ ابن عساكر، فهو قائل هذه الكلمات، فمن بركة العلم أن ننسب العلم إلى قائليه.
الإخلاص والتجرد عن الأهواء: تجرد عن الهوى، أخلص في النصيحة، ولتكن بأدب وبحكمة وبرحمة، وإن كنت صادقاً فانطلق مباشرة إلى الشيخ الذي أخطأ، وبين له الخطأ بأدب، لا تدق الطبول بزلة أو بخطأ، ورحم الله من قال: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإخلاص والتجرد من الأهواء من أعظم الآداب التي يجب أن نتأدب بها في حالة الخلاف، فإذا خالفتكم في مسألة، أو خالفتوني في مسألة من الفروع، فلا بأس، ومحل بحثنا هو عن النوع الثاني من أنواع الخلاف، خلاف الفروع أو مسائل الاجتهاد، فإذا خالفتك فيها، وأردت أن تناقشني في هذه المسألة، فناقشني بالإخلاص، وصحح النية، وأنا أصحح نيتي، أنا أريد الحق، وأنت تريد الحق، كما قال الشافعي: والله ما ناظرت أحداً إلا ودعوت الله أن يجري الحق على لسانه.
وهذه قمة التجرد.
وفي نفس المكان الطيب الطاهر هذا ألقيت خطبة جمعة بعنوان: تجرد وعدل وإنصاف، وبينت فيها كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على قمة التجرد والإخلاص، والله ما انتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، ولن ينتصر الإسلام إلا بهذه القلوب المخلصة، وسامحوني أن أذكركم مرة أخرى بل وللمرة الألف ما كان من خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، يعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد عن قيادة الجيوش في الشام، أبو بكر الصديق يرسل لقائد الجبهة أبي عبيدة ويقول له: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد، فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، والله ما وليته عليك إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
ويرسل الصديق أمراً إلى خالد، فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة يقول فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمير أبي عبيدة بن الجراح، سلام من الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام للقيام على أمرها، وللتولي لشأن جندها، ووالله يا أبا عبيدة ما طلبت ذلك ولا أردته، فأنت في موضعك الذي أنت فيه، لا نقطع دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
قمة التجرد، قمة الإخلاص.
وتصل الرسالة إلى أبي عبيدة فيتنازل أبو عبيدة عن القيادة لـ خالد بن الوليد، وتبدأ المعركة، ويموت الصديق، ويعزل عمر خالد بن الوليد، ويؤمر أبا عبيدة من جديد، ويخفي أبو عبيدة الرسالة، وقيل: أخفاها خالد، والأمر سواء، فكلاهما على درجة عالية من التجرد والصفاء، وبعد انتهاء المعركة دفع أبو عبيدة الرسالة لـ خالد، فانتقل خالد بن الوليد على الفور من القيادة وتركها لأخيه أبي عبيدة ليكون خالد جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً.
قمة التجرد يا إخوة، ناقشني بتجرد وإخلاص، ادع الله أن يكون الحق معي، وأنا أدعو الله أن يكون الحق معك، فهدفي وهدفك أن يعلو الحق.(108/10)
إحسان الظن بالمخالف وعدم التماس العيب للبرآء
ثالثاً: من أدب الخلاف: إحسان الظن بالمخالف، وعدم التماس العيب للبرآء، أدب عالٍ، أحسن الظن بمخالفك، أنت قد تكون على حق أو باطل، ومخالفك قد يكون على حق أو باطل، فلم يا أخي تزكي نفسك وتتهم غيرك؟ يا إخوة! لا ينبغي أن يزكي واحد منا نفسه على الإطلاق، قال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم:32]، {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل.
أحسن الظن بمخالفك، أنا أخالفك: فأحسن الظن بي، وأنا يجب أن أحسن الظن بك، ما دمت معي على الطريق، أنا أدين الله سلفاً بأنك من أهل السنة والجماعة، فإن خالفتك في مسألة هي محل اجتهاد فيجب علي أن أحسن الظن بك، ويجب عليك أن تحسن الظن بي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)، والحديث في الصحيحين، وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، يا أخي! لا تظن بأخيك إلا خيراً، أخوك معك على طريق الدعوة، فيجب عليك أن تظن بالمسلمين خيراً، فما ظنك بأخيك الذي يتحرك معك للدعوة على الطريق؟ {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12] هذا هو الأصل.
فالأصل أن يظن المسلم بأخيه خيراً، وأن تظن المؤمنة بأختها خيراً، فما ظنك بأخ داعية يمشي معك على الطريق؟ فيجب عليك أن تظن به خيراً، (إياك والظن، فإن الظن أكذب الحديث) ولا تنقب عن عيوب للبرآء، قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم: ظن السوء بمن ظاهره الصلاح يحرم في دين الله.
أي: إذا وجدت أخاك على ظاهر طيب، وعلى خير؛ فلا يجوز لك أن تنقب وأن تفتش وأن تبحث وأن تنظر من النافذة! وأن تنظر من تحت الأرض! ما عليك هذا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] لماذا تلتمس العيب لأخيك؟ لماذا لا تجتهد أن تشكر أخاك بدلاً من أن تنقب عن عيوبه؟! ما دام أن أخاك في الظاهر على الخير؟! لا تتهم إلا من كان في الباطل وعلى الباطل وفي البدعة وعلى البدعة، فهذا قد أوقع نفسه في موضع الشبهات، فهو حري أن يتهم، لكنك ترى أخاً من إخوانك يحرص على السنة، لكن زل لبشريته وضعفه، فاستر عليه، وهذا باتفاق أهل السنة، استر على من ظاهره الصلاح، استر على من يستحي أن يظهر معصية أمام الناس؛ لأنك لو أظهرت معصيته انفض الناس عنه إن كان من أهل الدعوة أو من أهل القرآن أو من أهل الخير، فما دام الرجل حريصاً على ألا يفضح نفسه فلا تفضحه، وادعه بالحسنى والحكمة إلى أن يتوب إلى الله، وأن يدع المعصية التي وقع فيها ورأيته عليها، فإن كل بني آدم خطاء كما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام.
تدبروا هذا الحديث الطيب الذي خرج من صاحب القلب الطيب، وصاحب الكلم الطيب، والحديث صححه الألباني، وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته) تدبر! والله لو خرجت الليلة من المحاضرة بهذا الحديث لخرجت بخير عظيم وفير، أسأل الله أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة.(108/11)
عدم التهاجر والتقاطع
رابعاً: من أدب الخلاف عدم الهجر والقطيعة بعد الخلاف، إن خالفتك في مسألة فرعية فلا يجوز لي أن أهجرك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الرابع والعشرين من مجموع الفتاوى: الاختلاف في الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.(108/12)
مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة
وأختم أدب الخلاف بهذا الأدب الكريم الهام، ألا وهو: مناقشة المسألة الخلافية بالحكمة والرحمة، بالتي هي أحسن، ناقش معي المسألة الخلافية التي تخالفني فيها، وأنا أناقشها معك بحكمة ورحمة، وبالتي هي أحسن، تدبر معي قول الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وهل الجدال -يا رب- في المسائل يكون بالحسنى؟ لا، بل قال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] يعني: لو وجد حسن وأحسن فالدعوة تكون بالحسن، والجدال يكون بالأحسن {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، هذه للدعوة، أما الجدال فقال فيه: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
جادل أخاك في مسألة من مسائل الاجتهاد بالتي هي أحسن، بالحكمة والرحمة، قال ابن القيم: الحكمة هي قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.
وناقشني وأنت رحيم بي، لا تسفه أخاك، لا تتكبر على أخيك، لا تظن أنك المتبع وهو المبتدع، لا تر في نفسك أنك التقي وهو الشقي، لا تنظر إلى نفسك أنك الطائع وهو العاصي، لا تنظر إلى نفسك أنك العالم وهو الجاهل، لا يا أخي! جادلني برحمة، جادلني بحب، جادلني بحكمة، جادلني بالتي هي أحسن وسينتهي الخلاف إن شاء الله تعالى بالحب، ولو خرجت أنا وأنت بعد مناقشة المسألة ولم نلتق، فكلانا إن شاء الله مأجور، مع أن واحداً منا على خطأ، والآخر على صواب، ومع ذلك فكلانا مأجور (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
أيها الأحبة الكرام! هذا ما وددت أن أبثه لإخواني وأحبابي، وسامحوني إن كررت عليكم هذا الدرس مرة ومرة ومرة ومرة، فسأكرره، وسأذكر به، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا رحماء فيما بيننا، وأن يجعلنا أشداء على أعدائنا، وأن يرزقنا وإياكم العفاف والتقى والغنى، ويمتعنا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم ألف بين قلوبنا ووحد صفنا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.(108/13)
أصول التربية [1]
بُعث النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، فكانت دعوته تزكية لهذه الأمة، وتربية لها على الأخلاق الفاضلة، ولما تخلق المسلمون بهذه الأخلاق سعدوا في الدنيا والآخرة، وفي الأزمنة المتأخرة تنكب المسلمون عن هذه الأخلاق، فحصدوا الذل والهوان والشقاء.(109/1)
أهمية التربية الإسلامية وأسباب الحث عليها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الأول مع هذه السلسلة المنهجية الجديدة، والتي عنونت لها: بأصول التربية في سورة لقمان، واسمحوا لي أيها الأحبة الكرام! قبل أن نبدأ حديثنا عن هذه الأصول الواردة في السورة الكريمة أن نقدم بمقدمة ضافية في أصول التربية بين يدي حديثنا عن هذا الموضوع الهام الكبير، وأستطيع أن ألخص لحضراتكم أهم عناصر هذه المقدمة التي سأتكلم فيها إن شاء الله جل وعلا عن النقاط التالية: أولاً: أسباب اختياري لهذا الموضوع.
ثانياً: تأصيل الموضوع وتقعيده بالوقوف مع المعنى اللغوي لمفرداته.
ثالثاً: مصادر التربية الإسلامية، وهي: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومنهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
رابعاً: خصائص التربية الإسلامية، وتتمثل فيما يلي: أولاً: الربانية.
ثانياً: التكامل والشمول.
ثالثاً: الاعتدال والتوازن.
رابعاً: التميز والمفاصلة.
خامساً -من عناصر المقدمة-: وسائل التربية، وتتمثل أهم هذه الوسائل فيما يلي: التربية بالقدوة، والتربية بالعبادة، والتربية بالقصص القرآني والنبوي، والتربية بالأحداث الجارية، والتربية بالموعظة، وأخيراً: التربية بالعقوبة.
سادساً -من عناصر المقدمة-: صفات المربي ومسئوليات المربين، وأهم صفات المربي هي: ربانية الهدف، الإخلاص، الصدق، الصبر، التزود بالعلم، العدل، وعي الاتجاهات الفكرية والتربوية العالمية المعاصرة، ومدى تأثيرها على العقول.
أما عن أهم مسئوليات المربين فهي تتمثل فيما يلي: أولاً: مسئولية التربية الإيمانية.
ثانياً: مسئولية التربية الخلقية.
ثالثاً: مسئولية التربية النفسية.
رابعاً: مسئولية التربية العقلية.
خامساً: مسئولية التربية الجسمية والجنسية.
وأخيراً -من عناصر المقدمة-: الهدف من التربية.
هذه هي أهم عناصر المقدمة التي سأقدم بها إن شاء الله جل وعلا بين يدي هذا اللقاء الهام الخطير، ألا وهو أصول التربية في سورة لقمان، وأستهل هذه السلسلة في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله تبارك وتعالى بأهم الأسباب التي أدت إلى اختياري لهذا الموضوع.
وبداية أضرع إلى الله جل وعلا أن يجعل هذه السلسلة مباركة نافعة، وأن يرزقني وإياكم الإخلاص والقبول، وأن يجنبني وإياكم الزيغ والزلل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(109/2)
الانفصام بين المنهج والواقع
أما عن أول عناصر المقدمة التي ستحتاج منا إلى أكثر من لقاء، إن قدر الله البقاء واللقاء، فهي أسباب اختياري لهذا الموضوع.
والسبب الأول أيها الأحبة الكرام هو: الانفصام بين المنهج والواقع.
أحبتي في الله! إن المجتمع الذي بنى القرآن الكريم صرحه الشامخ، وأرسى لبناته العظام، على يد مربي البشرية الأعظم، الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا صلى الله عليه وآله؛ إن هذا المجتمع كان مجتمعاً فريداً بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولم تشهد البشرية له نظيراً إلى يومنا في تاريخها الطويل، إنه مجتمع رباه النبي صلى الله عليه وسلم على العبودية الكاملة لله وحده لا شريك له، وتمثلت هذه العبودية الكاملة بالعقيدة الصافية الخالصة امتثالاً عملياً لقول الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، ولقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وتمثلت هذه العبودية الكاملة في العبادة الصحيحة بركنيها: من كمال الذل وكمال الحب لله عز وجل، وبشرطيها من إخلاص لله واتباع لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وتمثلت هذه العبودية -ثالثاً- في تحكيم الشريعة امتثالاً عملياً لقول الله عز وجل: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40]، وتطبيقاً حرفياً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وتمثلت هذه العبودية -رابعاً- بالجانب الأخلاقي والسلوكي، امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، وامتثالاً عملياً لقول الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
إنه مجتمع فريد في كل شيء: في عقيدته، في عبادته، في شريعته، في أخلاقه وسلوكه ومعاملاته، إنه مجتمع رباه القرآن، وطهر باطنه وظاهره، وأخلاقه ومشاعره، وحاطه بسياج من التربية الفذة الفريدة الكاملة، فعاش أفراد هذا المجتمع في واحة من الود الندي، والتسامح الجياش، والحب والإخاء، كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، إنه مجتمع رباه النبي صلى الله عليه وآله وسلم تربية فذة كريمة شاملة كاملة، رباه المصطفى عليه الصلاة والسلام تربية حولت كل هذه الأطر النظرية الإسلامية إلى واقع متحرك، وإلى مجتمع مرئي ومنظور ومحسوس، نقله النبي عليه الصلاة والسلام من أجواء الكفر والحقد والكراهية والعنصرية والقبلية البغيضة، إلى واحة التوحيد، وإلى واحة الحب في الله والإخاء والمساواة وعدم التفرقة، فلا تميز في هذا المجتمع لمن ارتفع على من اتضع، ولا لمن اغتنى على من افتقر، ولا لمن حكم على من حُكِم، لا فضل لأحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما قال ربنا جل وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
وظل هذا المجتمع -أيها الخيار الكرام- هكذا يطاول كواكب الجوزاء في عنان السماء، ظل متمسكاً بكتاب رب الأرض والسماء وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ظل هذا المجتمع هكذا حتى أخذ يبتعد رويداً رويداً عن هذا النبع الكريم، وعن هذا الأصل العظيم، عن نبع عزه ومصدر شرفه، وأصل كرامته وسيادته وقيادته، وراح هذا المجتمع يطرح بين يديه أصل الكرامة والسؤدد؛ ليلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى، فحدث في هذا المجتمع هذا الخلق العجيب، وهذا الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع الحنظل المرير.
ففي الجانب العقدي نرى العقيدة اليوم تذبح شر ذبحة على أيدي أبنائها الذين ابتعدوا كثيراً عن حقيقتها ومقتضياتها، وعن مفهومها الشامل ومقتضاها الشامل، ودخل الفكر الإرجائي في جسد الأمة، فابتعد الناس كثيراً -إلا من رحم ربك- عن صفاء هذه العقيدة الخالصة.
وفي الجانب التعبدي: صرف كثير من أبناء الأمة العبادة لغير الله جل وعلا، وسمعنا بآذاننا من أبناء الأمة الكبار من يقول: إنني ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تنظم شئونه وتدبر حياته! صرفت العبادة لغير الله، ذبح لغير الله، ونذر لغير الله، وطاف المسلمون بغير بيت الله، وحلف المسلمون بغير الله جل وعلا، وقدمت العبادة في كثير من صورها وأجزائها إلى غير الله جل وعلا، إلا من رحم ربك.
وفي الجانب التشريعي: وقع ما لم يكن يخطر لأحد على بال، وقع المنكر الأعظم، والفساد الأخطر الأكبر بتنحية شريعة الله جل وعلا، وتحكيم القوانين الوضعية الفاجرة، التي هي من صنع المهازيل من البشر من شيوعين، وعلمانيين، وديمقراطيين، واشتراكيين، وبعثيين، وعفلقيين وغيرهم، ونحى المسلمون شريعة الله! وقدموا شريعة المهازيل من البشر! الذين تتحكم فيهم الأهواء والشهوات والنزوات، والله جل وعلا رب الأرض والسماوات يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
وفي الجانب النفسي: نرى هزيمة نفسية مدمرة، ونرى الساحة تعج بمسخ مشوه للهوية، وبأغاليط تشوه الفكر وتمسخ التاريخ، وبزعزعة تميت الانتماء في القلوب والعقول.
أما في الجانب الأخلاقي والسلوكي فحدث ولا حرج، فهذا التخلف في الأخلاق، وهذه الانتكاسة في السلوك وفي المعاملات، وهذا الانفصام النكد بين العبادات والمعاملات: في المتاجر والمصانع والمزارع والشوارع والحقول والتجارات وغيرها، هذا الانفصام النكد إنما هو نتيجة حتمية للتخلف العقدي والتعبدي والتشريعي والنفسي مع غياب التربية الإسلامية الصحيحة، مع نسيان قول رسول الله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
وهكذا أيها الأحبة نرى انفصاماً بين المنهج المنير والواقع المرير، ولكن في دياجير هذا الظلام، شاء الله تبارك وتعالى أن يبسط في الأفق نوراً -سأتحدث عنه بعد قليل بإيجاز شديد- فهذا هو أول سبب من الأسباب التي دعتني للحديث عن أصول التربية، وعن الإطالة في المقدمة عن عمد وعن اختيار؛ لأننا نرى هذا ولا ينكر ذلك أحد إلا إذا كان يعيش في برج عاجي! أو جلس ينظر لحال المسلمين من مكتب مكيف مغلق لا يحتك بواقع الناس في شيء.
هذا هو السبب الأول الذي دعاني للإطالة في هذه المقدمة لأصول التربية، ألا وهو الانفصام بين الواقع والمنهج، أو بين المنهج المنير والواقع الحنظل المرير.(109/3)
الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية
السبب الثاني الذي دعاني للحديث بمقدمة طويلة في أصول التربية هو: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية.
أيها الأحبة الكرام! لقد هزمت الأمة المسلمة هزيمة نفسية منكرة يوم أن تخلت عن موكب الهدى، وركب النور، وتنكبت الصراط، وتركت أصل العز والشرف، وراحت تلهث وراء الشرق تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى.
تخلفت الأمة في وقت تقدمت فيه الحضارة المادية المذهلة تقدماً يأخذ العقول ويبهر العيون! ثم أفاقت الأمة بعد هذا التقدم العلمي المذهل، ونظرت إلى هذا التطور العلمي نظرة الملهوف الذي فقد كل شيء، وغدا مستعداً للذوبان في أي بوتقة، لا سيما في بوتقة هذا التقدم المادي المذهل! فراحت الأمة تحاكي هذه الحضارة الغربية الكافرة، ولا تفرق على الإطلاق بين الحضارة المادية العلمية الصناعية، وبين الحضارة التربوية الأخلاقية، وراحت الأمة تحاكي وتقلد دون تفريق إلا من رحم الله جل وعلا، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن!) أي: من غير اليهود والنصارى؟! راحت الأمة تحاكي الكفار محاكاة عمياء، وصرخت أصوات المحررين، وأصوات المجددين، وأصوات المطورين، وأصوات المصلحين، هكذا سماهم أعداء ديننا للي أعناق الناس إلى أفكارهم لياً، ولإرغام أنوف الناس إلى مناهجهم التربوية الخبيثة، فراحوا يصرخون في الأمة بالذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا وإسلامنا، باعتبار أن هذه المناهج هي إكسير السعادة وسر الحياة وبلسم الشفاء لهذه الأمة التي تعثرت في هذا الموقف الخطير! فراحت الأمة تحاكي الكفار دون تفرقة بين الحضارة المادية والحضارة التربوية الأخلاقية.
وبعد تجربة طويلة مريرة، جاءت الأمة في وقت الحصاد لتحصد الفشل الذريع في الجانب التربوي والأخلاقي في كل صوره، وأصبح الذين كانوا ينافحون ويدافعون بالأمس القريب عن المناهج التربوية الغربية أصبحوا يعلمون يقيناً أنهم حصدوا سراباً، وزرعوا شوكاً وحنظلاً، وقطفوا شقاء وتعاسة، فنحن بحق وبكل ثقة -وأقولها برأس يناطح السماء- نحن بحق نملك المنهج التربوي المتكامل الفذ الفريد؛ لأننا نملك الإسلام الذي يملك وحده -بلا منازع- المنهج التربوي المتكامل لكل جزئيات الحياة، نملك هذا المنهج العظيم، وما زال الإسلام شامخاً يعرض نفسه على الإنسانية كلها على أنه وحده هو المخلص للإنسانية من هذا الضيم، ومن هذا الشقاء، بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها طول المشي في التيه والضلال، يعرض الإسلام نفسه كمخلص لهذه الإنسانية كلها؛ لأنه ابتداء وانتهاء منهج الله الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
أيها الخيار الكرام! وفي دياجير هذا الظلام لا أنكر على الإطلاق، كما لا ينكر ذلك على الإطلاق أحد يتابع أحوال الأمة، لا ننكر أن الأمة الآن بفضل من الرحيم الرحمن بدأت تنتقل من أخطر مراحلها، من حالة أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، وهانحن نرى أصدق دليل عملي على كلامي هذا، ألا وهو هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، التي بدأت تنقل الأمة حقيقة من تلك المرحلة التعيسة إلى هذه المرحلة الوضيئة المشرقة، فهانحن نرى بفضل الله جل وعلا صحوة كريمة مباركة بدأت تتنزل بفضل الله في كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الضمأى والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، هانحن نرى ثلة كريمة مباركة من شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، هذه الكوكبة الكريمة التي جاءت لتسير على طريق الدعوة الطويل الضارب في شعاب الزمان من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، جاءت هذه الكوكبة لتمضي على ذات الطريق، مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، تسيل دماء، وتتمزق أشلاء هنا وهناك، ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني، ولا ينثني، ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة، ويقين متكامل أن معه الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزل الله الكتب، ومن أجله أرسل الله الرسل، إنه والله لصبح كريم عظيم جليل مبارك، صبح هذه الصحوة الكريمة المباركة: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طابت ثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من حولوا البوسنة جمراً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تدفقا يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى بالتزامك أسمقا هذه الصحوة الكريمة أيها الأحبة! سبب وأصل عملي لانتقال الأمة من مرحلة أزمة الوعي إلى وعي الأزمة، وهذه الصحوة هي السبب الثالث من أسباب اختياري لهذا الموضوع، وأفصل هذا السبب في وقت وجيز بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(109/4)
الصحوة الكريمة المباركة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! أقول: إن السبب الثالث الذي دعاني لاختيار هذا الموضوع هو هذه الصحوة الكريمة المباركة، فإن هذه الصحوة من أجل أن تكون قوية بنّاءة مثمرة راشدة، فإنها في حاجة إلى منهج تربوي دقيق، يحميها من الانسياح والذوبان في أطر ومناهج مشوشة وملوثة، هذا المنهج التربوي الدقيق المنبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة هو وحده الكفيل -بإذن الله جل وعلا- أن يحفظ لهذه الصحوة ثمرتها، وأن يحفظ لهذه الصحوة جهدها، وأن يحفظ لهذه الصحوة عملها، هذا المنهج التربوي الدقيق المنبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة هو الذي يحفظ جهد الصحوة من أن يضيع كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، وهو الذي يحمي الصحوة من الوقوع في أي تعامل خاطئ مع النصوص العامة أو الخاصة، بالاستشهاد بها في غير موضعها، أو في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة والعامة التي لابد منها حتماً للربط ربطاً صحيحاً بين دلالة النصوص وحركة الواقع.
هذه الصحوة تحتاج إلى هذا المنهج التربوي المتكامل؛ لتستفيد منها الأمة، وليجعل الله تبارك وتعالى خيرها عاماً نافعاً، حتى لا ينطلق فرد أو جماعة أو أي فصيل حركي بعيداً عن هذا المنهج التربوي، فيخطئ ويحسب خطؤه على الحركة بصفة عامة.
إن قدر الله عز وجل لنا البقاء واللقاء فسوف يكون حديثنا في الأسبوع المقبل بإذنه تبارك وتعالى عن مصادر التربية الإسلامية، وهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ومنهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
أسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(109/5)
أصول التربية [2]
أمتنا الإسلامية أمة ذات كيان مستقل في جميع المجالات، لا سيما المجال التربوي، وإن استقلال الأمة في المجال التربوي، وعودتها إلى مصادر التربية الإسلامية المتمثلة في القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح، كفيل بتعويض الأمة ما فاتها من عز وسؤدد، أما جريها وراء الشرق تارة ووراء الغرب تارات؛ مستمدة مصادر التربية من هناك فلن يزيدها إلا ضعفاً وذلاً.(110/1)
مصادر التربية الإسلامية وأهمية الرجوع إليها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الثاني مع أصول التربية في سورة لقمان، وقد ذكرت في اللقاء الماضي أنني سأستهل هذا الموضوع الهام الكبير بمقدمة عامة في أصول التربية، وقد تحتاج منا هذه المقدمة إلى أكثر من لقاء، وجعلت أول عناصر هذه المقدمة هو أسباب اختياري لهذا الموضوع، وذكرت ثلاثة أسباب: الأول: الانفصام بين المنهج والواقع.
الثاني: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا.
أما السبب الثالث فهو: هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة التي بدأت تتنزل بفضل من الله جل وعلا في كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، وهذه الصحوة من أجل أن تكون قوية بناءة مثمرة راشدة، فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل منبثق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة حتى لا يضيع جهد هذه الصحوة سدى كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب.
وها نحن اليوم بإذن الله جل وعلا على موعد مع اللقاء الثاني من لقاءات المقدمة لأصول التربية في سورة لقمان، وحديثنا اليوم عن مصادر التربية في الإسلام.
وأعيروني القلوب والأسماع أيها الخيار الكرام! فإن طبيعة هذه الموضوعات المنهجية تحتاج إلى تركيز شديد، ومتابعة مركزة، لاسيما وقد اشتكى إلي كثير من الأحبة صعوبة الطرح في اللقاء الماضي، فأسأل الله جل وعلا أن ييسر لنا الأسباب، وأن يذلل لنا الصعاب، وأن يفتح لنا أبواب علمه وفضله وخيره، إنه حليم كريم وهاب.
أحبتي في الله! إن مصادر التربية الإسلامية هي: القرآن الكريم، والسنة المطهرة، ومنهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة، والله ما انتكست الأمة المسلمة هذه الانتكاسة الخطيرة في عقيدتها وأخلاقها وسلوكها ومعاملاتها إلا يوم أن تخلت عن هذه المنابع الصافية الطاهرة، وراحت تستقي من معين الحضارة الشرقية الملحدة تارة، ومن معين الحضارة الغربية الكافرة تارة أخرى، دونما تفريق بين الحضارة الصناعية والعلمية، والحضارة التربوية والمنهجية والأخلاقية! وقد آن الأوان وحان الوقت لاسيما بعدما انتقلت الأمة بفضل الله جل وعلا، ثم بفضل هذه الصحوة من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة، حان الوقت وآن الأوان ليتخلص مخططو وواضعو المناهج التربوية لأبنائنا وشبابنا في شتى المجالات، وشتى مناحي وفروع ومراحل التعليم، من عقدة النقص أمام المناهج التربوية الدخيلة على عقيدتنا وديننا؛ لأننا بكل ثقة نملك المنهج التربوي الفذ الفريد المتكامل لكل جزئيات الحياة؛ لأننا نحمل الإسلام، والإسلام وحده هو الذي يملك المنهج المتكامل الوحيد الذي يرتقي بالبشرية إلى ذروة المجد والعلا، وإلى واحة السعادة والهناء في الدنيا والآخرة، وها هو الإسلام ما زال شامخاً يعرض منهجه كمخلص للإنسانية كلها من هذا التيه، والضنك، والركام، بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأضناها طول المشي في التيه والضلال، ها هو الإسلام يعرض نفسه ومنهجه كمخلص للبشرية كلها؛ لأنه ابتداء وانتهاء منهج الله خالق الإنسان، الذي قال وقوله الحق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(110/2)
القرآن الكريم أول مصادر التربية الإسلامية
إن أول مصدر من مصادر التربية الإسلامية، وإن معين التربية الأول الذي لا يجف، هو القرآن الكريم، فإن القرآن هو معين التربية الأول، وهو مصدر الهدى والنور الذي أشرقت له الظلمات، وهو الرحمة الكبرى التي بها صلاح جميع المخلوقات، وهو نور الأبصار من عماها، وشفاء الصدور من أذاها، كلما ازدادت فيه الأبصار تدبراً وتفهماً وتفكيراً زادها القرآن هداية واستقامة وتبصيراً.
القرآن أسمع -والله- لو صادف آذاناً واعية، وبصر -والله- لو صادف قلوباً خالية من الفساد.
القرآن الكريم هو النعمة الباقية، والعصمة الواقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، كيف لا وهو كلام الحق جل وعلا؟! إننا أمام القرآن، ومع القرآن، وهو خطاب مباشر من الرحيم الرحمن جل وتعالى.
القرآن الكريم معين التربية الإسلامية الأول، وبأسلوبه الفذ الفريد استطاع أن يربي الرعيل الأول تربية متكاملة، وهم الذين حولوا بدورهم هذا القرآن إلى منهج حياة، وواقع متحرك، ومجتمع منظور؛ لأن الرعيل الأول كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم ينتقلوا عنها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلموا القرآن والعمل جميعاً، وبأسلوب التربية الرائع الخلاب للقرآن الكريم تربى ذلك الرعيل الأول تربية سامقة، وجعلهم على القمة التي تشرف على جميع بني الإنسان، واستحقوا -بعدما اكتمل منهج التربية لهم- الخطاب من علام الغيوب في قوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].(110/3)
أسس التربية في القرآن الكريم
إن للقرآن الكريم أسلوبه الفذ الفريد الخاص في وضع أسس التربية المتكاملة: تارة بالحوار، وتارة بالقصص، وتارة بالوصف، وتارة بالترهيب، وتارة بالترغيب، وتارة بالتعريض، وتارة بالوعد والوعيد، أسلوب فذ فريد للقرآن؛ لأنه كلام الرحيم الرحمن الذي خلق النفس ويعلم مكامنها، ويعلم مؤثراتها، ويعلم ما الذي يؤثر فيها، إن القرآن الكريم يخاطب أعماق الفطرة، ويستجيش الوجدان الحي، ويحرك القلوب الحية، والعقول النيرة، ويستنطق الفطر من أعماقها؛ لتوحد الله جل وعلا.
بل لقد بلغ من إعجاز القرآن الكريم، وأسلوبه الرائع الخلاب أن خاف المشركون على قلوبهم وأنفسهم من السماع إليه حتى لا يتحولوا من الشرك إلى التوحيد لله جل وعلا، بل لقد كانت وصية بعضهم لبعضهم الآخر كما حكى الله عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] بل لقد ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم كريم من أيام شهر رمضان المبارك في السنة الخامسة من البعثة المحمدية المباركة، إلى بيت الله الحرام في مكة -زادها الله تشريفاً- حيث جلس السادة والكبراء من المشركين، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم، وأخذ يتلو عليهم القرآن الكريم، وافتتح بسورة النجم، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب، يستجيش الوجدان، ويلمس القلوب، ويحرك العواطف تحريكاً، وأنصت المشركون جميعاً لكتاب الله، وما ظنكم بقرآن الله يتلوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! وأنصت المشركون جميعاً، وانشغلوا عن كل شيء لسماع القرآن كلام الرحيم الرحمن جل وعلا، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة وفيها قوارع تطير لها القلوب: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62] وخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لله، فلم يتمالك المشركون أنفسهم، وخروا سجداً لله خلف رسول الله! إي وربي خر المشركون سجداً لله خلف رسول الله! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
ولقد روى قصة سجود المشركين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب: سجود القرآن، وعنون لهذا الباب بقوله: باب سجود المسلمين مع المشركين، وذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس).
إنه كلام الحق جل وعلا، بدأ القرآن بأسلوبه الفذ الفريد في تربية هذا الرعيل الأول -وانتبهوا أيها الأخيار- إن أول لبنة وضعها القرآن الكريم في هذا البناء التربوي الكامل المتكامل هي العقيدة، بدأ الإسلام أسلوبه التربوي، وركز القرآن أسلوبه التربوي بوضع لبنة العقيدة في القلوب.
لماذا؟ لأن التربية لا تقوم ابتداء على منهج لوثت فيه العقيدة، ولا شك أن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى تصحيح العقيدة، فواجب على كل الدعاة الصادقين أن يبدءوا بمثل ما بدأ به القرآن لتربية الأمة المسلمة من جديد؛ لتحاكي الرعيل الأول والمجتمع الأول الذي رباه القرآن على يد أعظم مرب عرفته الدنيا، على يد محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(110/4)
اهتمام القرآن بالتربية على العقيدة الصحيحة في الله تعالى
بدأ القرآن الكريم يربي العقيدة في القلوب تربية صحيحة، ويعرف الناس بخالقهم وبربهم جل وعلا، ويعرفهم بالغاية التي من أجلها خلقوا، ألا وهي عبادة الله، فإن الله لم يخلق الخلق سدى وهملاً، بل خلق الله الخلق ليعبدوه، وبالإلهية يفردوه ويوحدوه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
بدأ القرآن يعرف الناس بخالقهم، ورازقهم وربهم جل وعلا، بأسلوب عجيب يخاطب أعماق الفطرة؛ ليجعلها تنطق بوحدانية الله، اقرأ قول الله جل وعلا في سورة النمل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] يستنطق أعماق الفطرة {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:60 - 65].
واقرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] إلى آخر الآيات، والآيات في هذا كثيرة جداً.(110/5)
تربية القرآن للناس على الإيمان باليوم الآخر
وبعدما عرفهم القرآن بخالقهم وربهم جل وعلا عرفهم باليوم الآخر، هذا اليوم الذي لابد للإنسان أن يعرض فيه على الله؛ ليحاسب على كل ما قدم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] لماذا؟ لأن التربية التي تقوم على الإيمان بالله وعلى الإيمان باليوم الآخر هي وحدها التي تحفظ التوازن في هذه الحياة الدنيا لبني الإنسان، اقرأ قول الله عز وجل وهو يصف لهم اليوم الآخر وصفاً دقيقاً؛ حتى كأنهم يرونه رأي العين: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:1 - 9].
واقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5].
واقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
واقرأ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:1 - 18] إلى آخر الآيات.
والآيات في كتاب الله جل وعلا كثيرة، فإن التربية على الإيمان بالله واليوم الآخر هي التي تحفظ التوازن لهذا الإنسان في هذه الحياة.(110/6)
تعريف القرآن للناس بأنفسهم وحقيقتها
وبعدما رباهم على الإيمان بالله وعلى الإيمان باليوم الآخر عرفهم بأنفسهم، من أنت أيها الإنسان؟! وأجاب القرآن على كل تساؤلات الفطرة: من أنت؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ وما هو المصير؟ والتربية الإسلامية الصحيحة التي تقوم على إجابات واضحة في النفس والقلب والعقل والضمير لكل هذه التساؤلات هي وحدها الضمان الوحيد والأكيد الذي يمنح الإنسان السعادة والطمأنينة، ويحميه من الوقوع في القلق والشك والحيرة والاضطراب الذي وقع فيه كثير من الناس بعد الابتعاد عن هذا المنهج الرباني الكريم.
وعبر عن هذه الحيرة وعن هذا الشك وعن هذا القلق أحدهم فقال بلسان المقال: جئت ولكني لا أعلم من أين أتيت! ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت! وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت!؟ كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أدري؟! ويمضي في هذا الشك وهذه الحيرة وهذا القلق، يمضي يقطع الطريق كالبهيمة السائمة! لا يعرف لحياته معنى، ولا يعرف لوجوده هدفاً، ولا يعرف لوجوده غاية، وصدق ربي إذ يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] إنه وصف الله جل وعلا لهذا الإنسان الذي لا يدري! لكن المسلم المؤمن يعلم من الذي خلقه، ويعلم لماذا خلقه، ويعلم أن المصير: إما نعيم وإما جحيم، إما إلى جنة وإما إلى نار، ووالله أيها الخيار الكرام! لا يحس بهذه السعادة ولا بهذه الطمأنينة إلا من فقدها، نسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمة الإيمان.
الإيمان بالله جل وعلا، ذلكم هو منهج القرآن الكريم الفذ الفريد، ولا أستطيع أن أتوقف عند كل توجيهاته، فإن القرآن الكريم وجه الجماعة الأولى بجميع التوجيهات في جميع مناحي الحياة: السياسية والتعليمية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والمعاملات والسلوك إلخ، وبهذا الأسلوب التربوي الفذ الفريد المتكامل استطاع القرآن أن يربي الرعيل الأول هذه التربية السامقة، وأن يستحقوا الخطاب من الله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
هذا هو مصدر التربية الأول الذي ما فرط الله جل وعلا فيه من شيء، وواجب على جميع مخططي وواضعي المناهج التربوية لأبنائنا وشبابنا أن يعودوا إلى هذا النبع الكريم الصافي، وإلى معين التربية الأول، إلى القرآن الكريم.(110/7)
السنة النبوية ثاني مصادر التربية الإسلامية
ثانياً بإيجاز شديد: المصدر الثاني من مصادر التربية الذي لا يمكن بحال أن يتخلف عن المصدر الأول أو أن يتنكب عنه هو سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها الخيار الكرام! إن السنة الكريمة موضحة ومبينة لكتاب الله، ولقد ابتلينا بصنف خبيث زنديق، وهي شنشنة قديمة حديثة! هذا الصنف رفع عقيرته وقال: بعدم حجية السنة وبعدم وجوب الأخذ بها! ورفع شعار: أنه لا نأخذ إلا بالقرآن! وكذب؛ فوالله إنه يوم أن ضيع السنة ضيع معها القرآن؛ لأن السنة لا تنفصم عن القرآن، ففي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك وصححه الشيخ الألباني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)، وفي لفظ: (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة).
ولقد أخبر الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى عن هذا الصنف الخبيث الذي ينادي بالقرآن ويهجر السنة، ويعرض عنها، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة والإمام الترمذي وصحح إسناده الشيخ الألباني في المشكاة من حديث المقدام بن معد يكرب أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)، وفي رواية أخرى: (ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله جل وعلا) نعم، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وشخصية النبي عليه الصلاة والسلام منهج تربوي كامل بأقواله وأفعاله وأحواله وتقريراته وسلوكه عليه الصلاة والسلام، وكيف لا وقد رباه الله على عينه، وزكاه في كل شيء! وما تركه وما ودعه وما قلاه، زكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]، وزكاه في ذِكْره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2]، وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، وزكاه في حلمه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ما ظنكم بمرب هذه صفاته، وتلك هي أخلاقه، يقررها له رب العالمين جل وعلا؟! إن أعظم مرب عرفته الدنيا هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.(110/8)
أعظم مرب هو النبي صلى الله عليه وسلم
أيها الحبيب الكريم! وإذا كان المنهج يؤثر بطابع من يتربون عليه فما ظنكم بمنهج هو القرآن الكريم؟! وإذا كان كل تلميذ يقتبس من أستاذه فما ظنكم بقبس من أستاذ هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! إن أعظم مرب عرفته الدنيا هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكل أحواله وأفعاله منهج تربية، ومنهج حياة، يجب على المسلمين أن يستقوا منه، وأن يأخذوا من معينه الفياض الذي لا يجف ولا ينتهي بإذن الله جل وعلا، ولذلك ينبغي أن نقف مع السنة.
والله يا أحباب! إن الناس يعشقون العظمة، ويلتفون حولها بدافع من الإعجاب الشديد، وبدافع من الحب العميق، ولكن شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أنها تحب لذاتها فإنها تحب أيضاً لأنه رسول الله مبلغ عن الله، فقد اكتملت فيه صفات العظمة الإنسانية والبشرية فضلاً عن أنه يوحى إليه من ربه جل وعلا، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] إنه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا بعد جديد آخر أضفى حباً عميقاً في قلوب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله مهما أوتينا من سحر البيان، وفصاحة اللسان، وعظمة البلاغة والتبيان، فلن نستطيع على الإطلاق أن نعبر أو أن نجسد أو أن ننقل لكم فحوى حب أصحاب النبي له صلى الله عليه وآله سلم! وكيف أستطيع ذلك وقد جاء صحابي جليل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له: (يا رسول الله! والله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي لأنظر إليك)؟! أي حب هذا؟! (وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي لأنظر إليك)! لكن الرجل جاء حزيناً فزعاً، ما سبب فزعه وحزنه؟! قال: (وإذا ذكرت موتك يا رسول الله! علمت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك) فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجبه، فنزل الجواب الندي الرضي من الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} [النساء:69 - 70].
والحديث رواه الضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه من حديث عائشة، وصحح إسناده وحسنه أيضاً الإمام الترمذي، ورواه الطبراني في الصغير والأوسط، وقال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله الغامدي وهو ثقة.
فينبغي أن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنه يحب لذاته فإنه يحب لأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل لما جاء عروة بن مسعود الثقفي ليوقع صلح الحديبية مع رسول الله وقف المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله، أي: عند رأسه، وكان من عادة العرب إذا أرادوا التودد والتقرب أن يعبثوا ويداعبوا لحية من يخاطبونه، فمد عروة بن مسعود يده ليداعب لحية النبي عليه الصلاة والسلام، فما كان من المغيرة بن شعبة إلا أن ضرب يده بنعل سيفه وهو يقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك، والرسول صلى الله عليه وسلم يبتسم.
فلما دقق عروة بن مسعود النظر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد وفدت على الملوك: لقد أتيت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، ووالله ما رأيت أحداً يعظمه أصحابه مثلما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً! والله إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا الصوت عنده، وإذا تكلموا معه لم يحدوا إليه الطرف تعظيماً له صلى الله عليه وسلم! هذه مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند أصحابه، وهذا الحب أيها الأحباب! هو المفتاح الأول للتربية الصحيحة، وهو الذي يسهل كل صعب بعد ذلك بإذن الله جل وعلا.
ولا أستطيع أن أتوقف أمام المنهج النبوي المتكامل، وأكتفي بهذا المشهد الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال عنه الحافظ العراقي: إسناده جيد.
من حديث أبي أمامة، أن شاباً جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليستأذنه هل يا ترى للخروج للجهاد في سبيل الله؟! هل يا ترى في الخروج للدعوة إلى الله جل وعلا؟! هل يا ترى للإنفاق في سبيل الله؟! كلا، وإنما جاء الشاب ليستأذن النبي في الزنا! يقول: يا رسول الله! أتأذن لي في الزنا؟! فقام عليه الصحابة وزجروه وقالوا: مه مه! ماذا تقول؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام -المربي الأعظم بأبي هو وأمي-: (ادن واقترب، واقترب الشاب من رسول الله، ونظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرحمة، وقال له: أتحبه لأمك؟! قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم! أتحبه لابنتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم! أتحبه لأختك لعمتك لخالتك؟! قال: لا والله جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم ولا لعماتهم ولا لخالاتهم، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدر هذا الفتى، ثم دعا له -وهو الذي جاء يطلب الاستئذان للزنا- وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم اغفر ذنبه، وحصن فرجه، وطهر قلبه، فخرج الفتى ولم يكن يلتفت بعد ذلك إلى شيء).
إنه المنهج التربوي المتكامل.
أسأل الله جل وعلا أن يجزي عنا حبيبنا ورسولنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(110/9)
منهج السلف الصالح ثالث مصادر التربية الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الأحبة الكرام! بإيجاز شديد يبقى الحديث في دقائق معدودات عن المصدر الثالث من مصادر التربية بعد القرآن والسنة، ألا وهو منهج سلف الأمة الصالح باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة.
والسلف مصطلح يطلق على ما كان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقية الصحب الكرام، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، والأئمة الخيار المهديين، هذا معنى السلف، وأخطأ والله من جعل السلفية جماعة حزبية ضيقة مغلقة، أخطأ خطأً ذريعاً، ليس هؤلاء هم السلف، وليست هذه هي السلفية، إن السلفية ليست جماعة حزبية ضيقة مغلقة، ولكن السلفية نسبة إلى سلف الأمة الصالح، إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والأئمة الخيار المهديين الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود، قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
ومن ثم فكل من جاء ليسير على هذا المنهج الرباني: على القرآن الكريم، وعلى السنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، فهو ينسب إلى السلف، هو سلفي يستحق هذا التشريف وهو النسبة إلى سلف الأمة الصالح، إن اعتنق عقيدتهم وسار على طريقهم ودربهم فهو سلفي، ينسب إلى سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم، وإن باعدت بينه وبينهم الأماكن والأزمان، ومن عاش بين أظهرهم، وخالف عقيدتهم، وتنحى عن طريقهم، فليس منهم، حتى وإن عاش معهم، وقرب وجمع بينه وبينهم الزمان والمكان، هذا هو التعريف الصحيح للسلفية، ولمنهج السلف، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).
أيها الأحبة! نتوقف عند هذا المنهج الكبير العظيم الشامل الذي يشمل كل جزئيات الحياة.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرد الأمة إلى هذه المنابع الصافية رداً جميلاً، ووالله لن تعود للأمة كرامتها ولا هويتها ولا سيادتها إلا إذا عادت من جديد إلى هذا النبع الكريم، وإلى هذا المصدر الشريف.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم جميعاً لنعمل بكل ما سمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(110/10)
التضحية والفداء
الإسلام دين العزة والكرامة والرحمة، وقد تداعت الأمم وتكالب الكفار على الكيد لهذه الأمة، فلابد من التضحية والبذل في سبيل الله كل بما يستطيع، من أجل نصرة الإسلام وإعزاز دين الله، وقدوتنا في ذلك أنبياء الله، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(111/1)
الخليل عليه السلام يعلم الأمة التضحية والفداء
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا المشهد المهيب الكريم على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك هو: هذا يوم التضحية والفداء.(111/2)
ترك الأوطان والهجرة إلى الله
أيها الأحبة الكرام! ما أحوج الأمة في هذه الأيام، وفي هذا اليوم العظيم الكريم أن تتعلم هذا الدرس الكبير -درس التضحية والفداء- من خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
إن إبراهيم عليه السلام قد قدم للبشرية كلها أغلى وأعلى دروس التضحية والفداء، نعم أيها المسلمون! إننا اليوم أمام موقف فريد في تاريخ البشرية، إننا أمام موقف من أعظم مواقف الإيمان، وأروع وأنبل مشاهد الطاعة وأعظم لحظات الاستسلام والانقياد لله جل وعلا.
أيها الأحبة الكرام: تعالوا بنا اليوم لنتعلم من خليل الله إبراهيم هذا الدرس الكبير من دروس التضحية والفداء، فهاهو إبراهيم عليه السلام يتضرع إلى الله جل وعلا أن يرزقه ولداً صالحاً بعدما عزم على أن يهجر الوطن والأهل؛ لأن قومه قد أصروا على عبادة الأوثان بعدما رأوا الآية الكبرى والمعجزة العظمى، بعدما نجى الله خليله من النيران، ومع ذلك عزم القوم على عبادة الأوثان، وهنا قال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26] وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، وتضرع إلى الله أن يرزقه ولداً صالحاً ليعينه على هذا الأمر العظيم، فقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100].
واستجاب الله جل وعلا دعاء خليله إبراهيم، فبشره بغلام حليم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] وتنزلت البشارة على قلب الخليل كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، فطالما تطلع إبراهيم إلى هذا الغلام الذي يشهد له ربه جل وعلا بأنه حليم.(111/3)
الخليل يضحي بفلذة كبده لله
تدبر معي أيها المسلم الكريم تتابع الأحداث، يقول الله جل وعلا: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] لم يكد إبراهيم عليه السلام يأنس بولده ويسعد بصباه ويفرح بسعيه معه، إلا ويفاجأ إبراهيم بهذا الابتلاء العظيم؛ إنه يرى أنه يذبح ولده في المنام بيديه! ورؤيا الأنبياء وحي.
إنها التضحية، إنه الإباء، رحماك رحماك يا الله! التضحية بماذا؟ التضحية بالابن الوحيد الذي طالما تطلع إليه إبراهيم عليه السلام، إنه الابتلاء الذي لا مثيل له في تاريخ البشر، إنها التضحية التي ترتقي إلى أفق وضيء، تعجز عقول البشر أن تتصوره مجرد تصور فحسب، إنه الفداء الذي يجسد نبل الطاعة، وحلاوة الإيمان، وعظمة الاستسلام لله جل وعلا، وبرد اليقين بالله تبارك وتعالى.
أيها المسلمون! هل تتصورون هذه اللحظات وإبراهيم عليه السلام يقوم لينفذ أمر ربه جل وعلا بهذا الغلام البار الحليم، ويقول له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فيرد الولد الذي يرتقي هو الآخر إلى أفق قد ارتقى إليه من قبله أبوه عليهما السلام، يقول الغلام البار: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وانطلق إبراهيم للتنفيذ فعلاً: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] أي: ألقى إبراهيم الولد على وجهه ليذبحه من قفاه حتى لا تقع عين إبراهيم على عين ولده البار، فتخاطب البنوة الوادعة الحميمة البارة الأبوة الرحيمة الكريمة في قلب إبراهيم، فيتوانى عن تنفيذ أمر رب العالمين جل وعلا! وهنا يكون الابتلاء قد تم، ويكون الاختبار قد وقع، وتكون النتيجة قد ظهرت، ويكون إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد جاوزا الابتلاء والاختبار الذي ابتلاهما به العزيز الجبار جل وعلا، فظهرت العبودية لله، وظهر الاستسلام لأمر الله، والله جل وعلا لا يريد من عباده إلا العبودية والاستسلام والإذعان، حتى لا تستبقي النفس لنفسها في نفسها شيئاً ولا تقدم شيئاً على الله ولا على أمر الله جل وعلا ولا على نواهيه ولا على حدوده.
وهنا نادى الله جل وعلا على إبراهيم: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:105 - 109].
سلام على هذا الشيخ الأواه المنيب الحليم الذي وفى، الذي علم الدنيا حقيقة التضحية، وعظمة الفداء لله جل وعلا.(111/4)
حاجة الأمة إلى الاقتداء بإبراهيم عليه السلام سيما في التضحية
أيها المسلمون! إن أولى الناس باتباع إبراهيم هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والموحدون لله جل وعلا مع رسول الله، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:67 - 68].
ما أحوج الأمة اليوم وفي هذه الظروف الحرجة التي ذلت فيها هذه الأمة وهانت لأحقر أمم الأرض! ذلت الأمة وهانت لخنازير الأرض من اليهود؛ ما أحوج الأمة اليوم إلى هذا الدرس الكبير، إلى درس التضحية لدين الله جل وعلا! فوالله الذي لا إله غيره إن ترك التضحية والبذل لدين الله، وترك هذا الدرس الكبير، سيجعل الأمة ذليلة كسيرة مبعثرة، كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة، وستبقى الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض ولأحقر أمم الأرض، لا سيما ونحن نرى الآن نتنياهو يعلم الأمة التضحية، إن الرجل يضحي الآن لعقيدته بكل سبيل وبكل قوة، لا يحترم في سبيل أمته وفي سبيل عقيدته ميثاقاً دولياً ولا قانوناً عالمياً، ولا يحترم مجلس الأمن ولا هيئة الأمم ولا أمريكا، لا يحترم إنساناً على الإطلاق في سبيل هذه الغاية التي نذر نفسه من أجلها.
إن الرجل يعلم الأمة -بكل أسف- كيف تكون التضحية، كيف يكون الفداء، فما أحوج الأمة الآن في هذا الظرف الحرج إلى هذا الدرس، إلى درس التضحية لدين الله جل وعلا! إلى درس الفداء لتنصر الأمة عقيدتها، ولتعلم الأمة عظمة هذه العقيدة، ولتعلم أنها عقيدة غالية تحتاج إلى تضحية، تحتاج إلى بذل، تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى عطاء.
إننا اليوم أيها المسلمون! نريد تضحية من الرجال، نريد تضحية من النساء، نريد تضحية من الصبيان، نريد تضحية من الشباب والفتيات، والله ما تحولت الأمة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، إلا يوم أن صدقت في إيمانها واعتزت بإسلامها، ونصرت دين ربها، وضحت لهذه العقيدة ولهذا الدين بكل ما تملك، وبأغلى ما تملك، بالنفس والأموال والنساء والأولاد والأوقات والأوطان، ضحت الأمة من قبل بكل شيء.(111/5)
نماذج من تضحيات الصحابة وأبنائهم
تدبروا معي يا شباب الإسلام هذه النماذج البسيطة لنتعلم دروس التضحية والفداء:(111/6)
تضحية أنس بن النضر
هذا أنس بن النضر رضي الله عنه يسمع في غزوة أحد أن رسول الله قد مات، وأن رسول الله قد قتل، فيمر على قوم من المسلمين قد ألقوا السلاح من أيديهم، فيقول لهم: ما بالكم قد ألقيتم السلاح؟! فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أنس: فما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واندفع أنس بن النضر في صفوف القتال، فلقي سعد بن معاذ، فقال أنس: يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد، وانطلق في صفوف القتال فقاتل حتى قتل، وما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم.(111/7)
تضحية سعد بن الربيع
وهذا سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن ثابت: (يا زيد! ابحث عن سعد بن الربيع بين القتلى في أحد) يقول النبي لـ زيد: (فإن أدركته فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟) أي: كيف حالك؟ وانطلق زيد بن ثابت ليبحث عن سعد بن الربيع الأنصاري فوجده في آخر رمق من الحياة، فقال له: يا سعد! رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك: كيف تجدك؟ فقال سعد بن الربيع لـ زيد بن ثابت: وعلى رسول الله وعليك السلام، وقل له: إني والله لأجد ريح الجنة، ثم التفت سعد وهو يحتضر إلى زيد بن ثابت، وقال: يا زيد بلغ قومي من الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف! يا شباب! الرجل يفكر في رسول الله في آخر لحظات عمره: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف!(111/8)
تضحية عمرو بن الجموح
وهذا عمرو بن الجموح رجل أعرج لا جهاد عليه، قد أسقط الله عنه الجهاد، لكنه يسمع النداء: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، ويريد أن ينطلق للجهاد في سبيل الله جل وعلا، فيقول أبناؤه الأربعة الذين ما تركوا غزوة مع رسول الله؛ يقولون لأبيهم: يا أبانا لقد أسقط الله عنك الجهاد، ونحن نكفيك، فيبكي عمرو بن الجموح وينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشتكي لرسول الله وهو يقول: يا رسول الله! إن أبنائي يمنعوني من الخروج للجهاد في سبيل الله، ووالله إني لأريد أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فيلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو ويقول: يا عمرو فقد أسقط الله عنك الجهاد، فقد عذرك الله جل وعلا، ومع ذلك يرى النبي رغبة عارمة في قلب عمرو بن الجموح للجهاد في سبيل الله، فيلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبنائه الأربعة ويقول لهم: (لا تمنعوه! لعل الله أن يرزقه الشهادة في سبيله).
وينطلق عمرو بن الجموح، لا أقول يبحث عن النصر، بل يبحث عن الشهادة في سبيل الله جل وعلا، ويرزقه الله الشهادة في سبيله، صدق الله فصدقه الله جل وعلا.
ويمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قتل فيقول: (والله لكأني أنظر إليك تمشي برجلك في الجنة وهي صحيحة).(111/9)
تضحية عمير بن الحمام
وهذا عمير بن الحمام شاب كريم مبارك، يسمع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) -إي ورب الكعبة يا شباب! إنها جنة عرضها السماوات والأرض! فقال عمير بن الحمام: جنة عرضها السماوات والأرض! بخ بخ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يحملك على قولك بخ بخ يا عمير، فيقول عمير: لا والله يا رسول الله إلا أني أرجو الله أن أكون من أهلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت من أهلها) فأخرج عمير بن الحمام تمرات ليتقوى بهن على القتال، فأكل تمرة، ثم قال لنفسه: والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ويلقي بالتمرات ويندفع في صفوف القتال فيقتل؛ لأنه صدق الله جل وعلا فصدقه الله تبارك وتعالى.(111/10)
تضحية أطفال الصحابة
أيها المسلمون! حتى الصبيان، حتى الأطفال، حتى الغلمان ضحوا لله ولدين الله جل وعلا! ومن أروع وأعجب ما قرأت ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف، قال عبد الرحمن بن عوف: بينما أن واقف في الصف يوم بدر إذ التفت عن يميني وعن شمالي فرأيت غلامين من الأنصار، يقول: فلم آمن بمكانهما.
خاف الرجل لوجود هذين الغلامين الصغيرين، يقول عبد الرحمن: فغمزني أحدهما سراً من صاحبه وقال لي: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ فقال له عبد الرحمن: نعم، وماذا تصنع بـ أبي جهل يا ابن أخي! فقال له: لقد سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول عبد الرحمن بن عوف: فتعجبت لذلك! يقول: فغمزني الغلام الآخر وقال لي سراً من صاحبه: ياعم! هل تعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم يا ابن أخي، وماذا تصنع بـ أبي جهل! فقال: لقد سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عاهدت الله جل وعلا إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، يقول: فتعجبت! والله ما يسرني أني بين رجلين مكانهما، يقول: فنظرت في القوم فرأيت أبا جهل يجول في الناس، فقلت لهما: انظرا هل تريان هذا، قالا: نعم، قال: هذا صاحبكما الذي تسألان عنه! يقول: فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه! انقض عليه غلامان، تربى هذا الغلام الكريم هو وأخوه في بيت عرفهم كيف تكون التضحية، وكيف يكون البذل لدين الله جل وعلا؛ فانقضا عليه مثل الصقرين فقتلاه، وجرى كل منهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله قتلته، والآخر يقول: بل أنا الذي قتلت أبا جهل، فقال النبي لهما: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطني سيفك، وقال للآخر: أعطني سيفك، ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فوجد دم أبي جهل على السيفين، فالتفت إليهما وقال: كلاكما قتله) والبطلان هما معاذ بن عمرو بن الجموح ولد ذلكم الرجل الأعرج، ومعاذ بن عفراء.
حتى النساء أيتها الأخوات الفاضلات، نريد الآن من النساء التضحية لدين الله جل وعلا، حتى النساء ضحين لدين الله.
فهذه خديجة، وهذه سمية أم عمار، وهذه أم عمارة، وهذه أسماء، كلهن وغيرهن قد ضحين لدين الله جل وعلا!(111/11)
لا كرامة للأمة إلا بالجهاد والتضحية
وما زالت الأمة معطاءة، ولا زالت الأمة ولوداً تنجب في كل يوم لهذا الدين من يتمنى أن يبذل نفسه، والله ثم والله إنني لعلى يقين جازم الآن أن من بين يدي من الشباب، بل ومن الشيوخ، بل ومن النساء من يتمنى أن لو نودي اليوم: حي على الجهاد حي على الجهاد يا خيل الله اركبي والله الذي لا إله غيره لو تبناها زعيم مسلم واحد ونادى الآن في الأمة الولود وقال: حي على الجهاد، يا خيل الله اركبي، والله لرأينا من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة ومن نساء الأمة من ينطلق ليسد بصدره فوهات المدافع، ليعلموا كلاب الأرض من اليهود أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما خلف بنات، ولكن خلف رجالاً يتمنون الشهادة في سبيل الله جل وعلا.
والله إننا لنتمنى الشهادة في سبيل الله، وأعلم علم اليقين أن من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة ومن نساء الأمة، من يحترق قلبه للجهاد ويتشوق للشهادة، ضاع شرفنا وغيب شرعنا وضاع قدسنا، واحتلت أرضنا وضاع عرضنا؛ فما بقي بعد الآن، نريد التضحية والله بالدماء، نريد التضحية بالدماء لدين رب الأرض والسماء جل وعلا.
فهيا أيها الشباب هيا أيها الرجال هيا أيتها الأخوات الفاضلات فلنعاهد الله جل وعلا جميعاً من الآن، ولنهيئ أنفسنا للتضحية بالنفس، للتضحية بالمال، للتضحية بالأولاد، للتضحية بالأوقات، للتضحية بأغلى ما نملك لدين الله جل وعلا، وبغير هذه التضحية لا عزة لنا ولا كرامة.
والله ثم والله إن الأمة الآن لن يتبقى لها إلا أن تقدم رجالها وشبابها الطاهر الطائع لتضحي ولتنصر عقيدة لا إله إلا الله، ولتنصر دين رسول الله، وسيرى العالم كله، وسيرى خنازير الأرض من اليهود أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يسيرون في كل زمان ومكان على درب النبي، منهم من يحاكي خالد بن الوليد، ومن شبابنا الآن من يتطلع إلى سيرة مصعب، وإلى سيرة معاذ، وإلى سيرة صلاح الدين، وإلى سيرة محمد بن مسلمة، وإلى سيرة سيف الدين قطز.
لا عز للأمة إلا بالجهاد، لا كرامة للأمة إلا بالجهاد، إلا بالتضحية، إلا ببذل الدماء، فهيا أيها المسلمون! لنعاهد الله جل وعلا على ذلك، بذلُك لمالكَ تضحية، بذلك من وقتك أيها الشاب لتتعلم دين الله ولتعلم دين الله تضحية.
أيتها المسلمة! تربيتك لأولادك على القرآن والسنة وعلى الجهاد في سبيل الله تضحية لدين الله.
أيها الطالب المسلم! اجتهادك في مذاكرتك وتفوقك لتنفع أمتك من موقع المسئولية تضحية لدين الله.
أيها المسئول أياً كان منصبك وأياً كان موقعك! كرسيك إلى زوال، ومنصبك إلى فناء، فوجه الكرسي ليكون قائداً لك إلى جنة رب الأرض والسماء، ضح بمنصبك لدين الله جل وعلا، لا تستخدم المنصب في تعطيل دين الله أو في الصد عن سبيل الله جل وعلا، فوالله إن الكل إلى زوال ولا يبقى إلا الملك جل جلاله، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
أيها المسلمون! نعاهد الله جل وعلا من الآن على أن ينطلق كل والد من هذا المصلى الكريم ويقول لربه: يا رب هذا أحب أبنائي إلي قد نذرته لك، ضح اليوم بولد من أولادك لله، قل: هذا موقوف لله، ليقرأ القرآن، ليتحرك للدعوة، لينطلق للجهاد بنفسه أو بماله أو بأنفاسه أو بوقته.
نريد تضحية، نريد تضحية بالمال، تضحية بالأعمال، تضحية بالأوقات، تضحية بالنساء، تضحية بالأولاد، تضحية لدين الله جل وعلا.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن ينصر الإسلام وأن يعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام، اللهم أعز المسلمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وأعوان اليهود.
اللهم مكن لدينك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تخرجنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور برحمتك يا عزيز يا غفور، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأحبة الكرام! كل عام وأنتم بخير، وأشهد الله جل وعلا أنني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله.(111/12)
تلقين الميت الشهادة
الموت حقيقة حتمية، وأمر واقع لا محالة، يأتي لينقل المرء من حياة إلى حياة أخرى.
وهناك أحكام تتعلق بالموت ينبغي مراعاتها: فمنها ما يتعلق بالميت، ومنها ما يتعلق بأهل الميت ومن حضره، فعلى المسلم أن يراعي هذه الأحكام وتلك الآداب، لينال الأجر والثواب.(112/1)
الموت حق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
ولا زلنا مع كتاب الإيمان، والذي ترجم له الإمام البخاري بقوله: باب اتباع الجنائز من الإيمان.
واسمحوا لي أن أقف مع هذا الباب وقفة طويلة قد تحتاج إلى عشر محاضرات على الأقل، فسأقف في شرح هذا الباب مع كتاب كامل من الكتب المسددة الموفقة الصحيحة المحققة لمحدث العصر وبقية السلف وبركة الزمان أبى عبد الرحمن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وعن المسلمين خير ما جزى عالماً أميناً صالحاً مصلحاً.
سأقف مع كتابه الماتع -بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ- (أحكام الجنائز).
فإن المسلمين الآن في أمس الحاجة إلى أن يتعرفوا على هذا الباب من أبواب العلم، لاسيما وقد رأينا كثيراً من البدع في جانب الجنائز.
وسأحاول جاهداً أن تكون هذه السلسلة بعنوان: (أحكام الجنائز) مجموعة متكاملة؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان، أسأل الله عز وجل أن يجعل لها القبول والنفع في الأرض، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وألا يجعل للهوى ولا للشيطان حظاً ولا نصيباً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي المنجوفي حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن ومحمد عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها -أو حتى يُصَلى عليها- ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط).
هذا هو الحديث الذي رواه الإمام البخاري في هذا الباب الكريم.
واسمحوا لي قبل أن أشرع في الحديث عن أحكام الجنائز أن أقدم بمقدمة موجزة جداً عن الموت أسأل الله أن ينفع بها.
فالموت حق، وسماه الله في القرآن بالحق فقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تهرب وتبتعد.
تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الغني! يا أيها الفقير! كل باك سيبكى، وكل ناعٍ سينعى، وكل مذكور سينُسى، وكل موجود سيفنى، ليس غيرُ الله يبقى، من علا فالله أعلى.
أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا نسيت لقاء الله واللحدَ والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا قال تعالى لحبيبه المصطفى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:34 - 35].
وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
وقال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت)، وذكر الموت ليس معناه أن تقول: إن فلاناً من الناس قد مات! كلا، وإنما ذكره معناه: أن نستعد للموت، وأن نعمل للموت، وأن نغرس في هذا الدنيا لما بعد الموت.
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا نسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.(112/2)
أحكام الموت(112/3)
تلقين المحتضر
ما هو أول حكم من أحكام الموت؟ تلقين المحتضر الذي نام على فراش الموت، فإذا حضره الموت وجب على من عنده أمور: الأول: أن يلقنوه الشهادة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر، وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه) أي: من العذاب.
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وفي الحديث: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)، وهذه الروايات كلها رواها الإمام مسلم في صحيحه، والزيادة في الحديث الأول لم ترد في صحيح مسلم، وإنما وردت في صحيح ابن حبان.
إذاً: أول حكم من أحكام الموت: إذا نام المحتضر على فراش الموت وجب على أهله المحيطين به أن يلقنوه كلمة التوحيد، فمن وفق لهذه الكلمة دخل الجنة، ولا يوفق للنطق بها إلا الموفق، ولا يرزق أحد النطق بها إلا المسدد.
فليس كل أحد يستطيع في هذه اللحظات أن ينطق بلا إله إلا الله، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]،قال ابن عباس: هو قول: لا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
ويقتضي عدل الله سبحانه: أن من عاش على التوحيد مات على التوحيد، وبعث في زمرة الموحدين.
قال عليه الصلاة والسلام: (من مات على شيء بعث عليه).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فمن عاش على الطاعة مات على الطاعة، وبعث على الطاعة، ومن عاش على الصلاة مات على الصلاة، وبعث على الصلاة، ومن مات على معصية بعدما عاش دهره وحياته على المعصية، بعث على ذات المعصية، فمن مات وفي يده كأس الخمر بعث يوم القيامة وهو يحمل بيده كأس خمر، ومن مات وهو يزني بعث يوم القيامة بهذه الفضيحة، ومن مات وهو سارق بعث يوم القيامة وهو يحمل على كتفه ما سرق: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.(112/4)
الدعاء وقول الخير عند المحتضر
ثانياً: على من حضر الميت أن يتضرع إلى الله بالدعاء له، ولا يقول في حضرته إلا خيراً؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون)، والحديث رواه مسلم والبيهقي.
يعني: لو مات الميت فلا يقال إلا خيراً، فلو صرخت المرأة في البيت وقالت: يا سبعي! يا جملي! فإن الملائكة تؤمن على هذا القول، ولا ينتفي الوزر عن الميت إلا إن أوصى أنه متبرئ من كل ما يخالف الشرع، فاكتب وصيتك من الآن ولا تسوف، فإن الموت يأتي بغتة، وأوص بكل ما تريد، تبرأ من كل مخالفة يرتكبها الأهل بعد الموت، فربما بعض أهلك يصر على أن يضع لك صواناً أو خيمة ضخمة، وينفق من أموال اليتامى ما لا يحق له بحال، فهذا أكل لمال اليتامى بالباطل والظلم.
والله تعالى يتوعد من أكل أموال اليتامى بوعيد شديد فيقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10]، وهذا من الظلم؛ لأنه تضييع لأموال اليتامى بغير حق: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
والمراد بالتلقين: أن تقول له: قل: لا إله إلا الله وهو يحتضر، وليس التلقين بعد الدفن، فتلقين الميت بعد الدفن في القبر ليس من السنة، ولم يثبت هذا عن صاحب السنة صلى الله عليه وسلم، إنما التلقين إذا نام الميت على فراش الموت واحتضر، تلقنه: لا إله إلا الله؛ لينطق بها ويرددها خلفك، وليقل هو بلسانه: لا إله إلا الله.
أما التلقين في القبر بعد الموت فلم يثبت هذا أبداً عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، والرواية الواردة في هذا الباب رواية لا تصح بحال عن النبي المختار عليه الصلاة والسلام.
وجاء في حديث أنس الذي رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد -يعني: زار- رجلاً فقال النبي له: يا خال! يا خال! قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله).
وأود أن أذكر أيضاً بأنه إذا قال المحتضر: لا إله إلا الله مرة كفى، ولا ينبغي أن نلح عليه ليكررها حتى ولو طال وقت الموت، فهذا هو آخر كلامه في الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا خال! قل: لا إله إلا الله فقال: -أي: هذا المحتضر-أخال أم عم؟ فقال: بل خال -وكان من أخواله عليه الصلاة والسلام- فقال للنبي: فخير لي أن أقول: لا إله إلا الله؟ فقال: نعم).
أما قراءة سورة يس عند الميت أثناء الاحتضار، وتوجيه الميت نحو القبلة، فكل ذلك لم يثبت ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالميت أصلاً موحد مسلم لا يحتاج أن يثبت له إسلامه بعد الموت بتوجيهه نحو القبلة، فهذا من التكلف الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام، وما اعتاد عليه جل المسلمين من توجيه الميت نحو القبلة حتى يجهز ويغسل ويدفن ليس عليه دليل، بل لقد كره إمام التابعين سعيد بن المسيب ذلك، وقال قولة جميلة: أليس الميت امرأً مسلماً؟! فعن أبي زرعة أنه شهد سعيد بن المسيب في مرضه، وعنده أبو سلمة بن عبد الرحمن وهو من العلماء، فغشي على سعيد بن المسيب -أغمي عليه- فأمر أبو سلمة بن عبد الرحمن أن يحولوا فراش سعيد بن المسيب نحو الكعبة وسعيد -رحمة الله عليه- في إغماءة الموت، فأفاق سعيد بن المسيب فوجد أنه قد وجه فراشه فقال: حولتم فراشي؟! قالوا: نعم، فنظر إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن وقال: أراه بعلمك؟! يعني: أنت الذي وجهت إلى ذلك، فقال: نعم، أنا الذي أمرتهم، فأمر سعيد بن المسيب أن يعيدوا فراشه إلى ما كان، وقال قولته الجميلة: أليس الميت امرأً مسلماً؟! مادام لم يثبت هذا عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن نتكلف ما لم يفعله الحبيب عليه الصلاة والسلام.
ولا بأس أن يحضر المسلم وفاة رجل كافر؛ ليلقنه الشهادة لعلَّّ الله أن يرزقه الشهادة؛ فإن كان لك جار يهودي أو نصراني وسمعت أنه يحتضر فلا بأس أن تسرع إليه بنية أن تذكره بالإسلام والتوحيد: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
والدليل على ذلك ما رواه البخاري وأحمد والحاكم وغيرهم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرض الغلام، فأتاه النبي يعوده -يعني: يزوره- فقعد النبي عند رأسه، وقال له عليه الصلاة والسلام: أسلم -يعني: قل: لا إله إلا الله- فنظر الغلام إلى أبيه -وهو رجل يهودي - فقال الأب لولده: أطع أبا القاسم.
فأسلم الغلام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند الغلام وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)، وصدق ربي وهو العزيز الغفار إذ يقول في حق نبينا وهو النبي المختار: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وصدق ربي إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فهو رحمة للمؤمنين، بل ورحمة للعالمين من المشركين والمسلمين، فمن آمن به فقد رحم في الدنيا والآخرة، ومن كفر به فقد رحم في الدنيا من عذاب الله، ثم بعد ذلك ينال هذا الكافر بالنبي عذابه في الآخرة.
فلما مات هذا الغلام اليهودي قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلوا على صاحبكم).(112/5)
تغميض الميت وتغطيته بثوب
ما الذي يجب على أهل الميت إذا مات صاحبهم وأسلم الروح لخالقها وبارئها جل وعلا؟ يجب عليهم أمور منها: أن يغمضوا عينيه، فإن البصر يتبع الروح حين تخرج من الجسد.
ومن الأحكام التي تلزم من حضر الميت: أن يغطي الميت بثوب يستر جميع بدنه، كغطاء أو ثوب أو أي شيء يغطي جميع البدن حتى الوجه؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببردة حِِبْرة أو حَبِرَة، وهي بردة من برود اليمن، يعني: غطي جسده كله عليه الصلاة والسلام، ولم يكشف هذه البردة إلا الصديق حينما دخل على الحبيب بعدما أتى من بيته في السنح، ووجد الناس يصرخون أمام المسجد النبوي، فدخل الصديق على حبيبه فوجده مسجى -أي: مغطى- فكشف الغطاء عن وجهه وقبله بين عينيه، وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم).
وفى رواية حسنها شيخنا الألباني -رحمه الله تعالى- في مختصر الشمائل: (أن الصديق نادى على نبيه وقال: وانبياه! واخليلاه! واحبيباه! أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد ذقتها، ولا ألم عليك بعد اليوم).
فمن السنة إذا مات الميت أن يغطى جسده كله، هذا إن مات الميت وهو غير محرم بحج أوبعمرة، فإن مات الميت وهو محرم بحج أو عمرة فلا يغطى رأسه، ولا يغطى وجهه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (بينما رجل واقف بعرفة -لابس الإحرام -إذ وقع عن راحلته فوقصته -وطأته الناقة- فمات بلباس الإحرام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه -أي: في الإزار والرداء- ولا تحنطوه)، وفى رواية: (ولا تطيبوه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه -أي: لا تغطوا رأسه ولا وجهه- فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وقد قال الصادق صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).(112/6)
التعجيل بتجهيز الميت
وينبغي لمن حضر الميت أن يعجلوا بتجهيزه وإخراجه من بيته إلى المقابر، فمن السنة إذا مات الميت أن نعجل في تجهيزه -أي: في غسله وتكفينه ودفنه- إلا لضرورة، قال عليه الصلاة والسلام: (أسرعوا بالجنازة) والإسراع بالجنازة يحتاج إلى إسراع في التغسيل وإسراع في التكفين وإسراع في الدفن: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم).(112/7)
دفن الميت في البلد الذي توفي فيه
من السنة أن يدفن الميت في البلد الذي توفي فيه إلا لضرورة، هذا هو الأصل، فلا ينقل الميت من بلد إلى بلد ما دام قد مات في بلد مسلم؛ لأن هذا يتنافى مع الإسراع الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه الذي أخرجه أصحاب السنن الأربع وأحمد في مسنده والبيهقي بإسناد صحيح قال: (لما كان يوم أحد حمل القتلى -أي: من الصحابة- ليدفنوا بالبقيع بجوار المسجد النبوي، فأمر رسول الله المنادي أن ينادي في الناس ويقول: إن رسول الله يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم -أي: في الموضع الذي قتلوا فيه -يقول جابر -: وذلك بعدما حملت أمي أبي وخالي على ناقة لنا؛ لتدفنهم في البقيع فردوا).
وفى رواية: (فأرجعناهما مع القتلى حيث قتلوا)؛ ولذلك قالت عائشة رضوان الله عليها لما مات أخ لها في الحبشة فحمل من مكانه: (ما أجد في نفسي -أو يحزنني في نفسي- إلا أني وددت أنه كان دفن في مكانه في الحبشة) والحديث أخرجه البيهقي بسند صحيح.(112/8)
أن يبادر أهل الميت بسداد دينه
يجب على أهل الميت أن يبادروا بسداد الدين عن ميتهم، فإن لم يكن له مال، ولم يستطع أهل المتوفى أن يسددوا عنه الدين وجب على الدولة أن تقضي عنه الدين؛ للحديث الذي أخرجه ابن ماجه وأحمد والبيهقي من حديث سعد بن الأطول رضي الله عنه: (أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال أخوه: فأردت أن أنفقها على عياله، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن أخاك محبوس بدينه -أي: محبوس عن الجنة- فاذهب فاقض عنه، قال: فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت فقلت: يا رسول الله! قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة -أي: امرأة ادعت أن لها دينارين عند أخي، لكنها لم تقدم البينة على ذلك- (فقال النبي: أعطها فإنها صدقة)، وفي لفظ: (أعطها فإنها محقة).
وفي حديث عن سمرة بن جندب أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي وغيرهم بسند صحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة)، وفي رواية: (صلى الصبح فلما انصرف قال: أهاهنا من آل فلان أحد؟ فسكت القوم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا ابتدأهم بشيء سكتوا رضي الله عن أصحاب النبي المؤدبين، فقال ذلك مراراً: أهاهنا من آل فلان أحد؟ ولا يجيبه أحد حتى قالها النبي ثلاثاًَ، فقال رجل: هو ذا يا رسول الله! -يعني: هأنذا من آل فلان- وقام يجر إزاره من مؤخرة الناس، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟! إن فلاناً مأسور بدينه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله، وقد رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أجد أحداً يطلبه بشيء).(112/9)
جواز الكشف عن الميت وتقبيله والبكاء عليه
وأختم محاضرة الليلة بهذا الحكم وهو: ما الذي يجوز لأهل الميت وللحضور أن يفعلوه؟ بعض الناس يظن أنه لا يجوز له أن يكشف عن وجه الميت، ويقولون: إن هذا انتهاك لحرمة الميت! وهذا غير صحيح، بل يجوز للإنسان أن يكشف وجه الميت ويقبله، بل ويجوز له أن يبكي على ميته، فبعض الناس يظن أن تقبيل الميت حرام، وأن كشف وجهه حرام، وأن البكاء عليه هلع وجزع!! فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، يقول: فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه،) عبد الله هو والد جابر رضوان الله عليهما، وهو الصحابي الوحيد الذي كلمه الله كفاحاً، أخبر النبي بذلك ولده المبارك جابر، وقال الله لـ عبد الله: (تمن، فما تمنى والد جابر إلا أن يرجع إلى الدنيا ليقاتل فيقتل في سبيل الله)، والحديث في البخاري ومسلم وسنن النسائي والبيهقي وفي مسند أحمد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسَنح أو السُنح، -والفتحة أصح عندي وأبلغ، والسنح: مكان في أطراف المدينة- حتى نزل من على فرسه، فدخل المسجد وعمر يكلم الناس ويقول: إن رسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي وأرجل المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات، تقول عائشة: فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم النبي -أي: اتجه إلى النبي؛ لأن النبي مات في حجرة عائشة - وهو مسجى ببردة حِبْرة أو حَبِرة، فكشف البردة عن وجهه الأزهر الأنور بأبي هو وأمي، ثم أكب الصديق على النبي فقبله بين عينيه، ثم بكى وقال: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد ذقتها أو متها- وفى رواية: فقد مت الموتة التي لا تموت بعدها).
إذاً: نأخذ من هذا الحديث أن الصديق كشف الغطاء عن وجه الحبيب وقبله بين عينيه، ولو كان النبي قد نهى عن ذلك ما فعله الصديق رضوان الله عليه.
والحديث رواه البخاري والنسائي وابن حبان والبيهقي.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه والبيهقي وغيرهما، وله شاهد بإسناد حسن من حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت) وعثمان هذا هو أول من لقب بالسلف الصالح، وهو ممن شهد بدراً، والنبي قال في حق أهل بدر: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهو أول من دفن بالبقيع، تقول عائشة: (كشف النبي الغطاء عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، حتى رأيت الدموع -أي: دموع النبي-تسيل على وجنتيه) عليه الصلاة والسلام.
ومن أهل العلم -من باب الأمانة العلمية- من يضعف هذا الحديث، لكن شيخنا الألباني رحمه الله تعالى يحسن هذا الحديث بشواهده، وهل المقصود بوجنتيه: وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم أم وجنتي عثمان؟ كلاهما محتمل.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئراً لـ إبراهيم عليه السلام والظئر: هو زوج مرضعة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك على إبراهيم وهو يجود بنفسه -يحتضر- فجعلت عينا رسول الله تذرفان -بكاءه تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! يعني: أتبكي كما نبكي؟! فقال عليه الصلاة والسلام: " يـ ابن عوف! إنها رحمة، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: لا تبكوا على أخي بعد اليوم) والحديث رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح على شرط مسلم.
إذاً: لا حرج على من أراد أن يقبل الميت بين عينيه، ولا بأس إن كشف الغطاء عن وجهه، ولا بأس أن يبكى عليه، فالبكاء رحمة، لكن المنهي عنه والمحرم أن نقول ما يسخط ربنا جل وعلا، وأن ندعو بدعوى الجاهلية، كأن تقول المرأة: يا جملي! يا سبعي! يا من ترزقني! يا من تفعل كذا وكذا! لا أستطيع العيش بعدك! إلى آخر هذه الكلمات الجاهلية، ومثل أن تلطم المرأة خدها، وتشق جيبها أو ملابسها، كل هذا لا يجوز ولا يليق، وهو محرم في دين الله تبارك وتعالى.
أكتفي بهذا القدر من الأحكام، والله أسأل أن يرحم موتانا رحمة واسعة، وأن يختم لنا ولكم جميعاً بالإيمان، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(112/10)
سكرات الموت
كفى بالموت واعظاً وزاجراً عن المعاصي والشهوات لمن تذكره وتدبر فيه، فإنه ما ذكر في كثير إلا قلله، ولا في واسع إلا ضيقه، كما أن أهوال البعث كافية لتنبيه الغافل ودعوته إلى الله، فهذه حقائق يمر بها كل مخلوق حتى الأنبياء، فيا سعادة من تذكر فأصلح عمله، ويا خسارة من عاش في سكرة الغفلة حتى داهمه ملك الموت.(113/1)
سلام الله على يحيى بن زكريا في أشد الأحوال التي تمر على الإنسان
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30] عالم الغيب والشهادة الذي يستوي في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، جبار السماوات والأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، إنما قوله لشيء إذا أراده أن يقول له كن فيكون.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك -عليك يا سيدي يا رسول الله- صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيله حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين حتى علمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج يا سيدي، وأمنت الخائف يا سيدي، وطمأنت الخلق يا سيدي، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله صلاة وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين.
أما بعد: فيا أيها الأحباب؛ أحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، ومع اللقاء العاشر على التوالي ما زلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، ونكرر القول بين يدي كل لقاء من لقاءات تفسيرنا لهذه السورة المباركة ونكرره ونقول: أولاً: إن عقيدتنا نحن المسلمين هي أننا نوحد الله جل وعلا، ونعلنها صريحة في كل زمان ومكان، ونقول جميعاً: لا إله إلا الله، كلمة التوحيد والإخلاص.
أما بالنسبة لتفسير الآيات فلقد توقفنا في اللقاء الماضي عند آخر مؤهل من مؤهلات النبوة عند يحيى عليه السلام على حسب تعبير صاحب ظلال القرآن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله، قلنا: إن الله قد زود يحيى عليه السلام بمؤهلات لحمل الأمانة الكبرى والمسئولية العظمى، هذه المؤهلات هي {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:12 - 14] وانتهينا في اللقاء الماضي عند معنى كلمة (عصياً)، وشرحنا في اللقاء الماضي معنى كلمة: (لم يكن جباراً عصياً)، وبهذا نكون قد أنهينا اللقاء عن مؤهلات النبوة عند يحيى عليه السلام، وبعد هذه الصفات الغالية التي زود الله بها يحيى يسلم الله عز وجل عليه فيقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15].
انظروا يا أحباب! الله سبحانه وتعالى يسلم عليه في مواطن ثلاثة هي أشد ما تكون على الإنسان: يوم أن يولد، ويوم أن يموت ويوم أن يبعث حياً ليلقى الله الحي الذي لا يموت، يسلم الله عليه في هذه الأحوال الثلاثة وفي هذه المواقف الثلاثة، فيقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15].
ذكر الإمام ابن كثير عن قتادة أن الحسن قال: التقى يحيى وعيسى عليهما السلام، فقال عيسى ليحيى: ادع الله لي فإنك أفضل مني، فقال يحيى لعيسى: بل أنت أفضل مني يا عيسى، فقال عيسى: لا يا يحيى، بل أنت أفضل مني؛ لأنني أنا الذي سلمت على نفسي فقلت: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33]، أما أنت فقد سلم الله عليك فقال: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15].(113/2)
انتقال الإنسان من عالم الأحشاء إلى عالم الدنيا
هذه الأحوال هي أشد الأحوال والأوقات التي يمر بها الإنسان: يوم أن يولد، ويوم أن يموت، ويوم أن يبعث حياً، لماذا أيها الأحباب؟ لأن العبد في هذه الأحوال الثلاثة ينتقل من عالم إلى عالم آخر جديد غريب عليه، فهو ينتقل في المرحلة الأولى من عالم الأحشاء في بطن أمه إلى عالم الدنيا، ثم بعد ذلك يترك عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، فيترك القصور والدور إلى عالم الدود والقبور، ثم بعد ذلك يترك عالم البرزخ إلى عالم البعث، إلى العرض على محكمة الله جل وعلا، فما بين مسرور محبور، ومحزون مثبور، وما بين جبير وكسير، فريق في الجنة وفريق في السعير، أحوال ثلاثة عجيبة، أحوال شديدة على أي إنسان، يوم أن يولد ويوم أن يموت ويموت أن يبعث حياً.
المرحلة الأولى هي المرحلة التي ينتقل فيها الإنسان من عالم الرحم والأحشاء، ذلك العالم الآمن الأمين الحصين المكين، هذا العالم الذي تكلف الله برعايته له بكل شيء، وما كلفه الله في هذا العالم بأي شيء، فيد الله وحده هي التي ترعاه وترزقه: وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك الله وحده هو الذي يرعاك وأنت في هذه الأحشاء، وأنت في هذه الأجواء، وأنت في هذا العالم العجيب، يد الله وحده هي التي ترعاك، ويد الله وحده هي التي ترزقك، ويد الله وحده هي التي تتكفل بعنايتك ورعايتك: وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك ومن الذي يقدم له رزقه؟! ومن الذي يتكفل له بطعامه وشرابه؟! ومن الذي يتكفل بتنفسه في هذا العالم؟! إنه الله رب العالمين.
وفي الوقت الذي قدر الله له فيه أن يخرج من ذلك المكان الآمن يخرج إلى عالم الشقاء، يخرج إلى عالم الدنيا، يخرج إلى عالم الفتن والشهوات والشيطان، فيستقبله الشيطان منذ أول لحظة نزل فيها إلى هذه الحياة والمولدة تولده، فيستقبله الشيطان فيطعنه فيصرخ المولود، وهذا كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم، في جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود يولد إلا ويمسه الشيطان، فيستهل المولود صارخاً من مس الشيطان إياه).
من هذه اللحظة تبدأ في مصارعة الشيطان والأهواء والفتن، وتعيش في هذه الحياة ما قدر الله لك أن تعيش تصارع الشيطان وتصارع النفس الأمارة بالسوء، وتصارى الأهواء، وتظل في هذه الحياة ما قدر الله لك فيها.(113/3)
نقلة الإنسان بالموت إلى عالم البرزخ
ثم تأتي اللحظة التي قدر الله عز وجل لك فيها أن تترك عالم الدنيا إلى عالم البرزخ، أي: إلى عالم الفناء إلى عالم القبور، فيأتي الموت في اللحظة التي حددها الله تبارك وتعالى لك، فينقلك الموت -بعظمة الله جل وعلا- من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.
هذه هي المرحلة الثانية مرحلة الموت، يوم أن تنتقل بعد مولدك وبعد حياتك وبعد عيشك إلى عالم يسمى بعالم البرزخ، إلى عالم الفناء، إلى عالم الحق عند الله الحق جل وعلا.(113/4)
الاستعداد للموت
الموت، الموت أيها الأحباب، ولقد تكلمت كثيراً كثيراً عن الموت، ولكن يجب علينا أن نتكلم عن الموت في كل زمان وفي كل مكان، ويجب علينا أن نذكر الموت في كل ساعة من ساعات حياتنا، وفي كل ساعة من ساعات عمرنا، كما أخبرنا وأمرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول في حديثه الصحيح الذي خرجه النسائي وخرجه الترمذي وخرجه ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قالوا: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) هادم اللذات هو الموت، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت.
ولما سأله رجل من الأنصار وقال: (يا رسول الله! من أكيس الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: أكيس الناس أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة) رواه الطبراني بإسناد حسن.
العاقل اللبيب هو الذي يذكر الموت، وهو الذي يستعد للموت، وهو الذي يذكر نفسه دائماً وأبداً بالموت، وهو الذي يعلم علم اليقين أن هذه الحياة مهما عاش فيها فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لا بد من دخول القبر، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (الكيس -العاقل- من دان نفسه -أي: من حاسب نفسه- وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)، هذا هو المغرور الذي يتواكل على سعة رحمة الله ولا يعمل، الذي يتواكل على سعة عفو الله وهو في المعاصي ليل نهار، ويقول: إن الله غفور رحيم، وما الذي أنساك أن الله شديد العقاب للعاصين والمذنبين والمقصرين؟ إنها الحقيقة الكبرى أيها الأحباب، حقيقة الموت، إنها الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، الحقيقة التي خضع في محرابها المتكبرون والمتجبرون، إنها الحقيقة الكبرى التي تسربل بها العصاة والطائعون والرسل والأنبياء والمقربون والأصفياء.
إنها الحقيقة الكبرى التي ترن في أذن كل سامع وعقل كل مفكر قائلة: إنه لا بقاء إلا لله وحده، ولا ألوهية إلا لله وحده، ولا حاكمية إلا لمن تفرد بالبقاء والجلال، فـ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
إنها حقيقة الموت التي قال الله تبارك وتعالى عنها: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالحق أنك تموت والله حي لا يموت.
(وجاءت سكرة الموت بالحق): والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ترى ملائكة العذاب.
(وجاءت سكرة الموت بالحق): والحق أن تكون حفرتك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
(وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد): ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن أيها القوي الفتي، أيها العبقري، يا أيها الكبير ويا أيها الصغير: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) وصدق من قال: كل باك فسيبكى وكل ناع فسينعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد): ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، ولكن أين المفر؟ أين المآل؟ وأين المصير؟! إن المصير إلى الله، وإن المآل إلى الله، وإن المنتهى إلى الله، وإن المرجع إلى الله جل وعلا.(113/5)
صوت الحق ينادي المحتضر
وبينما هو يتمنى يأتيه صوت الحق من الله جل وعلا، يقول تبارك وتعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:26 - 40] بلى قادر! دع عنك ما فات في زمن الصبى واذكر ذنوبك وابكها يا مسلم لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب فالليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخي الوهم تعب الذنب بالذنب وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحتك من باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم(113/6)
كل شيء هالك إلا وجه الله عز وجل
الحقيقة الأولى في هذا الوجود هي وحدانية الله جل وعلا، وهي أن تقر بهذه الحقيقة وهي لا إله إلا الله، ثم الحقيقة الثانية هي أن كل شيء هالك إلا وجه الله جل وعلا.
(الموت)، من منا يفكر بالموت؟ من منا يذكر الموت؟ من منا يستعد للموت؟ من منا عمل لهذا اللقاء؟ من منا عمل للقاء الله جل وعلا؟ من منا استعد لسؤال الملكين في دار الحقيقة دار البرزخ، دار الصدق، دار الحق؟ من منا استعد؟ ما من يوم يمر علينا إلا ونشيع فقيداً، ما من يوم يمر علينا إلا ويموت بيننا ميتاً أو ميتة، ولكن ربما ذهبنا معه إلى القبور، وربما رأينا الموت حقيقة أمام أعيننا وبين أيدينا؛ ولكن إذا نظرت إلى الناس وجدتهم ينسون الموت، ويتكلمون في أمور الدنيا! هذا هو الحال، ولكن اعلم أيها الحبيب أنه لا مفر لك، وحتى تعلم أنه لا يمكن لأي قوة على ظهر هذه الأرض أن تحول بين الإنسان وبين هذه الحقيقة الكبرى مهما كانت تلك القوة، مهما كان منصبه، ومهما كان جاهه، ومهما كانت أموالك، ومهما كان غناك، فلن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين هذه الحقيقة، إنها حقيقة الموت.
انظر حينما تأتي ساعة الصفر ويقترب الأجل، وتتلاشى اللحظات الأخيرة من عمرك، وتنام على فراش الموت، وحولك أولادك وأحبابك يبكون، والأطباء من حولك يحاولون؛ بذلوا لك كل رقية، وقدموا لك كل دواء، وقدموا لك كل علاج.
فأنت من أنت؟ أنت صاحب الأفعال، وأنت صاحب الجاه، وأنت صاحب السلطان، وأنت صاحب المنصب، وأنت الغني، بذل الأطباء لك كل رقية، وقدموا لك دواء، وبذلوا لك كل علاج، ولكن انظر إليه قد اصفر وجهه، وشحب لونه، وتصبب جبينه بالعرق، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، ويريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح، وينظر إلى من حوله من أحبابه، إلى أهله، إلى أقاربه، فيراهم تارة يبتعدون، وتارة يقتربون، ومرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، ويرى الغرفة التي هو فيها والفراش الذي هو ممتد عليه، يرى هذه الغرفة تتسع مرة كالفضاء الموحش، ومرة تضيق فتصير كخرم إبرة، وهو بين هذه السكرات، وبين هذه الكربات، وفي هذا الحزن الشديد.
فلقد فاتته الآمال ولم يحققها، بنى داره وجهد واجتهد وكنز الأموال، فهو بين حزن شديد على ما فات وبين غم شديد على أنه لا يدري ما الذي سيلاقيه بين يديه من هذا العالم الجديد، عالم البرزخ الذي سيترك عالم الدنيا ويدخل إلى هذا العالم بعد الموت.
هو في هذه السكرات، وفي هذه الكربات، وبين هذا الغم والهم، ينظر فجأة فيرى ملائكة من بعيد تقترب، يا ترى أهذه الملائكة التي أراها هي ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! يا ترى هذا الذي جلس عند رأسي ملك الموت ينتظر الأجل أن يوفى من الله كما قدر الله جل وعلا؛ هل سينادي على روحي ويقول: يا أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض غير غضبان، أم سينادي ويقول: يا أيتها الروح الخبيثة أخرجي إلى سخط الله وعذابه؟ يا ترى هل ستكون حفرتي روضة من رياض الجنة أم ستكون حفرة من حفر النيران؟ بين حزن شديد على ما فات، وبين غم شديد؛ لأنه لا يدري ما الذي سيلاقيه، ما الذي سيكون بين يديه.
ينظر إلى أولاده وإلى أحبابه وإلى أهله الذين التفوا من حوله يبكون، فينظر إليهم حينما يفيق بين السكرات والكربات نظرة كلها استعطاف، نظرة كلها شفقة، نظرة كلها رجاء، نظرة كلها رحمة، نظرة كلها سؤال، ويقول لهم: يا أولادي، يا أحبابي- فدوني بأعماركم، لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، أنا صاحب الأموال، أنا الذي بنيت الدور، وأنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي جمعت المال، وأنا الذي جهدت واجتهدت، فافدوني بأعماركم، زيدوا في عمري ساعة أو ساعتين، أريد أن أستمتع بالأموال، أريد أن أستمتع بالسيارات، أريد أن أستمتع بالعمارات، ولكنه في واد والناس في واد آخر!(113/7)
سكرات الموت يعانيها الأنبياء والصالحون
لا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين هذه الحقيقة مهما كان جاهك، ومهما كان منصبك، ومهما كانت قوتك، لا يمكن بأي حال {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]؛ لأن الذي أصدر الأوامر لملك الموت هو من يقول للشيء كن فيكون، إنه الله رب العالمين.
فيا أيها الغافلون! ويا أيها اللاهون! ويا أيها الساهون! ويا أيها المذنبون! ويا أيها الظالمون! ويا أيها المقصرون! اعلموا أنكم راحلون إلى الله جل وعلا، اعلموا أنكم ستقفون بين يدي الله جل وعلا، فيحاسبكم عن القليل والكثير، وعن النقير والقطمير، وعن الصغير والكبير، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].(113/8)
علي بن أبي طالب يعاني سكرات الموت
وهكذا لما احتضر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد أن ضربه ابن ملجم عليه لعنة الله، كان لا يقول إلا هذه الكلمة: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله أخلو بها وحدي، لا إله إلا الله يغفر بها ذنبي، لا إله إلا الله يجبر بها كسري، لا إله إلا الله يقبل بها عملي، لا إله إلا الله ألقى بها ربي.
هكذا كان يقول علي إلى أن لقيت روحه ربها جل وعلا.(113/9)
المأمون وهارون الرشيد يحتضران
ولما احتضر هارون الرشيد ونام على فراش الموت طلب أن يرى كفنه، ونظر إلى كفنه بعينيه قبل أن يموت، وبكى وبكى وبكى، ثم قال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29]، أين المال؟ وأين منصبي؟ وأين جاهي وأين سلطاني؟ وأين مرءوسي؟ وأين خدمي وأين حشمي؟ وأين عماراتي؟ ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانية! ولما احتضر المأمون أمرهم إذا أفاق من سكرات الموت أن يحملوه فيرى قبره بعينيه قبل أن يموت، فحملوه إلى قبره، فنظر إلى قبره وقبض على لحيته، وأخذ يبكي ويبكي ويبكي، ثم رفع رأسه إلى الله وقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.
ويروى أن أحد الصالحين قام فجعل لنفسه في بيته قبراً، وكلما سيطرت عليه الشهوات، وسيطرت عليه الدنيا، وسيطرت عليه الفتن؛ نزل إلى هذا القبر الذي حفره بيديه، ويغلقه على نفسه بخشبة أعدها لذلك، ويظل يصرخ في قبره ويصيح ويقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، ويظل يصرخ ويصيح بأعلى صوته حتى تنقطع أنفاسه، ويغرق في عرقه، فيقلع الخشبة ويخرج إلى النور والهواء، ويبكي ويقول: ها أنت يا نفس قد عدت.(113/10)
عمرو بن العاص يصف الموت
لما حضرَت الَوفاة عمرو بن العاص صعد إليه ولده وقال له: يا أبتي! لقد كنت تتعجب ممن نزل به الموت ولا يستطيع أن يصف الموت، ولقد نزل الموت بك اليوم، فصف لي الموت يا أبتاه! فماذا قال عمرو بن العاص؟! قال: يا بني! إن الأمر أكبر مما كنت أتوقع بكثير، إن أمر الموت أكبر من هذا بكثير، ولكنني سأصف لك شيئاً منه، والله إنني لأحس الآن أن في جوفي شوكة عوسج، وأن على شفتي جبلاً عظيماً، وإن روحي كأنها تخرج من ثقب إبرة، وأن السماء قد أطبقت على الأرض وأنا بينهما.
هذا قليل من كثير! ويكفيك في سكرات الموت وكربات الموت، أن ترى ملك الموت، فلرؤية وجه ملك الموت أشد من آلاف الضربات بالسيوف، رؤية وجه ملك الموت أشد من ضربة بسيف، فيا أيها المسلمون، يا أيها العاصون، يا أيها المذنبون، يا أيها الغافلون، يا من تمرحون وراء الفتن، ويا من تمرحون وراء الهوى، ويا من تمرحون وراء الشهوات، ويا من تعصون الله ليل نهار! انتبهوا فإن الموت قريب، إن الموت يأتي بغتة، وبعد الموت ستعرضون على الله فرداً فرداً، وستسألون أمام الله حرفاً حرفاً، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
هذه هي المرحلة الثانية، يوم أن تنتقل بالموت من عالم الحياة إلى عالم الفناء، من القصور إلى القبور، من ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، من ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، من التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.
أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن ختم الله لهم عند موتهم بالتوحيد، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.(113/11)
عثمان بن عفان يعاني سكرات الموت
ولما حصر عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل عليه عبد الله بن سلام ليزوره في هذا الحصار الشديد، فقال عثمان: يا عبد الله بن سلام والله لقد كنت مع رسول الله في الليلة الماضية، لقد جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة وقال لي: (يا عثمان! حصروك؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: يا عثمان: منعوا عنك الماء؟ قلت: نعم يا رسول الله، فقال عثمان: فأدلى لي النبي دلواً فشربت من دلو النبي صلى الله عليه وسلم حتى إني أجد برد هذا الماء على ثديي وعلى كتفي الساعة، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عثمان إن شئت أن ينصرك الله نصرك عليهم، وإن شئت أن تفطر عندنا اليوم فلك ما شئت، فقال عثمان: بل أفطر معك الليلة يا رسول الله).
أترك هذا العالم عالم الشقاء وعالم الهم والغم وأفطر معك اليوم يا رسول الله! فقتل من يومها، واحتضر عثمان في يومها، وما كان يتكلم إلا بهذه الكلمة: اللهم اجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قالها عثمان ثلاثاً، ثم لقيت روحه ربها تبارك وتعالى.(113/12)
عمر بن الخطاب وسكرات الموت
يا عمر، يا ابن الخطاب، يا فاروق الأمة، يا أعدل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا من قال النبي في حقه: (لو كان نبي بعدي لكان عمر)! يا ابن الخطاب، يا عمر، يا فاروق هذه الأمة، يا من قال في حقك ابن مسعود (أكثروا من ذكر عمر، فإنكم إذا ذكرتم عمر ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله) يا عمر، كيف وجدت الموت؟ لما احتضر عمر بعد أن طعنه أبو لؤلؤة عليه لعنة الله، سأل الفاروق أول ما حملوه إلى داره: من الذي قتلني؟ طمئنوني وأخبروني، فقالوا: اطمئن يا أمير المؤمنين، إن الذي قتلك شاب مجوسي، فسجد عمر بن الخطاب شاكراً لله، ثم قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة فيحتج بهذه السجدة علي أمام الله يوم القيامة! فنظر وغشي عليه، وبعدما أفاق من سكرات وضربات الموت، نظر إلى ولده عبد الله وقال: يا عبد الله! أين أنا؟ فوجد رأسه على فخذ ولده عبد الله، فنظر عمر وبكى وقال: ما هذا يا عبد الله! ما هذا! قال: ماذا تريد يا أبتي؟! قال: ضع رأسي على التراب، ضع هذا الرأس على التراب يا عبد الله، قال: وما ضرك يا والدي، وما ضرك يا أبتي ورأسك بين فخذي؟! فبكى عمر الفاروق وقال: ويحك يا عبد الله! ضع رأسي على التراب، حتى ينظر الله إلي بعين رحمته، فيخفف علي سكرات الموت.
هذا هو عمر.(113/13)
أبو بكر الصديق يعاني سكرات الموت
وهاهو الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لما نام على فراش الموت جاءت ابنته عائشة تبكي وتصرخ، وتقول: يا أبتاه، يا أبتاه، وتقول في حقه شعراً لـ حاتم الطائي، فكشف الصديق الغطاء عن وجهه وقال: لا تقولي شعراً، وإنما قولي قول الحق جل وعلا، قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، فقالوا: يا أبا بكر، ويا خليفة المسلمين، نستدعي لك الطبيب، فقال الصديق: لقد جاءني الطبيب ونظر إليَّ، فقالوا: وماذا قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد.(113/14)
خاتم الأنبياء يعاني سكرات الموت
كيف وجدت الموت يا رسول الله، يا خير خلق الله، يا من غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ انظروا إلى احتضار النبي صلى الله عليه وسلم، احتضر النبي ونام على فراش الموت، وتألم للموت وأحس بسكرات الموت، ورشح جبينه الأنور بالعرق، ووضع يده في إناء به ماء كانت تحمله عائشة فمسح جبينه الأنور ثم قال: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) حتى أنت يا حبيبي يا رسول الله، حتى أنت يا رسول الله: (إن للموت لسكرات، اللهم هون علي سكرات الموت).
هذا هو حال نبينا، هذا هو حال رسولنا صلى الله عليه وسلم، وظل هكذا يقول: (إن للموت لسكرات) إلى أن نزل عليه جبريل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، فقال جبريل: يا رسول الله! ها هو ملك الموت قد أرسله الله إليك، ولكنه لن يدخل عليك إلا بعد أن تأذن له يا رسول الله! لقد أمره الله ألا يدخل عليك إلا بعد أن تأذن له، والله ما استأذن ملك الموت على أحد من قبلك، ولن يستأذن ملك الموت على أحد من بعدك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ائذن له يا جبريل).
ودخل ملك الموت فقال: السلام عليك يا رسول الله، لقد أمرني الله أن أخيرك، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتني أن أترك تركت، فمرني بما شئت يا رسول الله! فنظر النبي إلى جبريل، فقال جبريل: يا رسول الله! إن ربك مشتاق إليك، إن الله مشتاق إليك يا رسول الله! فنظر الحبيب المصطفى إلى جبريل وقال: وأنا قد اشتقت إلى لقاء ربي عز وجل، وأنا قد اشتقت إلى لقاء الله جل وعلا، انصرف يا جبريل، أقبل يا ملك الموت، فقال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليكم أهل البيت ورحمة منه وبركاته.
وانصرف جبريل عليه السلام، وأقبل ملك الموت، وجلس عند أشرف رأس، وعند أطهر روح، جلس عند رأس المصطفى وقال: يا أيتها الروح الطيبة، روح محمد بن عبد الله، روح خير خلق الله، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:27 - 28] نفس محمد، نفس رسول الله، {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
هذا هو حال المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الموت، يقول: (إن للموت لسكرات، اللهم هون على أمتي سكرات الموت).
ها هو الموت أيها المسلمون، ها هو الموت أيها الغافلون، ها هو الموت أيها المذنبون، ها هو الموت أيها العاصون، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، اللهم هون علينا سكرات الموت).(113/15)
إبراهيم وموسى يعانيان سكرات الموت
إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى، وانتبهوا أيها الموحدون، انتبهوا أيها المسلمون، أذكركم ونفسي أولاً بهذه الحقيقة، سأل الله إبراهيم الخليل عن الموت، فقال له: كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ ومن هو إبراهيم؟ إنه خليل الرحمن! كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ فقال إبراهيم: يا رب! وجدت الموت كسفود موضوع بين صوف مبلول-أي: كقطعة حديد شديدة الصلابة، وضعت في وسط صوف مبلول- وجذبت هذه الحديدة بشدة.
فقال الله لإبراهيم: أما إنا قد هونا عليك الموت يا إبراهيم.
كيف وجدت الموت يا موسى بن عمران؟ فقال موسى: وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة يقلى على النار! هكذا وجد موسى الكليم الموت، وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة، لا يستطيع أن يطير فينجو، ولا هو يموت فيستريح.(113/16)
البعث والنشور
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15] هذه هي المرحلة الثالثة يوم أن نبعث من القبور، وإن هذه المرحلة أيضاً أمرها خطير، وخطرها عظيم، نستمع أيها الأحباب في عجالة سريعة إلى كلمات موجزة عن هذه المرحلة الثالثة والأخيرة؛ لأن ما بعدها إما عذاب وإما نعيم، إما جنة وإما نار.
{وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:15]، هذه المرحلة الثالثة التي سلم الله فيها على يحيى عليه السلام، يوم أن ولد ويوم أن مات ويوم أن يبعث، يسلم الله عليه، ويؤمنه الله في هذه المواطن الثلاث.(113/17)
نفخة البعث
وتأتي بعد ذلك نفخة البعث، يوم أن يحيى الله إسرافيل وجبريل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، فينادي الحق تبارك وتعالى ويقبض الله الأرواح بيمينه، فأرواح المؤمنين تتوهج لها ضياء ونور، وأرواح المشركين لها ظلمة، فيقبضها الله بيمينه ويضعها في الصور، ويأمر الله إسرافيل بالنفخ ثم يقول: وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده! صاروخ موجه من قبل من يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49].
ثم ينادي مناد من قبل الحق على أهل القبور ويقول: أيتها العظام البالية، أيتها العظام الناخرة، قومي لفصل القضاء بين يدي رب الأرض والسماء! فيخرج الجميع بعدما أحياهم الله، وبعدما انشقت عنهم الأرض، ونبينا أول من تنشق عنه الأرض، يخرج الناس حفاة عراة غرلاً، والحافي هو من ليس في قدميه نعل، والعاري هو من ليس على بدنه ثوب، و (غرلاً) جمع أغرل، والأغرل هو الصبي قبل الختان، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
فيخرج الناس مذهولين مذعورين، فكلهم في فزع، وكلهم في رعب، والكل شاخص ببصره إلى السماء ينتظر الأمر من الله جل وعلا.
والشمس فوق الرءوس، ها هي أرض المحشر، وها هو يوم البعث، (ويوم يبعث حياً) يوم أن نبعث من القبور حفاة عراة غرلاً، قالت عائشة: (الرجال مع النساء يا رسول الله؟ قال: نعم يا عائشة، قالت: يا رسول الله! ينظر الرجل إلى سوءة المرأة، والمرأة إلى سوأة الرجل؟ قال: يا عائشة! إن الأمر أكبر من أن يهمهم ذلك، أما قرأت قول الله جل وعلا: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]).
الكل شاخص ببصره ينتظر الأمر من الله، وفجأة تتنزل الملائكة صفوفاً، أهل السماء الأولى من الملائكة يصفون، ويقفون إلى جوار الخلائق وفيهم الأنبياء، تنزل الملائكة وهي وتنظر الخلائق إلى الملائكة المخلوقات النورانية، فتقول الخلائق للملائكة: أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة: سبحان الله! كلا، وهو آت.
يأتي إتياناً يليق بكماله وجلاله للفصل بين العباد، وللقضاء بين العباد، وتتنزل الملائكة من السماء الثانية ومن الثالثة حتى السابعة، وبعد ذلك ينزل حملة العرش لهم صوت بتسبيحهم وهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان من لا يذوق الموت، سبحان من كتب الموت على الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح.
وبعدها ينصب الكرسي حيث شاء الله وحيث أراد الله، وينزل الملك نزولاً يليق بكماله وجلاله، وكلما دار ببالك من صفات الله فالله بخلاف ذلك، ويستوي الملك على كرسيه استواءً لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، وللكلام بقية، ولكنني أكتفي بهذا القدر وأسأله الله العظيم رب العرش الكريم، أن يحشرنا في زمرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(113/18)
نفخة الفزع ونفخة الصعق
يوم البعث خطره عظيم، وهو بعد مرحلة الصعق، وبعد نفخة الصعق أي: الموت، ولا بأس على الإطلاق أن نكرر ونذكر بهذا الكلام، فإننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكره دائماً، لأن إسرافيل ينفخ في الصور ثلاث مرات، وهذا هو الصحيح: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، فنفخة الفزع يفزع بعدها كل من في السماوات وكل من في الأرض إلا من شاء الله، ثم تأتي نفخة الصعق- أي: الموت- فيموت بعدها كل حي على ظهر هذه الأرض، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} [الزمر:68] أي: فمات {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وقلنا: إن الاستثناء هنا لجبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش.
ويأتي ملك الموت إلى الله بعدما مات الملوك، ومات الحكام، ومات الرؤساء، ومات الجبابرة، ومات كل مخلوق، فيقول الملك لملك الموت: يا ملك الموت! من بقي؟ فيقول ملك الموت: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، فيقول الله لملك الموت: ليمت جبريل -اللام لام الأمر، لام العظمة، لام الكبرياء، لام الإرادة، لام من يقول للشيء كن فيكون- فيموت جبريل، ليمت ميكائيل، فيموت ميكائيل.
فيأتي ملك الموت إلى الملك فيقول الملك لملك الموت: يا ملك الموت من بقي؟ فيقول: يا رب! مات جبريل ومات ميكائيل، فيقول الله تبارك وتعالى: ليمت حملة العرش، فحملة العرش الذين يحملون عرش الله يموتون، إذاً: بعد موتهم من الذي يحمل عرش الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والاستقرار، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته؛ الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته.
ليمت حملة العرش، فيموتون، فيأتي ملك الموت، فيقول الله له: من بقي؟ فيقول: يا رب بقي إسرافيل الذي ينفخ الصور، والصور هو البوق، فيأمر الله الصور فينتقل من إسرافيل، ويقول: ليمت إسرافيل، فيموت إسرافيل، ويبقى ملك الموت، فيأتي ملك الموت إلى ملك الملوك، فيقول الملك لملك الموت: يا ملك الموت من بقي من خلقي؟ فيقول: يارب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي عبدك الذليل الضعيف الماثل بين يديك، فيقول الله جل وعلا لملك الموت: يا ملك الموت أنت خلق من خلقي، وخلقت لما ترى، فمت يا ملك الموت، فيموت ملك الموت.
مات الجميع، مات جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت وحملة العرش، إذاً: من الباقي؟ وهنا يقبض الله الدنيا ويبسطها ثلاث مرات، ويهتف بصوته ويجيب، فما من سائل يومها ولا مجيب إلا الله، فينادي ويهتف بصوته ويقول: أنا الجبار أنا الجبار أنا الجبار {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثلاث مرات؟ فلا يجيبه أحد؛ لأنه لا أحد، فيقول بذاته بلغة العظمة والكبرياء: الملك اليوم لله الواحد القهار.
كان آخراً كما كان أولاً، أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء، هو الأول، وهو الآخر، وهو الظاهر، وهو الباطن، وهو بكل شيء عليم.(113/19)
سماحة الإسلام وإرهاب الغرب
لقد أذاق العالم الغربي الأمة الإسلامية على حين غفلة منها وتخاذل وابتعاد عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم الويلات والنكبات العظام، فسفكوا دماءنا وانتهكوا أعراضنا، وسلبوا أرضنا، ولم نر لأمة المليار وحكامها إلا الشجب والتنديد، ولم نر من مجلس الخوف وهيئة الرمم إلا الصمت، والميل الواضح الفاضح إلى إخوانهم من أهل الكفر والإلحاد، ولا غرابة في ذلك، فالكفر ملة واحدة، وقد رموا المسلمين عن قوس واحدة، واللوم لا يرجع عليهم بل يرجع إلى هذه الأمة المتشرذمة المتناحرة إلى هذه الأمة التي ما زالت تغط في نومها العميق وغفلتها المستمرة، وإعراضها الواضح عن منهج الله ورسوله والسلف الصالح فإلى متى ستستمر الغفلة؟!(114/1)
صور مخزية للإرهاب الغربي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا المكان الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه أحبتي في الله! (سماحة الإسلام وإرهاب الغرب) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودت حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: صور مخزية للإرهاب الغربي.
ثانياً: صور مشرقة للتسامح الإسلامي.
ثالثاً: لا تيأسوا من روح الله.
وأخيراً هذا هو طريق النجاة.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(114/2)
المجازر الوحشية التي ارتكبها الغرب ضد المسلمين
أولاًَ: صور مخزية للإرهاب الغربي: أحبتي في الله! إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول، كما قال ربنا جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة، وهزم الأمة المسلمة عسكرياً واقتصادياً وفكرياً ونفسياً وعلمياً بعد أن تخلت الأمة عن أسباب النصر بانحرافها عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وذلك مصداقاً لقول ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، راح الغرب المنتصر يسوم الأمة المهزومة سوء العذاب، ويمارس في حقها كل أشكال وألوان الإرهاب الفكري والنفسي والاقتصادي والعسكري، وفي هذا الوقت الذي يمارس فيه الإعلام الغربي لوناً قذراً من ألوان الإرهاب الفكري بوصم الإسلام والمسلمين بالأصولية، والإرهاب والتطرف، والوحشية والبربرية، والجمود والتخلف والرجعية إلى آخر هذه التهم المعلبة الجاهزة، أقول: شاء الله جل وعلا أن تسقط ورقة التوت، وأن تتمزق خيوط العنكبوت، التي طالما وارى بها النظام الغربي عوراته الغليظة، وذلك يوم أن قرر مراهق البيت الأبيض أن يضرب السودان وأفغانستان بالصورايخ والطائرات ويقطع الإرسال العالمي، ليخرج علينا إرهابي البيت الأبيض بوجهه الكالح العبوس، ليزف إلينا نبأ الغارات الجوية على السودان وأفغانستان بنفس الطريقة التي زف بها إلينا سلفه جورج بوش نبأ ذبح العراق، وبنفس الطريقة التي خرج بها سلفهما رونالد ريجن ليزف إلينا نبأ الغارات الجوية على ليبيا، مسلسل متكرر متكرر! والضحايا يتساقطون من الموحدين والمسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يضرب السودان ذلكم البلد الإسلامي الوديع الآمن الذي لا ذنب له إلا أنه أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية، ورفض كل أشكال الهيمنة الغربية والأمريكية.
لقد حاول الغرب بكل سبيل أن يمزق الأواصر الأخوية والعلاقات الودية بين مصر والسودان؛ ليدخل البلدان دوامة صراع دموي قاتل لصالح الغرب، ولكن الله سلم، وتعاملت مصر سلمها الله مع المكر الشيطاني الغربي بغاية الحكمة والذكاء.
وأفغانستان ذلكم البلد المسلم الشامخ الذي مرغ أنف الدب الروسي الوقح في الوحل والطين والتراب، أسأل الله أن يؤلف بين قلوب قادته، وأن يجعل الحركة الإسلامية الشرعية الجديدة -حركة طالبان- غصة في حلوق المنافقين، وأسأل الله أن يجعلها بداية عهد جديد لتطبيق شرع الله، ولإقامة دولة الإسلام فوق ثرى أفغانستان المبارك، الذي روي بدماء الشهداء والأبرار، إن ربنا هو العزيز الغفار! يضرب السودان وتضرب أفغانستان بحجة ماذا؟! بحجة محاربة الإرهاب في كل مكان في العالم، وأنا لا أتصور كيف يفكر هؤلاء وكيف يتصور هؤلاء البشر على وجه الأرض؟! تحارب رائدة الحضارة الغربية أمريكا الإرهاب في كل مكان في العالم، وفعلها ليس من الإرهاب في شيء، وتجويع الشعوب الآمنة، وضرب الشعوب الوديعة ليس من الإرهاب في شيء قتل عشرات الآلاف من الأطفال في العراق ليس من الإرهاب في شيء قتل الآلاف من أطفال الصومال ليس من الإرهاب في شيء قتل العشرات والمئات من أطفال ليبيا ليس من الإرهاب في شيء إبادة كاملة لهيروشيما ونجازاكي ليس من الإرهاب في شيء إبادة شعب الهنود الحمر ليس من الإرهاب في شيء المعاملة العنصرية اللونية البغيضة في أمريكا ليس من الإرهاب في شيء محاربة المكسيك في عام (1914م) لمجرد أن المكسيك لم يقفوا ليحيوا العلم الأمريكي، فحوربت المكسيك بمنتهى الشراسة ليس من الإرهاب في شيء.
قتل أمريكي في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ولا حول ولا قوة إلا بالله! ما دام الإرهاب يمارس بأيد أمريكية فليس من الإرهاب في شيء أبداً، وينبغي للعقلاء أن لا ينسبوا هذا للإرهاب ولا للتطرف، أما إن تكلم مسلم مجرد كلمة، أو إن أخطأ مسلم خطأ حركياً هنا أو هنالك ركزت المجاهر المكبرة على هذا الخطأ؛ ليوصم الإسلام كله؛ وليوصم المسلمون جميعاً بالإرهاب والتطرف والأصولية والوحشية والبربرية، والجمود والرجعية، والتخلف والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة التي لم تعد تنطلي الآن إلا على السذج والرعاع أمر عجب!!(114/3)
انعكاس الموازين عند الغرب وزيفهم
أتذكر الآن ذلكم المشهد الخبيث لجندي بريطاني يقتل مسلماً من المسلمين فيدافع المسلم عن نفسه فيعض يد الجندي البريطاني فيقتله، ويذهب الجندي البريطاني إلى أخيه ليشكو إليه تطرف وإرهاب المسلم، فيقول له: تصور أنه عض يدي وأنا أقتله! تصور هذا الإرهاب عض يدي وأنا أذبحه وأقتله! فإذا كان الفعل من المسلم هو التطرف والإرهاب فما نسمي قتله؟! وقتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! إذا كان ضرب السودان وضرب أفغانستان بحجة محاربة الإرهاب في كل مكان فيجب على رائدة الحضارة الغربية أمريكا أن توقف إرهابها للعالم ثم أين هي من الإرهاب والتطرف اليهودي الذي يمارس الآن بعنجهية واستعلاء في فلسطين ولبنان وهضبة الجولان؟! أين رائدة الحضارة من هذا الإرهاب والتطرف؟! أين مجلس الأمن؟! أين هيئة الأمم؟! أين المنظمة العالمية لحقوق الإنسان؟! أين من يتغنون بالديمقراطية والحرية وينددون بالتطرف والإرهاب؟! أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق؟! أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق! يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أو ما يحركك الذي يجري لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق هذه حقيقة الغرب يا مسلمون! وينبغي على كل عاقل في أرض العرب والإسلام أن يعرف حقيقة الغرب، وطالما بحت أصواتنا بحقيقة الغرب، ولكن الأمة لا تريد أن تسمع عن الله، ولا تريد أن تسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة! الكفر ملة واحدة! قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزيناً الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قوم الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الخوف اللعين إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا إلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في جسم عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا أين مجلس الأمن من الإرهاب اليهودي في فلسطين وجنوب لبنان وهضبة الجولان وكل مكان.
نتنياهو يعربد كيف شاء يضرب بالأعراف والقوانين والمواثيق الدولية عرض الحائط، لا يحترم عالماً غربياً، ولا عالماً عربياً، ولا عالماً إسلامياً، بل يعربد كيف يشاء، حتى المبادرة الأمريكية الأخيرة للسلام لا زال إلى يومنا هذا يرفضها بنص صيغتها مع ظلمها البين البشع للفلسطينيين، وحق له أن يعربد كيف شاء عربد كما شئت يا هذا النتنياهو ما عاد في البيت من رب ستخشاه ما ضر لو تحتسي في الصبح قهوتنا على الأريكة في كبر عهدناه ما ضر لو تسرق الأنفاس من رئتي وتفتدي حلماً في الليل أحياه ما ضر لو تورد الأشعار إن صرخت وتجلد البحر لو يفضي بنجواه لا تخشى من سيفنا فالسيف قد صدأت أنصاله فانزوى والغمد واراه ما عاد كالأمس مزهواً بطلعته فآثرَ الغمد والتذكار سلواه أما الجواد الذي قد كنت تحسبه نجم السباق إذا المضمار ناداه فقد تخلى عن الميدان منهزماً فعاد منسحباً والعجز أعياه وأمتي لا تخف منها فقد هرمت والشيب في رأسها قد خط مجراه حليبها لم يعد يروي لنا ضمأ وضرعها جف مذ ماتت خلاياه عربد كما شئت يا هذا النتنياهو فأمتي تعشق الشجب وتهواه إن عم خطب بها فالكل ألسنة للشجب يا صاحبي والكل أفواه يا أمة عجزها قد صار قائدها وضعفها لم يعد في الدرب إلا هو يا أمة في خليط العمر نائمة تلوك ماض لها في القبر مثواه هانت على نفسها فاستعبدت وونت وسلمت كنزها للص يرعاه آسادها روضت في الأسر طائعة فأسدها دون أسد الأرض أشياه عربد كما شئت يا هذا النتنياهو فأمتي تعشق الشجب وتهواه يا قدس هذا زمان الليل فاصطبري فالصبح من رحم الظلماء مسراه يا قدس لا تقنطي فالحق منتصر وصاحب الحق ليس يرده الله ما دام في القلب عهد قد حفظناه وفي اليمين كتاب ما تركناه حق (للنتن ياهو) أن يعربد كيف شاء، فالعالم العربي والإسلامي ساكن كمياه البحر الميت، لا يجيد إلا الشجب والاستنكار.
أين رائدة الحضارة الغربية من الإرهاب الصربي الذي لا زال يمارس إلى اللحظة هذه على مسلمي البوسنة ومسلمي كوسوفا تطهيراً عرقياً واسع النطاق، وإبادة جماعية بشعة على مرأى ومسمع من الغرب الذي يتغنى بالديمقراطية والحرية، وعلى مرأى ومسمع من العالم العربي والإسلامي.
كوسوفو تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق كوسوفو من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق كوسوفو من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الصـ ـرب طوقاً من خلفه أطواق قدمتها الصلبان للصرب قربا ناً وللصرب كلهم عشاق قد حفظنا للمرة الألف عنـ ـكم عالم الغاب ما له ميثاق ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوا لرأينا مثل الذي رآه العراق أين العالم الغربي من الإرهاب الصربي من الإرهاب اليهودي من إرهاب أساطين الفساد الخلقي على وجه الأرض؟!! أين هم؟! لقد استخدم الأطفال ولأول مرة في التاريخ كله كدروع بشرية في حرب البوسنة مع الصرب الأنجاس على مرأى ومسمع من العالم الغربي.
استخدم أطفال البوسنة كدروع بشرية، يفخخ الأطفال بالألغام ويطلق الأطفال إلى أهاليهم من أبناء الجيش البوسني، وعن طريق الريمونت كنترول يتم التحكم عن بعد وتفجر الألغام في الأطفال، ولأول مرة يستخدم أطفال المسلمين كفئران تجارب في البوسنة لأول مرة استخدم أطفال المسلمين كتجارة للرقيق واسعة النطاق في قلب أوروبا، أطفال البوسنة في ظل قيادة العالم الغربي للبشرية كلها، يوم أن تخلت أمة القيادة عن القيادة، يوم أن انحرفت عن منهج الله ورسوله انطلق الصرب ليحققوا عملياً على أرض الواقع ملحمتهم الشعرية الكبرى التي تسمى بإكليل الجبل والتي تقول كلماتها: سلك المسلمون طريق الشيطان دنسوا الأرض ملؤها رجساً فلنعد للأرض خصوبتها ولنطهرها من تلك الأوساخ ولنبصق على القرآن ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً فليذهب غير مأسوف عليه(114/4)
صور مشرقة للتسامح الإسلامي
أيها الأحبة! تلك عقيدة الصرب التي يحولونها إلى واقع عملي ومنهج قذر على أرض الواقع في عالم يقود فيه البشرية كلها الرجل الغربي الإرهابي المتطرف الخائن، في الوقت الذي يمارس فيه إعلامه لوناً قذراً من ألوان الإرهاب بوصم الإسلام والمسلمين جميعاً بالتطرف والأصولية والإرهاب، وفي مقابل هذه الصور المخزية للإرهاب الغربي أطيب النفوس والقلوب، وتمنيت أن لو أسمعت زعماء العالم الغربي جميعاً هذه الكلمات التي تبين الصور المشرقة للتسامح الإسلامي.(114/5)
الناس سواسية في ميزان الإسلام
أيها الأحبة الكرام! بكل أسف شوهت صورة الإسلام الوضيئة! بكل أسف لطخت صورة الإسلام الزاكية! فالإسلام الآن متهم عند هؤلاء المجرمين بالتطرف والأصولية والإرهاب.
يا مسلمون! ارفعوا أنوفكم لتعانق الرءوس كواكب الجوزاء فالإسلام دين الأمن والاستقرار والرخاء، بل وأنا أعلنها بملء فمي وأعلى صوتي: إن اليهود والنصارى ما ذاقوا نعمة الأمن والأمان والاستقرار إلا في ظلال الإسلام، وشريعة محمد بن عبد الله، والتاريخ بيننا، بل ولن أستشهد حينئذ بأقوال أئمتنا المسلمين، وإنما سأستشهد لمن أنكر هذه الحقيقة الساطعة في كبد السماء بأقوال كتاب الغرب أنفسهم من المنصفين الذين سجلوا هذه الشهادة للتاريخ، وسيظل التاريخ يتألق في هذه الصفحة -صفحة التسامح الإسلامي- إشراقاً وعظمة وجلالة، سجلوا للتاريخ كيف كانت سماحة الإسلام، وكيف كانت حضارته.
أيها الأحبة! إن الإسلام عظيم لا يميز بين الناس إلا بالتقوى والعمل الصالح، فالناس جميعاً على وجه الأرض سواء، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وجاء هذا الإعلان القرآني العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في حجة الوداع أو في أواسط أيام التشريق قال: (أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى والعمل الصالح، وقرأ النبي قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13])، هذه حضارة الإسلام! وهذا تسامح الإسلام! لا فضل لمن ارتقى على من تواضع ولا لمن حَكم على من حُكم، ولا لمن اغتنى على من افتقر، فقد ساوى الإسلام بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي ومعاذ الأنصاري وبلال الحبشي وحمزة القرشي وأنشدها سلمان بغاية الفخر أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم(114/6)
مبادئ الإسلام وتطبيقها على الواقع
والسؤال الآن: هل ظلت مبادئ الإسلام السامية حبيسة الأدراج كما ظلت مواثيق الأمم المتحدة حبيسة الأدراج لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به؟ ثم هل حبست المدينة المنورة -تلك المدينة التي أعلنت لأول مرة مبادئ الإسلام السامقة- هذه الأسس السامية، وهذه القوانين، وهذه الأخلاق كما حبست فرنسا بعد الثورة الفرنسية مبادئ الثورة في الحرية والديمقراطية حتى عن دولها ومستعمراتها التي ترضخ تحت حكمها؟! ثم هل نصبت حضارة الإسلام لهذه المبادئ السامية تمثالاً كتمثال الحرية المكذوب في قلب ميدان واشنطن في قلب نيويورك ذلكم التمثال الكاذب الذي يسحق أهله من الأمريكان الحرية وأهلها خارج حدود أمريكا سحقاً؟! هل حذف الإسلام تلك المبادئ السامية؟!
الجواب
اقرءوا التاريخ، فهذا رائد الحضارة وإمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة: (أن امرأة من بني مخزوم من الأشراف سرقت واهتمت قريش بهذا الأمر، وقالوا: من يشفع لها عند رسول الله، وانطلق حب النبي أسامة بن زيد ليشفع للمخزومية عند المصطفى، فغضب غضباً شديداً وهو يقول لـ أسامة: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ ثم ارتقى المنبر، وقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) تلك حضارة الإسلام.
وهذا عمر فاروق الأمة رضوان الله عليه لما نزل من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس أعطى لأهل إيليا من النصارى الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وأمر أن لا تهدم كنائسهم! وهذا عمر بن عبد العزيز لما فتح الإسلام مدينة سمرقند وأرسل أهل سمرقند لأمير المؤمنين عمر رسالة يقولون فيها: بأن الفتح الإسلامي للمدينة فتح باطل؛ لأن الجيش لم يدعونا للإسلام، ولم يفرض علينا الجزية إن امتنعنا، ولم يخبرنا بالمنابذة، فلما عرض عمر بن عبد العزيز الأمر على قاض المسلمين أقر القاضي ببطلان الفتح الإسلامي لسمرقند، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن أصدر الأوامر لقائد جيوشه في بلاد سمرقند بالانسحاب فوراً، فخرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي الجيش الفاتح -المنتصر على نفسه ابتداء- ليعلنوا جمعياً القولة الخالدة: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.
ولما فتح المسلمون الشام، واستولوا على حمص ودمشق، وفرضوا الجزية على أهل حمص وعلى أهل دمشق، سمع القادة المسلمون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح أن هرقل قد جمع جيشاً جراراً لينقض على الجيش الإسلامي انقضاضاً ساحقاً، فما كان من قادة المسلمين إلا أن ذهبوا إلى أهل دمشق وحمص ليخبروهم بأنهم لن يستطيعوا أن يدفعوا عنهم في مقابل الجزية، فردوا الجزية كلها إلى أهل حمص ودمشق، فخرجوا جميعاً -مع أنهم كانوا يدينون لدين النصارى من الروم- يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لعدلكم أيها المسلمون أحق إلينا من جور الروم وظلمهم، وإن كنا على مثل دينهم.
وأظن أنكم جميعاً تعلمون قصة اليهودي الذي سرق درع علي بن أبي طالب، فيقف إلى جوار أمير المؤمنين علي أمام قاض مسلم، فيقول القاضي لـ علي وهو أمير المؤمنين: ما القضية؟ فيقول علي: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فيلتفت القاضي إلى اليهودي ويقول: ما جوابك؟ فيقول: الدرع درعي وهو معي، فيقول القاضي: هل معك من بينة يا أمير المؤمنين؟ فيقول: لا، فيقضي القاضي بالدرع لليهودي، فـ (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، وينطلق اليهودي بالدرع وهو يكلم نفسه: أقف إلى جوار أمير المؤمنين في ساحة القضاء، ويقضي القاضي المسلم بالدرع لي، وأنا أعلم يقيناً أن الدرع لـ علي والله إنها لأخلاق أنبياء، فيرجع اليهودي إلى القاضي ليقول له: أيها القاضي! أما الدرع فهو لـ علي، وأما أنا فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما سمعها علي رضوان الله عليه قال: أما وقد أسلمت فالدرع هدية مني لك.
وأظن أنكم جميعاً تحفظون قصة شاب مصر ذلكم الشاب القبطي الذي سابق محمد بن عمرو بن العاص الذي كان أبوه حاكماً لمصر ووالياً عليها، فسبق القبطي ابن حاكم مصر فضربه محمد بن عمرو بالسوط ضرباً شديداً وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! خذها وأنا ابن الأكرمين! فانطلق هذا القبطي إلى الأسد القابع في عرينه في مدينة المصطفى، ذلكم الرجل الذي يحب العدل، ويكره الظلم بكل كيانه، إنه عمر! ويدخل القبطي على عمر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بك فيقول عمر: ما القضية ومن أنت؟ فيقول: أنا قبطي من أهل مصر -ركب من مصر إلى المدينة على ظهر دابة يقطع الفيافي والقفار- فيقول عمر: ما القضية؟ فيقول القبطي: سابقت محمد بن عمرو فسبقته فضربني بالسوط ضرباً شديداً وهو يقول لي: خذها وأنا ابن الأكرمين! فقال له عمر: اجلس هنا، وأمر الصحابة أن يكرموا هذا القبطي، وكتب عمر كتاباً إلى والي مصر -وتدبر كلام عمر أسالك بالله- بعد ما حمد الله وأثنى عليه قال: من عبد الله عمر بن الخطاب إلى والي مصر، سلام الله عليك وبعد: فإن انتهيت من قراءة كتابي هذا فاركب إلي مع ولدك محمد فدخل عمرو بن العاص وفي خلفه ولده محمد على أمير المؤمنين عمر، فقال فاروق الأمة: أين قبطي مصر؟ فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين! قال: خذ السوط واضرب محمد بن عمرو، فضربه على رأسه، فقال له: اجعلها على صلعة عمرو، فقال: لا يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني، قال: والله لو فعلت ذلك ما حلنا بينك وبين ذلك، فما تجرأ عليك ولده إلا بسلطان أبيه، ثم قال عمر قولته الخالدة التي ترن في أذن الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال عمر: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! وهذا صلاح الدين يوم أن حطم الصليبيين في موقعة حطين، وسمع أن رتشارد قلب الأسد ذلكم القائد المراوغ الخبيث قد مرض، فما كان من صلاح الدين إلا أن أرسل إليه بطبيبه الخاص وبدواء من عنده.
ومحمد الفاتح ذلكم السلطان الشاب المبارك لما فتح القسطنطينية تحقيقاً للنبوءة النبوية، وأعطى الأمان لآل كنيسة (آيا صوفيا) الشهيرة، أعطاهم الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وكنيستهم، ولم يصبهم بأي أذى أو بأي سوء.
إنها سماحة الإسلام! تلك أخلاقنا! وهذا ديننا وكم تمنيت ورب الكعبة أن لو أسمعت العالم كله بزعمائه أن الإسلام دين لا يقر الإرهاب أبداً مهما كان لونه! ومهما كان جنسه! ومهما كان وطنه، بل هو دين الأمن والأمان دين السماحة والرخاء والاستقرار، ولكن بكل أسف شوهت الصورة المشرقة للإسلام، وركزت المجاهر المكبرة على بعض الأخطاء الفردية من المسلمين هنا وهنالك، حتى وصم الإسلام كله والمسلمون جميعاً بالأصولية والتطرف والإرهاب!(114/7)
لا تيأسوا من روح الله
إخوتي الكرام! لا تيأسوا من روح الله! هل تظنون أن الكون كله ملك لعباد الدولار من الأمريكان؟! إن الكون كله ملك لله، يتصرف فيه كيف شاء: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، فوالله الذي لا إله غيره ستسقط الحشرات الأمريكية كما سقطت الحشرات الماركسية الشيوعية، فتلك سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير، وكما أن الله سبحانه قد جعل الابتلاء للمؤمنين سنة جارية، فإنه قد جعل أخذ الظالمين سنة جارية.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان أين فرعون؟ أين هامان؟ أين قارون؟ أين الطواغيت؟ أين الجبابرة؟ أهلكهم الله الحي الذي لا يموت، وبقي الإسلام شامخاً، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأرجو أن لا تعصف رياح القنوط واليأس بقلوبنا، وأرجو أن نتعلم اليقين من هذا البدوي البسيط الذي يعيش في أرض الجزيرة في بلاد القصيم، يوم أن خرجت الطائرات لأول مرة فذهب أحدهم ليقول له: ادع الله فإن بريطانيا ستضرب بلاد المسلمين بالطائرات، قال: (شو يا خوي) الطائرات هذه؟! قال: والله الطائرات هذه أجسام ضخمة تطير في السماء، وتقذف الناس بالقنابل المحرقة؛ فتحرق المزارع، وتدمر المصانع والبيوت، وتهلك البشر، فقال لهذا الرجل المؤمن البسيط قولة عجيبة قال: (يا خوي الطائرات هذه فوق ربنا أم ربنا أعلى منها)؟ قال: بل الله أعلى وأجل، قال: إذاً: لا تخف، فإن الله سبحانه وتعالى يتصرف في ملكه كيف شاء.
هذا هو اليقين الذي نحتاجه الآن، وبكل أسف تضع الأمة الخطة الخمسية والسنوية والشهرية، وما وضعت أبداً ضمن خطة واحدة قوة وعظمة رب البرية مالك الملك.
لقد أصاب الله أمريكا في الأيام الماضية بإعصار يسمونه بإعصار (جرش) قتل ما يقرب من الثلاثمائة، وشرد ما يزيد على مليون ونصف أمريكي وأمريكية: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:42 - 44] معنا رصيد فطرة الإنسانية، وقبل وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها والله من معية لو عرفت الأمة قدرها! قال جل في علاه: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].(114/8)
طريق النجاة من المصائب
وأخيراً: طريق النجاة؛ لأضع بين يدي حضراتكم منهجاً عملياً في صورة عامة للأمة، وفي صورة خاصة للأفراد الذين يحضرون بين يدي الآن، ومن يستمعون إلي بعد ذلك عبر شريط الكاست، فأنا لا أخاطب هذه الألوف بين يدي فحسب، وإنما أخاطب ملايين الأمة في كل بقاع الأرض، وأسأل الله أن يوصل هذه الكلمة وأن يجعلها خالصة لوجهه، وأن لا يجعل فيها للشيطان ولا للنفس حظاً ولا نصيباً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(114/9)
ترك تضخيم العدو والتقليل من شأن الأمة
المعلم الثاني على طريق النجاة: أن لا تضخم الأمة من قوة عدوها، في الوقت الذي تقلل فيه من شأن طاقاتها وقدراتها وإمكاناتها، فالأمة ليست ضعيفة ولا فقيرة، لا من الناحية المادية، ولا من الناحية الفكرية، ولا من الناحية العلمية، بل إن عقول الأمة في بلاد الشرق والغرب هي التي تبدع هنالك يوم أن أوصدت الأبواب، وغلقت في وجوهها في بلاد المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الأمة قوية وغنية، وليست ضعيفة ولا فقيرة، وليست مريضة ولا عاجزة، لكنها أصيبت بطائفة من المرجفين ممن يضخمون قوة أعدائنا، ويقللون دوماً من شأننا وقدراتنا وطاقاتنا وقواتنا، حتى أصيبت الأمة بأخطر هزيمة ألا وهي الهزيمة النفسية، والمهزوم نفسياً مشلول الفكر والحركة، فلنتخلص من هذه الهزيمة.(114/10)
رفع راية الجهاد في سبيل الله
ثالثاً: رفع راية الجهاد في سبيل الله، ووالله لو تبناها زعيم عربي واحد بعد صلحه مع الله، وتطبيقه في بلده لشرع الله وقال: يا خيل الله اركبي! حي على الجهاد! والله الذي لا إله غيره لانتقض الشرق الملحد، والغرب الكافر، وهم يحرصون كل الحرص على أن تغيب قضية الجهاد عن الساحة؛ لأنهم يعلمون أن راية الجهاد لو رفعت لرفرفت راية الإسلام على بقاع الأرض كما رفرفت من قبل على أيدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعاً.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث ابن عمر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).(114/11)
المقاطعة الشاملة للمنتجات اليهودية
المعلم الرابع: وهذا لك أنت أيها المسلم بعد أن تحول ما سمعت في حياتك إلى واقع عملي ومنهج حياة، فلا تستهن به ألا وهو المقاطعة الشاملة للمنتجات اليهودية والأمريكية.
هل نعجز عن ذلك؟ إن المصيبة أن كل مسلم يقول: وما قيمة دوري أنا؟! وهل لو قاطعت أنا المنتج اليهودي والأمريكي سيتأثر الاقتصاد هنالك؟! وهل سينتعش الاقتصاد المحلي؟! دعك من هذا.
وهكذا هذا يفرط في هذا، وهذا يضيع هذا الأمر، وتضيع المسئولية بين الأمة كلها، لهذه السلبية القاتلة التي تخيم الآن في سمائنا.
يا أخي! أنت مسئول، فليحترق قلبك لهذه الأمة، افعل شيئاً تستطيع أن تفعله، دعك من هذه السلبية القاتلة، فوالله لن يسألك الله في حدود قدراتك وطاقاتك وإمكانياتك وإن قصرت فستسأل عن ذلك، ولا تستهينوا بهذا البند ووالله لو قاطع المسلمون البضائع اليهودية والأمريكية لاختلت الحركة والموازين تمام الاختلال.
انظر إلى حجم الواردات اليهودية والأمريكية إلى بلاد المسلمين، لا تنظروا إلى مصر فحسب، بل إلى الأمة أجمع ما مقدارها؟ لو وقف المسلمون على قلب رجل واحد، بل أنا أقول لو بصق المسلمون في آن واحد لأغرقوا اليهود، والله لو بصقوا فقط لأغرقوهم بالبصاق، لكنه الذل والانهزام.
لا تستهينوا بأن يقاطع كل مسلم منتجاً يهودياً أو منتجاً أمريكياً، ولنقف على قلب رجل واحد، ولنرى النتائج، والله جل وعلا لن يسألني إلا في حدود قدراتي وطاقاتي وإمكانياتي: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].(114/12)
الدعاء والتضرع إلى الله
وأخيراً أيها الأحبة! لا تنسوا سهام الليل واعلموا يقيناً أن التوكل الحقيقي هو الأخذ بالأسباب وتعلق القلوب بمسبب الأسباب جل وعلا، فابذل ما استطعت وما تمكنت من أسباب، لكن لا تنسى سهام الليل، لا تنسى الدعاء، وأنا سأسألكم بالله سؤالاً: عشرات الآلاف بين يدي الآن من المسلمين هل كلنا يخص الأمة بدعوة في كل سجدة في صلاته؟! هل هذا الجمع بين يدي الآن يخص الأمة بدعوة في كل سجدة؟! هل تنسى نفسك؟! لا، لكنك نسيت أمتك، ونسيت إسلامك.
إن قلة قليلة فحسب من الأمة ممن يحملون هم الأمة في قلوبهم، وهم الذين يتذللون ويتضرعون إلى الله في كل سجدة أن يرفع الله الذل والهم عن أمة الحبيب المصطفى.
فلا تستهن بالدعاء ولا تيأس أبداً من روح الله، ووالله الذي لا إله غيره إن الله لقادر أن يقول للشيء (كن) فيكون.
لو رأى الله منا الضعف، وإننا لم نعد نملك شيئاً نقدمه وأننا بذلنا كل ما في وسعنا لرأينا أمراً آخر، لكن لا زال كل مسلم يستطيع أن يقدم المزيد والمزيد، ولكنه التكاسل، والسلبية التي أسأل الله أن يرفعها عن أمتنا.
وأخيراً أيها الأحبة! أذكر بقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، وأذكر بقول الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى كما في صحيح مسلم من حديث نافع بن عتبة: (أنه صلى الله عليه وسلم قال: -تدبر كلام النبي الصادق- تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون بلاد فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله)، والجولة القادمة بنص حديث نبوي هي غزو الروم، ذلك وعد لا يكذب، والله جل وعلا يهيئ الكون كله الآن لهذه المرحلة، بل ووالله إنها لقريبة وعلى الأبواب، يهيئ الله الأرض الآن للمهدي عليه السلام الذي سيقود الأمة كلها تحت ظلال الخلافة الراشدة، لتغزوا الأمة الروم، ولتفتح الأمة القسطنطينية بالتكبير لله الكبير جل وعلا، مصداقاً لقول البشير النذير الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم من حديث ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام، وعز الموحدين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين! اللهم عليك باليهود والأمريكان! اللهم عليك باليهود والأمريكان! اللهم عليك بكل من ناصب المسلمين والإسلام العداء يا رحيم يا رحمان! ربنا إننا مغلوبون فانتصر، ربنا إننا مغلوبون فانتصر، ربنا إننا مغلوبون فانتصر! اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا! اللهم تول خلاصنا، اللهم مكن لأمة نبيك المصطفى! اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء، وجميع بلاد المسلمين! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا تائباً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً! اللهم اهدنا واهدِ بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم! عباد الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله، ومن كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، ولا أنسى أن أذكر إخواني في هذا الجمع الكريم المبارك أن لا ينصرف أحد إلا وقد ساهم بما يستطيع لهذا المركز الإسلامي العامر، وأسأل الله أن يسدد ويوفق إخواننا القائمين عليه لما يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(114/13)
العودة الصادقة إلى القرآن والسنة
أيها الأحبة الكرام! ما هو طريق النجاة؟ إن المعلم الأول على طريق النجاة للأمة من هذا المأزق الحرج هو: العودة الصادقة إلى القرآن والسنة، وإحياء عقيدة الولاء والبراء؛ فإن الكفر ملة واحدة، والسؤال الذي ينبغي أن نطرحه الآن، وأن لا نسأم من تكراره هو: لماذا لم تحارب أمريكا التطرف اليهودي والصربي؟
و
الجواب
لأن الكفر ملة واحدة، وتلك حقيقة قرآنية نبوية: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} [الممتحنة:1].
الكفر ملة واحدة، وأنا أسأل وأقول: متى سنربي أنفسنا ونساءنا وبناتنا وأولادنا على عقيدة الولاء والبراء في شمولها وصفائها إن لم نترب على هذه العقيدة في هذه الأيام؟! متى ستزول حالة الغبش التي يحياها المسلمون إلا من رحم ربك؟! متى ستزول هذه الحالة إن لم تزل الآن بعد هذه العلامات الناصعة البينة الواضحة على إرهاب وكفر وحقد هذه الأنظمة؟! ومتى تكون العودة الصادقة إلى القرآن والسنة؟ إن العودة الصادقة إلى الكتاب والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إنها شرط الإسلام وحد الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]، وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وقال جل في علاه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39].
فالعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا اختياراً، بل إنها شرط الإسلام وحد الإيمان.(114/14)
متى نصر الله؟
الإسلام هو العدو الأكبر لجميع ملل الكفر، ولذا فهم حريصون على حربه وحرب أتباعه، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون، والإسلام قادم من جديد، فعلى المسلمين أن يهيئوا أنفسهم حتى يكونوا أهلاً لنصر الله، فيعملوا بأسباب النصر، ومن أعظمها: تحقيق الإيمان والتقوى، وإعداد ما يستطاع من قوة.(115/1)
الإسلام هو العدو الأكبر لجميع الكفار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي يطول -والله- شوقي دائماً إليها، وزكى الله هذه الأنفس الكريمة التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور العامرة التي جمعنا وإياها كتاب الله، طبتم جميعاً -أيها الأخيار- وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في هذه الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (متى نصر الله؟) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه، في وقت تجمعت فيه كل جاهليات الأرض مرة أخرى للقضاء على الإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، وتجمعت الأحزاب للكيد للإسلام، وللقضاء على المسلمين، وتفنن أعداء هذا الدين في عقد المؤامرات المنظورة بمسميات لا تنفق إلا على الغوغاء والرعاع، فآثرت أن يكون لقاؤنا هذا بعنوان: (متى نصر الله؟).
وسوف ينتظم حديثي في العناصر التالية: أولاً: مقدمة لابد منها.
ثانياً: ولمنهج الله حكم.
ثالثاً: بالرغم من كل هذا فإن الإسلام قادم.
وأخيراً: فلنكن على مستوى هذا الدين.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء في هذه الظروف الحرجة من الأهمية بمكان.
أولاً: مقدمة لابد منها: أيها الأحبة الكرام! يجب أن نعلم يقيناً أن الإسلام هو الخطر الماثل أمام الشرق الملحد والغرب الكافر، وما زال هذا الإسلام منذ أن بزغ فجره، وأشرق نوره على أرجاء الدنيا؛ مستهدفاً من قبل أعدائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ مصداقاً لقول ربنا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
وحتى لا أستطرد طويلاً مع كل عنصر من عناصر هذا اللقاء يكفي أن نقف بتأنٍ وتدبر وتفكر أمام هذه الكلمات الخطيرة للمنصر الصليبي الحقود لورنسد ورد إذا يقول هذا المنصر الصليبي الحقود: لقد كان قادتنا يخوفوننا بشعوب مختلفة، ثم تبين لنا بعد الانتظار والتجربة أنه لا داعي لهذه المخاوف، كانوا يخوفوننا بالشعب اليهودي، ويخوفوننا بالشعب الشيوعي، ثم تبين لنا بعد ذلك أن اليهود هم أصدقاؤنا، وأن الشيوعيين هم حلفاؤنا، وتبين لنا أن عدونا الأوحد هو الإسلام! ولذلك كانت أنشودتهم التي يتغنون بها طيلة السنوات الماضية في حربهم للإسلام والمسلمين تقول كلماتها: أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة! هذا ما يردده الجندي المشرك الكافر الذي يرضع من لبن أمه هذه العقيدة، وهذه المعاني، وتلك الأصول، ينطلق في حربه للإسلام والمسلمين وهو يتغنى بهذه الأنشودة الوقحة ويقول: أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية، ولأمحو القرآن بكل قوتي! هذه هي أنشودتهم.
أيها المسلمون! أيها الشباب! لازالت هذه المعاني الوقحة الخطيرة هي التي تحرك أعداء ديننا في حروبهم مع المسلمين، وفي ذبحهم للمسلمين ذبح الخراف في كل بقاع الدنيا، وما أحداث البوسنة منا ببعيد، وستعلمون أن هذه المعاني هي التي يتغنى بها الصربيون الكفرة الفجرة على مرأى ومسمع من الدنيا كلها في عالم يسمونه بالعالم المتحضر، أو المتنور، أو المتطور! لازال الجندي الصربي يتغنى بأنشودته التي رددت معانيها آنفاً، وإن اختلفت في كلماتها، يردد الصرب أنشودتهم التي تُسمى بإكليل الجبل، وتقول كلمات هذه الأنشودة: سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملؤها رجساً، فلتعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من تلك الأوزار، ولنبصق على القرآن، ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب، ويتبع محمداً، وليذهب غير مأسوف عليه!(115/2)
حرب الإسلام بأيدي منافقين يتظاهرون بالإسلام
بالرغم من ضراوة هذه الحرب المعلنة التي لن تنته إلى قيام الساعة كما قال عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، بالرغم من ضراوة هذه الحرب الخطيرة المعلنة من أعدائنا الظاهرين الحقيقيين الواضحين فإنني أقول: إن مكمن الخطر يتمثل في أن تعلن الحرب على الإسلام والمسلمين على أيدي الكثيرين من أبنائه ممن يتكلمون بألسنتنا، ويتزيون بزينا، إن مكمن الخطر -بالرغم من ضراوة هذه الحرب المعلنة- يكمن في أن تعلن الحرب في كل زمان ومكان على أيدي الكثيرين من أبناء هذا الدين، ممن يتسمون بالمسلمين من بني جلدتنا، وممن يتكلمون بألسنتنا، وقد حذرنا الله شرهم، وحذرنا النبي شرهم، ووصفهم لنا وصفاً دقيقاً محكماً، ولكن يبدو أن الأمة تنسى أو تتناسى، ويبدو أن الأمة تغفل، ولا تجيد أن تفرق بين أعدائها الحقيقيين الذين يلبسون عباءة الإسلام في كل زمان وحين وبين الدعاة الصادقين والهداة المخلصين الذين تحترق قلوبهم كمداً وحزناً على أحوال الأمة، فينطلقون وهم يحملون أنفاسهم ونفوسهم على أكفهم، ويصرخون بالأمة أن ترجع إلى أصل علمها، ونبع شرفها، وأن تعلن الحرب، وأن تنابذ كل هذه المؤتمرات المشبوهة، وكل هذه المؤامرات الحاقدة، وأن تستيقظ الأمة لنفسها، وأن تحرص الأمة على دينها، وأن تعض الأمة بالنواجذ على دعوة الحبيب نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.(115/3)
صفات المنافقين
أصبحت الأمة لا تفرق بين هذا وبين ذاك، مع أن الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم قد وصف لنا هذا الصنف الخبيث وصفاً دقيقاً محكماً في حديث رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، واسمع أيها الموحد لله إلى هذا الحديث، وأصغ لي سمعك، وأحضر لي قلبك، يقول حذيفة: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -أي: بهذا الإسلام العظيم، وبهذا الدين الكريم- فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال الحبيب: نعم، فقال حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟ فقال الحبيب: نعم، وفيه دخن -خير سيأتي بعد هذا الشر لكن فيه دخن- فقال حذيفة: وما دخنه يا رسول الله؟! فقال الحبيب: قوم يهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقال حذيفة: فهل بعد هذا الخير -أي: الذي شابه هذا الدخن- من شر يا رسول الله؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقال حذيفة: صفهم لنا -يا رسول الله- لنتقي شرهم) أي: لنتقي خطرهم، ولنعرف خبثهم، ولنعرف صفتهم؛ لأنهم قد يزينون لنا الكلام؛ فهم من ألطف الناس بياناً، ومن أفصح الناس كلاماً، ومن أعظم الناس أجساماً، ومن أحسن الناس بياناً، ومن أحسن الناس جمالاً، قال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:204 - 205]، ولا يؤلمه إلا أن يتكاثر نسل المسلمين، لا يسعده أن يتكاثر نسل الضعفاء من الدول النامية على حد تعبيرهم وزعمهم، {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة:205 - 206] اتق الله! واعلم بأن الرزاق هو الله، اتق الله! واعلم بأن الملك كله لله.
اتق الله! ولا تخش معونة أمريكية، ولا تخش معونة شرقية، واعلم بأن الذي يرزق الكلاب هو الله، أفيرزق الله الكلاب وينسى الموحدين؟!! اتق الله واعلم بأن الرزق والأمر بيد الله، واعلم بأن الملك كله لله، واعلم بأن الضر والنفع بيد الله، واعلم بأن الخافض الرافع هو الله، واعلم بأن القابض الباسط هو الله، واعلم بأن الكون كله لله، قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} [الأعراف:96]، فقال هذا الصنف: لا نصدق الله، بل نكذب الله، ونكذب رسول الله، ونصدق الشرق الملحد، ونصدق الغرب الكافر!! {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف:96] أي: لو كانوا أهل إيمان بالله وتقوى لله، {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، من الذي يفتح؟ هل الشرق الملحد أم الغرب الكافر؟! لا ورب الكعبة! فنريد إيماناً يملأ القلوب، ونريد يقيناً في كلام علام الغيوب.
والله! إن القلب ليتقطع، وما من يوم يمر علي إلا وأجلس لأتابع وثيقة هذا المؤتمر، فيكاد قلبي أن ينخلع، يشرعون للدعارة، ويشرعون لسوء الأخلاق، ويريدون أن يحطموا الأسرة، ويريدون أن يلقوا الإسلام، ثم بعد ذلك يعلنون الحرب على الإرهاب والتطرف، وعلى كل من يحذر اليوم من مؤتمر السكان! هل هذا هو الحوار؟! وهل هذه هي الديمقراطية؟! وهل هذه الحرية؟! فليقرأ كل مسلم غيور هذه الوثيقة المشبوهة الداعرة؛ ليتعرف على خطورة الأمر، وعلى أن الأمر جلل، وعلى أن الأمر عظيم، وعلى أن الكارثة -والله- لا تبقي على الأخضر ولا على اليابس.
فلابد أن نعي هذه الحقائق، لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ألا يكتموه وأن يبينوه، ورب الكعبة! ما تعودت أن أثير العواطف، ولا أن أهيج المشاعر، ولكن سامحوني واعذروني؛ فإني كأي مسلم يخشى على دين الله، ويتحرق قلبه لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويتألم لأحوال أمته ولأحوال أهل ملته التي أسأل الله في عليائه وسمائه أن يحميها، وأن يحرسها، وأن يحفظ عليها توحيدها، وأن يحفظ عليها دينها، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أيها الأحبة الكرام! لابد أن تستقر هذه الحقائق في قلوبنا وعقولنا، فإن مكمن الخطر الحقيقي يكمن في أن تعلن الحرب على الإسلام من هذه العصبة التي تعلن الإسلام بلسانها، وتخفي العداء لهذا الدين بقلبها، قال عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
قال حذيفة: صفهم لنا يا رسول الله! أي: حتى نحذر ونتقي شرهم، فقال الحبيب: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا) وفي لفظ مسلم: (قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، فقال حذيفة: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟! قال: أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: أن تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك).
هذا الصنف الخبيث الخطير جلس على أبواب جهنم يدعو الناس إليها بأقواله وأفعاله وتقاريره وتشريعاته من دون الله عز وجل، ومع هذا لبسوا ثياب أهل الإيمان وقلوبهم قلوب أهل الزيغ والخسران، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى المنافقين والفجار، وليس هذا حكماً منا على بواطن الناس؛ فإن الأمر لله جل وعلا، ولكننا نقول هذا من منطلق قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
إذاً: أيها الأحبة الكرام! لابد أن نعي أن مكمن الخطر يتمثل في جيش فكري أمين يناصر أعداء هذا الدين، ولا يفتأ أفراد هذا الجيش أن يعلنوا الحرب الهوجاء على الإسلام والمسلمين من آنٍ لآخر؛ فاحذروا هذا الصنف، واعلموا خطره، واسمعوا بآذانكم وقلوبكم إلى الدعاة الصادقين والهداة المخلصين الذين يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم وأفعالهم.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا منهم، بمنه وكرمه؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.(115/4)