الغاية من خلق العباد
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو؛ فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، أحمدك -يا ربي- وأستعينك، وأستغفرك، وأستهديك؛ لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لك، هو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله.
اللهم احشرنا تحت لوائه، اللهم احشرنا تحت لوائه، اللهم أحينا على سنته.
اللهم أحينا على سنته، اللهم أحينا على سنته.
اللهم توفنا على ملته، اللهم توفنا على ملته.
اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم عافنا واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا، اللهم عافنا واعف عنا، واغفر لنا وارحمنا.
اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، اللهم استرنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً؛ إنك ولي ذلك ومولاه، وأنت على كل شيء قدير.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! مرحباً بكم في لقاء جديد من لقاءات الإيمان، في ضيافة الحق جل وعلا، وعلى مائدة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنضر الله هذه الوجوه، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وتقبل الله مني وإياكم صالح الأعمال، وغفر الله لي ولكم.
ثم أما بعد: فإن لقاءنا هذا هو مع موضوع هام، إنه موضوع الخوف من سوء الخاتمة، أسأل الله أن يحسن ختامي وختامكم.
اعلموا -أيها الإخوة في الله- أن الله جل وعلا خلق الإنسان ولم يتركه سدىً وهملاً، بل إن الله جل وعلا قد خلق هذا الإنسان، وحد له القوانين، وشرع له التشريعات، ووضع له الحدود التي تكفل سعادته في الدنيا والآخرة، فإن أطاع الإنسان أوامر مولاه؛ فأتمر بأوامره، وانتهى بنواهيه، ووقف عند حدوده جل وعلا؛ ضمن الله عز وجل له السعادة في دنياه، والنجاة والفوز في أخراه، وإن شذ هذا الإنسان عن أوامر الله جل وعلا، وعن نواهي الله عز وجل، ولم يقف عند حدوده؛ خاب -والله- وخسر في الدنيا والآخرة؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق سدىً وهملاً، قال صاحب (معارج القبول) عليه رحمة الله: اعلم بأن الله جل وعلا لم يخلق الخلق سدىً وهملاً بل خلق الخلق ليعبدوه وبالإلهية يفردوه فالله جل وعلا خلقك، وأنزل إليك الكتب، وأرسل إليك الرسل، فأمرك ونهاك، وحد لك حدوداً لا ينبغي أن تتجاوزها أو تتعداها، ثم بين لك المصير، وحدد لك الجزاء؛ حتى لا تأتي يوم القيامة وتقول: يا رب! لم يبلغني رسولك، ولم أقرأ كتابك، بل أقام الله جل وعلا عليك الحجة في هذه الحياة، فأنزل عليك الكتب، وأرسل إليك الأنبياء والمرسلين، وأبقى لك بعد الأنبياء والمرسلين ورثة الأنبياء وورثة المرسلين، ألا وهم العلماء الذين -دوماً وأبداً- يذكرونك بأوامر الله، ويحذرونك من نواهي الله، ويذكرونك بأن تكون وقافاً عند حدود الله جل وعلا؛ ضماناً لسعادتك وفلاحك ونجاحك في الدنيا والآخرة.
وحق على الله -أيها الأحبة في الله- لمن اتقاه أن يحسن بدايته، وأن يتولى رعايته، وأن يحسن نهايته، والتقوى كما عرفها علي رضوان الله عليه: هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل، وهذا وعد من الله جل وعلا للمتقين أن يحسن بدايتهم، وأن يتولى في الحياة رعايتهم، وأن يحسن نهايتهم بالفلاح والنجاح والتوحيد والإيمان.
وقد بين الله جل وعلا لك أن المصير: إما جنة -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها- وإما نار {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
إذاً: أنت أيها الإنسان مخلوق لله جل وعلا، ومؤتمر بأوامر الله، وملتزم بقوانين الله جل وعلا، فطالما أنك مخلوق لله فأنت عبد لمولاك، ولا ينبغي للعبد أن يتصرف في ملك سيده إلا بإذن وتصريح منه، فيقف عند أوامره، وينتهي بنواهيه، ويمتثل بحدوده جل وعلا، فإذا التزمت بالأوامر والنواهي والحدود حدد الله جل وعلا لك المصير، وإن كانت الأخرى فإن الأمر واضح، يقول الله جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
وقال في سورة النازعات: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقبل ذلك يقول الله جل وعلا: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 39].(42/2)
الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها
الله سبحانه وتعالى حدد لنا الطريق، وأخبرنا بحقيقة يغفل عنها الناس في وسط طغيان الشهوات والماديات، وهذه الحقيقة حقيقة تسربل بها طوعاً وكرهاً البغاة، والمتألهون، والظالمون، والمتكبرون، والمتجبرون، بل والأنبياء والمرسلون، إنها الحقيقة الكبرى، إنها قضية كلية من قضايا الكون الكلية، ألا وهي حقيقة الموت.
إن الموت -أيها الأحبة في الله- لا بد أن نذكره دوماً وألا ننساه؛ لأن من ذكر الموت عجل التوبة، والتزم بالقناعة والرضا، وعلم حقيقة هذه الحياة، فقد طغت الماديات والشهوات على قلوب كثير من الناس، لما ذكر الله جل وعلا الموت في القرآن ذكره بلفظة الحق؛ لأنه حق لا مراء فيه، وصدق لا كذب فيه، ولا باطل معه، يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]، انتبهوا إلى دقة هذه الكلمات! (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أنك تموت، والله حي لا يموت.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)، والحق أن يكون قبرك روضةً من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)، (تحيد) أي: تهرب وتفر وتجري! تحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، وتحيد إلى الطبيب إذا أحسست بالمرض، ثم ماذا بعد كل هذا؟ يا أيها القوي الفتي! يا أيها الذكي! يا أيها العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الحاكم والوزير! بل ويا أيها الوضيع! بل ويا أيها الحقير! استمعوا جميعاً (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فوالله الذي لا إله غيره! إن كل باك سيبكى! أنت اليوم تبكي على إخوانك وخلانك وأحبابك الذين يموتون، وغداً سوف يُبكى عليك أيها المسكين! كل باك سيبكى، وكل موجود سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى.
إنها حقيقة مرة والله الذي لا إله غيره وكثير من المسلمين غفل عنها، ولا تظن أن ذكرى الموت هو أن نقول: إننا كنا الليلة أو اليوم نشيع جنازة فلان أو فلانة، كلا! بل إن ذكرى الموت -أيها الأحبة في الله- هو أن نستعد دوماً وأبداً لهذا اللقاء، في معجم الطبراني: (أن رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله! من أكيس الناس وأعزم الناس؟ -أي: من أرجح الناس عقلاً، وأكثر الناس فطنة وذكاءً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثرهم ذكراً للموت) ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة أيها الأحباب! بل قال: (أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت).
يا أيها الأخ الكريم! اعلم علم اليقين أنه لابد أن تلقى الله رب العالمين، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:6 - 8].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
وقال عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
أي: إلى ربك يومئذ المرجع والمآل والعودة.
فيا أيها الإنسان! لا تظن أنك قد خلقت سدىً، ولا تظن أنك قد خلقت لتدور في اليمين وفي الشمال برغباتك وشهواتك وأهوائك ونزواتك، فافعل ما شئت في هذه الحياة، وابعد عن أوامر ربك ما شئت؛ لأنه لابد أنك ستقف يوماً بين يدي الله جل وعلا، لتسأل عما قدمت، وعما أخرت، وعما أسررت، وعما أعلنت، قال عز وجل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4]، قرأ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الآية يوماً فقال لأصحابه: (أتدرون ما قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: يوم تشهد الأرض على كل من كان على ظهرها)، فسوف تشهد عليك هذه الأرض، وتخبر بكل شيء؛ بكل ما كان، وبكل ما جرى، وبكل ما حدث.
ويقول الله جل وعلا في سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ * وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:65 - 68]، فتشهد عليك جوارحك، وتشهد عليك هذه الأرض التي تعيش عليها، والتي عصيت الله جل وعلا على ظهرها، ولم تعجل بالتوبة إلى الله عز وجل بعد هذه المعصية.
فيا أيها الأخ الكريم! اعلم أنك ما خلقت سدىً وهملاً، بل إنه لابد لك من لقاء بين يدي الله جل وعلا، ولكن هذه الحياة وهذه الفترة التي ستحياها بين وقت ميلادك ووقت مماتك هي فترة عصيبة ورهيبة.
فلابد أن تسجد لله شكراً أنك من الموحدين لله جل وعلا، والله الذي لا إله غيره! ليس الأمر باختيارك ولا بإرادتك أنت، وإنما الأمر بتوفيق الله جل وعلا كما قال عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فلا تظن أنك مسلم لله جل وعلا بفضلك واختيارك ورغبتك، بل إنك بعثت في أسرة مسلمة، ونشأت على الإسلام، جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي: من عاش في أسرة يهودية شب يهودياً والعياذ بالله! ومن عاش في أسرة نصرانية شب نصرانياً والعياذ بالله! ومن عاش في أسرة مجوسية شب مجوسياً والعياذ بالله! أما إن رأيت نفسك في أسرة تعلن التوحيد لله جل وعلا، وتنتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله! يا إخواني! إنها نعمة لو شكرنا الله جل وعلا عليها الليل والنهار ما وفيناه حق هذه النعمة؛ لأنه فضل الله أولاً وآخراً، وابتداءً وانتهاءً، فهو الذي اختارنا موحدين، وهو اختارنا مسلمين، وهو الذي ثبتنا على سنة رب العالمين، فعليكم أن تسجدوا لله شكراً على هذه النعمة، وصدق من قال: ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.(42/3)
الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم
الله جل وعلا خلق الناس جميعاً وفطرتهم على توحيده وعبادته كما قال عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، وانظروا إلى دقة الكلمات القرآنية! يقول صاحب (معارج القبول) في تعليقه على هذه الآية: لم يقل الله جل وعلا: وإذ أخذ ربك من آدم، وإنما قال: من بني ولم يقل ربنا: من ظهره، بل قال: (مِنْ ظُهُورِهِمْ)، ولم يقل: ذريته، بل قال: (ذُرِّيَّتَهُمْ) {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
جمع الله الأرواح في عالم يسمى بعالم الذر، وأشهد الله الأرواح على أن له الوحدانية والجلال والكمال، فشهدت كل نسمة وكل روح ستدب على ظهر الأرض إلى أن يرثها الله جل وعلا لله بالوحدانية والكمال، خلقها الله واستنطقها فنطقت، وقال لها: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي: ألست بربكم الذي خلقكم؟ ألست بربكم الذي يرزقكم؟ ألست بربكم الذي يرعاكم ويتولاكم؟ ألست بربكم الذي يوفقكم لما فيه الخير؟ ألست بربكم الذي خلق السماوات والأرض؟ ألست بربكم الذي رفع السماء بغير عمد وبسط الأرض؟ ألست بربكم الذي أنزل إليكم الكتب؟ ألست بربكم الذي بعث إليكم الرسل؟ فشهد الجميع لله بالكمال والجلال وقالوا: (بَلَى شَهِدْنَا) أي: شهدنا لله بالوحدانية، وشهدنا لله بالكمال والجلال، فذكرهم الله جل وعلا بهذا الميثاق الأول الذي نسيه كثير من المسلمين، ذكرهم الله وهو يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فهو الذي يعلم ما كان، وما قد كان، وما هو كائن، وما سيكون، قال جل وعلا: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وأنطقنا بالتوحيد والكمال في عالم الذر، ثم خلقنا الله جل وعلا وأنشأنا في بيت مسلم يدعو الله ويوحده عز وجل، فهذا فضل الله أولاً وآخراً، وابتداءً وانتهاءً.
ولكن لا تظن أن الأمر يقف عند هذا الحد، فكم من مسلم نشأ في بيت مسلم، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولكن الله جل وعلا قد ختم له بالكفر، والعياذ بالله! فكم من كافر وكم من عاصٍ وكم من مذنب عاش طوال حياته على المعصية، وعاش طوال حياته على الفسق والفجور، ولكن الله جل وعلا بفضل منه ورحمة ختم له عند موته بـ (لا إله إلا الله) فكان من أهل الجنان! فيا أيها المغرور يا أيها المخدوع بعلمه! يا أيها المخدوع بطاعته! يا أيها المخدوع بصلاته! يا أيها المخدوع بعدد حججه! يا أيها المخدوع بالطاعات! انتبه واحذر! فوالله الذي لا إله غيره! إن الخوف من سوء الخاتمة مزق قلوب الأنبياء والمرسلين، ومزق قلوب الأتقياء والعارفين، فلا تظنوا أن الأمر يسير أو هين، فكم من مسلم شهد لله بالوحدانية ولكنه مات على غير الإسلام وخرج من الدنيا على غير الإيمان! وكم من مسلم عاش طوال حياته على فسق وضلال وختم الله جل وعلا له بالتوحيد والإيمان، فنطق عند موته بـ (لا إله إلا الله) فكان من أهل الجنان!(42/4)
الأعمال بالخواتيم
فالتوفيق بيد الله ابتداءً وانتهاءً، وأولاً وآخراً، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يتوفاهم على التوحيد والإيمان.
استمع إلى كلام حبيبك ومصطفاك -والحديث في مسند الإمام أحمد - وانتبهوا يا إخواني! إلى دقة هذا الكلام، فوالله! إن هذا الموضوع في غاية الخطورة، واعلموا أن الذي يتكلم به هو المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال لها: يا أم سلمة! والذي نفسي بيده! ما من مخلوق الله من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه)، وفي رواية أخرى: (إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، وهذا حديث في غاية الخطورة، ووالله! لو أننا نحمل بين طيات جوارحنا إيماناً يلاصق قلوبنا مباشرة وحقيقة، وقرأنا هذا الحديث أو استمعنا إليه؛ لتمزقت القلوب، وارتعدت الجوارح والأفئدة، فالذي يدعو بذلك هو رسول الله، فماذا أقول أنا؟! وماذا تقول أنت؟! الحبيب رسول الله يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وهو المصطفى والمجتبى والمختار، وهو الذي كرمه الله جل وعلا على جميع المخلوقات، بل وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وهو الذي رباه الله على عينه، وهو الذي قال له ربه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، وهو الذي قال له ربه: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، وهو الذي قال له ربه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ومع هذا: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، فارتعدت أم سلمة فقالت: (يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! أي: أن قلبي على الإسلام، وعلى هذا الدين، وعلى هذا الإيمان، فهل من الممكن أن يتقلب عن هذا الإسلام؟! فقال لها: (يا أم سلمة! والذي نفسي بيده! ما من مخلوق من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه) أو (بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها الله جل وعلا كيف يشاء).
أيها الأحبة في الله! إن القلوب بيد الله جل وعلا، وإن القلوب لتتقلب، وإن الأمر جد خطير، ويحتاج إلى عمل طويل، وإلى جهاد مرير، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم -والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه-: (إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم الله جل وعلا له عمله، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمان الطويل، ثم يختم الله جل وعلا له عمله، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار)، وفي رواية أخرى: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة؛ ويسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار)، وروى الإمام البخاري عليه رحمة الله هذا الحديث وزاد في آخره: (إنما الأعمال بالخواتيم).
جاء في سنن الإمام الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الكفل كان من بني إسرائيل، وكان يسرف على نفسه بالمعاصي، وجاءته امرأة تطلب منه المال، فراودها عن نفسها فأبت، وذكرته بالله جل وعلا، فأصر، ولما جلس منها كما يجلس الرجل من زوجه ارتعدت، واصفرت، واضطربت جوارحها، فقال لها: ممن تخافين؟ قالت: أخاف الله رب العالمين، فأرخى عليها ثيابها، وعاهد الله من وقته ألا يعصي ربه طرفة عين، وقدر الله جل وعلا أن مات الكفل في تلك الليلة، ولا يعرف الناس عنه إلا الفسق والضلال، واستيقظ الناس، وذهبوا إلى دار الكفل فرأوا عجباً، رأوا كتابة على باب داره بخط عجيب غريب: لقد غفر الله للكفل جميع ذنوبه! لأنه أخلص التوبة لله جل وعلا.
ويشهد لمعنى هذا الحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة في قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وبعدما يأسه العابد من التوبة قتله وأتم به المائة، وبعد ذلك تاب إلى الله جل وعلا على يد عالم، وقبل الله منه التوبة، كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، ويوم أن خرج من قريته مات، فاختلفت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله إلى الملائكة ملكاً ليحكم بينهم، وقال لهم: (قيسوا المسافة، فإلى أيتهما هو أقرب فهو من أهلها، فقاسوا المسافة، فوجدوه قريباً بشبر من القرية التي كان يقصدها للعبادة فيها)، وفي بعض الروايات يقول الحبيب: (قال الله جل وعلا: يا رياح! احمليه، ويا أرض! قربيه)، وهو الذي عاش طيلة حياته على المعصية، بل على كبيرة من الكبائر وهي جريمة القتل، وهذا الكفل عاش على الفسق والمعاصي، وهكذا كم من الناس الذين لا يعلمهم إلا خالقهم جل وعلا عاشوا على مزاولة المعاصي، وقبل أن يلقى أحدهم الله بأيام أو بساعات تاب إلى رب الأرض والسماوات؛ فقبل الله منه التوبة، وغفر له الذنوب، وستر الله عليه العيوب، وختم له بالتوحيد فقال: لا إله إلا الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)، واعلموا بأن الأمر ليس يسيراً، فلا تظنوا أن النطق بهذه الشهادة عند الاحتضار أمر هين، كلا! والله! فإن اللسان في هذا الوقت لا ينطق ولا يتكلم، بل الذي سيتكلم هو عملك، فكم من العلماء الذين ملئوا الدنيا بعلمهم، وارتفعوا على الناس بكراسيهم ومناصبهم، وكم من العلماء الذين ملئوا المساجد بالدروس والمحاضرات -أسال الله العفو والعافية- فإذا جاءته لحظة الموت، وجاء من حوله ليلقنوه الشهادة، ربما ما استطاع لسانه أن ينطق بـ (لا إله إلا الله)؛ لأنه لا ينطق في هذه اللحظات إلا الأعمال الصالحات، واقرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30]، فلابد من الاستقامة على هذه الكلمة، لابد من الاستقامة على طريق الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، فالإنسان حين ينام على فراش الموت تأتيه الشياطين من كل مكان تريد أن تضله، وتريد أن تخرجه على غير الإيمان، فشيطان على يمينه، وشيطان على شماله، وشيطان عند رأسه، وشيطان عند قدميه، وشيطان يقول له: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان، وشيطان يقول له: مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان، وهكذا فإن كان من المؤمنين الصادقين المخلصين فيقول الله جل وعلا في حقهم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27]، يتنزل عليه التثبيت والثبات {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]، وما هو القول الثابت؟ يقول ابن عباس: إن القول الثابت هو: لا إله إلا الله، فيتنزل عليه الثبات من رب الأرض والسماوات: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وهكذا فإن المؤمنين الصادقين تتنزل عليهم ملائكة التثبيت والثبات، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30]، فتبشرهم الملائكة وتقول لهم: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد لما نام على فراش الموت أتاه ولده عبد الله ليلقنه الشهادة، ويذكره بـ (لا إله إلا الله)، ولكن الإمام كان لا يتكلم إلا بكلمة واحدة، ولا يصرخ إلا بها، ولا ينطق إلا بها، كان يقول: لا، لا، لا ولما أفاق الإمام من سكرات الموت وكرباته وهوله، سأله ولده وهو يبكي: يا أبت! أقول لك: قل: لا إله إلا الله وأنت تقول لي: لا، لا؟ فرد الإمام وقال: يا بني! أنا لا أتحدث معك، أتاني شيطانان، جلس أحدهما عن يميني، والآخر عن يساري يقول لي الأول: يا أحمد! لقد فتنا في دنياك ولو فتنا اليوم ما أدركناك بعد اليوم، يا أحمد! مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان، والآخر يقول: يا أحمد! مت نصرانياً؛ فإنه خير الأديان، وأنا أقول: لا، لا، بل على دين محمد صلى الله عليه وسلم، على (لا إله إلا الله) على كلمة التوحيد والإخلاص، أتدرون من هذا الذي ذهبت إليه الشياطين لتضله؟ إنه إمام أهل السنة والجماعة، إنه الإمام أحمد! فماذا يكون ظني بك وظنك بي؟! وكيف حالك وحالي؟! نسأل الله العفو والعافية؛ فالشياطين لا تتركنا في الدنيا ولا عند الموت، بل تريد أن يختم لك بالسوء والعياذ بالله! فتقول لك: مت على دين اليهودية، مت على دين النصرانية، هذا وأنت في هذه السكرات والظلمات، فالموت في حد ذاته كربة، والموت في حد ذاته فتنة، بل إن الله سماه مصيبة كما في سورة المائدة.(42/5)
مصيبة الموت وما اشتملت عليه من الدواهي
انتبه معي أيها الشاب! انتبهوا معي أيها المسلمون! ما ظنك وما حالك لو قطع عرق من عروقك؟ لا شك أنك تتألم ألماً شديداً، وتتألم ألماً فظيعاً، وإحساسك بألمه هو من خلال وجود الروح فيك؛ لأنك لا تتألم إذا خرجت الروح منك، سئل الشافعي عليه رحمة الله وقيل له: يا إمام! هل الروح هي التي تحمل الجسد أم أن الجسد هو الذي يحمل الروح؟ فقال: بل إن الروح هي التي تحمل الجسد، بدليل أن الروح إذا فارقت الجسد؛ وقع الجسد جثة هامدة لا قيمة له، فأنت لا تتألم إلا لوجود الروح فيك، فإذا قطع عرق منك تتألم لوجود الروح فيك، فما ظنك إذا كان الذي ينزع منك هو الروح كله؟! الذي تنزع الروح من جسده يحس بسكرة عجيبة، وكربة شديدة، إنها سكرات الموت، فإن لكل عضو من أعضائك ولكل جارحة من جوارحك سكرة بعد سكرة، وكرباً بعد كرب، وضيقاً بعد ضيق، وهولاً بعد هول، قال عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1] وهم الملائكة {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:2]، إنها سكرات وكربات وأهوال! كرب بعد كرب لكل عضو ولكل جارحة، فينام الإنسان على فراش الموت وقد بردت أطرافه، وارتعدت فرائصه، واضطربت جوارحه، وتجعد وجهه، وبرد كل عضو منه بعد الآخر، أنفاسه في صدره تعلو وتهبط، اجتمع الناس من حوله، وأحضروا له الأطباء، وأحضروا له الخبراء، ووضعوا له التحاليل، ووضعوا له الأدوية، وجهزوا له كل شيء؛ لأنه صاحب المنصب، وصاحب الجاه، وصاحب السلطان، وصاحب الأموال، وصاحب القوة، وصاحب الوزارات، ولكن الله جل وعلا قدر عليه الموت، ولا راد لقدره ولا راد لمشيئته، قال عز وجل: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].(42/6)
سكرات الموت
مصيبة الموت في حد ذاتها تشتمل على ثلاث دواهي: الداهية الأولى: سكرات الموت، وسكرات الموت أمر شديد، وأمر فظيع؛ لأن لكل عضو سكرة، ولكل عضو ألم وتألم، فينام الإنسان على فراش الموت وقد اصفر وجهه، وارتعدت جوارحه، واصفر لونه، وبردت أعضاؤه، ينام على فراش الموت فيسلم كل عضو الروح إلى العضو الذي يليه، وتراه قد بردت منه الأطراف، وارتعدت الجوارح، واضطربت الفرائص، واصفر اللون، وتجعد الوجه، واجتمع الأطباء من حوله، وأحضروا له الخبراء والأطباء، وأحضروا له العلماء والأدوية؛ لأنه صاحب الوزارات، وصاحب الأموال والأرصدة، وصاحب العمارات والسيارات، وصاحب المنصب والكرسي، أحضروا له الأطباء من حوله، فهذا يصنع كذا وذاك يفعل كذا من أجل أن يطيلوا في حياته، وأن يطيلوا في عمره! فإذا أفاق من سكرات الموت نظر إلى من حوله، وهو في هذا الكرب والهول؛ نظر إلى زوجه إلى أولاده إلى أحفاده وقال لهم: يا أولادي! لا تتركوني وحدي! ولا تفردوني في لحدي! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! أنا أبوكم، وأنا أخوكم، وأنا حبيبكم! أنا الذي بنيت القصور، أنا الذي عمرت الدور، أنا الذي نميت التجارة، أنا الذي جمعت ومنعت، ولكن هيهات، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100]، كلا! إنها كلمة لا يجيبها الله؛ لأنها كلمة حقيرة خرجت من حقير على الله، كان في دنياه يعاند شرع الله، ويحارب الدعاة، ويتحدى الله جل وعلا، وكانت زوجته تخرج سافرة عارية ولا يمنعها، ولم يصل لله صلاة، ولم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، ولم يتق الله جل وعلا، ولم يراقبه: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، كلمة حقيرة لا يسمعها الله، ولا جواب لها عند الله جل وعلا، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
سكرات الموت شديدة، تألم منها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم النزع كان عنده ركوة فيها ماء، فكان كلما اشتد به النزع وضع يده في الإناء، ثم مسح بالماء على جبهته- أي: على الرشح الذي يخرج من جبينه- ثم يقول: إن للموت لسكرات! اللهم هون علي سكرات الموت)، فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للموت لسكرات! إن للموت لسكرات! اللهم هون عليَّ سكرات الموت)، وذكر الإمام المحاسبي عليه رحمة الله أن الله جل وعلا قال لإبراهيم الخليل: (يا إبراهيم! كيف وجدت الموت يا إبراهيم؟ فقال الخليل: وجدت الموت يا رب! كسفود -أي: كقطعة حديد صلبة- بين صوف مبلول، فنزعت فانتزع معها كل شيء، فقال الله: أما إنا قد هونا عليك، أما إنا قد هونا عليك).
وذكر المحاسبي عليه رحمة الله أيضاً: (أن الله قال لموسى: يا موسى! كيف وجدت الموت؟ فقال موسى: يا رب! وجدت الموت كعصفور وضع على مقلاة، فلا هو يطير فينجو، ولا يموت فيستريح)، هذه هي سكرات الموت.
يوم أن نزلت سكرات الموت بـ هارون الرشيد وأفاق من سكراته وكرباته، نادى على من حوله وقال لهم: أريد أن تحملوني لأرى قبري الذي سأدفن فيه بعيني، فحملوا هارون الذي أعطاه الله ملكاً عظيماً، كان يخرج فيرى السحابة في السماء فيقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فوالله لسوف يأتيني خراجك إن شاء الله، أي: أن أي مكان أنزلت أمطارك ومياهك، سوف يخرج هذا الماء الزرع، ويأتيني خراج هذا الزرع من أي البقاع، انظروا إلى عظمة ملكه! فـ هارون لما احتضر قال: احملوني لأرى قبري بعيني، فحملوا هارون إلى قبره فنظر إلى حفرته وبكى، وظل يبكي حتى أبكى من حوله، ثم رفع رأسه إلى الله جل وعلا وقال: يا رب! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، يا ألله! يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.(42/7)
رؤية ملك الموت
الداهية الثانية من الدواهي الثلاث التي تتعلق بالموت، والتي تجعل الإنسان غير الصادق يختم له بسوء الخاتمة: رؤية ملك الموت، وهذا أمر مرعب وأمر عجيب! فلقد روى الإمام أبو نعيم في (حلية الأولياء) بسند ضعيف عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (رؤية ملك الموت أشد من ألف ضربة بسيف)، ترى شيئاً عجيباً لأول مرة؛ لأنك سترى ملك الموت رأي العين، وتعاين كل شيء، بل سترى مكانك في الجنة والنار، كما في حديث البراء بن عازب الطويل الذي خرجه الإمام النسائي والإمام أحمد والإمام الترمذي والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.(42/8)
الحذر من سوء الخاتمة
وبعد ذلك فإن أعظم هذه الدواهي الثلاث هي داهية سوء الخاتمة، والعياذ بالله! وأقول: إن الأمر بيد الله، ويحتاج إلى إيمان صادق، وعمل مخلص، وسوء الخاتمة أمر خطير يحتاج إلى أمور، ونسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة؛ فكم من مسلم ختم له بغير الإيمان، قرأت في كتاب (التذكرة) للإمام القرطبي: أن امرأة مرت على رجل وسألته قائلة: يا هذا! أين حمام منجاب؟ وحمام منجاب مكان يغتسل فيه النساء، فلما نظر إليها هذا الرجل وقعت في قلبه فافتتن بها؛ فأشار إلى باب داره وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة إلى هذا البيت، ولما علمت أنها وقعت في الفخ أرادت أن تزينها له حتى تهرب، فقالت: هلا أحضرت كذا وكذا؟! فخرج هائماً على وجهه، فهربت، فعاد إلى بيته ليبحث عنها فلم يجدها، فخرج إلى الشوارع والطرقات هائماً يقول: يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب وظل الرجل يهذي بهذا الكلام حتى عاش طيلة حياته يقول هذه، ولما حضرته الوفاة وذهبوا يلقنوه (لا إله إلا الله) وكلما قالوا له: قل لا إله إلا الله كان يرد على الحاضرين ويقول: يا ربُّ قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب وختم له بسوء الخاتمة، والعياذ بالله! وذكر القرطبي أيضاً أن مؤذناً كان يؤذن في مصر، وصعد ذات يوم على سطح المسجد ليرفع الأذان، فوقعت عينه على امرأة في بيت رجل نصراني، فوقعت في قلبه، وافتتن بها، فنزل إلى دارها وقال: أريدك لنفسي، فقالت: أنت مسلم وأنا نصرانية، فإن أردتني فلتخرج من دينك ولتتنصر.
قال: لا مانع من أن أتنصر من أجلك، فخرج الرجل من الإسلام وتنصر، والعياذ بالله! ثم صعد على سطح هذه الدار لبعض شئونه فسقط ميتاً، فلم يفز بدنيا ولا بآخرة.
وذكر أيضاً الإمام القرطبي في (التذكرة): أن أحد الناس كان يعمل تاجراً، ولما حضرته الوفاة جعلوا يلقنوه (لا إله إلا الله)، فكان يكرر الأرقام الحسابية فيقول: عشرة إحدى عشر اثنا عشر! يا عبد الله! قل: لا إله إلا الله، وهو يكرر الأرقام الحسابية والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وختم له بسوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية.
فما العمل إن كان الأمر والقلوب بيد الله؟! إن دواهي الموت الثلاث تجعل الثابت حيراناً، فما العمل لينجينا الله جل وعلا من الخاتمة السيئة والعياذ بالله؟! يقول الإمام ابن كثير عليه رحمة الله في تفسيره لقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
(لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه).
إنها قمة العدل وقمة الرحمة.
ويقول الإمام ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: (ما علم على الإطلاق أن رجلاً ختم له بسوء الخاتمة وقد استقام ظاهره مع باطنه، ولا يختم بسوء الخاتمة -والعياذ بالله! - إلا لمن اختلف باطنه مع ظاهره)، فمن اختلف باطنه مع ظاهره فهو الذي يختم له بسوء الخاتمة.
فالأمر -أيها الإخوان- يحتاج إلى صدق في العمل، وإلى اجتهاد في الطاعة، وإلى متابعة للجماعة، وإلى التزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان قول وعمل، ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
إذاً: الأمر يحتاج إلى استقامة في الظاهر، واستقامة في الباطن، فمن استقام ظاهره مع باطنه ختم له بخاتمة طيبة إن شاء الله جل وعلا، فلقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، فإن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد طيلة حياتك واستقمت عليه توفاك الله عليه، وإن عشت للمباريات والمسلسلات والأفلام والمعاصي والشهوات مت على ذلك، وبعثت على ذلك، فالأمر جد خطير.
فمن رحمة الله وعدله وكرمه أن من استقام على طريق الإيمان، واستقام على طريق الطاعة، واستقام على طريق التوحيد، واستقام على طريق السنة؛ ختم الله جل وعلا له بالإيمان، وختم الله جل وعلا له بالتوحيد، فثبته الله جل وعلا عند الموت.
يقول ابن رجب الحنبلي: (يقال للملك إذا ما ذهب ليقبض روح العبد: شم رأسه، فيقول: أجد في رأسه القرآن، فيقال للملك: شم بطنه، فيقول: أجد في بطنه رائحة الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أشم في قدميه رائحة القيام، فيقال: عبد حفظ نفسه فحفظه مولاه).
احفظ الله يحفظك؛ فحق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته.
إذاً: الأمر بيد الله جل وعلا، والأمر يحتاج إلى إيمان واستقامة، وإلى صدق ومجاهدة، وإلى إخلاص ويقين، وإلى عمل وجد، وإلى اجتهاد وطاعة، فإنك إذا أردت أن تحصل على درجة الماجستير أو على درجة الدكتوراة لا تنام كثيراً، بل تواصل الليل بالنهار من أجل الحصول على شهادة ربما حرص أحد على أن يأخذها وهي تبعده عن الله جل وعلا، وقد يكون فيها تجرؤ بعد ذلك على الله، وتحدٍ لشرع الله، فهذا دكتور عظيم يقول: لماذا لا نخطئ البخاري؟ إن البخاري رجل فلماذا لا نخطئ البخاري؟! وهو الذي ظل يجمع صحيحه، وقضى في حله وترحاله ستة عشر عاماً كاملة، ثم يقول هذا: لماذا لا نخطئ البخاري؟ وهو الذي أجمع جلة أهل العلم على صحة كتابه إلى الحد الذي قالوا فيه: إنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ثم يأتي عالم في عرف العلماء يحمل الدكتوراة ليتحدى الله جل وعلا بعد ذلك، ويتجرأ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها الأحباب! إن الأمر جد خطير، ولكنني لا أقنط أحداً؛ فإن الأمر في غاية البساطة، قال ابن رجب: (من استقام ظاهره مع باطنه ختم له بالإيمان، ومن ناقض ظاهره باطنه ختم له بسوء الخاتمة).
فهيا استقيموا على طريق التوحيد، وتتبعوا سنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، واجتهدوا في الطاعة والعبادة، واعلموا أن الله جل وعلا يقبل التوبة عن عباده، ويغفر الذنوب، ويكفر السيئات، قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فلا تيئسوا ولا تقنطوا، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، واعلموا أن الله سبحانه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى لله جل وعلا.
فهيا أيها الأحباب! بادروا بالتوبة ولا تسوفوا، فإن الموت يأتي بغتة.
أسأل الله جل وعلا أن يختم لنا بحسن الخاتمة، وأن يختم لنا بالتوحيد والإيمان، وأن يخرجنا من هذه الدنيا على خير، وأن يحشرنا في زمرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يمتعنا بالنظر إلى وجهه يوم نلقاه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(42/9)
عندما ترعى الذئاب الغنم
لله سبحانه وتعالى في هذا الكون سنن لا تتبدل ولا تتغير، ومن هذه السنن النصر المبين للمؤمنين، والناظر إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجد خير دليل وشاهد على ذلك.
وينبغي أن نعلم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن يتغير حال الأمة إلا إذا غير كل فرد مسلم ما في نفسه من حب الدنيا، والحياة الذليلة، وتاق إلى القتال في سبيل الله بعزة وإباء!(43/1)
الغرب وحضارة الذئاب
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (عندما ترعى الذئاب الغنم) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الغرب وحضارة الذئاب.
ثانياً: حتى تتبع ملتهم.
ثالثاً: هذا هو طريق النجاة.
وأخيراً: ولا تهنوا ولا تحزنوا.
والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين، وأن يرفع الهم والغم والكرب عن أمة سيد النبيين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: الغرب وحضارة الذئاب: أحبتي في الله! لقد ابتليت الأمة الإسلامية بنكبات وأزمات كثيرة على طول تاريخها، مروراً بأزمة الردة الحادة والهجمات التترية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، وزوال ظل الخلافة الراشدة المسلمة، وضياع القدس الشريف وانتهاءً بأزمة العراق المخزية.
كانت الأمة في الماضي مع كل هذه الأزمات تمتلك مقومات النصر، من إمام صالح، وثقة في الله، واعتزاز بهذا الإسلام العظيم، ولكن الأمة في واقعنا المعاصر مع هذه الأزمات فقدت جل مقومات النصر، إذ إن الأمة قد انحرفت انحرافاً مروعاً عن منهج رب العالمين، وعن طريق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، انحرفت الأمة في الجانب العقدي والتعبدي والتشريعي والأخلاقي والفكري، بل وحتى في الجانب الروحي ولا حول ولا قوة إلا بالرب العلي! انحرفت انحرافاً مزرياً في جميع مجالات الحياة؛ فحق عليها قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: كلا، وإنكم يومئذ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا، وكراهية الموت).
لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأرذل ولأذل وأحقر أمم الأرض؛ لأن الأمة قد تحولت إلى غثاء من النفايات البشرية تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة، بل متصارعة، بل متحاربة، تفصل بين الأمة حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية منتنة، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تدور فيه.
ذلت الأمة بعد عزة، وضعفت الأمة بعد قوة، وإن ما رأيناه في الأيام الماضية -ولم تنته فصول هذه المسرحية بعد- من تهديد أمريكي صارخ لا للعراق فحسب، بل للأمة كلها، وإن ما نراه من هذا الواقع المر الأليم ليؤكد حالة الذل والهوان التي تحياها أمتنا في هذه الأيام.
أيها الأحبة! إن ما يجري لأمتنا يقع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، ولن تعود الأمة إلى مكانتها الطبيعية إلا وفق هذه السنن التي لا يجزي معها تعجل الأذكياء، ولا وهم الأصفياء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ما هذا الواقع وهذا التهديد، بل وهذه الجيوش الرابضة الآن في أرض الإسلام في أرض الخليج العربي المسلم من حاملات الطائرات، وما هذه الأعداد الهائلة من الأفراد إلا تأكيداً صريحاً على حضارة الغرب المادية الوحشية البربرية.
إنها حضارة الذئاب رغم الدجل الإعلامي والعهر السياسي، ورغم أنف العجوز الشمطاء اليهودية مادلن أولبريت التي تصرخ هنا وهناك بما يسمونه احترام الشرعية الدولية، ولا تصدقوا من يقول: إنها سياسة الكيل بمكيالين، لا.
إنه مكيال واحد، إنه مكيال العداء لمحمد بن عبد الله وللإسلام في كل زمان ومكان، إنه كلام ربنا وكلام الصادق نبينا الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون! ينبغي أن نفيق من هذا النوم العميق، وأن نستيقظ من هذا السبات الذي طال، فإن حضارة الغرب هي حضارة الذئاب والأفاعي هي حضارة الثعالب هي الحضارة الوحشية البربرية الظالمة هي الحضارة السوداء، وإن شعار هذه الحضارة بلا نزاع: البقاء للأقوى، كما هو مشاهد في هذا العالم اليوم على الرغم من وجود مجلس الأمن، وهيئة الأمم، وعلى الرغم من وجود حلف الأطلسي إلى آخر هذه الأحلاف والهيئات، التي ما جعلت أصلاً إلا لتضمن البقاء للنظام العالمي الكبير الذي يتحكم في بنوده وأصوله وفروعه يهود الأمريكان.
إنه عالم الغرب الذي يمتطي الآن جواد الحضارة ويسوم البشرية سوء العذاب، فلقد ذاقت البشرية في عهد الرجل الغربي ما تستحي الوحوش الضارية في عالم الغابات أن تفعله ببعضها البعض.
ولم العجب؟ أليست الحضارة الأمريكية الظالمة هي الحضارة التي ألقت القنابل النووية المذيبة على هيروشيما ونجازاكي؟! أنسيتم أن الأمريكان هم الذين دمروا بالقنابل النووية هيروشيما ونجازاكي؟ أليست هي الحضارة الغاشمة التي أبادت شعب الهنود الحمر عن بكرة أبيه؟! إذاً: لا عجب إذا رأينا الحضارة الغربية المادية الآن تريد أن تمحو من على وجه الأرض شعب العراق، ولو استطاعت الحضارة الغربية المادية أن تمحو من على وجه الأرض الشعوب الإسلامية لفعلت ذلك من أجل سواد عيون اليهود، وصدق ربي إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا أين أطفال العراق الذين يموتون بعشرات الآلاف والإعلام الأمريكي بل والغربي يظهر الجنازات للأطفال بالعشرات بل بالمئات؟! أين من يرقصون على مسرح الحريات؟! أين من يتغنون بحقوق الإنسان؟! أين من يتغنون بحقوق الحيوان؟! أين هم من أطفال صغار لا يجدون طعاماً ولا شراباً ولا دواءً؟ ويزداد الهم حينما نرى بعض المسلمين لا يتعاطفون مع صدام المجرم إلا لأنه وقف ضد الأمريكان، وهذا فهم عقيم سقيم، فلم يعد ولاء هذه الأمة لله ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو وجدت أمريكا في عملائها أفضل من صدام ما أبقته على كرسي الحكم يوماً واحداً، إنه الدجاجة التي تبيض كل يوم لأمريكا بيضة من الذهب الخالص: قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزيناً الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا إلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في جسم عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خده قارونا {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، إنها حضارة الذئاب! أما آن للعلمانيين أن يحترموا أنفسهم وعقولهم؟! أما آن للمسلمين أن يفيقوا وأن يستبينوا سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين؟ أيها الأحبة: لابد أن يوحد الآن الصف المسلم، فنحن في أمس الحاجة إلى هذا التوحد؛ لينصر المسلمون دينهم بكل سبيل؛ وليقفوا على الصف الذي يستبين فيه الرجل العادي سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين.(43/2)
حتى تتبع ملتهم
العنصر الثاني من عناصر المحاضرة هو: حتى تتبع ملتهم.
وبكل أسف القرآن يقرأ، ولكن القرآن في وادٍ وهي في واد آخر.
ولم العجب وقد ضيعت الأمة القرآن، ونحته عن حياتها وهجرته وحكمت قوانين الغرب؟! وصدق على الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟! قال: فمن).
هجرت الأمة القرآن، وحكمت في الأعراض والأموال والدماء قوانين الغرب {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30] ولا حول ولا قوة إلا بالله! القرآن يتلى وربنا جل وعلا يقول لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، و (لن) هنا هي لن المستقبلية أي: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فهل تصدقون الملك القدير؟! هل تصدق الأمة ربها الذي يقول لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟!(43/3)
خطر موالاة اليهود والنصارى
من أجل سواد عيون (النتن ياهو) تفعل أمريكا الآن ما تفعل، فإن اللوبي الصهيوني في أمريكا يخنق أنفاسها -شرذمة من اليهود- لتتحكم في مصير العالم بأسره.
لماذا؟ لا لقوة اليهود، لا والله؛ فإن الله يقول: {تحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، وإنما لهزيمة نفسية طحنت الأمة طحناً، فالأمة ليست ضعيفة ولا فقيرة وليست قليلة، بل الأمة غنية وأموال الأمة في بنوك الغرب تدير دفة السياسة العالمية بأسرها، فالأمة ليست فقيرة لا في الأموال ولا الأعداد الهائلة ولا في المناخ، فإن العالم كله يحسد الأمة الإسلامية على مناخها وعلى وسطيتها في المكان، وأنتم تعلمون أن الله قد حبا هذه الأمة مما يسمى بالبترول ما تستطيع الأمة أن تتحكم به في سياسة العالم بأسره، لو أنها عرفت ربها، واحترمت نفسها وأذعنت واستسلمت لنبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى الله إلا أن يذل من عصاه، وأبى الله إلا أن يعز من أطاعه واتقاه، والأمة قد عصت ربها، وانحرفت عن طريق نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فأذلها الله وأهانها.
إن الله جل وعلا يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم ويخاطب المؤمنين جميعاً من بعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، قال حذيفة بن اليمان: (فليحذر أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]).
تدبر أخي الحبيب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، العجوز الشمطاء أولبريت يهودية ووزير الدفاع يهودي واليهود بعضهم أولياء بعض للنصارى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، ليس هذا قولي حتى لا أتهم بالتطرف ولا بالإرهاب، إنما هو كلام ربنا جل وعلا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109].
استمعوا وتدبروا كلام ربنا! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
يا لها ورب الكعبة من آيات، لا أقول تجسد ظاهر القول، بل توضح باطن القول، يجليها لنا العليم الخبير بمن خلق! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
أيها المسلم: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان عبد الله! لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر أخي المؤمن! إنأوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان.
من أحب لله لا من أجل وطنية، ولا من أجل قومية، فقد استكمل الإيمان.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الصادقين الذين ينصرون دينه وسنة نبيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(43/4)
طريق النجاة
أيها الأحبة الكرام! طريق النجاة من هنا فلا ينبغي أن نشخص الداء بحسرة ومرارة وألم دون أن نحدد الدواء، ودون أن نبين طريق النجاة.
أيها المسلمون! إن طريق النجاة في كلمة واحدة، وليس معنى ذلك أن نرددها بالألسنة فحسب، وإنما لترددها الأمة باللسان، ولتصدقها بالجنان، ولتحولها إلى واقع عملي بالجوارح والأركان.
إن هذه الكلمة هي الإسلام، فمستحيل أن ينصر الله أمة خذلت دينه وخذلت نبيه! إن الأمة الآن تتغنى في مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأخلاق النبي وهي أمة لا تستحي إلا من رحم ربك العلي، فإنها في الوقت الذي تتغنى فيه بمولد النبي وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تراها قد نحت شريعة النبي، وحكّمت قانون الغرب العلماني، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]، و (لا) هي لا النافية كما قال علماء اللغة {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
أيها الأحباب! لقد كانت الأمة في أول الأمر -بالمقارنة إلى ما تحياه الأمة الآن- ضعيفة من الناحية المادية، قليلة من الناحية العددية، فقيرة من الناحية المالية، لكنها كانت غنية بالإيمان، قوية بالله فماذا كانت النتيجة؟ كلكم يعلم النتيجة.
قلة في أرض الجزيرة وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، وسط إمبراطورية الفرس وإمبراطورية الروم استطاعت هذه القلة المؤمنة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن تقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق مع قلة العدد مع الفقر المادي المرهق مع الضعف الجسدي، ولكنهم كانوا أعزة بالرب العلي: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، قالوا كلمة وحولوها إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، فأذلوا كسرى وأهانوا قيصر.
ولله در ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما وقف يوماً أمام رستم، فعلمه وعلمنا كيف تكون العزة بالإسلام! لقد دخل ربعي بن عامر في موقعة القادسية على قائد الجيوش الكسروية رستم الذي قال عنه كسرى: (لأرمين المسلمين بقائدي الذي ادخرته ليوم الكريهة)، وولى كسرى رستم قيادة الجيوش الكسروية، وكانت الكرة للمسلمين بأمر الله، وأراد رستم أن يفاوض سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فأرسل إليه: أن أرسل إلينا رسولاً لنفاوضه، فأرسل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه، فانطلق ربعي على فرس قصيرة، يلبس ثياباً متواضعة ممزقة، وفي يده رمحه وعلى بدنه ترسه ودرعه، فأرادوا أن يمنعوه من الدخول وهو على ظهر فرسه على سيدهم رستم، فقال ربعي بلغة الواثق في الله المطمئن لدين الله العزيز بالإيمان: أنا لم آتاكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا عدت، فقال رستم: ائذنوا له، فدخل ربعي وهو يتكئ برمحه بعز واستعلاء بالإيمان، فصرخ في وجهه رستم، وقال: من أنتم؟ ولماذا جئتم؟ فقال ربعي ليعلم رستم ويعلمنا من بعده ما هي الغاية التي من أجلها ابتعثنا، ولأجلها وجدنا، قال ربعي: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات في سبيل الله، والنصر لمن بقي منا على ذلك.
فقال رستم: لقد سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤخرونا لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟! فقال ربعي بعزة وإيمان عجيبين: لقد سن لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن لا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك واحدة من ثلاث.
فقال رستم: وما هي؟ قال ربعي: أما الأولى فالإسلام، ونقبل ونرجع عنك.
قال رستم: وما الثانية؟ قال ربعي: الجزية.
الجزية التي تدفعها الأمة الآن رغم أنفها، فإن الفاتورة الأمريكية تسدد من دول الإسلام ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال في اليوم الرابع! أي: بعد ثلاثة أيام، ثم قال ربعي: ولن نبدأك بقتال فيما دون الثلاثة إلا إن بدأتنا أنت بقتال، أنا كفيل بذلك عن أصحابي.
فقال رستم: أقائدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟ هل أنت سعد بن أبي وقاص؟ فقال ربعي: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يجير أدناهم على أعلاهم.
انظروا إلى عز الأسلاف انظروا إلى استعلاء الإيمان في قلوبهم انظروا إلى اعتزازهم بربهم ودينهم، ونصرتهم بكل ما يملكون لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
لقد وقف المغيرة بن شعبة يظلل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فجاء عروة بن مسعود الثقفي ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم كرسول من قبل قريش، وامتدت يد عروة بن مسعود ليداعب شعرات كريمات طاهرات طيبات من لحية الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فضرب المغيرة بن شعبة على ظهر يد عروة مع أنه ابن أخيه وصرخ في وجه عروة وقال له: أخر يدك عن لحية النبي قبل أن لا تصل إليك يدك.
انظروا إلى نصرة هؤلاء لدين الله ولدين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! أيها الأحباب! والله إن الإسلام لن ينصر بالخطب الرنانة، ووالله لو وقفنا على المنابر نخطب سنوات وسنوات فلن ينتصر الإسلام إلا إذا تحولت هذه الخطب في واقع الأمة إلى منهج حياة يتألق سمواً وعظمةً وجلالة.
منذ متى والعلماء يخطبون ولكن الأمة لا تغير من واقعها المرير شيئاً؟ أيها الأحباب! إننا نرى انفصاماً واضحاً بين منهجنا وواقعنا، فالخطب الرنانة المؤثرة لن تغير من الواقع شيئاً إلا إذا غيرت الأمة الواقع بتحويلها لهذا الكلام الرباني والنبوي إلى منهج عملي في دنيا الناس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:2 - 4].
إن طريق الإسلام هو طريق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
إن طريق النجاة أن تمتثل الأمة أمر ربها وأمر نبيها، وأن تجتنب الأمة نهي ربها ونهي نبيها، وأن تقف الأمة عند حدود ربها وحدود نبيها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
قال تعالى في وصف المؤمنين الصادقين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
وقال تعالى في المنافقين المجرمين الذين يقولون بألسنتهم سمعنا وأطعنا ولكنهم في الواقع يقولون: وعصينا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
طريق الفلاح بين واضح جلي لكل من كان في قلبه تقىً لله، وما علينا إلا أن نرجع إلى الله وإلى قرآنه وسنة نبيه، فالعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا تطوعاً ولا اختياراً، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، أسأل الله جل وعلا أن يرد الأمة إل(43/5)
لا تهنوا ولا تحزنوا
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لست أبداً ممن يدندنون على التيئيس والتقنيط، بل أنا ممن يدندن دوماً على تبشير الأمة بالقضاء على هذه الهزيمة النفسية التي تسيطر الآن على كثير من قلوب آبائنا وشبابنا وإخواننا، وهذا هو عنصرنا الأخير (ولا تهنوا ولا تحزنوا)، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
أيها الأحباب! نحن في حاجة إلى أن نحقق الإيمان فحسب، فلو حققنا الإيمان لنصرنا الله جل وعلا وإن كنا قلة، وإن كنا فقراء، وإن كنا ضعفاء، قال جل في علاه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال جل وعلا: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، وقال جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
إننا نحتاج إلى أن نحول الإيمان إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة.
فهيا أيها الأحبة! أبدأ بنفسي وتبدأ أنت أيها الوالد الفاضل بنفسك، وتبدأ أيها الأخ العزيز الحبيب بنفسك، وأنت أيتها الأخت الكريمة فلتبدئي بنفسك، ولا ينبغي أن نعلق أخطاءنا على غيرنا، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، فلتبدأ الأمة كلها بنفسها، وكما ذكرت: أنا لا أخاطب هذا الجمع الكريم بين يدي فحسب، وإنما أخاطب ملايين الأمة عبر شريط الكاست، فإن الشريط ولله الحمد يسري في أرجاء الأرض، وقد أخبرني أخ حبيب وأقسم لي بالله وقال: يا أخي! أنا أحبك في الله، قلت: أحبك الله الذي أحببتني فيه، قلت: من أين أنت يا أخي؟ قال: من فلسطين، قلت: وتعيش هنالك، قال: نعم، ثم قال: والله ما عرفناك إلا من شريط الكاست في تل أبيب؛ لذا فأنا أخاطب الأمة كلها عبر شريط الكاست، أن يبدأ كل مسلم بنفسه من الآن، ولا ينبغي أن نعلق الأخطاء على غيرنا، لا على الحكام، ولا على العلماء، ولا على إسرائيل، ولا على الأمريكان ولا على فلان، ولا علان، وإنما فليعلق كل إنسان منا الخطأ على نفسه وليبدأ بالتصحيح.
(ابدأ بنفسك) هذا ما أملكه وما سأسأل عنه أنا بين يدي الله: ماذا قدمت؟ ماذا فعلت؟ ماذا بذلت؟ لن يسألني ربي سبحانه: ماذا قدم غيرك؟ ماذا فعل غيرك؟ وإنما سيسألني ماذا قدمت أنا، وماذا علمت أنا لدين الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
أيها الأحبة الكرام! فلنبدأ بأنفسنا وعلى كل مسلم أن يحقق الإيمان ويحوله في بيته وواقعه ووظيفته إلى منهج حياة، فالإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان.
نريد لبيوتنا أن تستنير بنور الإيمان نريد لبيوتنا أن تتذوق حلاوة وطعم الإيمان نريد أن تتعرف كراسي الوظائف على المؤمنين الصادقين نريد لكل مواقع الإنتاج ومواطن العطاء، وأماكن المسئولية أن تتذوق حلاوة الإيمان على أيدي المؤمنين الصادقين.
شتان بين مسئول مؤمن يراقب الله ولا يراقب رئيسه في العمل، وبين مسئول لا يعرف للإيمان حقيقة ولا طعماً، فالأول سيتقي الله في جماهير الأمة ممن يتعاملون معه، والآخر يعبد كرسيه الذي جلس عليه ولا شيء غيره.
شتان بين موطن يشع بالإيمان وموطن خال من الإيمان، فنريد أن نحول الإسلام في واقعنا وحياتنا إلى منهج حياة، وأنا أكرر هذه الكلمات دوماً؛ لأن القول إن خالف العمل بذرت بذور النفاق في القلوب، كما قال علام الغيوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، أسأل الله أن يرزقنا العلم والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! نحتاج إيماناً لينصرنا الله، وأرجو أن يعلم شبابنا جيداً أن النصرة من الله ما تأخرت عن الأمة إلا لأنه لا توجد في الأرض الآن العصبة المؤمنة التي تستحق نصر الله، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وهذه سنة ربانية؛ فإن العاقل يعلم يقيناً أن العصبة المؤمنة التي تستحق النصر ما وجدت إلى الآن، إنما هم أفراد قلائل جداً في هذه الأمة، فنحتاج من هؤلاء الأفراد أن ينتشروا ويمتدوا امتداداً وأفقياً بين أهل الإسلام، لتزداد القاعدة، ورأسياً في غير أهل الإسلام؛ لتزداد القاعدة المؤمنة التي تستحق نصر الله جل وعلا، ومع ذلك يا إخوة فأنا لا أخشى على الإسلام، وإنما كل كلامي على المسلمين، فإن الإسلام قد وعد الله بظهوره على الدين كله رغم أنف الأمريكان، ورغم أنف اليهود، ورغم أنف المشركين والمنافقين والمجرمين، فقد وعد بنصرة دين محمد على الدين كله، وهو الملك الذي يقول للشيء: (كن) فيكون.
هل تصدقون الملك جل وعلا وهو يقول: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]؟! لقد قرأت حديثاً في صحيح مسلم من حديث ثوبان يملأ القلب أملاً، وهو من كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
هل تصدقون النبي صلى الله عليه وسلم؟ أيها الأحبة: الحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم مشارق الأرض ومغاربها، ولم لا وهو الذي رأى في الدنيا الجنة والنار؟! إي والله، لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي صلاة الاستسقاء الجنة ورأى النار.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وتعقب الحاكم والذهبي والألباني فقال: بل هو صحيح على شرط مسلم من حديث تميم الداري، أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر)، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المؤمنين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المؤمنين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المؤمنين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين بقدرتك وعظمتك يا رب العالمين! اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم احفظ أهلنا في العراق، اللهم احفظ أولادنا في العراق، اللهم احفظ نساءنا في العراق، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان من شر الأشرار، وكيد الفجار، برحمتك يا عزيز يا غفار! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين! اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم ارفع علم الجهاد اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد! اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اشف صدور قوم موحدين، واشف صدور قوم مؤمنين برحمتك يا رب العالمين! اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين! اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءًَ وجميع بلاد المسلمين! اللهم ارفع عن مصر الغلاء، اللهم ارفع عن مصر الغلاء، اللهم ارفع عن مصر البلاء، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!(43/6)
قدر النبي عند الله
كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خُلق عظيم، بتزكية الله تعالى له، وبالواقع الذي عاشه مع الناس كلهم، المسلمين منهم والكافرين، فالواجب هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل أخلاقه ومعاملته، والناظر إلى حال أبناء الإسلام في هذا الزمان يرى أنهم قد جهلوا قدر نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وتركوا شرعه وراءهم، وجعلوا سيرته قصة يتغنى بها في المحافل والذكريات، وجانبوا سنته بإقامة الموالد المشتملة على البدع والشهوات، وادعوا محبته في الوقت الذي يقصرون فيه في جانب دينهم، ولا يغارون على ما يجري للمسلمين والمسلمات في كثير من بقاع الدنيا.(44/1)
خلق النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأعزاء، وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: "أمة لا تعرف قدر نبيها" هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، ونظراً لأن الحديث في هذا الموضوع ذو شجون، فسوف أُركِّز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ثانياً: القرآن يربي ويعلم.
ثالثاً: الواقع خير شاهد.
وأخيراً: هذا هو الحب أيها المحب.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! سائلاً المولى جل وعلا أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.(44/2)
كان خلقه القرآن
أيها الأحبة: والله الذي لا إله غيره، لو ظللت الدهر كله أتحدث عن أخلاق رسول الله ما استطعت، ولكن لخصت عائشة الصديقة الحصان الرزان هذا الخلق العظيم في كلمات محددة فقالت: (كان خلقه القرآن)، فقد كان رسول الله قرآناً متحركاً بين الناس.
لقد جمع الله في شخص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أشخاصاً متعددين كثيرين في آن واحد، انتبه معي أيها الحبيب: فهو رسول من عند الله يتلقى الوحي من السماء ليربط السماء بالأرض بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل سياسة من طراز فريد، يقيم أمة ودولة من فتات متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، تذل الأكاسرة وتهين القياصرة وتغير مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً، وهو رجل حرب من طراز أوحد، يقود الجيوش، ويخطط للمعارك، ويتخذ غرفة للعمليات عن بُعد من أرض المعركة.
وهذا لم يعلمه التاريخ إلا في قرننا الحالي، وقد فعله رسول الله في غزوة بدر، اتخذ غرفة للعمليات ليخطط فيها للمعركة وللحرب، وقام ليختار القادة، وليختار قائد الميمنة وقائد الميسرة، بل ولما افتضت الجموع في حنين قام الحبيب المصطفى رافعاً سيفه في ساحة الوغى، وميدان البطولة والشرف، ذلكم الميدان الذي تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب، وقف الحبيب المصطفى ليعلن بأعلى صوته قائلاً: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).
وهو أب وزوج، ورب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من نفقات الفكر، نفقات الشعور، نفقات التربية، نفقات النصح، فضلاً عن نفقات المال، فيقوم الحبيب المصطفى بهذا الدور على أعلى نسق شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
وهو إنساني من طراز فريد، كأنه ما خلق إلا ليزيل الدموع، كأنه ما خلق إلا ليمسح الآلام عن القلوب، يمنح الناس وقته وفكره وعقله وماله ونصحه وروحه وشعوره، كأنه ما خلق إلا ليسعد الناس في الدنيا قبل الآخرة، وهو قبل كل ذلك وبعد كل ذلك فهو قائم على أشرف وأعظم دعوة شهدتها الأرض، أخذت الدعوة عقله وفكره وروحه بل ودمه، فيقوم المصطفى بهذه الأدوار كلها كأنه ما خلق إلا لكل دور من هذه الأدوار ليقوم به على أعلى نسق وأكمل صورة.
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم(44/3)
قصة الأنصار بعد قسمة غنائم حنين
روى الإمام أحمد وابن إسحاق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم حنين: أعطى لقومه من قريش ولسائر العرب، ولم يعط الأنصار من الغنائم شيئاً، فغضب الأنصار من رسول الله، ووجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم: والله لقد لقي رسول الله قومه -أي: لقي رسول الله قومه فأعطاهم ونسينا- فلما سمع سعد بن عبادة الأنصاري هذه العبارة انطلق إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي! لقد وجد الأنصار عليك في أنفسهم.
فقال المصطفى: فيم يا سعد؟ فقال سعد: لأنك قسمت الغنائم وأعطيت قومك من قريش وأعطيت سائر العرب ولم تعط الأنصار من الغنائم شيئاً.
فقال صاحب الخلق: اجمع لي الأنصار يا سعد.
فجمع سعد بن عبادة الأنصار رضوان الله عليهم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار، وقام المصطفى صلى الله عليه وسلم في الأنصار خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة -أي: فقراء- فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ فسكت الأنصار، فالتفت إليهم نبينا الحبيب المختار وقال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ فقالوا: وبماذا نجيب؟ المن لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال الحبيب المصطفى: والله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً -أي: فقيراً- فواسيناك، ومخذولاً فنصرناك، وجئتنا خائفاً فأمناك، فقال الأنصار: المن لله ولرسوله، فقال المصطفى: يا معشر الأنصار! لقد وجدتم في أنفسكم عليّ في لعاعة -أي: في شيء تافه- من أمر الدنيا تألفت بها قلوباً دخلت الإسلام حديثاً، ووكلتكم أنتم إلى ما من الله عز وجل به عليكم من الإسلام، يا معشر الأنصار! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟! يا معشر الأنصار! والله لو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، والله لولا الهجرة لكنت رجلاً من الأنصار، فاللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا على لسان رجل واحد لصاحب الأخلاق السامية: رضينا بالله رباً، وبرسول الله قسماً ومغنماً).
هل نستطيع في لغة البشر أن نعبر عن هذه الأخلاق من رسول الله يوم أن قال لهم.
(لولا الهجرة لكنت من الأنصار) ويوم أن كرمهم بهذا التكريم؟! لا ورب الكعبة، فلتردد معي -يا أيها المسلم- هذه الشهادة الزكية التي زكاه بها ربه وخالقه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
قال الشاعر: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم وقال آخر: أغر عليه للنبوة خاتم من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد(44/4)
قصة عمير بن وهب
روى ابن إسحاق بسند صحيح أن عمير بن وهب أسر ولده وهب بن عمير في غزوة بدر، فجلس عمير بن وهب مع صفوان بن أمية إلى جوار الكعبة وهما على الكفر والشرك، فتذكرا يوم بدر، فقال عمير بن وهب لـ صفوان بن أمية: والله لولا دين علي وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد لأقتله.
فقال صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب: دينك علي، وعيالك عيالي أواسيهم بمالي، ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمد فاقتله.
يقول عمير بن وهب: فقلت لـ صفوان: فاكتم خبري وخبرك ولا تخبر بذلك أحداً.
فقال صفوان بن أمية: أفعل ذلك.
وانطلق عمير بن وهب فشحذ سيفه، وأغرقه في السم، وركب إلى المدينة؛ ليقتل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ولما أناخ راحلته على باب المسجد النبوي نظر إليه الفاروق الملهم عمر، فقال عمر: هذا عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء إلا لشر وسوء، فانطلق عمر إلى عمير ولببه من ثيابه خنقه خنقاً شديداً وجره إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوقفه بين يدي رسول الله.
فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق: (ادن يا عمير! فاقترب عمير من رسول الله، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: ما الذي جاء بك؟ قال: ابني أسير عندكم، جئت لتحسنوا إلي في فدائي، فقال الحبيب: اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لهذا.
فقال المصطفى: فما بال السيف في عنقك؟ فقال عمير بن وهب: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟! فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: والله ما جئت إلا لهذا.
فقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: بل جلست أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة وقلت لـ صفوان: والله لولا دين عليّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد لأقتله، فقال لك صفوان: دينك عليّ، وعيالك عيالي، أواسيهم بمالي ولا أمنع شيئاً عنهم، واركب إلى محمد، فاقتله فقلت له: اكتم خبري وخبرك قال: أفعل، فشحذت سيفك وأغرقته في السم، وركبت إلى المدينة لتقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك).
فقال عمير بن وهب: أشهد أنك رسول الله، والله ما علم بهذا الخبر أحد غيري وغير صفوان، ولقد علمت الآن أن الذي أخبرك بهذا هو الله عز وجل، فأحمد الله الذي ساقني إلى هذا المساق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
فماذا قال صاحب الخلق الذي عرف منذ اللحظات الأولى أن عميراً ما جاء إلا ليقتله في عقر داره؟ قال صاحب الخلق لأصحابه: (فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له ولده) هل توجد لغة للبشر أستطيع بها أن أعبر عن هذه الأخلاق السامية؟ لا ورب الكعبة، فلندع المشهد يتألق سمواً وروعة وجلالاً، ولتردد معي أيها المحب هذه الشهادة العظيمة التي شهد بها ربه جل وعلا {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(44/5)
قصة زيد بن سعنة
أولاً: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
روى الطبراني عن عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن زيد بن سعنة وهو الحبر الكبير من أحبار اليهود قال: (ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.
يقول زيد بن سعنة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات مع علي بن أبي طالب، وإذ برجل من الأعراب يقبل على النبي ويقول: يا رسول الله! إن قومي في قرية بني فلان دخلوا في الإسلام، ولكنهم دخلوا في الإسلام طمعاً، فلقد أخبرتهم أنهم إن دخلوا في الإسلام أتاهم رزقهم رغداً، وقد نزلت بهم اليوم شدة وقحط؛ فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا في الإسلام طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت يا رسول الله! فالتفت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم إلى علي بن أبي طالب وسأله: هل عندنا شيء من المال؟ فقال علي بن أبي طالب: لا والله يا رسول الله لقد نفد المال كله.
يقول زيد بن سعنة: فدنوت من محمد صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا محمد! هل تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان -أي: في بستان بني فلان- إلى أجل معلوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، لكن لا تسم حائط بني فلان، أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل معلوم، لكن لا تسم حائط بني فلان، يقول زيد بن سعنة: فوافقت النبي على ذلك، وأعطيت النبي ثمانين مثقالاً من الذهب، فأخذها النبي كلها وأعطاها لهذا الأعرابي وقال: اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا المال، فانطلق الأعرابي بالمال كله.
يقول زيد بن سعنة: ولم يمض غير قليل من الوقت، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه صلوا على جنازة لصاحب لهم، وأتى النبي عليه الصلاة والسلام إلى جدار ليجلس في ظله.
فاقترب منه زيد بن سعنة ونظر إليه بوجه غليظ، وأخذ بمجامع قميصه وردائه، وهز الحبر اليهودي رسول الله هزاً عنيفاً وهو يقول له: أد ما عليك من حق ومن دين يا محمد، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب إلا قوم مطلٌ في سداد الحقوق وأداء الديون، فالتفت إليه عمر وعينه تدور، وقال له: يا عدو الله! أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى؟! والذي نفسي بيده لولا أني أخشى فوته وغضبه لضربت رأسك بسيفي هذا، يقول زيد بن سعنة: وأنا أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذ بالنبي ينظر إلي في سكون وهدوء، ثم التفت المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب وقال له: يا عمر، لقد كنت أنا وهو في حاجة إلى غير ذلك، يا عمر لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء، وأن تأمره بحسن الطلب).
فوقف زيد بن سعنة مبهوتاً مفزوعاً أمام هذه الأخلاق السامية، وأمام هذه الروح الوضيئة العالية من الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، أتدرون ماذا قال صاحب الأخلاق العظيمة؟ التفت الحبيب إلى عمر رضي الله عنه وقال: يا عمر! خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته، يقول زيد بن سعنة: فأخذني عمر بن الخطاب وأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر فقلت له: ما هذه الزيادة يا عمر؟ فقال له: أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك، فالتفت الحبر اليهودي إلى عمر وقال: يا عمر، ألا تعرفني؟ قال: لا.
قال: أنا زيد بن سعنة.
قال عمر: حبر اليهود؟ قال: نعم، فالتفت إليه عمر وقال: فما الذي حملك على أن تقول لرسول الله ما قلت، وعلى أن تفعل برسول الله ما فعلت؟! فقال زيد بن سعنة: والله يا ابن الخطاب ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه رسول الله حين نظرت إليه، ولكنني لم أختبر فيه خصلتين من خصال هذه النبوة، فقال له عمر: وما هما؟ قال حبر اليهود: الأولى: يسبق حلمه غضبه، والثانية: لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، أما وقد عرفتهما اليوم في رسول الله فأشهدك يا عمر أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
أيها الأحبة: ماذا أقول أمام هذه الأخلاق؟ وبأي لغة أعلق؟! أنا أسأل الآن وأقول: هل توجد لغة أستطيع بها أن أعبر عن هذه الأخلاق السامية؟ لا ورب الكعبة! فلندع المشهد يتألق روعة وسمواً وجلالة، ولتردد معي أيها المحب للحبيب المصطفى هذه الشهادة العظيمة من خالقه جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(44/6)
حكم الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام
قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، فأقول: هل بعث الله رسوله المصطفى لتكون سيرته قصة تتلى في يوم المولد من أيام شهر ربيع؟ ما أرخصه من حب! ما أرخصه من اتباع! ما أرخصه من تقدير! أمة والله لا تعرف قدر نبيها، هل بعث الله رسوله لتكون سيرته قصة تتلى بصوت رخيم جميل أنيق والناس من حول صاحب الصوت يصطرخون؟ ويخرج الناس بعد سماعهم لسيرة المصطفى وكأن لسان حالهم يقول: كان يا ما كان أيام زمان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، كأنها قصة أبي زيد الهلالي! وكأننا ما كلفنا أن نحول هذه السيرة في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة! تحكى الآن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام على أنها قصة، لم يعد الناس ينظرون إلى هذه السيرة ليحولوا معانيها في حياتهم إلى واقع عملي، إلى مشهد يتحرك ويرى ويسمع في عالم الدنيا وفي عالم الناس.
والله ما أرسل الله نبيه لتكون سيرته ماضياً بل وحاول أعداء الأمة أن يحولوا بين الأمة وبين رسولها، حرصوا أن يحولوا بين الأمة وبين سيرة النبي العظيم الخاتم؛ لتظل سيرة النبي في حياة الأمة قصة تتلى، وحكاية جميلة ترددها الألسنة، وقصائد وكلمات منمقة، يحتفل بها علية القوم وسادة الناس، تحتفل الأمة برسول الله عبر قصيدة أو عبر أبيات شعرية، أو عبر خطبة رنانة، أو عبر ندوة رنانة، أو عبر ليلة ماجنة، ليلة يؤتى فيها براقص يسمونه مداحاً، يقف هذا الراقص بين جموع تصرخ، ويتحرك مجموعة من الناس لجمع التبرعات، لماذا تجمع التبرعات؟! يقولون: لمولد رسول الله، أي مولد هذا الذي تجمع له التبرعات؟ يجمع في هذه الليلة ألف، يجمع في هذه الليلة ألفان، يجمع في هذه الليلة ثلاثة آلاف، أليس في بلدنا فقراء هم في أمس الحاجة إلى هذا المال؟! اتقوا الله يا أيها الناس! اتقوا الله يا عباد الله! والله إنه الكذب، والله إنه الدجل، ينفق في ليلة من هذه الليالي -بحجة أننا نحتفل برسول الله- هذه الآلاف من الجنيهات، وينفقها أناس لا يصلون وأنتم تعلمون، رجل لا يصلي لله ويدعي أنه يحتفل برسول الله، ما هذا الكذب؟! ما هذا الهراء؟! أيها المسلمون اتقوا الله، وأذكركم بهذه النصيحة الخالصة لوجه الله، لا أسألكم عليها مالاً، ولا أسألكم عليها أجراً، وليقل الناس ما قالوا؛ فإني أبتغي رضا رب الناس جل وعلا، إن ما تفعلونه بدعة منكرة لا أصل لها ولا وجود لها.
يا من تمسكون الطبل والمزمار؛ لتغنوا للنبي المختار، أنتم على بدعة، والله ما فعل ذلك أبو بكر، والله ما فعل ذلك عمر، والله ما فعل ذلك عثمان، والله ما فعل ذلك علي! إن الاحتفال برسول الله لا يتمثل في هذه الليالي الماجنة التي يختلط فيها الشباب بالفتيات، والرجال بالنساء، ويترك فيها الناس صلاة العصر، حيث يمرون على المسجد أثناء الزفة فلا يصلون لماذا؟ أرفعت عنهم التكاليف لأنهم يحتفون برسول الله؟ ما شاء الله! إنا لله وإنا إليه راجعون، قضوا هذه الليلة مع هذا الراقص، والله الذي لا إله غيره ربما ما صلى واحد منهم الفجر لله، هل هذا هو الحب؟! أيها المسلمون! سيسألني الآن أب طيب من آبائنا ويقول: لماذا لا تمنع الدولة هذه الموالد؟
و
الجواب
إنها ثلة منتفعة، وأذكرك بتحقيق صحفي لا أقول: نشرته جريدة المعارضة، وإنما نشرته جريدة الجمهورية، وهذا التحقيق ينبئنا عن أموال صناديق النذور في قبور الأولياء، ففي مسجد السيد البدوي في كل ثلاثة أشهر يفتح صندوق النذور، ويكون نصيب خادم دورة المياه في كل ثلاثة أشهر أكثر من تسعة آلاف جنيه! فما ظنك بمن هو أعلى؟! وتأتي أنت يا صاحب اللحية لتقول: حرام تقطع رقبتي، تحرمني من هذه الآلاف، إنها ثلة منتفعة، والله لا أصل لها في قرآن ولا أصل لها في سنة، أما أن يأتي رجل لا يصلي ويدعي أنه يحتفل برسول الله، فهذا منكر عظيم.
أيها المسلمون! من دفع جنيهاً واحداً لهذه الموالد فهو عاصٍ لله عز وجل، وقد وقع في البدعة، وقد ارتكب إثماً ومعصية، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من نذر لغير الله فقد أشرك)، أنت مسئول عن مالك، كل جنيه تدفعه ورب الكعبة ستسأل عنه، الله عز وجل سيسألك عن هذه الأموال، يقول المصطفى: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: -وذكر النبي منها- ويسأل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه).
ستقول: يا رب! أنفقته في المولد! أي مولد؟ رجال ونساء، تضييع للصلوات، فقراء في أمس الحاجة إلى هذه الأموال، الله الله عباد الله، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
أيها الشباب! يا من تتحرك دماء الحماس في عروقكم، وظيفتنا البلاغ والبيان، ليست وظيفتنا أن نلزم الناس، وأن نجبر الناس، وأن نقهر الناس، وظيفتنا البلاغ، وظيفتنا البيان، ما علينا إلا أن نبلغ، ما علينا إلا أن نبين، ما علينا إلا أن نوضح الحق بالدليل من القرآن والسنة، قال الله لنبيه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِر} [الرعد:7]، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، فوظيفتنا أن نبلغ، وأن نحذر، وأن ننذر، ولنترك النتائج بعد ذلك لمن بيده القلوب، أسأل الله أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(44/7)
القرآن يربي ويعلم
أيها الأحبة: إذا كانت مكانة رسول الله في قلوبنا أن نحتفل له في ليلة بقصيدة أو بندوة أو بمحاضرة، فما أرخصها من مكانة وما أرخصه من حب؛ لذا لا يعلم قدر رسول الله إلا الله، أنزل الله عليه القرآن ليربي ويعلم أصحابه، وليعلم المسلمين من بعدهم كيف يعاملون رسول الله، وكيف يوقرون رسول الله، وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: "القرآن يعلم".
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:1 - 3].
هذا القرآن يؤدبنا ويعلمنا كيف نعامل النبي صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] قال ابن عباس: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
وقال مجاهد: أي: لا تفتاتوا على رسول الله حتى يقضي الله على لسان رسوله.
وقال الضحاك: أي: لا تقضوا شيئاً من شرائع دينكم دون الله ورسوله.
قال القرطبي: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً على قول الله وعلى قول وفعل رسول الله؛ فإن من قدم قوله وفعله على قول وفعل رسول الله فإنما قدمه على الله؛ لأن رسول الله إنما يأمر بما أمر به الله عز وجل).
قال الإمام الشنقيطي: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، وتحريم ما لم يحرمه، وتحليل ما لم يحلله؛ إذ لا حلال إلا ما أحله الله على لسان رسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو الهدف الذي ينبغي أن تكون عليه الأمة مع رسول الله، أي: لا تقدم قولة ولا فعلة على قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والسؤال الآن يا إخوة: هل امتثلت الأمة أمر الله فتأدبت مع رسول الله؟ هل امتثلت الأمة أمر الله فلم تقدم قولها ولا حكمها ولا فعلها على قول وفعل وحكم رسول الله؟ والجواب بملء الفم: لا، والواقع خير شاهد، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء، أرجئ الحديث عنه إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(44/8)
الواقع خير شاهد على خيانة الأمة ومجانبة السنة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! هل امتثلت الأمة أمر الله فتأدبت مع رسول الله، فوقرت النبي، وأجلت النبي، وعظمت النبي، فامتثلت أمره، واجتنبت نهيه، ووقفت عند حدوده، واتبعت سيره وطريقه صلى الله عليه وسلم؟ والجواب بملء الفم: لا، والواقع خير شاهد على جوابي، وهذا هو العنصر الثالث من عناصر اللقاء.
إن واقع الأمة خير شاهد على أن الأمة لم تمتثل أمر الله وأمر رسوله، أمة تدعي أنها تحتفل برسول الله في شهر ربيع في الوقت الذي نحت فيه شريعته، وسخرت فيه من سنته! هل هذا حب؟ هل هذا احتفال؟ أمة يتغنى أبناؤها ابتداءً من علية القوم وسادة الناس في شهر ربيع على شاشات التلفاز بالندوات والمحاضرات والموالد، وتدعي أنها تحب رسول الله، وتحتفل برسول الله، وتكرم رسول الله، في الوقت الذي نحت سنته، وعطلت شريعته، أين السنة؟ أين شريعة رسول الله؟ هل تعلمون أن الأمة الآن قد حكمت في الأموال والأعراض والدماء والفروج القوانين الوضعية الفاجرة الجائرة، وعطلت شريعة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ الله عز وجل يقول في قرآنه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، فعرض قانون الله على مجلس الشعب، فماذا قال مجلس الشعب الموقر؟ قال مجلس الشعب الموقر: لا، هذا قانون لا نأخذ به ولن نعمل به، لماذا؟ قالوا: لأنه قانون وحشي، لأنه قانون فيه تعسف وظلم.
فما قانونكم الذي تريدون أن تحكموه في الأعراض؟ قالوا: إن تم الزنا بين الرجل والمرأة بالتراضي خفف الحكم، وإن تدخل زوج الزانية وتنازل عن القضية فلا يجوز للقاضي أن يدخل في القضية حكماً، وتصبح المتهمة بريئة، ويصبح المتهم بريئاً من الفور وعلى الحال! هذا قانونهم؛ وذاك هو قرآننا وتشريعنا.
هذا مثال واحد أضربه لحضراتكم؛ لنبين لكم أن الأمة قد نحت الشريعة قد عطلت كتاب الله قد عطلت سنة رسول الله وحكمت قانون نابليون وقانون البيت الأبيض، وقانون البيت الأحمر، وقانون البيت الأسود، واستبدلت بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً.
أين الأمة من دماء تسفك، وأشلاء تمزق، وأعراض تنتهك، ومقدسات تدنس وهي تغني لرسول الله؟!!(44/9)
غفلة الأمة عن جراحها ومصائبها
أمة لا تستحي حين يرقص القادة والعلماء والكبار بحب رسول الله في الوقت الذي تسفك فيه الدماء، وتمزق فيه الأشلاء، وتنتهك فيه الأعراض، وتدنس فيه المقدسات، والأمة لا زالت تغني، ومازالت ترقص بحبها للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو الذي قال كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
المسلمة في البوسنة تصرخ والمسلمون في بلاد المسلمين يأكلون عروسة المولد! المسلمة في البوسنة ينتهك عرضها ولا زال الكبار يرقصون ويغنون بحب رسول الله، أين أنتم من رسول الله؟! أين أنتم من محبته صلى الله عليه وسلم؟! المسلمة منذ أربع سنوات تصرخ في البوسنة، وأخيراً قالت: أيها المسلمون! إن عجزتم عن مدنا بالسلاح فأمدونا بحبوب منع الحمل؛ حتى لا تعظم المصيبة، أين المسلمون الراقصون؟! أين المسلمون الذين يتغنون في الليل والنهار؟! يا مسلمون إن عجزتم عن مدنا بالسلاح لندافع عن شرفنا وعقيدتنا، فأمدونا بحبوب منع الحمل؛ حتى لا تعظم المصيبة.
بل قهر الصرب قلب المسلمة، وحطموا فؤادها يوم أن أخذوا طفلها من صدرها، ووضعوا طفلها أمام عينيها على النار؛ ليشوى الطفل أمام أمه، ثم أكرهت الأم تحت تهديد الرصاص أن تأكل من لحم ولدها المشوي، وبعد ذلك ينتهك عرضها، ثم تضرب بالرصاص لتقتل!! أين المسلمون الذين يغنون ويرقصون بحب رسول الله؟!! المسلمة في البوسنة تصرخ وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم أما فيكم أبيٌ قلبه خفاق أختاه أمتنا التي تدعونها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة وسرى بها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق ويأتي بعده أنفاق مدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق لا تيأسي فأمام قدرة ربنا تتضاءل الأنساب والأعراق يا من احتضنت طفلك في صدرك، وضحكت ملء فمك، وأكلت ملء بطنك، وعشت للكراسي الزائلة وللمناصب الفانية، لقد أُخذ الطفل من أحضان أمه على أرض البوسنة.
والله الذي لا إله غيره لقد رأيت بعيني على شاشات التلفاز في إحدى الزيارات لأمريكا منظراً يخلع القلب، رأيت امرأة صومالية خرجت في ظل هذه الحرب الطاحنة وخرج معها أبناؤها، وفي صحراء مقفرة نفد الطعام ونفد الشراب، فسقطت الأم من الإعياء وهي تحمل رضيعها، وتحمل طفلاً آخر على ظهرها، وأطفالها يجرون ثيابها من خلفها، كانت تمشي هذه الأم في الصحراء، ثم انتهى الطعام وانتهى الشراب وسقطت الأم تحت حرارة محرقة في صحراء مقفرة، ونامت وطال نومها، قبض الله روحها وماتت، وانطلق الأطفال يبحثون عن طعام يبحثون عن شراب، فلما لم يجد الأطفال طعاماً ولا شراباً انطلقوا يفتشون عن ثدي الأم، فالتقم الأطفال الثدي، فلما جف الثدي ولم يعد يعطي لبناً انطلق الأطفال يبحثون عن شيء آخر فلم يجدوا، فوالله لقد انقضوا على لحم أمهم ليأكلوه!! هذه صورة في الصومال على مرأى ومسمع المسلمين، وفي البوسنة أيضاً ينتزع الطفل من أمه ليباع أمام أمه، طفل يباع أمام أمه، أين المسلمون الذين يغنون ويرقصون لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أطفالنا ناموا على أحلامهم وعلى لهيب القاذفات أفاقوا أطفالنا بيعوا وأوروبا التي تشري ففيها راجت الأسواق أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق يعفى عن الصرب الذين تجبروا وطغوا ويفرد بالعقاب عراق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق أين الذين يرقصون ويغنون بحب رسول الله من هذه المآسي المروعة، في البوسنة، وفي الصومال، وفي الشيشان، وفي طاجكستان، وفي تركستان، وفي كشمير، وفي الفلبين، وفي كل مكان؟ ففي كل بلد على الإسلام جائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل لإخوتنا كما أعدت لتشفى الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم ليوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعةٌ للكفر ذكر وللإسلام نسيان الواقع خير شاهد على كذب الأمة، وعلى أن الأمة قد خانت الله والرسول، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، والواقع خير شاهد على أن الأمة قد خانت ربها، وخانت نبيها، يوم أن تخلت عن الأمانة وعن السيادة وعن القيادة بتركها لأصل عزها، ونبع شرفها، بتركها للكتاب والسنة، وصار المجتمع الغربي يقود البشرية كلها على حين غفلة من أمة القيادة.
وأخيراً هذا هو الحب أيها المحب، وأكتفي الآن بهذا القدر، لأرجئ الحديث عن هذا العنصر بعد الصلاة إن شاء الله تعالى لمن أراد أن يسعدنا ويشرفنا بالجلوس نظراً لهذه الإطالة.
أسأل الله عز وجل أن يرد الأمة إليه رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً! اللهم أنت غياثنا فبك نستغيث، وأنت عياذنا فبك نعوذ، وأنت ملاذنا فبك نلوذ، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، ويادائم المعروف، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع مقتك وغضبك عن أمة حبيبك محمد، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم شتت شمل الصرب، اللهم سلط الصرب على الكروات، وسلط الكروات على الصرب، وأخرج المسلمين البوسنيين من بينهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إن الكل قد تخلوا عنهم فلا تتخل عنهم بذنوبهم، اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، وكن لهم معيناً يوم انعدم المعين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروما، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا والإخلاص في أعمالنا، واليقين في عقيدتنا، اللهم لا تدع للشيطان حظاً ولا نصيباً في أفعالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، وسائر بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، اللهم ارفع غضبك ومقتك عنا يا أرحم الراحمين.
هذا، وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.(44/10)
الحب الصادق للنبي صلى الله عليه وسلم
العنصر الأخير من عناصر هذا اللقاء هذا هو الحب أيها المحب، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد لا أكون مبالغاً إن قلت: إنني لا أعلم شعباً -والله تعالى أعلم- يحب رسول الله كشعب مصر، لكنني أقول: ينبغي أن يضبط هذا الحب، ففرق كبير بين حب مبني على الابتداع، وحب مبني على الاتباع.
فالحب الصادق هو الحب الذي يبنى على اتباع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، المحب للنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم إلا بمثل كلام النبي، بمعنى: لا تتكلم ولا تفعل إلا إذا علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقول هذا أو أن تفعل هذا، يعني: يرفع النبي رجله اليمين فتحط رجلك اليمين على أثر رجله، يرفع النبي رجله الشمال فتضع رجلك الشمال مكانها، تمشي وراء خطاه، وإن شاء الله في نهاية الطريق ستجد الحبيب المصطفى ينتظرك على الحوض؛ لتسقى بيده الشريفة شربة هنيئة مريئة لن تظمأ بعدها أبداً؛ حتى تستمتع بالنظر إلى وجه الله في جنة الله مع رسول الله.(44/11)
المحب الصادق يحافظ على الصلاة
هل المحب الصادق يضيع الصلاة؟ أين هو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة).
سبحان الله! أين من يدعون الحب والمؤذن يقول: حي على الصلاة، والناس قاعدون على (المصاطب) أو على (القهاوي) والمحلات والبقالات فاتحة، ألست أنت تحب النبي؟ نعم أنا قلبي ملآن بحب النبي.
إذاً: لماذا لم تقم لتصلي؟ هذا النبي يقول لك: إذا سمعت المؤذن يؤذن فأجب.
كان هناك رجل أعمى اسمه عبد الله ابن أم مكتوم، لكنه يستأذن النبي في صلاة واحدة، وهي صلاة الفجر التي ضيعها المسلمون في هذا الزمان حتى سقطت من الحسابات، ففي هذا الزمن لو سألت مسلماً: كم صلاة عليك؟ لقال أربع!! صلاة الفجر سقطت من زمان، فتش عن المساجد في صلاة الفجر، ابحث عن أي مسجد في صلاة الفجر، أين المسلمون المحبون؟ نائمون، قضى أول الليل مع المسلسل، وثنى بالفلم، كيف سيقوم لصلاة الفجر؟ ألست تحب النبي؟ نعم يا أخي، أحب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ربك رب قلوب، صل على الحبيب المحبوب.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.
وبالمناسبة: هذا ليس حديثاً؛ لأن كثيراً من الخطباء والوعاظ يقولون هذا على أنه حديث للنبي صلى الله عليه وسلم، لا، هذا من قول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه).
أين المحب من الصلاة؟ لا يصلي، لا يزكي إلا ما رحم ربك، لا يحفظ لسانه، تجد الواحد من هؤلاء حريصاً على حل الأكل، يقول لك: هذا لحم مستورد، هذا البسكوت فيه شحم خنزير، وهذا جميل جداً، وما أحسنه من عمل إن كان لله لكنه في الوقت ذاته لا يتورع عن أكل لحوم الناس في الليل والنهار! يا أخي! أنت لا تأكل اللحوم التي أحلها لك ربنا؛ لأنك تشك في كونها ذبحت على غير طريقة الإسلام، وتحل لنفسك أن تأكل لحوم إخوانك في الليل والنهار! الحب الصادق لرسول الله يتمثل في كلمة واحدة هي: الاتباع، أي: أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فتمشي على طريق النبي، وتمتثل أمر النبي، وتجتنب نهي النبي، وتقف عند حدود النبي، صلوا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(44/12)
المحب الصادق يقدم حب النبي على نفسه
يقول الحبيب: (والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين)، أي: لا يكتمل الإيمان في قلبك إلا إذا كان حبك للنبي يفوق حبك لولدك، ولوالدك، وللناس أجمعين، بل ولنفسك التي بين جنبيك، فسل نفسك الآن، وكل يجيب عن نفسه: هل أنا أحب رسول الله أكثر من حبي لولدي؟ وهل ألبي أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ أنت الذي تجيب.
هل حب رسول الله في قلبك يفوق حبك لوالدك؟ هل حب رسول الله في قلبك يفوق حبك لنفسك التي بين جنبيك؟ عمر بن الخطاب يقول للنبي: أنا أحبك يا رسول الله، لكن ليس أكثر من نفسي.
فقد كانوا لا يعرفون المنافقة والمداهنة والتملق، فقال: أنا أحبك لكن ليس أكثر من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال عمر: والذي نفسي بيده لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله).
انظروا الحب يا إخوة، انظروا عمر يقول: والله أنا أحبك الآن أكثر من نفسي، ويشكل هذا الحديث على بعض الإخوة، ويقولون: عمر قال في الأول أنا أحبك لكن ليس أكثر من نفسي، وبعد ذلك فوراً قال: أنا أحبك أكثر من نفسي، لماذا؟ يقول الإمام الخطابي: حب الإنسان لنفسه طبع، وحب الإنسان لغيره اختيار بتوسط الأسباب -يعني: أنا أحبك وأنت تحبني لأسباب-.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/13)
ما للنساء في الجنة
النعيم الذي أعده الله تعالى في الجنة لعباده المؤمنين هو للرجال منهم والنساء على حد سواء، ونساء الدنيا إذا دخلن الجنة فحالهن ومنزلتهن أرفع من الحور العين، وهذا من فضل الله تعالى على النساء الصالحات، ومن كمال عدله سبحانه.(45/1)
المساواة بين الرجل والنساء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فمع سؤال خطير هام حساس، هذا السؤال تغزى به بيوت المسلمين، وورد لنا السؤال في الجمعة الماضية أمام الإخوة الجالسين بعد الصلاة، وورد أيضاً من جهات أخرى، ومن بيوت على مستوى رفيع، وهم أصحاب حق في السؤال، وصيغة السؤال التي تغزى به البيوت: الرجل له زوجات في الجنة، وأنت أيتها المرأة المسلمة! ما لك في الجنة؟ وأنا أستأذنكم أن أنزل قليلاً إلى اللغة العامية؛ لأن الدرس خاص بأخواتنا المؤمنات.
أولاً: الإسلام -يا أخت الإسلام- لم يفرق بين المرأة والرجل في التمتع بالنعيم إطلاقاً، فنعيم الجنة للرجال والنساء على حد سواء، ولنأخذ ماذا قدم الإسلام للمرأة، في الدنيا أولاً، وباختصار.(45/2)
التكريم في العمل
الثالث: التكريم في العمل.
لا فرق بين رجل وامرأة في ثواب الأعمال، بل ربما امرأة مستقيمة طائعة لله تعدل عند الله ملايين الرجال الذين لا يعرفون للدين حرمة، ولا للطاعة صداقة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].(45/3)
المساواة والتكريم في استجابة الدعوة
الرابع: المساواة والتكريم في استجابة الدعوة الصالحة من الرجل والمرأة على حد سواء؛ بل إذا دعت المرأة ربها بقلب حاضر -مثلاً- ودعا رجل ربه بقلب لاه، فإن الله يستجيب لها ولا يستجيب له، لقوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، هذا على مستوى الدنيا، فهذه تسوية كاملة.(45/4)
التسوية في أصل الخلق
التسوية بين الرجل والمرأة في أصل الخلق، لا فرق إطلاقاً، الإسلام دين عدل، والخالق لهذا الكون واحد، وهو العادل سبحانه وتعالى الرحيم، فلا فرق بين الرجل والمرأة في الدنيا في أصل الخلق.
وهذه التسوية في أصل الخلق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].(45/5)
التسوية والتكريم في العقل والعقيدة
التسوية والتكريم في العقل والعقيدة، تكريم في العقيدة للمرأة في منتهى الحرية والإطلاق، لقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، كأنها تريد أن تقول لفرعون: إذا كنت أنت ملكت الدنيا، فإنك لم تملك قلبي، ولم تملك عقلي، ولم تملك عقيدتي، فإن قلبي وعقلي وعقيدتي ملك لله رب العالمين.(45/6)
ما أعد الله في الجنة من النعيم للنساء
يبقى السؤال الذي طرحنه النساء، فإنهن يقلن: نحن عرفنا المساواة في الدين والعقل، والعمل والدعاء، والنفس الواحدة، والأصل والخلق، هذا كله ذكره ربنا في القرآن، لكن ماذا لنا في الجنة؟ فنقول: النعيم في الجنة للرجال والنساء على حد سواء، ولا يوجد أحد يقول: النعيم في الجنة للرجل فقط، ومن قال هذا سنقول له: هات ما عندك من دليل، إن كنت صادقاً؟(45/7)
هل لنساء الدنيا أزواج في الجنة
سيبقى السؤال الحساس الذي هو ختام اللقاء، إذا كان للزوج في الجنة زوجات، فما للنساء؟ وفي ظاهر هذا السؤال أن الزوجة تتمتع بأقل ما يتمتع به الرجل، لكن إذا أحللناه ونظرنا في المسألة بعمق، نجد أن المرأة أوفر حظاً من الرجل في هذا الجانب.
ونبدأ في الجواب فنقول: أولاً: التعدد للرجل في الدنيا وفي الجنة مباح، لكن أقول لكل امرأة حرة عفيفة: أتقبلين تعدد الأزواج في الدنيا؟ وأن يكون لك زوجان أو ثلاثة؟ فستقول: لا؛ لأني حرة عفيفة، ولا أقبل ذلك أبداً، فأقول لها: إذا كنت لا تقبلين ذلك في الدنيا أتنادين به في جوار الله في الجنة؟! ستقول: لكن المسألة هو يتمتع أكثر مني، أقول لها: لا، هو لا يتمتع أكثر منك فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم -يعني: من الرجال- ليعطى قوة مائة رجل في الأكل، والشرب، والجماع، والشهوة)، قد تقول إحداكن: طالما هو يعطى قوة مائة رجل، ونحن ماذا نعطى؟ أقول: لو فكرتم في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليعطى قوة مائة رجل في الجماع) لعلمتنَّ أن ذلك لصالحكنَّ.(45/8)
الفرق بين نساء الدنيا وبين الحور العين
تعالي يا أخت الإسلام: لنعرف ما الفرق بينك وبين الحور العين؛ من أجل ألا تغضبي أو تثيري أسئلة حساسة وخطيرة، الله يقول في سروة الواقعة عنكن: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]، إذاً: أنت في الجنة سينشئك الله إنشاءً آخر، فيبقى أول تكريم للمرأة المسلمة في الجنة إنشاء الله لها.
الثاني: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] يعني: أنت ستكونين بكراً بقدرة الله في الجنة، وكلما أتاك زوجك في الجنة تعودين بكراً، كما كنت مطهرة بقدرة الله.
ولعل إحداكن تقول: هل الحور العين مثلنا في هذا الأمر؟ أقول لها: نعم، كيف؟ قال تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، فوصف (عرباً أتراباً) هو الذي سيحل لنا هذا السؤال.
لنعرف أولاً: ما معنى (عرباً)، عُرُب: جمع عروب، يقال: امرأة عروب، وعربة.
يعني: متحببة متذللة لزوجها، مازحة ضاحكة مستبشرة، لها نبرة صوت خلاب، ومزاج جذاب، تقول لزوجها: والله ما في الجنة أجمل منك، ولا أبهى منك، ولا أكمل منك، الحمد لله الذي خلقني لك وخلقك لي، هذا معنى (عرباً).
أما (أتراباً): فجمع ترب، يقال: امرأة ترب، يعني: امرأة متساوية؛ متساوية مع الحور العين في الإنشاء، ومن الذي أنشأ الحور العين؟ ومن الذي سينشئ زوجة الدنيا؟ الله، إذاً: التساوي في الإنشاء.
(فجعلناهن أبكاراً) من الذي سيجعل الحور العين بكراً كلما عاد لها زوجها؟ الله، من الذي سيجعل زوجة الدنيا بكراً كلما أتاها زوجها؟ الله، إذاً: التساوي في البكارة أيضاً، بل حتى متساويات في السن، فالحور العين أعمارهن ثلاث وثلاثون سنة، وأنتِ يا امرأة الدنيا عمرك ثلاث وثلاثون سنة، وبهذا نعلم أنه لا فرق بينكن في الإنشاء، ولا فرق في البكارة، ولا في العمر وإنما أنتن عرباً أتراباً.
وأنتِ تزدادين على الحور العين بأنك سيدة عليها في الجنة، وسيدة القصر، ولماذا أنت سيدة ومفضلة على الحور العين؟ فضلكِ الله بصلاتكِ في الدنيا، وصيامكِ في الدنيا، وحجك في الدنيا، وصبرك في الدنيا، صبرت على مكايد الزوج، صبرت على فراق الأهل، صبرت على موت الولد، صبرت على موت الوالد، صبرت على فراق الأحبة، فيتوجك الله بتاج في الجنة، فيجعلك زعيمة ورئيسة على كل من تحت يدك في الجنة بقدرة الله رب العالمين.(45/9)
ما ذكر في سورة الواقعة من النعيم للجنسين
وأنصح كل أخت مسلمة أن ترجع إلى سورة الواقعة، من قوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:27 - 33]، هذا كله لمن؟ لأصحاب اليمين من الرجال والنساء: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، الفرش المرفوعة يعني: أسرة مرفوعة، طيب! أصحاب اليمين من الرجال والنساء ماذا يعملون؟ {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:28 - 34]، هذه الفرش تحتاج إلى زوج وزوجة، وإلا فما فائدتها؟! وهنا سؤال ورد من النساء أيضاً، له تعلق بالسؤال السابق وهو: هل هؤلاء الحور العين أجمل منا؟ وأحسن منا؟ وأكثر منا؟ فنقول: أنتن أحسن من الحور العين، وأنا لا أقول كلاماً من عندي، فنحن لا نرضي الأنفس بديننا أبداً، إنما نذكر ما جاء في الكتاب والسنة، فنقول للمرأة الصالحة: أنتِ أحسن من الحور العين، وأنت رئيسة وسيدة على الحور العين.
ولعل امرأة تقول: أنت قلت في الخطبة: إن الحور العين قاصرات الطرف على أزواجهن، فهل يعني هذا أن طرفنا مرفوع؟! أقول لها: لا، القرآن قال بالتساوي، وعدد مواطن قصر الطرف في القرآن أربعة، مواطنان للحور العين، ومواطنان لنساء الدنيا.
{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [الصافات:48]، في الحور العين، وفي نساء الدنيا يقول: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص:52]، وآية ثانية في الحور العين: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، وفي نساء الدنيا يقول: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]، ومن الذي ما طمثهن إنس: الحور العين أم نساء الدنيا؟ نساء الدنيا، أي: أن الله ينشئهن خلقاً آخر، لم يطمثهن في الجنة إنس ولا جان، متجهزات لأزواجهن، فيكنَّ آيات قاصرات الطرف أربع: آيتان لنساء الدنيا، وآيتان للحور العين، أتريدين أن تساوي أكثر من هذا في قصر الطرف؟(45/10)
قصة طريفة
وسأذكر قصة رجل وزوجته، وفيها جواب عن هذه المسألة، وهي قصة حقيقية.
أحدهم أمه ماتت، وله زميل طيب يعمل دكتوراً، فالدكتور ذهب ليعزي زوجة الأخ الذي أمه ماتت، فقال لها: عظم الله أجرك في أم زوجك، فقالت: يا دكتور! كلنا لها، يعني: كلنا سنموت، ثم قال لها: كنت قد كشفت على صحة زوجك، فوجدت صحته -ما شاء الله- مثل الحديد، فقالت: الحمد لله يا دكتور! كلها لنا!!! فإذى أعطى رب العالمين للرجل في الجنة قوة مائة رجل في الجماع والأكل والشهوة، فيبقى عائد ذلك على من؟ طبعاً على المرأة، وعليه فتكونين قد تساويت مع الحور العين في الخلق والإنشاء والبكارة، والسن وقصر العين، وتفضلين عليهن بأنك سيدة القصر، وتتمتعين برجلك الذي أعطي قوة مائة رجل.
مع العلم أن الجنة ليس فيها غيرة، وليس فيها حقد، وليس فيها حسد؛ لأن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
إذاً: الجنة فيها ما فيها من النعيم للنساء، وفيها ما فيها من التكريم للنساء، وسبحان من يرضي الجميع، نسأل الله أن يرضينا جميعاً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه.(45/11)
مشاهد من أمريكا
المجتمع الأمريكي مجتمع منحل متفسخ؛ تسوده الفوضى والخوف، وتعلوه الجريمة بمختلف ألوانها، بل لا تكاد تمر دقيقة أو ثانية إلا وتقع فيها جريمة، إما قتل أو سرقة أو اغتصاب أو غير ذلك، فلا يغتر أحد بهذا المجتمع الذي يصوره البعض على أنه قدوة؛ فإن هذا حاله، وما ذاك إلا لبعده عن الإسلام وتعاليمه، ومثل هذا المجتمع يحتاج إلى دعاة إلى الله، يقومون بتقديم الإسلام لينقذه من قسوة المادة والجفاف الروحي.(46/1)
واقع الأمة الإسلامية
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الإخوة الكرام! وأيتها الأخوات الفضليات! وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً.
أحبائي يا ملء الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سد وعائق لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفق وأرقني بالمظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما أرادوا إلا حقير المآزق فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق طبتم جميعاً أيها الإخوة والأخوات وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا كما جمعنا وإياكم في هذا الجمع المهيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك القادر عليه.
أحبتي في الله! لقد سألني الإخوة الفضلاء أن أعلق على رحلتي الأخيرة إلى أمريكا في العشر الأواخر من رمضان، وإني لفاعل إن شاء الله جل وعلا، فأعيروني القلوب الأسماع؛ فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، وقبل أن أشرع في التعليق بإيجاز شديد على هذه المشاهد الكريمة في هذا البلد الكافر، بل في قلعة الكفر على ظهر هذه الأرض، أود أن أقدم اليوم بمقدمة سريعة لابد منها.
أيها الأحبة! إنني أعلم علم اليقين أن الواقع المر الأليم الذي تعيش فيه أمتنا في هذه الأيام كان سبباً رئيسياً لأن تعصف رياح القنوط واليأس بكثير من قلوب شبابنا المتحمس، فبمقارنة سريعة أيها الأطهار! لحال الأمة في الواقع المعاصر، ولمكانة الأمة في القرآن الكريم، نرى أن البون شاسع، وأن الفرق كبير بين أمة زكاها الله في القرآن بقوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] , وبين واقع أمة بات كثير من أفرادها اليوم يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف، ويكفر بالله جل وعلا! حتى قال قائلهم: إن تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر ردة حضارية بكل المقاييس!! وقال آخر: إننا نحتفل الليلة بمولد السيد البدوي المهاب الذي إن دعي في البر والبحر أجاب!! وقال ثالث: إن مصر ستظل فرعونية ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً؛ لتطل مصر فرعونية!! وقال رابع: هبوني عيداً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم وقال خامس: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني(46/2)
سبب سقوط الأمة الإسلامية من القمة إلى الحضيض
فيوم أن أمرت الأمة -إلا من رحم ربك- بالمنكر، ونهت عن المعروف، وتركت لواء الإيمان بالله جل وعلا سقطت من هذه القمة، وانحطت إلى هذه المكانة من الخزي والذل والهوان والعار، ولا رفعة لها إلا إذا حققت الخيرية من جديد؛ فآمنت بالله؛ وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر.
ونرى أن الله قد زكى الأمة في القرآن بالوسطية، والوسط كما في رواية البخاري هو العدل، كما قال الحبيب.
ولكن الأمة أيها الأحباب الكرام! قد حادت عن المنهج الوسط، وراحت تدور في فلك الشرق الملحد تارة، وتدور في فلك الغرب الكافر تارة أخرى، وتركت منهج الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وذهبت تجوب في بوتقة المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى! وزكى الله الأمة في القرآن أيضاً بالوحدة، فقال جل وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
ولكننا نرى الأمة الآن قد تمزقت إلى أجزاء، بل وتفتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء، وهذا يوم أن زال ظل الخلافة عن هذه الأمة، ودق الاستعمار اللعين هذا المسمار الخبيث، ألا وهو مسمار الحدود بين البلاد الإسلامية، فراحت البلاد تتناحر وتتطاحن من حين لآخر على هذه الحدود التي وضعها المستعمر اللعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومما يزيد الأسى والألم في قلوب الشباب والأخوات أنهم -وهم ينظرون حتى إلى الأمة من منظور مادي علمي بحت- يرون الأمة في مؤخرة الركب المادي والحضاري ببعيد، بل وإذا نظروا إلى الأمة وجدوا أن أمماً كثيرة غارقة في الكفر وأوحال الشرك والضلال، لكن هذه الأمم سادت، يرون هذه الأمم قد قادت، ويرون هذه الأمم قد قدمت للبشرية اليوم تقدماً علمياً رائعاً؛ فحولت العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التقدم المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، ويرون الأمة الموحدة تأتي وراء الركب ببعيد، حتى في ظل هذه النظرة العلمية المادية البحتة.
وهنا كثير من الإخوة وكثير من الأحباب سيسأل: ما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ وما الذي غير الأمة إلى هذه الحالة المزرية؟ وما الذي بدل عزتها إلى ذل؟ وما الذي بدل علمها إلى جهل؟ وما الذي بدل قوتها إلى ضعف؟ وما الذي حدث لأمة دستورها القرآن، ونبيها محمد عليه الصلاة والسلام، وربها وإلهها هو الرحيم الرحمن جل وعلا؟ إننا نرى الأمة الآن تتسول على موائد الفكر المادي والعلمي الحضاري والإنساني من منظور المادة، ونراها تتسول على موائد هذا الفكر العلمي والإنساني وهي التي كانت بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم حر الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، والآن نرى الأمة تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسير فيه، كل هذا بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب هي الدليل الخريت في الدروب المتشابكة وفي الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء المجربون.
فما الذي جرى أيها الأحبة؟! والجواب في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا، هي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت، في جانب العقيدة غيرت، وفي جانب التشريع بدلت، وفي جانب الأخلاق انحرفت، وفي جانب السلوك المعاملات ضلت، وهذا في الجملة، إلا من رحم ربك من بين أفرادها، نسأل الله أن يجعلنا ممن رحم.
فهذه النتيجة التي تحياها أمتنا يا شباب الإسلام! وهي نتيجة عادلة؛ لأن الأمة قد تنحت عن أصل عزها ورفع شرفها.
إذاً: إن رأيت المسلمين هنا أو هنالك تكال لهم الضربات، وتسفك دماؤهم، وتمزق أشلاؤهم، وتنتهك أعراضهم، وتسلب مقدساتهم؛ فعليك أن تزداد يقيناً بكلام ربك وكلام نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، فلن ينصر الله جل وعلا إلا من نصر دينه، ولن يعز الله جل وعلا إلا من أعز شريعته، ولن يستخلف الله جل وعلا في الأرض إلا من وحده وأخلص العبادة له، وإن شئت أن تعلم ذلك فاسمع لقول ربك جل وعلا: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] , واسمع لقول ربك جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] الآية، واسمع لقول ربك جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
إذاً: أيها الأحبة الكرام! هذا الواقع الذي تعيشه الأمة إنما هو نتيجة عادلة لبعد الأمة عن منهج ربها وشريعة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أيها الأطهار! أود أن نفرق جميعاً بين الإسلام وبين المسلمين؛ فإن الإسلام دين الله، ودين الله باقٍ خالد، والمسلم الذي ذاق طعم الإيمان وذاق مع هذا الإيمان حلاوة الوعد بنصر الله، يعلم يقيناً لا شك فيه البتة أن الباطل مهما انتفخ وانتفش في فترة من الفترات فإنه غير غالب، وأن الحق مهما انزوى وضعف في فترة من الفترات فإنه غير مغلوب، فالمؤمن الصادق يعلم علم اليقين هذه الحقيقة الكونية الثابتة التي قررها الله بذاته وأكدها بنفسه جل وعلا في قوله في سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].(46/3)
أحداث من تاريخ الأمة المشرق
أيها الموحد! أعرني قلبك وسمعك، وانتبه معي! واقرأ معي التاريخ قراءة سريعة جداً، فمن كان يظن أيها الأحباب أن تقوم للإسلام قائمة يوم أن كان الحبيب المصطفى وحده في مكة يدعو لدين الله؟! فقد أوذي صلى الله عليه وسلم، وألقي التراب على رأسه، وألقيت النجاسة على ظهره، وطرد من بلده ومن بيته، وهاجر أصحابه تارة إلى الحبشة، وتارة إلى المدينة، وبعد سنوات لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق جاء الحبيب إلى مكة مع عشرة آلاف موحد لله جل وعلا؛ ليحطم الأصنام حول الكعبة، وفي مكة زادها الله تشريفاً يأمر الحبيب بلالاً رضي الله عنه أن يرتقي على ظهر الكعبة ليعلن أنشودة التوحيد العذبة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله؛ إنه وعد الله جل وعلا.
ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة يوم أن ظهرت فتنة المرتدين بوجهها الكاذب بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وظهر مدعو النبوة المهرجون الكاذبون؟! ويومها قيض الله للإسلام وللمسلمين ابن الإسلام البار الصديق رضي الله عنه، فقام الصديق فجيش الجيوش، وأخمد نار الفتنة في مهدها، وأطفأ هذه النيران المشتعلة التي كادت أن تلتهم الأخضر واليابس، وخرج الإسلام من هذه الفتنة كأعظم وأقوى ما يكون.
ومن كان يظن أن تقوم للإسلام قائمة بعد الحروب الصليبية الطويلة المدمرة، التي دنس فيها المسجد الأقصى على يد الصليبيين في المرة الأولى؟! وها هو اليوم يدنس على أيدي اليهود في المرة الثانية، وأسأل الله جل وعلا أن يقيض للأمة صلاح الدين كما قيض للأمة ولمقدساته أول مرة صلاح الدين؛ فقد قيض الله صلاح الدين بعد سنوات طويلة تزيد على قرن من الزمان، فطهر المسجد الأقصى، وحرر الأرض، وأعاد للإسلام وللمسلمين عزتهم في موقعة حطين الحاسمة، نسأل الله أن يعز الإسلام، وأن ينصر المسلمين.
ومن كان يظن أيها الشباب! أن تقوم للإسلام قائمة يوم أن جاء التتار والمغول بهجماتهم الشرسة، فسفكوا الدماء، ومزقوا الأشلاء، وامتلأت الشوارع بالقتلى؟! وقع هذا بدون مبالغة، حتى جسد الإمام ابن الأثير رحمه الله هذه الفجيعة وتلك المأساة تجسيداً بليغاً في كلمات موجزة فقال: لقد أعرضت عدة سنين عن ذكر هذه الحادثة، فأنا أقدم رجلاً وأؤخر الأخرى، فمن ذا الذي يسهل عليه أن يكتب بيديه نعي الإسلام والمسلمين؟ فيا ليت أمي لم تلدني! ويا ليتني مت قبلها وكنت نسياً منسياً! حتى قيض الله للإسلام البطل الشاب قطز، فحرر الأرض، وأعاد للإسلام مكانته، وللمسلمين عزتهم في الموقعة الحاسمة التي تسمى (بعين جالوت) ومن كان يظن أن يرغم إخواننا الأفغان أنف الدب الروسي الغبي الوقح، وهم الذين يقلون عدداً وعتاداً وعدة؟! ولكن يوم أن تخلى إخواننا الأفغان عن شروط النصر كانت الفتنة.
هذا الذي وقع ورب الكعبة لا يزيدينا إلا يقيناً في الله، ولا يزيدنا إلا تصديقاً لكلام الحبيب رسول الله، فيوم أن تجردت القلوب ورفعت الراية لتكون كلمة الله هي العليا كان النصر بحول الله جل وعلا، ويوم أن دب حب الدنيا في القلوب كانت هذه النتيجة التي نعلمها جميعاً، ولا ينبغي لنا أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام، وأن نغض الطرف عن هذا الواقع، بل إنني أود أن أقول لكل شاب: إن هذا الواقع لا يزيدك إلا يقيناً في الله، ولا يزيدك إلا تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولكن من كان يظن أن يرغم إخواننا أنف الدب الروسي الوقح على أرض أفغانستان؟! ولكن للأسف الشديد يركز العلمانيون والضعفاء على الصورة المزرية، وعلى الهزائم دائماً وأبداً، مع أنه ينبغي أن نركز ولو قليلاً من الضوء على حجم الانتصارات التي لو قورنت بحجم ضعف المسلمين، وحجم قوة أعدائهم لكانت انتصاراً لا ينبغي أبداً أن يغض العاملون الطرف عنه، ولكن للأسف الشديد لا نركز إلا على الأخطاء، ولا تركز المجاهير المكبرة إلا على الزلات والسقطات، فإن زل شاب هنا أو هنالك ألصقت التهمة كلها بالإسلام ودين الله! بل وأصبح الدين اليوم مثاراً للخلاف، مع أن الدين هو الأصل الذي ينبغي أن يرد إليه كل خلاف، مع أن الدين هو الحصن الذي ينبغي أن يتحصن به كل عالم، لا أن ينصب أحد من نفسه مدافعاً للرب عن هذا الدين؛ فإن الدين عزيز، وإن الإسلام عزيز، وإن السنة غالبة، وإن رسول الله هو رسول الله حقاً وصدقاً، لا يحتاج هذا الدين إلى من يدفع عنه، أو إلى من ينصب نفسه مدافعاً ليدفع عنه، بل إن الدين هو الحصن الذي ينبغي أن يتحصن به كل خائف، وأن يلوذ إليه كل مضطرب؛ فإن الدين هو الأمن والأمان الذي يجب أن يأتمنه وأن يتحصن به كل داعية، وكل عالم، وكل مسلم ومسلمة.
أيها الأحبة! حجم الانتصار في أفغانستان حجم كبير.
ومن كان يظن أيها الأحباب! أن يصمد المسلمون في الشيشان في هذه البوتقة الصغيرة التي تقل عدداً وعدة وعتاداً وقوة عن هذا الجيش الروسي الجرار؟! ومن كان يظن أن تدوم الحرب إلى يومنا هذا؟! سمعت لقاءً على تلفاز أمريكا مذيع في الـ ( CNN) يجري حواراً مع جوهار دوداييف رئيس دولة الشيشان ثبته الله وإخوانه، ويقول له: يوم أن قتل ولدك في أرض المعركة هل حزنت على قتله؟ أتدرون ماذا قال هذا الرجل؟ والله لقد قال كلاماً لا نسمعه إلا من العلماء المجاهدين كأمثال عبد الله بن المبارك وكأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، قال هذا الرجل: لا وقت للأحزان حتى نحرر الشيشان من الروس، وأن نرفع عليها من جديد راية الإسلام! هل كان أحد يصدق أو يظن أو يتوقع أن يسمع هذا الكلام في أرض دنست طيلة سبعين عاماً بالحكم الإلحادي الكافر المشرك على يدي الدب الروسي الغبي الوقح؟! لا ورب الكعبة! فلقد كان أحدهم إذا أراد أن يقرأ صفحة من كتاب الله اختفى عن العيون والأنظار ودخل تحت السراديب ليطالع صفحة من كتاب الله.
ومن كان يظن أن تستمر الحرب في البوسنة إلى يومنا هذا؟! لقد أجمع المحللون والعسكريون ووكالات الأنباء والصحفيون على أن الحرب لن تستمر في الشيشان إلا أياماً معدودة، وأجمعوا على أن الحرب لن تستمر في البوسنة مع الصربيين الكفرة إلا أسابيع معدودة.
وها نحن نرى -ولله الحمد- أن الحرب في البوسنة تحولت إلى ملحمة إسلامية رائعة، فلقد كنا نعلم أن المرأة البوسنية كانت تتزوج بالأمس القريب بالنصراني بدون أي قيود أو ضوابط أو شروط، ووالله ما عاد البوسنيون إلى إسلامهم إلا بعد هذه الحرب، فقد ردتهم هذه الحرب لهويتهم، وارتفعت من جديد كلمة الإسلام، وعلا صوت النبي عليه الصلاة السلام.
وأقسم يقيناً لو علم الصرب أن هذه الحرب سترد البوسنيين إلى دينهم ما أعلنوها على البوسنيين يوماً واحداً بعد أن ذابوا في بوتقة هذا الغرب الكافر، ولكنه أمر الله يا عباد الله! إنها الساعات التي تسبق -إن شاء الله تعالى- ضوء الفجر؛ فإن أشد ساعات الليل سوادً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم ورب الكعبة! وأقول لكم: إننا لا نخشى على الإسلام، بل نخشى على المسلمين إن تخلوا عن الإسلام، فإن تخلى المسلمون عن الإسلام ذلوا، ووضعت النعال على رءوسهم، وانتهكت مقدساتهم، وسفكت دماؤهم، وانتهكت أعراض نسائهم، وهذا واقع لا ينبغي أن ننكره، فوالله ما نرى هذا الذي نراه الآن إلا لأن الأمة قد تخلت عن الإسلام، وهذه حقيقة ينبغي أن تستقر في القلوب والعقول.
ولكن أقول: إن الإسلام دين الفطرة، ودين الكون كله، كما قال تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران:83] , ولو كفرت الإنس والجن، فالإسلام دين الله ودين الله قاهر.(46/4)
من المبشرات بالخير الصحوة الموجودة اليوم
وأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! فإني أود في ظل هذه الرياح القاسية من رياح القنوط والشكوك التي تهب على قلوب كثير من أحبابنا وإخواننا أن أبشر، وأن أطمئن، لا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح، لا ورب الكعبة، بل هذا هو ما نراه بأعيننا.
انظروا إلى هذا المشهد الذي يرغم أنوف المجرمين، ويرغم أنوف الحاقدين، إنه وعد الله، ألله أكبر! شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، تأتي الفتاة من هنا ومن هناك وقد غطت جسدها كله، ويأتي الشاب وقد زين وجهه بلحية كريمة مباركة اقتداءً بحبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمل روحه على كفه، وهو يعلم علم اليقين ما سوف يتعرض له من الأذى، وما سوف يتعرض له من البلاء، ولكنه الدين الذي استقر في القلوب يا عباد الله! إنه وعد الله ورب الكعبة! كما قال الشاعر: صبح تنفس بالضياء وأشرق والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباًوتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأغذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صفوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف ديننا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب لما أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أو كان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمه في وجه من حول البوسنة رماداً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تمزقا يا جيل صحوتنا لك في كتاب الله فجر صادقا فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا دين صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا(46/5)
صور من أجل الإسلام والمسلمين في أمريكا
إنه وعد الله يا إخواني! ويا أحبابي! وأبشركم إن في أمريكا في العشر الأواخر من رمضان كان يصلي معي في (بروكلين) في نيويورك في مكان واحد من هذه الولاية الكبيرة مايزيد على خمسة آلاف موحد لله جل وعلا، يصلون التراويح والقيام في مسجد واحد، والله لقد أعلن الإخوة عن الصلاة في مسجد مصعب بن عمير، ويوم أن حان وقت العصر قال الإخوة: سيضيق المكان بالمصلين، فراحوا إلى قاعة أخرى كبيرة مستأجرة، ونقلوا صلاة التراويح فيها، ورأينا الجموع الموحدة التي جاءت وقد ملت المعصية، جاءت تصرخ وتنادي وتبحث عن غذاء الروح، وقف هؤلاء جميعاً، وفي ليلة القدر رأيت العدد قد زاد عن ذلك بكثير.
وفي أمريكا أيها الأحبة! لا أكون مبالغاً إن قلت: ما من يوم يمر الآن إلا ويدخل الإسلام رجل جديد، وقد أنطقت بعضهم الشهادة بلساني في العشر الأواخر، وهؤلاء يا إخواني -ورب الكعبة- إنهم يريدون شيئاً يسعد أرواحهم، برغم ما وصلوا إليه في جانب المادة! وفي جانب العلم! وهذا شيء لا ننكره.
لكنهم والله تنظر إليهم فترى أحدهم يجري كالمطارد، ويضحك كالمجنون، ويئن من الألم، يريد شيئاً يسعد روحه يريد شيئاً يسعد نفسيته يريد شيئاً يسعد وجدانه! الفطرة الطيبة تصرخ في أعماقهم، ولكن أين الدعاة؟! صلينا المغرب والعشاء في إحدى المطارات وفي مدينة يانابلس قال أحدنا: كنا نصلي لله جل وعلا؟ فقال أحدهم: تصلون لمن؟ قلنا: لله.
قال: ومن الله؟ ومن أنتم؟ ومن أي البلاد جئتم؟ فقلنا: نحن مسلمون نحن موحدون نحن محمديون.
فقال: لا نعرفكم.
والله يا إخوان إن منهم من لا يعرفون عن الإسلام إلا قليلاً، وإذا عرفوا شيئاً عن الإسلام لا يعرفون إلا الصورة المظلمة، ولا يعرفون عن الإسلام إلا القتل، ولا يعرفون عن الإسلام إلا السفك، ولا يعرفون عن الإسلام إلا الإرهاب، وجزى الله العلمانيين الذين يدندنون في الليل والنهار ليشوهوا صورة الإسلام وصورة الملتزمين الطاهرين والطاهرات شراً، فوالله لو عرفوا الإسلام على حقيقته لوحدوا الله جل وعلا، ولدخلوا في دين الله أفواجاً.
اقترب أحدهم منا وقال: ماذا كنتم تفعلون؟ قلنا: كنا نصلي.
فقال: لمن؟ قلنا: لله.
قال: ومن الله؟ فأجابه أحد الإخوة.
فقال: من أنتم؟ قلنا: مسلمون.
قال: ومن أي البلاد؟ فلنا: من هنا، ومن هنالك.
ولكن لفت نظره سجودنا، فقال: وماذا كنتم تصنعون حينما وضعتم الوجوه على التراب وعلى الأرض؟ فقال هذا الأخ: كنا نصلي لله، وهذا ركن من أركان صلاتنا يسمى السجود، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بين يديه جل وعلا، أتدرون ماذا قال يا إخواني؟! والله لقد نظر هذا الرجل وقال: إنه في بعض الأوقات تعصف بي حالات نفسيه وقلق، وأحس باضطراب شديد وألم فضيع، ولا أحس براحة لهذه الحالة إلا إذا قمت ووضعت وجهي على الأرض كما رأيتكم تفعلون! إنها فطرة التوحيد ورب الكعبة! قال عز وجل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
وبعض الإخوة أخبروني عن شاب صغير، دخل عليهم بعد صلاة الفجر، وهو لا يجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وأشار إليهم وأول كلمة قالها: أريد أن أكون محمدياً، أريد أن أكون مسلماً، فقالوا: من أنت؟ فقال: لا تسألوني، وبعد يوم ويوم وفي اليوم التالي اقترب منه واحد من إخواننا من مصر وقال: يا أخي! ما حكايتك؟ وما قصتك؟ فقال: أنا شاب نصراني من أصل أسباني، نشأت منذ نعومة أظفاري وأنا أحب المسيح عليه السلام، وقلبي متعلق به، ولكنني نظرت إلى أحوال النصارى في أمريكا فوجدتهم أبعد ما يكون من تعاليم المسيح عليه السلام، ففتشت عن الدين الحق فوجدت هذه التعاليم في دين الإسلام، وفي الليلة التي دخلت عليكم فيها جاءني المسيح في الرؤيا وأشار إلي بسبابته وقال لي: كن محمدياً.
فخرجت من بيتي أبحث عن مسجد حتى دلني الله عز وجل عليكم، فدخل عليهم أيها الأحبة ودلوه على الإسلام، فأسلم لله جل وعلا، وأذن المؤذن لصلاة العشاء، وقام هذا الأخ الحبيب ليدخل مع إخوانه ليركع ويسجد لله رب العالمين، فانتهى الإخوة من صلاتهم ولازال أخونا ساجداً لله، وبعد أن انتهى الإخوة من الصلاة اقترب منه أحدهم فحركه فوجده قد قبض وفاضت روحه إلى الله جل وعلا!! والله ما من يوم يمر إلا ويدخل الإسلام في أمريكا مسلم جديد، أو مسلمة جديدة، وقد التقيت بمسلمة أمريكية فقلت لها: ما شعورك؟ فقالت: والله يا أخي إني أريد الآن أن أصرخ بأعلى صوتي لتستمع إلي كل امرأة في أمريكا: إنني قد وجدت ديناً يحفظ للمرأة كرامتها!! فاسمعوا أيها العلمانيون الكاذبون! يا من تدعون كل يوم إلى الحرية على مصراعيها! يا من تزعمون أن المرأة في الإسلام أمة! اسمعوا لمرأة دخلت الإسلام وذاقت طعم الإيمان، تقول: والله إني أود أن تستمع إلي كل امرأة بأنني وجدت ديناً يحفظ للمرأة كرامتها! إنه دين الله؛ فإن المرأة عندنا أيها العلمانيون لؤلؤة مصونة، وجوهرة ثمينة، وهل لرجل عاقل أن يلقي جوهرة ثمينة للأعين لتعبث بها؟ وللأيدي لتسرقها؟ لا والله! بل إننا ما حافظنا عليها إلا لأنها لؤلؤتنا المكنونة، ودرتنا المصونة، وأمنا، وأختنا، وبنتنا، وخالتنا، وعمتنا، فإذا لم نحافظ عليها وهي كذلك فعلى من نحافظ؟ وأبشركم أيها الأحبة الكرام! بأنه في شهر يناير في عام (94م) احتفلت وزارة الدفاع الأمريكية في البنتاجون احتفالاً رسمياً حضره عدد كبير من وفود العالم الإسلامي، وعدد كبير من وكالات الأنباء والصحفيين، أتدرون لماذا أقيم هذا الاحتفال؟ أقيم هذا الاحتفال لاختيار وتنصيب أول مسلم ليؤم المسلمين في الصلاة في الجيش الأمريكي، هذا الأخ برتبة نقيب يسمى عبد الرشيد محمد، وهو في قمة الفهم، وفي قمة الوعي، قال كلمة ما سمعتها من عالم، قال: إن الغرب يتهمنا بأننا أصوليون؟ قلت: نعم.
قال: يا أخي! مشكلتنا أننا لسنا بأصوليين، ليتنا كنا من الأصوليين، وليتنا عدنا إلى أصولنا، وليتنا أخذنا بأصول ديننا، لكنهم يتهموننا بذلك ولسنا والله كذلك، بل إنني أسأل الله أن يكون المسلمون من الأصوليين، وممن يعودون إلى أصلهم وإلى نبع شرفهم ونعيم كرامتهم ووجودهم.(46/6)
عدد المساجد في أمريكا، وحال المجتمعات العربية والإسلامية فيها
زاد عدد المساجد في أمريكا إلى ما يقرب من ألف وخمسمائة مسجد في حي واحد يسكن فيه أكثر من سبعين ألف مسلم، مشيت في هذا الحي وأحسست أنني في شبرا؛ فالمطاعم يكتب عليها باللغة العربية، وتشم رائحة الفلافل، وتشم رائحة أطعمتنا، وأنا أود من كل أخ يسافر إلى مثل هذه البلاد أن يتمسك بمظهره، وأن يعلن هويته، فإن اليهود هنالك يتعصبون لزيهم وهويتهم، فإذا مشيت بزيك هذا هنا أو هنالك يمر عليك كل أحد ويلقي عليك: السلام عليكم السلام عليكم، فيلقي عليك السلام لزيك ولمظهرك ولهويتك التي يجب عليك أن تعلنها وأنت في غاية العزة والرفعة والكرامة.
أيها الأحبة الكرام! في أمريكا في هذا الحي وحده يقطن ما يزيد على سبعين ألف مسلم، بل لقد قدر لنا لقاء مع رئيس مكافحة الجرائم الأمريكية فقال قولة عجيبة جداً، وقف الرجل يتكلم فقال: إنني أتمنى أن تتحول كل أحياء أمريكا إلى مثل هذا الحي المسلم! فتعجبنا، وضجت القاعة ساعتها بالتكبير، لماذا؟ قال: لأن هذا الحي هو الحي الوحيد في أمريكا الذي تصل فيه نسبة الجريمة إلى الصفر، فلا سرقة، ولا خمر، ولا اغتصاب.(46/7)
واقع المجتمع الأمريكي
وقد قرأت إحصائية في الأيام الأخيرة في رمضان تشير إلى أنه في كل ست دقائق تغتصب امرأة في أمريكا، فقلت: سبحان الله! الزنا مباح، ولكن هذا شيء جديد، وسألت طبيباً سورياً عن سبب ذلك، فأجابني إجابة دقيقة فقال: يا أخي! لم تعد المرأة تكفي الرجل؛ لأنه نشأ منذ نعومة أظفاره فوجد المرأة أمام عينيه وبين يديه يأخذ منها في كل وقت كل ما شاء وكل ما يريد، فذهب الرجل يبحث عن شيء ليأخذه عنوة ليحس برجوليته وشخصيته، فترك هذا وذهب إلى هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وزاد عدد الشواذ في تلك البلاد على عشرين مليوناً، ونسأل الله أن يزيدوا، بل وزاد عددهم في الجيش الأمريكي الآن إلى ستة مليون شاذ، وهذه كلها -إن شاء الله جل وعلا- مبشرات، وليس معنى ذلك أنني أقول إن أمريكا ستسقط غداً؛ لأن هذا كلام يخالف الواقع، بل ويخالف السنن الكونية الربانية الثابتة.(46/8)
ضرورة النموذج العملي في الدعوة إلى الإسلام
أيها المسلمون! أعلنها بأعلى صوتي: لن نعيد الإسلام للبشرية بالخطب الرنانة، ولن نعيد الإسلام للدنيا بالمواعظ المؤثرة، لا ورب الكعبة! وإنما نعيد الإسلام للبشرية كلها بأن نقدم نموذجاً عملياً لهؤلاء، ونقول لهم: هذا هو الإسلام، وهذا هو دين محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد ذكرت في خطبة لي عن أمريكا أننا التقينا بأخت أمريكية تسمى كليرا محمد تلكم الأخت التي أنشأت وحدها خمسين مدرسة إسلامية في أمريكا، وفي فرجينيا أنشأت جامعة لتخرج فيها المعلمين الذين يدرسون في مثل هذه المدارس والكليات.
أيها الأحبة الكرام! تلك بشائر مؤتمرات هنا وهنالك، ووفود وأعداد كبيرة، ونرى الناس يقبلون على دين الله عز وجل؛ فإن هذا الشعب يصرخ يريد غذاءً للفطرة، ويريد دواءً للروح، والروح الآن تصرخ: أعطوا البدن كل ما يشتهيه، وأعطوا البدن كل ما يريد، فصرخت الروح أريد غذائي أريد دوائي، أريد علاجي؛ لأن الروح يا إخواني! لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع لبوتقة في معمل تجارب، وإنما هذه الروح لا يعلم حقيقتها إلا الله وغذاؤها ودواؤها في منهج الله، قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال، وأن يكتب لنا الخطوات في موازين أعمالنا وصحائف حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(46/9)
واجبنا ودورنا نحو الإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد بارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: ما واجبنا؟ وما دورنا؟ وأنا لا أملّ من تكرار هذا أبداً، فيجب علينا أن نعلم يقيناً أننا لن نعيد الإسلام بالخطب والمواعظ فحسب، وإنما نريد أن نرى النموذج الإسلامي الفريد.
يقول أحدهم: لقد دخلت في الإسلام، وأردت أن أرى الإسلام بين أهله وأصحابه من المسلمين، فأتيت لحج بيت الله الحرام، ورأيت الصورة مقلوبة تماماً، يقول: فحمدت الله عز وجل الذي عرفني بالإسلام قبل أن يعرفني بالمسلمين!! الواقع أليم أيها الأحبة! لا ينبغي أن ننكره، فإن تشخيص الداء هي الخطوة الأولى لتحديد الدواء، ولا يمكن لطبيب أن يصرف لك دواءً إلا إذا شخص داءك، فتشخيص الداء خطوة أولى على الطريق الصحيح لتحديد الدواء، فإن واقع الأمة لا ينكر، فيجب علينا أيها الأحبة! أن يسأل كل واحد منا نفسه: مالذي قدمه لدين الله؟ وما الذي قدمه لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلنا مسئول عن هذا الدين، وهؤلاء من الذي سيقيم عليهم الحجة؟ بل إن شئت فقل: من الذي سيقيم الحجة على المسلمين الغثاء أولاً؛ ليحول المسلمون الإسلام في حياتهم إلى منهج حياة، ثم لينطلق المسلمون بهذه الأمانة العظيمة، وبهذا العبء الثقيل بحمل الدعوة إلى الله ليقيموا حجة الله على هذه الأمم والشعوب؟ ورب الكعبة! إننا مسئولون بين يدي الله، فإن وقف هؤلاء يوم القيامة وقالوا: ما سمعنا عن الإسلام، فماذا سيكون جوابنا أيها المسلمون؟ فلابد أن نقيم الحجة على خلق الله، إننا أمة مأمورة بحفظ الأمانة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، والحديث في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود.
فلابد أن نحمل هذه الأمانه، فوالله لا فكاك لنا من عذاب الله إلا إن حملنا هذه الأمانة العظيمة، -أمانة الدعوة- وتحركنا بها بين المسلمين ابتداءً؛ ليحول المسلمون الإسلام في حياتهم إلى واقع يسمع ويرى، ثم ليتحرك المسلمون بعد ذلك إلى هذه الأمم الكافرة؛ ليقيموا حجة الله عز وجل عليهم، قال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15].(46/10)
مسئولية جميع المسلمين عن الدعوة إلى الله عز وجل
أيها الأزهر! أيتها الأوقاف! أيها المسئولون! يا من عشتم للعروش والفروش والكروش! ستسألون عن هؤلاء بين يدي الله جل وعلا، أيها الدعاة أيها المسلمون جميعاً تحركوا، فإن عجزت أيها الأخ عن أن تتحرك لدين الله بلسانك وبدعوتك، فخصص جزءاً من مالك لدين الله، ولدعوة الله، ولحضور محاضرة إيمانية لداعية إلى الله جل وعلا ليتفرغ للدعوة إلى دين الله عز وجل، خصص راتباً لمحفظ للقرآن الكريم خصص راتباً لمرأة مسلمة تجيد التلاوة لتحفظ الأخوات، ولتعلم البنات العقيدة والقرآن، فإن لم يكن بلسانك فبمالك وبسلوكك وبأخلاقك.
نريد أن نشهد الإسلام الآن شهادة سلوكية، وأنا أكرر هذا الكلام عن عمد، نريد أن نشهد الإسلام شهادة سلوكية واقعية عملية.
نريد لك أيها الحبيب ألا تنظر إلى جهد الأمة كلها إلا من خلال نظرك إلى جهدك، فالكل ينظر إلى عيب غيره وينسى عيب نفسه، مع أن الله قد حذرنا من ذلك فقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، ففتش في نفسك، وفتش في عيبك أيها الحبيب! وهيا من الآن تحرك لدين الله، واستغل منصبك استغل كرسيك، واعلم أن كرسيك زائل، فالله الله أن يحول الكرسي بينك وبين الله، والله الله أن يحول الكرسي بينك وبين الجنة، واعلم بأن الكراسي لو دامت لغيرنا ما وصلت إلينا.
فيا أيها الحبيب! فكر في منصبك وعلى كرسيك الذي جلست عليه كيف تبدع لهذا الدين؟ وكيف تقدم وقتك وهمك وفكرك وزجتك وولدك لهذا الدين، لتلقى النبي صلى الله عليه وسلم وقد امتثلت أمره، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله علسه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
أيها الموحدون! نريد أن نعد من الآن الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تكون قادرة على تدبير شئون الحياة كلها من منظور الإسلام، ومن منطلق قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، فافهموا الإسلام فهماً دقيقاً بشموله وكماله، وحولوه في حياتكم إبتداءً إلى واقع، وتحرك بعد ذلك للغرب، وإياك أن تحتقر دورك، فلا تحقرن وظيفتك، واغرس ولا تقل: لمن أغرس؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل؟ روى أحمد في المسند والبخاري من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) فلا تقل: القيامة ستقوم، ومتى أغرس؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل؟ هذا ليس لك، فما عليك أيها الحبيب! إلا أن تغرس، وما عليك إلا أن تتحرك لدين الله، ونريد كل مسلم أن يقول لربه جل وعلا: يارب! لقد أعذرت إليك وبذلت كل ما في وسعي لدينك، فالله ما أمرك بأكثر من هذا، قال جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
وأخيراً أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين.
اللهم أنت غياثنا فبك نغوث، وأنت ملاذنا فبك نلوذ، وأنت عياذنا فبك نعوذ، يا ذا المن! ولا يمن عليه، ويا من يجير! ولا يجار عليه، يا ذا المن! ولا يمن عليه، ويا من يجير! ولا يجار عليه، يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من عليه يتوكل المتوكلون! يا من إليه تبسط الأيدي ويرجوه المذنبون! يا من إليه تبسط الأيدي ويرجوه المذنبون! اللهم لا تعاملنا بذنوبنا، اللهم لا تعاملنا بذنوبنا، اللهم إنا نعترف لك بعجزنا، ونقر لك بضعفنا، ونقر لك بجرمنا، فاللهم لا تتخل عنا بذنوبنا، اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا، اللهم لا تتخل عنا بذنوبنا.
اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وآمن روعاتنا، وفرج كربنا، واكشف همنا، وأزل غمنا، اللهم تقبل دعاءنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع.
اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان، اللهم اربط على قلوب المجاهدين في كل مكان، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم إنا نشكو إليك مكر المنافقين، اللهم إنا نشكو إليك كيد العلمانيين، اللهم رد كيدهم في نحورهم يا رب العالمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، وأقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين.
اللهم فك أسر المأسورين، وسجن المسجونين، واربط على قلوبنا وإياهم يا رب العالمين! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، واجعلها سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي في الله: صلوا وسلموا على حبيبنا رسول الله؛ فلقد أمرنا الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] , اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان؛ والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة، ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والحمد لله رب العالمين.(46/11)
الإرهاب الغربي
إن الصور المخزية والمجازر الوحشية التي ترتكب ضد المسلمين اليوم لتدمع لها العيون، وتتفطر لها الأكباد، وتنهد لها الجبال! والأدهى والأمر أن يبرر الإرهاب الغربي كل ما ارتكبه من مجازر، ويلقي ثوب الفضيحة والرذيلة على المسلمين، ويلبسهم لباس التطرف والإرهاب والبربرية، ولو قرءوا التاريخ ونظروا في حياة المسلمين لوجدوا أن دين الإسلام هو دين السماحة والأمن والأمان، وأن الإسلام بريء من كل ما رموه واتهموه به.(47/1)
صور مخزية من إرهاب الغرب
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: الإرهاب الغربي، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتنا حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: صور مخزية من إرهاب الغرب.
ثانياً: صور مشرقة للتسامح الإسلامي.
ثالثاً: لا تيئسوا من روح الله.
رابعاً: طريق النجاة.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية بمكان، فإنني أدين لله جل وعلا بأن هذا ينبغي أن يكون أهم الموضوعات، فإن العلماء والدعاة موضوعاتهم اليوم في واد، وأمتهم بجراحها وآلامها في واد آخر، والله أسأل أن يجعلنا من الصادقين في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: صور مخزية من إرهاب الغرب.(47/2)
تشويه الإعلام الغربي لصورة الإسلام وإلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين
أحبتي الكرام: إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول كما قال ربنا جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولا شك أن الدولة الآن للغرب الذي كسب الجولة الأخيرة وهزم الأمة المسلمة عسكرياً واقتصادياً وأمنياً ونفسياً، وذلك بعد أن تخلت الأمة عن أسباب النصر، بانحرافها عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، مصداقاً لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وذهب الغرب المنتصر -أيها الأحبة الكرام- يسوم الأمة المهزومة سوء العذاب، ويمارس عليها كل أشكال الإرهاب الفكري والنفسي والعلمي والعسكري.
ففي الوقت الذي يمارس فيه الإعلام الغربي عامة والأمريكي خاصة لوناً قذراً من ألوان الإرهاب الفكري، بوسم الإسلام والمسلمين بالإرهاب والتطرف والوحشية، والبربرية والجمود والرجعية، والتخلف والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة الجاهزة التي لم تعد تنطلي إلى على السفلة والرعاع؛ أقول: في الوقت الذي يمارس فيه الإعلام الغربي هذا اللون القذر من ألوان الإرهاب الفكري، شاء الله جل وعلا أن تسقط ورقة السوء، وأن تتمزق خيوط العنكبوت التي طالما وارى بها النظام الغربي والأمريكي عوراته الغليظة، سقطت ورقة التوت، وتمزقت خيوط العنكبوت يوم أن قرر داعر البيت الأبيض بل كلنتون -الذي شاء الله أن يفضحه على رءوس الأشهاد ليغطي على أنباء فضيحته في أنحاء الدنيا- ضرب السودان وأفغانستان، لماذا؟ بحجة محاربة الإرهاب، إنا لله وإنا إليه راجعون، والذي فعلته زعيمة العالم في الإرهاب أمريكا ليس من الإرهاب في شيء، فـ: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر ويقطع الإرسال الإعلامي العالمي ليخرج علينا إرهابي البيت الأبيض، ليزف إلى العالم الغربي والعربي والإسلامي المهزوم نبأ الغارات الجوية على السودان وأفغانستان، بنفس الطريقة التي خرج بها على العالم من قبله سلفه جورج بوش ليزف للعالم نبأ فتح العراق، وبنفس الطريقة التي خرج بها سلفهما ريجن ليزف للعالم نبأ الغارات الجوية على ليبيا.
مسلسل متكرر، مسلسل متصل والضحايا من الموحدين لله جل وعلا، من المسلمين الذين أصبحت دماؤهم أرخص دماء على وجه الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله! يضرب السودان ذلكم البلد الإسلامي الوديع الآمن، وجريمته أنه قال لشرع الله: على العين والرأس سمعنا وأطعنا، جريمة السودان أنه أعلن تطبيق شرع الله، جريمة السودان أنه رفض الهيمنة الأمريكية، ورفض أن يذوب في السياسة الغربية الأمريكية وقال لشرع الله: سمعاً وطاعة، وقال للنظام الشرقي الملحد وللقانون الغربي الكافر: لا لا، وردد مع المؤمنين الأولين: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
يفرض الحصار الاقتصادي على السودان، بل وحاول الغرب وعلى رأسه أمريكا أن يدخل مصر والسودان في صراع دموي قاتل لصالح العالم الغربي والأمريكي، ولكن الله سلم، وتعاملت مصر -وأسأل الله أن يحفظها بحفظه- مع الكيد الغربي الشيطاني بغاية الحكمة والذكاء.
ويضرب أفغانستان ذلكم البلد الإسلامي الشامخ الذي مرغ أنف الدب الروسي الغبي في التراب والطين، يوم أن رفع أبناؤه راية الجهاد في سبيل الله، فلما تخلوا عن راية الجهاد في سبيل الله وقع ما نعلمه فيما بينهم، وهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير، ليعلم الجميع أن الله لن ينصر إلا من نصر دينه، فإن نصبت نفسك وحرصت على كرسي زائل ومنصب فانٍ وكل الله الجميع إلى بعضهم البعض، فلولا أن أهل أفغانستان رفعوا راية الجهاد في سبيل الله جل وعلا لما وضعوا أنف الدب الروسي الغبي الوقح في الوحل والطين والتراب.(47/3)
من هو الإرهابي الحقيقي
تضرب السودان وأفغانستان بحجة محاربة الإرهاب، وما جعلته زعيمة الإرهاب من ذبح للسودان وأفغانستان بالصواريخ والطائرات ليس من الإرهاب في شيء ما دام هذا السفك بأيد أمريكية، وما دام الحصار يفرض على العراق وعلى ليبيا وعلى الصومال بأيد أمريكية، فما دام القول والفعل من نصف العالم الآن الذي يخون بيده الخبيثة الطويلة الآثمة كل مسلم هنا وهنالك على مرأى ومسمع من العالم الغربي، وعلى مرأى ومسمع من العالم الإسلامي المهزوم، ما دام هذا الصنيع على يد الأمريكان فلا يعد من الإرهاب في شيء، ولا ينبغي لرجل عاقل أن يصف هذا القول والفعل بالإرهاب والتطرف.
أما إن تكلم مسلم كلمة يذب بها عن دين الله، ويبين بها الإرهاب الغربي فهو الذي يوصف بالإرهاب، كما يسم الإرهاب الغربي المسلمين في كل مكان بالتطرف والأصولية والإرهاب والوحشية، والبربرية والجمود، والرجعية والتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة، يقتل عشرات الآلاف من الأفغان، وفي كل عام يقتل ما يزيد على خمسين ألف طفل من العراق، لماذا؟ لأن النظام الغربي وعلى رأسه أمريكا يفرض حصاراً اقتصادياً على العراق وعلى ليبيا وعلى السودان وعلى الصومال! لماذا لا يقال بأن هذا هو الإرهاب الحقيقي؟ لماذا لا يقال بأن هذا هو التطرف الحقيقي؟ أين مجلس الأمن الذي يتبجح كل يوم بوجود تطبيق القرارات على العراق، مع أنه هو الذي أصدر ما يزيد على خمسين قراراً في حق إسرائيل، ومع ذلك لم يطالب مجلس الأمن مطالبة عملية واقعية أن تطبق إسرائيل قراراً واحداً من هذه القرارات؟! وسنرى أن الإرهاب اليهودي الآن قد استطال في أرض فلسطين وفي جنوب لبنان وفي هضبة الجولان، فأين أمريكا من هذا الإرهاب اليهودي؟ أين مجلس الأمن؟ وأين أمريكا التي تقول: إننا سنحارب الإرهاب في كل مكان؟! لماذا لا تكف إرهابها عن العالم العربي والإسلامي؟ وأين مجلس الأمن؟ وأين المنظمة العالمية لحقوق الإنسان؟ أين النظام العالمي؟ أما له أثر، ألم تنعق به الأبواق! أين السلام العالمي؟ لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الأمن المخيف إلى متى؟! يا مجلس الأمن المخيف الذي في ظله قد ضيع الميثاق يا مجلس الأمن المخيف أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق يا مسلمون: أنادي كل علمانيي العرب في الأمة كلها أن يقفوا الآن على حقيقة الإرهاب، وأن يقفوا على حقيقة التطرف، وأن يعلموا من هم الإرهابيون الحقيقيون، وأن يعرفوا لله حقيقة الغرب، هذا هو الغرب الذي لا يكيل بمكيالين كما يريد العلمانيون أن يقنعوا أمثالنا، فالغرب لا يكيل إلا بمكيال واحد، إنه مكيال العداء للإسلام، ولمحمد عليه الصلاة والسلام، هذه حقيقة يجب أن تستقر في قلوبنا، وفي قلوب أبنائنا وبناتنا ونسائنا، الغرب لا يكيل إلا بمكيال واحد، إنه مكيال العداء للإسلام قالوا لنا ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا ير عى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الكفر في تخطيطه ولكن ألوم المسلم المسجونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنطفئ إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وإلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في زي عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً -لمجلس الأمن- لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إني أراك على شفير نهاية ستصير تحت ركامها مدفونا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا(47/4)
إرهاب تباشره أمريكا
أين المنظمات العالمية من الإرهاب الأمريكي ومن الإرهاب الغربي الذي يمارس بكل وحشية وعنجهية واستعلاء، في الوقت الذي يفرض فيه الإعلام الغربي غطاءً من خيوط العنكبوت على أن المسلمين هم أهل الإرهاب وهم أصل التطرف، وهم زعماء التطرف والإرهاب في العالم؟! يا مسلمون! أدركوا من الذي أباد هيروشيما ونجازاكي بالقنابل النووية.
هل هم المسلمون أم أمريكا؟! من الذي أباد شعب الهنود الحمر: المسلمون أم أمريكا؟! من الذي فرض الحصار الاقتصادي وقتل عشرات الآلاف من أنصار المسلمين في العراق وليبيا: المسلمون أم أمريكا؟! من الذي ضرب السودان وضرب مصنع الدواء الذي يخرج هذا الدواء للفقراء والجياع: المسلمون أم أمريكا؟! من الذي حاصر السودان من أجل السيطرة على منابع النيل لتصل مياه النيل إلى إسرائيل: المسلمون أم أمريكا؟ فلنفق، يجب أن يفيق كل مسلم، ولتعلم أمريكا أن المسلمين أصبحوا الآن يعلمون كل شيء، ويعرفون كل شيء، لقد انتقل جل المسلمين من مرحلة أزمة الوعي إلى مرحلة وعي الأزمة.
أيها المسلمون! لا بد أن نتساءل إذا كانت أمريكا تعلن حرب الإرهاب في أنحاء العالم فلماذا لم تحارب أمريكا إرهاب اليهود في في الأرض المقدسة؟! لماذا لم تحارب أمريكا رائدة العالم الغربي الإرهاب اليهودي في فلسطين وفي لبنان وفي الجولان؟ إن نتنياهو يضرب بكل الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية عرض الحائط، حتى المبادرة الأمريكية الأخيرة للسلام رفضها، ولم يحترم قانوناً ولا ميثاقاً، ولا نظاماً عالمياً ولا دولياً، وراح ليؤكد بناء المستوطنات اليهودية في الجولان، وفي الخليج، وفي القدس، يريد أن يغير هوية المدينة المقدسة بأي سبيل، ويعربد في المنطقة كلها كيف شاء، أين رائدة الحضارة الغربية من الإرهاب والتطرف اليهودي؟ وأين هي من عربدة نتنياهو؟ ولله در القائل: عربد كما شئت يا هذا النتنياهو ما عاد في البيت مرب فتخشاه ما ضر لو تحتسي في الصبح قهوتنا على الأريكة في كبر عهدناه ما ضر لو تسرق الأنفاس من رئتي وتستبي حلماً في الليل أحياه ما ضر لو توأد الأشعار إن صرخت وتكنس البحر لو يفضي بمثواه لا تخش من سيفنا فالسيف قد صدئت أنصاله فانزوى والغمد واراه ما عاد كالأمس مزهواً بصنعته فآثر الخلد والتذكار سلواه أما الجواد الذي قد كنت تحسبه متن السباق إذا المضمار ناداه فقد تخلى عن الميدان منهزماً فعاد منسحباً والعجز أعياه وأمتي لا تخف منها فقد هرمت والشيب في رأسها قد خط مجراه حليبها لم يعد يروي لنا ظمئاً فضرعها جف مذ ماتت خلاياه عربد كما شئت يا هذا النتنياهو فأمتي تعشق الشجب وتهواه إن عم خطب بها فالكل ألسنة للشجب يا صاحبي والكل أفواه يا أمة عجزها قد صار قائدها وضعفها لم يعد في الدرب إلا هو يا أمة في خليط العمر نائمة تلوك ماض لها في القبر مثواه هانت على نفسها فاستعدمت وونت وسلمت كنزها للص يرعاه آسادها روضت في الأسر طائعة فأسدها دون أسد الأرض أشياه يا قدس هذا زمان الليل فاصطبري فالصبح من رحم الظلماء مسراه يا قدس لا تقلقي فالحق منتصر وصاحب الحق ليس يرده الله ما دام في القلب دين قد حفظناه وفي اليمين كتاب ما تركناه(47/5)
الإرهاب الصربي
أين رائدة العالم الغربي من الإرهاب اليهودي، من التطرف اليهودي في الأرض المقدسة في الجولان في جنوب لبنان، ثم أين رائدة العالم الغربي أمريكا التي ستحارب الإرهاب في كل أنحاء العالم؟ أين هي من الإرهاب الصربي من التطرف الصربي؟ إن الصرب منذ سنوات يبيدون المسلمين في البوسنة وكوسوفو إبادة جماعية، نرى تطهيراً عرقياً واسع النطاق، ونرى ذبحاً للمسلمين كذبح الخراف، أين أمريكا؟ أين مجلس الأمن؟ أين هيئة الأمم؟ أين المنظمة العالمية لحقوق الإنسان من التطهير العرقي والإبادة الجماعية في البوسنة وكوسوفو إلى يومنا هذا؟ كوسوفو تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق كوسوفو من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق كوسوفو من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الصرب طوق من خلفه أطواق قدمتها الصلبان للصرب قرباناً وللصرب كلهم عشاق ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوه لرأينا مثل الذي رآه العراق أين رائدة الحضارة الغربية التي ستحارب الإرهاب في كل مكان في العالم، ولكنها لا تحارب إلا الإسلام والمسلمين ونحن نعلم ذلك مهما فرض الإعلام الغربي غطاءً هشاً من خيوط العنكبوت على الممارسات الإرهابية المتطرفة للعالم الغربي وعلى رأسه أمريكا.
الصرب يذبحون المسلمين ذبح الخراف، وينطلقون ليحولوا ملحمتهم الشعرية التي تسمى بإكليل الجبل، إلى واقع عملي، تقول الملحمة الصربية: (سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملئوها رجساً، فلنعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من تلك الأوساخ، ولنبصق على القرآن، ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً، فليذهب غير مأسوف عليه)، هذه الملحمة الصربية القذرة التي انطلق الصرب ليحولوا كلماتها الخبيثة إلى واقع عملي، فأين رائدة الحضارة الغربية من هذا الإرهاب الفكري والعسكري والاقتصادي والنفسي الذي يمارس على المسلمين في البوسنة في كوسوفو في العراق في ليبيا في السودان في أفغانستان في الصومال في كشمير على أيدي عباد البقر.
ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فهل هذه غيرة أم هذه ضيعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان(47/6)
لماذا لا تحارب أمريكا التطرف اليهودي
وإذا سألتموني: لماذا لم تحارب أمريكا التطرف اليهودي والإرهاب الصربي في كل أنحاء العالم؟ سأجيب على حضراتكم بكلمات قليلة وأقول: لأن الكفر ملة واحدة، وبكل أسف لقد بين لنا ربنا في قرآننا الذي يتلى على مسامعنا في الليل والنهار، بين لنا عقيدة القوم، تدبر قول الله جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؛ لكننا -بكل أسف- منا من لا يصدق ربنا جل وعلا، إن صدق بلسانه فإن قلبه يكذب وإن واقعه ينكر.
وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال جل وعلا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} [البقرة:109]، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
آيات كثيرة يبين الله فيها خطر عقيدة الكفر، وأن عقيدة الكفر واحدة، وأن ملة الكفر واحدة في كل زمان وكل مكان.(47/7)
صور مشرقة للتسامح الإسلامي
وفي مقابل هذه الصور المخزية للإرهاب الغربي أؤكد لرائدة الحضارة الغربية أمريكا وللعالم الغربي -وتمنيت من كل قلبي أن لو أسمعت العالم الغربي كله هذه الكلمات- أن الإسلام دين الأمن، دين التسامح، دين لا يقر الإرهاب مهما كان لونه ومهما كان زمانه، ومهما كان مكانه ومهما كان جنسه، لا يقر الإسلام إرهاباً ولا تطرفاً على الإطلاق من أي جنس كان، وفي أي زمان كان، وفي أي مكان كان، بل أنا أؤكد للغرب وللمسلمين وللعلمانيين العرب بصفة خاصة أن اليهود والنصارى ما ذاقوا نعمة الأمن والأمان والاستقرار إلا في كنف دين محمد بن عبد الله إلا في ظلال الإسلام، ولا زالت صفحات التاريخ مفتوحة بين أيدينا.
فلنرجع إلى التاريخ لنقرؤه، ولنرى أن الإسلام العظيم قد جعل الناس جميعاً في كل أنحاء الأرض سواء لا اختلاف ولا تمايز بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وهذا هو عنصرنا الثاني: (صور مشرقة للتسامح الإسلامي).
اسمع إلى خطبة الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، وكان من بين ما قاله المصطفى: أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]).
هل طبق الإسلام هذه المناهج العظيمة، أم أن الإسلام قد جعلها مناهج نظرية باهتة باردة؟ لا، اقرءوا التاريخ لتروا أن الإسلام قد حول هذه المبادئ السامية إلى واقع يتألق سمواً وروعة وعظمة وجلالاً.(47/8)
أمان عمر بن الخطاب لأهل إيليا
هذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي خرج من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس، وجاء عمر بن الخطاب في موكب مهيب لكنه يتكون من رجلين اثنين، من عمر وخادمه، على ظهر دابة واحدة، يركب فاروق الأمة تارة، وينزل ليركب خادمه تارة أخرى، وينزل الخادم لتمشي الدابة وحدها تارة ثالثة.
وما أن وصل عمر إلى بيت المقدس إلا وكانت النوبة لخادمه، فأصر الخادم أن ينزل ليركب أمير المؤمنين، فرفض عمر وركب الخادم، وانطلق عمر بن الخطاب ليجر الدابة لخادمه وهو أمير المؤمنين، فلما أقبل أبو عبيدة بن الجراح قائد الجيوش في القدس في بلاد فلسطين ورأى عمر بن الخطاب يفعل ذلك قال: يا أمير المؤمنين! والله ما أحب أن القوم قد استكرهوك، لا أحب أن يراك القوم وأنت بهذه الحالة، وأنت في طريقك لاستلام مفاتيح بيت المقدس، فالتفت فاروق الأمة القوي إلى أبي عبيدة فقال: (أوه يا أبا عبيدة لو يقولها غيرك! يا أبا عبيدة! لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
ويقف عمر بن الخطاب أمام بيت المقدس على أرض فلسطين ليكتب لهم الأمان الذي يسمى في التاريخ بالعهدة العمرية، ماذا قال عمر؟ قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيليا -أي: أهل بيت المقدس- من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم، فكنائسهم لا تسكن ولا تهدم، ومن أراد من أهل إيليا أن يخرج فعليه الأمان حتى يبلغ مأمنه، على ما في هذا العهد أقر عمر، فعليه ذمة الله ورسوله والخلفاء والمؤمنين).
ووقع على هذا العهد العمري: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان، في العام الخامس عشر من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى عمر للنصارى أماناً على أموالهم وأنفسهم وكنائسهم.(47/9)
صلاح الدين يرسل طبيبه لمعالجة عدوه
ولو رأينا وقرأنا ما فعله صلاح الدين الأيوبي يوم أن انتصر على الصليبيين في موقعة حطين، عاملهم معاملة سيظل التاريخ يقف أمامها وقفة إعجاب وإجلال وإكبار، كما صرح كتابهم هم من الشرق والغرب، لقد مرض ريتشارد قلب الأسد الذي كان قائداً قوياً عنيداً لـ صلاح الدين، فلما مرض أرسل له صلاح الدين الأيوبي طبيبه الخاص بدواء من عنده، هل في تاريخ الحضارات مثل ذلك؟(47/10)
محمد الفاتح يعطي الأمان للنصارى
ولما فتح البطل الشاب محمد الفاتح القسطنطينية ودخل كنيسة آياصوفيا العملاقة، ماذا فعل محمد الفاتح بالنصارى؟ أعطاهم الأمن والأمان، وعاشوا في كنف محمد الفاتح في ظلال الإسلام، وفي غاية الاستقرار.(47/11)
عمر بن الخطاب يقتص للقبطي من محمد بن عمرو بن العاص
وكلكم يعلم قصة اليهودي الذي سرق درع علي، وكلكم يعلم قصة القبطي الذي سابق محمد بن عمرو بن العاص.
قبطي من أرض مصر يسابق محمد بن عمرو بن العاص فيسبقه القبطي، فيضرب ابن والي مصر القبطي الضعيف، وهو يقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين، ويتلقى القبطي الضربة من سوط محمد بن عمرو بن العاص، وينطلق على الفور إلى الأسد القابع في مدينة المصطفى، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليدخل عليه المسجد النبوي وهو يقول: هذا مقام العائذ بك يا أمير المؤمنين! فيقول له عمر: من أنت؟ فيقول: أنا قبطي من أهل مصر.
ما الذي جاء بك من مصر إلى المدينة؟ قال: سابقت محمد بن عمرو بن العاص فسبقته، فضربني بالسوط وهو يقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، فقال له عمر: اجلس هنا، وأرسل مع البريد رسالة عاجلة كتب فيها: (من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى والي مصر عمرو بن العاص، إن انتهيت من قراءة رسالتي فاركب إلي مع ولدك محمد).
فيركب عمرو بن العاص مع ولده محمد ليدخل على عمر رضي الله عنه، فيقول عمر: أين القبطي؟ فيقول: هأنا يا أمير المؤمنين، فيقول: أقبل، خذ السوط واضرب ابن الأكرمين، قبطي يضرب ابن عمرو بن العاص! فيضربه، فيقول عمر: أدر السوط أو الدرة على صلعة عمرو بن العاص، فوالله ما ضربك ولده إلا بسلطان أبيه، فقال القبطي: لا يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني، فقال عمر: والله لو ضربت عمرو ما حلنا بينك وبين ذلك، ثم التفت عمر إلى عمرو وقال قولته الخالدة: (يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
هل في حضارات الدنيا مثل هذا؟! هذا هو تسامح الإسلام العظيم.(47/12)
قصة عمر بن عبد العزيز مع أهل سمرقند
وأنا أعجب يوم أن فتح المسلمون سمرقند في عهد عمر بن عبد العزيز، وأرسل أهل سمرقند رسالة إلى عمر رضي الله عنه، وقالوا بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل؛ لأن الجيوش دخلت سمرقند عنوة، ولم تدعها إلى الإسلام، ولم تفرض عليها الجزية.
فما كان من عمر بن عبد العزيز إلا أن يرسل إلى قاضي قضاة المسلمين ليحقق في هذا الأمر، ويرسل القاضي إلى عمر رضي الله عنه بأن الفتح الإسلامي لسمرقند فتح باطل، فيصدر عمر الأوامر إلى قائد الجيوش المسلمة في سمرقند بالانسحاب فوراً، ثم يدعو أهل سمرقند إلى الإسلام فإن أبوا فليفرضوا عليهم الجزية، فإن أبوا فالقتال! فلما خرج الجيش عن بكرة أبيه، خرج أهل سمرقند بين يدي الجيش الفاتح العظيم المنتصر على نفسه، وهم يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.
هذه أخلاق الإسلام، وهذه أخلاق جنوده.(47/13)
تعامل أبي عبيدة مع أهل حمص ودمشق
ولما فتح الجيش الإسلامي حمص والعراق والشام، وعلم القادة بقيادة أبي عبيدة أن هرقل قد جمع لهم جيشاً جراراً، خرج القادة يخاطبون أهل دمشق وأهل حمص وقالوا لهم: لقد سمعنا أن هرقل قد جمع لنا جموعاً، وإننا لا نستطيع أن نحميكم وأن ندافع عنكم، وهذه جزيتكم التي دفعتموها لنا في مقابل حمايتكم.
فلما رأى الناس ذلك من أهل حمص ومن أهل دمشق طارت عقولهم وخرجوا بين يدي الجيش المسلم يقولون: والله لعدلكم أحب إلينا من جور الروم وظلمهم، مع أنهم على دين واحد.
إن الإسلام دين الأمن، دين التسامح، دين الأمان، وما ذاق اليهود والنصارى نعمة الأمن والاستقرار إلا في كنف الإسلام، وفي ظلال دين محمد عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: وأخيراً (لا تيأسوا من روح الله)؛ وأوفر الحديث عن هذا العنصر والذي يليه بعجالة إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(47/14)
لا تيأسوا من روح الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: أرى رياحاً عاتية من القنوط واليأس تجتاح نفوس كثير من المسلمين، فإن هذه الهزيمة النفسية وهذا اليأس والقنوط هل تعتقدون أن السبب كله منكم لأمريكا، أم أنه منكم ومن الخالق العظيم، يتصرف فيه كيف شاء؟ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
إخوتي الكرام، إن زعيمة الإرهاب في العالم، وإن العالم الغربي كله إلى جوار قدرة الله وقوته وعظمته ما هم إلا حشرات ستموت وستسقط كما سقطت الحشرات الشيوعية، ستسقط الحشرات الغربية كما سقطت الحشرات الشيوعية المركزية، لموعود الله جل وعلا، ولموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة: إذا كان الاستيلاء لأهل الإيمان سنة جارية ثابتة، فإن أخذ الله للظالمين سنة جارية ثابتة، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14].
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] أخذ الله للظالمين سنة ثابتة، وسنة جارية لا تتبدل ولا تتغير.
يا إخوتي الكرام؛ أين فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، الذي قال: ما علمت لكم من إله غيري، الذي قال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فأجراها الله من فوقه؟! أين هامان؟ أين قارون؟ أين ثمود؟ أين عاد؟ أين الظالمون؟ بل أين التابعون لهم بالغي؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان لا تيأسوا من روح الله فإن جيل الله قادم! إن جيل الله قادم! هل تصدقون الله جل وعلا؟ هل تصدقون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ اسمع لربك ونبيك، قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، وقال جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، وقال جل وعلا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
ويكفي أن نعلم أنه في نفس الأسبوع ابتلى الله أمريكا بإعصار مكلف لها مئات الملايين من الدولارات، اللهم إنا مغلوبون فانتصر لنا يا رب العالمين! الله جل وعلا يقول: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
ويذكرنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم فيقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث ثوبان: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث حذيفة، قال عليه الصلاة والسلام: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
إخوتي الكرام: هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد أرض المعركة؟ نعم، لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم أرض المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، ففي رواية البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شرقي الأردن وهم غربيه)، ولم تكن هناك يومئذ دولة تعرف بدولة الأردن، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5].
وفي الحديث الذي رواه أحمد وغيره بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: (سئل رسول الله يوماً: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: القسطنطينية تفتح أولاً)، وأنتم تعلمون أن القسطنطينية قد فتحت على يد البطل الشاب محمد الفاتح بعد البشارة النبوية بثمانية قرون ونصف، ويبقى الشطر الآخر للبشارة النبوية وعد لا يخلف، ألا وهو فتح روما بإذن الله، وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم.(47/15)
طريق النجاة
ولكن -أحبتي الكرام- هذا الأمل كما أقول ينبغي أن يدفعنا إلى العمل، وهذا هو عنصرنا الأخير من عناصر اللقاء: (طريق النجاة).
طريق النجاة على مستوى الأمة أن ترجع الأمة إلى الله جل وعلا، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعودة إلى القرآن والسنة ليست نافلة ولا اختياراً، بل إن الأمة أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
ثم لترفع الأمة راية الجهاد في سبيل الله، فأنا أدين لله أنه لا شرف ولا عز للأمة إلا بالجهاد في سبيل الله، كما قال المصطفى: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، ثم لتلتقي وقد آن لها أن توحد الصف، وأن تلتقي على كلمة سواء، فإن العالم الآن لا يحترم إلا الأقوياء.
والعمل على مستوى الأفراد: أن نصحح في قلوبنا من جديد عقيدة الولاء والبراء، وأن نعلم نساءنا وأنفسنا وأبناءنا وبناتنا من نوالي ومن نهادن، من نحب ومن نبغض، فهذه خطوة عملية حتمية على الطريق، ثم تحول الإسلام في حياتك إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، وأن تحمل هم الدين في قلبك، وأن تتحرك ولو بكلمة طيبة، لتعبر عما بداخلك لنصرة هذا الدين العظيم.
ثم لتنطلق في خطوة ثالثة حتمية، ألا وهي دعوة الغير إلى دين الله جل وعلا، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب علينا أيضاً -أيها المسلمون في كل مكان، يا من تستمعون إلي الآن! ويا من ستستمعون إلي عبر شريط الكاست- خطوة عملية يستطيعها كل مسلم: أن يعلن المقاطعة لجميع البضائع والمنتجات الأمريكية واليهودية، كلنا يستطيع ذلك في خطوة عملية دقيقة على الطريق، والله ستحدث أثراً، ولكننا -وللأسف- كل واحد منا يقول: ماذا أصنع أنا؟! وما قيمة دوري أنا؟! فيتخلى عن دوره، ويتخلى ذاك عن دوره، فلا يصبح للمسلمين أي دور.
فخذ أنت على الطريق دوراً، وأنا وغيري، وأختي وأختك، وامرأتي وامرأتك، وولدي وولدك، لنعبر عن هذه الغضبة في صدورنا لله ولدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله ثم والله لو بصق المسلمون جميعاً على وجه الأرض بصقة في آن واحد لأغرقوا اليهود، لكن كل مسلم يقول: ما قيمة دوري أنا؟! وماذا أصنع أنا؟! افعل أي شيئاً، عبر عن هذا الدين، تحرك لهذا الدين، احمل هم الدين في قلبك، المهم أن تسأل نفسك ماذا قدمت لدين الله؟! وما الذي يجب عليك أن تبذله لدين الله جل وعلا؟! اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد.
اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، يا ربنا! إنا مظلومون فانتصر، اللهم إنا مظلومون فانتصر، اللهم إنا مظلومون فانتصر، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عاد وثمود، بقدرتك وعظمتك يا رب العالمين! اللهم إنا ضعفاء وأنت تعلم ضعفنا فقونا، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول أمرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وجميع بلاد المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
أحبتي الكرام: هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ولا أنسى أن أذكر الإخوة بالحق الذي عليهم لله جل وعلا، فلا تنسوا التبرع لهذا البيت المبارك، والله أسأل أن يجعل المال في أيدينا لا في قلوبنا، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.(47/16)
الطريق إلى القدس
لن تتحرر القدس إلا بعد تحقيق كلمة التوحيد، ثم توحيد الكلمة، والرجوع الكامل إلى دين الله، وتحكيم شريعة الله، وهذا من أعظم أسباب النصر والتمكين، وكذلك بالجهاد الشرعي؛ فإن ما أخذ بالقوة لا يُرد إلا بالقوة.(48/1)
اهتمام العلماء والدعاة بجراح الأمة وآلامها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الأخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جلا وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! أنا أكرر دائماً أنه لا ينبغي أن يكون العلماء والدعاة في وادٍ، وأن تكون الأمة بجراحها وآلامها في وادٍ آخر، ومن هذا المنطلق فإنني أستحي من الله جل وعلا أن أقف بين أيديكم وسط هذه الآلام والجراح دون أن أتكلم عن القدس الجريح؛ لذا فإن عنوان لقائنا هذا هو بعنوان: (الطريق إلى القدس).
وكما تعودنا فسوف ينتظم الحديث معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: مؤامرة حقيرة قديمة حديثة.
ثانياً: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة.
ثالثاً: نبذ الفرقة، وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة في الله.
رابعاً: التخلص من الوهن.
خامساً: رفع راية الجهاد في سبيل الله.
سادساً: الدعاء، وصدق اللجأ إلى الله جل وعلا.
وأخيراً: المؤمنون الصادقون لا يعرفون لليأس طريقاً.
فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأحباب! فإن هذا اللقاء الآن من الأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يقر أعيننا بتحرير القدس الشريف؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(48/2)
مؤامرة حقيرة قديمة حديثة
أيها الأخيار الكرام! إن الصراع بين الحق والباطل قديم بقدم الحياة على ظهر الأرض، والأيام دول كما قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولا زال هذا الإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره واستفاض نوره مستهدفاً من قِبَلِ أعدائه الذين لا يتفقون على شئ قدر اتفاقهم على الكيد للإسلام، واستئصال شأفة المسلمين، ولا زال التحدي قائماً إلى يومنا هذا، بل وأعلن الأعداء بسفور ووضوح عن مؤامرتهم الحقيرة الرهيبة، فقبل أربعين سنة وقف رئيس وزراء إسرائيل (ابن غوريون) في هيئة الأمم بعد أن اعترف العالم كله بالُغدَّة السرطانية الخبيثة التي تسمى بدولة إسرائيل التي أعلن عن قيامها فوق الثرى الطاهر والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقف رئيس وزراء هذه الغدة السرطانية المدمرة ليعلن للعالم كله عقيدة اليهود في فلسطين، وأتمنى أن تعلم الأمة هذه العقيدة؛ لتعلم يقيناً أن اليهود لا يتكلمون في مؤتمرات ولا في مفاوضات إلا من خلال عقيدتهم المبدلة المحرفة المغيرة التي يعتنقونها، ويجلونها، ويحترمونها وهم على الباطل؛ في الوقت الذي تنكّر فيه أهل الحق للحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض!!! قال رئيس وزراء إسرائيل في اللحظات الأولى لميلاد دولة إسرائيل قبل أربعين سنة تقريباً بالحرف الواحد: قد لا يكون لنا في فلسطين حق من منطلق سياسي أو قانوني، ولكن لنا في فلسطين الحق من منطلق وأساس ديني، فهي أرض الميعاد التي وعدنا الله، وأعطانا الله إياها من النيل إلى الفرات، وإنه يجب الآن على كل يهودي أن يهاجر إلى أرض فلسطين، وعلى كل يهودي لا يهاجر اليوم إلى إسرائيل بعد إقامتها أن يعلم أنه مخالف للتوراة، وأنه يكفر كل يوم بالدين اليهودي!! ثم قال: لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل، ولا معنى لقيام دولة إسرائيل بدون فلسطين!! وأقول: اعلموا يقيناً أن هذه عقيدة لا تتبدل ولا تتغير بتغير رؤساء الوزراء، وهذا ما أصله رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) يوم أن نجح في الانتخابات الأخيرة وقال: لقد صَوَّت اليهود أخيراً للتوراة!! ثم قال بمنتهى الوضوح: لا مجال للحديث في أى مفاوضات عن تقسيم القدس، فإن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل!! أيها الأحباب! هذه عقيدة لليهود، فالصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود.
واعلم يقيناً أن اليهود ما تنازلوا عن (أريحا) إلا لأنهم يقرءون في التوراة المحرفة المبدلة قولة تقول: (ملعون من سكنها)، فما تنازلوا عنها إلا من أجل عقيدة يعتنقونها ويعتقدونها، أما القدس فلا.
فمهما طالت المباحثات، ومهما جلسوا على مائدة المفاوضات؛ فلن يتخلى اليهود عن القدس أبداً، فهذه عقيدتهم التي يجلونها ويعتمدونها ويحترمونها، ولا مانع عند اليهود أن يبذلوا لها الدماء والأموال والرءوس، فإن صراعنا مع اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكن صراعنا معهم صراع عقيدة ووجود.(48/3)
حقيقة اليهود
أتمنى أن تصدِّق الأمة ربها، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] فهذا قرآن ربنا يتلى علينا في الليل والنهار، فالصراع -أيها المسلمون- بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود، ولكنه صراع عقيدة ووجود، وهذا كلام ربنا يتلى في الليل والنهار، وهذا كلام نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها الإخوة! أدين الله جل وعلا على منبر رسوله أن للقدس طريقاً واحداً، ولن تصل الأمة إلى القدس إلا من خلاله ولو عاشت آلاف السنين، هذا الطريق وَضَّحَ الله في القرآن معالمه وحدوده، فلو ظلت الأمة ألف سنة بعيدة عن هذا الدرب وعن هذا الطريق فلن تستطيع أبداً أن تصل إلى القدس الشريف، فما هي معالم هذا الطريق؟ وما هي خطواته؟!(48/4)
كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة
مستحيلٌ أن يحرر الأقصى جيل لم يعرف الله، وأتحدى من يقول بغير ذلك، فكيف يحرر الأقصى جيل تحدى الله، وحادَّ شرع الله، وانحرف بعيداً عن منهج الله جل وعلا؟!! فتح بيت المقدس عمر بن الخطاب الذي جاء متذللاً متضرعاً خاشعاً لله، وجاء من المدينة إلى أرض فلسطين وهو يتلو قرآن ربه جل وعلا، أما اليوم فإن الأمة قد نحت قرآن الله، وتحدت شريعة الله جل وعلا، فـ عمر فتح القدس، واستلم المفاتيح؛ لأنه جاء وقد أحنى رأسه ذلاًّ لله، وتواضعاً لله جل وعلا، جاء في ركب متواضع، على ظهر دابة واحدة مع خادمه فقط، جاء وهو يتلو كتاب الله، وهنالك في القدس قابله قائد الجيوش أبو عبيدة رضي الله عنه، وكانت الكرة لخادم عمر، فلقد كان عمر يركب على ظهر الدابة مرة وهو يقرأ سورة يس، وينزل من على ظهرها مرة ليركب الخادم وأمير المؤمنين يمشي على قدميه ويقرأ الخادم السورة مرة، ويترك الأمير والخادم الدابة مرة لتستريح، بهذه القلوب تحررت القدس، وبهذه القلوب تحرر الأقصى.
وأمام القدس المبارك وفي الأرض الطاهرة يمر عمر بن الخطاب بدابته على مخاضة -بركة ماء- فينزل الفاروق من على ظهر الدابة، فيلتفت إليه قائد الجند أبو عبيدة أمين الأمة ويقول: (يا أمير المؤمنين! والله! ما أحب أن القوم قد استشرفوك، ولا أحب أن يراك القوم وأنت على هذه الحالة).
فقال فاروق الأمة: (آهٍ يا أبا عبيدة! لو غيرك قالها؛ لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله!!) كلمات نرددها ونسمعها، ولكنها والله! ما صادفت القلوب، ولكنها والله! ما تمكنت من القلوب، لقد كنا أذل قوم، كنا رعاة للإبل والغنم فأعزنا الله، بماذا؟ بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.
ويوم أن تحرر قلب صلاح الدين انطلق ليحرر الأقصى الكريم، قيل له: يا صلاح الدين! لماذا لم تُر مبتسماً؟ لماذا لا تبتسم؟!! فقال صلاح الدين: (والله! لن أبتسم والقدس في أيدى الصليبيين!!!) إنها القلوب التى عرفت ربها جل وعلا، وجاءت مذعنة منقادة إلى الله، فذلل الله لها الأرض، بل وأنزل الله لها الملائكة، وأنا لا أتصور أبداً أن ينزل الله الملائكة الآن لأمة نحت كتاب الله، وانحرفت في عقيدتها، ولا أتصور أن يقذف الله الرعب في قلوب أعدائها في هذه الأيام.
أيها الأخيار الكرام! كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة أمر مهم.
وقد سعدت القلوب لقرار الجامعة العربية -ومع أننا نعلم أنه كلام نظري، لكنها كلمة طيبة- حيث التقى فيها العرب على لسان رجل واحد، فأفزعت هذه الكلمة العالم كله، وزعزعت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية، وصارت تتعجب وتقول: كيف تجرأت الجامعة أن تتخذ هذا القرار؟! وهو مجرد قرار اتخذته الجامعة فقط، ومع ذلك فزعت أمريكا، وفزع العالم، فما ظنك لو أن هذه الأمة قد التقت قبل ذلك على كلمة (لا إله إلا الله) قبل أن تتوحد كلمتها، فلن تتوحد كلمتها إلا إذا التقت قلوب أبنائها على كلمة التوحيد، على كلمة (لا إله إلا الله).(48/5)
تصحيح العقيدة هي الخطوة الأولى لتحرير القدس
الذي ندين الله به يا شباب! أن الخطوة الأولى على طريق تحرير القدس هي تصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة، وعودة الأمة إلى الله، وأنا أثق كل الثقة أن الأمة لو لم تمتثل إلا هذا البند، ولو لم تخط إلا هذه الخطوة؛ لالتقينا في الأقصى الكريم بموعود الله وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم عملاً إلا إذا صحت عقيدتهم، وحققوا كلمة التوحيد بشمولها وبكمالها.
فالتوحيد هو: أن تصرف الأمة العبادة كاملة إلى الله.
وكلمة التوحيد تلزم الأمة أن تحكم شريعة الله.
وكلمة التوحيد تلزم الأمة بالموالاة لله ورسوله، فتوالي الأمة الله ورسوله والمؤمنين، وتتبرأ الأمة من الشرك والمشركين.
قال الشاعر: أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان وكذا تعادي جاهلاً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان إن المحبة أن توافق من تحـ ـب على محبته بلا نقصان فإذا ادعيت له المحبة مع خلافك ما يحب فأنت ذو بهتان ولو صدقت الله فيما قلته لعاديت من بالله ويحك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هنالك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر تصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر فكلمة التوحيد تستلزم أن ترجع الأمة إلى التوحيد بشموله وكماله، فالتوحيد ليس كلمة فحسب، بل كلمة باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ففي صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
قال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قُبِلَ منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.
فلابد من تصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة، وتحكيم الشريعة، قال عز وجل {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] هذه هي الخطوة الأولى بلا نزاع على طريق تحرير القدس، فلن يحرر القدس إلا رجل العقيدة الذي عرف قدر الله، وعظمة الله، وعلم يقيناً أنه كله لله، وامتثل عملياً قول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فلن يحرر القدس إلا رجل العقيدة الذي استقر في قلبه مفهوم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، واستقر في قلبه مفهوم البراء من الشرك والمشركين، وراح يحول في قلبه وواقعه ومنهج حياته قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51](48/6)
وجوب نبذ الفرقة، وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة
الفرقة شر، والخلاف هزيمة وضعف، قال الله جل وعلا: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تضيع قوتكم.
واليهود ما تلاعبوا بالأمة، وضربوا الأمة بالنعال على أم رأسها إلا يوم أن علم اليهود يقيناً أن الأمة مبعثرة متشرذمة؛ إذ كل دولة في الأمة لا همّ لها إلا أن تحفظ حدودها، وإلا أن ترفع قوميتها ووطنيتها، فالأمة قد تمزقت إلى دويلات، بل وتفتت الدويلات هي الأخرى إلى دويلات!!! ودق العدو الفاجر مسماراً قذراً يسمى بمسمار الحدود بين الدول الاسلامية والعربية، فلا تكاد نار الفتنة على حد بين دولتين تهدأ وتخمد إلا ويطرق الأعداء على رأس هذا المسمار بقوة في مكان آخر؛ لتشتعل النار مرة أخرى بين بلدين عربيين مسلمين، فخلافات الأمة ممزقة، والعدو لا يحترم إلا القوي!! أول بروتوكول من بروتوكولات جبناء صهيون يقول: الحق مع القوة.
وقال الإرهابي الكبير مناحيم بيجن: إننا نحارب، إذاً نحن موجودون، فالعالم لا يحترم الضعفاء! وهذا كلام واضح، فالعالم لا يحترم الضعفاء، العالم لا يحترم إلا الأقوياء، هذه هي عقيدة الغرب، ومخدوع من ظن أن الغرب لا يكيل بمكيالين، بل إنه مكيال واحد، إنه مكيال العداء في كل وقت وحين.
قال الشاعر: قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة العدالة كلما قطعت يد أبدى لها السكينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا فلا أقول يكيل بمكيالين، بل يكيل بمكيال واحد، إنه مكيال العداء للإسلام، فالغرب يعلن كله: أنه بعد سقوط الشيوعية لم يعد لنا عدو إلا الإسلام، ولم يبق لنا في حلبة العداء إلا الإسلام! وهذا كلام معلن وصريح؛ فالعالم لا يحترم الضعفاء.
وبمجرد أن التقت الدول العربية في الجامعة، وأصدرت قراراً واحداً؛ فزع العالم وخاف من قرار كلمة، وصرخت وزيرة الخارجية الأمريكية الخبيثة اليهودية وقالت: كيف تجرأت الجامعة واتخذت هذا القرار؟! فتوحيد الكلمة قوة، فلماذا لا تلتقي الأمة؟!! الأمة تعلم يقيناً أنه لا عز لها ولا كرامة إلا إذا تكلمت بلسان رجل واحد، وعلم الأعداء أنها التقت على قلب رجل واحد.
قال العرب قولة في حرب العاشر من رمضان، فحولت تلك الكلمة موازين المعركة، وذلك يوم أن اتخذ العرب قرار منع البترول، فانقلبت الموازين وتحولت الدفة تماماً.
فالمسلمون يعلمون يقيناً أنهم لو يتفقون على كلمة فسوف يفزع العالم كله.
قال عز وجل: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فقلوبهم مملوءة بالفزع، فما على الأمة إلا أن توحد الصف، وأن تنبذ الفرقة والخلاف، وأن تحقق معنى الأخوة، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
فينبغي أن ترفض الأمة هذه النعرات، وأن تسقط هذه الرايات، وأن تعلي راية الإسلام وراية الأخوة، وأن تحقق قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فهذه الأخوة هي التي ساوت بين سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وأبى ذر الغفاري، وحمزة القرشي، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي، إنها أخوة الدين، إنها أخوة العقيدة، فأخي ولو كان في أقصى الشرق والغرب هو من كان على الإسلام، وأخي ابن أمي وأبي لا أعرفه إن كان على غير الإسلام.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فالرابطة التي ربطت الأمة قديماً هي رابطة الإخاء في الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، ولو عرفنا معنى هذه الأخوة لعلمنا أن لإخواننا في القدس وفى الشرق وفى الغرب حقوقاً علينا، ويجب علينا ألا نتنصل منها، وإلا فإن الأمة كلها آثمة إن تخلت عن هذه الحقوق، وضيعت هذه الواجبات.
قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
فلا كرامة للأمة إلا إذا وحَّدَتْ صَفَّهَا، ونزعت هذه الفرقة من قلوبها، وحققت معنى الأخوة الإيمانية؛ فإن رابطة العقيدة هي أعظم رباط، وهي أوثق صلة، وبدونها لا يمكن أبداً أن يحترم العالم كله هذه الأمة التي تبعثرت كتبعثر الغنم في الليلة الشاتية الممطرة.(48/7)
وجوب العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين
الأمة الآن بعيدة عن أخلاق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، والقدس لن تُرد بالخطب الرنانة، ولا بالمواعظ البليغة المؤثرة، فنحن نخطب من عشرات السنين!! والزعماء يهتفون من مئات السنين؛ والأمة ذليلة، والقدس مأسور من عشرات السنين.
فلن يعاد القدس بالخطب والمواعظ والمؤتمرات الكلامية فقط، وإنما بعودة الأمة إلى أخلاق دينها من جديد؛ لتحول الأمة هذا الدين في حياتها إلى واقع وإلى منهج حياة.
وكل واحد منا مخاطب الآن بكل كلمة من هذا الكلام؛ فأنت مخاطب بتصحيح العقيدة، وبتصحيح العبادة، وبتحقيق الشريعة، على قدر استطاعتك في نفسك وفي غيرك إن تمكنت، وأن تلتقي الكلمة على لسان رجل واحد لتحكيم شرع الله جل وعلا، فوالله! لو صدقت القاعدة كلها وصارت تهتف بتحكيم شرع الله فلن تستطيع قوة أن تحول بين هذه القاعدة وبين شرع الله جل وعلا، لكن يجب على الأمة أن تهتف وأن تنطق وأن تتكلم وأن تتحرك، فكلنا مخاطب بهذا المنهج، فأنت على ثغر، وستسأل بين يدي الله ماذا فعلت؟ وماذا بذلت؟ وماذا قدمت؟ وإن رأى الله منك أنك قد بذلت على قدر استطاعتك، وعلى قدر ما تملك؛ فقد أعذرت إلى الله جل وعلا، قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فلست مكلفاً ومسئولاً عن النتيجة، وإنما أنت مسئول عن البذل والعمل على قدر استطاعتك، ودع النتائج بعد ذلك إلى الله الذي يعلم السر وأخفى.
فلابد من العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، وقد يكون من اليسير أن نقدم منهجاً نظرياً في الأخلاق، وأن نقدم منهجاً نظرياً في التربية، ولكن هذا المنهج سيظل حبراً على ورق ما لم تحوله الأمة في حياتها إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، ولقد نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر وفق جاهلية جهلاء، ووسط صحراء تموج بالكفر موجاً؛ يوم أن نجح في أن يطبع آلاف النسخ من المنهج التربوي الإسلامي، ولكنه لم يطبعها بالحبر على صحائف الورق، وإنما طبعها على صحائف القلوب بمداد من النور، فيجب على الأمة بكل أفرادها أن تعود من جديد إلى أخلاق هذا الدين.(48/8)
وجوب التخلص من الوهن
لابد من التخلص من الوهن الذي أذل الأمة، ووضع رأسها في الطين والتراب، قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: كلا! أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فالوهن الذي أذل الأمة هو حب الدنيا وكراهية الموت.
إن الأمة الآن -إلا من رحم ربك- تعيش لشهواتها الحقيرة، ونزواتها الرخيصة، وكل لا هم له إلا أن يقضي شهواته ونزواته، وأصبح جل الأمة يردد: دع الملك للمالك، ودع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بل ومنهم من يقول: دع ما لله لقيصر، إنها سلبية قاتلة، فأحبوا الدنيا وكرهوا الموت، مع أن الموت قادم، ومحال أن يفلت مخلوق من الموت، فمهما طالت بك حياة فأنت راحل إلى الله، كما قال عز وجل: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77].
فإذا أمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور نفخة الصعق مات كل حي على ظهر الأرض، بل مات حتى أهل السماء، وبقي الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وكان آخراً كما كان أولاً، فهو الأول بلا ابتداء، وهو الآخر بلا انتهاء، كما قال عن نفسه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، في هذه اللحظات، وفي وسط هذا السكون المهيب، ينطلق صوت جليل قريب يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما من سائل ولا مجيب في الوجود يومئذ غيره، فبعد أن يقبض الأرض والسماوات بيمينه يهتف الملك جل وعلا بصوته ويقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يقول سبحانه: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16].
قال الشاعر: أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان الفارق بيننا وبين أصحاب النبي أنهم كانوا يبحثون وسط ميدان البطولة والشرف عن الشهادة، أما نحن الآن فإننا نبحث عن الحياة، ونبحث عن المعيشة، وركنا إلى الوهن والطين، إنه الوهن الذي أصاب الأمة بالذل والهوان، ولا كرامة ولا عزة لهذه الأمة إلا إذا تخلصت من هذا الوهن، إلا إذا تخلصت من حب الدنيا وكراهية الموت، وعلمت يقيناً أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، والتخلص من الوهن سيلزم الأمة برفع علم الجهاد.(48/9)
الجهاد في سبيل الله فيه عز الأمة
والله! لا كرامة ولا عز لهذه الأمة إلا إذا رفعت من جديد راية الجهاد في سبيل الله، وإن لم ترفع الأمة راية الجهاد الآن فمتى سترفعها؟ سعدنا كثيراً لما تقدم شيخ الأزهر مجموعة من الشباب، ورفع يديه كما رأينا على صفحات الجرائد والمجلات وهو يقول: حي على الجهاد! فما أحلاها من كلمة! وورب الكعبة! إن من شيوخ الأمة الآن قبل شبابها من يحترق قلبه شوقاً للجهاد في سبيل الله، ولو رفعت الأمة الراية لوجدنا من أبناء هذه الأمة من شيوخها، وشبابها، ورجالها، ونسائها، بل وأطفالها، من يسير على درب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويريد أن يقدم روحه لله جل وعلا؛ لأنه يعلم يقيناً أنه لا عز لهذه الأمة إلا بالجهاد في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، فلا عزة للأمة، ولا رفع لهذا الذل عنها إلا إذا رفعت الأمة راية الجهاد في سبيل الله.
فما على الزعماء والرؤساء إلا أن يحققوا بنود هذا المنهج الرباني، وذلك بتصحيح العقيدة والعبادة، وتحكيم الشريعة، والعودة الصادقة إلى منهج الله ودينه، والتخلص من الوهن وحب الشهوات والنزوات الرخيصة، ثم ما عليهم بعد ذلك إلا أن يرفعوا راية الجهاد، وأن يعلنوا الجهاد في سبيل الله؛ وسيروا ملايين الشباب في هذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها قد جاءوا جميعاً ويتمنى الواحد منهم أن يسد بجسمه فوهة مدافع أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا.
ونحن نعتقد اعتقاداً جازماً قول الصادق المصدوق لـ معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال معاذ: بلى، يا رسول الله! قال الصادق المصدوق: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله).(48/10)
أهمية الدعاء وصدق اللجأ إلى الله
أتحتقرون الدعاء؟ أتستهينون بالدعاء؟ أتستهينون بصدق اللجأ إلى رب الأرض والسماء؟ بين يدي الآن عشرات الآلاف من الشباب، وأنا أسألكم: من منكم يدعو الله في كل سجدة أن يحرر الله الأقصى، وأن يفرج الكرب عن الأمة؟ كل يصدق الله في جوابه، مَنْ منكم يدعو الله في جوف الليل أن يفرج الكرب عن الأمة، وأن يعيد الأمة إلى الدين؟ فالدعاء سهام الليل، وهو أعظم سلاح نحارب به أعداء الله مع الأخذ بالأسباب التي ذكرت، فلست درويشاً أجهل الأسباب والواقع الذي أحياه، وإنما أعتقد اعتقاداً جازماً أن الأمة لو صدقت في اللجأ إلى الله، وقامت في جوف الليل، ولجأت إلى من بيده الأمر كله، وإلى من بيده الكون كله؛ لرأينا والله! العجب العجاب.
فهل نسيتم احتراق الطائرتين ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان يوم أن ضجت القلوب وارتفعت الحناجر بالدعاء إلى علام الغيوب؟ إن الله يعلم ضعفنا، ويعلم أنه ما حبسنا إلا العذر، فقد قال المصطفى لأصحابه وهم في عودتهم من الغزو: (إن لكم إخواناً في المدينة، ما سلكتم شعباً ولا نزلتم وادياً إلا وهم معكم يشاركونكم الأجر، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟! قال: حبسهم العذر).
فالله يعلم الصادقين الذين حبسهم العذر فقاموا يتضرعون ويتذللون في جوف الليل بين يدي الله سبحانه، فاستجاب الله، واصطدمت الطائرتان اليهوديتان، وقتل ما يزيد عن أربعين جندياً وضابطاً من كبار ضباط الجيش اليهودي.
فمن الذي صنع ذلك؟ إنه الله.
وكذلك فيضان المسيسبي الذي دمر ولاية بكاملها في أمريكا، من الذي أمره؟ وإياكم وأن تسمعوا كلام عباد الطبيعة الذين يقولون بأن هذا من فعل الطبيعة!! إننا نعتقد أن الفيضانات والزلازل وكل هذه الأمور من جند الله العزيز الغفور، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فاصدقوا الله في الدعاء، وقوموا في جوف الليل، وتضرعوا إلى رب الأرض والسماء، وسيحول الله بالدعاء قلوباً، وسيغير الله بالدعاء أحوالاً، فالدعاء سهام الليل.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إنكم لا تنصرون بعتاد وعدد، وإنما تنصرون من السماء، فأنا لا أحمل همّ الإجابة، وإنما أحمل همّ الدعاء.
فمن أُلهِم الدعاء فإن الإجابة معه.
ونحن الآن لا نتضرع، ولا نتذلل، ولا نلجأ إلى الله سبحانه، بل عزفنا عن الدعاء، وتخلينا عن الدعاء، والتذلل لرب الأرض والسماء، ولم ندع الله أن يحول القلوب، وأن يغير الأحوال، وأن يبدل الأمور، وهو القادر وحده، فوالله! ليس لها إلا هو سبحانه.
فقوموا في جوف الليل، وتضرعوا إلى الله سبحانه، فإن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، ولكن قد يسألني سائل ويقول: منذ متى ونحن ندعو الله ولم يستجب الله دعاءنا؟!!
و
الجواب
في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم (ذكر الرجل أَشْعَثَ أَغْبَرَ يطيل السفر، يَمُدُّ يديه إلى السماء يقول: يارب! يارب! ومَطْعَمُهُ حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بَالحرام، فَأَنَّى يُستْجَاَبُ لذلك؟!).
فعودة إلى المنهج الذي ذكرت، ورد في كتاب الزهد للإمام أحمد: أن بني إسرائيل خرجوا يجأرون إلى الله بالدعاء، فأوحى الله إلى نبيهم وقال: خرجتم تجأرون إليّ بالدعاء حين اشتد عليكم غضبي، ورفعتم إلي أكفاً سفكتم بها الدماء، وملأتم بها بيوتكم من الحرام، لن تزدادوا مني إلا بعداً.
إن الدعاء له شروط لكي يُقبل ولكي يُستجاب، وشروطه أن نعود للمنهج الذي ذكرت.
قالوا لـ إبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق! مالنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟! قال: لأن قلوبكم قد ماتت بعدة أشياء.
قالوا: ما هي؟ قال: عرفتم الله فلم تؤدوا حقوقه!! وزعمتم حب نبيه وتركتم سنته!! وقرأتم القرآن ولم تعملوا به!! وزعمتم أن الشيطان لكم عدو ولم تخالفوه!! وأكلتم نِعَمَ الله ولم تؤدوا شكرها!! وقلتم: إنَ الجنة حق ولم تعملوا لها!! وقلتم: إن النار حق ولم تهربوا منها!! وقلتم: إن الموت حق ولم تستعدوا له!! وانشغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم!! ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم!! لقد ماتت القلوب! فكيف يستجيب علام الغيوب الدعاء من قلوب قد ماتت؟ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى لا يقبل الدعاء من قلب لاهٍ غافل)، فالأصل أن تحيا القلوب، وأن تعود من جديد إلى علام الغيوب.
يا إخوة! أدين الله جل وعلا بين أيديكم أن الأقصى لن يحرر إلا بهذا المنهج ولو عاشت الأمة آلاف السنين، فلابد من تصحيح العقيدة، وتصحيح العبادة، وتحكيم الشريعة، والعودة الجادة إلى أخلاق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ونبذ الفرقة وتوحيد الصف، وتحقيق معنى الأخوة في الله جل وعلا، والتخلص من الوهن، وبعد ذلك يجب على الأمة أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله، وأن تتضرع إلى الله جل وعلا بأن ينصرها، وأن يقذف الرعب في قلوب أعدائها، إن هذا هو الطريق، فلو عاشت الأمة ألف سنة فلن تصل إلى الأقصى ما دامت الأمة بعيدة عن الله، وما دامت الأمة تتحدى شريعة الله، وما دامت الأمة قد انحرفت عن أخلاق رسول الله! وما دامت الأمة تحارب الأطهار من رجالها ونسائها وشبابها، وما دامت الأمة تتحدى شرع العزيز الغفار.
فوالله الذي لا إله غيره! لا كرامة للأمة ولا عزة ولا سيادة ولا بقاء؛ وستظل الأمة تُضرب بالنعال على رأسها؛ ما لم تتب إلى الله، وما لم ترجع إلى الله.
فهيا أيها المسلمون الأخيار! ليكن كل منا على ثغر، فابدأ بنفسك، واعذر نفسك بين يدي الله جل وعلا، واعلم بأنك مسئول عن هذا الدين، فلا ينبغي أن تشهد لهم بلسانك فقط، وإنما بقلبك وأعمالك ودعوتك؛ ليرى الله أن قلبك يحترق لهذا الدين، ولهذه الأمة المسكينة التي ضاعت، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(48/11)
الغلبة للإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لقد مر الإسلام بأزمات أحلك من هذه الأزمة وانتصر، فلا نيئس ولا نقنط، فإن الأعداء يريدون لنا اليأس من إمكانية التغيير حتى نظل سلبيين في أماكننا، مستسلمين لهذا الواقع المر الأليم.
فيا شباب! لقد انتصر الإسلام على التتار، ولقد انتصر الإسلام على الصليبيين، ولقد انتصر الإسلام على المغول، ولقد حرر الإسلام الأرض من المستعمر البريطاني في مصر والسودان، ولقد حرر الإسلام الأرض من المستعمر الإيطالي في ليبيا وبلاد المغرب، لقد حرر الإسلام الأرض من المستعمر في كل وقت وحين يوم رفع المسلمون راية الإسلام.
ولقد مر الإسلام والمسلمون بأزمات حالكة كما بينت ذلك في موضوع (الهزيمة النفسية)، ومع ذلك انتصر الإسلام، وهلك الكفار، وزال المنافقون والخائنون، وبقي الإسلام شامخاً، وسيبقى الإسلام شامخاً، وسيظل الإسلام شامخاً، ولن تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تطفئ نور الله جل وعلا، فلابد أن ننطلق بهذا اليقين وبهذه الثقة بنصرة رب العالمين.
والإسلام كدين وكمنهج لا تستطيع قوة أن تستأصل شأفته من على ظهر الأرض؛ لأنه الدين الخاتم، وقد وعد الله له بالتمكين والنصرة.(48/12)
أهمية بث الأمل في قلوب الأمة
أتمنى من إخواني الشيوخ والعلماء والدعاة وطلاب العلم أن يركزوا على جزئية بث الأمل في قلوب الأمة، وفي قلوب رجالها وشبابها حتى لا نقنط ولا نيئس ولا نقبع في أماكننا مستسلمين لهذا الواقع المرير، بل ننطلق بعزة واستعلاء وأمل في الله، وثقة في نصرة دين الله جل وعلا.
أيها الداعية! حدد الدواء، واملأ قلوب شباب هذه الأمة أملاً ورجاء في رب الأرض والسماء، وثقة بنصرة دين الله جل وعلا، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، فيختبئ اليهود وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله)، وهأنذا أقسم ورب الكعبة! -لا أقول قولاً رجماً بالغيب، ولا أفتات على الله- أقول: إن كل العلامات الصغرى التي أخبر بها الصادق المصدوق قد وقعت على الكمال والتمام، وإن آخر هذه العلامات التي عتم عليها إعلامياً علامة عجيبة خطيرة، أخبر المصطفى الصادق عنها فقال: (لا تقوم الساعة حتى ينحسر نهر الفرات عن جبل من الذهب) فهل سمعتم عن هذا الخبر؟ لقد انحسر نهر الفرات عن جبل الذهب الذي أخبر عنه الصادق المصدوق، وعتم على هذا الخبر تماماً، ولم ينشر إلا في قصاصات صغيرة.
وبكل أسف أقول: إن اليهود يعلمون صدق محمد بن عبد الله حيث قال: (إلا الغرقد فإنه من شجر يهود)، فهذا الشجر هو الوحيد الذي لن ينطق، وهم الآن يقومون بحملة واسعة لزراعة شجر الغرقد، بل يلزمون بعضهم بعضاً بزراعته وبالإكثار منه.
وأقول: إن اليهود يصدقون رسول الله، ويعلمون أن هذا الوعد حق، في الوقت الذي كذب كثير ممن ينتسب إلى الإسلام الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكل العلامات قد تحققت، وقد وقعت، ونحن ننتظر اليوم -الذي يعلمه الله- الذي تكون فيه هذه المعركة وهذه الجولة التي أسأل الله أن يشرفني وإياكم بأن نكون من جندها أو أن يكون أبناؤنا من جندها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! الذي أدين الله به أن هذه الخطوات هي الخطوات المتلازمة المتتابعة الصحيحة التي من خلالها تصل الأمة إلى الأقصى وإلى القدس الشريف.
أسأل الله جل وعلا أن يعجل بهذا اليوم، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
لا إله لنا سواك فندعوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا قيوم السماوات والأرض! يا قيوم السماوات والأرض! يا مغيث! أغثنا، يا مغيث! أغثنا، اللهم ادفع الكرب عن أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع الكرب عن أمة حبيبك محمد.
اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا، ونشكو إليك عذرنا، اللهم إنا نشهدك أن العذر قد حبسنا، اللهم إنا نشهدك أن العذر قد حبسنا، اللهم إنا نشهدك أن العذر قد حبسنا، اللهم ارحم صبرنا، اللهم ارحم صبرنا، واستر ضعفنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واكشف همومنا.
اللهم رد الأقصى إلينا رداً جميلاً، اللهم رد الأقصى إلينا رداً جميلاً، اللهم رد القدس إلينا رداً جميلاً.
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، وأتباع اليهود، وأتباع اليهود، وأتباع اليهود، يا من نصرت الحبيب في بدر! يامن نصرت الحبيب في بدر! يامن نصرت المستضعفين يوم الأحزاب! انصرنا على اليهود.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(48/13)
أحداث الواقع تتمخض لظهور الدين وتمكينه
إن كل أحداث الواقع تتمخض وتتبلور لظهور الدين من جديد، إنه العلو الأخير لليهود، وبعده يأتي عباد لله جل وعلا، أسأل الله أن نكون منهم، أو أن يكون أبناؤنا منهم، فكن واسع النظرة، ولا تكن ضيق النظرة، ولا تنظر تحت قدمك، ورب ولدك على ذلك.
نظر الناس إلى معاوية وأمه تحمله، وعجبوا من ذكائه وقالوا: لو شب سيسود قومه، فقالت أمه: ثكلته إن لم يسد إلا قومه.
تمنت له الموت إن لم يسد إلا قومه فقط، بل تمنت أن يسود الدنيا وأن يسود العالم، فلماذا لا تنظر أيها الوالد! لولدك هذه النظرة؟ ولماذا لا تنظرين يا أم! لولدك هذه النظرة؟ ولماذا لا نعد أجيالنا وأبناءنا ليكونوا من عباد الله الربانيين الذين وعدهم الله في قرآنه بالجولة الأخيرة على اليهود، إنه وعد قرآني لا نشك فيه البتة، قال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
وقال الله جل وعلا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وقال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
وقال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى كما في الحديث الذي رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث حذيفة بن اليمان: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها -اسمع للصادق الذي لا ينطق عن الهوى، قال بعد الملك الجبري الذي تحياه الأمة الآن-: ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) أسأل الله أن يُعجل بها.(48/14)
الغفلة
لا يخفى على الناظر في حال الأمة الإسلامية اليوم ما هي فيه من انغماس في الملذات والشهوات، وغفلة عن رب الأرض والسماوات، سادرة في غيها، لاهية لاعبة، معرضة عن أوامر الله مستخفة بشرعه، وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، وأوعدنا بالعقاب الشديد من الله، فيجب علينا الرجوع والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.(49/1)
الغفلة عن الآخرة والانكباب على الدنيا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيَّاكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته أن يجمعنا معكم مع سيد النبيين في الآخرة في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! لقاؤنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، بعنوان: (الغفلة) وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: التهالك على الدنيا والتغافل عن الآخرة.
ثانياً: الاستخفاف بأوامر الله عز وجل.
ثالثاً: الغفلة عن الغاية.
وأخيراً: ففروا إلى الله.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع بين يدي شهر رمضان من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3].
آيات تهز الغافلين هزاً، فالحساب قد اقترب والناس في غفلة!! وآيات الله تتلى، ولكنهم معرضون لا يأتمرون بأوامر الله عز وجل، ولا يقفون عند حدوده جل وعلا.
إنك لو نظرت الآن إلى واقع كثير من المسلمين كاد قلبك أن ينخلع وكأن المسلم لا يعلم عن دين الله شيئاً ولا يعنيه أن يسمع قال الله، قال رسوله، فهو لا يعيش إلا لشهواته ونزواته الرخيصة، وكأنه نسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء، مصداقاً لقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
أيها المسلمون! أليس عجيباً أن يعرض المسلم عن الله؟! أليس عجيباً أن يتغافل المسلم عن لقاء مولاه وأن يقضي جل عمره في معصية الله جل وعلا؟!(49/2)
النعمة مع الإقامة على المعصية استدراج ونقمة
أيها الغافل! يا من شغلتك هذه الحياة! أنسيت لقاء الله عز وجل؟! أيها الأحبة! ها هو شهر رمضان قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، ولا زال كثير من المسلمين في غيه وإعراضه وضنكه وشقائه وضلاله، يستمع إلى القرآن وكأن الأمر لا يعنيه يستمع الموعظة لكنها لا تهز قلبه يستمع إلى النهي من الله ومن رسول الله فلا يرعوي في الوقت الذي لو أمره فيه رئيسه في العمل لامتثل أمره ولاجتنب نهيه ولوقف عند الحدود التي رسمها له.
وإن من الناس من يغتر بنعم الله عليه، فيظن أن هذه النعم إنما هي أصل لرضا الله عنه، ويقول: لولا أن الله عز وجل قد رضي عني ما أنعم علي بهذه النعم! فهو مغتر بنعم الله ونسي هذا المسكين أنه مستدرج.
أيها المسلمون! تدبروا معي هذا، فالابتلاء بالنعيم أقسى من الابتلاء بالضيق والشدة؛ لأن الابتلاء بالنعيم يلهي وينسي ويطغي إلا من رحم ربك جل وعلا، فصاحبه يظن أن الله ما أنعم عليه إلا لأنه قريب من الله تبارك وتعالى!! كلا، انظر إلى أهل الكفر في الشرق والغرب فقد أنعم الله عز وجل عليهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء، فهل هذا دليل على أن الله قد رضي عن الكفر وأهله؟! لا والله، ولكن النعم استدراج لأهل الكفر المعاصي، وتدبر حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده والبيهقي في الشُعب وحسن الحديث الحافظ العراقي وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله جل وعلا يعطي العبد ما يُحِب وهو مقيم على معصية الله فاعلم بأنه استدراج له من الله عز وجل، وقرأ النبي قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]).
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: لما تغافلوا عن الأوامر والنواهي والحدود وكان المفترض أن تكون النتيجة: خسفنا بهم الأرض أنزلنا عليهم الريح، أو أنزلنا عليهم العذاب والخسف والصيحة، ولكن: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].(49/3)
التحذير من الظلم
إن من الناس الآن من هو مقيم على معصية الله، ولكن الله يستره ويحفظ عليه نعمه، فيظن المسكين أن المعصية هينة حقيرة، ولولا أنها كذلك لعجل الله له العقوبة في الدنيا، بل ربما يفتخر بأنه عصى الله بليل فيصبح ليهتك ستر الله عليه بنهار، ونسي المسكين أن حلم الله عليه استدراج له من الله جل وعلا.
وتدبر معي قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]).
أيها المظلوم! إياك أن تظن أن الله قد أهمل الظالم، أو أن الله عز وجل قد نسي الظالم فتعالى ربنا فلا يظل ربنا ولا ينسى، بل إن الله ليملي لأهل الظلم، والطغيان حتى إذا ما أخذهم فلن يفلتهم ربنا جل وعلا.
أين الطواغيت والظالمون في كل زمان؟! أين قارون؟! أين فرعون؟! أين هامان؟! أين النمرود بن كنعان؟! أين أصحاب الأخدود؟! أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل فارق الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان قال ربنا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) فمن الناس من يغتر بالنعم، ومن الناس من يغتر بحلم الله وستره عليه، ومن الناس من صرف قلبه وهمه ووقته إلى الدنيا، فأصبحت الدنيا غايته التي من أجلها يعيش ويبذل العرق والجهد والفكر والعقل، لا هم له إلا هذه الحياة، يسمع الأذان فلا يقوم يتعلم التوحيد فلا يتأثر يوعظ بالقرآن والسنة فلا يتحرك قلبه ولا يعيش إلا من أجل هذه الحياة الدنيا.
والله لقد أخبرني إخواني في أمريكا عن رجل ينتسب إلى الإسلام، ولكنه قد فتح محلاً كبيراً يبيع فيه الخمر والخنزير وقد ضيع الصلاة، فلما ذهبت إلى هنالك يوماً أراد مني إخواني أن أذهب لزيارة هذا الرجل لأذكره بالله عز وجل، فذهبت إليه، ولما قمت بتذكيره بآيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام رد عليّ هذا الغافل اللاهي وقال: يا شيخ! والله ما أتيت إلى هذه البلاد لأصلي أو لأذهب إلى المساجد وإنما أتيت لأجمع مبلغاً من الدولارات وأعدك إن عدت إلى بلدي مرة أخرى فسأفتح مشروعاً وبعد أن أستقر فسأقضي جل عمري في بيت الله عز وجل، قلت: والله لا أضمن لك ذلك؛ لأنني ما وقعت لك ولا لنفسي صكاً مع ملك الموت أن يمهلك أو أن يمهلني حتى أرجع إلى بلدي مرة أخرى، فنظر إلي المسكين وقال: أريد أن أصارحك بشيء، قال: أبشرك! -يظنها بشارة- أنني إذا أصبت بحالة من الصداع أخرجت ورقة مائة دولار ووضعتها على رأسي فيذهب الصداع في الحال، قلت: صدق سيد الرجال إذ يقول: (تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار) فقلت له: أنت عبد الدولار أنت عبد لشهواتك أنت عبد لهذه الحياة الدنيا.
إلى متى تعبد الكرسي الذي جلست عليه؟! إلى متى تعبد المال الذي من أجله ضيعت حقوق الله؟! إلى متى تعمل من أجل هذه الحياة الدنيا، وكأنك لن تعرض على الله جل وعلا؟ {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، أي: هو لا يرجو لقاء الله، بل إذا ذكّر بلقاء الله قال لك: ذكرنا بموضوع آخر وإن ذكرته بالموت قال: نريد أن نشعر بالحياة نريد أن ننعم بالحياة لماذا تريدون أيها المشايخ أن تعقدونا من هذه الحياة الدنيا.
كلا، نحن لا نعقدك بل إننا نحذرك من الركون إليها، ونحذر أنفسنا، والله نسأل أن يختم لنا ولكم بخاتمة الإيمان؛ لأننا نعلم أن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فهأنذا الآن أذكرك بالله جل وعلا، ولكن ورب الكعبة لا أضمن ولا تضمن ما هي الخاتمة، ولكننا نستعين بالله عز وجل، من باب قول الحافظ ابن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.(49/4)
الأعمال بالخواتيم
لقد عاش شيخنا المبارك فضيلة الشيخ عبد الحميد كشك طيب الله ثراه وجمعنا به في جنات النعيم لدعوة الله ولدين الله، ما نافق ظالماً ولا طاغوتاً من طواغيت أهل الأرض، وإنما تمنى رضوان الله جل وعلا، فكانت الخاتمة أن تقبض روحه وهو في الصلاة بين يدي الله جل وعلا.
إنها الخواتيم، وإنما الأعمال بالخواتيم، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
ووالله لقد أخبرت في المنصورة في الأيام القليلة الماضية: أن رجلاً ما صلى لله جل وعلا، وما عرف الصلاة، ذُكّر بالله فكان يسخر بالمذكرين، نصح فكان يهزأ بالناصحين، أصيب بحالة إغماء ثم بعد ذلك لما أفاق قال: أريد أن أتقيأ فدخل الخلاء أعزكم الله، ووضع وجهه في هذه القاعدة التي يجلس عليها؛ ليخرج ما في جوفه وما في بطنه فغلبه القي ووضع رأسه في هذا الموطن القذر النجس! وظل يقيء حتى خرجت روحه في هذا الموطن النجس القذر ولا حول ولا قوة إلا بالله: (إنما الأعمال بالخواتيم).
فإلى متى تعيش من أجل الدنيا وكأن الدنيا هي الإله الذي من أجله تركع ومن أجله تبذل الوقت والعرق والجهد؟! إلى متى هذه الغفلة؟! {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس:7]، أي: اطمأن بهذه الحياة، فهو يظلم خلق الله، وهو يعتقد أنه مخلد على الكرسي في هذه الدنيا، ونسي أنه سيعرض يوماً على الله جل وعلا ليقف إلى جوار هذا المظلوم ليقتص له ملك الملوك جل وعلا، فأبشر أيها المظلوم! إذا ما علمت أن الذي سيقتص لك من الظالم هو ملك الملوك وجبار السماوات والأرض: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس:7] يذكر بآيات الله فلا يتذكر فهو في غفلة عن القرآن، وغافل عن السنة.
ما مصير هؤلاء؟ مصيرهم بنص القرآن: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:8] مأواهم النار لا جزاء لهم إلا النار.(49/5)
الدنيا دار ممر والآخرة دار مقر
أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب الكريم! يا من غفلتم عن الآخرة، وتهافتم على الدنيا! أذكر نفسي وإياكم بأن الدنيا إلى زوال، وبأن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، قال الله جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:45 - 49].(49/6)
تذكر الموت والعرض على الله
تذكر أيها المسلم! تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً: أين المال؟! أين المنصب؟! أين الجاه؟! ذهب إلى غير رجعة: مثل وقوفك يوم العرض عُريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهبُ من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبد على مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غدا في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا تذكر: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} [الكهف:49] مما في هذا الكتاب: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] كم من معصية يا مسكين قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها! وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها! فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك!! يا حسرة قلبك وقتها على ما كنت فيه من غفلة في هذه الحياة الدنيا؟! أخي الحبيب! تدبر قول الصادق المصدوق الذي يقول في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطَت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] أي: شغلتكم الدنيا شغلتكم الشهوات حتى زرتم المقابر انتبهتم عاينتم الحقائق التي أنكرتموها في هذه الحياة، إما بلسان الحال أو بلسان المقال.
وانظر إلى هذا التعبير القرآني اللطيف في كلمة (زرتم) فكأن الميت في قبره ما هو إلا زائر وحتماً ستنقضي مدة الزيارة وإن طالت ليرى نفسه بعد هذه الزيارة قد وقف بين يدي الله جل وعلا ليسأل عن كل شيء قدمه في هذه الحياة.(49/7)
التحذير من الركون إلى الدنيا
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله قد استخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).
أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب الكريم! بعدم الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها؛ لأن الله عز وجل قد حذر من ذلك.
أيها الغافلون! أيها اللاهون! بل أيها الطائعون المؤمنون! قال لنا ربنا جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20].
وأود من باب التفصيل العلمي لهذه المسألة أن نعلم أن الذم الوارد في القرآن والسنة في حق الدنيا لا يرجع إلى زمانها ومكانها وما أودعها الله من خيرات ونعم.
إن الذم الوارد في الكتاب والسنة في حق الدنيا لا يرجع إلى زمان الدنيا الذي هو الليل والنهار فلقد جعل الله الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
ولا يرجع الذم إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض فلقد جعل الله الأرض مهداً لبني آدم ليتاجروا على ظهرها وليغرسوا فيها الأعمال التي تقربهم إلى الجنة.
والذم الوارد في الدنيا لا يرجع إلى ما أودع الله في الدنيا من خيرات ونعم، فهذه نعم الله على خلقه وعلى عباده، والله عز وجل يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
إذاً: فلنعلم أن الذم الوارد في حق الدنيا في القرآن والسنة إنما هو متعلق بكل ما يرتكب فيها ولا يرضي الرب جل وعلا.
الذم للمعاصي للكفر الذي يرتكب في هذه الحياة، قال علي بن أبي طالب: (الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن فهم تزود منها، فهي مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، ربحوا فيها الرحمة واكتسبوا فيها الجنة).
انظر إلى الفهم الدقيق لحقيقة هذه الحياة؛ لأننا لا نريد أن يفهم مسلم هذا الكلام فهماً خاطئاً فيهدر هذه الحياة ويهدر الوظائف والأعمال، كلا.
وإنما أقول لك: إن استطعت أن تجمع ملايين الجنيهات فافعل بشرطين: أن تجمع من الحلال، وألا تنسى حق الكبير المتعال.
عمّر الكون عمر الدنيا، لكن إياك أن تركن إلى الدنيا وأن تطمئن إليها وأن تنشغل بها عن الآخرة.
يقول لي رجل من رجال الأعمال ذكرته بالله عز وجل، يقول لي: إن الدنيا قد شغلتنا وأخذتنا تماماً، ثم قال لي: والله يا شيخ! أنا لا أرى أولادي -مع أنني لست على سفر- إلا بعد فترات طويلة؛ لأنني أرجع إلى البيت وهم نائمون ويخرج الأولاد إلى المدارس وأنا نائم، فأنا لا أرى أولادي، قلت له: وكيف حالك مع الصلاة؟ قال: والله أشغل فيمر علي الأسبوع لا أصلي صلاة واحدة لله جل وعلا، ثم ذكرته بالله فقال: دعنا نجري في هذه الحياة الدنيا؛ لأننا بعد الموت سننام طويلاً، قلت له: لا والله، بل أنت الآن في نوم طويل، وأنت الآن في سبات عميق، وإنما إن استيقظت الآن للعمل للآخرة فستستريح هنالك بين يدي الله جل وعلا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].
أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فالدنيا -كما نقول دوماً- وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال فلابد بعده من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد بعده من دخول القبر.(49/8)
خطورة الاستخفاف بأوامر الله
أيها الأحبة! وهنا أنقل لكم وهذه صورة من أبشع صور الغفلة، تأمر فتقول: قال الله، أو تنهى فتقول: نهى الله عن كذا، ونهى رسول الله عن كذا، فلا مجيب.
أرى رجلاً يلبس خاتماً من الذهب فأقول له: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس خاتم الذهب للرجال! فيرد علي ويقول: نعم أنا أعلم ذلك! أي استخفاف هذا؟! تقول له: الله عز وجل حرم كذا، فيقول: نعم أعلم ذلك، الله عز وجل نهى عن كذا، فيقول: أعلم.
يعلم ولا يطبق ولو قال: سل الله عز وجل لي أن يهديني، وأن يردني إلى الحق لدعونا الله عز وجل له، ولكان ذلك أدعى للقبول، أما أن تقول: أنا أعلم! بكبر وبصوت مرتفع وكأن الأمر لا يعنيك! وأنا أتحداك أن تقول لرئيسك في العمل إن نهاك عن شيء: لا، وإن أمرك بشيء أتحداك أن تقول له: لا.
بل ووالله ربما يأمرك بشيء مخالف وتمتثل أحياناً، فالله يأمر وينهى والرسول يأمر وينهى، ولكن أين السمع والطاعة؟! يا من زعمت أنك ممن أحسنوا الظن بالله، أين العمل أين السمع أين الامتثال للأمر أين الاجتناب للنهي أين الوقوف عند الحدود؟ لماذا هذا الاستخفاف بأوامر الله تعالى؟ بل تجد الرجل يرمي الشريعة الربانية المحكمة بالجمود والقصور والتخلف والرجعية، والله عز وجل يخاطب نبيه المصطفى ويقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
إن امتثلت أمر الله في شرعه فأنت المؤمن الذي سمع وأطاع، وإن سمعت وأعرضت فهذا هو دأب المنافقين -أسأل الله أن يحفظنا وإياكم من النفاق- قال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
إن الذي يعرض ويصد عن سبيل الله هو المنافق بنص القرآن وإن أظهر للناس بلسانه وبيانه غير ذلك، فالله عز وجل هو الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وأود أن أنبه: أن من يختزل الدين والشريعة كلها في الحدود إنسان لا يحترم عقله ولا يحترم شخصه، وأرجو من كل منصف أن لا يختزل دين الله في الحدود؛ لأننا إذا ما ذكرنا بالشريعة رد علينا: تريدون أن تقطعوا الأيدي؟! تريدون أن ترجموا الناس؟! تريدون كذا وكذا؟! أقول: إن اختزال الشريعة أو الدين في الحدود أمر لا يقول به منصف يحترم علقه ونفسه، فما الحدود إلا باب من أبواب المعاملات، وما المعاملات إلا باب من أبواب الشريعة، بل إن إقامة الحدود في دين الله وفي شريعة الله لها ضوابط وشروط، وليس الأمر هكذا على إطلاقه وعواهنه، وهذا أمر مؤصل في كتب الفقه لأئمتنا وعلمائنا.
إن الاستخفاف بأوامر الله عز وجل ينافي الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
قال الإمام ابن القيم: إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل، فكيف بمن قدم العقل على قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنا أقول: كيف لو عاش ابن القيم في زماننا ورأى من لا يقدم قوله وعقله وفكره على قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل يتهم شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بالجمود والقصور والرجعية، وعدم قدرتها على مسايرة هذه المدنية؟! ماذا يقول؟! إن رفع الصوت فقط على النبي صلى الله عليه وسلم يحبط العمل، فكيف وقد اتهمت شريعته الربانية المحكمة؟! إن الاستخفاف بأوامر الله من أبشع صور الغفلة في هذه الأيام وفي هذا الزمان، وهذه الغفلة التي تتمثل في هذا الاستخفاف تتنافى ابتداءً مع أصل الإيمان: مع الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] هذا شعار أهل الإيمان، أن يقولوا: (سمعنا وأطعنا)، أما شعار المستخفين بأوامر الرحيم الرحمن: (سمعنا وعصينا أعلم أن هذا حلال وأعلم أن هذا حرام)، لكنه لا يفعل ولا ينتهي فالاستخفاف من أبشع صور الغفلة ولا حول ولا قوة إلا بالله.(49/9)
خطورة الغفلة عن الغاية
أيها الأحباب! إن الغاية التي من أجلها خلقنا هي عبادة الله وحده، والناس غافلون عنها الآن إلا من رحم ربك.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
هذه هي الغاية التي من أجلها خلقت، ما خلقك الله عز وجل إلا لطاعته وعبادته، وإن أنعم الله عليك بالزوجة وبالأولاد وبالمنصب والأموال، فيجب أن تسخر هذا من أجل الغاية التي من أجلها خلقت، فلو عشت لهذه الغاية فاستعمل كل الوسائل للوصول إلى هذه الغاية، لكن إن ضيعت الغاية وعشت بلا غاية فسيضيع عمرك في غير طاعة، وكم من الناس الآن ينتسبون إلى الإسلام ولا يعيشون لهذه الغاية، بل لا يعرفون شيئاً عن هذه الغاية! ألم تسمعوا قول هذا المتسكع التائه الضائع الذي يقول: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟! كيف أبصرت طريقي؟! لست أردي ويقطع الطريق كالسائمة كالبهيمة لا يعرف لحياته معنى ولا لوجوده غاية، جهل الغاية وضل طريقها، فهو يتسكع كالبهيمة، ولقد قال الله عز وجل في هذا الصنف الغافل عن الغاية: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فيها أيها المسلم! ويا أيتها المسلمة! لابد أن نضع الغاية نصب أعيننا فإننا نعيش من أجل هذه الغاية من أجل طاعة الله وعبادته وحده، ومن أجل الآخرة، فلنسخر كل وسيلة من وسائل هذه الحياة الدنيا من أجل هذه الغاية، فإن كنت صاحب منصب إن عشت للغاية فستفكر كيف تسخر منصبك وكرسيك لطاعة الله، وكيف يقودك هذا الكرسي إلى رضوان الله وجنة الله.
أما إن غفلت عن الغاية وجلست على الكرسي فلن تتورع عن ظلم العباد، ولن تتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، ولن تتورع عن نهب المال العام الذي أصبح الآن سمة من سمات هذا العصر الذي فسد فيه من كلفوا بالرعاية، ورحم الله من قال: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الراعاة لها الذئاب ضل عن الغاية وما فكر فيها، وظن أن هذه الحياة أبدية سرمدية، فقال لنفسه: أدركي الوقت قبل فوات الأوان، أنفقت كذا وكذا في الدعاية الانتخابية، أدركي الوقت لتحصلي هذا المبلغ وأضعاف أضعافه.
يقول: وجلست على هذا الكرسي وأنا لا أضمن كم سأمكث عليه، فهيا لأقتنص هذه الفرصة وأغنم ولو من الحرام! أيها الأحباب! ما قال هذا إلا لأنه لا يفكر في الغاية، وظن هذا المسكين أنه سيأخذ هذا إلى قبره، ونسي قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: ماله وولده وعمله، فيرجع اثنان: يرجع المال والأهل، ويبقى العمل) فلن ينفعك بين يدي الله إلا العمل الصالح فلا تغفل عن هذه الغاية، ولا تغفل عن طاعة الله.
ويوم أن عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغاية وعاشوا من أجلها، سادوا في الدنيا والآخرة، يقول ربعي بن عامر لقائد الجيوش الكسروية رستم، ليعلمه الغاية التي من أجلها وجدوا ولها خلقوا: (إننا قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
فلتعش أخي لهذه الغاية ولا تغفل عنها لأنك لو عشت لغاية لحددت الهدف وحددت الطريق، ولو غفلت عن الغاية ستنطلق في الطريق جاثماً على وجهك لا تدري إلى أين تذهب وإلى أين ترجع، فاعمل للغاية تفز وتسعد.
أسأل الله عز وجل أن يقينا ويقيكم حر جهنم، وأن يكتب لنا هذا الوقت في ميزان حسناتنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(49/10)
ففروا إلى الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! فروا إلى الله.
ها هو شهر رمضان قد أهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزكية، وأحببت أن أذكر بهذه الفرصة نفسي وأحبابي وإخواني وأخواتي بالفرار إلى الله قبل رمضان.
فالفرار نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء: أما فرار السعداء فهو الفرار إلى الله، وأما فرار الأشقياء فهو الفرار من الله، ومع ذلك فلا ملجأ ولا ملاذ من الله إلا إليه.
أين يذهبون؟! أين يفرون من الله عز وجل؟! أخي! بادر بالفرار إلى الله بادر بالتوبة إلى الله عز وجل، واعلم: (بأن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)، والحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى.
سينتهي زمن التوبة يوم أن تطلع الشمس من مغربها، فإن عاد الكافر إلى الله في ذلك اليوم فلا يقبل الله منه الإيمان، وإن عاد العاصي فلا يقبل الله منه التوبة.
تدبر معي هذا الحديث لتعلم أهمية التوبة ووجوبها، فقد ورد في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الشمس تغرب يوماً فقال لأصحابه: أتدرون أين تذهب هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال المصطفى: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي وارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها -أي: من المشرق- ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة لله جل وعلا، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي، وارجعي من حيث جئتِ).
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فلا تزال كذلك لا يستنكر الناس منها شيئاً)، أي: تشرق من المشرق كل صباح وتغرب في المغرب، ولا يستنكر الناس منها شيئاً.
قال المصطفى: (حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، قال: أتدرون متى ذلك؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً) فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق باب التوبة.
فيا عبد الله! الباب مفتوح لك الآن على مصراعيه فبادر بالتوبة، قبل أن يأتي يوم يغلق فيه باب التوبة، فلا يقبل الله الإيمان من كافر ولا يقبل الله التوبة من مذنب عاصٍ.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة) فإذا طلعت الشمس من المغرب أغلق الله باب التوبة، فهيا عد إلى الله عز وجل أيها اللاهي!! أيها العاصي!! بل أيها المؤمن: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
أيها الحبيب! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً.
اللهم إنا قد أقبلنا إليك وطرحنا قلوبنا بذل وانكسار بين يديك، فاللهم لا تردنا اليوم خائبين يا أرحم الراحمين! اللهم ردنا اليوم جميعاً بذنب مغفور وسعي مشكور وتجارة لن تبور.
اللهم إنا نقر لك الآن بين يدي رمضان بذنوبنا وأخطائنا، فاللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم فك أسرنا، اللهم تول أمرنا، اللهم تول أمرنا وفك أسرنا، اللهم اختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها يا مولانا! أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته ولا عاصياً بيننا إلا هديته.
اللهم لا تدع عاصياً بيننا إلا هديته، اللهم لا تدع عاصياً بيننا إلا هديته، اللهم لا تدع سائلاً بيننا طامعاً إلا زدته وثبته، اللهم لا تدع سائلاً بيننا طامعاً إلا زدته وثبته! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، إلهنا لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى، ويا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف، يا دائم المعروف أنقذنا من الهلاك والحسرة! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/11)
جرائم بشعة
من الجرائم البشعة المنتشرة في أوساط كثير من الفساق الغافلين: جريمة الزنا، وهي جريمة من أخطر الجرائم التي تهلك الأفراد والمجتمع والأمة، فآثارها خطيرة، وأضرارها كبيرة، ومفاسدها عديدة، ولذا اتفقت الشرائع السماوية على تحريمها.(50/1)
جرائم زنا وقتل تدق أجراس الخطر
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نسأل الله أن يحيي الوجوه الطيبة المشرقة، ويزكى الأنفس، ويشرح الصدور، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وأحبتنا في هذه الدنيا على طاعته أن يجمعنا وإياهم في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتى في الله! جرائم بشعة تدق أجراس الخطر في آذان المسلمين جميعاً، وتقرع الآذان بشدة وقوة، وهى تقول: أفيقوا أيها المسلمون؛ فإن ما تعيشون فيه من ضنك وشقاء إنما هو نتيجة حتمية عادلة لانحرافكم عن منهج ربكم، وبتنحيتكم لشريعة نبيكم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
تلك الجرائم التي صدمت آذاننا وأفزعت قلوبنا في الأيام القليلة الماضية هي جرائم زنا، يعقبها جرائم القتل، فهذا الذي دخل على أخته فوجدها بين أحضان مدرسها الخصوصي، فأخذته الغيرة فقتل أخته، وقتل المدرس معها.
وهذه المرأة الفاجرة التي دخل عليها أبوها فرآها تمارس الفاحشة مع شاب آخر، فما كان من هذه البنت ومن هذا الشقي إلا أن انقضا على هذا الوالد المسكين الذي صدم قلبه وكاد بصره أن يخطف يوم أن رأى فلذة كبده وثمرة فؤاده تمارس الفاحشة، وقد وصل إلى أذنه هذا الخبر من قبل، فانقضت عليه هذه البنت مع عشيقها فقتلاه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ما هذا الذي نسمع؟! وما هذا الذي يجري؟! وما هذا الذي يحدث يا عباد الله؟! إن الإسلام دين الفطرة، إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة أبداً ولا يستقذرها، وإنما ينظمها ويطهرها ويرقيها إلى أسمى المشاعر التي تليق بالإنسان كإنسان.
ولا يجوز للداعية الواعي أن تكون خطبته في واد وأن يكون مجتمعه بما يعج من منكرات في واد آخر، وإنما يجب على الدعاة الصادقين وعلى العلماء الربانيين أن يسلطوا أضواء القرآن، وأن يسلطوا شعاع السنة على جرائم مجتمعاتهم؛ ليبينوا لأبناء هذه الأمة سبب الداء، وليشخصوا لهم الداء وليصرفوا لهم الدواء، والداء والدواء في آية واحدة من كتاب الله، اسمع لربك جل وعلا وهو يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126].
ولن تكون هذه الجرائم التي نشرتها جرائدنا الغراء في الأسبوع الماضي هي الأخيرة، كلا، بل ورب الكعبة سوف نسمع أبشع من هذا ما دام الناس يتلقون تربيتهم وتعاليمهم عن العلمانيين والساقطين والراقصين والتافهين، وقد تركوا تعاليم رب العالمين، ونَحّو شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، لن تكون هذه الجرائم آخر المسلسل، وإنما هي لبنة في بناء عفن، وهي حلقة في مسلسل آسن، وهي حلقة في سلسلة طويلة لم تنته ولن تنتهي حتى يعود الناس من جديد إلى قرآن ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون! الإسلام دين الفطرة، الإسلام دين الله الذي خلق الرجل والمرأة على السواء، وهو الذي يعلم سبحانه وتعالى ما يصلح المجتمع، وما يسعد الفرد وما يسعد الجماعة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(50/2)
الإسلام يأخذ على يد المفسد
الإسلام يحرص على أن يهيئ المناخ الصالح لكى يتنفس الفرد المسلم في جو اجتماعي طاهر نظيف، ثم يعاقب الإسلام بعد ذلك -وبمنتهى الصرامة والشدة- كل فرد ترك هذا الجو النظيف الطاهر النقي وراح ليتمرغ في وحل الجريمة الآثم طائعاً مختاراً غير مضطر، لا يرخي الإسلام العنان لكل أحد لينطلق ليعيث في الأرض فساداً، فينتهك الحرمات، ويتعدى على أعراض النساء المؤمنات، ويروع البيوت الآمنة المطمئنة، لا يرخي الإسلام العنان للفرد ليفعل هذا كله، وإنما إذا لم تجدِ في الفرد التربية ولم تؤثر فيه الموعظة ولم يلتفت الفرد إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله وإلى كرامة أبناء المجتمع الذي يعيش بينهم، إذا لم يراع المسلم أو الفرد كل هذا، وانطلق لينتهك العرض والحرمة فإن الإسلام يأخذ على يديه بمنتهى الصرامة والشدة؛ لتعيش الجماعة كلها آمنة هادئة مطمئنة، وهذه هي الرحمة في أسمى معانيها.
أرأيتم لو أن إنساناً من الناس أصيب بمرض السرطان - أعاذنا الله منه وإياكم- في طرف من أطرافه، وقرر الأطباء المتخصصون أنه لابد من بتر هذا الطرف حتى لا يسري المرض في جميع أجزاء الجسم، هل يأتي عاقل ويقول: لا؛ إنها وحشية، إنها بربرية، إنها غلظة وقسوة، لا تقطعوا هذا الطرف؟ لا والله، وإنما سيأتي أقرب الناس إلى المريض، وسيأتي أحب الناس إليه وينصحه ويشجعه على قطع ذلك الطرف، ويقول له: أسأل الله لك التوفيق، وأسأل الله لك الثبات مع أنه يعلم أنه ذاهب إلى غرفة العمليات ليقطع طرفاً عزيزاً لديه وحبيباً عنده، لكنه يعلم أن بتر هذا الطرف سيضمن الحياة -بإذن الله جل وعلا- لبقية الأطراف، إنها الرحمة بعينها.
كذا -الفرد أيها الأحبة! - إذا لم تؤثر فيه تربية ولم تؤثر فيه موعظة ولم يراع حرمة مجتمع يعيش فيه وانطلق ليعيث في الأرض فساداً بانتهاك الحرمات والأعراض فإن الإسلام يأخذ على يديه بمنتهى الشدة والصرامة؛ ليزول الفرد العفن السرطاني، ولتبقى الجماعة كلها هادئة آمنة مطمئنة، ومن ثم جعل الإسلام أبشع جريمة على ظهر هذه الأرض بعد الشرك بالله وقتل النفس الزنا، فقال سبحانه في سياق صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فجاء به بعد الشرك والقتل مباشرة {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71].
نعم -أيها الأحبة الكرام! - إن المرأة -والعياذ بالله- إذا زنت وضعت رأس زوجها، بل ورؤوس أهلها في الوحل والطين والتراب، فإذا خافت المرأة الفضيحة والعار وكانت متزوجة أو كانت بكراً قتلت ولدها من الزنا فوقعت في كبيرتين: كبيرة الزنا وكبيرة القتل والعياذ بالله.
وإذا كانت المرأة متزوجة وخانت زوجها الذي انطلق بعيداً ليأتيها بالطعام والشراب ولينفق عليها من المال الحلال الطيب فقد خانت هذا الزوج المسكين، وحملت من الزنا وأبقت على ولدها من الزنا، ونسبت هذا الولد لزوجها المسكين المخدوع، وأدخلت هذه المرأة الخائنة على بيتها ولداً أجنبياً عنهم، فعاش بينهم وهو أجنبي عنهم، وخلا ببناتهم ولا يحق له ذلك، بل وورث أموالهم بعد موت المورث وليس له حق في ذلك، وهكذا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تهدم البيوت، وتدفن الفضيلة، وتنهار المجتمعات.
وإذا زنى الرجل اختلطت الأنساب، وتأججت نار الأحقاد في القلوب، وانطلق هذا الذي زني بأهله أو ببنته أو بزوجته أو بأمه وقد نكس رأسه في الوحل والطين والتراب، هذا إن ترك الزاني يمشي أمام عينيه وبين يديه ولم يفكر في قتله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إنه الانحراف عن دين الله، إنه الانحراف عن منهج الله، إنه التحدي لشريعة الله جل وعلا، ووالله ستدور الأمة في هذه المتاهات العفنة الآسنة ما دامت الأمة قد تحدت شريعة الله، وما دامت الأمة قد نَحَّت شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، ولكن العلمانيين القذرين يقولون: ولكم في القصاص وحشية وبربرية، دعوكم من هذه القوانين الجامدة، إن هذه الحدود إنما أنزلت لأناس كانوا يعيشون في أرض الجزيرة كانوا يتَّسمون بالغلظة والقسوة والفظاظة، وكانوا يركبون الناقة والحمار، ولكننا الآن نعيش عصر الحضارة وعصر المدنية وعصر التطور، عصر الصاروخ والقنبلة النووية، فدعوكم من هذه القوانين البربرية الوحشية، وتعالوا بنا لنقنن لأنفسنا من دون الله.
يقول الله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، ويأبى العلمانيون إلا أن يقولوا: إن الحكم إلا لمجلس الشعب، الله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] ويأبى العلمانيون إلا أن يقولوا: إن الحكم إلا للبيت الأبيض، أو للبيت الأحمر أو للبيت الأسود فوقعت الأمة في الضنك والشقاء، ولن تخرج من هذا البلاء وهذا المستنقع الآسن إلا إذا نفضت عن كاهلها غبار هذه القوانين الوضعية الفاجرة الكافرة وعادت من جديد إلى كتاب ربها وسنة الحبيب نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
أيها المسلمون! أيها الآباء! أيتها الأمهات! أيها الشباب! أيتها البنات! والله الذي لا إله غيره ما شرع الإسلام ما شرع إلا لتبقى المرأة المسلمة درة مصونة ولؤلؤة مكنونة لا يمسها إلا زوجها، ولا تنظر إليها عين زانية، حفظ الإسلام كرامتها، وأمرها بالحجاب، وأمر الرجل بغض البصر، وأمر الرجال والنساء بتخفيف مئونة الزواج، ووضع من الضمانات الوقائية ما يضمن به أن يعيش الرجل والمرأة في ظل مجتمع نظيف طاهر نقي، ثم بعد ذلك يعاقب من ترك هذه الضمانات الوقائية العظيمة وذهب ليتمرغ في أوحال المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر.(50/3)
أحاديث تحذر من جريمة الزنا
أيها الأحبة الكرام! تدبروا معي هذه الأحاديث التي بين المصطفى فيها جريمة الزنا وخطر الزنا وبشاعة الزنا، فقال صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) قال عكرمة: قلت لـ ابن عباس: كيف ينزع منه الإيمان؟ فقال ابن عباس: هكذا -وشبك ابن عباس بين أصابعه-.
ثم قال: فإن زنى أو شرب الخمر نزع منه الإيمان هكذا، فإن تاب وعاد إلى الله عاد إليه الإيمان هكذا مرة أخرى.
وروى ذلك أبو داود والحاكم مرفوعاً، قاله الحافظ ابن حجر في الفتح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إذا زنى الرجل أو شرب الخمر نزع الإيمان منه كما ينزع الإنسان القميص من رأسه، فإن تاب إلى الله وعاد إلى الله عاد إليه الإيمان وقبل الله منه التوبة)، وهذا هو المحك الحقيقي بين أهل السنة وفرق الضلال الأخرى التي كفرت مرتكب الكبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي صحيح مسلم وسنن النسائي من حديث أبي هريرة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر) أي: فقير متعال مستكبر، وشيخ قلت عنده الشهوة، وضعفت عنده الرغبة لهذا الأمر، وعلى الرغم من ذلك ذهب ليتمرغ في أوحال هذه الفاحشة، والملك الكذاب ليس في حاجة إلى أن يكذب، فهو يستطيع أن يأمر هذا أن يفعل كذا، ويستطيع أن يأمر ذاك أن يفعل كذا، فما الذي يعوزه إلى الكذب؟ وعائل فقير، وبالرغم من ذلك يتعالى على الناس ويتكبر على خلق الله جل وعلا، قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث): -يعني: لا يجوز أن يقتل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا إذا كان واحداً من ثلاثة: (الثيب الزاني)، والثيب هو المحصن، والمحصن هو الذي وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل (والنفس بالنفس)، فالقاتل عمداً يقتل من قبل ولي الأمر المسلم، (والتارك لدينه المفارق للجماعة) المرتد، ووالله لو أن شرع الله يقام اليوم في أرض الله لقتل الكثير من هذه الأصناف، فلقد كثرت هذه الأصناف الثلاثة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وفي الصحيحين أيضاً في الحديث الطويل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن جبريل وميكائيل عليهما السلام جاءاه في يوم من الأيام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا: (فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -والتنور: هو الفرن توقد تحته النار- وفيه رجال ونساء عراة، أعلاه ضيق وأسفله واسع تلتهب فيه النار، إذا ارتفعت النار ارتفعوا معها، وإذا أخمدت النار رجعوا معها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشهد البشع قال: يا جبريل! من هؤلاء؟ فقال جبريل: هؤلاء هم الزناة والزواني، وهذا عذابهم إلى يوم القيامة).
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين.
رجل دعته امرأة -أي: للزنا وليفعل بها الفاحشة- فتذكر الله جل وعلا، وتذكر الجنة والنار، وتذكر زوجته، وتذكر ابنته، فقال: إني أخاف الله رب العالمين.
هذا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
أيها الأحبة الكرام! ترك الزنا سبب من أسباب تفريج الكرب والهم والغم، كما في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، فقد خرج ثلاثة نفر، فدخلوا غاراً، فسقطت صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، فقالوا: لا ملجأ لنا إلا أن نلجأ إلى الله بصالح أعمالنا.
فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكانت أحب الناس إليَّ، فراودتها عن نفسها فأبت -أي: طلبت منها الفاحشة فأبت-، حتى ألمت بها سنة من السنين -أي: وقعت في شدة وضيق- فجاءتني تطلب مني المال فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، فلما جلست منها كما يجلس الرجل من زوجته قالت لي: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
فتذكر هذا الرجل وتدبر، وارتعد قلبه، وأرخى عليها ثيابها.
قال: وقامت وهي أحب الناس إلى قلبي، ثم توجه إلى الله جل وعلا وقال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة بأمر الله جل وعلا؟ إن ترك الزنا من أعظم أسباب تفريج الكربات في الدنيا، بل وفي الآخرة، وقد شدد القرآن غاية التشديد في جريمة الزنا، فقال الله جل وعلا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، ويزيد القرآن في تبشيع وتفظيع هذه الجريمة، فيقول الله جل وعلا: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].(50/4)
حد الزاني البكر والمحصن وأقوال العلماء في ذلك
أيها الحبيب! للعلماء في حد الزاني تفصيل ونزاع، وهذا شرع الله جل وعلا الذي يعرض عنه أهل العلمنة.
الزاني إما أن يكون بكراً أو محصناً، والبكر هو الشاب الذي لم يتزوج، والمحصن هو الرجل الذي وطئ في نكاح شرعي صحيح وهو حر عاقل بالغ، فإن كان الزاني بكراً فحده عند الله -جل وعلا- أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب عاماً عن بلده، أي: ينفى عاماً عن بلده.
وهذا هو رأي الجمهور، وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة، فقال: يجلد فقط، ويبقى التغريب للإمام، فإن شاء الإمام -أي: وليَّ الأمر المسلم- غرب وإن شاء لم يغرب.
ولكن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، واستدل الجمهور على ذلك برواية في الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه وقال: يا رسول الله! اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي -أي: وائذن لي أن أبين حجتي ابتداءً فأذن له المصطفى فقال الرجل: إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا -يعني: كان أجيراً عند هذا- فرأى امرأته فزنى بها، فافتديت ولدي بمائة شاة وخادم -أي: دفعت لهذا الرجل مائة شاة وخادماً لأفتدي ولدي-، ثم سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم.
فقال المصطفى: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل، المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.
ثم قال: يا أنيس -صحابي من الصحابة- اغد إلى امرأة هذا -أي: انطلق في الصباح إلى امرأة هذا الرجل- فإن اعترفت بالزنا فارجمها.
فغدا أنيس إلى هذه المرأة فاعترفت بالزنا فرجمها).
فالشاهد من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على هذا الشاب الذي لم يتزوج وقد ارتكب جريمة الزنا بالجلد وبالتغريب، فالبكر حده أن يجلد مائة جلدة وأن يغرب، أي: أن ينفى عاماً كاملاً.
أما المحصن الذي وطئ في نكاح شرعي صحيح فحده أن يرجم حتى الموت، هذا حكم الله عز وجل، وهذا شرع الله عز وجل، ووالله لو علمنا فضل الشرع ما حِدْنا عنه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
وفي الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وقال: أيها الناس! إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وكان مما أنزل الله عليه فيه آية الرجم، فعقلناها ووعيناها وعملنا بها، فرجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: إنا لا نجد آية الرجم في كتاب الله جل وعلا.
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله سبحانه.
وفي لفظ الإمام مالك قال عمر: (ووالله لولا أني أخشى أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها في المصحف بيدي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة.
أي: المحصن والمحصنة.
ويعلق الإمام الشنقيطي رحمه الله على هذا الحديث ويقول: وآية الرجم نسخت تلاوتها، وبقي حكمها لم ينسخ، فهي آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
فهذا حد الزاني المحصن الثيب الذي تزوج زواجاً شرعياً صحيحاً وهو حر عاقل بالغ فترك هذا اللحم الطيب، وذهب ليأكل ذاك اللحم النيء الخبيث.
قال الإمام أحمد: إن الزاني المحصن يجلد ويرجمه، وخالف جمهور أهل العلم، كما خالف أبو حنيفة جمهور أهل العلم كذلك، خالف الإمام أحمد الجمهور فقال: الزاني المحصن يجلد ويرجمه، واستدل على ذلك بحديث في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت، ولكن الراجح أن حديث عبادة كان في أول الأمر ثم نسخ، وبقي حكم الرجم فقط للزاني المحصن، واستدل جمهور أهل العلم على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المحصن فقط ولم يجلده قبل الرجم، ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث بريدة أن ماعز بن مالك رضي الله عنه جاء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! طهرني.
وانتبه لهذا الحديث، فقد جاء ماعز بنفسه، لم يأت به بوليس الآداب، ولم يأت به جندي من الشرطة، وإنما جاء يسعى على قدميه إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! طهرني، سبحان الله! لم يرك أحد يا ماعز، فما الذي جاء بك يا ماعز؟ انطلق واهرب يا ماعز! لا؛ فإن هربت اليوم في الدنيا، وإن هربت من رسول الله في الدنيا فلن أستطيع أن أهرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض.
هذا هو الحد الفاصل بين أن نربي أبناءنا على مراقبة القانون الوضعي الأعمى وبين مراقبة الحي الذي لا ينام: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).(50/5)
مراقبة الله
نريد أن نربي القلوب على مراقبة علام الغيوب، أراد أحد الأساتذة الكرام أن يربي طلابه على مراقبة الله جل وعلا تربية عملية على أرض الواقع، فدفع لكل تلميذ من تلامذته دجاجة أو طائراً، وقال: ليذهب كل تلميذ وليذبح هذا الطائر في مكان لا يراه فيه أحد.
فذهب كل تلميذ بطائره في مكان يغيب فيه عن أعين الناس، ثم ذبح كل طالب طائره وعاد به إلى أستاذه، ونظر الأستاذ فوجد تلميذاً نجيباً قد جاء بطائره ولم يذبحه، فقال له: لماذا لم تذبح طائرك؟ فقال: يا أستاذي! لقد طلبت منا أن نبحث عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت إليه إلا ورأيت أن الله يراني، فأين أذبحه؟! إنها مراقبة الله.
إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم أينما كانوا بسمعه، معهم أينما كانوا ببصره، معهم أينما كانوا بعلمه، ولا تقل: معهم أينما كانوا بذاته.
فلا تحيز ذات الله، ولا تجعل ذات الله في أماكن الأوحال والنجاسات والقاذورات.
وقال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46]، أي: إني معكما بسمعي وبصري فلا تخافا، ومن كان الله معه فمن يكيده؟ ومن يقف ضده؟ فمعه الحارس الذي لا ينام، ومعه الهادي الذي لا يضل، ومعه الفئة التي لا تقهر، ومعه القوة التي لا تهزم، {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
أمسك أعرابي امرأة في الصحراء وأراد أن يفعل بها الفاحشة، فأرادت هذه المرأة الورعة أن تعلمه درساً من دروس المراقبة، فقالت له: اذهب وانظر هل نام الناس جميعاً في الخيام؟ فانطلق سعيداً بمعصية سيعقبها الندم، وسيعقبها الغضب، انطلق سعيداً ليفتش وليبحث، ثم عاد إليها قائلاً: اطمئني نام الناس جميعاً، ولا يرانا إلا الكواكب فقالت المرأة المعلمة: وأين مكوكبها؟! أين الله الذي لا يغفل ولا ينام؟! أين الحي القيوم الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم؟!(50/6)
قصة ماعز بن مالك
جاء ماعز بن مالك بنفسه على قدميه إلى الحبيب المصطفى ليقول: يا رسول الله! طهرني.
والعلمانيون يقولون: انظروا إلى الإسلام المتعطش للدماء، انظروا إلى الإسلام المتعطش لإقامة الحدود، انظروا إلى الوحشية، انظروا إلى البربرية! كما يتغنى بذلك أهل العلمنة أذناب الشرق الملحد والغرب الكافر، لقد جاء الرجل بنفسه وهو يقول: يا رسول الله! طهرني، والحبيب المصطفى يقول: (ويحك ارجع استغفر الله وتب إليه)، لم يقم النبي عليه الحد، لم يقل النبي: امسكوه قبل أن يهرب.
كلا كلا، الإسلام دين الرحمة، الإسلام أخبرنا أن الله أدخل بغية زانية الجنة؛ لأنها رحمت كلباً فسقته الماء، ويخبرنا الإسلام أن امرأة دخلت النار لأنها حبست هرة ومنعت عنها الطعام والماء، الإسلام دين الرحمة والشفقة حتى في الكلاب وفي القطط وفي الطيور وسائر الحيوانات، الإسلام ما كان ولن يكون ديناً متعطشاً للدماء كما يتغنى بذلك أهل الشرق وأهل الغرب لا والله، بل اسألوا الإسلام عن الأمان، اسألوا الإسلام عن الأمن، اسألوا الإسلام عن الرحمة، اسألوا الإسلام عن الشفقة، اسألوا الإسلام عن العفو، اسألوا الإسلام عن الكرم، بل اسألوا اليهود والنصارى الذين عاشوا في كنف الإسلام سنوات طوال، اسألوهم عن رحمة الإسلام، وعن عظمة الإسلام، وعن شفقة الإسلام؛ لتعلموا علم اليقين أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بعث بهذا الدين إلا كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
قال له النبي: (ويحك! ارجع استغفر الله وتب إليه)، فرجع ماعز غير بعيد، ثم جاء مرة ثانية وقال: يا رسول الله! طهرني.
قلبه يعتصر، هو لا يخالف رسول الله، وإنما يريد أن يطهر نفسه بين يدي الله جل وعلا الذي سمعه ورآه، قلوب حية تغلي من شدة الخوف من الله جل وعلا، فقال له النبي للمرة الثانية: (ويحك ارجع استغفر الله وتب إليه)، فرجع ماعز بن مالك غير بعيد، ثم جاء إلى المصطفى للمرة الثالثة وقال: يا رسول الله! طهرني.
فقال المصطفى: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه)، فرجع ماعز غير بعيد، ثم جاء في المرة الرابعة فقال: يا رسول الله! طهرني.
قال: (ممّ أطهرك يا ماعز؟ قال: من الزنا.
فسأل النبي أصحابه: أبه جنون؟ قالوا: لا يا رسول الله، ليس مجنوناً.
قال: أو شرب الخمر فلعبت الخمر برأسه؟ فقام أحد الصحابة فاستنكهه -أي: شم رائحة فمه- فقال: لا يا رسول الله، لم يشرب خمراً.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فرجم، وبعد يومين أو ثلاثة عاد المصطفى إلى المجلس وقال: استغفروا لأخيكم ماعز بن مالك، فقال الصحابة: غفر الله لـ ماعز بن مالك فقال المصطفى: والذي نفسي بيده لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم).(50/7)
قصة الغامدية
جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! طهرني.
فقال لها المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ويحك ارجعي استغفري الله وتوبي إليه)، فقالت المرأة: أتريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك؟ يا إلهي! هل المرأة تقول هذا؟! يقول لها المصطفى عليه الصلاة والسلام: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) فترد المرأة على رسول الله قائلة: أتريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك، إن في بطني حملاً من الزنا فماذا قال الحبيب: أرجم؟ أقتل؟ لا، وإنما قال: (اذهبي حتى تضعين هذا الولد)، فهذا الولد ما جريرته؟ فانطلقت المرأة حتى وضعت ولدها، وجاءت تلفه في خرقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله! طهرني.
جاءت بعد ثمانية أشهر أو أكثر أو أقل، جاءت بعد هذه الشهور الطويلة وما نسيت وما هربت، وما خافت أن تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما جاءت بعد أشهر طويلة تقول: يا رسول الله! طهرني.
فهل أمر النبي برجمها؟ كلا.
سبحان الله! إذاً ماذا فعل؟ قال: (انطلقي وارضعيه سنتين كاملتين حتى تفطميه)، فانطلقت المرأة برضيعها -وهذه في رواية صحيحة في صحيح مسلم- وأرضعته حولين كاملين، وعادت المرأة بعد فطام الولد وهو يحمل كسرة خبز بيده، فقالت: يا رسول الله! هذا ولدي قد فطمته، وها هو يأكل الخبز فطهرني.
بعد سنتين! بل إن شئت فقل: بعد ثلاث سنوات ولم تنس المرأة أن تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها حد الله جل وعلا، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أن ترجم، فيحفر لها وتوضع في الحفرة وترجم، وكان من بين الراجمين خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فرجمها خالد بحجر فانفضخ الدم منها على وجهه، فسبها خالد بن الوليد، فسمع النبي سب خالد لها، فقال: (مهلاً يا خالد! أي: لا تسب هذه المرأة.
ثم قال الحبيب: والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر الله له)، وانظر إلى هذه المنقبة: فقد أمر النبي بها فغسلت وكفنت وصلى عليها المصطفى ودفنها، ويا لها من كرامة أن يدعو لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يصلي عليها نهر الرحمة وينبوع الحنان بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
هذا -أيها الأحبة- هو حد الزاني إن كان بكراً وإن كان محصناً.(50/8)
دعوة للتوبة من الزنا
وأخيراً: أوجه هذا النداء لكل من ارتكب هذه الفاحشة، ولكل من ارتكب هذه الكبيرة، أذكره بهذا النداء الندي الرخي، وبهذا النداء العلوي الرباني الذي يسكب الأمل في القلوب سكباً، الذي يرد البسمة إلى الشفاه، ويرد الأمل إلى القلوب، ويرد الدمعة الحزينة الدائبة إلى العيون، اسمع لنداء ربك الذي خلقك، وهو الذي يعلم ضعفك، وهو الذي يعلم عجزك، وهو الذي يعلم فقرك، وهو الذي يعلم أنك قد تضعف وتزل في وقت من الأوقات، وبالرغم من ذلك ينادي عليك من سمائه وعليائه جل وعلا ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أيها العاصي! أيها المذنب! تب إلى الله جل وعلا، واعلم أن الأصل في الكبائر هو التوبة، وهذا من أروع ما سطره شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إن الأصل في الكبائر هو التوبة ما لم يرفع أمرك إلى ولي الأمر المسلم.
أسأل الله أن يرزق الأمة ولي الأمر المسلم الذي يحكم الأمة بكتاب الله وبشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن لم يرفع أمرك إلى ولي الأمر المسلم فما عليك إلا أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن تلجأ إلى الله، وأن تقلع عن الكبيرة وعن المعصية، وأن تندم على فعلها، وأن تكثر من العمل الصالح والبكاء بين يدي العزيز الجليل جل وعلا، فإن قبل الله جل وعلا منك التوبة سعدت في الدنيا وأسعدك الله بالتوبة الصادقة في الآخرة، فهيا أيها المسلم، وهيا أيتها المسلمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].(50/9)
أحاديث في سعة رحمة الله تعالى
سأذكر بعض الأحاديث التي تذكر بعظيم فضل الله وبسعة فضله سبحانه وتعالى.
وقبل ذلك أقول: أيها الحبيب الكريم! تب إلى الله عز وجل، فأنا أذكر نفسي وإياك، فإن التوبة يؤمر بها العاصي والمؤمن، تب إلى الله سبحانه، واعلم أن الله سيفرح بتوبتك وإن كنت قد ارتكبت جريمة الزنا، عد إلى الله وتب إليه وسيفرح الله بأوبتك، وهو الغني عن العالمين الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
(يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أُدخل البحر).
فضل الله عظيم، ورحمة الله واسعة، فلا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من رحمة الله، وتب إلى الله جل وعلا، واعلم أن الله تواب رحيم، واعلم أن الله غفور كريم، يغفر الذنوب ويقبل التوبة عن عباده.
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاةٍ، فانفلتت منه راحلته فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، إذ به يرى راحلته قائمة عند رأسه وعليها الطعام والشراب) رجل انفلتت منه الدابة وعليها الطعام والشراب فيئس واسستسلم للموت، ونام في ظل شجرة ينتظر أمر الله جل وعلا، فبينما هو كذلك إذا به يرى الدابة واقفة عند رأسه وعليها الطعام وعليها الشراب، فسعد سعادة غامرة، وفرح فرحاً منقطع النظير، فأراد أن يعبر عن شكره لله عز وجل، فقال: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك يقول المصطفى: (أخطأ من شدة الفرح)، هذه الفرحة أنسته نفسه.
فالله جل وعلا يفرح بك إن تبت إليه أعظم من فرحة هذا العبد بعودة راحلته إليه مرة أخرى.
يا من أذنبت في حق الله بالنهار تب إلى الله، ويا من أذنبت في حق الله بالليل تب إلى الله، فإن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ولا يزال ربك كذلك حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه علامة من علامات القيامة الكبرى، فلا تيأس أبداً ولا تقنط من رحمة ولا من عفو الله جل وعلا، اعترف إلى الله بذنبك، وتب إلى الله وقل: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت عليَّ ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني تب إلى الله أيها المسلم وتوبي إلى الله أيتها المسلمة، وتوبوا إلى الله جميعاً -أيها المؤمنون- لعلكم تفلحون، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستر نساءنا وأن يستر بناتنا.
واعلم أيها الحريص على الزنا وعلى انتهاك الحرمات والأعراض أن الزنا دين حتماً ستوفيه.
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرم من يزن في قوم بألفي درهم في بيته يزنى بربع الدرهم إن الزنا دين إذا أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم فيا أيها الشاب: تب إلى الله، وتذكر أمك، وتذكر أختك، وتذكر ابنتك، وتذكر زوجتك، فإن رأيت امرأة مسكينة ضعفت فأعنها على طاعة الله، وأنت -أيتها المسلمة- تذكري القرآن، وتذكري السنة، وتذكري النار، وتذكري الجنة، وتذكري هذا الأب المسكين، وتذكري هذا الزوج المسكين، وتذكري هذه الأسرة التي ستضع رؤوسها كلها في الوحل والتراب.
أيها المسلمون: إن الزنا جريمة كبيرة، وجريمة بشعة تؤجج نار الأحقاد في القلوب، ومن ثم حذر منها علام الغيوب والحبيب المحبوب، صلى الله عليه وآله وسلم.
أسأل الله جل وعلا أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا وإياكم جميعاً صالح الأعمال، اللهم! احفظ نساءنا، اللهم! احفظ بناتنا، اللهم! احفظ بناتنا، اللهم! اجعلهن قرة عين لنا في الدنيا والآخرة، اللهم! أصلح شباب المسلمين، اللهم! أصلح شباب المسلمين، اللهم! أصلح شباب المسلمين، اللهم! من كان من شبابنا طائعاً فزده طاعة على طاعته، ومن كان منهم على معصية فخذ بناصيته إليك يارب العالمين، اللهم! أصلح حكام المسلمين ووفقهم للعمل بكتابك وتحكيم شريعة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم! رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم! رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم! عجل بالقائد الرباني الذي يقود الأمة بكتابك وبسنة نبيك أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم! أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، واشف اللهم! صدور قوم مؤمنين، وانصر المجاهدين في كل مكان يا أرحم الراحمين، اللهم! احمل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم! اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم! اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد الإسلام، اللهم! ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء، اللهم! ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله! هذا، وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(50/10)
حديث الركب
اشتداد ظلمة الليل مؤذن باقتراب الفجر، وإن ما نراه من فتن مدلهمة تعصف بالمسلمين، ومن تسلط أعداء الأمة على رقاب المؤمنين فضلاً عن ثرواتهم وخيراتهم لن يطول، فالليل الحالك قد أزف على الرحيل، بل قد بدأت تباشير الفجر بالظهور، وهذه الصحوة الإسلامية التي عمت بقاع الأرض خير شاهد على ذلك.
فصبراً أيها المسلمون! فما بين المحنة والمنحة إلا غشاء رقيق وهو الصبر.(51/1)
تعريف الركب
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة الكرام! وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! عنوان موضوعنا هو: حديث الركب.
والركب في اللغة: هم أصحاب الإبل في السفر.
وحديث أصحاب السفر حديث متنوع الأطراف، متشعب الموضوعات، وإنما كان اختياري لهذا العنوان: (حديث الركب)؛ لأنني أود أن أتحدث في عدة موضوعات، وهذا يشبه حديث الركب في السفر.
هذه الموضوعات التي سنتناولها -إن شاء الله تعالى- هي: الموضوع الأول: بشريات من القدس ولبنان.
الموضوع الثاني: أحداث الجزائر بين حرمة الدماء وعلامات الاستفهام! الموضوع الثالث: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى محرر بريد (الأهرام).
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].(51/2)
مبشرات من الأحداث الجارية في فلسطين ولبنان
أولاً: بشريات من القدس ولبنان: منذ شهر فقط وقفت على هذا المنبر المبارك لأخطب في المسلمين خطبة الجمعة والتي كانت بعنوان: (بل هم الخنازير) كنت أرد فيها على إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود، الذين تطاولوا على البشير النذير، فصوروه على هيئة خنزير يطأ بقدميه قرآن الملك القدير! ويومها قلت: إننا نستبشر خيراً بقرب الفتح بعدما تطاول اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وقفت الأمة مكتوفة الأيدي! وما سمعنا زعيماً من زعمائها في مؤتمر صحفي قام يذب عن عرض المصطفى؛ فقلت: إذاً: والله نستبشر خيراً؛ لأن الذي سيتولى الدفاع عن المصطفى هو الله، وقد كان، فلم يمض إلا شهر واحد وتحقق ما تمناه كل مسلم ومسلمة، ففي الأسبوع الماضي تزلزلت الدولة العبرية اليهودية الصهيونية زلزالاً مزق قلوب رجالاتها ونسائها، بصورة لم تشهدها دولة إسرائيل منذ قيامها على حد تعبير نتنياهو، تزلزلت دولة إسرائيل بحدوث انفجارات مدوية في مدينة القدس التي تطاول فيها اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت انفجارات على أيدي بعض الفتيات اليهوديات! فسقط ما يزيد على مائتي رجل وامرأة من اليهود ما بين قتيل وجريح.
وأنا أقول: إن هذا هو أول انتقام من الله لنبيه، فلو تدبرت الحدث جيداً ما وجدت وراءه أي مسلم؛ إذ إن الفتيات اليهوديات كنَّ قد خططن لعملية انتحارية في القدس، أو بمعنى أدق لعملية تخريبية في القدس، فشاء الملك الذي لا راد لمشيئته أن تتفجر هذه العبوات الناسفة، فيسقط هذا العدد الذي لم يسقط قبله مثله في دولة إسرائيل لا سيما في مدينة القدس، ووالله الذي لا إله غيره! إنني لأعتقد اعتقاداً جازماً بأن هذا إنما هو انتقام من الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي خذلته الأمة، وما انتصرت له الأمة، وما هذا إلا تضميد لجراح قلوب كثير من الموحدين والموحدات ممن لا يملكون حولاً ولا قوة.
نسأل الله أن يضمد جراحنا، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وبتخريب حصون اليهود المجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبعده مباشرة وقعت حادثة أخرى لم يقع مثلها في تاريخ إسرائيل كله! هذه الحادثة تتمثل في قتل أحد عشر رجلاً من صفوة جنود وضباط الجيش الأمريكي من قوات الكومندوز، ومن قوات البحرية الأمريكية بعد إنزال فاشل تعدى خطوط العدو على حد زعم اليهود، أي: في جنوب لبنان، فقتلوا تقتيلاً وجهاً لوجه، وأصيبت إسرائيل بصدمة بالغة ظلوا طيلة ذلك اليوم في حيرة وفي دهشة! إذ لم يحدث مثل هذا من قبل في تاريخ الدولة الإسرائيلية، فقلت: هذا هو الانتقام الثاني من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وإنها بشريات! ولا زالت البشريات مقبلة، بل إنني أستبشر خيراً بقرب الفتح، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه في (الصارم المسلول على شاتم الرسول): حدثني العدول من أهل الفقه والخبرة ممن كانوا يحاصرون بني الأصفر، أي: الروم، يقولون: كان الحصن يستعصي علينا، فيعجز المسلمون المحاصرون عن فتحه، يقولون: حتى إذا ما وقعوا في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم استبشرنا خيراً بقرب الفتح مع امتلاء قلوبنا غيظاً مما قالوه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نستبشر خيراً بقرب الفتح -إن شاء الله- بعدما تطاول اليهود المجرمون ووقعوا في عرض النبي صلى الله عليه وسلم، في الوقت الذي خذلت فيه الأمة كلها رسول الله! إلا من رحم ربك من أفراد لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة.
أسأل الله جل وعلا أن يملأ قلوب وبيوت اليهود ناراً، وأن يملأ قلوبهم نكداً وحزناً وهماً وغماً، كما مزقوا قلوب الموحدين والموحدات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(51/3)
المستقبل للإسلام
أيها الشباب! أبشروا، والله إنني ألمح نور الفجر يأتي بعد هذا السواد الحالك، إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم، بل إنني ألمح من خلال فهمي لسنن الله الربانية في الكون أن الله جل وعلا يهيئ الكون كله لأمر أراده، ولأمر وعد به الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فقد روى أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي والمنذري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بشر هذه الأمة بالسناء والتمكين والنصر)، فالنصر في نهاية المطاف لأمة النبي صلى الله عليه وسلم ولو طال الطريق.
فيا شباب! أرجو أن تخرجوا من هذه الهزيمة النفسية المدمرة، وإن كان الواقع أمامنا أليماً ومراً، لكن إياك أن تنهزم نفسياً، وأن تعتقد أنه لا نصرة ولا فجر لهذا الليل الطويل الدامس، بل إن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وأمة الإسلام ما ماتت، وإن كان صحيحاً أنها مرضت، ونامت، وطال ركودها، ولكنها ما ماتت ولن تموت -بإذن الله- كما وعد الله، وكما وعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الشاعر: لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرجُ وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً حرة رغم المكائد تخرجُ إن الصحوة في مشارق الأرض ومغاربها يمدها كل يوم، بل كل ساعة شباب في ريعان الصبا، وفتيات في عمر الورود، وإن الأعداد التي تجتمع في المحاضرات واللقاءات لهي أصدق دليل على عودة شباب ورجال ونساء هذه الأمة إلى الله جل وعلا، فإننا نرى الأمة الآن في جل شبابها قد ولى ظهره لتل أبيب، وواشنطن، وبانكوك، ومدريد، وباريس، وولى وجهه مرة أخرى نحو المسجد الحرام، فلو ذهبت إلى حج بيت الله أو إلى العمرة لوجدت جل من يطوف ببيت الله جل وعلا هم من شباب هذه الأمة، أسأل الله أن يكثر من أمثالهم في الخير، وأن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين: صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا ما أمر هذي الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافياً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانع الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا! أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخاً ولسوف تبقى باتباعك أسمقا إن البشريات الكريمة تتوالى، بل وسوف تتوالى، وإنني أعتقد اعتقاداً جازماً بأن القرن القادم إن شاء الله تعالى هو قرن دين محمد بن عبد الله، والله إن الأمة ليست فقيرة الأمة ليست ضعيفة، بل الأمة غنية الأمة قوية برجالها قوية بمالها قوية بأعدادها قوية بمناخها قوية بخيراتها قوية بمنهج ربها وسنة نبيها، ولكن الأمة أصيبت وابتليت بمجموعة من الزعامات حالت بين الأمة وبين عطائها حالت بين الأمة وبين مجدها حالت بين الأمة وبين أن تتبوأ المكانة التي أرادها لها ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، ولكنني أعلم يقيناً أن الخير في الأمة كامن، وأن الخير في الأمة وفير، ولكن أسأل الله أن يمن على الأمة بالقائد الرباني، الذي يفجر هذه الطاقات الكامنة، وهذه القدرات الهائلة، وهذه الطاقات الجبارة؛ لترفع الأمة من جديد راية الجهاد في سبيل الله، بعد أن تصطلح مع الله؛ فتحكم شريعة الله، وتسير على طريق رسول الله، وحينئذ والله! لا تقف أمامها قوة على وجه الأرض، ولمَ لا؟! وقد وعد الله الأمة بالنصر مع بذلها أقصى ما في طاقتها، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60].
فإذا رفعت الأمة راية الجهاد في سبيل الله فإن الله سيمكن لها، وسيذل لها أهل الشرق والغرب، كما حقق الله قبل ذلك وعده للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وللصادقين من أمته من بعده، كما في قوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وكما في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
وروى الإمام أحمد والحاكم في (المستدرك) وقال الحافظ العراقي ورجاله ثقات، وقال الإمام الهيثمي في (المجمع): ورجاله رجال الصحيح، من حديث حذيفة بن اليمان أنه صلى الله عليه وسلم قال (ستكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً عاضاً، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون ملكاً جبرياً)، والأمة الآن تشهد مرحلة الملك الجبري (ثم يكون ملكاً جبرياً فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، أسأل الله أن يعجل بها، وألا يحرمنا من أن نستظل بظلالها الوارفة، فإن لم يقدر لأمثالنا فليقدر لأبنائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! أحببت بهذا الموضوع الأول المختصر أن أسكب من جديد في قلوب شبابنا الأمل، فإنني أتألم كثيراً لبعض شيوخنا ودعاتنا ممن يشخصون داء الأمة، فيترك بعضهم الموضوع دون أن يجدد الأمل في قلوب أبناء الأمة، فيزداد اليائسون يأساً، ويزداد القانطون قنوطاً، ويزداد المهزومون هزيمة، ولكن شخص الداء، وحدد الدواء، وجدد الأمل في قلوب أبناء هذه الأمة، فإن وعد الله قادم، ووعد الله لا يخلف، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، أسأل الله جل وعلا أن يمكن لدينه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(51/4)
علامات استفهام حول أحداث الجزائر
الموضوع الثاني: أحداث الجزائر بين حرمة الدماء وعلامات الاستفهام!! تكلمت في خطبة جمعة عن أزمة العقل المسلم، ومما زادني حسرةً وألماً أنني وجدت بعد الجمعة من اعتقد أنني كنت أتكلم عن حادث وفاة سندريلا القرن العشرين، وأنا ما تحدثت عن الحادث أبداً، وإنما وقفت عند الحادث لأستخرج منه الدروس والعظات والعبر، لاسيما وأن الحادث قد أحدث شرخاً رهيباً في صرح عقيدة الولاء والبراء، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن العقل المسلم يعيش حالة أزمة، ويتعامل كثير من المسلمين -الآن ومن قبل- مع الأحداث تعاملاً خطيراً، فتسمع من بعض المسلمين من يتهم المسلمين في الجزائر بهذه المجازر والمذابح المروعة! وهذا الذي يتهم المسلمين في الجزائر بذلك لا يفهم قرآناً ولا يفهم سنة، ولا يقف على سنن الله الربانية في كونه! تدبر معي أيها الحبيب الكريم! أحداث الجزائر التي تخلع القلب الآن! ويجب على المسلم أن يعيش أحوال أمته، وأن يعيش جراح إخوانه، قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فلا يجوز لمسلم أن يأكل ملء بطنه، وأن ينام ملء عينه، وأن يضحك ملء فمه، وأن ينظر إلى أحوال إخوانه وأخواته هنا وهنالك فيهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيد ولا من قريب! فإن هذا لا يستحق هذه النسبة الإسلامية الشريفة، بل إن الله جعل المؤمنين إخوة، فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].
والدماء لها حرمة عظيمة عند رب الأرض والسماء، ولقد كرم الله الإنسان، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، فلقد خلق الله الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كل هذا من أجل الإنسان، وأنزل عليه شريعةً ضمنت له كل الحقوق، وضمنت له الحياة السعيدة الأبية الكريمة، ومن أعظم وأكبر هذه الحقوق التي ضمنتها الشريعة للإنسان هي: حق الحياة، ولا يجوز أبداً لأحد أن يسلب هذه الحياة ممن وهبها له الله سبحانه وتعالى، إلا في الحدود الشرعية التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، فلا يجوز أبداً أن تنتهك حرمة الحياة، وأن تسفك دماء المؤمنين والمسلمين إلا بالحق الشرعي الذي قرره الرب العلي، والحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151].(51/5)
الحالات التي يجوز فيها قتل المسلم
قد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق، فقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
هذه هي الحالات الثلاث التي يجوز أن تسفك فيها الدماء على يد ولي الأمر المسلم أو من ينوب عنه، فالأمر ليس فوضى لكل أحد؛ حتى لا يتحول المجتمع إلى غابة يقتل فيه القوي الضعيف، كلا! الحالة الأولى هي: حالة القتل، قال الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:178 - 179] إي وربي! إن لكم في القصاص حياة: حياة بحفظ حياة أفراد المجتمع، وحياة بردع كل من سولت له نفسه أن يتعدى على الدماء المسلمة البريئة، ولذا قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
الحالة الثانية: من زنا بعد إحصان، لقوله: (الثيب الزاني).
الحالة الثالثة: المرتد، لقوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة)، هذه هي الحالات التي يجوز لولي الأمر المسلم أن يقتل فيها فقط.
وأما ما عدا ذلك فإن سفك الدماء وقتل النفس المسلمة أو المؤمنة البريئة جريمة تأتي مباشرة بعد جريمة الشرك بالله، قال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68 - 70].
أيها الأحبة الكرام! إن قتل النفس المسلمة المؤمنة البريئة جريمة من أخطر وأكبر الجرائم والكبائر، وأسألك بالله -أخي الكريم- أن تتدبر معي هذه الآية التي في سورة النساء، وهي قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93]، فتدبر فيها لتقف على حرمة الدماء! وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وأنا ما خرجت عن موضوع الجزائر، ولكن لابد من هذه المقدمة لأصل إلى الحكم الذي أريد أن أصل إليه في هذه الأحداث المفجعة المؤلمة، فتدبر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)! وقال عبد الله بن عمر: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله!).
وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث معاوية ومن حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً، أو قتل مؤمناً متعمداً).
واسمع هذا الحديث الذي يخلع القلب! هذا الحديث رواه النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمَّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً)، أتمنى لو أسمع هذا الحديث العالم كله الذي يتهم الإسلام بالتطرف والإرهاب وسفك والدماء! هذا هو دين محمد بن عبد الله، وهذه هي حرمة الدماء في دين المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الذي رواه أحمد والنسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)؛ ولذلك فإن أول شيء يقضي الله فيه يوم القيامة الدماء.
ولا تعارض بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة)، وبين قوله: (إن أول ما يقضي الله فيه يوم القيامة الدماء)، لأن الدماء هي حق العباد، والصلاة هي حق خالق العباد، فلا تعارض بين الحديثين؛ ولذلك يقول علي بن أبي طالب كما في الصحيحين: (أنا أول من يجلس بين يدي ربي للخصومة) يقصد المبارزة التي كانت بينه وبين خصمه في غزوة بدر، ففي علي وفي خصمه نزل قول الله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19]، فأول شيء يقضي الله فيه يوم القيامة في الدماء، ولذلك ورد في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي وصححه الشيخ الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالقتيل يوم القيامة وأوداجه -أي: عروق أعناقه- تشخب دماً! وهو يمسك بالقاتل ويقول: أي ربِّ! سل هذا فيم قتلني؟!) فيأتي المقتول ويأتي القاتل الذي قتل نفساً، ويأتي القاتل المجرم الذي قتل قرية، والذي قتل مدينة، والذي قتل شعباً، والذي قتل أمة، يأتي يوم القيامة وحوله كل من قتلهم جوعاً، أو عرياً، أو رمياً، أو قتلهم بغير ذلك، يأتي هؤلاء يتعلقون بالقاتل يوم القيامة وهم يقولون للرب جل جلاله: يا رب! سل هذا فيم قتلنا؟! فيا أيها المسلم، اعلم حرمة الدماء.(51/6)
بعض الحقائق في أحداث الجزائر
وبعد هذه المقدمة التي طالت أقول: من هو المسلم الذي يجرؤ أن يتهم مسلماً على وجه الأرض أنه قد استحل سفك الدماء؟! ومن هو الذي يتهم الإسلاميين في الجزائر بأنهم يقومون بهذه المجازر والمذابح بعد ظهور هذه الحقائق؟! إن هذا ليس إلا ذراً للرماد في العيون، بل هو طمس للعيون، خذوا هذه الحقائق وتدبروها جيداً لتعلموا الحق: أولاً: ما يسمى بمثلث الموت أو مثلث الرعب في الجزائر! الذي حدثت فيه في غضون شهرين ما يزيد على عشرين مذبحة، يتكون من ثلاث مدن بقراها، هذه المدن والقرى تحيط بالجزائر العاصمة في مسافة لا تزيد على عشرين كيلو فقط، وتدبر هذا جيداً! الجزائر العاصمة تحولت الآن إلى ثكنة عسكرية، والجيش حول العاصمة تحولوا إلى ثكن عسكرية، ففي مدينة واحدة فقط سبع قواعد عسكرية، لتكون بمثابة خط الدفاع الأول ضد الإسلاميين على العاصمة الجزائر! هذه المدن الثلاث التي تسمى بمثلث الرعب فيها قوات الأمن وقوات الجيش بصورة مكثفة، ومع ذلك حدث فيها في غضون الشهرين الماضيين ما يزيد على عشرين مجزرة أو عشرين مذبحة، راح ضحية هذه المجازر والمذابح ما يزيد على ألفي رجل وامرأة وطفل.
أقول: المجازر الأخيرة التي حدثت في الجزائر تركزت في ثلاث مدن بقراها هذه المدن تحيط بالجزائر العاصمة في مثلث يسميه الجزائريون الآن بمثلث الرعب أو بمثلث الموت؛ جل من سقط مذبوحاً من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى والمدن هم أهل الإسلاميين!! وتطاول المجرمون وقالوا: إن هذه حرب تصفية بين الإسلاميينوبعضهم البعض! ثانياً: المذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها ما يزيد على خمسمائة رجل وطفل وامرأة، في حي يقال له: حي سيدي موسى، هذه المساحة قتل المجرمون فيها الرجال والأطفال والنساء, وبقروا بطون النساء! وقطعوا رقاب ورءوس بعض النسوة والأطفال! وعلقوا الرءوس على أبواب المنازل! ثم اغتصب في هذه المذبحة ما يزيد على مائة فتاة! ثم قتلن بعد ذلك! هل يفعل ذلك مسلم؟! والله الذي لا إله غيره إنه لا يفعل ذلك مسلم على وجه الأرض يحمل ذرة إيمان! والأمر الأخطر من هذا، أين قوات الأمن؟! وأين قوات الجيش التي لا تبعد عن حي سيدي موسى أكثر من عشرين كيلو؟! وأين كانت هذه القوات لمدة خمس ساعات متواصلة يذبح فيها المجرمون ويقتلون؟! والحقيقة عن العلامة الاستفهامية الأخيرة -وهي خطيرة- هي ما نشرته مؤخراً منظمة العفو الدولية، هذا مع تحفظي على مثل هذه المنظمات، لكن أقول: إذا نطق الأعداء فالحق ما شهدت به الأعداء، مع أنهم قد احترفوا الكذب والتضليل والتلبيس، إلا أن منظمة العفو الدولية قد أصدرت أخيراً تقريراً تحت عنوان (الصمت والخوف) هذا التقرير لمنظمة العفو الدولية يتهم المليشيات الجزائرية التي تنتمي إلى الجيش الجزائري، والتي شكلها الجيش عام (1992م) للقضاء على الجماعات الإسلامية في داخل الجزائر، وتتكون هذه الميلشيات من جماعتين: الجماعة الأولى: تسمى: (جماعة قوة الدفاع الذاتي) والجماعة الثانية: تسمى: (حراس القرى)! هذه الجماعات وهذه الميلشيات سلحتها الحكومة الجزائرية، وأمدتها بالسلاح؛ لتقليم أظافر الإسلاميين، وفي القرى التي تقام فيها هذه المذابح الآن رفض أهل هذه القرى وأهل هذه المدن هذه المليشيات، وأصبح جل هؤلاء ممن يحبون الإسلاميين، وكانوا ممن صوتوا للإسلاميين في انتخابات الجزائر التي نحي عنها المسلمون قبل ذلك! وهؤلاء رفضوا أن يتسلموا الأسلحة من الحكومة الجزائرية ليساهموا في (قوة الدفاع الذاتي) أو ليساهموا في (قوات حراس القرى)، فتتهم منظمة العفو الدولية هذه الميلشيات بأنهم هم الذين قاموا بهذه المذابح المروعة؛ لتقليم أظافر الإسلاميين، ولمن صوتوا للإسلاميين! وهم لا زالوا إلى الآن يرفضون أن يصوتوا للحكم العسكري داخل الجزائر، ويريدون للحكم الشرعي أن يسود البلاد، فالحكومة تنتقم من هؤلاء على أيدي هذه الميلشيات التي شكلت عام (92م).
هذا ما أدين لله به في هذه المأساة المروعة، أما أن يصدق مسلم أن مسلماً صلى لله، يخرج على نساء وأطفال وشيوخ ليذبح وليزني ويغتصب النساء! ويعلق الرقاب على أبواب المنازل! ثم يقال هذا مسلم! فحاشا وكلا، والإعلام الغربي بدأ يغير اللهجة الإخبارية، وبدأ يغير اللهجة الدعوية في الخطاب الدعوي الآن؛ إذ إن الإعلام الغربي يقول: وعادة ما يلام في مثل هذا الإسلاميون! وهذا تغيير لا شك.
فالجزائريون الآن يشيرون بعلامات استفهام ضخمة جداً: من وراء هذه الأحداث في الجزائر؟! من الذي يسفك الدماء المسلمة؟! ومن الذي يقتل النساء؟! وأنا أدين لله بأن العدو الأول في الجزائر هم من نحوا الإسلاميين أول مرة.
سبحان الله! حبس المسلسل يا إخوة! ووضع بدقة رهيبة محكمة في بلاد غربية تتغنى إلى الآن بالديمقراطية! فيقال لهم: أنتم تعبدون الديمقراطية وتقدسونها، والإخوة المسلمون في الجزائر وصلوا إلى دفة الحكم عن طريق هذه الديمقراطية التي تدعونها وتزعمونها! هذا مع تحفظي على مسألة الديمقراطية، ولي فيها كلام آخر، ولست بصدد الحكم عنها الآن، لكن أقول للغربيين الذين يعبدون الديمقراطية ويقدسونها: وصل الإسلاميون في الجزائر بقانون الأصوات الذي وضعتموه، وصوّت الشعب الجزائري في أغلبه للإسلام وللإسلاميين، فتدخل الغرب الذي يتغنى بالديمقراطية، والذي لا يريد للديمقراطية أبداً أن تسود على غير أرضه، فإن تمثال الحرية في نيويورك يصدم الذاهب إلى أمريكا؛ وإنما يضحكون به على بقية شعوب العالم؛ إذ إن هذه الدولة تضرب العالم وتسوق العالم كله بعصاً غليظة، ولا تريد للإسلام ولا المسلمين أن يسودوا أبداً، ولا أن يحكموا شرع الله أبداً، مع أن شرع الله فيه الأمن والأمان.
وأقول: سقط في الجزائر خلال خمس سنوات فقط ما يزيد على مائة وستين ألف مسلم ومسلمة، لصالح حفنة قذرة ممن لا تريد لشرع الله أن يحكم، وممن لا تريد لشرع الله أن يسود، جلسوا على الكراسي وأزهقوا كل هذه الأرواح، يعني: بمعدل خمسين قتيلاً كل يوم في الجزائر من أجل حفنة قذرة ممن لا تريد لشرع الله أن يحكم وأن يسود! ثم بعد ذلك يلقى باللوم على من قدمهم الشعب ليحكموا الناس بشرع الله!! أسأل الله أن يرفع عن إخواننا في الجزائر الهم والكرب والغم، اللهم ارفع الهم عن إخواننا في الجزائر، اللهم فرج كربهم، اللهم سكن آلامهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم انتقم من عدوهم في الخارج والداخل، اللهم انتقم من أعداء الجزائر في الخارج والداخل، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم أخرجهم من بين أعدائهم سالمين غانمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أرجو أن ننظر إلى الأحداث بهذه الرؤية، وأنا أكلف كل من يبلغه كلامي أن يبلغ غيره؛ حتى لا يزل مؤمنٌ في اتهام أخ له يدين لله ويؤمن برسول الله، ويعلم يقيناً حرمة الدماء، كما قال الله وكما قال المصطفى رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.(51/7)
عاقبة الظلم
الموضوع الثالث وأختم به: رسالة من طبيب يكتبها بدموع الندم إلى بريد الأهرام: بتاريخ (15/ 8/1997م) كتب طبيب إلى بريد الأهرام يقول: أنا -يا سيدي! - طبيب سابق بالمستشفى الجامعي بأكبر مدن الصعيد، وأبلغ من العمر خمسة وستين عاماً، وقد ترددت طويلاً في أن أكتب إليك، ثم استجمعت إرادتي لكي أزيح عن كاهلي ما لا أطيق، فلقد نشأت في أسرة فقيرة بل ومعدمة، وكنت أستذكر دروسي في طفولتي وصباي على لمبة الجاز، وتحت عمود الكهرباء في الشارع، وأعمل في الإجازة الصيفية لتدبير نفقات الدراسة، حتى حصلت على بكالوريوس في الطب، ودرست (الماجستير) وحصلت عليه، وتزوجت، وأصبحت لي أسرة صغيرة، وبيت ملائم، واشتهرت كطبيب في مدينتي، وانهمر الرزق عليَّ، وبدلاً من أن أشعر بأحاسيس الفقراء الذين كنت منهم، وأعلم معاناتهم واحتياجاتهم فقد وجدتني أتحول في عملي تدريجياً إلى جزار أو منشار، ينشر هؤلاء البسطاء ويمتص دمهم بلا رحمة وحنان، ويحنو في نفس الوقت على الأغنياء ويتملقهم! وحين أكتب إليك رسالتي هذه الآن يتراءى لي وجه مريض بائس كان يحتاج لإجراء جراحة خطيرة، وطلبت منه قبل أن يدخل المستشفى الخاص بي أن يدفع مبلغاً معيناً، ولم يكن معه سوى نصف هذا المبلغ فقط، فجعل المريض يبكي ويستعطفني ويرجوني أن أرأف بحاله، وأن أقبل منه ما معه من المال، ولكنني أصررت على موقفي بصرامة، وطلبت منه أن يدبر المبلغ كاملاً خلال اثني عشر ساعة وإلا فلن أجري له الجراحة! فهرولت زوجته لتبيع ذهبها القليل وما عندها من ماشية، ورجعت إليَّ بالمبلغ، وبدأت في تحضير المريض للجراحة، فإذا بالمريض يموت قبل أن أجري له الجراحة بنصف ساعة فقط، فلم أفكر لحظة في أن أرد المبلغ لأهله المفجوعين والمعدمين! وإنما كنت أزعم لهم أن المريض قد مات أثناء الجراحة؛ لأستولي على المبلغ كله باعتباره أنه أجر لهذه الجراحة، حتى ولو كانت الجراحة لم تتم أصلاً! كما تتراءى لي أيضاً صورة مريض آخر لم أسمح له بدخول المستشفى الخاص بي، وتركته يدعو الله عليَّ ويرجو الله لي سوء المآل! أما وجه ذلك الطبيب الشاب -أو الذي كان شاباً وقتها- فإنه لا يتراءى لي، وإنما يطاردني بملامحه، وبآخر ما نطق به من كلمات في آخر لقاء بيني وبينه! فلقد كان هذا الطبيب الشاب يستحق التعيين في المستشفى الجامعي الذي أعمل فيه لتفوقه، لكني حرمت هذا الطبيب وحرمت زملاءه الذين يستحقون التعيين في هذا المستشفى بعد حصولهم على الماجستير بلعبة حقيرة، وعينت بدلاً منهم ابني وابن شقيقي وابنة شقيقتي! وجاءني هذا الطبيب الشاب ليقول لي بأنه سوف يرحل عن المدينة كلها؛ ليعمل بإحدى الدول العربية، لكنه يعلم علم اليقين أن الله لن يضيع حقه هدراً، وأنه لن يتركني بلا عقاب، ثم قال لي: ولسوف يجيء اليوم الذي أعض فيه على بنان الندم على ما فعلت به وبزملائه من ظلم! ثم انصرف هذا الطبيب الشاب وأنا أبتسم وأنظر إليه باستخفاف، مترفعاً عن الرد عليه في الظاهر، ومتعمداً ذلك في الباطن؛ لكي لا يضاعف هذا الطبيب من ثورته ومن حنقه عليَّ حتى لا ألقى ما يحرجني من إهانة أمام المساعدين والممرضات.
ومضى الشاب إلى حال سبيله، ونسيت هذا الشاب، ونسيت زملاءه الذين أضعت عليهم فرصة التعيين بالمستشفى سنوات طويلة، ولا أعرف ماذا جرى لهم من خلالها.
يقول: ولعلك الآن تتساءل: لماذا أروي لك هذه الواقعة وغيرها من الوقائع التي قد تسيء إلي وإلى أبنائي وأقربائي إذا تعرفوا على شخصيتي من خلال هذه الرسالة؟ وأجيبك على التساؤل: بأنني لم أعد أهتم بأحد من هؤلاء جميعاً بعد أن تركوني وتخلوا عني! أما لماذا تخلوا عني يا سيدي؟! ولماذا انشغلوا بأنفسهم؟ فلأنني قد مرضت -ويا للعجب! - منذ ثلاث سنوات، مرضت بالمرض اللعين الذي تخصصت في علاج المرضى منه! ومنذ ثلاث سنوات وأنا أسافر للعلاج في الخارج كل سنة، واستهلك معظم ما جمعت من مال خلال سنوات عمري الطويلة، ولو واصلت السفر للعلاج على هذا النحو فلن يمضي أكثر من عام وأصبح بعد ذلك على الحديدة بلا مدخرات ولا مال ولا شيء سوى معاشي كطبيب، وذلك بعد أن تخلى عني أولادي! وبعد أن تخلى عني أبناء إخوتي الذين وضعتهم في مراكزهم وثبتهم فيها.
إنني أكتب إليك هذه الرسالة لأقول لكل من تسول له نفسه أن يظلم غيره: إن الله يمهل ولا يهمل، وإن عقابه شديد، كما أكتبها لك أملاً ورجاءً ودعاءً إلى الله أن يعفو عني، وأن يشفيني، وأن يغفر لي، وأملاً ورجاءً أيضاً لكل من ظلمتهم خلال رحلة الحياة أن يسامحوني فيما فعلت بهم؛ لكي يسامحني الله عز وجل، كما أرجو أن تصل رسالتي هذه عبر بابك إلى أبنائي، لكي يساعدوني ويرعوني في مرضي، وعذراً لأنني لم أكتب لك اسمي؛ لأني لم أستطع ذلك، مع أنني لا أعرف كيف استطعت أن أكتب لك هذه الرسالة! لكني أظن أن الله عز وجل سيكتب لي بعد اعترافي بكل ما فعلت الشفاء، وسيجعل لي مخرجاً من ضيق ذات اليد، وبارك الله فيك وفي أمثالك، والسلام.
وهذه الرسالة لا تحتاج إلى تعليق! أسأل الله عز وجل أن يشفي هذا الرجل، ونحن لا نعرفه، ولكن الله يعرفه، نسأل الله أن يتقبل منه ندمه وتوبته.(51/8)
أعظم شروط التوبة هو الندم
وأقول: قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الندم هو ركن التوبة الأعظم، وأبشرك أيها الطبيب! أن الله عز وجل ما دام قد وفقك وألهمك إلى أن تذكر فضله عليك، وإلى أن تعترف له بتقصيرك وفقرك وعجزك قبل أن تغرغر فأبشر، لعل الله أن يختم لك بخاتمة الخير، فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر.
وأود أن أذكر نفسي وإخواني جميعاً بأن كفران النعمة سبب لزوالها، فيا من أنعم الله عليك بنعمة! اعلم بأن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، فاعترف بفضل الله، واعلم بأن الشكر مأمور به، كما قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ:13]، والشكر يدور على اللسان والجنان، القلب والأركان، ففي الصحيحين (أن النبي قام حتى تورمت قدماه، فقيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً؟!).
فالشكر يقتضي منا أن نحمد الله باللسان، وأن نشكر الله بالجنان، وأن نشكر الله بالجوارح والأركان.
يا من منَّ الله عليه بنعمة العين! إياك أن تستخدمها في معصية الله، يا من منَّ الله عليك بنعمة الصحة! استخدم العافية في طاعة الله عز وجل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(51/9)
ردة ولا أبا بكر لها
الصراع بين الحق والباطل مستمر إلى قيام الساعة، والحرب بينهما سجال، وفي زماننا هذا تنوعت ألوان الصراع وتعددت، ومن أعتاها وأشدها: الغزو الفكري، وزعزعة الثوابت؛ فإن أعداءنا قد استفرغوا جهدهم، واستنفروا جميع طاقاتهم لغزو المسلمين فكرياً، وزعزعة ثوابتهم، وقد استخدموا في هذا الغزو أناساً من بني جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، فرسموا الخطط، واعتمدوا التدرج والتستر وراء الشعارات البراقة التي ينفذون من ورائها ما يريدون.(52/1)
ظلام فكري وكفري دامس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: (ردة ولا أبا بكر لها) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم، وسوف أركز الحديث مع حضراتكم في هذا الموضوع الكبير في العناصر المحددة التالية: أولاً: ظلام فكري وكفري دامس.
ثانياً: ما السبيل؟ وأخيراً: لا تيئسوا من روح الله.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا بالتمكين لعقيدة التوحيد والموحدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: ظلام فكري وكفري دامس: أيها المسلمون! ما زال الإسلام العظيم منذ أن بزغ فجره، واستفاض نوره إلى يومنا هذا؛ مستهدفاً من قبل أعدائه، أعداء الطهر والفضيلة والشرف، الذين كرهوا هذا الدين العظيم.
لكن عقيدة التوحيد بالأمس القريب كان إذا مس جانبها وتطاول عليها قزم أو صنم حقير سمعت هذه العقيدة المشرقة أبا بكر يتوعد، وسمعت الفاروق يزمجر، وسمعت خالد بن الوليد يصرخ، ورأت الصادقين من الرجال الأطهار الأبرار يبذلون من أجل نصرتها الغالي والنفيس، بل والدماء والمهج والأرواح.
يوم أن خرجت فتنة الردة بعد موت المصطفى صلى الله عليه وسلم قام الصديق المبارك الذي تحولت بين يديه هذه المحنة إلى منحة، يوم أن أعلنها صريحة مدوية: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة)، وشرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، وصدر عمر، وصدر الصحابة رضوان الله عليهم لقتال هؤلاء المرتدين الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة.
لكننا نشهد اليوم ردة من نوع خبيث جديد، لكن أين الصديق؟! إنها ردة خبيثة ولا أبا بكر لها، إننا نشهد الآن حرباً على هذه العقيدة الطاهرة، لكنها حرب من نوع خبيث جديد، إنها حرب فكرية حرب ثقافية حرب عقدية.(52/2)
المخطط الإلحادي لزعزعة الثوابت وهدم الدين
إن المجرمين يعلمون الآن أن أخطر وسائل محاربة هذه العقيدة هي الحرب الفكرية، فهم يشنون الآن حرباً هوجاء، لا على الفرعيات والجزئيات، بل على الثوابت والأصول والأركان والكليات، لا تظنوا أن كتاباً واحداً -كما أشير في بعض الجرائد والمجلات- هو الذي تطاول على عقيدة التوحيد، وعلى القرآن، وعلى ذات الرحيم الرحمن، كلا، بل هي كتب، بل هو مخطط مدروس خبيث.
نعم أيها المسلمون! ليس كتاباً واحداً، ولكنها كتب تمثل منهجاً مدروساً ومخططاً خبيثاً، وأستطيع في نقاط محددة جداً أن أبين لحضراتكم: الخطوات الخبيثة، والمراحل الخطيرة لهذا المنهج المدروس، ولهذا المخطط الخبيث، ولهذه الردة الجديدة.(52/3)
تمجيد العقل وإعلان الحرب على النص
أولاً: بدءوا هذا المخطط الخبيث بإعلان الحرب على النص، مع التمجيد المستمر والمتعمد للعقل؛ حتى جعلوا العقل إلهاً يعبد من دون الله جل وعلا؛ ليسقطوا بالعقلانية المزعومة قدسية النصوص، ولو كانت النصوص ثابتة في القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، بل أعلنوا ذلك صراحة فقالوا: لابد من إلغاء القاعدة المتفق عليها والتي تقول: (لا اجتهاد مع النص)؛ لأن هذه القاعدة تشكل حجراً على العقل البشري، الذي أبدع في عصر الألفية الثالثة، أو في أواخر القرن المنصرم، لقد أبدع العقل إبداعاً: فجّر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق في أجواء الفضاء، وحول العالم كله إلى قرية صغيرة، عن طريق هذا التكتيك العلمي المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات.
فهذا العقل لا ينبغي أن يقال له: لا اجتهاد مع النص، بل يجب على هذا العقل المبدع أن يجتهد مع النص ولو كان النص ثابتاً في القرآن، أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فترى عقلاً مريضاً خبيثاً تعرض أمامه النصوص القرآنية والنبوية، فيضع بالقلم الأحمر علامات على هذا النص، ويضع بالقلم الأسود علامات خبيثة على نص آخر، وهكذا!! ويصير دين الله ويصير النص القرآني والنبوي ألعوبة بين عقول مهازيل البشر، فترى من يحكم على نص ثابت في القرآن ويقول: لا ينبغي أن يفهم إلا بالكيفية الفلانية، وذلك من خلال النظرية العلمية الحديثة المعاصرة، وترى عقلاً عفناً آخر ينكر السنة -كما نرى ونسمع كل يوم- ويلغي الأحاديث الصحيحة الثابتة في أصح الكتب بعد القرآن، بدعوى أن هذه الأحاديث تصطدم مع العقل اصطداماً مباشراً، وتصطدم مع العلم الحديث والنظريات العلمية المعاصرة.
وأنا أقول: لا ينبغي أن يفهم العلمانيون المجرمون أننا نريد أن نسقط مكانة العقل، كلا، بل إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يبارك نورُ الوحي نورَ العقل، ويزكي الوحي العقل ويحتفي به أيما احتفاء، ويلفت القرآن الأنظار إلى مكانة العقل والتعقل والتدبر في آيات كثيرة: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} [يس:68]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} [النساء:82]، {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} [النمل:69]، آيات وآيات وآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، لكن ليس معنى ذلك أن يصبح العقل حاكماً على النص القرآني والنبوي، ائتوني بعقل يتعرف على ذات الله جل جلاله، وعلى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى أركان ديننا وأصول إسلامنا، دون أن يرجع إلى النقل أي: إلى النص القرآني والنبوي.
ورحم الله ابن القيم إذ يقول: لا يستقل العقل دون هداية بالوحي تأصيلاً ولا تفصيلاً كالطرف دون النور ليس بمدرك حتى يراه بكرة وأصيلاً نور النبوة مثل نور الشمس للـ عين البصيرة فاتخذه دليلاً فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها فالعقل لا يهديك قط سبيلاً طرق الهدى محدودة إلا على من أم هذا الوحي والتنزيلاً فإذا عدلت عن الطريق تعمداً فاعلم بأنك ما أردت وصولاً يا طالباً درك الهدى بالعقل دو ن النقل لن تلقى لذاك دليلاً صار العقل إلهاً يعبد من دون الله مع التحقير من شأن النص، ولو كان ثابتاً في القرآن وفي سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ثم تجاوزوا المرحلة الأولى من مراحل هذا المخطط الخبيث، ومن مراحل هذا الظلام الفكري والكفري الدامي إلى المرحلة الثانية ألا وهي:(52/4)
التشكيك في نقلة النصوص
التشكيك فيمن نقل إلينا النص، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، يضخمون العقل لإلغاء النص، ثم يشككون في حملة النص ونقلة النص، فأعلنوا الحرب الهوجاء على الصحابة الأبرار الأطهار الأخيار.
فخرج علينا ساقط وضيع، وشيخ من شيوخ الضلال، ليقول في كتاب من كتبه الخبيثة، ولا حاجة إلى ذكر أسماء هذه الكتب على هذا المنبر الطاهر، حتى لا أروج لهذه الكتب الخبيثة بين هذه الألوف المؤلفة من المسلمين، فليس من الحكمة البتة أن أذكر أسماء هذه الكتب، ولا أسماء هؤلاء الساقطين الذين ألفوها وسطروها؛ لأننا بذلك نرفع من قدرهم، ولا أريد في الوقت ذاته أن أروج لهذه الكتب، وقد لا يطلع أو لم يطلع عليها إلا القلة القليلة.
يقول شيخ من هؤلاء الشيوخ الضلال: إن الصحابة كانوا يمثلون مجتمعاً متحللاً مشغولاً بالرذائل والهوس الجنسي، ولم تكن التجاوزات مقصورة على مشاهير الصحابة بل تعدتهم إلى صحابيات معروفات! ثم يقول الخبيث: ولما كان التقاء الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر طقساً يومياً من الطقوس الاجتماعية المعتادة في مجتمع يثرب، فقد اضطر محمد رفعاً للحرج أن يبيح لأصحابه أن يمروا في المسجد وهم جنب.
ويقول خبيث آخر: لما أرسل علي رضوان الله عليه ابنته أم كلثوم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليخطبها أسرع إليها عمر ليكشف الثوب عن ساقيها ليعاين جودة البضاعة! خبيث مجرم! أتحداه وأتحدى أشكاله وأمثاله أن يتطاولوا على قسيس أو على مسئول أو على حاقد، لكنهم يتطاولون على القمم! على أصحاب النبي الأطهار! وأكتفي لأشفي ما في قلبي وفي قلوب المسلمين بقولة للإمام مالك، إمام دار الهجرة إذ يقول: إذا وجدت الرجل يحمل في قلبه غيظاً على أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصابه قول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
وقال الحافظ أبو زرعة رحمه الله تعالى: هؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة؛ وذلك أن الله حق، والقرآن حق، والرسول حق، والذي نقل إلينا كل ذلك هم الصحابة، فهؤلاء يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة.
وهأنتم ترون بعد حربهم على الصحابة يعلنون الحرب على العلماء وعلى الدعاة؛ لأنهم يمثلون ميراث الأنبياء، ويحملون ميراث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيسبون العلماء والدعاة علناً، ويسبون الصحابة رضوان الله عليهم علناً دون أدنى خجل أو وجل، والله تعالى يزكي الصحابة ويقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
ثم تجاوزوا هذه المرحلة الثانية من مراحل هذا المنهج المدروس والمخطط الخبيث، إلى المرحلة الثالثة ألا وهي:(52/5)
التشكيك والطعن المباشر في السنة
مرحلة التشكيك والطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، شككوا في السنة بدعوى أن فيها الضعيف والموضوع، وبدعوى أن السنة تحوي من الأحاديث ما يصطدم اصطداماً مباشراً مع النظريات العلمية المعاصرة الحديثة، فشككوا في السنة، وطعنوا في الأحاديث الثابتة الصحيحة في أصح الكتب بعد كتاب الله، في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، وزعموا أن القرآن وحده يكفي، وهم يريدون بذلك الانتقال إلى المرحلة التي تلي هذه المرحلة، وهي مرحلة إسقاط القرآن؛ لأن القرآن لا يمكن أن يفهم بعيداً عن سنة سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.
ورحم الله الإمام الأوزاعي العَلَم إذ يقول: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، قال الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]، وقال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح من حديث المقدام بن معد يكرب: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكأ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة المعاهد)، وفي لفظ: (فإنما حرم رسول الله كما حرم الله عز وجل)، فرسول الله مشرع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] قال ابن عباس: أي: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
قال القرطبي: أي: لا تقدموا قولاً على قول الله، أو على قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من قدم قوله أو فعله على قول الله أو على قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما قدمه على الله؛ لأن الرسول لا يأمر إلا بما أمر به الله عز وجل.
قال الشنقيطي: ويدخل في الآية الكريمة دخولاً أولياً تشريع ما لم يأذن به الله، فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57].
{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]) قد كفرتم أيها المجرمون! أيها المرتدون! يا من ملأتم أقلامكم بمداد نجس قذر عفن، وأعلنتم الحرب على ثوابت الإسلام، وعلى أركان وأصول الدين.
أعلنوا الحرب على السنة، وأنكروا حجية السنة، وطعنوا وشككوا في السنة، ثم انتقلوا إلى الخطوة الرابعة ألا وهي:(52/6)
الطعن في القرآن
مرحلة الطعن في القرآن! نعم في القرآن! وقد قرأتم ذلك في الأسبوع الماضي في كتاب واحد فقط، وقد صرحت وأعلنت ذلك من قبل عدة أشهر على منبر مسجدي، وليس هوكتاباً واحداً، ولكنه مخطط في كل أنحاء العالم الغربي والعربي للنيل من هذا الدين، والطعن في عقيدة التوحيد والموحدين، يصف هذا الكتاب القرآن بأبشع الألفاظ! بلفظ يعف اللسان عن ذكره! والمخطط منظم ودقيق، والكتاب الذي نشر لكاتب سوري خبيث ينسف عقيدة القرآن من أول الفاتحة إلى سورة الناس في عدة أسطر من كتابه الخبيث! ولولا أن الله نقل إلينا كلام الكفار في القرآن، ولا زلنا نقرأ كلمات المشركين في القرآن في حق رب العالمين؛ ما تجرأت أن أنقل مثل هذا الكلام! فأنتم لا زلتم إلى هذه اللحظة تقرءون قول الله تعالى حكاية عن اليهود الملعونين: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، ولا زلتم تقرءون قولتهم الخبيثة وهم يصفون الله بالفقر وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، إلى آخر هذه الكلمات، ولولا أن رب العزة قد سطر لنا ذلك في قرآنه، وقد نقل إلينا في قرآنه مثل هذه الكلمات، ما ذكرت مثل هذا.
يقول هذا الخبيث في حق القرآن: ما زال الخطاب الديني يتمسك بوجود القرآن في اللوح المحفوظ، اعتماداً على فهم حرفي للنص! وما زال يتمسك بوجود الإله على عرشه وكرسيه وصولجانه ومملكته وبين جنوده من الملائكة! وما زال يتمسك بالحرفية ذاتها بوجود الملائكة والجن والشياطين والسجلات التي تدون فيها أعمال العباد! والأخطر من ذلك إنه ما زال يتمسك بصور الثواب والعقاب كعذاب القبر ونعيمه والمرور على الصراط ومشاهد القيامة والجنة والنار، إلى آخر ذلك من تصورات أسطورية! هل تدبرتم؟! هل سمعتم مثل هذه الكلمات؟! ينسف القرآن كله من الفاتحة إلى الناس.
ويقول رائد خبيث من رواد هذا الجيل المضلل: وجود إبراهيم وإسماعيل أمر مشكوك فيه! ولو ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن فلسنا ملزمين بتصديق أي من هذه الكتب! كفر صريح واضح، هم يطعنون في القرآن ذاته، بل يطعنون في ذات الله جل جلاله، فإن المرحلة الخامسة من مراحل هذا المخطط الخبيث هي:(52/7)
الطعن في ذات الله جل جلاله
مرحلة الطعن في ذات الله جل جلاله، هذا الكتاب الذي قرأتم عنه في الأسبوع الماضي يصف الخبيث رب العزة بالفنان الفاشل! وهذا صنم آخر من سوريا يقول في ديوان خبيث من دواوينه الشعرية، وسأترجم وأبين لحضراتكم أن المخطط مدروس وعلى مستوى الأمة، لا في مصر فحسب، بل على مستوى الأمة، يقول هذا السوري الخبيث: لا أختار الله ولا أختار الشيطان، كلاهما جدار يغلق لي عيني، فهل أبدل الجدار بالجدار؟! سبحان العزيز الغفار! ويقول هذا الصنم الخبيث المجرم: الله في التصور الإسلامي التقليدي: نقطة ثابتة متعالية منفصلة عن الإنسان، لكن التصوف على مذهب الحلاج قد ذوب ثبات الألوهية! وبهذا المعنى يكون قد قتل الله! وأعطى للإنسان طاقاته! ويقول هذا الصنم أيضاً: يا أرضنا! -يخاطب الأرض- يا زوجة الإله والطغاة! ويمعن في كفره فيقول: نمضي ولا نصغي لذلك الإله، فلقد تقنا لرب جديد سواه! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهذا حقير آخر من العراق -لتعلموا خطر المخطط- يقول: الله في مدينتي يبيعه اليهود، الله في مدينتي شريد طريد.
وهذا صنم آخر من فلسطين يقول لعشيقته: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير.
وهذا صنم آخر من فلسطين الذبيحة يقول: وآخر ديك صاح قد ذبحناه لم يبق سوى الله، يعدو كغزال أخضر، تطارده كل كلاب الصيف، سنطارده سنصيد له الله! وهذا صنم آخر من اليمن يقول: صار الله رماداً، صمتاً، رعباً، في كف الجلادين، صار الله حقلاً ينبت مسابح وعمائم! لا إله إلا الله، جل جلال ربنا، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] سبحانه أحد في ذاته، أحد في أسمائه، أحد في صفاته، أحد في أفعاله، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بقدرته، مقهور بجلال قبضته، لا إله إلا الله، نقر له بكل جلال، نقر له بكل كمال، نقر له بكل جمال، نقر له بكل عظمة، ننزه الله عن النقص، ننزه الله عن كلام الكافرين، ننزه الله عن كلام المجرمين، إن لم يحترق قلبك الآن فمتى سيحترق؟! إن لم يحترق قلبك عن الذات الإلهية فمتى سيحترق؟! إن لم تحترق قلوبنا وربنا يسب علناً فمتى ستحترق قلوبنا؟! أخبروني هل ماتت القلوب ونحن لا ندري؟! الله جل جلاله اسم لصاحبه كل جمال، اسم لصاحبه كل جلال، اسم لصاحبه كل كمال، تنزه على النقص وعن الشبيه وعن المثال، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
جاء حبر من أحبار اليهود -والحديث في صحيح مسلم - إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: (يا محمد! إنا نجد عندنا مكتوباً في التوراة: أن الله يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
لو كان الذي يتطاول على الذات الإلهية كافراً ظاهراً لهان الخطب، فهذا منهج الكفار، وهذه عقيدة الفجار، لكن الذي يدمي القلب أن الذي يعلن الحرب الآن على الذات الإلهية هو في عرف العوام من المسلمين! (إنهم رجال من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا) (محمد ومحمود وأحمد وحامد وطه)، رجال من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وقد رفعوا على الأعناق، ورفعوا فوق الرءوس، وأحيطوا بهالة من الدعاية الكاذبة؛ لتغطي كفرهم وانحرافهم، ولتستر هذه الهالة جهلهم، ولتنفخ الدعاية الكاذبة في هؤلاء المجرمين؛ ليكونوا أمام الناس شيئاً مذكوراً، ليكونوا كالطبل الأجوف، يسمع من بعيد صوته، وهو من الخيرات خال، وهذا في الوقت الذي تشن فيه الحرب على الأطهار على العلماء وعلى الدعاة وعلى شيوخ الحق والسنة والهدى، تشن الحرب عليهم بصورة هوجاء، بصورة مزرية، إنها حرب إسقاط رموز هذه الأمة، لماذا نتحالف مع الشيطان؟ والله ما سب إبليس رب العزة بل قال كما قال الكبير المتعال حكاية عن إبليس الملعون الرجيم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، وتدبر معي قول رب العالمين حكاية عن إبليس اللعين: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
ما سب إبليس رب العالمين، كلا ورب الكعبة، فهؤلاء ألعن من إبليس، هؤلاء الأبالسة الذي يتعلم اليوم منهم إبليس اللعين، هم ألعن منه، وأخبث منه، وأخطر منه، فهم يسبون الله علناً، وهم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا: (طه محمد حامد محمود عبد الوهاب) أسماء من ذكرت كلامهم أسماء رجال ينسبون إلى الأمة وإلى الإسلام! والإسلام منهم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم بسند صحيح من حديث أبي هريرة: (سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: من الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة) وفي الحديث الآخر: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وفي لفظ مسلم: (رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس).(52/8)
السبيل والحل لإيقاف المرتدين عند حدهم(52/9)
إقامة حد الردة على المرتدين
والسؤال المر: ما السبيل؟ وهذا هو عنصرنا الثاني.
النقطة الأولى: إقامة حد الردة على هؤلاء المرتدين، لكن نسأل الله أن يرزقنا مثل أبي بكر فمن لهذه الردة؟ الأمة الآن في حاجة إلى الصديق وإلى عمر وإلى خالد وإلى سعد وإلى طلحة وإلى عبد الرحمن، الأمة الآن في حاجة إلى الأطهار الأبرار الذين كانوا يبذلون المهج والأرواح والدماء؛ لنصرة عقيدة رب الأرض والسماء.
والله الذي لا إله إلا غيره لو طبق حد الردة على مرتد من هؤلاء ما رأيت مثل هذا الهراء، فأنا أدين لله بأن القوانين الوضعية العمياء كانت أخطر أسباب انتشار الردة في هذا الزمان، فالقانون الوضعي يعاقب بأشد العقوبات من وقع في الخيانة العظمى التي هي خيانة الوطن، ونحن لا ننكر أن من خان الوطن يجب أن يقام عليه حد الحرابة، ويرى فيه ولي الأمر المسلم ما يرى، لكن هذا القانون الوضعي الأعمى لا يعاقب من وقع في الخيانة الأعظم -وليست العظمى- ألا وهي خيانة الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، لا يعاقب القانون الوضعي الأعمى من خان الله ورسوله وارتد عن الإسلام، فيأتي العلمانيون ويقولون: هو حر، وله أن يختار من العقائد ما يريد، يكون مسلماً لمدة يومين ثم يكفر لمدة يومين، كما يريد! ويحتج علينا العلمانيون بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، نحن لا ننكر آية من آيات رب العالمين، ولا كلمة من كلام سيد النبيين، لكن (لا إكراه في الدين) بعد أن نبين حجة الله ودين الله لغير المسلمين على وجه الأرض، دون أن يحول أحد بيننا وبين دعوة الناس لدين الله، فإن عرضنا الإسلام عرضاً بيناً واضحاً على غير المسلمين، واستمع منا غير المسلمين، وأبوا أن يدخلوا في الإسلام حينئذ نقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، لكننا الآن أمام رجل مسلم دخل الإسلام طواعية واختياراً، ثم ارتد عن الإسلام علانية، هذا يزلزل قواعد المجتمع المسلم من أركانها، وهذا إن لم تأخذ الشريعة على يده دبت الفوضى في المسلمين، وتزلزلت القلوب المريضة من المنافقين الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان؛ لذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وفي لفظ البخاري من حديث ابن عباس: (قال صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه)، فأنت أمام مسلم دخل الإسلام وارتد عنه، فهذا ينبغي أن يستتاب وإلا فعلى ولي الأمر المسلم أن يقيم عليه حد الردة بعد الاستتابة، فيقتله ويخلص المجتمع الإسلامي من شروره الخبيثة.(52/10)
العلم والإيمان حصن حصين من الفتن
قد يقول قائل: ما هو واجبنا تجاه هذه الحرب، وماذا نفعل؟ يجب عليك ابتداء -أيها المسلم وأيتها المسلمة- أمام هذه الحرب المسعورة المعلنة على الإسلام بثوابته: أن تحصن نفسك بالإيمان والعلم الشرعي الصحيح، حصن نفسك بالإيمان، فالإيمان الآن كسفينة نوح وسط هذه الأمواج المتلاطمة، إن لم تركب هذه السفينة ستغرق وستهلك، ابحث عن العلماء الربانيين، مهما روجوا في وسائل الإعلام وفرقوا بين العلماء الرسميين والعلماء غير الرسميين، لو كان لا ينبغي لأي أحد أن يتكلم في دين الله إلا إذا حصل على ورقة رسمية فسنحكم الآن بأن الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبا حنيفة وابن القيم وابن تيمية، بل والصحابة بأنهم لم يكونوا مؤهلين للدعوة، فالدعوة إلى الله عز وجل: قال الله قال رسوله بالدليل الصحيح، أنت أخذت تصريحاً واضحاً أن تتحرك لدين الله من شريعة رسول الله، إن كنت فاهماً لأدلة القرآن، وأدلة النبي عليه الصلاة والسلام، ولست في حاجة إلى أن يقال لك: تحرك أو لا تتحرك، بل يجب عليك أن تحصن نفسك بالإيمان الصحيح وبالعلم الشرعي الصحيح.
ثم الخطوة الثالثة: يجب عليك أن تتحرك بهذا العلم الصحيح للأمر بالمعروف بمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر، تحرك للدعوة لدين الله تبارك وتعالى، فكما تحرك أهل الكفر لكفرهم، وأهل الباطل لباطلهم؛ وجب على أهل الحق أن يتحركوا لحقهم، أقسم بالله الذي لا إله غيره! ما انتشر الباطل وأهله، إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله.
حصن نفسك بالإيمان والعلم الشرعي على قدر استطاعتك، أنت طبيب، أو مهندس، أو مسئول، أو موظف، وأنتِ زوجة في البيت؛ فلنتحرك جميعاً على قدر استطاعتنا، ونعبر عن غيرتنا لله، عبر عن غيرتك لذات الله ولقرآن الله، مر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، وبغير انفعال يخرج بك عن ضوابط الشرع.
من منا لا يقدر -بعد هذا الهم- أن يكتب مائة رسالة، هذه الألوف المؤلفة التي تحضر معي الآن لو كتب كل فرد فينا عشر رسائل -حتى لا أكون مبالغاً أو شاقاً على الأحباب- وأرسل إلى المسئولين بكلمات مهذبة جميلة، يعبر من خلالها عن غضبه لدينه لعقيدته لقرآن ربه لذات الله جل جلاله، أرسل إلى المسئولين إلى رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى وزير الأوقاف إلى شيخ الأزهر إلى المفتي إلى وزارة الأوقاف إلى كل المسئولين، وإن كان هنا مسئول يسمعني الآن فأقول له: هذا دينك، هذا قرآنك، هذا ربك جل جلاله، فإن لم تتحرك الآن فمتى ستتحرك؟! ينبغي أن يعي المسئولون أن هذه الأمة لا زالت قلوبها تنبض بتوحيد الله، يجب أن يعلم المسئولون أن هذه الأمة لا زالت تقدم أرواحها ودماءها فداء لدين ربها، وقرآن ربها، ولنبيها صلى الله عليه وسلم، وهي وراء العلماء الربانيين، ووراء الدعاة الصادقين الذين يقولون: قال رب العالمين، قال سيد النبيين، هذا دورك أنت، لا عذر لك -ورب الكعبة- إن لم تفعل، وهذا أضعف الإيمان.
إن مثل هذا المشهد الذي يتمثل بكثرة من حضور الناس في المساجد يدل على أن الأمة تعشق الإسلام، وتموت من أجل التوحيد، وتبذل الوقت والمال من أجل أن تستمع إلى الدعاة وإلى العلماء الربانيين، الذين يقولون: قال الله، قال رسوله؛ ولذلك فلابد أن نجيش طاقات الأمة، وقدرات الأمة، وإمكانات الأمة، وقوة الأمة؛ لنري أعداءنا في الخارج والداخل: أن الأمة لا زالت قلوبها تنبض بحب الإسلام، وبحب التوحيد، وبحب القرآن، وبحب النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
ومع كل هذا فأقول لكم: إنها زوبعة في فنجان، كل ما سمعتموه، وكل الحرب المعلنة على ثوابت الإسلام، شأنها كشأن ذبابة حقيرة تافهة سقطت على نخلة عملاقة، ولما أرادت الذبابة الحقيرة أن تطير وتنصرف قالت للنخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة! لأني راحلة عنك، فردت عليها نخلة التمر العملاقة وقالت: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة! فهل شعرت بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عني! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(52/11)
لا تيئسوا من روح الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لا تيئسوا من روح الله، أين الصليبيون الحاقدون الذين قاموا بالهجمات والغزوات الصليبية الحاقدة على الإسلام؟! وأين التتار؟! وأين القرامطة؟! وأين المرتدون؟! وأين الإنجليز؟! وأين الفرنسيون؟! وأين؟ وأين؟ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، هل تصدقون رب العالمين؟! هذا كلام ربنا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، فمهما انتفخ الباطل وانتفش فإنه زاهق، ومهما انزوى الحق وضعف فإنه ظاهر، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وقال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، وقال جل وعلا: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47].
وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني من حديث تميم الداري: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار)، والله إننا نصدق ربنا ونبينا مع شراسة الحرب وضراوتها (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
أيها المسلمون! إننا على يقين جازم -مع علمنا بالواقع جيداً- أن الجولة المقبلة للإسلام ولدين النبي عليه الصلاة والسلام، لموعود الله ولموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أقول هذا من باب الرجم بالغيب، ولا من باب الأحلام الوردية للآلام التي نحملها، ولا من باب ضغط الواقع، فإن من أعظم الأدلة على أرض الواقع: أن النهضة الفكرية الحديثة قد انقلبت إلى ظلام فكري دامس، وأن رواد جيل النهضة يرقصون الآن رقصة الموت، كان رواد جيل النهضة يتصورون أن كتاباتهم ومؤلفاتهم وأقلامهم ستربي وستخرج جيلاً لا يعرف الله! وقد جاء صحفي علماني إلى هذا المسجد، فلما رأى هذا المشهد من جموع المصلين؛ هاله الموقف إذ إنه كان يظن أن الإسلام قد انتهى.(52/12)
فشل المشروع الإلحادي في زعزعة ثوابت الأمة
مشروع النهضة الحديث فشل فشلاً ذريعاً؛ لأنهم رأوا في هذه الصحوة الكريمة شباباً في ريعان الصبا، ورأوا فتيات في عمر الورود، ورأوا كوكبة مباركة تعلن الحرب على مشروع نهضتهم المزور الفاسد، بل وتصدى علماء ودعاة الصحوة إلى هذا المشروع، وبينوا زيفه، وأسقطوا ورقة التوت ونسيج العنكبوت الذي طالما اختفى بها وفيها هؤلاء المثقفون المزعومون، فهم يرقصون الآن رقصة الموت، حينما يرون صحوتكم المباركة الراشدة، حينما يرون هذه الكوكبة الكريمة تعود من جديد إلى الله، وتقول قولة السابقين الصادقين الأولين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] حينما رأوا هذا الشباب قد ولى ظهره لواشنطن وبنكوك ومدريد وباريس وتل أبيب، ووجه وجهه من جديد إلى القبلة التي ارتضاها الله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، إنهم يرقصون -ورب الكعبة- رقصة الموت؛ فحصنوا أنفسكم بالإيمان والعلم الشرعي، وتحركوا للأمر بالمعروف بمعروف، والنهي عن المنكر بغير منكر، وتحركوا للدعوة إلى هذا الدين الذي من أجله خلق الله السموات والأرض والجنة والنار، تحركوا للحق كما تحرك أهل الكفر وأهل الباطل لكفرهم وباطلهم، ونحن على أمل بموعود الله، وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن الجولة المقبلة لدين الله ولشرع المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واصرف غضبك ومقتك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم إنا نقر لك -جميعاً- بالعظمة والكمال والجلال، اللهم إنا نقر لك -جميعاً- بالعظمة والكمال والجلال، فلا تؤاخذنا بما فعل السفهاء يا كبير يا متعال! اللهم انصر الإسلام والموحدين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، ومكن للتوحيد والموحدين، وانصر المجاهدين الشيشانين والفلسطينيين والفلبينيين، وفي كل مكان يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته.
اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وأسألك باسمك الأعظم الذي إن سئلت به أعطيت، وإن دعيت به أجبت؛ كما صبر إخواننا على تأخر الوقت وعلى حر الشمس، أسألك -يا سيدي- أن تقيهم وتقينا معهم حر جهنم، اللهم قنا حر جهنم، اللهم نجنا من حر جنهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/13)
يا ألف مليون مسلم
يشن الصليبيون حرباً وحشية على الإسلام وأهله، ومن أعظم ذلك ما قام به الصرب من المذابح الجماعية، والمجازر المروعة، ضد إخواننا في البوسنة والهرسك، وذلك على مرأى ومسمع من العالم، فعلى المسلمين أن يفيقوا من غفلتهم، ويرجعوا إلى ربهم، وينصروا إخوانهم كل بما يستطيعه: بالمال والدعاء ونحو ذلك.(53/1)
المجازر الصربية وغفلة المسلمين
الحمد لله رب العالمين، أحمدك يا ربي! وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك وعظم جاهك ولا إله غيرك، اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التبجيل إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بلائك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين.
اللهم تدافع برك، واتصل خيرك، وكمل عطاؤك، وعمت فواضلك، وتمت نوازلك، وبر قسمك، وصدق وعدك، وحق على أعدائك وعيدك ووعدك، ولم تبق لنا حاجة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهوان المسلمين على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت إلهنا، إلى من تكلنا؟! إلى بعيد يتجهمنا! أم إلى عدو ملكته أمرنا! إن لم يكن بك غضب على المسلمين فلا نبالي.
نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن لا تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المجاهدين وقائد الغر الميامين، وإمام الغر المحجلين، الذي وقف في ساحة الوغى يوم خرست الألسنة وصمتت الأفواه، ونطقت السيوف على منابر الرقاب، وقف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول بأعلى صوته: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب).
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:1 - 22].(53/2)
الحقد الصربي في البوسنة والهرسك
أيها المسلمون! هل سمعتم بمجزرة إخوانكم في جمهورية البوسنة والهرسك الإسلامية؟! يا من تلذذتم بالفراش! يا من تلذذتم بالطعام! يا من تلذذتم بالشراب! يا من عافستم الأزواج والأولاد! يا من وضعتم بين أيديكم أصناف وألوان الطعام والشراب! هل سمعتم بما حدث لإخواننا وأخواتنا المسلمات في جمهورية إسلامية، في قلب جزيرة البلقان، في يوغوسلافيا، هل سمعتم ما حدث لإخوانكم المسلمين في جمهورية البسنة والهرسك؟! أيها المسلمون في كل مكان! أيها الغافلون النائمون! انتبهوا، استيقظوا، أفيقوا واطردوا النوم والغفلة عن عيونكم، وعن قلوبكم؛ لتعلموا أن الحروب الصليبية ما انتهت ولن تنتهي إلا إذا شاء الله، وإلا إذا عاد المسلمون إلى ربهم جل وعلا، وإلى إسلامهم، إلى مصدر عزهم، وإلى مصدر شرفهم.
هل سمعتم ماذا يفعله النصارى في يوغوسلافيا بإخواننا وأخواتنا في جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة؟! والله إن العين لتدمع، وإن القلب ليتمزق، وإنا لما يحدث لإخواننا على مرأى ومسمع من الدنيا لمحزونون! أين دعاة حقوق الإنسان؟! أين الذين ينتمون للديمقراطيات؟! أين الذين يرقصون على مسرح حرية الاعتقادات؟! خرست ألسنتهم! وماتت قلوبهم! حلال لهم حرام على الموحدين، حرام على المسلمين! على مرأى ومسمع من الدنيا، يذبح المسلمون ذبح الخراف وهم ينظرون!! فتعالوا بنا لعل الأعين الجامدة أن تدمع، ولعل القلوب الميتة أن تحيا، وأن تستيقظ وأن تقوم من سباتها العميق، وأن تنفض عن كاهلها غبار والوسن والنوم, الذي طال وطالت مدته، تعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى إخواننا وأخواتنا إلى المسلمة التي صرخت بأعلى صوتها: وا إسلاماه! وا معتصماه! تقول: يا مسلمون هتك عرضي! وبقرت بطني! ووضع قائد المليشيات النصراني الكافر نطفة حية في بطنها! وسخر وضحك بأعلى صوته وهو يقول لها: هأنا أريد أن أرى هل ستنجبين ذكراً أم أنثى؟! على مرأى ومسمع من الدنيا، على مرأى ومسمع من المسلمين السذج! من المسلمين الذين فتحوا بلادهم للنصارى! وفتحوا قلوبهم للنصارى! وفتحوا بيوتهم للنصارى! ويأتي المسلم الغافل ليسألني ويقول لي: يا شيخ! إن لي صاحباً نصرانياً، هل عليّ إثم في زيارته؟! اسمعوا أيها الغافلون! ماذا يصنع النصارى بإخواننا الموحدين، إن أخواتنا المسلمات ينادين ويقلن: واإسلاماه! واإسلاماه! وامعتصماه! ولكن: ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح! ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين همُ إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيـ ـث من استغاث به وصاح يا الله! قل الظهير، وقل المعين، وانعدمت المروءة، وانعدمت الشهامة، وانعدمت النخوة، وضاع عهد الرجال وأتى عهد النساء، وأقبل عهد الحريم! فلتزلزلي يا أرض! ولتزمجري يا جبال! ولتزمجري يا سماء! مضى عهد الرجال وأتى عهد النساء، وذبح المسلمون تذبيح الفراخ، هتكت أعراض نسائنا، هتكت أعراض أخواتنا، تصرخ عليك المسلمة وتقول: يا مسلم! يا أخي في الله! بقرت بطني، وهتك عرضي، وضاع شرفي ولكن أين الإسلام؟! وأين المسلمون؟! وأين المعتصم؟ إنا لله وإنا إليه راجعون!(53/3)
الحقد الصربي تاريخي وقديم
وتبدأ القصة على هذه الأرض الإسلامية في جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة من عام ألف وثمانمائة وأربعة وأربعين من ميلاد المسيح -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- يوم أن أعلن الصرب النصارى الكفرة الفجرة برنامجهم القومي.
وكان من بين بنود هذا البرنامج هذا القرار الذي يقول: بتهجير جميع المسلمين من جمهورية البوسنة والهرسك الإسلامية وغيرها، أو إدخالهم في النصرانية، أو في الديانة الأرذوذكسية النصرانية، ولما أصر المسلمون على دينهم وعلى توحيدهم وعلى إسلامهم وعلى دين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بدأ العداء، وأراد الصرب أن يعلنوا جمهوريتهم الصربية الكبرى، وبدأت المجازر من ذلك العام.
وبدءوا بتدمير وإحراق قرية عن كاملها، على رءوس أطفالها وشيوخها، ورجالها ونسائها! وأتوا على جسر يمتد على نهر كبير وضربوا هذا الجسر فسقط عدد كبير من المسلمين في هذا النهر، ولما امتلأت الشوارع بالجثث المسلمة من المسلمين والمسلمات ألقوا بها في هذا النهر، ولما عجز النهر عن أن يلتقط هذه الجثث، ولفظ بها فطفت الجثث على سطح النهر والماء؛ ذهب الصرب النصارى ليبقروا بطون المسلمين والمسلمات حتى تهوي هذه الجثث في قاع هذا النهر! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وتمتد هذه الحرب الصليبية التي ما انتهت ولن تنتهي إلا إذا عاد المسلمون إلى الله، وعاد المسلمون إلى مصدر عزهم وشرفهم وكرامتهم، الذي قال عنه فاروق هذه الأمة عمر: كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.(53/4)
مجازر على مرأى ومسمع من العالم
وتمتد هذه المجزرة يا عباد الله! ففي الأسبوعين الماضيين حدثت مجزرة جماعية كبرى للمسلمين والمسلمات في جمهورية البوسنة والهرسك، على مرأى ومسمع ممن يتغنون بحقوق الإنسان وحقوق حرية الاعتقادات وغيرها! ما الذي حدث؟! وما الذي جرى؟! والنصارى في كل مكان يباركون هذه المجازر وهذه الدماء التي سفكت رخيصة لا قيمة لها، والمسلمون يفتحون بلادهم للنصارى ويفتحون قلوبهم للنصارى، ويفتحون أعمالهم للنصارى، والنصارى في كل بلاد المسلمين يأكلون ويشربون ويتنعمون! وتمت المجزرة بتوجه قائد الملشيات الصربية النصرانية الفاجر الكافر إلى قرية من قرى جمهورية البوسنة والهرسك، وأطلق عليها نيران مدفعيته الثقيلة فأبادها على رءوس أطفالها ورجالها ونسائها! وراح الجنود يمثلون بجثث المسلمين والمسلمات، ويسكبون على هذه الجثث الطاهرة زجاجات الخمر التي كانت بأيديهم، ويرسمون بالسكاكين الصلبان على أجسادهم الطاهرة! لماذا؟ لأن عقيدة الذبح عند النصارى الصرب يتعلمونها في المدارس وفي الكنائس، بل ويؤيد ذلك البرلمان الصربي! فقد أصدر البرلمان الصربي قراراً بأن ذبح المسلمين وذبح المسلمات إنما هو قربان إلى الله جل وعلا! لماذا؟ لأنهم يريدون أن يعلنوا للصرب النصارى الفجرة بأن المسلمين هم نسل العثمانيين الذين استولوا وسيطروا على شبه جزيرة البلقان خمسة قرون متوالية، فقد فتح الإسلام هذه البلاد واستمر الإسلام فيها خمسة قرون.(53/5)
العدالة والمجد للفتوح الإسلامية
يوم أن غاب المسلمون عن هويتهم وغاب المسلمون عن وعيهم، وراح المسلمون يلهثون وراء الشهوات ووراء النزوات، ونسوا الهدف الذي من أجله أوجدهم رب الأرض والسماوات، أذلهم الله جل وعلا، فراح الصرب يعلنون أن المسلمين في جمهورية البوسنة والهرسك وغيرها من نسل الأتراك العثمانيين، ولابد من الانتقام منهم رداً لاعتبار الذين قتلهم العثمانيون بزعمهم.
وقد ضرب المسلمون أروع الأمثلة، التي مثلوا بها الإسلام في هذه البلدان، هل نسيتم يوم أن فتح الإسلام مدينة سمرقند، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي قضاة المسلمين، يقول له فيها: إن فتحكم الإسلامي لمدينة سمرقند فتح باطل، وبيَّن له الأسباب ما هي؟ إنكم فتحتم بلادنا عنوة قبل أن تدعونا إلى الإسلام، وقبل أن تفرضوا علينا الجزية، ولما وصلت الرسالة إلى قاضي قضاة المسلمين أرسل أمراً فورياً عاجلاً إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، يأمره فيه أن يصدر الأوامر إلى جيش المسلمين في سمرقند بسحب الجيش فوراً؛ لأن الفتح لسمرقند فتح باطل لا يرضاه الله، ولم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أتدرون ماذا جرى؟! استجاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على الفور، وأرسل رسالة إلى قائد الجيوش الإسلامية في بلاد سمرقند بالانسحاب فوراً، ولما وصلت الرسالة إلى قائد الجيوش وإذا به يصدر الأوامر إلى الجيش الإسلامي بالانسحاب فوراً من سمرقند! فلما رأى أهل سمرقند ذلك الموقف العظيم، وذلك المشهد المهيب الرهيب، خرج أهل سمرقند عن بكرة أبيهم بين يدي قائد الجيش الإسلامي وهم يعلنون على قلب رجل واحد ويقولون: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.
ذلكم هو الإسلام الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256] وقد ضرب الإسلام أروع الأمثلة لحماية هؤلاء تحت مظلته، وتحت رايته، وتحت رعايته، وتحت إمرته، وتحت قيادة جنوده الأبرار الأطهار، الذين رباهم نبينا المختار صلى الله عليه وسلم.(53/6)
تقرب الصرب إلى الله بذبح المسلمين
فالصرب يريدون أن يعلنوا لأبنائهم بأن التقرب إلى الله لا يكون إلا بذبح المسلمين وذبح المسلمات! فراحوا في الأسبوعين الماضيين يحدوهم الأمل وأعلنوا عن جمهورية الصرب المستقلة الكبرى، وبدءوا بالتضييق على المسلمين حتى يتركوا جمهوريتهم الإسلامية، فهاجر عدد كبير كاد أن يصل إلى نصف مليون! واسمعوا إلى هذه الفتوى الأخيرة التي أصدرها قساوسة الكنائس، هذه الفتوى الخطيرة التي أصدرها القساوسة النصارى الصرب في يوغوسلافيا تقول: إن أعراض المسلمات حلال لكل من يدين بالنصرانية! فانتهكوا أعراض المسلمات، واعتدوا على شرفهن، وقطعوا أبدانهن، وأرسلوا بمجموعة من النساء اللاتي انتهك شرفهن وضاع عرضهن، وقطعت أجسامهن، أرسلوا بمجموعة منهن إلى أماكن تجمع المسلمين لإحراق قلوبهم! ولكن هذا لمن كان في صدره قلب، ولمن كان في رأسه أذن، ولمن كان في وجهه عين: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، لا تنفع الغافلين، ولا تنفع المغفلين، ولا تنفع النائمين، ما الذي جرى؟! وما الذي حدث؟! وما الذي فعله المسلمون أمام هذه المذبحة، وأمام هذه المجزرة التي كانت على مرأى ومسمع من الدنيا؟!(53/7)
الملحمة الصربية الحاقدة
أتدرون أنهم يعلمون أبناءهم في المدارس هذه الملحمة الشعرية الكبرى! اسمعوا يا عباد الله! اسمعوا يا مسلمون! في كل مكان، اسمعوا إلى بنود هذه الملحمة الكبرى التي يتربى عليها أولاد الصرب النصارى في المدارس والجامعات والمعاهد والكنائس على أيدي القساوسة، وعلى أيدي المدرسين، اسمعوا إلى هذه الملحمة الشعرية الكبرى التي تقول: سلك المسلمون طريق الشيطان، دنسوا الأرض ملئوها رجساً، فلتعد للأرض خصوبتها، ولنطهرها من رجس الأوثان، ولنطهرها من تلك الأوساخ، ولنبصق على القرآن، وليطير رأس كل مؤمن يؤمن بدين الكلاب، ويتبع محمداً، فليذهب غير مأسوف عليه! هذه ملحمتهم، وهذه عقيدتهم، وهذا دينهم، وهذا قولهم، وهذا قرآنهم! أسمعتم يا عباد الله؟! أسمعتم أيها المسلمون؟! يا من تلذذتم بالفراش! وتلذذتم بالطعام! وتلذذتم بالشراب! أماتت نخوتكم؟! أمات إسلامكم؟! أمات دينكم؟! أماتت عزتكم؟! فليتخيل كل واحد منا أن هذه الأخت التي انتهك عرضها وضاع شرفها أنها أمك، أنها أختك، أنها زوجتك، أنها ابنتك، ماذا أنت صانع؟! هل فكرت في هذا؟! أفيقوا يا مسلمون! يا من فتحتم أماكن أعمالكم وشركاتكم للنصارى، ولكل طوائف الكفر من كل فج عميق، جاءوا إلى بلادنا، أكلوا خيراتنا، وأكلوا أرزاقنا، وعاشوا بيننا، ودخلوا بيوتنا، وهم هناك يذبحون أبناءنا، ويذبحون نساءنا، ويذبحون إخواننا.
فما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:1 - 8].
أسأل الله جل وعلا أن يرد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلا، وأن يعيد المسلمين إلى حظيرة الإسلام، وأن يعيد إليهم عزتهم وكرامتهم، ومجدهم، وأن يذل الشرك والمشركين، والكفرة والملحدين، إنه ولي ذلك ومولاه.
اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد! اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد! اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد! وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(53/8)
وجوب دعم المسلمين في البوسنة والهرسك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، إمام المجاهدين وقائد الغر الميامين.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها الأحبة! إن إخوانكم في جمهورية البوسنة والهرسك أعلنوا أنهم لا يريدون منكم الدواء ولا يريدون منكم الغذاء، ولكنهم يريدون منكم المال الذي يشترون به السلاح؛ ليذودوا عن شرفهم، وليحموا أعراض أخواتهم، فهل من مدكر؟! هل من مجيب؟! هل من مستجيب؟! من سيجمع اليوم الريال والألف؛ ليرسل به إلى الإخوة الذين تكفلوا بإرسال الأموال إلى إخوانكم هناك، وإلى أخواتكم هناك، هل من مستجيب؟ هل من مدكر؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11].
اللهم إنا نضرع إليك، يا أحد يا فرد يا صمد! يا منقذ الغرقى! ويا منجي الهلكى! ويا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! ويا دائم المعروف! لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه.
يا سامع الدعوات! ويا سامع الأصوات! ويا عالم الخفيات! ويا عالماً بما هو آت! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وأنت إلهنا، إلى من تكلنا؟! إلى بعيد يتجهمنا! أم إلى عدو ملكته أمرنا! إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي.
نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن لا تنزل بنا غضبك، أو يحل علينا سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات، اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات، اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات، اللهم احم أعراض أخواتنا المسلمات.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم اربط على قلوبهم يا رحيم يا رحمن.
اللهم انصر المجاهدين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المجاهدين في السودان، اللهم انصر المجاهدين في الفلبين، اللهم انصر المجاهدين في الصومال، اللهم انصر المجاهدين في إرتيريا، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان.
اللهم أقر أعيننا بدولة الإسلام، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام.
اللهم قيض لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل به أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم أذل الشرك والمشركين، والكفرة والملحدين، أنت ولي ذلك والقادر عليه يا رب العالمين! اللهم رد المسلمين إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم خذ بأيديهم إليك، اللهم خذ بأيديهم إليك، اللهم عجل بالقائد الرباني الذي يحكم المسلمين بكتابك، وسنة نبيك، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(53/9)
إلى الشباب
للشباب مكانة عظيمة ومنزلة عالية، فهم فجر الإسلام وعمدة النصر، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الاحتفاء بالشباب لصبرهم وجلدهم في الثبات على الدين، ولابد للشباب من وصايا، ومنها: لزوم القرب والارتباط بالعلماء، وتوسيع الفهم عن الله ورسوله، وفقه الواقع، وكيفية تغيير المنكر وضوابطه، ومحاسبة النفس أشد من محاسبة الشريك الشحيح لشريكه.(54/1)
مكانة الشباب
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته، ودار مقامته؛ إنه هو ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! رسالة إلى الشباب.
هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة المباركة، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل الكبير في العناصر التالية: أولاً: مكانة الشباب.
ثانياً: الفهم عن الله ورسوله.
ثالثاً: فقه التغيير.
رابعاً: حرمة الدماء.
وأخيراً: نصيحة محب.(54/2)
حفاوة النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب
أولاً: مكانة الشباب: أحبتي في الله! إن كان شيوخنا وآباؤنا عقول الأمة التي تخطط وتفكر، فإن شبابنا سواعد الأمة التي تبني وتعمر، ولا يكون أبداً لعقل أن يأتي مجرداً دون أن يمشي على قدمين، ودون أن يقوى بساعدين، فالأمة لا تستغني أبداً عن شبابها، وأمة تستغني عن شبابها أمة خاذلة، وأمة خاسرة مخذولة.
فلا غنى أبداً للشباب عن الشيوخ والآباء، ولا غنى أبداً للشيوخ والآباء عن الشباب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحفاوة بالشباب، فلقد أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سن الأربعين وهو سن اكتمال الشباب، وكان أبو بكر رضي الله عنه في الثامنة والثلاثين من عمره في ريعان الشباب.
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان في السابعة والعشرين من عمره في ريعان الشباب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان في العاشرة من عمره، والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله والأرقم بن أبي الأرقم وخباب بن الأرت وعبد الله بن الزبير ومصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص وأسيد بن حضير هؤلاء وغير هؤلاء كانوا شباباً في ريعان الشباب، نصروا الدعوة من لحظاتها الأولى، وبذلوا عرقهم، بل وأرواحهم ودماءهم لنصرة هذا الدين.
فأول سفير يتحدث باسم الإسلام خارج أرض الإسلام كان شاباً في ريعان الشباب في العشرينات من عمره، استطاع هذا الشاب بلغة لم ولن تعرف الدبلوماسية المعاصرة لها مثيلاً على الإطلاق استطاع هذا الشاب المبارك بعرضه لقضية الإسلام أن يضيء للإسلام شمعة في أرض مظلمة، واستطاع أن يشق للإسلام نهراً للحياة وسط صخور صلدة قاسية عاتية، إنه جعفر بن أبي طالب حين تحدث بين يدي النجاشي في بلاد الحبشة.
وأول فدائي في الإسلام كان شاباً في الثالثة والعشرين من عمره حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم وقد قدم روحه رخيصة لنصرة هذا الدين وللذود والذب عن سيد النبيين وإمام المرسلين، إنه الشاب الذي اضطر يوماً لأن يفخر فقال: محمدٌ النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد سكني وزوجي منوط لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي إنه أسد الله الغالب علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأول داعية يتحرك للدعوة خارج أرض الإسلام، بل ويضع النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه مصير الدعوة بأكمله كان شاباً في ريعان الشباب، إنه زهرة فتيان قريش، إنه لؤلؤة ندواتها، إنه غرة فتيانها، إنه قطب الرحى بين رجالها، إنه أعطر شبابها، إنه مصعب الخير مصعب بن عمير.
وهذا شاب آخر يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير لمناطحة الصخور الصماء في بلاد الروم لتأديب القبائل التي اعتدت على حدود الدولة الإسلامية، يوليه النبي قيادة الجيش المسلم، وتحت قيادته أكابر الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم أجمعين، إنه الحب بن الحب أسامة بن زيد رضي الله عنه.
كانوا شباباً في ريعان الشباب، عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، وعرفوا الوظيفة التي من أجلها ابتعثوا، وبذلوا أرواحهم رخيصة لنصرة هذا الدين.
لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحفاوة بالشباب، وشديد الحب للشباب، وشديد العناية بالشباب، فالشباب بلا نزاع هم مستقبل الأمة بإذن الله، الشباب هم أمل الأمة بعد الله تبارك وتعالى، فالشمس لا تملأ النهار في آخره كما تملأ النهار في وسطه وأوله، تلك هي مرحلة الشباب، ومرحلة الطاقة، ومرحلة الفتوة، ومرحلة العمل، ومرحلة الإرادة، ويجب على هذه الأمة أن تستغل شبابها، وأن توظف شبابها في وقت ذلت فيه الأمة وهانت لمن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير.(54/3)
أهمية الارتباط بين العلماء والشباب
إنني أدين الله جل وعلا بأن أكبر جرم يرتكب في حق الشباب أن يحال بين الشيوخ والعلماء وبين الشباب، وشبابنا بطبعه يحب التدين، شباب الأمة بطبعه يحب التدين، بل لو انحرف يمنة أو يسرة إذا ذكر بالله بحكمة ورحمة وأدب وتواضع سرعان ما يعود باكياً إلى الله يردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
أقول: إن لم يتعلم شبابنا في المساجد بتلك الطريقة بين الأنوار في وضح النهار وفي الضوء الساطع والواضح، إن لم يتعلم شبابنا في المساجد وهذا النور سيتعلم شبابنا في الظلام، وإن لم يتعلم شبابنا على سطح الأرض في بيوت الله سيتعلم شبابنا تحت الأرض في السراديب، وسيأتي علمهم مظلماً بظلام البيئة التي سيحرصون على التعلم فيها؛ لأنه حيل بينهم وبين الجلوس بين أيدي العلماء، وسيأتي علمهم منحرفاً انحراف السراديب التي سيتلقون فيها العلم بعيداً عن هذا الحق وهذا الوضوح، لا ينبغي أبداً أن نخشى من المساجد، ولا يجوز ألبتة أن نخاف من العلماء، فالعلماء صمام الأمان لهذه الأمة.
ويجب على شبابنا أن يجلس بين العلماء الربانيين ليسمع منهم عن الله وعن رسول الله، وحذار ثم حذار أن يسمع شاب من شبابنا فتوى لعالم من علمائنا الربانيين فلا تصادف الفتوى هوى في قلب هذا الشباب من منطلق حماسه وإخلاصه لدين الله، فينطلق ليحكم على هذا العالم الرباني بأنه صار من علماء السلطان أو صار يبحث عن منصب وزاري أو منصب دنيوي، كلا كلا، فالأمر دين.
فيجب على شبابنا الآن أن يراجع الربانيين من العلماء، ويجب على المشايخ والعلماء ألا يحتقروا الشباب، وألا يزدروا الشباب، وألا يظهر هنا أو هناك على فضائية أو أخرى من ينسب إلى العلم ليتكلم عن شباب الأمة الذي يود أن لو ضحى بدمه لنصرة دين الله تبارك وتعالى ليعلم سفلة الأرض أن محمداً ما مات وما خلف بناتاً، بل خلف أطهاراً يودون أن لو ضحوا بأنفسهم لنصرة دين الله.
لا ينبغي أن يظهر رجل من أهل العلم على فضائية هنا أو فضائية هناك ليقول: (هؤلاء العيال!) إلى آخر هذه الألفاظ التي لا تليق بشباب يود -ورب الكعبة- أن لو بذل نفسه لدين الله تبارك وتعالى.
الأمة لا غنى لها أبداً عن شيوخها وعلمائها ورجالها وشبابها، وآن الأوان في وقت تذل فيه الأمة وتهان، آن الأوان أن تلتحم الأمة وأن يلتحم الشباب مع العلماء، وأن يلتحم العلماء مع الشباب ليعلم العلماء الشباب من قرآن ربهم وسنة نبيهم بفهم سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم.
هذا ورب الكعبة هو طريق النجاة، وهو المخرج مما يسمونه بالتطرف والإرهاب، لا مخرج إلا أن يجلس العلماء مع الشباب، وإلا أن يحترم العلماء والشيوخ الشباب، وأن يحترم في الوقت ذاته الشباب العلماء، وأن يجلس الشباب بين أيدي العلماء ليتعلموا منهم قول الله وقول رسول الله بفهم سلف الأمة عليهم جميعاً رضوان الله.(54/4)
نتيجة انحراف الشاب عن الدين والعلماء
هذه النعمة -أقصد الشباب- إن ابتعدت عن العلماء وابتعدت عن الدين غرقت في بحور الشهوات، وإن انحرف الشباب عن الفهم الصحيح للدين على مراد الله ومراد رسول الله بفهم الصحابة سقط في شباك الشبهات.
أقول: إن ابتعد شبابنا عن الدين غرق الشباب في بحور الشهوات، وإن انحرف الشباب عن الفهم الصحيح للدين على مراد الله ورسوله بفهم السلف سقط شبابنا في شباك الشبهات، ولا يخفى على أحد أن كثيراً من شباب الأمة الآن غرق في بحور الشهوات، وسقط في شباك الشبهات، لماذا؟ لأن شبابنا ينشأ الآن ويربى في ظل جملة هائلة من المتناقضات والأزمات والمشكلات، ولأنه قد انصرف عن العلماء أو حيل بينه وبين العلماء، فصار يعيش في بحر لجي من الفتن، فتن الشهوات والشبهات.
ظلمات من الفتن بعضها فوق بعض، بل إذا أخرج الشاب يده لم يكد يراها، بل إذا امتدت إليه يد متوضئة طاهرة فاهمة واعية -تفهم الواقع والدين بفهم دقيق ووعي عميق- لتنقذه من هذا الغرق المحقق في بحور الشهوات أو في شباك الشبهات جذبته أيادٍ أخرى كثيرة لكثرة الأعداء المتربصين بشبابنا ممن لا يريدون لهذا الشباب أن يتربى على القرآن والسنة.
مؤامرة تدور على الشباب لتجعله ركاماً من تراب مؤامرة تقول لهم تعالوا إلى الشهوات في ظل الشراب شيوعيون جذر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب(54/5)
الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم(54/6)
أهمية العلم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم
أقول: إن انحرف الشباب عن الدين غرق في بحور الشهوات، وإن انحرف عن الفهم الصحيح للدين سقط في شباك الشبهات، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز، الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الشباب! من سلك طريقاً بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير الأصول زل، والدليل المنير لنا في كل هذه الظلماء، والأصل العاصم لنا بإذن الله من كل هذه الفتن والأهواء هو العلم بفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ترجم الإمام البخاري في كتاب العلم باباً بعنوان: (باب العلم قبل القول والعمل).
يجب عليك ألا تتكلم في دين الله تبارك وتعالى إلا بعد أن تتعلم، فضلاً عن أنه يجب عليك ألا تتحرك خطوة واحدة على الطريق لدين الله جل وعلا إلا بعد أن تتعلم.
أخاطبك -ورب الكعبة- بكياني كله: حماسك وحده لا يكفي، وإخلاصك للدين وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون حماسنا وإخلاصنا منضبطين بضوابط القرآن والسنة بفهم سلف الأمة؛ حتى لا نضر ونحن نريد النفع، وحتى لا نفسد ونحن نريد الإصلاح، فالأمر دين ندين به ربنا تبارك وتعالى.
فالفهم عن الله ورسوله، لا تتكلم إلا بعد أن تتعلم، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين، فبدأ بالعلم وثنى بالعمل.
قال: وقدم الله العلم على العمل لأن العلم هو المصحح للنية التي يصح بها كل قول وعمل.
ثم يترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب العلم باباً آخر من أفقه أبواب هذا الكتاب، بل ورحم الله من قال: (فقه البخاري في تراجمه)، فترجمة الإمام تحمل فقهاً غزيراً قبل أن تقرأ ما دونه.
يترجم باباً آخر في كتاب العلم بعنوان: (باب الفهم في العلم)، فلا تعجل حتى تفهم الدليل، فالدليل ليس منتهى العلم! الدليل ليس منتهى العلم! تقول: الدليل في البخاري ومسلم -على رأيك-.
وهذا كلام في عيني وفي قلبي، لكن لا تعجل حتى تفهم الأدلة ومراتب الأدلة ومناطات الأدلة؛ حتى تكون على بصيرة بالمجمل والمبين، بالعام والخاص، بالناسخ والمنسوخ، حتى تكون على بصيرة بالمصالح والمفاسد، حتى تكون على بصيرة بواقعك الذي أنت تعيش فيه، ثم بالأدلة الشرعية التي ستنسحب على واقع هذه المسألة التي تود أن تبحثها أو تدرسها.
(باب الفهم في العلم)، ويروي الإمام في هذا الباب حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، قال الحافظ ابن حجر: أي يفهمه.(54/7)
عاقبة سوء الفهم عن الله ورسوله
وأنا أقول: والله العظيم ما ضل من ضل ولن يضل من يضل إلا بسبب سوء الفهم لمراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديماً وحديثاً، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع.
ثم قال ابن القيم: وهل أوقع القدرية -النفاة منهم والجبرية- والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟! فالخوارج قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في حقهم: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم)، وأرجو أن تتصور أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً عليهم رضوان الله يحقر أحدهم صلاته إلى صلاة رجل من الخوارج، كانت جباههم كركب المعز من طول السجود بين يدي الله جل وعلا، ومع ذلك قال النبي في حقهم: (هم كلاب أهل النار) لماذا؟ إنها قضية الفهم.
مر عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت -رضوان الله عليه وعلى أبيه- مع امرأته، فسأل الخوارج عبد الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان الخوارج قد كفروا علياً بدعوى أنه حكم الرجال في كتاب الله، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
فانظر كيف يستشهد هؤلاء بالآيات، فلما سألوا عبد الله بن خباب عن علي أثنى عليه بما هو أهله، وأنا أود أن أقول: إننا ندين الله ونتقرب إلى الله مع كل نفس من أنفاس حياتنا بحب علي وحب آل بيت الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، نعم نحب علياً ونحب آل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، وأهل السنة جميعاً يدينون الله بذلك، والقضية لا تحتاج إلى مزايدات على الإطلاق.
فلما أثنى عبد الله على علي قتله الخوارج وذبحوه كما تذبح النعجة، ثم سألوا امرأته عن علي فأثنت عليه بما هو أهله فذبحوها كما تذبح النعجة وبقروا بطنها واستخرجوا جنينها من بين أحشائها، ومر هؤلاء المجرمون وأيديهم ملطخة بدماء عبد الله وامرأته على حائط للنخيل سقطت بعض تمراته خارج أسواره، فانحنى أحدهم ليلتقط تمرة ليأكلها، فقالوا: مه مه.
ماذا تصنع يا رجل؟! كيف تستحل لنفسك تمرة لم يأذن لك صاحبها؟! وأيديهم ملطخة بدماء عبد الله بن خباب وامرأته.
فسوء الفهم عن الله ورسوله قضية من أخطر القضايا.
وفي مسند أحمد وسنن ابن ماجة بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله تعالى في صحيح الجامع من حديث جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله عنهم وعن جميع أصحاب سيدنا رسول الله قال: (كنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لا ما دمت تقدر على الماء)، وأنا أقول: استدلوا بدليل صحيح؛ لأن القاعدة المتفق عليها تقول: (إذا وجد الماء بطل التيمم)، فـ (بطل) -بفتح الباء- معناه: لا يصح لك أن تتيمم وأنت تقدر على الماء، (فاغتسل الرجل فمات)، فهم أخذوا دليلاً عاماً لمناط خاص فقتلوا الرجل، هذه هي المصيبة، أن يفتي من يفتي دون فهم مناطات الدليل التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع، (فاغتسل فمات، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي السؤال).
كم قتل الجهل أناساً بدون حق؟ وكم يقتل؟ وكم سيقتل الجهل أناساً بدون حق؟ (ألا سألوا إذ لم يعلموا).
يا أخي! القضية ليست هوى، بل هي قضية دين، والقضية ليست عواطف بل هي قضية دين، يجب أن تسأل نفسك: هل ربي يأمرني بذلك أم لا؟ هل نبيي يكلفني بذلك أم لا؟ هل ديني يأمرني بذلك أم لا؟ هذا هو المنطلق الذي يجب أن ننطلق منه، لا ينبغي أن تؤثر فينا خيانة أعدائنا ونقض أعدائنا لعهودهم لنخون نحن أو لننقض العهود، أبداً، فالأمر دين.
جاء في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، يقول حذيفة أمين السر النبوي: (ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأبي حسيل إلا أننا خرجنا -يعني: للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم- فأخذنا المشركون -قبض المشركون عليهما- فقالوا: أتريدون محمداً؟ قال حذيفة: فقلت: لا) فالحرب خدعة، والكذب في الحرب جائز بنص حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الصحيحين، فقال: (لا، ما خرجنا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة وألا نقاتل مع رسول الله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم).
هذا محمد صلى الله عليه وسلم يا شباب! هذا إسلامنا يا شباب! نعلنها ورؤوسنا تعانق كواكب الجوزاء، نقول: هذا إسلامنا ولا نخجل أبداً، بل نقول بملء الفم: نحن مسلمون ولا نخجل، ومع كل قولة في ديننا ومع كل أمر ونهي نردده ونقول: مسلمون لا نخجل.
ونعلن للدنيا كلها قول ربنا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، فليهلك من هلك، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] الآيات، ونعتز بهذا الدين.
فالفهم الفهم، لقد قال صلى الله عليه وسلم في تلك القضية: (قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ إنما شفاء العي -والعي هو الجاهل- السؤال)، فلا تخجل أخي أن تسأل، بل يجب عليك أن تراجع العلماء، ولا ينبغي للعالم أن يتجرأ على الفتوى في المسائل التي لو عرضت -والله- على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
أقول -وقد صرحت بذلك في أكثر من لقاء-: هنالك مسائل يتصدر للفتوى فيها الآن عالم أوحد أرى ألا تخرج هذه الفتوى إلا من المجامع الفقهية، لاسيما إذا كانت الفتوى متعلقة بمسألة من المسائل النوازل الكبار.(54/8)
فقه التغيير
قضية الفهم عن الله ورسوله من أخطر وأهم القضايا، إن غاب الفهم لمراد الله وإن غاب الفهم لمراد رسول الله قد نضر ديننا غاية الضرر، وقد نفسد ونحن نريد الإصلاح، وقد نضر ونحن نريد النفع، إن غاب الفهم ربما نخطئ في قضية كبيرة من أخطر وأهم القضايا ألا وهي قضية تغيير المنكر، وهذا هو عنصرنا الثالث بإيجاز: فقه التغيير.
أخي الحبيب! الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في هذا الدين، وهو من أشرف المهام التي ابتعث الله لها النبيين والمرسلين، بل ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعمت الجهالة، واستشرى الفساد، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولن يشعروا بذلك إلا يوم التناد، وقد أمر الله به في كثير من آيات القرآن، وفرضه على أمة النبي عليه الصلاة والسلام، بل وأجمعت الأمة على وجوبه باتفاق، وجعله الله شرطاً من شروط خيرية أمة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، وقال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وما أكثر الآيات! فنحن جميعاً الحكام والعلماء وعامة الناس الصالحين وغيرهم، نحن جميعاً نركب سفينة واحدة إن نجت نجا الجميع، وإن غرقت غرق الجميع، غرق الصالحون مع غيرهم، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وفي صحيح البخاري من حديث النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا -قال صلى الله عليه وسلم-: فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً).
وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي استيقظ من نومه عندها فزعاً)، وفي لفظ: (دخل عليها يوماً فزعاً وهو يقول: لا إله إلا الله! لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق النبي بإصبعيه السبابة والإبهام- فقالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، وأنا أقسم بالله لقد كثر الخبث، قال: (نعم إذا كثر الخبث).
روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة.
قيل: من الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه -وفي لفظ: الرجل السفيه- يتكلم في أمر العامة)، صدق المصطفى والله.
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب (وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) واقع مرير.
إذاً فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، ولا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى المنكرات أمام عينيه وبين يديه ثم يهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد، ما دام يأكل ملء بطنه وينام ملء عينه ويضحك ملء فمه، لا، قال صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).(54/9)
ضوابط تغيير المنكر باليد والقلب
التغيير باليد له ضوابط حتى لا نضر، ألا تستطيع أن تغير بيدك بكلمة رقيقة جميلة حلوة؟ تستطيع -والله- أن تغير بها، فما عليك إلا أن تبذر بذراً صحيحاً، أعني: بالقرآن والسنة بفهم السلف، ودع النتائج بعد ذلك إلى الله؛ فإن هداية التوفيق ليست بيد ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إنما هي بيد الله تبارك وتعالى وحده، فما عليك إلا أن تتحرك بين الناس بأدب وحكمة ورحمة وتواضع لتبلغ عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودع النتائج بعد ذلك إليه تبارك وتعالى، غير بلسانك، ولا عذر لك أمام الله جل وعلا إن لم تغير المنكر بقلبك، قد لا تستطيع أن تغير بيدك، وقد لا تستطيع أن تغير بلسانك، لكن لا عذر لك أمام الله إن لم تغير بقلبك، فإن قلت: كيف أغير بقلبي؟ قلت: لابد لذلك من شرطين: الأول: أن يرى الله من قلبك بغضك لهذا المنكر.
الثاني: أن تزول أنت بنفسك عن المكان الذي ترى فيه المنكر الذي عجزت عن إزالته إن استطعت ذلك.
أما أن تأتي وتجلس -مثلاً- أمام فلم من الأفلام، ويعرض الفلم لقطة من لقطات الرقص الشرقي -مثلاً- وأنت جالس وتتصور أنك منكر لهذا المنكر فلا، فتراه جالساً وهو ينظر، ثم هو يريد أن يقنع نفسه بأنه منكر، فيقول: أستغفر الله، أستغفر الله، استغفار الكاذبين، اللهم! اجعلنا من الصادقين.
فلابد أن يرى الله من قلبك بغضك للمنكر، هذا أمر، وأن تزول أنت عن مكان المنكر الذي عجزت عن إزالته إن استطعت أن تترك هذا المكان، وإلا فقد لا يستطيع أحد إخواننا، فيرى الله من قلبك بغضك لهذا المنكر؛ لأنك قد تكون في (أتوبيس) عام مثلاً، ويعرض فيلماً أنت لا ترضاه، فذهبت إلى السائق بأدب جم وأنت تحمل شريطاً آخر لعالم من العلماء وقلت: يا أخي! نريد أن نرى هذا الشريط فقال: لا، اجلس أيها الإرهابي.
وأنت لا تستطيع النزول، فاجلس وافتح كتاب الله عز وجل وانشغل به، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني وإياك من الصادقين.(54/10)
لزوم الموازنة بين المصالح والمفاسد في إنكار المنكر
لكن انتبه -يا أخي الحبيب- فالتغيير باليد له فقه وضوابط، وقلت: الأمر لا تحكمه العواطف، ولا تحكمه الغيرة على الدين بقدر ما تحكمه الضوابط الشرعية، التغيير باليد إن ترتب عليه منكر هو أكبر من المنكر الأصلي الذي تريد تغييره، فلا يجوز لك أبداً أن تقدم عليه لتغيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يجب على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون فقيهاً فيما يأمر به، فقيهاً فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر به، رفيقاً فيما ينهى عنه.
قال ابن القيم رحمه الله -وعض على هذا الكلام بالنواجذ- في كتابه الماتع (إعلام الموقعين): إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر بمنكر وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.
وقد يرد على هذا الاستدلال أن تلك كانت مرحلة استضعاف، والجواب ما قاله ابن القيم، حيث قال: بل لما فتح الله عليه مكة وصارت مكة دار إسلام، وعزم النبي على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعله؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام.
هذا هو كلام العلماء، فلابد أن نراجع العلماء.
ولابد من الموازنة بين المصالح والمفاسد، لا تزعم لنفسك -يا أخي- أنك أغير على الدين من غيرك، ولا يجوز لي أن أدعي لنفسي أنني أغير على الدين منك أو من غيرك، من أعطاني هذا الحق؟ ومن أعطاك هذا الحق؟ لابد من الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، وهذا لا يحسنه متهور ولا جبان، المتهور سيضرك بتهوره، والجبان سيضر بخذلانه وسلبيته، لكن ضرر المتهور أخطر، والقضية تحتاج إلى موازنات دقيقة بين المفاسد والمصالح، وخذ مني هذه العبارة، وأرجو الله ألا تنسوها: ليس من الفقه أن نسقط أحكام العز والاستعلاء التي مرت بها الأمة على أوقات الذل والضعف والهوان التي تمر بها الأمة.
فإن قيل: أين الدليل على هذا التأصيل الذي أصلت قلت: الأدلة كثيرة، فكلنا يعلم الشروط الجائرة الظالمة التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، والأيام دول يا شباب، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ليس معنى ذلك أن نخضع وأن نخنع، بل يجب أن نعد العدة، كما قال ربنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
لكن ليس من الحكمة أبداً أن أقوم العمود الصخري وأنا مصر على أن أحطمه برأسي، سيتحطم رأسي ويبقى العمود صامداً شامخاً كما هو، فلا ينبغي أن نسقط أحكام العز والاستعلاء على الأمة في وقت الضعف والذل والهوان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب في الحديبية -والحديث في الصحيحين-: اكتب -يا علي - بسم الله الرحمن الرحيم.
فيعترض رسول قريش على البسملة، ووالله لو فعل هذا الآن لطاشت عقولنا، ورسول الله بين أظهر الصحابة، يقول سهيل بن عمرو: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم.
فيقول الصحابة: والله لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب -يا علي - باسمك اللهم).
فهذا هو النبي عليه الصلاة والسلام، واعلم -يا أخي- أن السيرة ليست قصة فقط؛ لأن كثيراً من الناس يسمع الآن السيرة ويخرج وكأنه قد استمع إلى قصة أبي زيد الهلالي، أو إلى قصة عنترة وينسى أن هذا منهج تربوي كامل.
(اكتب -يا علي - باسمك اللهم)، فيكتب (باسمك الله).
ثم قال: (اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل بن عمرو: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فيقول النبي لـ علي: يا علي! امح (رسول الله)) أي: امسح كلمة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله).
فيقوم سيدنا علي ويقول له: لا والله، والله لا أمحوك أبداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرني يا علي!)، لأن النبي كان لا يقرأ عليه الصلاة والسلام، فيطلب النبي صلى الله عليه وسلم من علي أن يشير له إلى موضع الكلمتين الكريمتين، فيمحو النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه (رسول الله).
ثم قال: (اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله قريشاً: أن تخلي بيننا وبين البيت لنطوف به.
قال: لا والله لا تدخلونه هذا العام؛ حتى لا تتحدث العرب أنا قد أخذنا ضغثة -يعني: دخلتم رغم أنوفنا-، ولكن اكتب ذلك من العام المقبل.
فقال النبي: اكتب يا علي: وذلك من العام المقبل)، وبدأ سهيل بن عمرو يقول: اكتب يا علي! ثم يقول سهيل بن عمرو: (ونصالحك على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.
وكل بند لا يطاق، لكن كان هذا خطيراً جداً، فالمسلمون قالوا: سبحان الله! يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً! إلى آخر القصة المعروفة.
فأنا أرجو من شبابنا أن يكون فاهماً، وأن يكون على بصيرة، وأن يعلم أن الأيام دول، إن مرت الآن الأمة بمرحلة استضعاف فقد مرت الأمة بمرحلة طويلة جداً من التمكين والعز، فلا ينبغي أن نيأس أبداً أو أن نقنط أو أن نستسلم أو أن نصاب بالهزيمة النفسية.
فلئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائع حرة رغم المكائد تخرج(54/11)
حرمة الدماء
أيها الأحبة! فقه التغيير له ضوابط وشروط، إن غاب هذا الفقه ربما نقع في الكبيرة التي تلي الشرك بالله، ألا وهي قتل النفس التي حرم الله عز وجل، وهذا هو عنصرنا الرابع بإيجاز: حرمة الدماء.
فالدماء لها حرمة، وفي مثل هذه المسائل الكبيرة والنوازل الخطيرة راجع الربانيين من العلماء، راجع الربانيين من العلماء قبل أن تخطو على الطريق خطوة خطيرة، فالدماء لها حرمة، والله خلق الإنسان وكرمه غاية التكريم، نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأنزل وبعث له النبيين والمرسلين ليدلوه على الحق، وأنزل مع الأنبياء والمرسلين الكتب، ووضع الله له شريعة محكمة تضمن له السعادة في الدنيا والآخرة، تلك الشريعة التي تضمن حقوق الإنسان، وفي مقدمة هذه الحقوق حق الحياة، ولا يجوز ألبتة لأي أحد أن يسلب هذا الحق أو يستبيح حماه؛ لأن الله وحده هو واهب الحياة، وليس من حق أي أحد أن يسلب هذه الحياة إلا خالقها جل وعلا، أو في حدود الشريعة التي شرعها ليسعد بها الخلق في الدنيا والآخرة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فالقتل كبيرة تأتي بعد الشرك بالله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:68 - 70].
وتدبر معي هذا الوعيد، وأنا أقسم بالله على أنك لو فتشت في القرآن الكريم كله لن تجد وعيداً كهذا الوعيد في سورة النساء في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] أي وعيد هذا؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صححه شيخنا الألباني من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً)، وفي سنن النسائي بسند صحيح من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا).
ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب ما رواه البخاري في التاريخ الكبير، والنسائي في السنن من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه -وصححه الشيخ الألباني في المجلد الثاني من صحيح الجامع- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أمن -أي: أعطى الأمان- رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافراً)، هذا كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم! الأمر دين، والدماء لها حرمة؛ لذا كانت أول ما يقضى فيه يوم القيامة، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى فيه يوم القيامة في الدماء)، ولا تعارض بين هذا وبين حديث أصحاب السنن من حديث أبي هريرة: (أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة)، فالصلاة حق الله، والدماء حق العباد، لا تعارض بين الحديثين، فأول ما يقضى فيه يوم القيامة بين العباد في الدماء، بل في سنن النسائي بسند حسن من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يجيء المقتول يوم القيامة تشخب أوداجه دماً -أي: تشخب عروق رقبته دماً- يدفع القاتل ليوقفه بين يدي الله وهو يقول: أي رب! سل هذا -أي: سل هذا القاتل- فيم قتلني؟!).
فالدماء لها حرمة عظيمة، ومن ثم فأنا أبذل هذه النصيحة من قلبي لأحبابي وإخواني.(54/12)
نصيحة محب(54/13)
الصبر وعدم العجلة
ثالثاً: الصبر وعدم العجلة.
إياك أن تظن أنك أغير على الفلسطينيين الذين تسفك دماؤهم من الله، احذر أن تظن هذا أبداً، إياك أن تظن أنك أرحم من بالعراقيين الذين تسفك دماؤهم من الله، وإياك أن تظن أن الله لا يراهم ولا يسمعهم، فالله يسمع ويرى، لا تسقط ورقة من نخل أو شجرة في هذه الأرض أو في غيرها من البقاع على وجه الأرض إلا بعلمه، فإياك أن تظن أن صاروخاً أو طائرة أو قاذفة أو قنبلة تسقط في أي بقعة من الأرض دون علمه، وتحت سمعه وبصره جل جلاله، وليس أحد أغير على الدين من الله، وليس أحد أغير وأرحم بالمستضعفين في فلسطين والعراق والشيشان وأفغانستان من الله، فلا تتعجل، كن رجلاً ومت رجلاً، لن يسألك الله: لماذا لم تمكن الأمة في عصرك؟! أبداً.
لكن ستسأل عما قدمت أنت وبذلت لدين الله، أما النتائج فليست إليك، ليس هذا من شأن كل العبيد، إنما هو من شأن العزيز الحميد.
وتعجبني عبارة شيخنا الألباني رحمه الله: (من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه)، أنت تحب ثمرة المانجو، فلو قطفت ثمرة مانجو قبل أن تنضج فهل تستطيع أن تأكلها؟ أبداً.
فالصبر ولا تعجل: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
ولا تظن أن دولة من الدول هي التي تحكم الكون وهي التي تدبر أمر الكون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو الله، فاملأ قلبك ثقة بالله الملك الحق، فلا تظن أن دولة تحكم الكون وتدبر شئونه، بل إن الذي يدبر شئون الكون هو الله الملك الحق: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، فاصبر ولا تعجل، وليبذل كل واحد ما يقدر عليه لدين الله بحكمة وبرحمة وبأدب وبتواضع، وبفهم دقيق وبوعي عميق، قال ابن القيم: لا يجوز للعالم أو المفتي أو الحاكم أن يفتي في أي مسألة إلا بعلمين: الأول: فهم الواقع.
الثاني: فهم الواجب في الواقع.
فلابد أن تكون على فهم وبصيرة بواقع الأمة في هذه المرحلة الحرجة من مراحل الضعف والذل والهوان، حتى تكون على بصيرة بربط الأدلة الشرعية بمناطاتها العامة والخاصة، التي تتفق مع هذا الواقع الذي تحياه الأمة الآن.
وأخيراً أقول: المسئولية في تربية الشباب تقع على عاتق الجميع، تقع على عاتق وسائل الإعلام التي لا ترقب في شبابنا إلاً ولا ذمة، وتقع على عاتق المؤسسات الدينية، وتقع على عاتق المؤسسات الرياضية التي ابتعدت كثيراً عن منهج الله ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع كل ذلك أقول: إن أخطر بيئة تؤثر على الشباب هي الأسرة، الأسرة التي ضيعت كثيراً من دورها الذي يجب أن تقوم به، أنا أقول: إن استقالة تربوية تدمي القلوب قد وقعت الآن في كثير من البيوت، حين استقال كثير من الآباء والأمهات تربوياً، وخرج الشباب ليبحث عن قوته التربوي في وسائل الإعلام، أو في النوادي، أو عبر الصحبة السيئة، أو في الشوارع، فشعر كثير من شبابنا فعلاً باليتم التربوي الحقيقي.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً فليرجع الوالد إلى أولاده، ولتتق الأم ربها تبارك وتعالى في أولادها وأبنائها، فالأسرة هي المحضن التربوي الطاهر الذي يخط أولى الخطوط على قلب وعقل الأولاد داخل البيوت، ولا تيأسوا ولا تقنطوا؛ فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يأتي بعدها مباشرة ضوء الفجر.
وفجر الإسلام قادم بموعود الله وبموعود الصادق رسول الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173].
وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وخذ هذه البشرى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، هل تصدقون الله؟ {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
صبح تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلق في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقوافل الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجر تدفق من سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المشرقا يا نهر صحوتنا رأيتك صافيا وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى قالوا تطرف جيلنا لما سمى قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوَ كان إرهاب جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به ونمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا من صانَعَ الكفر اللئيم وأطرقا يا جيل صحوتنا إني أعيذك أن أرى في الصف من بعد الإخاء تمزقا لك في كتاب الله فجر صادق فاتبع هداه ودعك ممن فرقا لك في رسولك أسوة فهو الذي بالصدق والخلق الرفيع تخلقا يا جيل صحوتنا ستبقى شامخا ولسوف تبقى باتباعك أسمقا أسأل الله جل وعلا ألا يخرجنا من الحياة إلا بذنب مغفور، اللهم لا تخرجنا من الحياة إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة التوحيد والموحدين.
اللهم أنج المسلمين المستضعفين في فلسطين، وأنج المسلمين المستضعفين في العراق، وأنج المسلمين المستضعفين في الشيشان، وأنج المسلمين المستضعفين في أفغانستان.
اللهم اجعل بلاد الإسلام أمناً أماناً سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد الكريم من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين.
اللهم أصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم اهدنا واهد شبابنا، اللهم اهدنا واهد شبابنا، اللهم استرنا واستر شبابنا، اللهم احفظنا واحفظ شبابنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم رب لنا أولادنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم لا تفضحنا بخفي ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين!(54/14)
لزوم التوبة واتهام النفس
النصيحة الأولى: التوبة واتهام النفس، فلنتب إلى الله جميعاً، وليتهم كل واحد منا نفسه، وليتهم كل واحد منا نفسه، فعلام العجب؟ وعلام الكبر؟ وعلام الغرور؟ ولم يريد كل واحد منا أن ينفرد برأيه وأن يستقل دون أن نجلس لنعرض هذه الأقوال ولنعرض هذه الأفعال على كتاب الله وعلى سنة رسول الله بفهم السلف حتى لا نختلف؟! ولا ينبغي أن نقول: هم رجال ونحن رجال.
فإن كنت تريد بهذه المقولة أنهم رجال بذلوا أرواحهم لدين الله ونحن رجال لا نقل عنهم، فيجب علينا أن نبذل أرواحنا كذلك لدين الله فكلامك على العين والرأس، أما إن كنت تقصد أنهم رجال ونحن رجال تريد أن تضع رأسك برأس أبي بكر فهذا مرفوض -يا أخي- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بنص القرآن والسنة.
فهؤلاء عدلهم الله وزكاهم، وشهد لهم بالخيرية، بل ورضي الله عنهم ورضوا عنه سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (والذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهم خير الناس بشهادة سيد الناس، والأدلة على ذلك كثيرة، فليتهم كل واحد منا نفسه، ولنجدد التوبة والأوبة إلى الله من فتن الشهوات، ثم لنرجع إلى العلم لينقذنا ربنا من فتن الشبهات، فلا مخرج لنا من الشهوات إلا بالتوبة، ولا مخرج لنا من الشبهات إلا بالعلم.
الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم قبل النشور نشور قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
قال ابن القيم: إن أول من شهد لله بالوحدانية هو الله، ثم ثنى بملائكته، ثم ثلث بأهل العلم.
وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإن الله جل وعلا لا يستشهد بمجروح، فلنرجع إلى العلم، ولنراجع الربانيين من العلماء، وإياك أن تتهم عالماً أو تنتقص من قدره، إن خالفت فتوى العالم ما تحبه أنت وما تهواه فلا تتعجل باتهام هذا العالم أبداً؛ فالأمر دين.
واعلم يا أخي -وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته- اعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، فلتراجع العلماء الربانيين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة لا تخلو أبداً من العلماء الربانيين القائمين لله بحجة، والحديث في الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
فلا ينبغي أبداً أن تقول: أين الربانيون من العلماء؟ فوق أي أرض؟ وتحت أي سماء؟ لابد أن ترى من يقوم لله تبارك وتعالى بحجة، من يبلغ عن الله وعن رسول الله بفهم الصحابة عليهم جميعاً رضوان الله.(54/15)
مراعاة أدب الخلاف
ثانياً: مراعاة أدب الخلاف.
الخلاف له أدب وفقه، فلا ينبغي أن يسفه بعضنا بعضاً، وأن يذبح بعضنا بعضاً على شبكات الإنترنت عبر هذه المواقع الكثيرة الخطيرة، وإنما إن اختلفنا فليطرح الخلاف في بوتقة فقه الخلاف.
يا أخي! اطرح أدلتك وأنا أطرح أدلتي، وليظلل أدلتي وأدلتك أدب الخلاف وفقه الخلاف.
قال ابن تيمية رحمه الله: الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة.
فخالفني وأنا أخالفك في عشرات المسائل وفي مئات المسائل ولا حرج ما دمت تطرح أدلة وأنا أطرح أدلة، لكن الخلاف الواقع بيني وبينك بسبب خلافنا في فهم الدليل، وقد وقع ذلك بين أصحاب النبي الجليل صلى الله عليه وسلم، اختلف الصحابة لاختلافهم في فهم الدليل أو بسبب عدم بلوغ الدليل، وهذا الاختلاف أمر وارد واقع، ولو فتشت في كتب الفقه في مجلداتها الضخمة لوجدت جل مسائلها -من مسائل الخلاف- من مسائل الأحكام، فلنراع فقه الخلاف وأدب الخلاف.(54/16)
حق المستضعفين في أفغانستان وفلسطين
كانت الأمة قبل الإسلام أمة متناحرة، مقطعة الأجزاء، فوحد صفها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وآخى بين أجناس الناس المختلفة، حتى صاروا كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ثم عدنا من جديد إلى الوراء فتفرقت الأمة، وأصبحت فرقاً وأحزاباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فعلينا واجب ديني عظيم، وهو واجب النصرة لهذا الدين بالنفس والمال بتحقيق الولاء والبراء، وتوحيد الصفوف ولم الشعث، لنستعيد مجدنا الأمثل، والله تعالى ينصر من نصره، ويخذل من تولى عن دينه الحنيف.(55/1)
أمة الجسد الواحد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير، والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن كتاب ربها وسنة نبيها، وضيعت فيه حقوق الإسلام؛ كهذا الزمان، فأردت أن أُذَكِّرَ أمتي ونفسي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء السابع والعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وحديثنا اليوم عن حق جليل كبير ألا وهو: حق المستضعفين في أفغانستان وفلسطين، فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يرزقنا الصدق في القول والعمل، وأن يقر أعيننا بنصرة المستضعفين من المسلمين في كل بقاع الأرض، وأن يشفي صدور قوم مؤمنين بهزيمة ساحقة لأعداء رب العالمين وأعداء المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا؛ لأن الحديث طويل بطول آلامه، مؤلم بكثرة دمائه، ممزق للقلوب الحية بكثرة الأشلاء المتبعثرة الممزقة، فأرجو أن أركز الحديث في العناصر المحددة التالية: أولاً: أمة الجسد الواحد.
ثانياً: أمة غثاءٌُُ.
ثالثاً: أين واجب النصرة؟ رابعاً: أيها المظلوم صبراً لا تهن.
وأخيراً: مِنْ رَحِمِ الليل يولد ضوء الصباح.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وألاَّ يستخرج منا إلا ما يرضيه سبحانه إنه ولي ذلك ومولاه.(55/2)
الأخوة الإسلامية
أولاً: أمة الجسد الواحد: كان العرب أمة ممزقة قبل الإسلام لا وزن لهم ولا قيمة، لو تصفحت التاريخ وقرأت عن حروب العرب؛ لوقفت على قيمة هذا الدين العظيم الذي حَوَّلَهُمْ من غثاء وقبائل متناحرة، ومن أمم متمزقة متصارعة، إلى أمة واحدة؛ لذا امتن الله عز وجل عليهم بهذه النعمة العظيمة الكبيرة فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103].
كانوا متفرقين، وكانوا على شفا حفرة تُوْدِيْ بهم إلى نار الدنيا والآخرة، بشركهم بالله جل وعلا وتَصَارُعِهِمْ وتحاربهم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى التوحيد، فاستنقذهم من شرك العصبية والوثنية إلى أنوار الأُلْفَةِ والتوحيد لرب البرية جل جلاله، فأذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأقاموا للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا دولة الإسلام بناء شامخ لا يطاوله بناء، وذلك في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، يوم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ووحدت العقيدة صفوفهم، وجمعتهم على لسان وقلب رجل واحد.
فجاء المصطفى فآخى بين سلمان الفارسي وحمزة القرشي، وصهيب الرومي ومعاذ الأنصاري وبلال الحبشي، وعلى اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأجناسهم انصهروا في بوتقة واحدة، جمعتهم آصرة العقيدة، جمعتهم الأخوة الإيمانية التي لا نظير لها في كل الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنها أُخُوَّة تعلو على إخوة النسب والعِرْقِ واللون والوطن، إنها الأُخُوِّةُ في الله.
استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من المؤمنين جميعاً دوحة واحدة متشابكة الأغصان، متلاصقة الأوراق، انصهروا في بوتقة المحبة في الله، فرأيت منهم العجب العجاب، ولو لم نكن على يقين بأن ما سنذكر بعضه الآن جاء عن الصادق الذي لا ينطق عن الهوى لقلنا إنه من نسج الخيال؛ لأنه لا يمكن بحال أن يقع في دنيا الناس، اللهم إلا إذا كان المربي لهؤلاء الناس هو المصطفى محمد.(55/3)
نموذج فريد للأخوة الإيمانية
تدبر معي هذه النماذج ولن أطيل فيها، تدبر معي في هذا النموذج العظيم الأول: في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري)، يوم أن هاجروا من مكة إلى المدينة اختار النبي سعد بن الربيع أخاً في الإسلام لـ عبد الرحمن بن عوف المهاجر من مكة، تدبر ماذا قال الأنصاري لأخيه، قال سعد بن الربيع: يا عبد الرحمن! إني أَكْثَرُ الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي زوجتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها).
والله إن الحلق ليجف، وإن القلب ليرتعد فرحاً وخجلاً، وإن الكلمات كلها لتتوارى خجلاً وحياءً أمام هذه الأُخُوَّةِ.
لولا أن الحديث في الصحيحين لظننت أنه من نسج الخيال أن يقول رجل عربي له شهامة، وعنده من الرجولة ما نعلم جميعاً، يقول لأخيه: (عندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك؛ لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها)، فيرد عليه العفيف الشريف عبد الرحمن بن عوف ويقول: (بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق، فدله على سوق بني قينقاع، فذهب فباع واشترى وربح.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صُفْرَةٍ، فقال له النبي: (مَهْيَمْ؟ -يعني: ماذا صنعت يا عبد الرحمن؟ - قال: تزوجت امرأة من الأنصار يا رسول الله، قال النبي: وماذا سقت لها من مهر؟ فقال: سقت لها مقدار نواة من ذهب، فقال له المصطفى: أو لم ولو بشاة).
وإن سألني سائل وقال: أين من يعطي الآن عطاء سعد بن الربيع؟ ف
الجواب
وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟ فلقد وجد سعد يوم وجد عبد الرحمن، وضاع سعد يوم ضاع عبد الرحمن.
جاء رجل فقير إلى أحد الأغنياء الأثرياء ليسأله الصدقة بإلحاح، فلما امتنع الغني قال له الفقير: أين الذين ينفقون لله سرّاً وعلانية؟ فقال له الغني: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً.
إنه مجتمع فريد فيه سعد وفيه عبد الرحمن، فيه من يبذل وفيه من يتعفف، والمربي لـ سعد ولـ عبد الرحمن هو الإسلام، بقيادة المصطفى الذي رباه الله على عينه ليربي به الدنيا، بأبي هو وأمي ونفسي وروحي(55/4)
موقف العزة من أمة الجسد الواحد
موقف من مواقف الأمة ذات الجسد الواحد، وانظر إلى هذا الموقف الذي يتألق عزة، واسمحوا لي أن أكرره، فإن المسلم الآن يتطلع إلى موقف من عزة ولو في الماضي؛ ليضمد به الجراح، إنه موقف ربعي، ذكرت الموقف كثيراً لكننا في أَمَسِّ الحاجة إلى ذكره الآن؛ لنقف على أمة الجسد الواحد، وبما كانت تمتلكه من عزة ومكانة وكرامة.
ربعي بن عامر جندي متواضع في الجيش المسلم، يرسل به قائد القادسية سعد بن أبي وقاص إلى قائد الجيوش الكسروية الجرارة رستم، ويدخل ربعي بثيابه المتواضعة، ويقف بين يدي رستم دون وقوف مع جزئيات الموقف والحدث، ليقول له رستم: من أنتم؟ فيقول ربعي الذي عرف الغاية، وفهم الوظيفة التي من أجلها ابتعث: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبل منا قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات منا، والنصر لمن بقي من إخواننا.
قال رستم: سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤجلونا لننظر في أمرنا، ولتنظروا في أمركم؟ قال ربعي: لقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ألاَّ نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال فانظر في أمرك وأمرهم، واختر لنفسك ولهم واحدة من ثلاث.
يا لها من عزة وكرامة!.
قال رستم: ما هي؟ قال ربعي: الأولى: الإسلام ونرجع عنك -هذه هي الغاية أن تسلموا لله جل وعلا.
قال رستم: وما الثانية؟ قال: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك.
الجزية التي ما زالت الأمة تدفع فاتورتها الآن كاملة غير منقوصة، ومن أغرب ما قرأت في اليومين الماضيين أن تقريراً أمنيّاً وضعه التقرير الأمريكي عرض على (بوش)، هذا التقرير الأمني يطالب العرب والمسلمين بتسديد نفقات الحرب الأمريكية على أفغانستان، هل تعلمون تكلفة اليوم الواحد؟ تتكلف أمريكا في حربها في أفغانستان في اليوم الواحد ما يزيد على مائة مليون دولار، وليدفع العرب وليحيا العرب، وليبارك الله في بترول العرب، وفي أموال العرب، فليدفع العرب أذلاء، ينفق في اليوم مائة مليون دولار، فالصاروخ تزيد قيمته على مليوني دولار، والقنبلة الانشطارية التي تسقط الآن على أرض أفغانستان تزيد تكلفتها على نصف مليون دولار، ويطالب التقرير الأمني (بوش) أن يكلف العرب بتسديد هذه الفاتورة، بدعوى أنها حرب ضد الإرهاب، والعالم العربي كله بحاجة إلى القضاء على الإرهاب، حسبنا الله ونعم الوكيل!! كل الكلمات ورب الكعبة أراها تنسحب من بين يدي، بأي لغة أعلق؟! وبأي كلام أدلل على مثل هذا الكلام الخطير؟! فالجزية اليوم تدفعها الأمة، وربعي يقول لـ رستم: الجزية، وإن احتجت إلى نصرتنا نصرناك.
قال رستم: وما الثالثة؟ قال ربعي: القتال، ولن نبدأك بقتال فيما بين اليوم وبين اليوم الثالث إلا إن بدأتنا أنت.
فقال له رستم: عرفتك، أسيدهم أنت؟ أي: هل أنت القائد؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم.
هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول المربي والمعلم صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث النعمان: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
هذه أمة الجسد الواحد التي حققت قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه).
هذه أمة الجسد الواحد التي استحقت أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله جل وعلا بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
استحقت هذه الأمة أن تُخَاطَبَ من الله بقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ولو كان المراد بالآية هم الأنبياء، فالخطاب لأمة سيد الأنبياء، وإمام الأصفياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ظلت هذه الأمة عزيزة تَرْفُلُ في ثوب العز والكرامة حتى جيء بتاج كسرى ليوضع في حجر عمر بن الخطاب وهو في مدينة رسول الله، نعم يؤتى بتاج كسرى ليوضع بين يدي الفاروق! وقيصر تفتَّتَتْ إمبراطوريته، وكسرى يمزق ملكه، وتنتشر وتعلو راية الإسلام على ثلثي الكرة الأرضية في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، ارتفعت راية الإسلام في قلب الصين في قلب فرنسا في إيطاليا في أقصى الحدود المغربية، ارتفعت راية التوحيد في قلب أوروبا على أيدي هؤلاء الأبطال الفاتحين الذين عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، والوظيفة التي من أجلها ابتعثوا.
ثم راحت الأمة تتخلى شيئاً فشيئاً عن ثوب عزها بانحرافها عن أصل عزها، عن قرآن ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، راحت الأمة تبتعد يوماً بعد يوم، حتى وقع ما لم يكن يخطر أَلبَتَّةَ لأحد على بال، حين تركت الأمة شريعة الكبير المُتعَاَلِ، وحكمت الأمة قوانين أخبث الرجال في السياسة في الاقتصاد في الإعلام في التعليم في كل مناحي الحياة.
ابحث عن شريعة الله وشريعة رسول الله في الأمة لقد ضاعت! بل رأينا من أبناء الأمة من يعلنها صريحة بلا خجل أو وجل: إن الشريعة الإسلامية لم تعد صالحة لمدنية القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، بل يجب على الأمة إن أرادت التقدم والانطلاق أن تحاكي الغرب، وأن تُحَكِّمَ قوانينه ولو اصطدمت مع شريعة الله ورسوله! فاستبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً، وظنت الأمة أنها قد ركبت قوارب النجاة فغرقت وأغرقت وهلكت، وضلت وأضلت، وصارت الأمة الآن ذليلة لأذل أهل الأرض؛ لمن كتب الله عليهم الذُّلَّ والذِّلَّةَ من إخوان القردة والخنازير، وللصليبيين الحاقدين، وَلعِبُادِ البقر، حتى للملحدين في روسيا.
وهذا هو عنصرنا الثاني: أمة غثاء:(55/5)
أمة غثاء
قال النبي الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في مسند أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث ثوبان أن النبي صلى عليه وسلم قال: (يوشك)، ولفظة يوشك للقريب، توحي بالقرب (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها).
لقد صرح بوش أنه سيعلن الحرب ضد الإرهاب، وضمت القائمة ستين دولة، وهذا هو عدد الدول العربية والإسلامية على وجه الأرض، (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: لا.
أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل) انظر إلى هذا الزِّبَدِ الذي يقذف به السيل لا وزن له ولا قيمة، يؤرجحه التَّيَّارُ حيثما شاء وأراد، (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) صدق المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى، صارت الأمة غثاءً من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدول، أستغفُر الله، بل كدويلات متناثرة متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية مقيتة، وترفرف على سمائها رايات القومية والعروبة والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، وتدور بالأمة الدوامات السياسية، فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تحب أن تدور فيه.
ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة البشرية بعدما كانت بالأمس القريب تقود القافلة كلها بجدارة واقتدار، وأصبحت تتسول على موائد الفكر البشري بعد أن كانت بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لَفْحُ الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام.
بل وأصبحت الأمة تتأرجح في سيرها، وضلت طريقها بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، بل في الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأَجِلِّاءُ المجربون.
أهذه أمة دستورها القرآن وقائدها محمد عليه الصلاة والسلام؟!! أهذه هي الأمة التي خوطبت من الله سبحانه بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110]؟!! أهذه هي الأمة التي خوطبت من الله بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]؟!! أهذه هي الأمة التي خوطبت من الله بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]؟!! إن خيرية الأمة ليست عصبية ولا عنصرية ولكنها خيرية هداية وإيمان، والتزام بشرع الله، كما ذكر سبب خيريتها فقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فبات في الأمة الآن من يشرك بالله، انظر إلى الملايين المملينة في الأمة التي لا تعرف شيئاً عن شرع ربها: ضيعت الصلاة، ضيعت الزكاة، ضيعت الحج مع القدرة، تسأل غير الله، تستغيث بغير الله، تستعين بغير الله، تثق بأمريكا وببعض دول الأرض أكثر من ثقتها بالله، إلى آخر هذا الوباء والبلاء، بات في الأمة الآن من يشرك بالله، وبات في الأمة الآن من يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف!(55/6)
المسلمون في فلسطين
أنا لا أغالي ولا أريد أن ألهب العواطف بكلمات فارغة، وإنما أتحدث عن واقع يعلمه كل مسلم، وتعلمه كل مسلمة، هذا واقع الأمة، ابتعدت الأمة عن ربها فذلت، ابتعدت الأمة عن رسول الله فهانت، تعرت الأمة من ثوب الإسلام فانكشفت كل سوءاتها وعوراتها، فطمع فيها اليهود أنجس أهل الأرض وهم يفعلون بها الآن في فلسطين ما يندى له جبين التاريخ، بل ما يحترق له قلب كل مسلم غيور.
يصرح زعيم السلطة ويقول: إنه يثق في شارون، وإن شارون صديق حميم حريص على السلام.
قمة الذل، قمة الاستجداء، شارون السفاح المسرف، الذي لُطِّخَتْ يداه بدماء المسلمين المستضعفين في فلسطين يوم أن كان ضابطاً صغيراً في الجيش اليهودي، وإلى هذه اللحظة لا يزال حريصاً على السلام!! وصديق حميم!! تُهَدَّمُ البيوت، وتسفك الدماء، وتمزق الأشلاء، وينتهك عرض الإسلام وعرض المقدسات، والأمة تسمع وترى، والمسلمة في فلسطين تقول: واإسلاماه، وامعتصماه، لكن أين المعتصم؟ ما ثَمَّ معتصم يغيث، أين زعماء العرب؟! أين حكام المسلمين؟! أين الجيوش المسلمة لتنقذ هذه المسلمة التي تنادي باسم المعتصم؟! ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين همو إذا دعت الجراح؟ ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراق تنادي على المسلمين في بقاع الأرض مسلمة في فلسطين، ومسلمة في أفغانستان، ومسلمة في الشيشان، ومسلمة في كشمير، ومسلمة في طاجكستان، ومسلمة في الفلبين، ومسلمة في الصومال، ومسلمة في العراق، ومسلمة في السودان، ومسلمة في الجزائر، وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم فدمي هنا يا مسلمون يراق عرضي يدنس أين شيمتكم؟ أما فيكم أبي قلبه خفاق؟ أختاه أمتنا التي تدعينها صارت على درب الخضوع تساق أودت بها قومية مشئومة يرتادها نحو الضياع رفاق إن كنت تنتظرينها فسينتهي نفق وتأتي بعده أنفاق مدي إلى الرحمن كف تضرع فلسوف يرفع شأنك الخلاق إنه الذل، إنه الهوان، وددت أن لو أسمعت زعماء العرب وحكام المسلمين مثل هذا، فأنا أعلم أنكم لا تملكون من الأمر شيئاً إلا النزر اليسير، وددت أن لو أسمعت الأمة كلها مثل هذه الكلمات التي تذيب الصخور والحجارة، ولكن القلوب صارت أقسى من الصخور، وأشد من الحجارة.(55/7)
واجب النصرة
أين واجب هؤلاء؟ هذا هو عنصرنا الثالث: واجب النصرة: النصرة بالنفس لمن استطاع، والنصرة بالمال لمن لم يقدر على نصرة هؤلاء المستضعفين بنفسه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11].
النصرة بالكلمة، فالسياسة الآن تديرها الكلمة، تديرها وسائل الإعلام اليهودية التي تتحكم في الإدارة الأمريكية، بل وفي الإدارة الأوروبية.
هذه الجريدة الوقحة تعلن الحرب الآن على مصر ورئيسها، وعلى السعودية وملكها، هذه الجريدة التي تسمى واشنطن يوست، ارجعوا إليها لتعرفوا مجلس إدارتها، لتعرفوا محرريها، لتعرفوا من ينفق عليها، فالجريدة كلها يهودية صرفة، رئيس مجلس الإدارة يهودي، مجلس الإدارة يهودي، المحررون يهود، فالشركة كلها مملوكة لأسرة يهودية.
حتى لا نستكثر على هذه الجريدة وغيرها من وسائل الإعلام الأمريكية والغربية هذه الحرب القذرة التي تشن الآن على مصر والسعودية؛ لأنهم يعلمون يقيناً وزن مصر، ومكانة مصر، ولا يريدون أبداً لمصر أن تتدخل لا من قريب ولا من بعيد في مثل هذه الفتنة الطاحنة.
ولكن سنؤكل ورب الكعبة جميعاً يوم أكل الثور الأبيض، فالنصرة بالنفس، وبالمال، وبالكلمة، وبتحقيق الولاء والبراء، وبإقامة الفرقان الإسلامي للخروج من حالة الغبش التي تحياها الأمة، وبإعداد بيتك إعداداً يليق بخطورة المرحلة المقبلة والتي لابد منها، ثم الدعاء، وأنا أعي قدر كلمة الدعاء.
ولا أستهين بهذا السهم الذي إن خرج من قوس مشدودة، وصادف القوس ساعداً قويًّة، لو أصاب السهم الهدف بإذن الرب العلي، فنحن نريد الآن قلوباً تحترق، ودعوات صادقة تخرج من هذه القلوب إلى عَنَانِ السماء، ونحن مظلومون؛ ليرفعها من حَرَّمَ الظلم على نفسه فوق الغمام، وليقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنكِ ولو بعد حين).
فوالله وإن تخلى العالم الغربي والعالم الإسلامي عن أولئك المستضعفين في فلسطين وأفغانستان وفي كل مكان؛ فإن رب العزة جل جلاله لا يمكن أبداً أن يتخلى عنهم، كيف وربك حكم عدل؟ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكيف وربك قد حرم الظلم على نفسه، فقال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر اللقاء.(55/8)
أيها المظلوم صبراً لا تهن
أيها المظلوم صبراً لا تهن، إن عين الله لا تنام، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، ولكن الله قد أودع الكون سنناً ربانية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].(55/9)
نصرة الله لأبطال الانتفاضة
أنا أقسم بالله! إن ما نراه الآن على أرض فلسطين وعلى أرض أفغانستان لهو النُّصْرَةُ الحقيقية لأولئك المستضعفين من رب العالمين، فلسطين الانتفاضة مضى عليها عام أو يزيد، اسأل الآن أي يهودي على أرض فلسطين: هل يشعر بالأمن؟ هل يشعر بالاستقرار؟ سل جنرالات اليهود الكبار.
يصرح أحد جنرالاتهم ويقول: صرت أخشى كل شيء في الشارع، صرت أخشى صندوق القمامة، صرت أخشى الدراجة التي تمر إلى جواري أن تنفجر في وجهي في أي لحظة، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
ثم انظر إلى سلاح أولئك، وإلى ترسانة هؤلاء، انظر إلى سلاح اليهود، وسلاح المستضعفين الفلسطينيين، لا وجه للمقارنة، صار الحجر في أيدي الطفل المسلم يتلألأ ويتوهج كأنه قنبلة! أذكر ورب الكعبة كلما رأت عيني هذا المشهد الرقراق مشهد طفل يجري وراء جندي يهودي يجري أمامه وهو مدجج بالسلاح، يجري وراءه بالحجر، أتذكر قول ربي لنبيه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
لماذا يجري اليهودي؟ لأنه جبان! ويقدم الطفل الفلسطيني الذي عَلَّمَ الدنيا كلها أن محمداً ما مات، وما خلف محمد بنات، بل خلف أطفالاً ورجالاً أبطالاً علموا الأمة كلها كيف يكون الذود عن الكرامة والعرض والمقدسات، علموا الحكام والزعماء حقيقة الشرف والبطولة وعظمة الفداء! إنه النصر، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، أقسم برب الكعبة إنه النصر.
مضى عام والأطفال الأبطال ما لانت لهم شكيمة، فما سلَّموا، ولا استسلموا، بل يركض الآخرون بِذُلًّ وعار للاستسلام ولتوقيع الذل والمهانة، لكن هؤلاء يأبون الذل، ويأبون التسليم، ويأبون إلا الكرامة، ويقفون في الصف، ويتصدون لهذه الترسانة الرهيبة اليهودية -أو إن شئت فقل: لهذه الترسانة الأمريكية- بكل عز وكرامة.
إنه النصر، صار كل وزير يهودي يخشى على نفسه، فتشوا في بيته، فتشوا في حديقته، يخشى من أي شيء، ماذا تريدون بعد ذلك؟(55/10)
نصرة الله للمجاهدين والأفغان
وإذا انتقلت إلى أفغانستان أقول بِمِلْءِ فمي: في الأسبوع الرابع على التوالي للحملة الأمريكية على أفغانستان يصرح البنتاجون بأن الحملة قد حققت (10%) من أهدافها، وأنا أقول: لم تحقق الحملة ولا واحداً في المائة من أهدافها، وما زال كل من يبحثون عنهم موجودين بفضل الله، وما زال الأُسوْدُ في كهوفهم ينتظرون الجيش الأمريكي الذي لا يجيد إلا الرمي من فوق والهرب، ينتظرون الجيش لينزل على الأرض كما صرح الملا محمد عمر ويقول: نتشوق إلى لقاء الجيش الأمريكي على الأرض؛ لنلقنهم درساً أقسى من الدرس الذي لقناه للروس بإذن الله.
ما سقط على أفغانستان من صواريخ وقنابل كان كفيلاً -لو أن الأمور تسير وفق القوانين المادية كما يحدث العلمانيون- بمحو أفغانستان من على خريطة العالم ووجه الأرض، لكن أفغانستان ما زالت قائمة، ولكن الأبطال ما زالوا قائمين ينتظرون.
بل وقد أصيبت المعنويات الأمريكية في الداخل والخارج بنكسة شديدة، وبدأت بعض الأصوات في قلب أمريكا تنادي وتقول: ما الذي حققته الحملة العسكرية على أفغانستان؟! إلى هذه اللحظة لم تحقق أي شيء، وقرأت في اليومين الماضيين تقريراً خطيراً رفع إلى الرئيس الأمريكي يقول: إن التكلفة اليومية للحرب على أفغانستان تزيد على مائة مليون دولار، ويقول التقرير: ولا تستطع أمريكا أن تستمر هكذا أكثر من ستة أشهر وإلا ستسقط أمريكا اقتصادياً! تقرير أمني في منتهى الخطورة؛ ولذلك هم يريدون أن يحملوا العرب الفاتورة كما ذكرت.
هزيمة اقتصادية بالفعل، سياسية يقيناً، عسكرية حتماً، سقطت هيبة القوة العظمى سياسياً، عسكرياً، اقتصادياً، لكن قد يسأل رجل ويقول: فلماذا لم تنته بالكلية؟ أقول: حتى لا نحاسب الأمم، وحتى لا نحكم على أعمار الأمم بحكمنا على أعمار الأفراد أقول: لو أصيب شيخ بفيروس، وأصيب شاب قوي بنفس الفيروس، فإن تحمل الشيخ لا يمكن بحال أن يكون كتحمل الشاب، وأمريكا في مرحلة الشباب، وفي مرحلة الفتوة، فهي قوية بلا شك، فلا أريد أن أنقض كلامي لأدفن رأسي في الرمل كالنعام، فعندهم قوة عسكرية رهيبة، وقوة اقتصادية، وقوة سياسية تسوق العالم كله بعصاً غليظة، لكن الفيروس قد أصابها في مقتل، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، لكنها سنن.
فلو تخلى أهل الأرض عن أولئك المستضعفين فإن الله معهم، ويا لها من معية كريمة عرف إخواننا هنالك قدرها ورب الكعبة، لقد رأيت إعلامياً يحاور رجلاً بسيطاً من أولئك الطالبانيين ويقول له: لقد جيشت أمريكا الجيوش، فماذا أعددتم؟ بأي شيء استعددتم لصد هذه الترسانة الرهيبة؟ فابتسم الأخ ابتسامة لطيفة جميلة وقال له: معنا الله! يا لها من معية جهلت الأمة قدرها وجلالها! نعم معهم من يدبر أمر الكون، تطلق أمريكا الصواريخ للتجسس، فتأتي جل الصور التي التقطتها أحدث وسائل التقنية مشوهة مشوشة! قرأت بنفسي لطيار أمريكي يقول: أصعد بطائرتي وقد حملت بالأسلحة، وأصعد بالهدف الذي أخذت، فحينما أصل إلى مكان الهدف لا أرى شيئاً! قد يكون ذلك فعل ربي وما ذلك عليه بعزيز.
ثم بعد ذلك علمت أن إخواننا يضعون أهدافاً وهمية على الأرض؛ ليضربها الأمريكان، يضعون قاعدة كرتونية للدبابات، قاعدة للطيران، قاعدة للمدافع، وهي مصنعة من الكرتون، ويصعد هذا الطيار ويسقط عليها حمولة تزيد قيمتها على خمسة ملايين دولار؛ ليحرقوا مجموعة من الكرتون لا تصل قيمتها إلى دولار، وصدق العزيز الغفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك؛ فلقد مضى الوقت سريعاً، أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا بنصرة هؤلاء المستضعفين في فلسطين وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي كل مكان.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(55/11)
من رحم الليل ينبثق نور الصبح
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فأخيراً أيها الأحبة، ومن رحم الليل يولد نور الصبح، لابد أن يشرق ضوء الفجر، وإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يأتي بعدها ضوء الفجر مباشرة، ولقد اشتد الظلام واستحكمت حلقاته، اشتد الظلم واشتد الكرب، وكلما اشتد الظلام استبشرنا بنور الصبح وبإشراقة الفجر بموعود الله جل جلاله.
تدبر معي هذا الخبر، وفكر فيه جيداً، فلقد ذكرت في أول هذه الأزمة أنني ألمح فيها خيراً كبيراً، وهأنذا أؤكد لحضراتكم الآن ما ذكرت، فحينما ذكرت ذلك لم أذكره من باب الأحلام الوردية، ولا من باب السياسة الجاهلة القاصرة، ولا حتى من باب التنبؤ بالغيب، ولكن من خلال فهمي لقرآن الله وسنة الحبيب رسول الله؛ قلت: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، خذ الخبر: رفع تقرير في غاية الخطورة للبيت الأبيض يقول: بأنه من تاريخ (11 سبتمبر) وهو يوم الأحداث إلى تاريخ (12 أكتوبر) أسلم في أمريكا ثلاثة آلاف من الأمريكان! هل تصدق مثل هذا الرقم في شهر؟! ألم أقل: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]؟ قد ينظر بعضنا إلى الأمور نظرة ضيقة؛ فيقع في الإحباط واليأس، لكن لو نظرت إلى الحدث نظرة شمولية واسعة من خلال فهمك لآيات الله والسنن الربانية التي أودعها الله كونه، للمحت من وراء كل حدث خيراً عظيماً، وإن غاب عنك فإن الحكمة ما غابت عن الحكيم الخبير.
لو تجمعت الأمة بكل ما تملك من طاقة إعلامية ودعوية لتبلغ الإسلام في الأرض كما شاء الله وقدر في مثل هذا الحدث ما استطاعت، زعماء الغرب: بوش، رئيس وزراء إيطاليا، حتى بوتن في روسيا؛ الكل تحدث عن الإسلام، وعن سماحة الإسلام، وعن أخلاق الإسلام، فسمع الكثيرون من الغربيين ولأول مرة كلمة الإسلام، وشيئاً من الصورة الحقيقية للإسلام، فدخل هذا العدد الضخم بكل المقاييس الإسلام في شهر واحد، لماذا؟ لأن الجهات الأمنية في أمريكا أمرت الجهات والمراكز الإسلامية والمساجد أن تتحرك؛ لتظهر الصورة المشرقة الحقيقية للإسلام، فتحركت كل الجمعيات التي قيدها اليهود قبل ذلك؛ تحركت بأمر من الجهات الأمنية أو إن شئت فقل: بتقدير من خالق البشرية جل جلاله، فكانت النتيجة أن يسلم ما يزيد على ثلاثة آلاف رجل وامرأة من الأمريكان أنفسهم.(55/12)
حق الموالاة والمعاداة
الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وأفعال سلف الأمة النيرة المشرقة على وجوب تحقيق مبدأ الولاء والبراء كما أمر الله تعالى، ولن يتحقق الولاء والبراء إلا إذا تحقق الإيمان في قلوب الناس، وتحققت الأخوة الإيمانية بين المسلمين، ونُبِذَ الخلاف، واستقام الناس على الحق.
وها هي تباشير الفجر قد لاحت في الأفق، مبشرة بنور العز والتمكين لهذه الأمة، المترتب على صدق الأخوة، ووحدة الصفوف.(56/1)
الموالاة والمعاداة لغة وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف: سلسلة منهجية كريمة، تحدد الدواء من القرآن والسنة، لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم في حقوق الدين كهذا الزمن! فأردت أن أذكر نفسي وأمتي بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت، عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة، {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة:285]، ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع اللقاء الثامن والعشرين من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، مع حق جليل عظيم كبير، ألا وهو حق الموالاة والمعاداة، فأعيروني القلوب والأسماع، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية: أولاً: تفصيل لغوي وشرعي مهم.
ثانياً: أدلة القرآن والسنة.
ثالثاً: صور مشرقة في دنيا الواقع.
رابعاً: لا تيأسوا، فمن سواد الليل ينبثق نور الفجر.
أيها الأفاضل! أكرر القول بأن الداعية الأمين -أسأل الله أن نكون أهلاً لهذه الأمانة - هو الذي لا يكون بأطروحاته في جانب، في الوقت الذي يترك فيه أمته بجراحاتها وأزماتها ومشكلاتها في جانب آخر، ولكنه يشخص الداء؛ ليستل جرثومته بيد بيضاء نقية، ليحدد لهذا الداء الدواء من كتاب رب البرية، وكلام سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، ولا يغيب على أحد أن الأمة الآن تعيش واقعاً مريراً، وتزداد المأساة حينما ترى كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام لا يعرفون شيئاً ألبتة عن هذا الأصل العقدي الكبير، عن الموالاة لله ولرسوله وللمؤمنين، والمعاداة والبغض للشرك والمشركين والكفر والكافرين، مع أن هذا الأصل لا يصح لمسلم على وجه الأرض دين إلا به، وذلك يوقفك على حجم المؤامرة الخطيرة التي أعلنت على عقيدة التوحيد! فلقد حاول أعداؤنا بكل سبيل أن يفرغوا العقيدة من مضمونها الحي، ومحتواها الحقيقي؛ لتصير العقيدة مجرد قشرة هشة خاوية، لا تستطيع الثبوت أمام هذه الفتن الهوجاء والأعاصير المدمرة، فصار المسلم -إلا من رحم ربك- يردد بلسانه كلمة التوحيد، وهو لا يعرف لها معنى، ولا يقف لها على مقتضٍ، ولا يحقق لها في دنيا الواقع مضموناً بين الناس.
كانت العقيدة بالأمس القريب إذا مس جنابها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق عمر يزمجر، وخالد بن الوليد يهدد، ورأيت الصحابة الصادقين يبذلون من أجل حمايتها الغالي والنفيس، أما اليوم فإن العقيدة في الأمة تذبح شر ذبحة.
وأنا أدين لربي جل وعلا بأن الخطوة العملية الأولى على طريق النصر والعزة والكرامة، هي: أن تصحح الأمة عقيدتها، وأن تجدد الأمة إيمانها وتوحيدها لربها جل جلاله، فإن الإسلام عقيدة وينبثق من هذه العقيدة شريعة، وتنظم هذه الشريعة كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، ويؤلمني أن أذكركم بما قاله قديماً اللورد كرومر في مصر أثناء الاحتلال الإنجليزي لهذه الديار المباركة، يقول في كلمات صريحة: لابد من المحافظة على المظاهر الزائفة للإسلام، حتى يظل المسلمون في اطمئناً خادع إلى أن إسلامهم ما زال بخير، فلا يهبون لنجدة عقيدتهم التي نقتلعها من جذورها.
وهذا كلام واضح، فالعقيدة هي الأصل، فإذا غيب هذا الأصل العقدي الكبير ضاعت الموالاة لله ولرسوله وللمؤمنين، وضاعت المعاداة للشرك والمشركين.
فما هي الموالاة؟ وما هي المعاداة؟ وهذا هو العنصر الأول: تأصيل لغوي وشرعي مهم.
الموالاة: لغة: كلمة مشتقة من الولاء، والولاء هو: الدنو والقرب والنصرة والمودة والمحبة، فالموالاة ضد المعاداة، فالولي ضد العدو، والعدو ضد الولي، فإذا كان النصر والود والقرب والحب لله ولرسوله وللمؤمنين، فهذه هي الموالاة الواجبة شرعاًً على كل مسلم ومسلمة، أما إن كان الود، والنصر، والقرب، والمحبة، للشرك والمشركين، والكفر والكافرين، والغرب والغربيين، فهذه هي الموالاة المحرمة شرعاً بإجماع الأمة بتضافر الأدلة من القرآن والسنة، وإجماع علماء الأمة، وهذه موالاة ردة وكفر بالله ورسوله.(56/2)
أقسام الناس بالنسبة للدين
الناس ينقسمون الآن إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم ناصر لله ولرسوله ولدينه -اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك- قسم يعيش لربه، هو يأكل ويشرب ويستمتع بالحلال، لكنه يحمل هم الآخرة، يعيش من أجل الدين، الدعوة إلى الله هي همه في الليل والنهار، هي شغله في النوم واليقظة، هي فكره في السر والعلن يخطط لها ويفكر يحمل هم دينه ودعوته ينصر دين الله بكل ما يسره الله له من سبيل، فهو في وظيفته يدعو لدين الله، وهو في الشارع يدعو لدين الله، وهو في مصنعه وعيادته ومدرسته يجدد في الأرض بين الناس دين الله، وهو في بيته يذكر أسرته وأولاده ونساءه وبناته بدين الله، رجل ينصر دين الله ويعيش لله، ومن أجل الله تبارك وتعالى، هؤلاء هم القلة المباركة عند الله قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24]، هؤلاء هم أولياء الله، هم أهل الجنة، وهم أهل الغربة الذين زكاهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بقوله كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).
القسم الثاني: القسم المقابل، هو القسم الذي كفر بالله، وجحد ربه تبارك وتعالى، لا يعرف ربه، ولا يعرف نبيه، بل يعيش كالأنعام -معذرة! - بل إن الأنعام عند الله أفضل من هؤلاء بنص القرآن، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]، هؤلاء بتقدير الحكيم العليم الخبير: هم الكثرة، وهذا أمر ثابت قدراً، ودل على وقوعه الشرع أيضاً، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:89].
القسم الثالث: صنف بين هذين الصنفين، صنف يعيش من أجل شهواته الرخيصة، ونزواته الحقيرة، فهو منتسب إلى الإسلام ببطاقة شخصية رسمية: أحمد محمد عبد الله عبد الرحمن إلخ، لكنه لم يحقق انتماءه لهذا الدين، يعيش من أجل شهواته الرخيصة، ونزواته الحقيرة، لا ينصر ديناً، وهو في الوقت ذاته لا ينصر شركاً ولا كفراً، لكنه سلبي، يقول: وما دوري أنا؟! وماذا أصنع أنا؟! دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! بل ومن هذا الصنف المريض من يقول: دع ما لله لـ بوش.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ عش عصرك، انشغل بأولادك ووظيفتك، ودعك من الدين وانفض يديك من نصرة الإسلام! صنف خاذل لدين الله، وإن كان في ذات الوقت لا ينصر كفراً ولا أعداء الله، لكنه سلبي، وهذا الصنف على خطر عظيم، ويخشى على أفراده أن يختم لهم بسوء الخاتمة، فمن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، قال الحافظ ابن كثير: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، فمن عاش لشهواته ونزواته الحقيرة الرخيصة، عاش ليأكل ملء بطنه، عاش ليضحك ملء فمه، عاش لينام ملء عينيه، لا يحمل هم دين، ولا يحمل هم دعوة، عاش من أجل أسرته، عاش من أجل أولاده، عاش من أجل شهواته، سيموت فقيراً ورب الكعبة! وسيحشر حقيراً صغيرا، ً قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث أنس: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).
فكن رجلاً، وكن صاحب همة عالية، وسلم الراية لولدك وأنت رجل، وسلم العقيدة الصحيحة لولدك وأنت قائم بين يدي الله جل جلاله، قال الله لحبيبه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:21]، فقام الحبيب ولم يذق طعم الراحة حتى لقي الله، يا من خذلت دين الله! أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك بالإمكان وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطانِ شرط المحبة أن توافق من تحـ ـب على محبته بلا نقصانِ فإن أدعيت له المحبة مع خلافك ما يحب فأنت ذو بطلانِ وقال آخر: نعم لو صدقت الله فيما زعمته لعاديت من بالله وحيك يكفر وواليت أهل الحق سراً وجهرة ولما تعاديهم وللكفر تنصر فما كل من قد قال ما قلت مسلم ولكن بأشراط هناك تذكر مباينة الكفار في كل موطن بذا جاءنا النص الصحيح المقرر وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهر هذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنت تشعر(56/3)
أدلة القرآن والسنة في مسألة الموالاة
ولخطر هذه القضية، تضافرت أدلة القرآن والسنة النبوية على بيانها، وهذا هو عنصرنا الثاني: أدلة القرآن والسنة.
تدبروا معي قول رب الأرض والسماوات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:51]، نداء لمن آمن بالله ووحده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، هذا كلام ربك! قال حذيفة بن اليمان أمين السر النبوي: فليحذر أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري! لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قال شيخ المفسرين الطبري في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قال: أي: من تولى الكافرين، من اليهود والنصارى، ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، وقال الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن الكريم) في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أي: من تولاهم ونصرهم على المسلمين فحكمه حكمهم في الكفر والجزاء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]، وها أنتم قد رأيتم بأم أعينكم الولاية بين الكفر تتجدد الآن على أرض فلسطين، فالكفر ملة واحدة، ولقد بح الصوت في تفصيل هذه الحقائق، ضحكوا علينا في أول إعلان الحرب على الإسلام في أفغانستان، بأنه ستقام دولة فلسطينية في أرض فلسطين! وهذه خدعة، وهذا ضحك على أصحاب اللحى، لكنهم إن حققوا ما أرادوا، سيقلبون علينا ظهر المجن، إنهم يستخفون بالأمة، ويتلاعبون بزعمائها وأفرادها بلا استثناء، وها نحن نرى أن المسلمين في فلسطين هم الإرهابيون! فمنظمة حماس منظمة إرهابية! ومنظمة الجهاد الإسلامي منظمة إرهابية! أما شارون فهو حمامة من حمائم السلام!! أما اليهود فهم حمائم السلام! أما بوش فهو الذي يحمل السلام لكل من في الأرض!! وهو منبع الشر في الأرض، وهؤلاء هم أصل الشر في الأرض، فالكفر ملة واحدة، متى ستعي الأمة هذه الحقيقة؟! متى ستصدق الأمة ربها؟ متى ستصدق الأمة نبيها؟! والله إن القلب ليتفطر، والله إن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياءً، وقد قلنا هذا ألف مرة! لكن نصرخ في صحراء مقفرة، من يسمع هذه الأمة عن الله؟! وعن الصادق محمد صلى الله عليه وسلم؟! متى ستصدق الأمة أن الكفر ملة واحدة؟! وأن الكفر لا يمكن أن ينصر توحيداً، وأن الشرك محال أن ينصر إيماناً، اللهم إلا إذا دخل الجمل في سم الخياط! اللهم إلا إذا استخرجنا من النار المشتعلة المتأججة، الماء العذب الزلال! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120]، إذاً: فلا تنتظروا هذه اللحظة، ولو جلسوا على مائدة المفاوضات كل يوم، فاليهود لا يعرفون وفاء لعهد، ولا وفاء لوعد، إن قلوبهم تغلي على الإسلام وأهله، وأنا لا أنطلق لتأصيل هذا الكلام من مؤامرة عدائية على حسب تعبير العلمانيين، وإنما هذه حقائق قرآنية ونبوية، فلا يحدثك عن القوم مثل خبير: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120] إلا بشرط واحد {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118]، يريدون لكم العنت، يريدون لكم المشقة، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118]، فالآن تهديد صريح للعراق بأنها دولة تأوي الإرهاب، والصومال -الذي لا يجد أهله لقمة الخبز- دولة تأوي الإرهاب! وصارت كلمة الإرهاب كلمة ممزوجة، يعلن الحرب بسببها على الإسلام في كل بقاع الأرض حتى في الفلبين، وهم أصل الإرهاب في الأرض: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، هل ضاعت عقولنا إلى هذا الحد؟! هل غيبت عقول الأمة إلى هذا الحد؟! الله سبحانه يظهر لنا ما في صدور القوم، ماذا نريد بعد ذلك؟! يقول تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء:138] بشارة للمنافقين، إنه التوبيخ والتبكيت، كما في قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فالله سبحانه يقول: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138] من المنافقون؟ بنص القرآن: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:138 - 139]، اسمع لقول ربك: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139]، سبحان الله! والله أشعر بأن هذه الكلمات لنا ولواقعنا وزماننا، {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء:139]، بل العزة لله جميعاً، إن العزة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين الصادقين، أتبتغي الأمة العزة عند الكفر؟! أتبتغي الأمة العزة في الغرب؟! هاهي شربت كئوس الذل أشكالاً وألواناً! هاهي صفعت بل ضربت بالنعال! فمتى سترجع الأمة إلى الكبير المتعال، وإلى دين سيد الرجال صلى الله عليه وسلم؛ لتذوق من جديد طعم العزة وحلاوة الكرامة؟!! قالها عمر: (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
لقد ابتغت الأمة العزة في الشرق الملحد تارة فأذلها الله، وابتغت العزة في الغرب الكافر تارة فأذلها الله، وابتغت العزة في الوسط الأوربي تارة فأذلها وأخزاها الله، ولن تذوق معنى العز وحلاوة الكرامة إلا إذا عادت إلى دين الله لتنصره بكل غال ونفيس.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1]، أمر عجب!! تعلمون عداوتهم لله، وتعلمون عداوتهم لرسول الله، وتعلمون عداوتهم للدين والمسلمين، ومع ذلك تسرون إليهم بالمودة بالمحبة! تنصرون مناهجهم، وتنصرون أفكارهم، وتنصرونهم بالقول وباللسان وبالجرائد والمجلات والفضائيات والإعلام!! عزف على وتر التقديس والتمجيد لمناهج هؤلاء المجرمين! وإن انبرأ رجل ليتحدث: تراه -ورب الكعبة- يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، يا أخي! أنا أشعر وأنا أتحرك للدعوة في ظل هذه الظروف بضغط شديد على كل من يريد أن يجسد الحقيقة حتى ولو بصورة مهذبة! والله سبحانه وتعالى يبين لنا صدور القوم ونفسياتهم في آيات كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها، فهذا فيه الكفاية.
ويقول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الطبراني والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بسند حسنه الألباني رحمه الله، قال صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله)، فأصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، (أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: (أن جريراً رضي الله عنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ابسط يدك يا رسول الله! لأبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبايعك على أن تعبد الله سبحانه وتعالى لا شريك له، وتقيم الصلاة، وتوتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين) انظروا إلى الولاء والبراء: (وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين).(56/4)
صور مشرقة في دنيا الواقع
ولو نظرت إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت تطبيقاً عملياً رائعاً لهذا الأصل العقدي الكبير، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء: صور مشرقة في دنيا الواقع.
أيها الأفاضل! إن من أعظم صور الموالاة والمعاداة، ومن أنصع صور الحب في الله والبغض في الله، ما سطره الأنصار الأبرار الأطهار الأخيار، الذين فتحوا القلوب والأعين للمهاجرين، قبل أن يفتحوا البيوت والدور، وزكاهم الله تبارك وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
أيها الأفاضل! لقد فتح الأنصار القلوب فحل فيها المهاجرون، بل لقد قاسم الأنصاري المهاجر كل شيء، أو شاركه في كل شيء، وتنازل له عن أي شيء، ومن أجمل ما ثبت في هذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد الأنصاري: لـ عبد الرحمن المهاجري يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، فسأقسم مالي بيني وبينك نصفين، ولي أمرأتان (زوجتان) فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها! فقال عبد الرحمن بن عوف العفيف: بارك الله في أهلك وأموالك، ولكن دلني على السوق).
والسؤال المرير: أين من يعطي الآن عطاء سعد؟!
و
الجواب
وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟! فلقد مضى سعد مع عبد الرحمن، ووجد سعد يوم كان هنالك عبد الرحمن، فهذه صورة من أنصع صور الولاء، ومن أحلى صور الحب في الله، والبغض في الله.
وها هو المغيرة بن شعبة، يأتي عروة بن مسعود وهو عم المغيرة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية، فوقف المغيرة بن شعبة ليظلل على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس من الحر، وهو آخذ بالسيف ينظر إلى عروة، وعروة بن مسعود يكلم ويفاوض النبي صلى الله عليه وسلم، ويمد يده أحياناً ليداعب شعرات من لحية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا جرياً على عادة العرب في التودد والتخرص، عروة يمد يديه؛ ليأخذ شعرة من شعرات النبي برفق وود، فضربه المغيرة بنصل السيف ضربة على ظهر يده -وهو عمه- وهو يقول: أخر يدك عن لحية رسول الله قبل أن لا تصل إليك يدك، أي حب وأي ولاء هذا؟! وهذا عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول، عبد الله إمام في التوحيد، وأبوه رأس النفاق، ولله في خلقه شئون! والحديث رواه ابن جرير بسند صحيح، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رأس النفاق عبد الله بن سلول يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يقصد أنه سيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذليلاً من المدينة، فقال عبد الله: صدق أبي يا رسول الله فأنت الأعز وهو الأذل، والله ما عرفت المدينة رجلاً أبر بأبيه مني، ولكنه بعد ما قال ما قال فلتسمعن ما تقر به عينك يا رسول الله! وأخذ عبد الله السيف وانطلق إلى الطريق، ووقف في طريق أبيه، فلما أقبل رأس النفاق ابن سلول ليدخل بيته اعترضه ولده عبد الله فقال له أبوه: ماذا تفعل يا بني؟! فقال له ولده: والله لا يؤويك ظلها -يعني: المدينة- ولن تبيت الليلة في دارك إلا بإذن من الله ورسوله؛ لتعلم من الأعز ومن الأذل! فصرخ رأس النفاق يا أهل الخزرج! ابني يمنعني داري! فانطلق رجل من الصحابة إلى الرحمة المهداة، والنعمة المسجاة، وصاحب الخلق الفياض بالأدب والجود والكرم، فأخبره بما كان من عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: اذهب إلى عبد الله وقل له: يقول لك رسول الله: خله ومسكنه، يعني: دعه يدخل داره، فلما جاء الرجل بالأمر من قبل الحبيب، التفت الولد إلى والده وقال: فلتدخل الآن لتعلم من الأعز ومن الأذل! {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، هذه هي الموالاة في أنصع صورها، وهذه هي المعاداة في أقوى وأوضح معانيها على وجه الأرض، بهذه العقيدة، وبهذه القلوب، استطاع حبيب القلوب أن يقيم للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(56/5)
كيفية تحقيق الموالاة والمعاداة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! السؤال المهم: كيف نحقق الموالاة والمعاداة؟ والجواب في نقاط محدده، وهذا هو عنصرنا الرابع من عناصر هذا اللقاء:(56/6)
تحقيق الإيمان
أولاً: تحقيق الإيمان، فلا يمكن أبداً أن توالي الله ورسوله والمؤمنين، وأن تعادي الشرك والمشركين، دون أن تحقق الإيمان، وهذا هو الواقع، إذ لا يجيد الموالاة والمعاداة إلا المؤمن، ولذلك فإن الله إنما نادى المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران:118]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وهذا الخطاب للمؤمنين، فلا بد أن نحقق الإيمان، والإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والذنوب والزلات، هذا الإيمان هو الذي حول سحرة فرعون إلى أولياء، فمن لحظة أعلنوا فيها: فـ {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، فلما ذاقت قلوبهم حلاوة الإيمان، سجدوا لرب موسى وهارون، وقالوا لفرعون بعزة واستعلاء: لا ضير، كلمة واحدة تجسد حلاوة الإيمان في القلوب، (لا ضير) يعني: افعل ما شئت، ذبح صلب قتل، افعل ما شئت، فلن نفرط في هذا الإيمان الذي سكن قلوبنا.(56/7)
تحقيق الأخوة الإيمانية
ثانياً: تحقيق الأخوة الإيمانية، إذا حولنا الأخوة بيننا إلى واقع، فإننا بذلك نجسد الموالاة والمعاداة، فبالعقيدة وبالإيمان وبالأخوة بين المسلمين، بأخوة الجسد الواحد، نحقق الموالاة والمعاداة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فإن وجدت أخوة بغير إيمان، فاعلم بأنها إلى زوال، وبأنها التقاط مصالح، وتبادل منافع، فإن زالت المصلحة زالت الأخوة الزائفة، وإن زالت المنفعة انفصمت الأخوة المزيفة، وإن وجد إيمان بلا أخوة فاعلم أيضاً بأنه إيمان ناقص، إيمان يحتاج إلى تصحيح وإلى تجديد، إذ إن الأخوة الحقة ثمرة حلوة من ثمرات الإيمان الحق الصادق بالله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].(56/8)
نبذ الخلاف
ثالثاً: نبذ الخلاف: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فالأمة في أمس الحاجة الآن إلى أن تلتقي على كلمة سواء، ولو اتخذت الأمة في هذه الظروف الحرجة قرارات اقتصادية سياسية دبلوماسية -على حد تعبيرهم- والله ستغير مجرى التاريخ في هذه الأيام العصبية، الأمة غنية بالثروات بالمناخ بالعقول والأدمغة بالطاقات بالعمق الاستراتيجي في قلب الأرض، لكنها مهزومة نفسياً، ومشتتة، ومشرذمة، حتى على مستوى العمل الإسلامي، ترى التشرذم والتهارش والنزاع والشقاق والخلاف، وربما لا يلقي الأخ السلام على أخيه؛ لأنه لا ينتمي إلى جماعته، وإنا لله وإنا إليه راجعون!(56/9)
لا تيأسوا! فمن سواد الليل ينبثق الفجر
وأريد أن أختم اللقاء ببشارة للقلوب، وهذا هو العنصر الأخير، لا تيأسوا فمن سواد الليل ينبثق نور الفجر.
أيها الأفاضل! ها نحن نرى الآن على أرض الواقع أن الأمة -ولله الحمد- بدأت تنتقل من مرحلة أزمة الوعي، إلى مرحلة وعي الأزمة، فأنت ترى الآن الولد الصغير من أولادنا يتحدث عن اليهود يتحدث عن الحقد الغربي على الإسلام والمسلمين، أجيالنا المعاصرة ما عرفت قضية القدس، إلا بعد هذه الأحداث، ما عرفت العداء الكامل في الصدور للإسلام إلا في هذه الأيام، فأنت ترى الآن إقبالاً شديداً على الله سبحانه وتعالى في كثير من بقاع الأرض، بل في كل أرجاء الأرض، وإذا اشتدت المحن لم يجد الناس - أقصد من أهل الإسلام - طريقاً إلا أن يفروا إلى الله تبارك وتعالى، وأن يرجعوا إلى الله، وما نراه الآن في الدروس والمحاضرات والجمع، وما نراه من حجاب، وما نراه من إقبال على مطالعة أخبار المسلمين في الشرق والغرب، لمن أعظم الأدلة العملية على أن تباشير صباح جديد بدأت تبزغ في الأفق.
أسأل الله أن يحولها إلى فجر صادق إنه ولي ذلك والقادر عليه، فلا تيأسوا ولا تقنطوا فالجولة الأخيرة -كما بينت في اللقاء الماضي- لن تكون ألبتة إلا لدين النبي صلى الله عليه وسلم، برغم أنف الكافرين والمجرمين.
أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا بالعمل لدينه حتى نلقاه، وأن يثبتنا على المبدأ والعقيدة حتى نلقاه، وأن يقر أعيننا بنصرة دينه، إنه ولي ذلك ومولاه، اللهم اجعلنا رحمة لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم ارزقنا حبك وحب رسولك، وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(56/10)
دروس من الأحداث الأمريكية
لقد عرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر زيف الحضارة الغربية، وكشفت الوجه الحقيقي للحرية الأمريكية المزعومة، بل لقد حركت العالم كله، ليعلم أن قوة الله أعظم من كل قوة، وأن هيبة أمريكا وهيمنتها إنما هي حرب نفسية، وأكاذيب إرجافية، كما أنها أبانت أن شمس الإسلام ستشرق من جديد ولو كره الكافرون.(57/1)
الله الملك الحق
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الفضلاء الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! دروس من الأحداث الأمريكية، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الأغر الميمون المبارك، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: الله الملك الحق.
ثانياً: هذه حضارتنا وتلك حضارتهم.
ثالثاً: الضنك والشقاء ثمرة الإعراض عن الله.
رابعاً: الأيام دول.
وأخيراً: وستشرق شمس الإسلام من جديد.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين، وهزيمة الشرك والمشركين، وخذلان الظالمين والمجرمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: الله الملك الحق: لقد أثبتت الأحداث الأمريكية الأخيرة أن القوة العظمى التي نجحت بحدها وحديدها، وإعلامها الذي يحرك دفته اليهود، أن تقنع أصحاب القلوب القلقة التي فرغت من الإيمان، وأن تخدع كثيراً من أهل الأرض أنها القوة المتحكمة في الكون، وأنها المدبرة لأمر الكون، وأنها الحارسة لسماء الكون، وأنها الحارسة لأرض الكون لا تساوي شيئاً؛ فقد أراد الله جل وعلا أن يُعلِم القوة العظمى أن الذي يدبر أمر الكون وحده هو الملك الحق.
أتاها الله عز وجل من سمائها، تلك السماء التي ادعت أمريكا أنها قادرة على التحكم فيها، فلا تستطيع ذبابة -فضلاً عن صاروخ أو طائرة- أن يقتحم المكان الجوي فوق وزارة الدفاع (البنتاجون) فشاء الملك الحق أن تُغزا القوة العظمى في الأرض من قبل هذه السماء.
تدبر معي قول الله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]، وقوله جل جلاله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11]، وقوله جل جلاله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:58 - 59].
فما من مؤمن على وجه الأرض إلا وهو يعلم الآن يقيناً لا تزعزعه رياح الشك والريبة أنه ما من ذرة في الكون إلا وهي في قبضة الملك الحق، وما من ورقة تسقط إلا بأمره وعلمه، فلا تخرج دبابة ولا تنطلق طائرة ولا يسقط صاروخ ولا تدك الأرض قنبلة إلا بأمر الملك الحق الذي يدبر الكون كله، قال جل جلاله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
ما أود أن أؤصله اليوم ابتداء كأعظم دروس هذه الأحداث: أن نعلم يقيناً أن الله جل وعلا هو الذي يدبر أمر الكون، ولا تستطيع قوة على وجه الأرض مهما أوتيت من القوى، والوسائل العلمية، والتخطيط الهائل لحرب الإرهاب -زعموا- لا تستطيع هذه القوة أن تحول بينها وبين قدر أراده لها الملك الحق.
السلاح الأمريكي الذي يخوف به العالم الآن، شاء الله جل وعلا مرة أخرى أن يبين لأهل الأرض أن أمريكا التي استطاعت أن تخدع العالم كله بأنها تملك من السلاح ما تقدر به أن تبيد البشرية؛ وشاء الله جل وعلا أن يتضح لنا في الأيام الماضية أنها ما فعلت شيئاً، فما يزيد على ألفي صاروخ وقنبلة سقطت في الأيام القليلة الماضية على أرض أفغانستان، ولو كانت الأمور تسير بالقوانين الأمريكية، والخطط الاستراتيجية المعدة، ما وجدنا بأفغانستان على الأرض من سبيل، ولكن شاء الله أن يبقيها، وأن يبقي الثلة الطيبة المباركة من طالبان، تلك الثلة التي تعلن الآن أنها تنتظر الجنود الأمريكان لتلقنهم درساً على الأرض كما لقنت الروس والبريطان! أمر عجب! لابد أن تعي القلوب القلقة هذه الدروس، فالذي يدبر الكون هو الله وليست أمريكا بأسلحتها، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لـ مسلم: (جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة أن الله تعالى يجعل السموات على إصبع)، تدبر أيها الموحد لله! فالسماء كلها على إصبع واحد من أصابع الملك الحق! (إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة أن الله تعالى يجعل السموات على إصبع، والأراضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، وقرأ قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر واللفظ لـ مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يطوي الله جل وعلا السموات والأرض بيمينه يوم القيامة ويقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري واللفظ لـ مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
عباد الله! لا تنخدعوا بأي قوة على وجه الأرض، فإذا كانت أمريكا هي القوة العظمى، فالله هو القوي الأعظم، الملك الحق الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
الله اسم لصاحبه كل جلال.
الله هو اسم لصاحبه كل كمال.
الله اسم لصاحبه كل سلطان وجلال.
الله هو الاسم الذي ما ذكر في قليل إلا كثره.
الله هو الاسم الذي ما ذكر عند خوف إلا أمنه.
الله هو الاسم الذي ما ذكر عند كرب إلا كشفه.
الله هو الاسم الذي ما ذكر عند هم إلا فرجه.
الله هو الاسم الذي ما تعلق به ضعيف إلا قواه.
الله هو الاسم الذي ما تعلق به فقير إلا أغناه.
الله هو الاسم الذي ما تعلق به ذليل إلا أعزه وآواه.
الله هو الاسم الذي تستجاب به الدعوات.
الله هو الاسم الذي تستنزل به الرحمات.
الله هو الاسم الذي تقال به العثرات.
الله هو اسم الذي لو عرفت الأمة قدره وجلاله لنصرها على أعتى القوى في الأرض بأمره وهو رب الأرض والسماوات، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، فلابد أن تنتزع من القلوب هذه الحال من الخوف والهزيمة النفسية، فلقد أعلنت جرائدنا المبجلة الموقرة وصور إعلامنا الذي نام في العفن نوماً عميقاً، وصور لنا صاروخاً صدرته أمريكا إلى السماء للتجسس، وعلق تحت الخبر بأسلوب مزرٍ: صاروخ أطلقته أمريكا للتجسس، قادر على أن يسجل كل كلمة يتكلم بها أفغاني في أرض أفغانستان! وإلى الآن ما تمكنوا من الوصول إلى أي أحد! إنه الإرجاف، فتعالى الله الملك الحق.(57/2)
هذه حضارتنا وتلك حضارتهم
ثانياً: بإيجاز شديد! هذه حضارتنا وتلك حضارتهم: لقد صرح رئيس الوزراء الإيطالي الجاهل أن الحضارة الغربية يجب أن تتفوق على الحضارة الإسلامية، وأن الحضارة الإسلامية هي حضارة التطرف والإرهاب، وحاول بشتى الطرق أن يجمل وأن يزين اللفظ فما استطاع، وصدق ربي إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
وصرح بوش أنها حرب صليبية ولو زين وجمل {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران:118].
وصرح رئيس وزراء بريطانيا بلير وقال: ها نحن قد عدنا يا ملا محمد عمر! وصرح رئيس الوزراء الإيطالي بأن الحضارة الإسلامية حضارة يجب أن تزول، ويجب أن تهزم.(57/3)
حضارة الغرب الزائفة الهابطة
أيها الأحبة: تعالوا بنا نعقد مقارنة سريعة بين حضارتهم وحضارتنا، ولنبدأ بحضارتهم: فحضارتهم هي الحضارة التي سبت رب العزة سباً فضيعاً منكراً، فنسبت عيسى ابن مريم ابناً لله جل وعلا، ففي جانب الاعتقاد: نرى عقيدة متعفنة، ونرى عقيدة لا أصل لها ولا صواب.
حضارتهم هي التي دافعت عن الشذوذ الجنسي إلى هذه اللحظة.
حضارتهم هي التي تدافع عن مصارعة الثيران.
حضارتهم هي الحضارة التي تدافع عن العنصرية اللونية البغيضة وإلى هذه اللحظة.
حضارة الغرب هي الحضارة التي أسقطت القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي.
الحضارة الغربية برائدة الإرهاب في الأرض أمريكا هي التي قتلت أربعة ملايين في الفيتنام.
الحضارة الغربية هي الحضارة التي استخدمت أطفال المسلمين ولأول مرة في التاريخ كدروع بشرية في البوسنة والهرسك.
الحضارة الغربية هي التي قتلت ما يزيد على مليون ونصف طفل من أطفال العراق.
الحضارة الغربية هي التي دمرت مصنع الشفاء في السودان.
الحضارة الغربية هي التي ما زالت منذ عشر سنوات تدك العراق والمدنيين في العراق دكاً.
الحضارة الغربية هي الحضارة الظالمة التي أبادت الهنود الحمر من الأمريكان.
الحضارة الغربية هي الحضارة التي استعبدت الزنوج لوقت من الزمان.
الحضارة الغربية هي الحضارة التي فعلت بالإنسان على وجه الأرض ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات.
هذه حضارتهم التي مجدت جانجاكروستو.
تلك الحضارة التي مجدت العقد الاجتماعي الفاسد الباطل.
تلك الحضارة التي مجدت المذهب الميكافيلي الخبيث.
تلك الحضارة التي مجدت كل جاهليات الأرض.
هذه هي الحضارة الغربية حضارة الإرهاب.
الحضارة الغربية التي ما زالت إلى يومنا هذا تقصف العزل والمدنيين في أفغانستان ممن لا ذنب لهم ولا جريرة.
الحضارة الغربية التي تكيل بمكيال واحد لا بمكيالين ألا وهو مكيال العداء للإسلام.
الحضارة الغربية التي تمد اليهود بأحدث أنواع الأسلحة لتدك هذه الحضارة الغربية الغاشمة الظالمة الفلسطينيين العزل من الشيوخ والنساء والأطفال إلى هذه اللحظة التي أقف فيها على المنبر.
الحضارة الغربية هي التي أعلن عضو بارز من أعضائها وهو الإرهابي الكبير بوتن فقال: إنني أحارب عدوي الأول ألا وهو الإسلام، وسأقضي على الإرهابيين في داغستان والشيشان؛ لأحول البقية الباقية منهم إلى النصرانية.
إنها الحضارة التي قال عضو بارز من أعضائها: إن العرب صراصير ينبغي أن يبادوا من على وجه الأرض! إنها الحضارة التي قال عضو بارز من أعضائها: فليذهب العرب إلى الجحيم! إنها الحضارة الغربية التي تغذي الإرهاب والتطرف في قلوب الصغار والأطفال منذ الصغر كما تقول الملحمة الشعرية التي تسمى بإكليل الجبل، وهي الملحمة التي يحفظها الطفل الصربي، تقول كلماتها: سلك المسلمون طريق الشيطان.
دنسوا الأرض ملؤها رجساً.
فلنعد للأرض خصوبتها.
ولنطهرها من تلك الأوساخ.
ولنبصق على القرآن.
ولنقطع رأس كل من يؤمن بدين الكلاب ويتبع محمداً.
فليذهب غير مأسوف عليه.
هذه هي الحضارة الغربية، في الجانب العقدي، وفي الجانب الأخلاقي، وفي الجانب الإرهابي، فهي الحضارة التي تغذي وتؤصل الإرهاب في الأرض على يد رائدة الإرهاب في الأرض أمريكا، وربيبتها على الأراضي المحتلة (إسرائيل) على حد زعمهم، وأنا لا أحب أن أستعمل هذه اللفظة.
اليهود يمارسون الإرهاب في كل لحظة.
والأمريكان مارسوا ويمارسون وسيمارسون الإرهاب.
والروس يمارسون الإرهاب إلى هذه اللحظة.
وعباد البقر في كشمير يمارسون الإرهاب إلى هذه اللحظة.
والصربيون أصلوا الإرهاب وزرعوا جذوره في قلب البلقان.
فهذه هي الحضارة الإرهابية المتطرفة اللصوصية الأصولية، الحضارة المتعفنة الروح والضمير، وأنا لا أنكر أن هذه الحضارة قد قفزت في الجانب المادي قفزات هائلة، ففجرت الذرة، وانطلقت إلى أجواء الفضاء، وغاصت في أعماق البحار، وحولت العالم إلى قرية صغيرة عن طريق هذا التكنيك العلمي المذهل في عالم الاتصالات والمواصلات، لا أضع رأسي في الرمال كالنعام لأنكر هذا الشق المهم من شقي الحضارة، إذ لابد لأي حضارة من شق مادي علمي وشق ديني أخلاقي، ولقد قفزت الحضارة الغربية في الجانب المادي، وانتكست في الجانب الأخلاقي والديني، ليتبين لنا أن الأصل الأصيل في أي حضارة هو جانبها الديني والأخلاقي، إذ إن الشق المادي لما غاب عنه الجانب الخلقي تحول هو ذاته إلى ضنك وشقاء ومصدر إبادة للجنس البشري كله.
لما غاب الدين وغاب الخلق تحول الشق المادي إلى مصدر فزع، فالعالم الآن عالم مجنون، لو نظر العاقل إلى أحواله لضحك ضحكاً يشبه البكاء.
تصور طائرة في سماء أفغانستان تسقط القنبلة التي تدمر مساحة من الأرض -كما يقولون- مثل مساحة استاد كرة رياضي، وبعد لحظات تسقط طائرة أخرى كيساً من الدقيق أو من الأرز! إنه قمة الاستخفاف والظلم! تطعم من استباحت دمه؟ تطعم من ذاق طعم الرعب! ماذا يأكل؟ وماذا ينتظر من يد تضربه بالرصاص في قلبه، وتمنحه الطعام من خلف ظهره؟! مات، قتل، ماذا يريد بعد ذلك؟ ماذا يريد من سالت دماؤه؟ ماذا يريد من هدم بيته؟ ماذا يريد من فقد والديه؟ ماذا يريد من فقد أولاده؟ ماذا يريد من فقد وطنه؟ ماذا يريد من يحال بينه وبين أن يمارس دينه بحرية؟ لا يريد شيئاً على الإطلاق، لكنه اللعب، لكنه الاستخفاف بالعقول، عالم يدمر، ثم بعد ذلك ترى الجمعيات الماجنة التي تطالب من الميسورين والأغنياء في العالم أن يساهموا بالتبرعات للاجئين الأفغان، ولإعادة تعمير أفغانستان مرة أخرى بعدما دمرتها الأسلحة الأمريكية! عالم مجنون بكل ما تحمله الكلمة من معنى.(57/4)
رفعة الحضارة الإسلامية
أما حضارتنا فنقول بملء الفم وأعلى الصوت: إنها حضارة لا وجه للمقارنة مطلقاً بينها وبين حضارات الأرض؛ لأن حضارات الأرض استمدت أصولها من الأرض، أما حضارة الإسلام فقد استمدت أصولها من السماء، فأصول الحضارة الإسلامية القرآن والسنة.
هذه أصول حضارتنا: (القرآن والسنة) القرآن: كلام الله، والسنة: وحي الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستمد الحضارة الإسلامية أصولها من هذين الوحيين، ومن هذين النورين المشرقين، أصلت عقيدة التوحيد، فلا ينبغي أن توجه القلوب ولا أن تصرف العبادة إلا لله الواحد الأحد؛ لتلم شمل وشتات الإنسان، فالإنسان المتوجه لإلهين مختلفين مشتت، أما حضارة الإسلام، فهي الحضارة التي أصلت التوحيد الحضارة التي أصلت حقيقة العبودية لله جل وعلا حضارة الإسلام هي الحضارة التي أرست الخلق: خلق الأمن خلق التسامح خلق الوفاء بالوعود والعهود، ولم تكن مبادئ الحضارة الإسلامية كلمات لا تساوي قيمة الحبر التي كتبت به كما هو الحال في ميثاق حقوق الإنسان في هيئة الأمم.
ولم تكن الحضارة الإسلامية تماثلاً يصدم الناظرين في قلب أمريكا ليرمز للحرية وهم يسحقون الأحرار خارج بلادهم وأرضهم.
ولم تكن الحضارة الإسلامية كلمات حبيسة الأدراج كما هو الحال في الثورة الفرنسية التي حبست دستورها، أو حبست ما تحويه هذه الثورة من معانٍ جليلة عن مستعمراتها التي استعمرتها سنوات طويلة، ولكن الحضارة الإسلامية تحولت على أرض الواقع إلى منهج حياة، فهاهو المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أصّل هذه الأصول يعلنها صريحة، ويقول: (أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، إن آدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، وقرأ قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]).
وهاهي امرأة من أشراف بني مخزوم تسرق، ويشفع بعض الصحابة لها عند رسول الله -والحديث في الصحيحين- فيغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ويعلنها صريحة مدوية: (وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
هذه هي الحضارة الإسلامية التي ما ذاق اليهود ولا النصارى طعم الأمن إلا في ظلالها، فهاهم اليهود يعرفون طعم الأمن سنوات طويلة حينما وفوا بالعهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهاهم النصارى يذوقون طعم الأمن في ظلال الحكم الإسلامي.
جاء عمر بن الخطاب من المدينة إلى بيت المقدس ليحقن دماء النصارى، وهو الخليفة الذي كان قادراً على أن يصدر الأوامر لجيشه المنتصر أن يفتح مدينة بيت المقدس عنوة ولكنه أبى، وأتى من المدينة إلى بيت المقدس ليمشي مسافة تزيد على ألفين وخمسمائة كيلو متراً من المدينة إلى بيت المقدس، لم يركب طائرة خاصة، ولا سيارة مكيفة، بل ولم يأت بموكب رهيب يتكون من آلاف الفرسان وآلاف الرجال والجنود، وإنما جاء في موكب مهيب في تواضعه، جاء يركب دابة واحده مع خادمه فقط، يركب عمر الدابة تارة بمقدار قراءة سورة يس -كما قال المؤرخون- وينزل الفاروق من على ظهر الدابة ليركبها خادمه بمقدار قراءة السورة، ثم يمشي عمر إلى جوار خادمه لتستريح الدابة بمقدار قراءة السورة، ولما وصل إلى مدينة بيت المقدس كانت الكرة في الركوب لخادمه، فأصر الخادم أن يركب أمير المؤمنين وأن يمشي هو فأبى، وأصر الفاروق على أن يركب الخادم -وأنا لا أقول هذا من أجل تضييع الوقت ولا لاستهلاكه، وإنما لأبين لحضراتكم حقيقة القلوب التي فتح الله بها بيت المقدس- ويركب الخادم ويجر الدابة له أمير المؤمنين عمر، ويرى أبو عبيدة قائد الجيش هذا المشهد المهيب، وتعترض الدابة مخاضة ماء -بركة ماء- فيشمر الفاروق عن ساعديه، ويضع نعله تحت أبطيه، ويجر الدابة لخادمه، فيقول أبو عبيدة: مه يا أمير المؤمنين! والله ما أحب أن القوم قد استشرفوك -أي: لا أحب أن يراك القوم وأنت في هذه الحالة- فقال الفاروق الأواب: أوه يا أبا عبيدة! لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! لأوجعته، لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
هذه هي القلوب التي فتح الله لها بيت المقدس.
ويستلم عمر مفاتيح المدينة المقدسة، ويعطي النصارى عهداً بالأمان لأموالهم ولأنفسهم ولكنائسهم، وألا تسكن كنائسهم وألا تهدم، ومن أراد منهم أن يخرج فله الأمان، ومن أراد أن يبقى في المدينة المقدسة فلا تؤخذ منه الجزية حتى يحصد حصاده.
هذا هو الإسلام وهذه حضارته!! وفي هذه الحضارة الإسلامية يبرز جانباً رائعاً منها أمين سر رسول الله حذيفة بن اليمان، والحديث في صحيح مسلم، يقول حذيفة: ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا المشركون وقالوا: أتريدان محمداً؟ قلنا: لا.
بل نريد المدينة، قال حذيفة: فأخذ علينا المشركون عهد الله وميثاقه ألا نقاتل مع رسول الله، وأن ننطلق مباشرة إلى المدينة، قال: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قلت أنا وأبي وبما قاله المشركون -اسمع ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصرفا) -أي: لا تشهدا معنا المعركة- (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)، هذه حضارتنا إنها حضارة الإسلام!! وهذا أبو عبيدة يرسل كتاباً إلى عمر ليقول له: يا أمير المؤمنين! لقد أعطى جندي في الجيش عهداً بالأمان لأهل بلد من بلاد العراق، فماذا أصنع؟ اسمع ما قال عمر؟ أسرع وأرسل كتاباً إلى أبي عبيدة ليقول بعد حمد الله والثناء عليه: من عمر إلى أبي عبيدة: سلام الله عليك وبعد، فإن الله قد عظم الوفاء ولا تكونون أوفياء حتى تفوا فوفوا لهم بعهدهم، وانصرفوا عنهم، واستعينوا الله عليهم.
هذه حضارتنا التي تعظم الوفاء بالوعود والعهود!! حضارتنا التي تعظم الدماء!! حضارتنا التي تعظم الأمن والأمان!! حضارتنا التي لا تقر الإرهاب فوق أي أرض وتحت أي سماء، مهما كان لون الإرهاب ووطنه وجنسه!! حضارتنا التي أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن امرأة دخلت النار في هرة، وأن بغياً من بغايا بني إسرائيل دخلت الجنة في كلب!! حضارتنا حضارة العدل، تحرم الظلم والبغي والعدوان!! حضارتنا التي جلى عظمتها صلاح الدين يوم فتح بيت المقدس وأرسل طبيبه الخاص إلى عدوه اللدود وقائد الجيش الجسور ريتشارد قلب الأسد!! حضارتنا هي التي جلى محمد الفاتح عظمتها يوم فتح كنيسة (آياصوفيا)، وعلم العالم الصليبي الحاقد درساً من أعظم دروس التسامح والوفاء!! ويكفي أن نعلم أن حضارتنا تستمد أصولها وأخلاقها من كلام ربها وكلام نبيها صلى الله عليه وسلم.
أيها الأخيار! حتى في الجانب المادي، والله الذي لا إله غيره ما قفزت أوروبا هذه القفزة العلمية إلا على أسس حضارتنا الإسلامية العلمية، ففي الوقت الذي أنار المسلمون الأندلس بضوء الكهرباء، كانت فرنسا ما زالت تعيش في الظلام، ولم تصل بعد إلى ضوء المصباح الكهربائي، وفي الوقت الذي رصف وعبد المسلمون طرق الأندلس، كانت إيطاليا وبريطانيا تعيش في الوحل والطين، ولم تعرف بعد الطرق المعبدة.
لكنني أسجل أن المسلمين انتكسوا وتخلوا في الجانب المادي عن حضارتهم، وفي نفس الوقت أخذ الأوروبيون أسس وأصول هذه الحضارة، وطوروها وقفزوا قفزات علمية هائلة، إذ إن الحضارة في أي عصر ما هي إلا نتاج علمي وفكري لآلاف الأدمغة والرءوس التي عملت قبل ذلك.
فمحال أن تقارن بين حضارة القرن العشرين وحضارة القرن الخامس عشر؛ محال لأن حضارة القرن العشرين ما هي إلا محصلة لنتاج عقلي وعلمي وفكري لآلاف الرءوس والأدمغة التي عملت في كل مجالات الحياة، فجاءت هذه الحضارة فجنت الثمار وطورت، وأنا لا أنكر ذلك.(57/5)
الضنك والشقاء ثمرة الإعراض عن الله
لا وجه للمقارنة بين الحضارة الإسلامية وبين الحضارة الغربية في جانبها العقدي في جانبها الأخلاقي في جانبها الروحي في جانبها الإيماني، فبالرغم من كثرة هذه الطائرات والدبابات والهيئات والمنظمات والأحلاف فهي محرومة من نعمة الأمن والأمان.
على الرغم من التخطيط الهائل المبني على أسس علمية ونفسية لمحاربة الجريمة، فهي محرومة من الأمن والأمان.
على الرغم من كثرة الوسائل الأمنية الحديثة، ويجتمع الرؤساء والخبراء والمحللون ويحللون ويبحثون وينفضون ولا حلول.
ما زال آلاف البشر يبحثون عن الأمن وسط الركام، ما زال آلاف البشر ينتظرون الموت في كل لحظة، ضاقت الدنيا في وجوههم على الرغم من اتساعها، وأظلمت الدنيا في وجوههم على الرغم من كثرة أضوائها، والعالم كله محروم من الرخاء الاقتصادي على الرغم من كثرة الأسواق المشتركة، فما زال آلاف البشر يموتون من الجوع ولا يجدون لقمة الخبز، يموتون في العراء من شدة البرد، فالعالم محروم من راحة الضمير وانشراح الصدر وخلو النفس من المشاكل والأزمات والهموم، وكل هذا بسبب الإعراض عن الله ومنهجه.
أخيراً سمعنا عن مرض فتاك جديد ما سمعنا عنه من قبل ألا وهو الجمرة الخبيثة، وتدبر لفظة الجمرة فأصلها من النار، وأنا لا أقول بأن الجمرة أتت من جهنم، لكن تدبر اللفظة: الجمرة الخبيثة، فالرعب يسود أمريكا إلى حد أنهم أغلقوا فيه الكونجرس الأمريكي، فالكل في حالة فزع، ولم لا وربك جل وعلا يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وربك جل وعلا يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)؟ فمن أجل ما يذيق الأمريكان الرعب للأفغان، يريد الله في هذا الوقت أن يذيق الأمريكي الرعب.
إنه العدل! إنه الحق! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وابن ماجة من حديث ابن عمر: (يا معشر المهاجرين! خمس إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم).
إنها نتيجة عادلة، وثمرة مرة للإعراض عن الله، والظلم لعباد الله وخلق الله في أرض الله! صار المسلم الذي يدافع عن أرضه وعرضه ومقدساته هو الإرهابي الأصولي، اللصوصي المتطرف، الرجعي المتخلف المتأخر إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال الآن للمسلمين كيلاً.
لو حدث أي شيء في الأرض اتهم المسلمون في التو واللحظة قبل أي دليل أو تحقيق أو برهان، حتى اتهم الفلسطيني الذي يدافع عن عرضه ومقدساته بالإرهابي.(57/6)
الأيام دول
عنصرنا الرابع: الأيام دول: إن كانت الجولة الآن للغرب وأهله، فإن الله تبارك وتعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
إن للحضارات دورات فلكية كما يقول المفكر الشهير سبلنجر، إن للحضارات دورات فلكية، فهي تبرز هنا لتشرق هنالك.
ثم يقول: وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة ألا وهي حضارة الإسلام.
نعم.
إن الدولة والجولة الآن للغرب، لكن لابد أن نعلم أن لله سنناً ربانية في الكون، لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال، فإن أخذ الغرب بأسباب القوة انتصروا، وإن تخلى المسلمون عن أسباب القوة هزموا؛ لأن الله لا يحابي أحداً من خلقه، لكن كما جعل الله تبارك وتعالى الابتلاء للمستضعفين سنة جارية للتمحيص والتمييز، فإن الله قد جعل أخذ الظالمين سنة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.
وأكرر: كما جعل الله الابتلاء والمحن والفتن سنة ربانية للمؤمنين للتمحيص والتمييز؛ ليثبت على الصف من صفت نفسه، وسمت همته، وصدق في عمله وقوله، وليطرد من الصف من حمل الدعوة والدين ليتاجر به في سوق الشهوات والمتاع، كما جعل الله ذلك كذلك؛ فلقد جعل الله أخذ الظالمين سنة جارية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:6 - 13].
(سوط) إنه العذاب الجزئي، وليس الاستئصال الكلي.
{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
فلقد أخذ الله عز وجل الظالمين في كل زمان ومكان، فلا تغتروا إن أمهل الله ظالماً، فإن الله يمهل ولا يهمل، وما ربك بظلام للعبيد.
أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقضى لا تنام نم قرير العين واهـ نأ خاطراً بين الأنام فعدل الله جل وعلا دائم بين الأنام، ولا يتخلى ربنا سبحانه وتعالى عن عدله قط في الدنيا والآخرة، وإن أمهل فلا يهمل، فالذي أخذ فرعون، وأخذ عاد، وأخذ قارون، وأخذ ثمود، ودمر قوم لوط، ودمر قوم صالح؛ هو الحي الباقي الذي لا يموت، ولا تعجزه أمريكا ولا بريطانيا ولا روسيا، لكننا نود أن نكون على مستوى هذا الدين لنكون أهلاً لنصرة رب العالمين.
فوالله الذي لا إله غيره لو عادت هذه الأمة لربها، وأخذت بالأسباب قدر ما تستطيع، وعلقت قلوبها بمسبب الأسباب؛ لرأينا العجب العجاب، إذ إن الذي يدبر الأمر كله هو الله سبحانه وتعالى.
أيها الأفاضل! ومع هذا الظلم الذي نراه، ومع هذه الصورة التي تؤلم كل قلب مسلم غيور، أقول بملء فمي وأعلى صوتي: اعلموا يقيناً بأن الجولة المقبلة وعن قريب بإذن الله ستكون لدين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فستشرق شمس الإسلام من جديد، وهذا هو عنصرنا الأخير، وأرجئ الحديث عنه في عجالة إلى ما بعد جلسة الاستراحة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(57/7)
ستشرق شمس الإسلام من جديد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد: أيها الأحبة: وستشرق شمس الإسلام من جديد: أنا لا أقول هذا رجماً بالغيب، ولا أقول ذلك من باب الأحلام الوردية الجاهلة، ولا أقول ذلك من باب السياسة القاصرة، بل ولا من باب ضغط الواقع بجراحه وآلامه، إنما أقول ذلك من منطلق حقائق الوحي الرباني والنبوي قال الرب العلي، وقال الحبيب النبي.
تدبروا معي هذه العبارة: (لو حورب دين على وجه الأرض بمثل ما حورب به الإسلام لما بقي لهذا الدين على وجه الأرض من سبيل).
من أول لحظة ارتقى فيها المصطفى جبل الصفا، وأعلن هذا الإسلام، ورفع رايته، وإذ بمكة بكل أهلها ترغي وتزبد، وتدق طبول الحرب وتتوعد.
أين كل العداء والحرب على الإسلام؟ هلك وبقي الإسلام، وسيبقى شامخاً ليعانق كواكب الجوزاء؛ لأن الذي وعد بإبقائه وإظهاره على الدين كله هو خالق الأرض والسماء، فاملأ قلبك رضاً وطمأنينة، فنحن لا نخشى على الإسلام، ولكن نخشى على المسلمين إن هم تخلو عن الإسلام، فسيضربون بالنعال، وسيشربون كئوس الذلة والمهانة إن هم تخلوا عن أصل عزهم ونبع شرفهم ومعين كرامتهم ووجودهم ألا وهو الإسلام.
الإسلام دين الله، لا تملك أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا إيطاليا ولا روسيا، ولا تملك قوة على وجه الأرض أن تستأصله، أو أن تطمس نوره؛ لأنه نور النور، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، تدبر اللفظ القرآني تدبر الكلمات القرآنية الجميلة {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9].
وأنا أعترف أنني ما ذقت حلاوتها وما عرفت هذه المعاني الجليلة التي تتضمنها هذه الآية إلا في هذه الأيام القليلة الماضية ورب الكعبة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36]، صاروخ تزيد قيمته على مليوني دولار يسقط على خيمة قيمتها لا تزيد على عشرة دولارات كما صرح بذلك وزير الدفاع الأمريكي، بل ولقد نجح إخواننا في أفغانستان أن يضعوا أهدافاً وهمية -كما قرأت لطيار أمريكي يقول: نأخذ الخطة والهدف، وأصعد بحمولة الطائرة، وأصعد في السماء فلا أرى الهدف- أو إن شئت فقل -وأنا والله لا أستبعد ذلك ولا أستكثره على رب البرية- إن الله عز وجل قد يستجيب لدعوة مخلص صادق فينا يقول: اللهم شتت رميهم فيشتت الله رميهم، وأنا لا أستبعد ذلك.
لقد صرح جنرال روسي وقال في حربهم مع الشيشانيين: إننا نرى عجباً مع هؤلاء، نخرج عليهم بعد تصويرنا لهم، فإذا انطلقنا وقربنا من هذا الهدف لا نرى شيئاً، فإذا هممنا بالانصراف رأيناهم يخرجون علينا، وهم يحرصون على الموت ولا نعلم من أين خرجوا؟! وعرفت بعد ذلك من خلال الأخبار التي تأتي على شبكة الإنترنت، وتعجبت من هذا الخبر، أن إخواننا يختبئون في مواسير الصرف الصحي، ثم تخرج عليهم مجموعات بعد ذلك بصورة تملأ قلوب الروس بالرعب والفزع؛ لأنهم يحرصون على الموت كحرص الروس على الحياة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، ليس لحرب الإرهاب بل لحرب الإسلام.
أي إرهاب؟ إلى الآن لم تقدم أمريكا دليلاً واحداً تدين به المسلمين {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، هل تذوقت حلاوة اللفظة (ثم تكون عليهم حسرة).
{ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، هل تصدقون الله؟ {ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] أي: لتتم هنالك في جهنم حسرتهم الكبرى.
قال جل وعلا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110]، فلم يقل: حتى إذا استيئس المؤمنون بل الرسل، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110]، فالنصر من عنده، والله الذي لا إله غيره ما كان النصر أبداً بعتاد ولا عدد ولا عُدد {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
أنا أعي ما أقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
قال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] اللهم اجعلنا من جندك يا رب العالمين!(57/8)
تزايد انتشار الإسلام في دول الغرب
أيها الأحبة: تدبروا معي هذا الكلام العجيب: النسخ المترجمة للقرآن الكريم باللغة الفرنسية لم تعد نسخة واحدة في السوق بعد هذه الأحداث، وكذا نسخ القرآن المترجم بالإنجليزية في أمريكا، بل لقد اتصل أحد إخواننا بالأمس على أحد إخواننا، وأخبر بأن التجارة الرابحة الرائجة الآن في أوروبا هي تجارة الكتاب الإسلامي، فالكل يتطلع للإسلام، وأنا أقسم الأوروبيين الآن في تطلعهم إلى الإسلام، وهمهم للتعرف عليه إلى فريقين: الفريق الأول: فريق أقبل على القراءة عن الإسلام، والتعرف عليه من خلال حبه للقوة، فالأوروبي مفتون بالقوة، ويعتز بالقوة ويحترم الأقوياء، ففريق من الأوروبيين أقبل ليتعرف على الإسلام من خلال ما دسته في قلبه وعقله وسائل الإعلام الأوروبية من أن الذين قاموا بالتفجيرات الأمريكية هم المسلمون، فأقبل فريق كبير جداً من الأوروبيين يقرءون عن المسلمين وعن الإسلام، وعن تلك القوة الخارقة التي فعلت ما لا يصدقه عقل زعيم في الغرب أو في الشرق، فأقبل فريق منهم بروح الفتنة والافتتان بقوة المسلمين.
سبحان ربي العظيم! وصدق النبي إذ يقول: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)، والحديث رواه الطبراني بسند حسن.
يصرح فاجر بتصريح فيخدم بهذا التصريح هذا الدين!! والفريق الآخر: أقبل على القراءة للتعرف على الإسلام من خلال تصريحات زعماء العالم وذهابهم إلى المساجد والمراكز الإسلامية، فهناك من الأوروبيين -كما رأيت بنفسي أنا- من كان لا يعرف شيئاً على الإطلاق عن دين يسمى الإسلام، فلا يوجد الآن رجل أو امرأة أو صبي إلا وهو يعرف الإسلام، وقد أقام الله بهذه الأحداث الحجة على أهل الأرض، فسبحان ربي العظيم! لو اجتمعت الأمة بكل طاقتها الإعلامية لتعلم أو لتخبر العالم عن سماحة الإسلام ما فعلت مثلما فعل زعماء الغرب، وإن قالت ألسنتهم وكذبت قلوبهم، المهم أنهم قد صرحوا.
تصوروا معي ما نشرته مجلة التايم الأمريكية، ومجلة صنداي تلجراف البريطانية، ومجلة لودين الفرنسية، وقد ذكرت هذا، وأكرره لأختم به اللقاء، ولنعلم أن النبوءة النبوية يهيئ الله الكون لها الآن.
تقول مجلة التايم الأمريكية -وتدبروا هذه الكلمات، فلقد استعرت عنوان العنصر الأخير منها- وهي مجلة أمريكية مشهورة، تقول بالحرف في شبه ترجمة حرفية: وستشرق شمس الإسلام من جديد -اللهم عجل بإشراقها يا رب- ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا؛ لأنها لا تشرق من المشرق وإنما تشرق من الغرب من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تزاحم أبراج الكنائس، وإن صوت الأذان كل يوم في قلب أوروبا خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً أوروبية جديدة.
جريدة صندي تلجراف تقول: إن انتشار الإسلام في القرن المنصرم وأوائل القرن الحالي ليس له من سبب مباشر، إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدءوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدءوا يعلمون يقيناً أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية.
ومجلة لودين الفرنسية تقول في تقرير لعلماء استراتيجيين من العسكريين: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً.
وهذه حقيقة وسأفرد إن شاء الله تعالى محاضرة كاملة لما يسمونه بمعركة هرمجدون، هذا اليوم الذي اقترب والذي تكلمت عنه كل كتبهم، وهو موجود عندنا أيضاً بمعان أخر، وسأفصل ذلك تفصيلاً، وأذكر كلمات لزعمائهم القدامى والمعاصرين إلى رونالد ريجن فهم يقولون: مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، والنظام الإسلامي سيسود على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة.
أولم أقل: وستشرق شمس الإسلام من جديد؟ وعد الله ووعد رسول الله، وما علينا إلا أن نرتقي إلى مستوى هذا الدين.(57/9)
(ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار)
أيها الأحبة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والطبراني من حديث تميم الداري أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر) أي: هذا الدين (ما بلغ الليل والنهار).
وأنا أتصور أن شطراً من هذه النبوءة النبوية قد تحقق بالأحداث الأمريكية، وإن كان المراد بأن الدين يبلغ كل بيت كما يبلغ الليل والنهار في كل أرض، فعلى ألسنة بوش، ورئيس وزراء بريطانيا! ورئيس وزراء إيطاليا! لم يبق بيت الآن على وجه الأرض إلا وقد سمع عن الإسلام، وهذا شطر من النبوءة، والشطر الآخر هو أن يتمكن الإسلام، ويدخل البيوت منتصراً فاتحاً، فهذا موعود الله لرسوله صلى الله عليه وسلم {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9]، (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وقال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (هل سمعتم بمدينة جانب منها في البحر وجانب منها في البر؟).
النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابة، (هل سمعتم بمدينة جانب منها في البر، وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله!) إنها القسطنطينية -هذا الجواب من عندي- قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، وإنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانب المدينة التي في البحر، فإذا جاءوها الثانية لم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم وإنما قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر -يعني الذي في البر- فإذا جاءوها الثالثة لم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم بل قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفتح لهم -أي ربهم جل وعلا- فيدخلوها).
قال الحافظ ابن كثير: وفي الحديث نبوءة نبوية تؤكد أن الروم سيسلمون في آخر الزمان، والروم هم الأوروبيون بلغة العصر.
قال الحافظ: فسلالة بني إسحاق هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهؤلاء هم الروم.
قال الحافظ: فهذه النبوءة النبوية تؤكد أن كثيراً من الروم -أي: من الأوروبيين- سيسلمون في آخر الزمان، وسيجعل الله فتح القسطنطينية على يد طائفة منهم ممن وحدوا الله وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.(57/10)
وصايا
وأختم هذا اللقاء ببعض الوصايا فأقول: أولاً: يحرم على أي مسلم أن يوالي أعداء الله في حربهم على المسلمين المستضعفين في أفغانستان.
ثانياً: يجب على كل مسلم أن يوالي الله ورسوله والمؤمنين وأن يتبرأ من الشرك والمشركين، وأن يحول الإسلام في حياته وبيته ومتجره ومصنعه إلى واقع عملي ومنهج حياة.
إن لم تستطع أن تجاهد بنفسك وهو الواقع، فعليك أن تجاهد بمالك تجاهد بكلمتك تجاهد بدعائك تجاهد بتربيتك لأولادك وامرأتك وبناتك تربية ترضي بها ربك تبارك وتعالى.
ثالثاً: يجب علينا ألا نغفل عن الدعاء، ولا تحتقروا ما أقول، فإن الدعاء من سهام الليل، وقد كان الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: (أنا لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء، فمن ألهم الدعاء فإن الإجابة معه)، فتضرعوا إلى الله، واستغيثوا بالله، وقوموا بالليل بين يدي الله جل وعلا، واطرحوا القلوب بين يديه بذل وانكسار، وتضرعوا إليه فهو العزيز الغفار.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تنصر الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين! اللهم أعلي بفضلك كلمة الحق والدين.
اللهم انصر إخواننا في أفغانستان، اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم بعنايتك ورعايتك! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إن أهل الأرض قد تكالبوا عليهم فلا تتخل عنهم.
اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، اللهم كن لهم ناصراً يوم قل الناصر، اللهم كن لهم معيناً يوم قل المعين.
اللهم شتت رمي أعدائهم، اللهم شتت رمي أعدائهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم.
اللهم عليك باليهود المجرمين، اللهم شتت رمي اليهود المجرمين، اللهم شتت شملهم، وشتت رميهم، ومزق صفهم، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، وفي الشيشان، وفي العراق، وفي كشمير، وفي كل مكان! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا! اللهم هذه أمة حبيبك محمد، اللهم ارفع الهم والغم عنها، اللهم أزل همها واكشف غمها، وردها إليك رداً جميلاً! اللهم اجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتولى أمرنا، واكشف همنا، وأزل غمنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا مجيب المضطرين! يا مجيب المضطرين! يا كاشف الهم عن المهمومين، فرج كرب أمة سيد المرسلين، فرج كرب أمة سيد المرسلين، فرج كرب أمة سيد المرسلين! اللهم إنه لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا من عليه يتوكل المتوكلون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من إليه يلجأ الخائفون! يا من بعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون! يا من بعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا من ملأ نوره أركان عرشه! يا ألله! يا ألله! يا ألله! يا ألله! اللهم إنا نستغيث بك فأغثنا، اللهم إنا نستنصر بك فانصرنا، اللهم إنا نستعين بك فأعنا، اللهم إنا نستجير بك فأجرنا، اللهم إنا نستجير بك فأجرنا! اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احفظ شيوخ المسلمين، وأطفال المسلمين، ونساء المسلمين! اللهم إنهم ضعاف فقوهم، اللهم إنهم أذلة فأعزهم، اللهم إنهم أذلة فأعزهم.
يا رب ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستجب دعاءنا، اللهم استجب دعاءنا، اللهم استجب دعاءنا! إلهي وسيدي ومولاي لا تخيب فيك رجاءنا، لا تخيب فيك رجاءنا! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، ولا تجعل لأحد منا في هذا الجمع ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته برحمتك يا أرحم الراحمين!(57/11)
صرخات من القدس الجريح
إن ما يحدث للمسلمين على أرض فلسطين لأمر مهول تتفطر له الأكباد أسى، وتبكي له العيون دماً، والأدهى من ذلك ما نراه بالمسلمين من الصمت والخنوع والذل، وكأن الأمر لا يعنيهم، وكأنهم لا يسمعون الصرخات ولا الآهات، وكل هذا بسبب انحراف المسلمين عن منهج الله تعالى ودينه، وارتكابهم للذنوب والمعاصي، التي هي سبب الذل والتسلط من قبل أعداء الله تعالى.(58/1)
صور مؤلمة مفجعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده لله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاًَ أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى، في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(58/2)
وحشية في هتك الأعراض
أحبتي في الله! والله إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لما حل بأمتنا لمحزونون ففي كل بلد على الإسلام دائرةٌ يَنْهدُّ من هولها رضوى وثهلانُ ذبحٌ وصَلْبٌ وتقتيل بإخوتنا كما أَعدَّت لتُشفِي الحقدَ نيرانُ يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعْوُانُ هل هذه غَيرةٌ أم هذه ضعة للكفر ذكرٌ وللإسلامِ نسيانُ برك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة، وتحكي المأساة في كل بقاع الدنيا، في كل مكان ذُبِّح أبناؤنا تذبيح الخراف، بل لقد وضع الطفل على النيران ليشوى جسده أمام والده المسكين، وبعدما انتهى المجرمون من شي ولده وطفله أمام والده، قطعوا الطفل قطعاً صغيرة، وأجبروا والده تحت التهديد والتعذيب والوعيد أن يأكل من لحم ولده، ومن فلذة كبده، ومن ثمرة فؤاده، ثم بعد ذلك أطلقوا عليه النيران فقتلوه!! أختك أختك التي انتهك عرضها وضاع شرفها وها هي الآن يا ابن الإسلام تصرخ علينا وترجونا رجاءها الأخير أتدرون ما هو رجاؤها الأخير؟!! إن أختك التي انتهك عرضها وضاع شرفها تصرخ عليك الآن وتقول: أن اقتلوني واقتلوا العار بين أحشائي اقتلوا ولدي من السفاح والزنا!! هذا هو رجاؤها الأخير!! وذلك بعدما صرخت طويلاً طويلاً حتى انقطع صوتها وضاع أنينها وراح صوتها بعدما صرخت طيلة هذه الأشهر الماضية وهي تقول: وا إسلاماه وا إسلاماه وا معتصماه وامعتصماه، ولكن أين المعتصم؟ ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأيـ ـن هم إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيث من استغاث به وصاح برك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة، وتحكي المأساة في كل مكان: في البوسنة، في الصومال، في كشمير، في الهند، في الفلبين، في بورما، في تركستان، في أفغانستان، في طاجكستان، في الجزائر، وأخيراً في فلسطين برك الدماء، وأكوام الأشلاء، ولا زال المشاهدون من كل بقاع الدنيا قابعين في مقاعدهم يشاهدون هذه المسرحية الهزلية المحرقة، منهم من يبارك هذه التصفية، وهذه الإبادة، ومنهم من جلس يمسح عينيه بمنديل حريري! ولكنه مع هذا ما زال مصراً على أن يقبع في مقعده ليشاهد آخر فصول هذه المسرحية الهزلية المحرقة!!(58/3)
قتل الأطفال في أحضان آبائهم
طاردتني هذه الصور المؤلمة التي تحرق فؤاد كل مسلم حي، هذا إن كنا لا زلنا نحمل في الصدور أفئدة، إن كنا لا زلنا نحمل في الصدور قلوباً ما كفنت ولا حول ولا قوة إلا بالله! طاردتني كما طاردت كل مسلم صادق هذه الصورة المؤلمة التي تحرق القلب، صورة هذا الطفل المسكين الذي لا ذنب له ولا جريرة إلا أنه ولد فوق الثرى الطاهر، والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وقام اليهود المجرمون الأنذال الذين لا يعرفون رحمة ولا شفقة، حتى بعدما احتمى الطفل في أبيه وراح يرفع يديه خائفاً من هؤلاء المجرمين، وراح الوالد المسكين يرفع يده مسلماً مستسلماً، ولكن هيهات هيهات هيهات.
هيهات أن يعرف اليهود الرحمة؛ اللهم إلا إذا دخل الجمل في سَمَّ الخياط.
فأطلقوا الرصاص على رأس هذا الطفل المسكين فأردوه قتيلاً، وإن شئت فقل: لقد قتلوا أباه وإن لم يمته الرصاص، تصور أن يموت ولدك بين يديك بهذه الصورة التي تحرق الأفئدة، والله لقد نظرت إلى أطفالي بالأمس القريب نظرت إليهم وتخيلت أن قاذفة من قاذفات العدو اليهودي قد سقطت على بيتي على أهلي وأولادي فتمزقت أشلاء أطفالي أمام عيني وبين يدي، والله عبثاً حاولت النوم فأنى للقلوب التي تعرف حقيقة الإيمان فأنى للقلوب التي ذاقت حلاوة الولاء والبراء أن تعرف طعم النوم، وأن تعرف طعم الراحة، والله لولا أن المصطفى في المصائب ذاق ما ذقناه لكانت المصيبة والمأساة! وصورة الطائرات والدبابات والصواريخ والمدفعية تدك بيوت الفلسطينيين العزل، الذين لا يملكون إلا إيماناً بالله عز وجل ثم الحجارة ثم الحجارة ثم الحجارة!!(58/4)
هدم البيوت على ساكنيها
وطاردتني صورة امرأة عجوز يتساقط بيتها فوق رأسها، وهي تنظر إلى سقف البيت يتحطم ولا تملك أن تفعل شيئاً على الإطلاق.
وطاردتني صورة الأقصى الجريح وهو يئن ويستجير، وهو يصرخ في المسلمين: وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه لكن من يجيب؟!! من يجيب؟!! القدس يصرخ انتابتني حالة نفسية عجيبة، حالة نفسية مؤلمة، لكن من يجيب؟ كنت أصرخ، ولكن الصرخة في صحراء مقفرة في صحراء مهلكة: عبثاً دعوت وصحت يا أحرار عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب مسندة فلا ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن وما للمسلمين خيار يا ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت فليست بالخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاغ منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم يا مسلمون نساؤكم يسألن عنكم والدموع غزار هذي تساق إلى سراديب الهوى سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وخوف قاتل وحصار واليهود يذبحون ويقتلون ومالهم ناصر ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم تنسون أن الضعف في وجه العدو مذلة وصغار هذي هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار هذا هو الأقصى يُهَوَّد جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون عار ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جَرَّأَ اليهودُ إلا صمتكم ولَكَمْ يَذِلُ بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار يا قدس أرسل دمع العين مدرارا عميق حزن وصب النَزف أنهارا يا قدس تاه الأهل والأحباب وعثت بأرض الأنبياء كلاب قدساه أرض النور دنسها الدجى والحق ضاع وتاهت الأنساب قادت قرود الإفك قافلة الهدى وسجى بوجه النائمين ذباب ليكود برآسة شارون قاد عصابة يعلو بها القدس مكر محدق وحراب طعنوا بها الشرفاء طعن مذلة فثوى بقدس المعجزات خراب والقبة العظمى تسيل دماؤها والقدس يبكي واشتكى المحراب وبدا اليهود بأرضنا وكأنهم أصحاب أرض ما لها أصحاب ضاعت فلسطين الجريحة واعتلى أقصى المساجد بالسواد ثياب قدساه أين الفاتحون أين عمر بن الخطاب؟!! أين أبو عبيدة ابن الجراح؟!! أين صلاح الدين؟!! أين محمود نور الدين؟!! أين قطز؟!! قدساه أين الفاتحون وعزهم أين الجهاد الحق والألباب ماذا أصاب المسلمين فهل ترى يجدي لديهم بالخطوب عتاب(58/5)
اليهود نقضة العهود وحقيقة الغرب
اليهود هم اليهود كررنا ذلك حتى بحت الأصوات، لكن الأمة لا تريد أبداً أن تصدق رب الأرض والسماوات، متى وَفَّى اليهود بعهد على طوال التاريخ؟!! قلت: لقد نقض اليهود العهود مع الأنبياء، ومع رب الأرض والسماء، وأسأل بمرارة: هل ينقض اليهود العهود مع الأنبياء، ورب الأرض والسماء، ثم يفي اليوم اليهود بالعهود للحكام والزعماء؟!! لقد ماتت عملية السلام، قلنا ذلك مراراً قبل ذلك فلم يصدقنا أحد.
فحال أمتنا حال عجيبة وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة وسيحفرون لها قبوراً ضمن خططهم الرهيبة قالوا السلام السلام السلام قلت: يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبة فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذاً وبئست هذه الخطط المريبة فالمسجد الأقصى في الدماء له ضريبة قال ربنا الذي خلق اليهود، وهو وحده الذي يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، قال جل وعلا: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100]، وقال جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13]، أي: على خيانة بعد خيانة.
هذا كلام ربنا جل وعلا، ولا أريد أن أقف مع آيات القرآن، فالآيات كثيرة، قال جل جلاله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
وقال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79]، ها هو القرآن يُقرأ ويتلى في الليل والنهار، لكن من يصدق كلام العزيز الغفار؟! ومن يصدق كلام النبي المختار صلى الله عليه وسلم؟!(58/6)
اليهود قوم بهت
اليهود قومُ بُهتٍ وقومُ خيانةٍ متخصصون في نقض العهود، والله الذي لا إله غيره لن تأتي في إسرائيل وزارة تحترم عهوداً أُبرمت في أوسلو، أو مدريد، أو تل أبيب، أو كامب ديفيد الأولى، لن تكون هناك وزارة أو حزب عمل أو حزب ليكود يحترم عهداً أو ميثاقاً، فهذه هي جبلة اليهود وطبيعتهم منذ أول لحظة هاجر فيها المصطفى إلى المدينة، وقام عبد الله بن سلام حبر اليهود الكبير، فنظر إلى وجه النبي فعرف أنه ليس بوجه كذاب، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقال للمصطفى: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، -أي: أهل ظلم ينكرون الحقائق- فاكتم عنهم خبر إسلامي وسلهم عني، فجمع النبي بطون اليهود، وقال لهم: (ما تقولون في عبد الله بن سلام؟! قالوا: سيدنا وابن سيدنا! وحبرنا وابن حبرنا! فقام عبد الله بن سلام إلى جوار رسول السلام صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرد اليهود الكلاب المجرمون على لسان وقلب رجل واحد في حق عبد الله بن سلام قالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا وجاهلنا وابن جاهلنا!!).
هذه طبيعة اليهود منذ اللحظات الأولى لم تتغير ولن تتغير، فمتى يفيق النائمون؟! متى يفيق النائمون؟! متى يفيق النائمون؟! ليعلم الكل علم اليقين أن أمريكا ليست شريكاً نزيهاً في عملية السلام، كلا وألف كلا، فالكفر ملة واحدة، الكفر ملة واحدة، الكفر ملة واحدة، لا يمكن أبداً أن تنصر أمريكا قضية من قضايا الأمة، لا يمكن أبداً لهيئة الأمم أن تنصر قضية من قضايا الأمة، لا يمكن أبداً أن يتدخل حلف الناتو لينصر الأقلية المستضعفة من العزل المدنيين في فلسطين، من أجل سواد عيون الأمة، ولا تُخْدَعوا بتدخل حلف الناتو في كوسوفا؛ لأنهم ما تدخلوا إلا لمصالحهم الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية.(58/7)
الكفر ملة واحدة
لا ينبغي أن يجهل الآن مسلم أو مسلمة على وجه الأرض أن الكفر لا ينصر توحيداً الكفر لا ينصر إسلاماً الكفر ملة واحدة، إنهم يشاهدون على شاشات التلفاز كل ليلة ما يحدث لإخواننا وأخواتنا وأطفالنا في فلسطين، لكن: أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كُسر الأمان وضيع الميثاق أو ما يحركك الذي يجري لنا أو ما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق هذا هو الغرب يا من خُدِعتم بالغرب طيلة السنين الماضية.
هذا هو الغرب أيها المرجفون يا من تعزفون على وتر التقديس والتمجيد للغرب في كل المناسبات!! قالوا لنا ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رُفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستوهينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفرٌ وإسلامٌ فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه لكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن! يا مجلس الخوف! شكراً شكراً لقد أبديت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرقٍ وسل عن خسفه قارونا(58/8)
متى يفيق النائمون؟!
متى يفيق النائمون؟! فشهداؤنا بين المقابر يهمسون والله إنا قادمون والله إنا عائدون والله إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان وانتصبوا صفوفاً ثم راحوا يصرخون عار عليكم أيها المستسلمون وطن يباع! وأمة تنساق قطعاناً وأنتم نائمون! شهداؤنا قاموا وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون!! في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون الله أكبر إنا عائدون شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار فلسطين الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون!! إني أراهم في الظلام يحاربون!! رغم انكسار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والمجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون والله إنا عائدون والله إنا عائدون والله إنا عائدون! أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم الحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون يا أيها المتنطعون كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطنٌ بعرض الكون يعرض في المزاد وطغمة الجرذان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون يا أيها الأحياء ماذا تفعلون في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم بها وفوق ربوعها الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان يصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركنون تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون القدس تسألكم أليس لها حق عليكم أين فر الرافضون أين غاب البائعون أين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون وإذا سألت سمعتهم يتصايحون هذا الزمان زمانهم في كل شيء في الورى يتحكمون لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون! لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون! لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون! كُهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون متى يفيق النائمون متى يفيق النائمون متى سترجع الأمة إلى ربها سبحانه وتعالى وإلى نبيها صلى الله عليه وسلم؛ لتحقق المنهج منهج الله في الأرض؛ لتكون أهلاً لنصرة الله؟! فالأمة تملك مقومات النصر، نعم.
الأمة تمتلك الآن مقومات النصر.(58/9)
انحراف الأمة سبب في ذلها
وهنا يثور السؤال المرير: ما الذي أوصل الأمة إلى هذه الحالة المزرية من ذل، وضعف، وهوان، وتشرذم، وتشتت؟! تقسمت الأمة إلى أجزاء، بل وتفتتت الأجزاء هي الأخرى إلى أجزاء! ما الذي أوصل أمة القرآن إلى هذه الحالة المزرية التي نراها عليها الآن؟!! وانتبه أيها الحبيب! لتتعرف على الجواب في كلمات قليلة حاسمة قاطعة من قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت، وحرفت وابتعدت الأمة كثيراً عن المنهج الرباني الذي جاء به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
يا شباب الصحوة! هذه سنة ربانية ثابتة ينبغي أن تستقر في القلوب قبل الأذهان والعقول.(58/10)
انحراف الأمة في جانب العقيدة
إن الأمة قد انحرفت كثيراً عن المنهج الرباني في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب التشريع في جانب الاتباع في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك.
ابتعدت الأمة كثيراً كثيراً إلا من رحم ربك عن المنهج الرباني الذي جاء به رسول الله.
نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة على أيدي الكثيرين من أبناء الأمة إلا من رحم ربك، والله جل وعلا يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
استمعنا بأم آذاننا على شاشات الشيطان الأكبر الموسوم بالتلفاز من يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم وإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم نرى العقيدة الآن تذبح شر ذبحة!(58/11)
انحراف الأمة في جانب العبادة
وفي جانب العبادة: نرى كثيراً من صور العبادة الظاهرة والباطنة قد صرفت لغير الله جل وعلا، ذبح لغير الله! وسأل الناس غير الله! واستعان كثير من الناس بغير الله! وفوض كثير من الناس الأمور لغير الله! بل ووثقت القلوب ببعض قوى الأرض وببعض دول الأرض أكثر من ثقتها بخالق السماوات والأرض جل وعلا، والله سبحانه وتعالى يأمر نبيه ويقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(58/12)
انحراف الأمة في جانب التشريع
أما في جانب التشريع فابك دماً بدل الدمع، والله لقد وقع ما لم يكن يخطر ألتبة لمخلوق مسلم على بال! ضيعت الأمة شريعة الكبير المتعال حرفت الأمة شرع ربها واستبدلت الأمة بالعبير بعراً وبالثريا ثرى وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً.
أبت الأمة إلا أن تناقض قول ربها جل وعلا إذ يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، فأبى كثير من أبناء الأمة إلا أن يقول: إن الحكم إلا للمجالس الشعبية، وللمجالس النيابية، وللبيوت البيضاء والسوداء والحمراء، والله جل وعلا يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
غيرت الأمة شريعة ربها، يقرأ المسلم الآن في قرآن ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ويلتزم بهذا الأمر الإلهي، ويضيع في نفس السورة قول ربه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
يلتزم بقول الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، ويضيع في نفس السورة قول ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178].
انفصام نكد، ضيعت الأمة إلا من رحم ربك شريعة ربها!!(58/13)
انحراف الأمة في جانب الاتباع
واستبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً.
وفى جانب الاتباع تغنت الأمة بحبها لرسول الله، وخرجت طائفة من الأمة تسخر بسنته وتهزأ بأوامره فاللحية عفن! والنقاب خيمة! والخنزير الذي حرمه القرآن كان خنْزيراً هزيلاً في أرض الجزيرة أما خنازير اليوم فإنها تربى تحت العناية الطبية، وتحت الرعاية الصحية، فما الداعي لتحريمها؟ والخمر الذي حرمه القرآن كان قديماً، أما خمر اليوم فما الداعي لتحريمها وهي التي تسمى بالمشروبات الروحية!! وهكذا ادعت الأمة حب نبيها واتباع نبيها وسخرت من شريعته واستهزأت بسنته ولا حول ولا قوة إلا بالله!(58/14)
انحراف الأمة في جانب الأخلاق والمعاملات
أما في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك فحدث ولا حرج، كثر الغش، وقل الصدق، وانتشر الخداع، وقُدِّمَ الفارغون الخائنون، وأُخِّرَ الصادقون، وصدق في الأمة قول الصادق المصدوق كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه وهو حديث صحيح: (سيأتي على الناس سنوات خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
غيرت الأمة أيها الأحباب! والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولكن أنا لا أريد أن أسكب القنوط واليأس في قلوبكم، ولكنني أريد أن أشخص الداء ولو كان مراً بطعم الحنظل، لنحدد الدواء الناجع لهذا الداء.
أيها الأحبة الكرام! لن أطيل عليكم أكثر من ذلك، فإني أرى كثيراً من الأحبة تحت الشمس المحرقة في خارج المسجد، أسأل الله أن يأجرنا وإياكم على هذه اللحظات، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(58/15)
موعود الله للمؤمنين في القرآن والسنة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! إننا نستبشر خيراً ولكن بشرط، وما هو هذا الشرط؟! أن تعلن الأمة الآن الجهاد في سبيل الله، وسَيُهْزَم اليهود، لا أقول ذلك رجماً بالغيب، ولا من ضغط الواقع المرير، ولا من باب الأحلام الوردية الجاهلة، ولا من باب الجهل بالواقع الذي تعيشه أمتنا ونحياه الآن بكل مآسيه، كلا، وإنما أقول ذلك من منطلق الحقائق الربانية والنبوية، فهو كلام ربنا، وكلام نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
تدبروا معي هذه الآية التي قرأتموها وسمعتموها جميعاً، لكن قل من انتبه إليها، ووقف معها ليتدبرها، ألا وهي قول الله في سورة آل عمران في حق اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، فهل تصدقون الله رب العالمين؟! وقال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] وقلوبهم شتى هذا كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، وقال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104].(58/16)
دورنا تجاه إخواننا المسلمين
أما أنت والدي الفاضل! وأنت أخي الحبيب! وأنت أختي الفاضلة! قد يسألني الجمع بين يدي الآن: فماذا نصنع نحن؟ وما دورنا؟ أقول: لو خرجتم اليوم بهذه العقيدة، بعقيدة الولاء والبراء بعقيدة الحب لله ولرسوله ثم بتحويل هذه العقيدة والحب لرسول الله في حياتكم إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، وتبرأتم من اليهود، ومن الشرك والمشركين، وعلَّمتم نساءكم وبناتكم وأولادكم هذه العقيدة، وأُشْرِبَ الجيلُ هذه العقيدة، فإن هذه خطوة عملية على الطريق.
والله لن يسألنا عن النتائج بل أمرنا أن نبذل أقصى ما في طوقنا، وهذا هو الآن ما في مقدورنا نحن الضعفاء، ولندع النتائج بعد ذلك إلى الله.
ثانياً: ليستعد الآن كل رجل منكم للمرحلة المقبلة والله إن المرحلة القادمة لخطيرة، وقد ينادى عليك بين عشية وضحاها إذا ما تعرض الجميع لحرج أمام اليهود قد ينادى عليك بين عشية وضحاها لمن تابع سنن الله الربانية في الكون قد ينادى عليك بالخروج للجهاد في سبيل الله، فإن المرحلة هذه قادمة والله قادمة! ولابد أن تستعد لابد أن تعد قلبك وأن تعد نفسك وأن تعد نساءك وأن تعد بناتك وأن تعد أولادك لمثل هذا اليوم.
وسل الله بصدق أن يبلغك الشهادة، قال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ولو مات على فراشه).
ما تريدون بعد ذلك؟ لكن المصيبة التي تحطم القلوب أن المسلم لا يحمل في قلبه هماً للدين! ولا هماً لإيذاء سيد النبيين، فكيف يتحرك هذا بعد ذلك للجهاد؟! لابد أن تحترق القلوب ابتداءً، لابد أن يعلم الله وأن يرى الله منا أنه ما حبسنا عن رسول الله إلا العذر.
اللهم بلغ عنا رسولك أنه ما حبسنا إلا العذر؛ ليرى الله من قلوبنا أنه ما حبسنا إلا العذر.
وأبشركم بهذه البشارة بشارة تكسب الأمل في القلوب الجريحة، والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود وغيرهم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً، ولا سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة إلا كانوا معكم، شاركوكم الأجر، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله وهم بالمدينة؟! قال المصطفى: حبسهم العذر)، اللهم بلغ عنا رسولك أنه ما حبسنا إلا العذر.
وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باباً رقراقاً يسكب الأمل في القلوب، وعنون له بهذا العنوان، قال البخاري: باب من حبسه العذر عن الغزو.
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا أسأل الله جل وعلا أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
اللهم انتقم لنبيك يا رب العالمين اللهم انتقم لنبيك يا رب العالمين اللهم اثأر لنبيك يا رب العالمين اللهم إن الأمة قد خذلت نبيك فاثأر لنبيك اللهم إن الأمة قد خذلت نبيك فاثأر لنبيك اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا اللهم بلغ عنا رسولك عذرنا اللهم اكتب النصر للمستضعفين، يا من هزمت الأحزاب وحدك اهزم اليهود المغتصبين!! يا من هزمت الأحزاب وحدك اهزم اليهود المغتصبين!! اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً اللهم احم مصر من الفتن ما ظهر وما بطن برحمتك يا رب العالمين! وجميع بلاد المسلمين.
اللهم اكفنا شر الظالمين اللهم اكفنا شر المجرمين اللهم اكفنا شر الحاقدين(58/17)
إفساد اليهود المذكور في القرآن
وها هم اليهود يأتون ألفافاً من كل بقاع الأرض؛ ليتحقق وعد الله في آية الإسراء الأولى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:4 - 7].
تدبروا معي الآيات! لنقف مع هذه البشارة العظيمة، فالحق وإن انزوى كأنه مغلوب فإنه ظاهر، والباطل وإن انتفش كأنه غالب فإنه زاهق: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
تدبر معي قول رب العالمين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]، إذا جاء وقت المرة الأولى لتدمير ما شيد اليهود: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]،أي: بعث الله على اليهود عباداً له ليسوموا اليهود سوء العذاب.
اختلف المفسرون في كتب التفسير، فقد قرأت ما يزيد على عشرين تفسيراً في هذه الآيات، فوجدت أن جُل المفسرين قد فسروا هذه الآيات بأن الذي سُلط على اليهود هم البابليون أو الرومان أو بختنصر، أو نبوخذ نصر، فتدبرت الآيات مراراً وتكراراً ووقفت مع بعض أهل العلم من المحققين الذين قالوا: بأن الله تبارك وتعالى يقول: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا)، فالعبودية إذا نُسبت لله لا تكون أبداً إلا للموحدين.
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23].
إذاً: العبودية إن نُسبت لله تعالى وكانت خالصة له فهي من المؤمنين الصادقين، والبابليون وثنيون، والرومانيون وثنيون، وبختنصر وثني ليس بمسلم، فكيف يقال بأن هؤلاء تنطبق عليهم الآية؟! كلا كلا إذاً: من هم عباد الله الذين سلطهم الله على اليهود أول مرة؟ إنهم أصحاب المصطفى، نعم، إنهم أصحاب المصطفى، فهم الذين طردوا اليهود من بني النضير من بني قينقاع من خيبر من بني قريظة وأخرجوهم من المدينة.
ثم الصحابة هم الذين دخلوا المسجد أول مرة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، يوم نزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من المدينة ليتسلم مفاتيح بيت المقدس بيده، وليكتب لليهود ولأهل بيت المقدس العهدة العمرية المعروفة، ليكتب لأهل بيت المقدس من أهل إيليا العهدة العمرية المشهورة، وقد تحدثت عنها بالتفصيل قبل ذلك.
إذاً: أصحاب النبي هم عباد الله الذين دخلوا المسجد أول مرة، ولذلك تدبر معي قول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:5 - 6] أي: على هؤلاء العباد الذين انتصروا عليكم.
وها نحن نرى الكرة قد أعيدت لليهود علينا، أي: على أبناء أصحاب النبي من الموحدين والمؤمنين: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ} [الإسراء:6] أي: أمد الله اليهود بأموال، (وَبَنِينَ) وها نحن نرى أبناء اليهود من كل بقاع الأرض يجتمعون: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}، والنفير هو نفير الحرب، وهأنتم ترون اليهود يمتلكون إلى الآن مائتي قنبلة نووية، وتمد اليهود أمريكا بالسلاح {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}.
ثم قال لهم ربهم سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: المرة الثانية والأخيرة {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} أي: ليسوء وجوهكم عباد الله من الموحدين والمؤمنين، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، اللهم عجل بهذه المرة يا أرحم الراحمين! {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}.
وها هو نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى -كما في مسند أحمد وغيره بسند صحيح- (أنه وضع يوماً يده على رأس أبي الحوالة الأزدي رضي الله عنه، ثم قال النبي لـ أبي حوالة: يا أبا حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا، والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك).
وفى الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون).
والله لا عزة للأمة ولا كرامة للأمة بعد ما فعل اليهود ما فعلوا، إلا أن ترفع الأمة راية الجهاد في سبيل الله، فليرفعها زعيم واحد من زعماء العرب، وسينضوي تحت راية الجهاد في سبيل الله بقيادته ملايين الشباب من على وجه الأرض، ممن تحترق قلوبهم وتتشوق للشهادة في سبيل الله.
يا إخوة! كونوا على يقين جازم بأن الأمة لا ينقصها شيء من عدد وعدة وعتاد وقوة، ولكن الأمة مهزومة من نفسيتها ومن داخلها، تحتاج إلى أن يرفع قائد واحد راية الجهاد في سبيل الله، ووالله حينئذٍ ليتمن الله وعده.
الله جل وعلا ما أمر الأمة إلا أن تعد قدر استطاعتها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، إذا كان هذا الإعداد هو أقصى ما تملكه الأمة فما عليها بعد ذلك إلا أن تضحي بعشرات الآلاف من شبابها، ممن يتشوقون الآن للشهادة في سبيل الله، وأن ترفع راية الجهاد، فلا عز لها ولا كرامة إلا بالجهاد، وهذا هو كلام ربنا، وكلام الصادق نبينا، قال عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد وسنن أبي داود -والحديث صححه الشيخ الألباني - من حديث ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).(58/18)
لا تخونوا الله والرسول
للأمانة شأن عظيم، وقد أخبر الله عز وجل أن السماوات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، وحملها الإنسان لظلمه وجهله، فيجب على كل مسلم أداء الأمانة، واجتناب الخيانة، والخيانة أنواع، وأشدها تحريماً وإثماً خيانة الله ورسوله؛ وذلك بترك أوامرهما، وانتهاك نواهيهما.(59/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيهاالذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة.
فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا الجمع المهيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (لا تخونوا الله والرسول) هذا هو عنوان لقاءنا في هذا اليوم المبارك، وسوف أركز الحديث في هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: في رحاب آية.
ثانياً: خيانة على المستوى العالمي.
ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة.
رابعاً: خيانة على مستوى الأفراد.
فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية بمكان، وأرجئ الحديث في الطريق إلى القدس إلى محاضرة أخرى إن شاء الله تعالى، أسأل الله أن ييسر ويذلل هذا الطريق.(59/2)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله)
أولاً: في رحاب آية: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
ذكر المفسرون أن هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال نزلت في حق أبي لبابة بن عبد المنذر، وهو صحابي جليل رضي الله عنه، بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني قريظة لما نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحرج الأوقات، فلقد حاصر الأحزاب من المشركين المدينة من كل جانب، وكان بين رسول الله وبين اليهود عهد، فترك داخل المدينة مع اليهود النساء والأطفال والأموال، ولكن اليهود متخصصون في نقض العهود كما ذكرنا ذلك مراراً، فلقد نقض اليهود العهد مع الله جل وعلا، ومع جميع الأنبياء والمرسلين، وأسأل بمرارة وأقول: أفينقض اليهود العهود مع الأنبياء والمرسلين بل ومع رب العالمين ثم بعد ذلك يفي اليهود بالعهود للزعماء والحكام؟! لقد نقض اليهود العهد في أحرج الأوقات، حتى بلغت القلوب الحناجر، فالمشركون يحاصرون المدينة من كل جانب، ونقض اليهود داخل المدينة العهد؛ فشكلوا تحدياً داخلياً خطيراً مروعاً، حتى قال المنافقون يومها قولتهم الخبيثة: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
بل لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله جل وعلا -كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى - ويقول: (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم) واستجاب الله لدعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، فأرسل جندياً من عنده، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]، فأرسل الله الريح فكفأت قدور الأحزاب، واختلعت خيامهم، وقذف الله الرعب في قلوبهم، وتبعثروا في أرض الصحراء كتبعثر الفئران، وهزم الله الأحزاب وحده، ونصر عبده، وأعز جنده جل جلاله، ومنَّ الله على النبي والمؤمنين بهذا النصر الذلول، ودخل النبي بيت عائشة ووضع سلاحه، وخلع لباس الحرب؛ وإذ به يرى جبريل عليه السلام ما زال يلبس لباس الحرب، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (أوقد وضعت سلاحك يا رسول الله؟! فإن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقم بمن معك إلى يهود بني قريظة، فإني سائر أمامك؛ لأقذف الرعب في قلوبهم، ولأزلزل حصونهم)، والحديث في الصحيحين من حديث عائشة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر منادياً أن ينادي في أصحابه: (من كان طائعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة)، فخرج الأطهار الأبرار، وخرج أمامهم النبي المختار، وكان جبريل قد انطلق بمجموعة من الكتائب الملائكية؛ ليقذف الرعب في قلوب يهود بني قريظة، وليزلزل بهم حصونهم.
وهنالك حاصر المسلمون يهود بني قريظة خمساً وعشرين ليلة على الراجح من أقوال المحققين من أهل العلم، حتى نزل اليهود على حكم سعد بن معاذ، لكنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر؛ ليستشيروه في هذا الأمر، ولماذا أبو لبابة؟ لأنه كان حليفاً لليهود، وكان ماله وعياله عندهم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة إلى يهود بني قريظة، فاستشاروه -فتدبروا معي أيها الأفاضل! - فأشار عليهم أبو لبابة إشارة بيده دون أن ينطق، أشار بيده إلى حلقه، يعني: إنه الذبح، فإن نزلتم على حكم سعد بن معاذ فسيقتل رجالكم، وتسبى الذرية، وتقسم الأموال، وقد صرحت رواية الإمام أحمد بسند حسنه العلامة أحمد شاكر رحمه الله تعالى بأن أبا لبابة قد قال بالفعل: إنه الذبح، يعني: ستذبحون، فتصوروا وتدبروا ماذا فعل أبو لبابة، أشار إلى حلقه فقط أو قال: إنه الذبح.
قال أبو لبابة: (فوالله! ما تحركت قدماي إلا وقد علمت أني قد خنت الله ورسوله) فعاد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظروا إلى هذه الضمائر التي رباها القرآن، انظروا إلى هذه القلوب والمشاعر التي ربها النبي عليه الصلاة والسلام، أشار أو قال كلمة فعلم أنه قد وقع في الخيانة، فعاد إلى المسجد النبوي وربط نفسه في سارية، أي: في عمود من أعمدة المسجد، وأقسم بالله ألا يأكل طعاماً أو شراباً حتى يموت أو يتوب الله عليه، ومكث في هذا الموطن تسعة أيام لا يذوق طعاماً حتى أشرف على الهلاك والموت بالفعل إلى أن أنزل الله عز وجل توبته على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، فلم يخرجه بهذا الذنب من الإيمان، ولا من صفوف المسلمين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:27].
وجاء بعض الصحابة وهم يتهللون فرحاً إلى أبي لبابة بن عبد المنذر في المسجد النبوي، وأرادوا أن يفكوا قيده فأبى وقال: (والله! لا يفك قيدي إلا رسول الله بنفسه!) فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم ففك قيده بيده، وقرأ عليه الآية، وبشره بتوبة الله عليه، فقال أبو لبابة: (يا رسول الله! إني كنت قد نذرت لله أن أخرج من كل مالي إن تاب الله عليّ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يجزيك الثلث) أي: تصدق بالثلث فحسب، هذا هو سبب من أسباب نزول هذه الآية.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية نزلت في حق حاطب بن أبي بلتعة، وقصة حاطب بغير سبب النزول ثابتة في الصحيحين، فلقد أمر النبي الصحابة أن يكتموا خبر خروجه إلى مكة فاتحاً؛ حتى يفتح مكة على غرة دون أن تسفك دماء في بلد الله الحرام، ولكن حاطب بن أبي بلتعة في لحظة ضعف أراد أن تكون له مكانة عند المشركين في مكة، فكتب كتاباً، ووضعه في شعر امرأة، وانطلقت المرأة بهذا الكتاب لتخبر المشركين في مكة بغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
ولكن الله أطلع نبيه على خبر هذا الكتاب، فأرسل النبي علياً رضي الله عنه مع نفر من أصحابه، فأحضر هذا الكتاب من شعر هذه المرأة، ودفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، فاعترف حاطب وأقر بذنبه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (دعني أضرب عنقه يا رسول الله! فلقد خان الله ورسوله والمؤمنين) فماذا قال من هو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ ماذا قال الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، الذي يعلم طبائع البشر، ويعلم أن الإنسان مهما علا كعبه ومهما بلغت منه الطاعة، فمن الجائز جداً أن يزل في أي لحظة من اللحظات، في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إنسان إلا إن كان نبياً أو رسولاً معصوماً من الله جل وعلا.
قال النبي لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا -يا عمر - إنه ممن شهد بدراً، ولعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وفي رواية في الصحيح: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: أعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة).
أيها الأخيار! نجاه سابق عمله وصدق عطائه للإسلام من هذه التهمة النكراء، من أن يكون خائناً لله ولرسله وللمؤمنين، ولابد أن ينتبه شباب الصحوة لهذا الدرس.
قال الإمام القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن الكريم): الناس صنفان: صنف قد اشتهر بين الناس بالصلاح والدين، فهذا إن زل وجب على أهل الإيمان أن يصبروا عليه.
والصنف الآخر صنف يجاهر بمعصيته وذنوبه، فهذا لا غيبة له، يجب على أهل الفضل -إن نصحوه وذكروه وما زال مصراً على معصيته- أن يبكتوه بما فيه؛ كي يحذر الناس شره وفسقه.
أما أهل الصلاح فإن زل أحدهم أو إن أخطأ أحدهم فواجب على أهل الإيمان أن يستروا عليه، وألا يكونوا للشيطان عوناً على أخيهم إن زلت قدمه في بؤرة من بؤر المعاصي أو حفرة من حفر الذنوب في لحظة ضعف بشري لا ينفك عنها إلا نبي أو رسول معصوم من قبل الله جل وعلا.
وقال الحافظ ابن كثير: والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالآية عامة في التحذير من الوقوع في خيانة الله ورسوله والمؤمنين في كل زمان ومكان.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:27]، هذا نداء لمن حقق الإيمان، والإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة دخاناً يطير في الهواء فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.(59/3)
خيانة على المستوى العالمي
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]، أستطع أن أقسم الخيانة إلى ثلاثة أقسام: الأول: خيانة على المستوى العالمي.
الثاني: خيانة على مستوى الأمة.
الثالث: خيانة على مستوى الأفراد.
وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء بإيجاز.
أما الخيانة على المستوى العالمي فإنها الخيانة التي فاح عفنها ونتنها في كل البقاع والأصقاع، إنها خيانة عالمية، خيانة يخطط لها في البيت الأبيض، وفي البيت الأحمر في الكرملن، مروراً بمنظمة هيئة الأمم المتحدة، ومروراً بحلف الأطلسي، ومروراً بالنظام والاتحاد الأوروبي، كل هذه الهيئات وكل هذه المنظمات وكل هذه الأحلاف الدولية تؤصل الآن للخيانة تأصيلاً، إنها خيانة أزكمت الأنوف بعفنها ونتنها، فأي قانون وأي عرف وأي جيل يقر هذه الخيانة العفنة التي تجري الآن منذ أشهر وسنوات على أرض فلسطين؟! وأي عرف وأي ميثاق يقر هذه الخيانة العفنة النتنة التي تمارس على خشبة المسرح العالمي؟ لقد جلس النظام الغربي على مقاعد هذا المسرح العالمي ليصفق بقوة وحرارة وجدارة للجندي اليهودي الجبان الغشوم الظالم، وقف النظام الغربي الخائن كله ليصفق لهؤلاء المجرمين، بل ليمنحهم السلاح لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم كله، فبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في فلسطين، وبسلاح أمريكي خائن يقتل المسلمون في العراق، وبسلاح أمريكي خائن ضرب جنوب السودان، وضربت أفغانستان، وفي كل موقع من المواقع الآن، لا من وراء ستار، بل على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي الهزيل المريض، وعلى مرأى ومسمع من العالم الغربي الخائن الذي تفوح منه الخيانة بعفنها ونتنها.
إن البشرية الآن تشهد من صنوف الخيانة وألوان الوحشية والبربرية والهمجية ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات، واسمحوا لي أن أكرر هذه الكلمات: أقول: والله! إن البشرية الآن تشهد في ظل قيادة الرجل الغربي الخائن من صنوف الوحشية والبربرية والخيانة ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعلها ببعضها البعض في عالم الغابات.
آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق آه يا مسلمون القدس تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق القدس من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق القدس من قلب مكة بالتوحيـ د يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كلاب الـ يهود طوق من خلفه أطواق قدمتها الصلبان لليهود قربا ناً ولليهود كلهم عشاق ووالله لو فعلنا باليهود ما فعلو هـ لرأينا مثل الذي رآه العراق إنها الخيانة التي يفوح عفنها ونتنها على المستوى العالمي، فزعماء العالم من الطواغيت المجرمين الكلاب يرون كل يوم دماء المسلمين تسفك، ولحومهم تمزق، وبيوتهم على رءوسهم تدمر، وصار الحس متبلداً، وصار الزعيم من هؤلاء يخرج في مؤتمر صحفي بارداً كبرود الثلج ليقول: يجب على الفلسطينيين أن يوقفوا العمليات الإرهابية ليوقف اليهود ضرباتهم للفلسطينيين! بكل خيانة، وبكل جرأة وتبجح صارت الكلمات -ورب الكعبة- لا تجد لها سبيلاً إلى الحناجر.
ووالله! ثم والله! لولا أن الله أخذ على أهل العلم الميثاق أن يتكلموا ويبينوا ما تكلمت كلمة، ولا بينت شيئاً؛ لأن زمن التنظير قد مضى، وزمن الكلام قد انتهى؛ فقد صرخت الطائرة في كبد السماء، وصرخ الرشاش في يد اليهودي الخائن، وتكلم الرصاص، فلماذا تنتظر الأمة؟! وأي شيء تنتظر هذه الأمة؟! إنه عالم لا يعرف إلا الخيانة، وعالم لا يقر إلا لغة الحرب ولغة الرصاص، فما هو الذي تنتظره الأمة بعد كل ذلك؟ وزعماء العالم في أمريكا، وفي بريطانيا، وفي روسيا، وفي فرنسا، وفي كل العالم؛ يرى هذه الخيانة كل يوم ويقرها، ويقر الخيانة التي تمارس كل ساعة -بل كل دقيقة- على خشبة المسرح العالمي، ثم بعد ذلك يتغنى هؤلاء المجرمون الخونة بالنظام العالمي الجديد، بأكذوبة السلام العالمي، فأين النظام العالمي الذي يتكلمون عنه؟!(59/4)
وقفة مع نظرة الغرب إلى المسلمين ونظرتهم إلى الحيوانات
والله! إن القلب ليتفطر، والله! إن القلب ليتمزق، أين النظام العالمي؟! لقد رأيت بعيني أمريكية كذابة كسائر الأمريكان الكذابين، رأيتها بعيني في ولاية (نيويورك) في وقت شديد البرد، بل يكاد البرد أن يجمد الدماء داخل العروق، رأيت هذه الأمريكية تمسك قطة وتبكي، فقلت للأخ الذي يقود السيارة: قف وسل هذه المرأة لماذا خرجت في هذا الجو؟ وكنا قد خرجنا من المركز الإسلامي بعد صلاة الفجر، فسألها لماذا خرجت في هذا الجو؟ ولماذا تمسك القطة هكذا وتبكي؟ فأخبرته بأن قطتها مريضة، وأنها في طريقها لتجري لها جراحة عاجلة، قلت: كم ستتكلف هذه الجراحة؟ فقالت: ستكلف ما يقرب من ألفي دولار!! فقلت: أيها الكذابون المجرمون! تبكي المرأة منهم أو الرجل بكاء الكذابين وبكاء الأفاعي لقطة أو لكلب، وأنتم ترون دماء إخواننا وأخواتنا تسفك، وترون أشلاء أطفالنا تمزق، بل رأيتم بأعينكم على شاشات إعلامكم الخائن الصربي ينتزع الطفل من أحشاء المسلمة في البوسنة، ورأيتم الأمريكي يعذب المسلمة الصومالية، ويجرها على التراب! ثم يبكي أحدكم لكلب أو لقطة، صار الدم الإسلامي أرخص دم على وجه الأرض!! وهذا كما قال الشاعر: ففي كل بلد على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وتهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان عاطفة فلم يغثهم بيوم الروع أعوان فهل هذه غيرة أم هذه طعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان أين النظام العالمي أما له أثر ألم تنعق به الأبواق أين السلام العالمي لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا أوما يثيرك جرحنا الدفاق وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق إنها خيانة على المستوى العالمي.(59/5)
خيانة على مستوى الأمة
ثالثاً: خيانة على مستوى الأمة: أقول بملء الفم وبأعلى الصوت: ما خان الغربي إلا يوم أن تخلت أمة الأمانة عن الأمانة، وما تولى الرجل الغربي قيادة العالم وقيادة الأمة إلا يوم أن وقعت الأمة في الخيانة؛ فلقد خانت الأمة ربها ورسولها، وأنا أعي كل لفظة أرددها، لقد خانت الأمة ربها ورسولها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] قال ابن عباس رضي الله عنهما: (لا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها).
وقال ابن عباس في موطن آخر: (الأمانة هي: الفرائض التي افترضها الله على عباده).
وقال أبو العالية: (الأمانة هي: ما أمروا به، وما نهوا عنه).
وقال الحسن: (الأمانة هي: الدين، فالدين كله أمانة).
فهذه الأمانة حمل ثقيل، وقد أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، وخافت من عواقب التفريط في حمل هذه الأمانة، قال عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] قال العلامة القرآني الشنقيطي في (أضواء البيان): والعرض والإباء والإشفاق كله حق، وليس على سبيل المجاز، وإنما على الحقيقة؛ فلقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكاً لا يعرف حقيقته إلا الله، أدركت المخلوقات بهذا الإدراك ثقل هذه الأمانة، فأبت وأشفقت من حملها، والأدلة على ذلك في القرآن كثيرة، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
فالأمانة حمل ثقيل، فالدين كله أمانة، وأشفقت هذه المخلوقات من حمل هذه الأمانة، وتقدم الإنسان الضعيف القصير العمر الذي تتحكم فيه الأهواء والشهوات والشبهات لحمل هذه الأمانة، فمن أدى فرائض الله، وأدى سنة رسول الله، وأدى الأمانة التي عنده؛ فهو الأمين الذي عرف قدر الأمانة، ومن فرط فهو الخائن الذي خان الأمانة.
فلا تخونوا الله بترك فرائضه، ولا تخونوا الرسول بترك سنته، ولا تخونوا أماناتكم بتضييعها فيما بينكم، وكم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام قد ضيعوا الفروض من أجل مباراة في إستاد كرة، بل قد تضيع الجمعة، وربما تضيع صلاة الفجر إن كانت المباراة منقولة في آخر الليل، فتضيع الفرائض من أجل هزل!! لقد خانت الأمة ربها فضيعت الفرض إلا من رحم ربك من أفراد، وخانت الأمة رسولها فهجرت السنة، فالأمة تتغنى وترقص لرسول الله في الثاني عشر من كل ربيع في قصائد منسقة منمقة، وفي كلمات رنانة، في الوقت الذي هجرت فيه السنة، ونحت فيه الشريعة، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي على هذه الأمة: هلموا إلينا، هلموا إلى القرآن والسنة، لكن من أفراد الأمة من يرد الآن بلسان الحال، بل بلسان المقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم يعد شرعك صالحاً لمدنية القرن الحادي والعشرين، ولم تعد شريعتك صالحة لعصر الإنترنت! وأتوبيس الفضاء دسكفري! وصارت الأمة تنظر إلى السنة والشريعة على أنها لم تعد صالحة.
خانت الأمة ربها ونبيها، وضيعت الأمانة يوم أن وسدت الأمر إلى غير أهله، وهذا هو تفسير نبينا لتضييع الأمانة كما في صحيح البخاري أنه كان صلى الله عليه وسلم يحدث الناس يوماً، فجاء أعرابي فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه ولم يجب الأعرابي، فلما قضى النبي حديثه سأل عن الأعرابي وقال: أين السائل عن الساعة آنفاً؟ فقال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة، فقال الأعرابي الفقيه: فكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله) ووالله! لقد وسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي يشكل العقول الآن؟! ومن الذي يدير دفة التوجيه والحكم في الأمة؟ لقد صرنا كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب وفي مستدرك الحاكم ومسند أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة).
لقد صار المثل الأعلى لأولادنا لاعب كرة، أو فناناً من الفنانين، صار المثل الأعلى لكثير من أولادنا هم هؤلاء، وقدم هؤلاء على أنهم المثل، وعلى أنهم القدوات، حتى لا يخرج الولد ليفكر في الجهاد أو ليفكر في العلم، ووسد الأمر إلى غير أهله، فمن الذي تصفق لهم الجماهير المخدوعة؟! ومن الذي تذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم جميع الأبواب؟! هذا، وكثير منهم يجب أن يقام عليه حد الله جل جلاله، ولكن الأمة الآن قلبت الموازين، ووسدت الأمر إلى غير أهله، ووقعت في الخيانة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله).
إنها خيانة بتضييع الفرائض، وخيانة بالتفريط في السنة، وتغييب الشريعة، وخيانة بتضييع الأمانة وتوسيد الأمر إلى غير أهله، فأمة لا تقدم الأكفاء أمة خائنة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً للمحسوبية أو للعنصرية البغيضة أو للعصيبة الجاهلة؛ أمة خائنة لا تستحق السيادة ولا العزة ولا الكرامة.(59/6)
أداء السلف للأمانة
أذكر موقف الصديق رضي الله عنه يوم أن عزل أبا عبيدة بن الجراح، وأنتم تعرفون من هو أبو عبيدة؟ إنه أمين هذه الأمة، القائد الفارس البطل المغوار، ومع ذلك رأى الصديق أن الموقف يحتاج إلى خالد بن الوليد؛ فعزل الصديق أبا عبيدة، وولى القيادة في جبهة الشام خالد بن الوليد، وأرسل رسالة إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال: (من أبي بكر إلى أبي عبيدة، سلام الله عليك.
وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله! ما وليته إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خير منه!) هذه هي الأمة، أمة تقدم الأكفاء في الساعة المحددة، وكلنا يعرف قدر أبي عبيدة، لكن الصديق رأى أن رجل الساعة هو خالد، فليتقدم خالد، وتقدم خالد لا ينقص أبداً من قدر أبي عبيدة؛ لأن الموقف يتطلب أن يتقدم خالد بن الوليد، هذا هي الأمانة.
ومن أجل ذلك أذلوا كسرى، وأهانوا قيصر، وأتى هؤلاء بتاج كسرى بن هرمز فوضعوه في حجر فاروق الأمة عمر رضي الله عنه وأرضاه.
إنها أمة قدمت الأكفاء لكل موقع وفي كل وقت، وأخرت من ينبغي أن يؤخر مع عظيم فضله، ومع سبقه في الإسلام ودين الله تبارك وتعالى، فتأخيره لا يقلل من قدره، ولا يقلل من إيمانه، المهم أن يظل في الصف ليعمل لله جل وعلا، كما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع) والحديث في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، فهذا رجل لا يريد أن يكون في الصدارة مع القادة، المهم أن يكون في الجند المخلصين ممن يعملون لدين الله تبارك وتعالى؛ لأنه لا يريد عهراً سياسياً ولا طبلاً ولا زمراً إعلامياً، إنما يريد أن يرضي ربه تبارك وتعالى من منطلق قول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل يا أرحم الراحمين! فأمة تقدم الأكفاء هي أمة أمينة، وأمة تؤخر الأكفاء وتقدم صنفاً معيناً لمحسوبية أو لعنصرية بغيضة أو لرشوة أو لهوىً أو لدنيا فهي أمة خائنة، خانت الله ورسوله، وضيعت الأمانة، كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
والله تبارك وتعالى يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61].
فأهل النفاق هم الذين يصدون عن الله ورسوله، ويخونون الله ورسوله، وأهل الإيمان هم الذين يمتثلون أمر الله، ويؤدون فرائض الله، ويمتثلون سنة رسول الله، ويؤدون الأمانة فيما بينهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
أما الخيانة على مستوى الأفراد فأرجئ الحديث عنها إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(59/7)
خيانة على مستوى الأفراد
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: وأخيراً: خيانة على مستوى الأفراد، والحديث عن هذا العنصر حديث يؤلم القلب بألم الخيانة، فالكلمة أمانة، وكم من هذه الأمانة من الكتاب والأدباء والمفكرين والعلماء والمسلمين، فبكلمة تنال رضوان الله، وبكلمة تنال سخط الله، وبكلمة تدخل جنة الله، وبكلمة تدخل نار الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، وقال عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وقد ذكرت من قبل لو أن المسئولين الآن أعلنوا على شاشات التلفاز وفي كل وسائل الإعلام أنه يجب على كل مواطن من رجل وامرأة أن يسرع إلى أقرب قسم شرطة ليركب جهازاً ليسجل عليه كل كلمة من الكلمات، وسيمنح جنيهاً على كل كلمة ذكر وتسبيح وتهليل، وسيعاقب عقوبة يراها المسئولون على كل كلمة ليست طيبة، وانطلق الناس وركبوا هذه الأجهزة، فكيف يكون حالنا؟ والله! لن نتكلم إلا بالتسبيح، ولن نأكل إلا التسبيح، ولن نشرب إلا التسبيح، ولن ننام إلا على التسبيح؛ لأننا سنأخذ على كل كلمة جنيهاً!! ولو قلت لأحد: كيف حالك يا فلان؟! لقال: سبحان الله! ولو قلت: ماذا فعل ولدك في الثانوية؟ لقال: ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو قلت: هل قبضت العلاوة؟ لقال: الله أكبر، ولله الحمد!! والله جل وعلا يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، فهل صدقنا الله؟ وهل صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! الجواب يؤكده الواقع المر الأليم: فقد يتورع الصائم عن أكل الحلال ولا يتورع عن الفري في أعراض الأحياء والأموات، أي: في الوقوع في الحرام، فالكلمة أمانة، ولو عرف الكتاب والأدباء والمفكرون والعلماء والمتكلمون قدر هذه الأمانة ما رأينا هذا الواقع المر الأليم: فبدعوى الإبداع الفكري سبوا الله ورسوله! وبدعوى الحرية الشخصية أصلوا للرذيلة والتبرج والعري! وبدعوى التخلص من عقدة القديم تمردوا على سلطان الدين بكلمات خائنة! فالكلمة أمانة، والعلم أمانة، فإن اتقى العالم ربه وأدى ما يدين به لله بحكمة بالغة فهو أمين، وإن زور بهذا العلم الفتاوى لذوي السلطان فهو خائن، قال صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار، ومن تعلم العلم ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء أو ليصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار).
والمجالس أمانة، فقد يجلس المسلم مع أخيه ويخرج بعد ذلك لينقل كل ما دار بينهما في المجلس، من فعل هذا فهو خائن؛ إنما المجالس بالأمانة، فكم من الناس من قد خان هذه الأمانة! وكم من زوج قد خان زوجته! وكم من زوجة قد خانت زوجها! وأقصد: الخيانة العفنة المعروفة بالزنا، وكذلك خيانة الكلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد -: (إن من أشر الناس يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها) لاسيما إذا كان السر متعلقاً بأسرار الفراش، فيجلس على المقهى أو بين زملائه في الوظيفة ليحدث بكل ما دار بينه وبين امرأته في الفراش، أو تجلس المرأة الموظفة لتحدث زميلاتها في العمل بما دار بينها وبين زوجها في الفراش، وهذه خيانة عفنة.
والأولاد أمانة، فكم من الآباء من قد خان هذه الأمانة! وكم أم قد ضيعت هذه الأمانة! فترك الوالد أولاده، وظن أن وظيفته أنه ممثل لوزارة المالية فحسب! فإن وجد عنده رمق من الوقت قتله قتلاً بالجلوس أمام التلفاز، مع أنه لو جلس بين أولاده ولو كان صامتاً لا يتكلم ففي جلوسه من عمق التربية ما فيه، فكيف إن تكلم فذكّر بالله ورسوله؟! وكيف إن تكلم فأخذ أولاده إلى بيت من بيوت الله، أو إلى مشهد من هذه المشاهد التي تملأ القلب بالاستعلاء وبالإيمان وبالعزة التي افتقدتها الأمة منذ أمد بعيد؟! وكم من أم خانت الأمانة فضيعت أولادها؛ وذهبت إلى الوظيفة، وهي ليست في حاجة إلى الوظيفة، وخرجت إلى الأسواق لتضيع الوقت، وهي ليست في حاجة إلى هذا، كل همها أن تبحث عن الموضات والموديلات! وضيعت الأولاد، وأصبح الأولاد كما قال الشاعر: فليس اليتيم من انتهى أبواه وخلفاه في همّ الحياة ذليلا إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا والوظيفة أمانة، فكم من الموظفين من قد خان الأمانة بدعوى أن الراتب لا يتلاءم ولا يتواءم مع الجهد الذي يبذله! فيخون الأمانة بأخذ الرشاوى، أو بتضييع العمل مع حاجة العمل إليه، أو بالتعسير على المسلمين وتعطيل مصالحهم.
والدَين أمانة، فكم من الناس من قد أخذ أموالاً ثم تفنن بعد ذلك في أكل هذه الأموال، وفي خيانة هذه الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ أموال الناس ينوي أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله).
وكم عدد هؤلاء الذين نصبوا على المسلمين فأخذوا أموالهم وهربوا بجوازات سفر مزورة! وقد خانوا الأمانة، وضيعوا حقوق الناس.
وكم عدد هؤلاء الذين نهبوا البنوك بل ونهبوا الدولة، بل ونهبوا الأمة، وخانوا الأمانة، وأكلوا أموال الناس بالباطل! ولو وقفنا مع جزءيات الخيانة على مستوى الأفراد لطال الوقت جداً، وحسبنا قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
اللهم اجعلنا من أهل الأمانة، اللهم اجعلنا أهلاً للأمانة، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الأمانة رداً جميلاً.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباًَ إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(59/8)
لك الله يا أفغانستان
شعب الأفغان شعب مسلم عريق، قوي الشكيمة، صعب المراس، معروف بمواقفه البطولية، فقد دحر الغزاة الروس عن بلده، وابتلي الآن بالغزاة الأمريكان، الذين أعدوا لهم ما استطاعوا من قوة، ولكنه لم يلن، ولم يستسلم، لأنه شعب أبي عصي، إلا أنه يؤتى من بعض أبنائه الخونة العملاء فمن باعوا ضمائرهم للعدو، نسأل الله عز وجل أن يطهر أفغانستان من الصليبيين الحاقدين.(60/1)
التعريف بالأفغان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! أبدأ بهذه الورقة من طويلب من طلابنا -على حد قوله- يذكر أنه يحبني في الله، وأقول: أحبك الله الذي أحببتني فيه، لكنني أعجب من السؤال الذي يقول فيه: كنت منتظراً من فضيلتكم في الخطبة الماضية أن تتكلم عن حق الجهاد، أو أن تجعل ما حدث في أمريكا وأفغانستان هدفاً في الخطبة، ولا أعرف هل حضر أو لا؟! فإن كان ما حضر فأنا لا أعذره، وإن كان حضر فأنا لا أعذره؛ لأنه إن كان حضر فقد نام طوال الخطبة، وإن لم يحضر فما ينبغي له أن يعتب علي دون أن يعلم، ودون أن يفهم، فاسأل من حضر إن كنت ممن لم يحضر، واسمع الخطبة إن كنت ممن حضر، واحذر النوم أثناء الخطبة، وأسأل الله أن يوقظنا جميعاً، إنه ولي ذلك ومولاه.
الأخ يسأل ويقول: من هم الأفغان؟ ومن هو أسامة بن لادن؟ وأين أفغانستان من الخطب؟، وأين الشيشان الآن؟! وأين شباب مصر؟! وهل أسامة بن لادن إرهابي؟! وهل الذين فجروا مبنى التجارة العالمي كانوا إرهابيين؟!
و
الجواب
الأفغان شعب مسلم أبي، قوي الشكيمة، صعب المراس، لا يعرف الذل والمهانة والخضوع والاستسلام بسهولة، ولا يؤتى هذا الشعب إلا من قبل بعض أفراده الخونة، ممن يشتريهم الأعداء بالدولار، وهؤلاء لا يخلو منهم زمان ولا مكان.
إن اجتمع هذا الشعب بطوائفه لمحاربة عدو خارجي، فمهما كانت قوة هذا العدو، فإن هذا الشعب -بفضل الله سبحانه وتعالى- يضع أنف هذا العدو في التراب، فهذا الشعب الأبي هو الذي مرغ أنف بريطانيا في التراب منذ مائة سنة تقريباً، ولعلكم سمعتم ما قاله المجرم توني بلير في خطابه، وهذا نص عبارته: وها نحن الآن قد عدنا يا ملا محمد عمر!(60/2)
واجب الداعية
يا أخي! بفضل الله عز وجل -ونسأل الله أن يرزقنا الصدق- نحن لا نعرف أن ننافق أحداً، ولا نجيد العزف على أوتار النفاق، ونحن لا نريد شيئاً من الدنيا، فقد رزقنا الله من أوسع أبوابه، ونحن لا نريد شيئاً من مخلوق على وجه الأرض حتى ننافق، لكن المسألة أيضاً تحتاج إلى حكمة، وليس معنى الحكمة التمييع، فلم تكن الحكمة تمييعاً للقضايا، ولم تكن الحكمة هي الهروب من الحق، إنما الحكمة هي: قول ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.
هذا تعريفها.
وأركانها: العلم، والحلم، والأناة.
وآفاتها: الجهل، والطيش، والعجلة.
وقد تكلمت عن هذه القضية، وبينت الذي أدين به لله تعالى في هذه المسألة؛ لأن من الخيانة أن يكون الداعية بأطروحاته وموضوعاته في جانب، وأن تكون الأمة بجراحها ومشكلاتها وأزماتها في جانب آخر، وأنا أكرر هذا دوماً، وأسأل الله أن يرزقنا الأمانة، وأن يجعلنا أهلاً لها.(60/3)
أمريكا وجرائمها في العالم
ما يحدث الآن باختصار: هو تجسيد للإرهاب الأمريكي، فإن أمريكا هي رائدة الإرهاب في الأرض، وأنا أسأل أي منصف على وجه الأرض: ما يحدث الآن على أرض أفغانستان أليس هو الإرهاب بعينه؟! بل إن أمريكا تعلم يقيناً قبل غيرها أنها إلى الآن لم تملك دليلاً واحداً على إدانة أسامة أو على إدانة المسلمين.
والله العظيم لو تملك أمريكا دليلاً واحداً لضجت به في العالم، ودعك من كلام توني بلير الذي يقول: هذه أدلة استخباراتية لا أقدر على إذاعتها، فهذا كلام باطل، وهذا الوقح يظهر من كلامه ما يخفيه صدره من غل وحقد أضعاف أضعاف ما يحمله قلب بوش الإرهابي الأول في العالم، وقد قال: إنها حرب صليبية، ونقول: نعم، هي حرب صليبية، ويأبى الله إلا أن يظهر في زلات ألسنتهم، وفي كلمات أقلامهم ما تكنه صدورهم من حقد على هذا الدين، وما تخفي صدورهم أكبر، فهي حرب صليبية معلنة على الإسلام، أما أن يقول بوش: هي حرب صليبية، ثم يرجع ويلطف ذلك بشتى الطرق فهذا لا يفيد! بل يأتي توني بلير ويقول: ها نحن قد عدنا يا ملا محمد عمر! وهذه هي نفس الكلمات التي قالها اليهود وهم يركلون قبر صلاح الدين؛ فإنهم كانوا يقولون: ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين! فالحقد يملأ قلوب هؤلاء، وهم الذين يفسرون معنى الإرهاب كما يريدون! فهل الإرهاب أن يدافع المسلم عن دينه وعن وطنه وعن عرضه، وأن يرد عن أمته ونفسه وأهله شيئاً من الظلم الذي ملأ القلوب والصدور بالمرارة؟! لا يوجد عاقل على وجه الأرض الآن إلا وقلبه يمتلئ بالحقد والغل على أمريكا؛ بسبب الظلم الذي أذاقته أهل الأرض كئوساً! وما يحدث على أرض فلسطين إلى الآن أليس إرهاباً؟! ومليون ونصف من أطفال العراق قتلوا بسبب الحصار أليس إرهاباً؟! والمسلمون الذين قتلوا في العراق، والمسلمون الذين قتلوا في السودان، والمسلمون الذين قتلوا في أفغانستان، حتى من قتل في (هيروشيما) و (نجازاكي) وفي فيتنام أليس إرهاباً؟! بل في فيتنام لوحدها قتلت أمريكا أربعة ملايين فيتنامياً! أمريكا هي التي أبادت شعب الهنود الحمر! أمريكا هي التي استعبدت الزنوج! أمريكا هي التي أسقطت القنبلة الذرية على (هيروشيما) وبعد ثلاثة أيام على (نجازاكي) فقتلت مائة وسبعين ألف مدنياً! أمريكا هي رائدة الإرهاب في الأرض! وقد جلست مع عمدة نيويورك وقلت له: أنتم تعلمون أن تمثال الحرية الذي تضعونه في قلب أمريكا ليصدم عيون الناظرين خير شاهد على أنكم تسحقون الأحرار خارج حدود أرضكم وبلادكم! وذكرت له تاريخاً طويلاً، وقد كانت لي محاضرة عن حقوق الإنسان في الإسلام، حقوق الإنسان بصفة عامة، وليس حقوق المسلم، وبعد ذلك عملت مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان في منظمة وحقوق الإنسان لهيئة الرمم، وقلت لهم: أنتم كذابون، تضحكون على العالم، وتقولون: سلام عالمي! ونظام دولي جديد، إلى آخر هذه المنشطات الساخنة الضخمة! وأنتم تعلمون يقيناً أنكم أكذب وأفجر أهل الأرض، وقلت له: هل نسيت أن أمريكا هي التي قتلت مائة وسبعين ألفاً من المدنيين في (هيروشيما)؟! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين أبادوا الهنود الحمر، وهم السكان الأصليون لأمريكا؟! وهل نسيت أنكم استعبدتم الزنوج؟! مع أنكم أصدرتم بعد الثورة الأمريكية قراراً دستورياً يقول بالمساواة بين جميع الناس: الأبيض والأسود، ثم بالقانون الأمريكي لمدة مائة سنة استعبدتم الزنوج! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين قتلوا المسلمين في فيتنام؟! وهم الذين دعموا كل الديكتاتوريات والحكام الديكتاتوريين على الأرض، بدءاً من جنوب أفريقيا إلى الفلبين! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين قتلوا ما يزيد على أربعة ملايين في فيتنام؟! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين قتلوا ما يقرب من مليون ونصف من أطفال العراق؟! وهل نسيت أن الأمريكان هم الذين شردوا من شردوا وقتلوا من قتلوا في لبنان، وفي السودان، وفي أفغانستان؟! فنظر إلي وقال لي: لكن أمريكا تدخلت لنصرة الأقلية المسلمة في ألبانيا وفي البوسنة.
فقلت له: هذا كذب، بل أمريكا ما تدخلت لنصرة المسلمين في البوسنة، وإنما تدخلت لحماية مصالحها، وأمريكا تدخلت الآن بذريعة القبض على أسامة أو قتل أسامة، وهو البطل الذي أسأل الله أن يحفظه بحفظه وإخوانه جميعاً، فإنهم هم الذين ردوا شيئاً من الكرامة المسلوبة لهذه الأمة، فأقول: ما تذرعت أمريكا بقتل أسامة الإرهابي الدولي العالمي -كما يقولون- إلا ليكون لها قدم في منطقة بحر قزوين! وهناك مبشرات من الشيشان، ووالله! ما تركنا قضية إلا طرقناها وتكلمنا فيها، ووالله! ما تركنا قضية للأمة إلا وتحدثنا عنها، وسبق أن قلت: إن أمريكا وروسيا الآن وبعد انخفاط مخزون النفط في منطقة الخليج تبحثان عن أعلى نسبة احتياطي للنفط في العالم، وهذا موجود في منطقة بحر قزوين، فروسيا تريد أن تسيطر على المنطقة، وأمريكا تريد أن تبقي لها رجلاً في المنطقة؛ من أجل أن تسيطر على مقدرات العالم كله، والآن القواعد العسكرية الأمريكية تحيط بالعالم الإسلامي والعربي من كل مكان، والأمة تدفع الجزية كاملة غير منقوصة!! والشاهد أن الرجل لما قلت له: أنتم قمتم بهذا من أجل مصالحكم، قام وسلم عليّ، وشد علي يدي! وقال لي: هل المسلمون يعرفون هذا الكلام الذي تقوله؟ فقلت: هذه هي الكارثة.
فقال: لماذا؟ وكأنه استغرب من الجواب، وكأنه كان متصوراً أني سأقول له: إن المسلمين لا يعلمون شيئاً! فقلت له: هذه هي الكارثة، وهي أنكم ما زلتم تعتقدون أنكم تتعاملون مع أغبياء لا يعرفون خططكم، ولا يعرفون مصائبكم وتاريخكم الأسود! بل كل هذا يعرفه الآن أي مسلم، ويعرف مصدر الإرهاب على وجه الأرض، يعرفون ذلك عند أن يدك شعب الأفغان بالصواريخ وبالطائرات، وقد جاءت أمريكا بخيلائها وخيلها ورجلها وسلاحها لتحاد الله عز وجل، وترمي هذا الشعب الفقير الذي لا يجد لقمة العيش؛ بذريعة القبض على أسامة وتدمير جيش القاعدة! ويدعون أن طالبان هم الذين يأوون الإرهابيين إلى آخر هذا الكلام الإعلامي الخبيث الذي يدندن حوله إعلام اليهود، ويتلقفه إعلامنا العربي المهزوز؛ ليردد نفس الكلمات تماماً، ولا تجد دولة مسلمة عربية ترفض، بل إن منهم من يشارك ويقول: نحن مع الضربة العسكرية ضد الإرهاب! ولو صدقوا لقالوا: نحن مع الضربة العسكرية ضد الإسلام! ومع ذلك أخونا عبد السلام ضعيف الرجل القوي الإيمان، سفير الأفغان في باكستان يعلن أن طالبان لن تسلم أسامة، بل إنها قد أطلقت له العنان في أن يفعل ما يشاء، ويقول: إن عندنا اثنين مليون يتمنون الشهادة في سبيل الله، ولكن الإرجاف شغال، فترى بعض الجرائد تقول: طالبان تختنق! وهذا إرجاف، فإن أعداء الله يدكون عليهم دكاً متواصلاً بالصواريخ والطيران والبواخر والسفن الحربية وبكل السبل، وما زالوا يثقون بالله، وأرجو أن نثق وأن نعلم يقيناً أن أمريكا لا تدبر أمر الكون، بل إن الذي يدبر أمر الكون هو الملك عز وجل.(60/4)
على الأمة أن تجدد يقينها بالله عز وجل
الأمة الآن بسبب ضعف يقينها وضعف إيمانها لم تعد تؤمن إلا بالماديات وبالحسيات، فتراهم يأتون بصورة على الصفحة الأولى من بعض الجرائد وفيها صاروخ أطلقته أمريكا، ويقولون: هذا الصاروخ يسجل الكلام الذي يقوله مجاهدو طالبان! وأين كانوا قبل ذلك؟! هل كان بوش يخبئه تحت السرير؟! ولكن هذا عمل المرجفين الذين يريدون أن تزداد هذه الأمة هزيمة على هزيمتها.
والله العظيم لقد سمعت بأذني من رجل مثقف يقول: يا شيخ! أمريكا عندها صاروخ لو وضعت على يدك بريزة فضة يأتي عليها الصاروخ فيحرقها ولا يمس يدك!! وهذا بصراحة استخفاف بالعقول، واستخفاف بالقلوب، وإرجاف خطير جداً.
فنريد يا إخواننا أن نثق بالله عز وجل.
والذي أريد أن أخرج به من هذه الأزمة والأحداث: أن نجدد الثقة واليقين بالله عز وجل، وأن تعلم الأمة يقيناً أن الله تبارك وتعالى هو الذي يدبر أمر الكون وحده، فلا تقع ورقة من شجرة على الأرض إلا بأمره عز وجل وبعلمه، فإذا كانت الورقة لا تقع إلا بعلمه فكيف ستقع القنبلة بدون علمه وبدون تقديره؟! بل كل شيء بقدر، وليس أحد أغير على الحق وأهله من الله، وليس أحد أرحم بالمستضعفين في أفغانستان وفلسطين من الله، لكن الله لا يعجل بعجلة أحد؛ فللكون سنن لابد منها، كسنة التدافع، وسنة الابتلاء، وسنة أخذ الله للظالمين، قال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]، وقال عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] وقال جل وعلا: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]! فيا سبحان الله! لا يوجد أمريكي في أكثر الأحيان إلا وهو يعيش حالة من الرعب، ومن سافر إلى أمريكا يعرف ذلك.
وقد دخلت مركز التجارة العالمي قبل الأحداث، والله العظيم! إن الإنسان يتعجب من ذلك البناء وعظمته! فتصعد إلى الدور المائة وتسعة عن طريق مصعد مثل الكافتيريا في أقل من دقيقتين تقريباً! وكذلك مبنى البنتاجون -الذي هو وزارة الدفاع- مساحته أفقية ممتدة، ويأخذ مساحة ضخمة جداً، وفيه غرف لا يعلم عنها شيئاً كثير ممن يعملون في البنتاجون؛ وذلك لكثرة الغرف وكبر المساحة، والمكان الذي ضُرب فيه هو المخ والرأس المحرك! وهذا شيء غريب جداً! وضرب الكمبيوتر الرئيسي! ولذلك أمريكا تاهت بعد هذه الحادثة، وبقيت ثلاث ساعات لم يعلق فيها أي رئيس ولا أي وزير ولا أي مسئول، إلا مذيع في (السي إن إن)، أما الرئيس والنائب والوزراء فكلهم تبعثروا، أسأل الله أن يبعثرهم.
أقسم بالله إنها آية من الآيات تجعل الإنسان لا يثق إلا بربه، ومع ذلك فالأمة لا زالت قلوبها مملوءة بالضعف والإرجاف، والخور والذلة والمهانة، والخوف والرعب.
فيا إخواننا! ألم تفيقوا بعد؟! أما تصطلحون؟! أما تركعون لله عز وجل وحده؟! وفي قناة الجزيرة ظهر مذيع نصراني حقود مع أخ من إخواننا الطيبين ممن لا يجيد الحوار، ولا يجيد الكلام، والناس هؤلاء لابد لهم من محاورين في غاية اللباقة، لكن سبحان الله! لو كنت مكانه ربما لم أستطع أن أتكلم، وليس عندي ربع يقين الأخ الذي كان يتكلم، ووالله! إنه أبكاني، فإن هذا المذيع تكلم وقال: أنتم -يا طالبان- ماذا عملتم أمام هذه القوة والترسانة العسكرية الضخمة؟! فابتسم الأخ ابتسامة جميلة وقال له: معنا الله!! والله إن هذا المذيع المجرم اسود وجهه! فإن المعية عظيمة وكبيرة، ولك أن تتصور السبع السماوات وعظمتها، فإن الله عز وجل يقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، فالعقل البشري الذي فجر الذرة، وصنع الترسانة التي نسمع عنها لا يُعد شيئاً أمام خلق السماء وخلق الأرض، فإن ملك الملوك يحمل السماوات السبع على إصبع! فأريد أن تتدبر هذا الكلام حتى ترجع بيقين، هذا الكلام يقوله حبر من أحبار اليهود، والحديث في صحيح مسلم وفيه: (جاء حبر يقول: يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك) الله أكبر! السماوات على إصبع من أصابع الملك جل جلاله، فلا تعطل ولا تكيف، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
هذا هو الذي أريد أن أخرج به، فأنا لا أريد أن أكون وكالة أنباء أذيع لك منها أخباراً أنت تعرفها أكثر مني، إنما أريد أن أدخل في قلبك اليقين، ونرجو أن تتعلم الأمة هذا الدرس، ونرجو أن تجدد الأمة يقينها في ربها، وتعلم يقيناً أنه لا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تقتلع الإسلام من الأرض؛ لأن الذي وعد بنصرة الإسلام هو الله.(60/5)
الأحداث التي تمر بالأمة بشير خير
أنا متصور بفهمي للقرآن وللسنة وللسنن أن الأحداث التي تمر بها أمتنا الآن ستكون من أعظم الأحداث التي ستربي الأمة، وأرى فيها خيراً كثيراً، فإن جميع أهل الأرض الآن قد قامت عليهم حجة الله بالسماع عن الإسلام من زعماء العالم! فمن الذي كان يسمع من أهل الأرض أن الإسلام دين السماحة، وأن الإسلام دين الرحمة، وأن الإسلام لا يقر الإرهاب، ولا التطرف؟! فمن الذي كان يستطيع من الدعاة أن يسمع العالم كله هذا الكلام؟! لكن بوش وتوني بلير ورئيس وزراء إيطاليا أظهروا الصورة المشرقة للإسلام من حيث لا يشعرون! ولهذا لا تجد نسخة من القرآن المترجم باللغة الفرنسية في الأسواق! ولا تجد نسخة من القرآن المترجم باللغة الإنجليزية في أمريكا؛ لأن جميع النسخ قد نفدت، فالغرب كله يتلهف للقراءة عن الإسلام! وانتظر النتائج من الملك سبحانه وتعالى، فهو الذي يدبر أمر الكون.
فأريد أن أقول: إن ما يجري الآن أرجو الله أن يجعله بداية المفاصلة، وقد تكلمت عن المفاصلة! وتكلمت عن إقامة الفرقان كثيراً، ولا أملّ من التكرار، وبعض الإخوة يقولون: الشيخ يكرر كثيراً، فأقول: أنا أكرر -يا أخي! - لأن الله كرر في القرآن بعض القصص عدة مرات، وأنت كم تكرر الفاتحة في اليوم؟! فأنا لا أحب للإخوة الدعاة والمشايخ أن يستحوا من التكرار، بل كرر مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً وعشرين.
فكم ذكرت إقامة الفرقان! وأنا أرى الآن أن الأمة تحتاج إلى أن تتمايز إلى فسطاطين؛ لأن الأمة الإسلامية تعيش بين التبعية والريادة، فلابد أن تتمايز الأمة إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فلابد من التمايز؛ لأن الغبش الذي نحن فيه لن ينصر ديناً، ولن ينصر قضية.
وأود أن أقول: إن الله تبارك وتعالى هو الذي يدبر أمر الكون، ولا يحدث شيء في الكون إلا بعلمه وأمره، وهذه الأحداث أرى فيها خيراً كبيراً وكثيراً وعظيماً للإسلام وللمسلمين، وأرى أن يبذل الإنسان المسلم الآن كل ما يملك، فإن كنت تستطيع أن تجاهد بنفسك فافعل، وإذا حيل بينك وبين الجهاد بنفسك فجاهد بمالك، وجاهد بلسانك.(60/6)
أهمية الجهاد بالكلمة
أرى أن الجهاد بالكلمة في هذا الزمان من أخطر أنواع الجهاد وأعظمها؛ لأن الإعلام هو الذي يحرك العالم، فتكلم وانزع الإرجاف من قلوب المرضى، واملأ القلوب يقيناً، واملأ القلوب ثقة بالله، فمن منا جمع زوجته وأولاده وقعد معهم بالليل وبكى بينهم! ورفع أكف الضراعة بينهم؛ ليرفعوا خلفه أكف الضراعة، ودعوا الله أن ينصر المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين؟! أكثرنا لم يعمل ذلك، وإنما نحن (شطار) في الكلام، وأساتذة غيبة، وأساتذة نميمة، وكأننا ليس لنا عمل إلا ذلك، إلا من رحم ربي، وهؤلاء -والله العظيم- قلة، وأما الأكثر فلا تراهم مشغولين بعبادة، ولا بطاعة، ولا بعلم، ولا بدعوة، وإنما هم في غيبة ونميمة طوال النهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فلو كنت تحمل هماً في قلبك فوالله العظيم! إن قلبك ليكاد أن يحترق، ولن تجلس مع زوجة ولا مع ولد إلا وأنت تذكِّر بهذه القضية، فإذا كنت معهم على الطعام فقل لهم: انظروا كيف نأكل في أمن وفي أمان! وتصوروا -يا أولاد- لو سقط في هذا الوقت صاروخ على بيتنا فحطمه! وتناثرت أشلاؤنا وسالت دماؤنا! إن هذا المشهد يحدث كثيراً في فلسطين وفي غيرها! فعلم الطفل هذا الكلام، وعلمه الولاء والبراء، واغرس فيه بغض اليهود والكفار والمشركين، فمن منا قام بالليل يبكي ويتضرع إلى الله؟! وقد تكلمنا عن الجهاد، ولكن الكلام عن الجهاد سهل، وقلة قليلة هي التي تصدق مع الله، فقم وصل وادع، ولا تستهن بالدعاء.(60/7)
عظم شأن الدعاء
والله العظيم! لقد أخبرني أحد الإخوة في يوم الجمعة وقال لي: والله! يا شيخ محمد! لقد رأينا في الكعبة عجباً عجاباً! قال: كنا نطوف يوم الثلاثاء يوم أحد عشر حول الكعبة، وإذا برجل كبير السن، ذي لحية بيضاء، متعلق بأستار الكعبة وبكى، وارتفع صوته، وكأنما يتحدث بمكبر صوت! وصرخ وهو يقول: إله الحق! أرنا في أمريكا آية! إنها دعوة عجيبة! والله العظيم! إن الواحد ما زال يرتعش منها إلى الآن، وظل يرددها وبكى وصرخ، يقول: كل الناس في صحن الطواف سمعوا الدعوة، فالكل بكى وصرخ، وبعد ثلاث ساعات تقريباً تذيع الأخبار ما وقع في أمريكا! فلا تستهينوا بدعوة الضعيف الصادق؛ فإنها والله! سهم لا يُرد.
وأنا أعتقد أن ما وقع إنما هو استجابة من الله عز وجل لدعوة المظلومين المقهورين الصادقين، ممن تحترق قلوبهم ولا يملكون أن يقدموا شيئاً، والله يعلم السر وأخفى، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)، ومنزلة الشهادة منزلة عظيمة، فنريد أن نصدق.(60/8)
أنواع الجهاد
الجهاد أنواع: جهاد بالمال، وجهاد بالكلمة، وجهاد بالتربية على عقيدة الولاء والبراء، وجهاد بغرس اليقين في قلوب الأفراد، فإذا كنت موظفاً أو طبيباً أو أستاذ جامعة فلديك فرصة، فاغرس اليقين، وجدد العقيدة والإيمان في قلوب أفراد الأمة، فما أحوج الأمة في هذا الظرف إلى أن تجدد يقينها وإيمانها وثقتها بربها تبارك وتعالى!(60/9)
المستقبل للإسلام
لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع أن تقضي على الإسلام؛ لأن الإسلام باق وسيبقى، وسيهلك الله كل من يحارب الإسلام، وسيبقي الله الإسلام شامخاً؛ لأن الذي وعد بإبقائه هو الله الحي الباقي الذي لا يموت سبحانه وتعالى.
وأختم المحاضرة بهذه الكلمات الجميلة، وهو خبر نشرته مجلة (التايم) الأمريكية: يقول -وهذه ترجمة حرفية-: وستشرق شمس الإسلام من جديد ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي في هذه المرة لا تشرق من الشرق، وإنما تشرق من الغرب من قلب أوروبا! تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تزاحم أبراج الكنائس! في روما، ومدريد، ولندن، وباريس، وصوت الأذان كل يوم خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة! وأقول: المسلمون اليوم في قلب أوروبا أكثر من خمسة وخمسين مليون مسلماً، وهذا عدد لا يستهان به على الإطلاق، وقد أصبحوا مثل اللقمة التي لا يستطاع بلعها ولا مضغها! وهذا تقدير إلهي.
اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اللهم اهزم أحزاب الكفر، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم.
اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم.
اللهم احفظ إخواننا في أفغانستان، اللهم احفظ أهلنا في أفغانستان.
اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم.
اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك، واحرسهم برعايتك.
اللهم إنهم ضعاف فقوهم، اللهم إنهم أذلاء فأعزهم، اللهم إنهم أذلاء فأعزهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إن أهل الأرض قد تجمعوا عليهم فكن لهم يا ملك! يا قدير! اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، واغفر ذنبهم، واستر عيبهم، وفرج كربهم.
اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم.
اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم، اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم.
اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم احفظ أهلنا في فلسطين، اللهم عليك باليهود والأمريكان، اللهم عليك باليهود والبريطان، اللهم عليك بالروس والأمريكان، اللهم عليك بأعوانهم من أهل الكفر والنفاق يا قوي يا عزيز! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وتول أمرنا.
اللهم تول أمرنا، اللهم تول أمرنا، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى! يا منجي الهلكى! يا سامع كل نجوى! يا منقذ الغرقى! يا منقذ الغرقى! يا منجي الهلكى! يا منجي الهلكى! يا سامع كل نجوى! يا عظيم الإحسان! يا عظيم الإحسان! يا دائم المعروف! يا دائم المعروف! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا غياث المستغيثين! يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما يريد! يا من ملأ نوره أركان عرشه! أغث أمة حبيبك محمد، اللهم أغث أمة حبيبك محمد، اللهم فرج كربها، واكشف همها، وأزل غمها، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(60/10)
من أحكام الصيام
الصيام عبادة عظيمة، يجب على العباد العناية والاهتمام بها، ومن رام ذلك فإن عليه أن يتفقه في أحكامها، فيعلم أركانها وواجباتها ومستحباتها، ويعمل بها ويحرص على أدائها، ويعلم أيضاً مبطلاتها ومحرماتها ومكروهاتها، وبذلك يكون قد أدى هذه العبادة كما أمره الله تعالى، ويرجى له الأجر بغير حساب كما وعد الله بذلك.(61/1)
معنى الصيام وحكمه مشروعيته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أحبتي في الله، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! موضوعنا لهذا اليوم بإذن الله تعالى بعنوان: (من أحكام الصيام)، وسوف ينتظم حديثي في العناصر التالية: أولاً: معنى الصيام وحكمة مشروعيته.
ثانياً: أركان الصيام.
ثالثاً: مبطلات الصيام.
رابعاً: رخص الصيام وآدابه.
وأخيراً: أخطاءٌ في الصيام.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء يحتاجه كل مسلم ومسلمة.(61/2)
تعريف الصيام لغة وشرعاً
أولاً: معنى الصيام وحكمة مشروعيته.
الصيام لغةً: هو الإمساك والكفُ عن الشيء، كما قال الله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام.
والصيام شرعاً: الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.(61/3)
حِكَمُ مشروعية الصيام
حكم مشروعية الصيام كثيرة ولله الحمد والمنة، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمة بالغة، عَلِمَها من علمها، وجَهِلَها من جهلها، وليس جهلُنا للحكمة في عبادة من العبادات دليلاً على أنه لا وجود لها، بل هو دليلٌ على عجزنا نحن عن إدراك حكمة الله سبحانه وتعالى القائل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
ومِنْ ثَمَّ فإن من أعظم حكم الصيام على الإطلاق كما أخبر مُشرِّع الصيام جل وعلا: أنه سبب لتقوى الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فالصيام سبب لحصول التقوى، وهذه حكمة بالغة من حكمه العظيمة؛ ليتقي الصائم ربه جل وعلا.
والتقوى: هي وصية الله للأولين والآخرين من الخلق، وهي كما عرفها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
وهي كما عرفها طلق بن حبيب بقوله: هي أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
ورحم الله من ترجم هذه المعاني الجليلة فقال: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فالتقوى من أعظم ما يترتب على الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
والصيام يهيئ النفوس ويربيها على تقوى الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الصيام موكول ابتداءً وانتهاءً إلى نفس الصائم وضميره، إذ لا رقيب على الصائم إلا الله، ومن هنا يربي الصوم ملكة المراقبة في قلب الصائم لله جل وعلا، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ومن حكم الصيام البالغة أن الصوم يربي النفس، ويكسر شهواتها، ويحد من كبريائها، فتخضع للحق وتلين للخلق.
ومن حكم الصيام أيضاً: تذكير الأغنياء الذين يرفلون في نعم الله جل وعلا أن لهم إخواناً لا يتضورون جوعاً في نهار رمضان فحسب، بل إنهم يتضورون جوعاً في كل يوم على مدار العام، بل ومنهم من يموت من شدة الجوع والعطش! ومن ثم يتحرك أصحاب القلوب الحية، والنفوس الأبية، للبذل والإنفاق والعطاء.
أما فوائد الصيام الصحية فحدث عنها ولا حرج، ولعله لا يجهلها مسلم ولا مسلمة ولله الحمد والمنة، فما أعظم حكمة الله وأبلغها! وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(61/4)
أركان الصيام
ثانياً: أركان الصيام.(61/5)
الإمساك عن جميع المفطرات
الركن الثانى: الإمساك عن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِن الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] والمراد بالخيط الأبيض والأسود: سواد الليل وبياض النهار، لما ورد في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة:187] الآية قال عدي: (عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، وجعلتهما تحت وسادتي، وجعلت أنظر إليهما في الليل فلا يستبين لي شيء، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار).
فالركن الثاني: أن تمسك عن الطعام والشراب، وعن جميع المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الركن الثالث: هو الصائم نفسه، بشرط أن يكون مسلماً عاقلاً بالغاً قادراً على الصيام.(61/6)
النية
أول ركن من أركان الصيام هو: النية، والنية عمل من أعمال القلوب لا تصح عبادة على الإطلاق إلا بها، قال الله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
ويرى جمهور الفقهاء وجوب تبييت النية من الليل لصيام الفريضة، بمعنى: أنه يجب على الصائم أن يبيت النية ويعقدها من الليل لصيام الفريضة.
واستدل جمهور الفقهاء على ذلك بالحديث الذي رواه أصحاب السنن بسند صحيح من حديث حفصة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)، وهذا الحكم خاص بصيام الفريضة -أي: بصيام شهر رمضان، والنذر والقضاء ونحو ذلك- أما صيام النافلة فتجزئ فيه النية بليل أو بنهار ما دام الصائم لم يأكل شيئاً، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (هل عندكم شيء -أي: من الطعام؟ - فقلنا: لا.
فقال عليه الصلاة والسلام: فإني صائم) فصيام النافلة يجوز أن تعقد النية له من الليل ومن النهار، بشرط ألا تكون قد طعمت شيئاً.
أما صيام الفريضة فيجب عليك أن تعقد النية من الليل قبل الفجر.
وهنا سؤال ألا وهو: هل تكفي نية واحدة لصيام الشهر كله؟
الجواب
اختلف العلماء في ذلك على قولين: الأول للمالكية: حيث قالوا: إن نية واحدة في أول الشهر تكفي لصيام الشهر كله.
القول الثاني: وهو قول جمهور الفقهاء -وهو الراجح والله تعالى أعلم- أنه يجب على الصائم أن يبيت النية لكل يوم على حدة.
ولا يشترط في النية أن يتلفظ الصائم بها، ولو نسي التلفظ فلا يقال: إن صيامه غير صحيح؛ لأن النية محلها القلب كما قال الحبيب: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فضلاً عن أن سحور الصائم نية، والحمد لله على تيسيره وامتنانه.(61/7)
مبطلات الصيام
ثالثاً: مبطلات الصيام.
وهذه لمحات موجزة سريعة، وأبدأ بأشدها وأكبرها إثماً.(61/8)
الحيض والنفاس
خامساً: من مبطلات الصيام الحيضُ والنفاس للنساء، فإذا رأت المرأة دم الحيض أو دم النفاس في نهار رمضان في أول اليوم أو في آخره حتى ولو قبل أذان المغرب بلحظات بطل صومها وفسد، ووجب عليها أن تفطر، ويجب عليها بعد ذلك القضاء بعد الطهر، والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟! فقالت عائشة: (كان يصيبنا ذلك، فكنا نؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة).
فالحائض والنفساء إذا رأت دم الحيض أو دم النفاس -حتى ولو قبل الغروب بلحظات- وجب عليها أن تترك الصيام، وأن تفطر، وتقضي الأيام بعد الطهر، ولا حرج عليها ولا إثم؛ لأن حيضتها ليست بيدها كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
هذه هي أشهر مبطلات الصوم، والله تعالى أعلم.(61/9)
الأكل والشرب عمداً
المبطل الثالث من مبطلات الصيام: الأكل والشرب عمداً، فمن أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان بطل صومه، وعليه الإثم، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، أما من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، وصيامه صحيح، لما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه).(61/10)
القيء عمداً
المبطل الرابع من مبطلات الصوم: القيء عمداً، وهو أن يضع الإنسان أصبعه في فمه ليخرج ما في بطنه، فإن تقيء الصائم عمداً بطل صومه، ووجب عليه القضاء، أما إن ذرعه القيء -أي: غلبه القيء- بغير رغبة منه ولا اختيار فليتم صومه، وصيامه صحيح، لما رواه أبو داود والترمذي وصحح الحديث الحاكم في المستدرك، وصححه أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية في حقيقة الصيام، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء -أي: ومن غلبه القيء- فلا قضاء عليه).(61/11)
إنزال المني بشهوة
المبطل الثاني من مبطلات الصيام: إنزال المني بشهوة، أي: بغير جماع، فمن أنزل منيه بشهوة بدون جماع، عن طريق التقبيل أو المباشرة أو الملامسة أو الاستمناء باليد فهو آثم، وعليه القضاء دون الكفارة.
وبالمناسبة أود أن أقول: إن بعض الناس ربما يتحرجون من ذكر هذه الأحكام، وأنا أقول: عجباً! هل هناك على ظهر الأرض من هو أشد حياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كلا، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهو المبين لنا هذه الأحكام، والموضح لنا هذه الأحكام، فواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلم أحكام دينه ليعبد الله جل وعلا عبادة صحيحة راشدة، قالت عائشة رضي الله عنها: (رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن حياؤهن من أن يتفقهن في الدين).
أقول: إذا أنزل الرجل منيه بشهوة من غير جماع بطل صومه، ووجب عليه القضاء دون الكفارة، إذ لم تثبت الكفارة إلا في الجماع، ومن قال بغير ذلك فلا دليل معه، والله تعالى أعلم.
ودعوني أشير إلى بعض النقاط السريعة المتعلقة بهذا المبطل الثاني، وهو إنزال المني بشهوة، فكثيراً ما أسأل من الشباب، إذا نام الشاب في نهار رمضان واحتلم فما حكم صومه؟ أقول: إن صيامه صحيح، فليغتسل وليتم صومه ولا شيء عليه؛ لأن الاحتلام بغير إرادة منه ولا اختيار.
أيضاً: ما حكم من جامع زوجته في الليل ولم يغتسل حتى أذن الفجر؟ أقول: إن صيامه صحيح، فليغتسل وليقم ليصلي صلاة الفجر، ولو أذن عليه الفجر وهو جنب من أهله فلا إثم عليه ولا حرج، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يدركه الفجر وهو جنب من جماع أهله، ثم يغتسل ويصوم).
ونقطة ثالثة: ما حكم من قبل زوجته أو باشرها ولم ينزل؟ نقول: إن صيامه صحيح، ولكن يخشى عليه أن يقع فيما وراء ذلك، فإن قبل الرجل أهله أو باشر زوجته بدون إنزال فصيامه صحيح؛ لما ورد في الصحيحين من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان يقبل ويباشر وهو صائم، إلا أنه كان أملككم لإربه).(61/12)
الجماع في نهار رمضان
أول مبطلات الصيام: الجماع، فإن جامع الصائم زوجته في نهار رمضان بطل صومه، ووجب عليه القضاء والكفارة المغلظة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، وإن أفطر يوماً بين الشهرين وجب عليه أن يواصل وأن يستأنف الصيام من جديد مرة أخرى لتحصل له المتابعة، أما إن مر عليه في وسط الشهرين عذر شرعي، أو عذر حسي فلا حرج عليه أن يفطر، ثم يواصل الصيام، ولا يستأنف الصيام من جديد.
فإن مر عليه عذر شرعي كأيام العيدين -مثلاً- فحينئذ يجوز له أن يفطر وأن يواصل الصيام مرة أخرى، ولا يستأنف الصيام من جديد، وإن مر عليه عذر حسي كالمرض جاز له أن يفطر ثم يواصل الصيام مرة أخرى، ولا يستأنف الصيام من جديد.
واختلف العلماء في حكم الكفارة هل هي على الترتيب أم على التخيير؟ والراجح أن الكفارة على الترتيب، وهذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا على ذلك بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت! -وفي لفظ عن عائشة في الصحيح: قال: يارسول الله احترقت! - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مالك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا.
قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا.
يقول أبو هريرة: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما نحن كذلك إذ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق -أي: بمكتل فيه تمر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أين السائل؟ -وفي لفظ عائشة: أين المحترق آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: خذ هذا التمر وتصدق به.
فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها -أي: المدينة- أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه، وفي لفظ البخاري: حتى بدت أنيابه، ثم قال عليه الصلاة والسلام: خذ هذا فأطعمه أهلك).
والدليل من هذا الحديث: الترتيب في الكفارة، فجمهور الفقهاء يقولون: إن الكفارة على الترتيب لا على التخيير.
واختلف العلماء في حكم المرأة التي أكرهها زوجها على الجماع في نهار رمضان، والراجح -بدون تفريعات أقوال أهل العلم- أن المرأة التي يكرهها زوجها على الجماع في نهار رمضان يجب عليها القضاء فقط دون الكفارة؛ إذ لم يثبت دليل صحيح يلزمها بالكفارة في حالة الإكراه.(61/13)
رخص الصيام وآدابه
رابعاً: رخص الصيام وآدابه.
هناك رخص عديدة امتن الله جل وعلا بها على العباد؛ رفعاً للحرج ودفعاً للمشقة، منها: 1 - أنه يجوز للصائم المريض أن يفطر في نهار رمضان، وكذا للمسافر الذي يشق عليه الصوم لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
2 - ومن الرخص أيضاً: أنه يجوز للصائم استخدام السواك في كل وقت: قبل الزوال وبعد الزوال، هذا هو القول الراجح والصحيح من أقوال أهل العلم، أما قول بعض أهل العلم بعدم جواز استخدام السواك للصائم بعد الزوال فلا دليل عليه، أما حديث علي المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي) رواه البيهقي والدارقطني، فهو حديث ضعيف جداً لا يحتج به.
فالسواك مشروع للصائم في كل وقت من نهار رمضان.
أما احتجاج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فمن المعلوم لكل أحد أن رائحة الخلوف إنما تنبع من الجوف والبطن لا من الفم، فالسواك جائز للصائم في كل وقت من نهار رمضان، لاسيما في الأوقات الستة التي ورد النص بذكرها وتحديدها، وهي: عند الصلاة، والوضوء، وعند الاستيقاظ من النوم، ودخول المنزل، وعند قراءة القرآن، وعند تغير رائحة الفم.
هذه هي المواضع الستة التي ورد النص الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستاك فيها.
3 - ومن رخص الصيام: أنه يجوز للصائم أن يغتسل بالماء البارد؛ ليذهب عن نفسه حدة الحر أو حدة العطش؛ لما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأبو داود أنه صلى الله عليه وسلم (كان يصب الماء على رأسه وهو صائم من الحر أو من العطش).
4 - ومن رخص الصيام أيضاً: أنه يجوز للصائم -إن احتاج- أن يضع دواء كالقطرة -مثلاً- في أذنه أو في عينه في نهار رمضان، فلا حرج عليه على الإطلاق، حتى ولو وجد طعم القطرة في حلقه؛ لأن هذا الدواء ليس بأكل ولا بشرب، ولا في معنى الأكل والشرب.
5 - ومن رخص الصيام أيضاً: أنه يجوز للصائم الذي أصيب بمرض الربو أن يستخدم البخاخ في حالة أزمة تنفسه، وليتم صومه ولا حرج عليه ولا إثم؛ لأن هذا البخاخ ليس بطعام ولا شراب، ولا في معنى الطعام والشراب.
الحمد لله على تيسيره وفضله وامتنانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].(61/14)
آداب الصيام
أما عن آداب الصيام فنذكرها بإيجاز شديد: 1 - السحور؛ لما ورد في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (تسحروا فإن في السحور بركة)، ومن المستحب تأخير السحور لما ورد في الصحيحين من حديث أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة -أي: إلى صلاة الفجر- فقال أنس بن مالك لـ زيد بن ثابت: كم كان بين الأذان والسحور؟ فقال زيد: قدر خمسين آية) أي: بين السحور وبين الأذان، فالمستحب أن يؤخر الصائم السحور.
والسحور يحصل بكثير الطعام وقليله، بل ولو بجرعة ماء.
2 - تعجيل الفطر لقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر).
ومن السنة أن يكون إفطار الصائم على رطب، فإن لم يجد فعلى التمر، فإن لم يجد فعلى الماء.
3 - الدعاء، فإن كثيراً من الناس قد ينسى هذه السنة الطيبة، فإن للصائم دعوة لا ترد، فمن السنة أن يدعو الصائم عند إفطاره، ومن أصح ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه ما رواه أبو داود بسند حسن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا أفطر يدعو الله ويقول: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى).
4 - ومن آداب الصيام الواجبة لا المستحبة: ترك الغيبة والنميمة وقول الزور، فإذا صامت بطنك عن الطعام والشراب، وصام فرجك عن الشهوة؛ فلتصم جوارحك عن معصية الله تبارك وتعالى، وهذه هي الحكمة -أصلاً- من مشروعية الصيام، لا أن يدع الإنسان طعامه وشرابه فقط، بل ليتربى الإنسان على كل فضيلة، وعلى كل خلق، فالغيبة والنميمة وقول الزور أعمال محرمة في كل وقت، وتزداد حرمتها في رمضان.
أما قول بعض أهل العلم: إن الغيبة والنميمة تفطران الصائم، واستدلالهم على ذلك بحديث رواه الإمام أحمد في ذكر المرأتين اللتين أفطرتا لأنهما أكلتا لحوم الناس، فإن الحديث ضعيف، ولا دليل على أن الغيبة والنميمة تفطر الصوم، ولكن تزداد حرمتها في رمضان.
هذه بعض آداب الصيام المستحبة والواجبة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(61/15)
أخطاء في الصيام(61/16)
جعل رمضان فرصة للنوم والخمول والكسل
وأخيراً: من أخطاء بعض الصائمين أنهم يحولون شهر رمضان إلى فرصة للنوم والخمول والكسل، فترى كثيراً منهم يقضي النهار كله أو معظمه نائماً، ويضيع صلاة الجماعة والعياذ بالله، ليس هذا هو المقصود من الصيام، بل إذا ذكرت أحدهم ربما يحتج عليك بدليل شرعي، فيقول لك: (نوم الصائم عبادة)، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، ثم إنك لم تؤمر بالصيام لتنام، مع أنه لا حرج عليك أن تنام قسطاً وافياً يريح بدنك، ويعينك على أن تصوم وتقوم، أما أن تقضي النهار كله نائماً فلا.
هذه بعض أخطاء الصائمين، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صيامنا وقيامنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك، يا أرحم الراحمين! اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا وقفنا ببابك سائلين، ولمعروفك طالبين، فلا تردنا خائبين، برحمتك، يا أرحم الراحمين! اللهم إنا قد وفدنا إليك، ووقفنا بين يديك، فلا تجعلنا أخيب وفد وفد إليك، يا رب العالمين! اللهم اقبل منا الصيام والقيام والقرآن، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، واقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم وفق حكام المسلمين لكل ما تحبه وترضاه، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تؤزهم إلى الخير أزاً يارب العالمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(61/17)
سوء الخلق في التعامل مع الناس
أيضاً من الأخطاء التي يقع فيها بعض أحبابنا الصائمين: أننا نرى من الصائمين من يخرج عن حدود اللياقة، فتراه في نهار رمضان فظاً غليظاً سيء الخلق، سيء التعامل مع الآخرين من الموظفين أو من الجمهور، فإذا كان مسئولاً وقيل له: لماذا تتصرف هكذا؟! يقول: إني صائم! سبحان الله العظيم! وهل الصوم يحضك على الفظاظة؟! وهل الصوم يأمرك بالقسوة والغلظة؟! وهل الصوم يعلمك سوء التعامل مع الآخرين؟! كلا.
إن الصيام مدرسة عظيمة للتربية على كل فضيلة، وعلى كل خلق، ويجب أن تكون دائماً وأبداً ذاكراً لأمر وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والصيام جنة) أي: وقاية تقي الإنسان من كل شيء، من عذاب الله جل وعلا، بل ومن كل رذيلة في الدنيا: (الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم) متفق عليه، تذكر أنك صائم، ولا تحتج بالصيام على هذه الأفعال والأقوال النابية، وعلى هذه الأصوات العالية، وعلى هذه القسوة والفظاظة والغلظة، بل يجب أن يكون العكس، فإن الصيام يربي على الخلق والأدب، وعلى التواضع واللين والرحمة، وعلى كل فضيلة من فضائل الأخلاق.(61/18)
الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب
ثالثا: من الأخطاء التي يقع فيها بعض الصائمين، وهذا أمر ملفت للأنظار ومحزن في الوقت ذاته: الإسراف والتبذير في المآكل والمشارب، فما عليك إلا أن تنظر إلى سفرة لتجد عليها أصنافاً عديدة من ألوان الطعام والشراب، سبحان الله! هذا الأمر يخالف حكمة مشروعية الصيام أصلاً، ويزداد الإثم والذنب حين الانتهاء من الطعام بأكل القليل جداً، ثم تملأ سلة المهملات بما تبقى من الطعام والشراب، في الوقت الذي يموت فيه الآلاف من شدة الجوع والعطش ولا حول ولا قوة إلا بالله! ورحم الله من قال: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأفضال، وتنامون الليل ولو طال، وتدعون أنكم أبطال!! هيهات هيهات! نأكل ملء بطوننا، ونشرب ملء بطوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وننام ملء جفوننا، وندعي أنه إن لم ندخل الجنة نحن فمن يدخلها؟! ما أقل حياء من طمع في جنة الله ولم يعمل بطاعة الله!! إن سلف الأمة رضوان الله عليهم كانوا يصومون النهار، ويقومون الليل، وتورمت أقدامهم من القيام بين يدي الله جل وعلا، وبالرغم من ذلك كانوا يبكون ويرتعدون كعصفور مبلل بماء المطر خوفاً من لقاء الله جل وعلا.
ها هو فاروق الأمة عمر رضوان الله عليه يدخل عليه ابن عباس -كما في صحيح البخاري - وهو على فراش الموت، فيجد فاروق الأمة يبكي خوفاً ووجلاً، ويقول: (والله إني لأرجو أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي) فاروق الأمة يقول هذا! فينبغي ألا نسرف في المأكل والمشرب، وأقصد من هذا الاعتدال، فأنا لا أحرم طيبات ما أحل الله لعباده، بل أقصد بهذه الفقرة الاعتدال، فإننا أمة وسط، يجب علينا أن نكون وسطاً في كل شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فيجب علينا أن نكون معتدلين، وأن نكون وسطاً في المآكل والمشارب، استلذ بطيبات الله تبارك وتعالى، وبما أحل الله لك، لكن من غير سرف ولا تبذير، فإن الإسراف حرام.(61/19)
الجد في أول الشهر والتكاسل في آخره
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أخيراً: أخطاء في الصيام.
لا ريب أن الصائمين من أفضل عباد الله، ولكنْ هناك بعضُ الأخطاء يقع فيها بعضُ الصائمين نذكر بها: منها: أن بعض الصائمين يقبل على العبادة في أول الشهر إقبالاً طيباً، فيحرص على الصلوات في جماعة، ويحرص على صلاة الفجر، ويحرص على قراءة القرآن، ويحرص على الاستغفار، ويحرص على أن يكون وديعاً رقيقاً لطيفاً، فإذا ما انقضت الأيام الأول من الشهر تكاسل -والعياذ بالله- عن هذه العبادات، وعن هذه الأعمال والطاعات، وعن هذا الخير كله.
تذكر أيها الصائم الحبيب قول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث عائشة: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، فإن كنت ممن مَنَّ الله عليك بعبادة من العبادات في أول الشهر، فإياك أن تضيع هذه العبادة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح البخاري: (إنما الأعمال بالخواتيم)، إن مَنَّ الله عليك في أول الشهر بالحرص على صلاة الفجر في جماعة، وأداء الصلوات كلها مع الجماعة، وقراءة القرآن والذكر والاستغفار، والصدقة والبذل والجود والعطاء، فلا تبخل ولا تتوانى ولا تتكاسل، واعلم أن الأعمال بالخواتيم، أسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم حسن الخاتمة.(61/20)
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
كثير من المسلمين يقبلون على العبادة في رمضان، فإذا ولى رمضان تولوا عن العبادة، وكأن رب رمضان غير رب شوال!! والعبادة هي الغاية من الخلق، فيجب على المسلم أن يلزمها حتى يلقى ربه.(62/1)
انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في أول لقاء لنا بعد رمضان.
وسأرتب الحديث مع حضراتكم بإذن الله تعالى في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن.
ثانياً: حقيقة العبادة.
ثالثاً: لا تفارق العبادة حتى تلقى الله.
وأخيراً: أليس الله أهلاً لأن يعبد؟ فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أولاً: انتهى رمضان وبقي الرحيم الرحمن.
أحبتي الكرام! لقد انتهى شهر رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقبل فيه من قبل، وطرد فيه من طرد، فيا ترى من المقبول لنهنئه؟! ومن المطرود لنعزيه؟! نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من المقبولين.
انتهى هذا الشهر بأنفاسه الخاشعة الزاكية، لكن الذي يؤلم القلب أننا نرى إعراضاً وفتوراً عن كثير من الطاعات بعد انقضاء رمضان، فإن كثيراً من المسلمين لا ينطلقون للعبادة إلا في رمضان، ومع أول فجر من شهر شوال ترى كثيراً منهم قد تفلت من عبادة الكبير المتعال وكأنه يعبد رمضان لا يعبد رب رمضان! وأود دوماً في مثل هذا اللقاء الأول بعد رمضان أن أذكر بأن قضية العبادة لله تبارك تعالى ليست قضية هامشية ولا موسمية، ولكنها القضية الأولى التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، وأرسل من أجلها الرسل، وأنزل لأجلها الكتب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، لا شك أن الله قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، فأنت ترى الناس في رمضان يقبلون على الطاعة بأريحية عجيبة وسهولة كبيرة؛ وذلك بفضل الله ابتداء، ولبركة الاجتماع في الطاعة انتهاء.
فيا عين جودي بالدموع وودعي شهر الصيام تشوقاً وحناناً قد كان شهراً طيباً ومباركاً ومبشراً بالعفو من مولانا شهر يستجيب الله فيه لمن دعا ودليلنا قد جاءنا قرآنا شهر به الرحمن يفتح جنة للصائمين ويغلق النيرانا مرت لياليه الجميلة مسرعة كفيض يحمل رحمة وحنانا لله يا شهر التقى لا تنسنا واذكر لربك خوفنا ورجانا أيها الإخوة! أنا لا أنكر أن الله قد اختص رمضان بكثير من رحماته وبركاته، لكن الذي يؤلم القلب أن كثيراً من المسلمين يتخلى عن كثير من الثوابت الإيمانية بعد رمضان، فإن انتهى رمضان فقد بقي الرحيم الرحمن جل جلاله، وقد فرض العبادة على الموحدين في رمضان وفي غير رمضان، ومن ثم اخترت هذا العنوان: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فما هي العبادة؟ وما حقيقة العبادة؟ هذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز بعد هذه المقدمة المختصرة.(62/2)
حقيقة العبادة
العبادة معناها في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد، أي: طريق مذلل قد وطأته الأقدام، ولكن العبادة التي أمرنا بها تتضمن إلى معنى الذل معنى الحب، فمن خضع لله تبارك وتعالى بغير حب فليس عابداً لله، ومن ادعى أنه يحب الله دون استسلام لأمره ونهيه فليس عابداً لله، بل العبادة هي: كمال الحب لله مع كمال الذل لله جل وعلا، وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجيران، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، ودروس العلم، والدعوة إلى الله، والتوكل على الله، والصبر لحكم الله، والشكر لله، والخوف من الله، والرجاء، والتفويض، والتوكل، والاستغاثة، والاستعانة، والإنابة، والابتسامة، والعمل الصادق، كل هذا من العبادة.
فالعبادة تسع الحياة كلها إن صحت النية، وكان العمل موافقاً لهدي سيد البشرية، ومن أعظم الأدلة النبوية على هذه الرحمة الندية ما رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الثور بالأجور -أهل الدثور هم أصحاب الأموال-، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -أي: بما زاد من أموالهم-، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل امرأته صدقة-، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام، أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فإن وضعها في الحلال فله فيها أجر).
فالعبادة ليست أمراً على هامش الحياة، بل تسع العبادة الحياة كلها إن صحت النية، وكان العمل موافقاً لهدي سيد البشرية صلى الله عليه وسلم، فلا تفهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، ولا ينبغي أن نصرف العبادة لله تعالى في شهر دون شهر، وفي زمان دون زمان، بل مقتضى العبودية لله تعالى أن يقول الرب جل جلاله: أمرت ونهيت، وأن يقول العبد المؤمن: سمعت وأطعت، هذا مقتضى العبودية، وهذا شعار المؤمن في أي أرض وتحت أي سماء وفي أي زمان: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
أما شعار المنافقين: فهو السمع والعصيان، هو السمع والأعراض، هو الصد عن دين الله وعن عبادته جل وعلا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:60 - 61]، فمقتضى الإيمان: أن يسلم المؤمن قلبه وعقله وحياته للمصطفى؛ ليقوده إلى سعادة الدارين بوحي الله المعصوم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5].
فالمؤمن الصادق ممتثل للأمر، مجتنب للنهي، وقاف عند الحدود في رمضان وفي غير رمضان؛ لأنه يمتثل أمر الله لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وهذا هو عنصرنا الثالث: لا تفارق العبادة حتى يأتيك اليقين، أي: حتى تلقى الله.(62/3)
لا تفارق العبادة حتى تلقى الله
المؤمن يعبد الله حتى يلقى الله وهو على عبادة، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم اليقين بالموت كما في صحيح البخاري في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه، وعثمان بن مظعون ممن شهد بدراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهو أول من لقب بالسلف الصالح، وكان من الزهاد العباد، وثبت في رواية في سندها ضعف: (أن عثمان بن مظعون لما مات ذهب إليه المصطفى فقبله بين عينيه، وبكى حتى سالت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي عثمان بن مظعون رضي الله عنه)، هذا الصحابي الجليل المبارك (لما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها أم العلاء: رحمة الله عليك أبا السائب -تقصد عثمان بن مظعون - شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال لها المصطفى صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت أم العلاء: سبحان الله! فمن يا رسول الله؟! -أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم الله عثمان بن مظعون؟! - فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين -يعني: الموت- وإني لأجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم!).
يا من غرتك عبادتك! ويا من غرتك طاعتك! ويا من ملأ قلبك العجب والكبر! ويا من غرك علمك! هاهو رسول الله أعرف الناس بالله، وأخشى الناس لله، وأتقى الناس لله، الذي غفر له مولاه ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: (والله ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم)، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة يا أرحم الراحمين.
فاليقين هو الموت، فأنت مأمور أيها الموحد لله جل وعلا، وأيتها الموحدة لله جل وعلا؛ نحن مأمورون بأمر الله لنبيه أن نعبد الله جل جلاله حتى يأتينا اليقين، حتى يأتينا الموت ونحن على عبادة وطاعة لرب العالمين.
قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته) أي: داوم عليه وحافظ عليه.
وفي الصحيحين من حديث عائشة مرفوعاً: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل: آمنت بالله ثم استقم).
استقم أيها الموحد لله استقم على العبادة استقم على الطاعة، لا ينبغي أن يروغ المؤمن روغان الثعالب، إن المؤمن مستقيم ثابت على طاعة الله، حتى ولو زلت قدمه بالمعصية، فإنه سرعان ما يجدد الأوبة والتوبة إلى الله جل وعلا: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وفي رواية الترمذي وأحمد: (قال: حدثني بأمر أعتصم به؟ قال: قل: ربي الله ثم استقم، قال: فما أخوف ما تخاف علي يا رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه، وقال: أخوف ما أخاف عليك هذا، وأشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى لسانه).
فاستقم على طاعة الله، واعلم بأن الاستقامة على عبادة الله جل وعلا فضلها عظيم في الدنيا قبل الآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على منهج الله على العبادة على الطاعة، (تتنزل عليهم الملائكة) متى؟ قال مجاهد وزيد بن أسلم: تتنزل عليهم الملائكة وهم على فراش الموت، في لحظات السكرات والكربات، في لحظات شديدة قاسية، تألم منها نبينا المصطفى نفسه، حتى قالت الصديقة بنت الصديق: والله لا أكره شدة الموت لأحد بعدما رأيت رسول الله.
في هذه اللحظات تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة، على أهل العبادة والطاعة بهذه البشارة الكريمة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) من أنتم يا أصحاب هذه البشارة؟ سيأتي
الجواب
( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا) أي: في الجنة، (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) أي: ما تريدون وما تطلبون، (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً من الله جل جلاله.
قال ابن عباس وقتادة وابن أبي حاتم: تتنزل الملائكة على أهل الإيمان والاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور، في يوم الفضيحة الكبرى، نسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة، يوم يقوم الناس جميعاً إلى القبور حفاة عراة غرلاً، فإذا خرج أهل الاستقامة على طاعة الله وعبادة الله من القبور تلقتهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة الكريمة: (أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) * (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) * (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
ولا تعارض في الجمع بين القولين: فالملائكة تتنزل بالبشارة على أهل الاستقامة، على أهل الطاعة إذا ناموا على فراش الموت، وإذا خرجوا من القبور مرة أخرى، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
لا تفارق العبادة حتى تلقى الله جل وعلا، ولو علم الواحد منا أن الموت لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل لظل في طاعة الله وفي عبادة الله حتى يأتيه هذا الغائب الذي لا علم لأحد بقدومه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
والله لا أعلم يقيناً هو أشبه بالشك من الموت لعدم استعدادنا له.
هل من المسلمين أحد أو من المسلمات إلا والكل يعلم أنه سيموت؟ الموت حق لا مراء فيه ولا شك، ولكن من من المسلمين استعد لهذا اليقين بالطاعة والعبادة؟ لو جاء ملك الموت لأحدنا الآن فهل هو على استعداد بعمله الذي هو عليه للقاء الله؟ كان السلف رضوان الله عليهم إذا جاء أحدهم ملك الموت ربما لا يجد عنده من الطاعة ما يزيد؛ لأنه ممتثل للأمر، مجتنب للنهي، منتظر للقاء الرب جل جلاله في أي لحظة من اللحظات! فاعبد الله حتى يأتيك اليقين، حتى يأتيك الموت، وإذا كنت لا تدري متى سيأتيك الموت فاجعل كل أنفاسك طاعة لله، واجعل كل حياتك وحركاتك وسكناتك عبادة لله، وامتثالاً لأمره جل في علاه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
ولله در القائل: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22].
(وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أنك تموت والله حي لا يموت، (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، (وجاءت سكرة الموت بالحق) والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، (ذلك ما كنت منه تحيد) أي: تجري وتهرب وتفر.
تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الصغير! ويا أيها الفقير؟! كل باك فسيبكى وكل ناع فسينعى وكل مدخور سيفنى وكل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى أيها الغافل! أيها اللاهي! أيها الساهي! يا من تركت القرآن بعد رمضان! يا من تركت الصلاة في جماعة بعد رمضان! يا من تحللت من الأوامر بعد رمضان! يا من تخليت عن الحساب بعد رمضان! يا من ضيعت قيام الليل بعد رمضان! يا من تركت الأذكار! يا من تخليت عن الصدقة في سبيل العزيز الغفار! (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل ف(62/4)
أليس الله أهلاً لأن يعبد؟
أليس الله أهلاً لأن يعبد؟! أليس الله أهلاً لأن يوحد؟! أليس الله أهلاً لأن يمجد؟! أليس الله أهلاً لأن يطاع؟! أليس الله أهلاً لأن نستحيي منه؟! أليس الله أهلاً لأن نراقبه؟! أليس الله أهلاً لأن نمتثل أمره ونجتنب نهيه ونقف عند حدوده على الدوام حتى نلقاه؟! هذا هو عنصرنا الرابع: أليس الله أهلاً لأن يعبد؟ أيها الجاحد بعبادة الله! أيها المنحرف عن أوامر الله! أيها البعيد عن طاعة الله! هل أحسن إليك بشر من الخلق وأنكرت إحسانه؟ بل تظل تعترف له طوال حياتك بالإحسان، فمن الذي أحسن إليك وأنت في العدم؟! ومن الذي أحسن إليك الآن؟! ومن الذي سيحسن إليك في الآخرة؟! من صاحب الإحسان؟! من صاحب النعم؟! من صاحب الفضل؟! من صاحب الكرم؟! من صاحب الجود؟! من الذي خلقنا من العدم وصورنا في أحسن صورة؟! من الذي أنزل علينا القرآن؟! من الذي بعث لنا محمداً عليه الصلاة والسلام؟! من الذي خلقنا موحدين وجعلنا من أمة سيد المرسلين؟! من الذي خلق لنا الكون وأمده بهذه النعم التي لا تعد ولا تحصى؟! من الذي خلقك في أحسن صورة؟! نظرك في نفسك يكفيك دليلاً على أن الذي يستحق أن يعبد على الدوام هو الله، ونظرك في الكون من حولك يكفيك دليلاً على أن الذي يستحق العبادة على الدوام هو الله، فالله أهل لأن يعبد، الله أهل لأن يوحد لذاته جل جلاله (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فوالله ما قدرنا الله حق قدره، والله ما قدرنا الله حق قدره، والله ما قدرنا الله حق قدره.
جاء حبر من أحبار اليهود للمصطفى -والحديث في صحيح مسلم - فقال: (يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله تعالى يجعل السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بآيات إذا حاولت تفسيراً لها أعياك قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث من ذا الذي صفاك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بآيات إذا حاولت تفسيراً لها أعياك من الذي يستحق أن يعبد؟! الله اسم لصاحبه كل كمال، الله اسم لصاحبه كل جمال، الله اسم لصاحبه كل جمال، الله هو الاسم الذي تستجاب به الدعوات، الله هو الاسم الذي تستنزل به الرحمات، الله هو الاسم الذي تقال به العثرات، الله هو الاسم الذي من أجله قامت الأرض والسماوات، الله هو الاسم الذي من أجله.
أنزل الكتب وأرسل الرسل.
الله اسم ما ذكر في قليل إلا كثره، الله اسم ما ذكر عند خوف إلا أمنه، الله اسم ما ذكر عند كرب إلا كشفه، وما ذكر عند بطش إلا أزاله.
الله هو الذي يستحق أن يعبد وحده، وأن يمتثل لشرعه وحده، وأن يسمع له وحده، وأن يطاع وحده، وأن يراقب وحده، وأن يتوكل عليه وحده، وأن يحلف به وحده، وأن يستغاث به وحده، وأن يلجأ إليه وحده، وأن يفوض إليه وحده، وأن يسأل وحده، أئله مع الله؟! أئله مع الله؟! أئله مع الله؟! {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، فالذي يستحق أن يعبد وحده هو الله جل جلاله، لا في رمضان فقط، بل على الدوام حتى نلقاه.
أسأل الله أن يختم لنا ولكم برضاه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(62/5)
العبادة غاية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لا بد أن نعلم أن المنهج التعبدي من صيام وقرآن وصلاة وذكر وإنفاق وقيام لليل؛ إنما هو للوصول إلى هذا المنهج العقدي الإيماني.
فالعبادة -أيها الأحبة- غاية من أجلها خلق الله الخلق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، الهدف من هذه الغاية وهذا المنهج من صلاة وصيام وزكاة وحج؛ أن يرتقي المؤمن بهذا المنهج التعبدي إلى المنهج العقدي الإيماني، فنحن لا نريد أن نتعبد بعيداً عن هذا المنهج الإيماني العقدي؛ لأننا نريد للأمة الآن أن ترتقي بعبادتها هذه إلى المرتبة التي تكون بها أهلاً لنصر الله، فكم من مصل يصلي، وكم من صائم يصوم، وكم من قارئ للقرآن يتلو، وكم من قائم لليل يقوم، لكن لماذا منع الله النصرة عن الأمة؟! لماذا منع الله العزة عن الأمة؟! لماذا لم يمكن الله للأمة في الأرض ولم يستخلفها إلى الآن، مع أننا نرى المصلين والقارئين والمنفقين؟! أقول: أريد أن نرتقي بهذا المنهج التعبدي إلى المنهج العقدي الإيماني الذي نحقق به حقيقة الإيمان لنكون أهلاً للنصرة والعزة والاستخلاف والتمكين، قال الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ولم يقل: نصر المصلين، ولا المتصدقين، فلا بد أن تورثك الصلاة حقيقة الإيمان، لا بد أن يرفعك هذا المنهج التعبدي إلى الإيمان الحق.
فلنرب أنفسنا وأولادنا وبناتنا ونساءنا على هذا المنهج، التعبد من أجل أن نحقق الإيمان: نصوم، ونصلي، ونقرأ القرآن، ونقوم الليل إلى آخر أفراد المنهج التعبدي لنحقق الإيمان، لنكون أهلاً لنصرة الرحمن، لنكون أهلاً للعزة والاستخلاف والتمكين.
أيها المصلي! لا تخرج من المسجد لتضع المنهج التعبدي الذي كنت عليه في بيت الله على عتبة بيت الله، فتكون في العمل والتجارة إنساناً آخر يختلف اختلافاً كلياً عما كنت عليه في المسجد، هذا هو حال كثير من المسلمين الآن، يصلي، ويصوم، ويخرج لأداء العمرة في رمضان، ولربما يسافر للحج، ولكنه قد أغلق الجانب التعبدي على نفسه، فإذا انطلق إلى الحياة الفسيحة الواسعة الرحبة يتفلت من أوامر هذا المنهج التعبدي الذي ألزم به نفسه داخل بيوت الله تبارك وتعالى: فترى امرأته متبرجة، وترى بناته متبرجات، وتراه يتعامل بالربا، وتراه يأكل الحرام، وتراه يسيء إلى الوالدين، وتراه يسيء إلى مرءوسيه أو إلى موظفيه، وتراه يؤذي جيرانه، وتراه يتورع عن أكل الحلال الطيب وهو صائم ولا يتورع عن أكل لحوم إخوانه وأخواته في الليل والنهار.
لا يمكّن الله عز وجل لنا ونحن على هذه الحال أبداً، بل لا بد أن نعلم أن هذا المنهج التعبدي بأفراده وجزئياته هو لنحقق الإيمان الحق، فرب ولدك، ورب امرأتك، ورب نفسك بهذا المنهج التعبدي؛ لتصل إلى حقيقة الإيمان، لتحقق الإيمان، فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكنه: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.
ووالله لن نحقق نصرة أو عزة أو استخلافاً أو تمكيناًَ إلا إن حققنا الإيمان؛ لأن الله وعد بكل ذلك لمن حققوا الإيمان: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
هذا المنهج لا يجوز لك البتة أن تتخلى عنه حتى تلقى الله: الصلاة في جماعة الورد اليومي القرآن قيام الليل قيام الليل هو المدرسة التي أغلقتها الأمة فذلت، وخرجت منها الأمة فهانت.
أقول: كم من المسلمين يتركون قيام الليل، أقول هذا وأنا أعي تمام الوعي أن كثيراً من المسلمين الآن لا يصلون الفجر، أسقطوا فريضة من فرائض الله مع الإصرار، يضبط المسلم ساعة الوقت على وقت العمل ويسقط صلاة الفجر! النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث بريدة -: (من ترك صلاة واحدة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله)، مع سبق الإصرار والترصد يسقط صلاة الفجر.
حافظ على الصلاة في جماعة قراءة القرآن قيام الليل تجديد التوبة المحافظة على الأذكار المحافظة على الأوراد اليومية المداومة على الذكر والاستغفار الحرص على البذل والإنفاق التذكير للنفس الأمارة بالسوء دوماً على أنك عبد لله كما كنت تذكرها وأنت صائم: اللهم إني صائم، اللهم إني صائم، فلتذكرها الآن: اللهم إني عبد لله، اللهم إني عبد لك فأعني، اللهم إني عبد لك فأعني، فكن دوماً على طاعة، وإن زلت قدمك لبشريتك فما عليك إلا أن تجذب ثيابك من بين أشواك المعاصي والذنوب، وأن تطهرها بدموع الأوبة والتوبة والندم، وأنت على يقين مطلق أن الله جل وعلا سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك.
هذا هو حال المؤمن دوماً حتى يلقى الله سبحانه وتعالى وهو ممتثل لأمره: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم إني أسألك ألا تخرجنا اليوم من هذا المكان جميعاً إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، برحمتك يا عزيز يا غفور.
اللهم تقبل منا صالح الأعمال، واغفر لنا ذنوبنا، واستر علينا عيوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.
اللهم إنا نسألك جميعاً أن تذيقنا جميعاً برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.
اللهم كما آمنا بالمصطفى ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، وأوردنا حوضه الأصفى، واسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا أرحم الراحمين.
اللهم إني أسألك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وفي الشيشان، وفي الفلبين، وفي كشمير، وفي كل مكان.
اللهم إني أسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ به أن أذكركم به وأنساه.
ولا أنسى أن أذكر أحبابي وإخواني بإخراج الحق الذي عليهم لله تبارك وتعالى لهذا المسجد الطيب المبارك؛ وذلك للدعوة، ولطبع بعض الكتيبات الهادفة النافعة إن شاء الله عز وجل.
نسأل الله أن يجعل المال في أيدينا لا في قلوبنا، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقم الصلاة.(62/6)
وهذا حق اليقين
كم هي الأمة اليوم بحاجة إلى أن تقوي يقينها بالله، فإن منزلة اليقين من الإيمان كمنزلة الروح من الجسد، وهذه المنزلة هي ميدان التفاضل بين الناس، كل بحسب درجته ومقامه في هذه المنزلة.
وإن من أروع من حقق اليقين أنبياء الله جل وعلا ومن سار على نهجهم من أتباعهم؛ ولذلك مكنهم الله تعالى في الأرض ونصرهم، ووعدهم في الآخرة بجنات النعيم.(63/1)
منزلة اليقين وعلاماته
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الأعزاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! لماذا هزمت الأمة؟! لماذا تحكم في الأمة أخس أهل الأرض من اليهود؟! لماذا صارت الأمة ذليلة لمن كتب الله عليه الذل؟! هل لأن الأمة فقيرة؟! هل لأن الأمة قليلة؟! هل لأن الأمة لا تملك العقول التي تفكر وتبدع؟! هل لأن الأمة لا تملك الثروات الطائلة والمناخ الرائع الجيد؟!
الجواب
لا، الأمة ليست فقيرة، وليست قليلة العدد، وليست فقيرة لا تملك العقول والأدمغة المبدعة.
إذاً: ما السر في هزيمة الأمة وتحكم أخس أهل الأرض فيها؟! والجواب: أن أمتنا تحتاج إلى اليقين.
إن الأمة الآن بحاجة إلى أن تجدد ثقتها في الله، وإلى أن تجدد يقينها في الله، وإلى أن تتبرأ من كل حول وطول إلا من حول الله وطوله، وإلى أن تردد بلسانها وقلبها وأعمالها: اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ونبرأ من الأمل إلا فيك، ونبرأ من التسليم إلا لك، ونبرأ من التفويض إلا إليك، ونبرأ من التوكل إلا عليك، ونبرأ من الصبر إلا على بابك، ونبرأ من الذل إلا في طاعتك، ونبرأ من الرهبة إلا منك.
أمتنا تحتاج إلى اليقين، هذا هو موضوعنا في هذا اليوم العظيم، وسوف أركز الحديث في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية: أولاً: منزلة اليقين وعلاماته.
ثانياً: أوجه اليقين ودرجاته.
ثالثاً: شموس في سماء اليقين.
وأخيراً: أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(63/2)
منزلة اليقين
أيها الأفاضل! لا قيمة لأي دعوة، ولا قيمة لأي عمل مالم تتشرب قلوبنا حلاوة اليقين، فما هو اليقين وما هي علاماته؟ اليقين هو: العلم وزوال الشك، قال ابن القيم: ومنزلة اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العالمون، وإليه شمر العاملون، وفيه تنافس المتنافسون، وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما الإمامة في الدين، كما قال رب العالمين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
وخص الله أهل اليقين بالانتباه في الآيات والبراهين، قال رب العالمين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20].
وخص الله أهل اليقين بالهدى والفلاح، قال جل في علاه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1 - 5].
بل وبين ربنا أن أهل النار ما كانوا من أهل اليقين، قال رب العالمين: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].(63/3)
علامات اليقين
فما هي علامات اليقين؟ النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إلى الله في كل أمر، والاستعانة بالله في كل حال.
أيها الفضلاء! إن اليقين ليس كلمة يرددها عالم أو داعية، إن اليقين دين كامل ومنهج حياة شامل، فما قيمة الدعوة إن لم تكن على يقين مطلق بالثقة في وعد الله، ووعد الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اليقين له علامات، علاماته: النظر إلى الله في كل شيء، بأن تراقب الله في سرك وعلنك: (احفظ الله يحفظ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف).
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، النظر إلى الله في كل شيء، والرجوع إلى الله في كل أمر، فأنظر: هل قولي هذا يرضي الله؟! هل نظري هذا يرضي الله؟! هل مدخلي ومخرجي يرضي الله؟! هل سكوني وسكوتي يرضي الله؟! وهكذا يرجع المؤمن صاحب اليقين إلى الله في كل شيء، ويستعين بالله في كل حال، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال.(63/4)
أوجه اليقين ودرجاته
فما هي أوجه اليقين ودرجاته؟ أما أوجه اليقين ودرجاته فقد نقل ابن القيم رحمه الله عن أبي بكر الوراق رحمه الله قال: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر.
ويقين دلالة.
ويقين مشاهدة.(63/5)
يقين الخبر
يقين خبر: وهو سكون القلب إلى الخبر ووثوقه به، فكيف يكون السكون؟! وكيف تكون الثقة لخبر عن الله وعن الصادق رسول الله؟! هل ارتقت الأمة إلى درجة يقين الخبر؟! هل تصدق الأمة الآن بأخبار ربها ونبيها؟! والجواب بملء الفم وأعلى الصوت: لا، إلا من رحم ربك من أفراد الأمة، انظر إلى واقع الأمة لتعلم علم اليقين أن الأمة الآن -إلا من رحم ربك من أفراد، وأسأل الله أن نكون من هذه القلة الموقنة- تثق في بعض دول الأرض أكثر من ثقتها في رب السماء والأرض! ما زالت الأمة إلى هذه اللحظة تعتقد أن حل قضيتها عند الشرق الملحد أو الغرب الكافر.
جربت الأمة الشرق فذلت، وجربت الأمة الغرب فهانت، وإلى هذه اللحظة ما جربت أن تلجأ إلى ملك الملوك، وأن تثق فيه وحده، وأن تمتنع به وحده، وأن تحتمي به وحده، وأن تلجأ إليه وحده، وهي على يقين مطلق بالثقة في أخباره سبحانه وفي أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم! فيقين الخبر هو سكون القلب ووثوقه بالخبر، فكيف يكون اليقين؟! وكيف تكون الثقة إذا كان الخبر عن الله جل وعلا وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؟! قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال في حق حبيبه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
وقال تعالى في حق حبيبه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، هل تعلم أن هذه الآية نزلت في شأن الكفار؟! فلقد انفرد الأخنس بن شريق بـ أبي الحكم في الشام بعد غزوة بدر، وقال الأخنس لـ أبي جهل: يا أبا الحكم لا يسمعنا أحد، أسألك بالله أمحمد صادق أم كاذب؟ فقال أبو جهل: ويحك يا أخنس، والله إن محمداً لصادق، والله إن محمداً لصادق، فنزل قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
فيقين الخبر أن تثق في خبر الله، وفي خبر رسول الله صلى الله عليه وآله ومن والاه.(63/6)
يقين الدلالة
أما يقين الدلائل: فمع أن الخبر من عند الله، ومع أن الخبر من عند الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فإن الله تعالى يقيم الأدلة على صدق أخباره وصدق أخبار رسوله، انظر معي إلى يقين الدلالة، تجد أن الله جل وعلا هو الذي يخبر: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، ورسول الله هو الذي يحدث، ومن أصدق من رسول الله في دنيا البشر، ومع ذلك يقيم الله الأدلة والبراهين على صدق خبره، وعلى صدق خبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، انظروا إلى هذه الأدلة التي تراها العين، وتحسها الجوارح؛ لتخلص الآية الكريمة إلى هذا السؤال المنتقل من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:61 - 62] إلى آخر هذه الآيات الكريمة، فالله يقيم الأدلة والبراهين على أنه لا يستحق أن يوحد إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد في الكون إلا الله.
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:75 - 79].
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداك ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناك الكون مشحون بأسرار إذا حاولت تفسيراً لها أعياك قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهو بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطى وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك وسل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك وإذا رأيت البدر يسري ناشراً أنواره فاسأله من أسراك وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواك وإذا رأيت النار شب لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراك وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً قمم السحاب فسله من أرساك {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60].
سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا سل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا ولو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، وقال جل في علاه: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33 - 40].
أيها المسلمون! {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، والأدلة كثيرة، هذا يقين الدلالة، فمع أن الذي يخبر هو الله إلا أنه يقيم الأدلة والبراهين على صدق خبره وعلى صدق خبر رسوله الذي ما عرفت البشرية أصدق منه، قال عبد الله بن عمرو والحديث في مسند أحمد بسند صحيح: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: إن رسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال عبد الله بن عمرو: فأمسكت عن الكتابة -أي: امتنعت عن الكتابة- وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الصادق: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ودائماً أضرب هذا المثال ولا أمل من تكراره وطرحه، ألا وهو حديث سيد الخلق في الصحيح: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه أو لينزعه، فإنه يحمل -أي: الذباب- في أحد جناحيه الداء وفي الآخر الدواء)، وقد قيل: إن هذا الحديث يصطدم مع العقل! وأنه لا يتفق مع حضارة العقل! ورد على رسول الله خبره وهو الصادق! وقد كان من الواجب عليك فقط أن تسأل: هل هذا الحديث صحيح؟ فإن تبين لك بالأدلة التي وضعها جهابذة علم الحديث أن الحديث ثابت عن الصادق، فكان من الواجب بعد ذلك أن تسلم به ولو لم يدرك عقلك معنى كلام رسول الله؛ لأنني أرى الآن ثورة وهجمة شرسة في كل وسائل الإعلام على ثوابت الدين، وصار الدين الآن ألعوبة، فكل واحد يتكلم في أي جانب من جوانب الشرع، في الوقت الذي يشاء وبالقدر الذي يشاء، ويمضي آمناً مطمئناً وكأنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق! ولا يدري أن كثيراً من ضعاف العلم وضعاف الإيمان قد تشككوا واهتزت عقيدة التوحيد في قلوبهم.
فخرج علينا عالم من جامعة هام بألمانيا يسمى بريفلز وقد وصل إلى هذا العالم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابق وأجرى دراسة علمية، فوجد أن الذبابة تحمل نوعاً من أنواع الجراثيم على جناح من جناحيها، وهو الجناح الذي تسقط عليه، ووجد أن الذبابة تفرز نوعاً من أنواع الجراثيم التي تسبب أمراضاً خطيرة كحمى التيفود والدوسنتاريا وغير ذلك.
فلما أتم البحث العلمي وجد أن الذبابة في نفس الوقت تحمل على الجناح الآخر ومنطقة البطن نوعاً من أنواع الفطريات سماها هذا العالم أميوزموسكي، وهذا الفطر أيها الأفاضل! كفيل بقتل هذه الجراثيم التي تفرزها الذبابة من جناحها الأول، بل قال: إن جراماً واحداً من فطر أميوزموسكي، يحمي ألفين لتراً من اللبن من الجراثيم! ولكن العجب العجاب أنه وصل إلى أن الذبابة لا تفرز هذا الفطر المضاد للجراثيم إلا إذا غمست الذبابة كلها في السائل! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم، أولما جاءنا الوحي من عند رسول الله كذبناه فلما جاءنا من ألمانيا صدقناه! هل هذا يرضي الله؟! لما جاءنا الوحي من عند سيدنا رسول الله كذبناه أو أنكرناه أو تشككنا فيه ورددناه، فلما جاء إثبات صدق رسول الله من ألمانيا قبلناه؟!(63/7)
يقين المشاهدة
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7]، الله جل وعلا يخبر ويقدم الأدلة على صدق خبره وخبر رسوله؛ لينتقل بعد ذلك القلب من يقين الخبر ويقين الدلالة إلى يقين المشاهدة، هذا هو الذي تحتاج إليه الأمة الآن.
يقين المشاهدة هو: أن يتعايش المسلم مع كل أخبار الله وكل أخبار رسول الله وكأنه يشاهدها بعينه، فإذا أخبر الله جل وعلا بأن الجنة للمتقين، وبأن النار للغاوين وللمشركين، فينبغي للمسلم بعد ذلك أن يتعايش مع هذه الأخبار وكأنه يشاهدها مشاهدة العين، لذلك قال أحد الصالحين: لقد رأيت الجنة والنار، قالوا: كيف ذلك يا رجل؟! قال: رأيت الجنة والنار بعين رسول الله، ورؤيتي لهما بعين رسول الله أصدق عندي من رؤيتي لهما بعيني؛ لأن بصري قد يزيغ وقد يطغى، أما بصر النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال فيه الرب العلي: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
يقين المشاهدة: إذا أخبرنا ربنا تعاملنا مع الخبر وكأننا نشاهده.(63/8)
شموس في سماء اليقين(63/9)
سيدنا نوح عليه السلام
لتتذوق معي حلاوة اليقين، وتتصور نوحاً وهو يصنع الفلك فوق الرمال! {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]، وكان ذلك بأمر من الله جل وعلا: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود:37]، يصنع الفلك، ولكن أين الماء؟! ليس هذا من شأنك، كن على يقين في خبر الله.
ولما جد الجد تضرع إلى الله بهذا الدعاء: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، اللهم إنا مغلوبون فانتصر.
ثم انظر إلى ثمرة اليقين: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:11]، ولم يقل ربنا: ففتحنا من أبواب السماء، بل: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:11 - 12]، ولم يقل ربنا: وفجرنا من الأرض عيوناً، بل: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:12]، أي: ماء السماء مع ماء الأرض، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:12 - 14].(63/10)
سيدنا إبراهيم عليه السلام
وهذا نبي الله إبراهيم يلقى في النار، وينزل الله إليه جبريل وهو في النار ويقول له جبريل: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فيرد إبراهيم بقولة خالدة: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا هو الثابت الصحيح كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]).(63/11)
سيدنا موسى عليه السلام
وهذا نبي الله موسى، يرى فرعون وجنده وراءه والبحر أمامه، والمستضعفون من الموحدين الذين معه تزلزلت قلوبهم حينما رأوا البحر أمام أعينهم وفرعون بجنوده من خلفهم، {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فقال موسى صاحب اليقين: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].(63/12)
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وهذا صاحب أعلى يقين عرفته الأرض، حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك سبباً من الأسباب إلا وأخذ به يوم الهجرة، ومع ذلك تأصلت كل هذه الأسباب في لحظة، فالتف المشركون حول الغار بين غمضة عين وانتباهتها، وهنا يقول الصديق رضوان الله عليه صاحب أعلى ذروة سنام الصديقية في الأمة يقول للنبي: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، وهنا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصديق والأمة من بعده درساً من أغلى دروس اليقين ويقول: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا).
فليخرج أبو جهل، وليخرج المشركون عن بكرة أبيهم؛ ليقلبوا الحجارة، بل ولينقبوا بين حبات الرمال عن النبي وصاحبه، فورب الكعبة لن يصلوا إليهما أبداً، لماذا؟ لقول الحبيب: (إن الله معنا).
بك أستجير ومن يجير سواكاً فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا إني ضعيف أستعين على قوي ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا أذنبت يا ربي وقادتني ذنو ب ما لها من غافر إلا كا دنياي غرتني وعفوك شدني ما حيلتي في هذه أو ذاكا لو أن قلبي شك لم يك مؤمناً بكريم عفوك ما غوى وعصاكا رباه هأنذا خلصت من الهوى واستقبل القلب الخلي هواك رباه هأنذا خلصت من الهوى رباه قلب تائب ناجاكا أترده وترد صادق توبتي حاشاك ترفض تائباً حاشاكا فليرض عني الناس أو فليسخطوا فلم أعد أسعى لغير رضاكا (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)؛ فمن كان الله معه لم يحزن؟! ومن كان الله معه فممن يخاف؟! ممن يخاف ومعه القوي الذي لا يقهر، ممن يخاف ومعه العزيز الذي لا يغلب، ممن يخاف ومعه القيوم الذي لا ينام، ممن يخاف ومعه الحي الذي لا يموت، ممن يخاف ومعه القوي الذي لا يقوى عليه شيء؟! ولا يقدر على إعلان الحرب عليه أي أحد، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
(لا تحزن إن الله معنا): {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة:40]، اللهم أنزل علينا السكينة حتى تذوق قلوبنا حلاوة اليقين فيك، وبرد الثقة بك، ولذة التوكل عليك، برحمتك يا أرحم الراحمين!(63/13)
سحرة فرعون
(لا تحزن إن الله معنا) قد يقول قائل: هداك الله أيها الشيخ! أنسيت أنك تتحدث عن صفوة الخلق من الأنبياء والرسل، وهؤلاء هم أولى الناس بتحقيق اليقين؟! تعال معي لندخل بستاناً من أحلى بساتين اليقين في دنيا البشر العاديين، بعيداً عن دنيا الأنبياء والمرسلين، نعم.
لقد رأينا في دنيا الناس يقيناً لا يخضع ولا يخنع ولا يتزعزع ولا يتضعضع، رأينا يقيناً قد حول أصحابه ونقلهم من حمأة الطين إلى أعلى عليين، رأينا يقيناً قد رفع أصحابه إلى أفق وضيء فوق كل خيال، إنه يقين سحرة فرعون! لقد حشر الناس جميعاً في يوم مضح مشرق، حشر الناس ضحى بالأوامر العالية من فرعون، وأقبل موسى وأخوه هارون في خوف ظاهر حينما جلس فرعون في أبهته، ونزل السحرة إلى ميدان النزال بعز واستعلاء، وأعلنوها: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]، وتسرب الخوف إلى قلب موسى، وجاء الأمر من الله العلي الأعلى: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68].
ويلقي السحرة عصيهم وحبالهم وهم يعلمون السحر، فخيل إلى الناس من سحرهم أنها تسعى، وهي في الحقيقة لا تسعى، فلما ألقى موسى عصاه وتحولت بالفعل إلى ثعبان ضخم، وابتلع كل هذه العصي والحبال خر سحرة فرعون سجداً للكبير المتعال! فلما رأى فرعون هذا المشهد الذي يهز الجبال قال قولته الخبيثة الغبية: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، وكأنه كان من الواجب عليهم أن يقتلعوا نبتة اليقين وهي تترعرع في قلوبهم! {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:71]، وكان جوابهم كما قص الله قصتهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، فانظر إلى هذا اليقين! إن حال القلب قبل أن تشرق عليه أنوار اليقين كالحجرة المظلمة الدامسة، فإذا دخلت هذه الحجرة وتحسست في الظلام الدامس مفتاح النور، وضغطت عليه بأصبع من أصابعك ضغطة رقيقة خفيفة حول نور المصباح الظلام الدامس إلى نور مشرق، كذلك حال القلب إذا لامسته أنوار الهداية من الله جل جلاله، تحول أنوار الهداية واليقين ظلام القلب إلى نور مشرق.(63/14)
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه
وهؤلاء هم أصحاب الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، جددوا اليقين أيضاً في دنيا الناس.
ومن الجفاء ورب الكعبة ألا أبدأ بـ الصديق أبي بكر صاحب أعلى يقين في الأمة بعد نبينا، كان شعاره دائماً هو اليقين: (أوما سمعت يا أبا بكر؟! يزعم صاحبك أنه أسري به من مكة إلى المسجد الأقصى إلى السماوات العلى وعاد إلى بيته في نفس الليلة؟!) فيرد صحاب اليقين الثابت ويقول: (أوقد قال ذلك؟! فقالوا: نعم.
قال: إن كان قال ذلك فقد صدق!) يقين مطلق!! ويوم مات المصطفى صاح عمر الفاروق الملهم: والله لأعلون بسيفي هذا من زعم أن رسول الله قد مات، فرسول الله ما مات، بل ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى بن عمران، وليرجعن فليقطعن أرجل وأيدي المنافقين الذين يزعمون أنه قد مات، تصور أن هذا الكلام من عمر! وعثمان، وعلي، وجمع من الصحابة طاشت عقولهم، ولم تحملهم أقدامهم! وجاء الصديق بيقين ثابت فدخل غرفة عائشة وتيقن أن الخبر قد وقع، وأن حبيبه قد مات، فكشف الغطاء عن وجهه، وقبل الحبيب بين عينيه، وقال -كما في رواية حسنها الألباني في مختصر الشمائل- منادياً على حبيبه: وآخليلاه وآحبيباه وآنبياه! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم، وخرج الصديق فقال: على رسلك يا عمر! فالتف الناس حول أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] لله دره، صاحب أعلى ذروة سنام الصديقية في هذه الأمة، إنه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المسلمون! هل رأيتم يقيناً كيقين رجل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بالصدقة، فيأتي عمر بنصف ماله! ويأتي الصديق بكل ماله! لا يقدر عليها إلا أبو بكر، فيقول النبي لـ عمر: (ما أبقيت لأهلك؟ فيقول: أبقيت لهم مثله، ويقول النبي للصديق: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول له: أبقيت لهم الله ورسوله!).(63/15)
سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه
وهذا خبيب بن عدي يصلب على خشبة في مكة، ويلتف المشركون من حوله ويشرعون السهام والرماح؛ لتنقض على هذا الجسد فتمزقه بجنون ووحشية؛ ويقترب أبو سفيان من خبيب بن عدي -وحديثه في صحيح البخاري في كتاب المغازي- ويقول أبو سفيان: يا خبيب! أيسرك أن يكون محمد في موطنك الذي أنت فيه الآن، وأنت في أهلك معافى؟! قال: والله ما يسرني أن يكون رسول الله في موطنه الذي هو فيه الآن تصيبه شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى! فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً! فطلب خبيب من أبي سفيان أن يصلي لله ركعتين، فأذن له في ذلك، فصلى ركعتين خفيفتين والتفت إلى المشركين وقال: والله لولا أني أخشى أن تقولوا: إنني جزع من الموت لأطلت الصلاة، ثم تضرع إلى الله وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، وأنشد أبياته الخالدة الجميلة ومنها قوله: إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي وما أرصد الأحزاب لي ذل مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وما بي خوف الموت إني لميت وإن إلى ربي إيابي ومرجعي اللهم ارزقنا اليقين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.(63/16)
أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد: وأخيراً أيها الأحبة الكرام! فإن أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين، فأمتنا تملك العدد والعدة والعمق الاستراتيجي المذهل، والأموال والثروات الطائلة، وتملك العقول المفكرة، والأدمغة المبدعة، لكن الأمة لا ينقصها إلا اليقين، لا تحتاج الأمة الآن إلا إلى اليقين في الله سبحانه.
لو امتلكت اليقين لرأيت العجب العجاب! ولو تعاملت مع ربك سبحانه وتعالى باليقين في خبره وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم لعشت ورب الكعبة الحياة الطيبة التي أخبر عنها ربنا جل وعلا، ولقلت بيقين: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فوالله إنهم لفي عيش طيب.
ما أحلى العيش في بستان اليقين، ما أحلى أن تتعامل مع ربك ثم مع الخلق من الكفار والمسلمين بلغة اليقين، الأمة الآن تحتاج بحق إلى اليقين، وها نحن قد رأينا -وشاء الله أن نرى على أرض فلسطين- أطفالاً يعلمون الأمة في الشرق والغرب، بل ويعلمون العالم طعم اليقين وحلاوة اليقين، لقد رأيت بعيني في الأرض المباركة في حرب فلسطين أماً مسلمة تحمل على ذراعها الأيسر طفلها الرضيع وتنحني على الأرض لتلتقط الحجارة فتدفعها إلى ولدها وهو في السابعة من العمر، وأمام الصبي دبابة يهودية أمريكية لا تبتعد عنه إلا عشرة أمتار ليقذف الدبابة بالحجر! آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغد نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والصيد منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنـ ـيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق ما حرك هذه الأم إلا اليقين، ما حرك هذا الطفل المبارك على الأرض المقدسة إلا اليقين، وما أمسكوا بهذا اليقين إلا يوم أن قطعوا كل العلاقة بأهل الأرض، نعم.
قطعوا اليقين في أهل الأرض، علموا يقيناً أن الشرق والغرب بل والعالم الإسلامي لن ينصرهم، فبيقين علقوا قلوبهم بالملك الحق.
فرأينا هذه الآيات والصور التي نراها كل يوم على أرض فلسطين، نرى أطفالاً يروون شجرة العز والكرامة بالدماء الطاهرة الزكية! إنه اليقين، نرى رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، وبنات في عمر الزهور والورود يواجهون أعتى الأسلحة على وجه الأرض، ولم لا؟! إنها أسلحة صنعت في أمريكا، والكفر ملة واحدة، تلك الأسلحة الأمريكية التي تقتل الإسلام والمسلمين في فلسطين في أفغانستان في الشيشان في العراق في السودان في الصومال، في كل مكان، ونرى هؤلاء الأطفال والشيوخ والنساء يجسدون لنا اليقين في زمن تعطش لليقين، لنعلم أن القلب إن تجرد لله، ذهل عن أسباب الأرض، وتلعق برب السماء والأرض، رأينا العجب العجاب! لا تستكثروا! ففي مصر وعلى أرضها وترابها تجسد اليقين أيضاً، نعم.
والله الذي لا إله غيره لا أجامل بها مخلوقاً على وجه الأرض، هذه الأرض أيضاً أرض جسدت اليقين، كنت أقرأ بالأمس كتاباً عن ملحمة السويس للشيخ المبارك حافظ سلامة سلمه الله وحفظه، وقرأت العجب العجاب، حينما علمت أنه في يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام ثمانية وسبعين لما دخلت القوات اليهودية إلى مدينة السويس من خلال الثغرة المشئومة المعروفة، ووصلت إلى قلب شركة السويس لتصنيع البترول والتقطت لها الصور إلى جوار مستودعات البترول، ونشرت وكالات الأنباء العالمية هذه الصور المزرية، ووصل اليهود إلى قلب السويس، وخاطبوا المسئولين في المحافظة أن يسلموا المدينة وأن يرفعوا الأعلام البيضاء، وبالفعل رفعت الأعلام البيضاء، فقال هذا الرجل المجاهد البطل مع قلة من الجنود والضباط البواسل من جيشنا ومن المسلمين العاديين قالوا: لا، لن نسلم المدينة، وسوف نجاهد اليهود إلى آخر قطرة من دمائنا.
وسبحان ربي العظيم! هؤلاء البواسل بمجموعة من الأسلحة العادية كبدوا اليهود خسائر فادحة، حتى صرحت وكالات الأنباء بعد ثلاثة أيام فقط أن اليهود قد خسروا المعركة على أيدي رجال المقاومة الشعبية في مدينة السويس! على أيدي أهل مصر الأوفياء، ويقسم لي بالله الشيخ المبارك حفظه الله ويقول: والله لقد نفذ الماء، وتعرضنا للموت عطشاً، وقمنا في مجموعة كبيرة من الضباط والأفراد العاديين نتضرع إلى الله ونصلي صلاة الاستسقاء؛ ليرزقنا الله ماءً فكدنا أن نهلك من العطش، فيقسم بالله قائلاً: والله الذي لا إله غيره رأينا بدون مقدمات سفينة لا تزود السفن في قناة السويس إلا بالماء! رأينا صندداً من الماء قد كسر الرباط الذي له في المركب، وبدل أن يتجه مع التيار جاء هذا المركب عكس التيار، ووقف أمام هؤلاء الأطهار، فلما نزلنا فيه وجدناه سفينة مخصصة لتزويد السفن في القناة بالمياه! لا تستكثروا شيئاً على الله، فوالله لو صدقنا مع الله لرأينا العجب العجاب، فالأمة الآن ما تحتاج إلا إلى اليقين.
ولتلجأ إلى الله وسترى العجب العجاب، وستعلم يقيناً أنه لا تقدر قوة على وجه الأرض مهما كان عددها وعدتها وسلاحها أن تقف في وجه اليقين وأهله.
اللهم ارزقنا اليقين، اللهم ارزقنا اليقين، اللهم إني أسألك أن ترزق الأمة حلاوة اليقين بك، والثقة فيك والتوكل عليك، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وانصر المسلمين في أفغانستان، وانصر المسلمين في الشيشان، وانصر المسلمين في العراق، وانصر المسلمين في السودان، واحفظ المسلمين في العراق، واحفظ المسلمين في السودان، واحفظ المسلمين في كشمير، واحفظ المسلمين في الفلبين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان.
اللهم إني أسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، يا رب! أسبغ على مصر ثوب الأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع الغلاء والوباء، يا رب! استر نساءنا واحفظ بناتنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، ورب أولادنا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(63/17)
يا مسلم بأي عيد تفرح
لقد شرع لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عيدين نفرح بهما، ويهنئ بعضنا بعضاً، ويدعو بعضنا لبعض بقبول العمل الصالح، وبحلول الخير والبركة من الله.
وشتان بين زمان مضى يفرح المؤمنون فيه بعيد الله وبنصره لهم على الأعداء، وبين زمان مريض متبعثر، أذلاء أهله، يفرحون بالأعياد، ويكثرون من الإسراف، ويرتكبون فيها ما حرم الله، وفي الوقت نفسه يشاهدون إخواناً لهم من المسلمين: تسفك دماؤهم، وتنتهك أعراضهم، وتسلب أرضهم، فأي فرح هذا؟! وأي عيد هذا؟!(64/1)
العيد فرح وآلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأطهار الأخيار الكرام، حيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني في الدنيا وإياكم دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته.
واسمحوا لي أن أخص في هذا اليوم العظيم الكريم المبارك صانعة الأجيال ومربية الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، اسمحوا لي أن أخصها بالتحية اليوم في عهد غربة الإسلام الثانية.
يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يبغونها للهو واللعب يا حرة قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلا تبالي يا أختاه!! فلا تبالي بما يلقون من شبه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه من أنا من أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي فدين ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي حياكم الله جميعاً أيها الأحباب الكرام! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
اليوم عيد فحق لنا أن نفرح، ولقلوبنا أن تسعد؛ ولكن بأي عيد نفرح؟ وبأي قلب نسعد؟ وفي كل دار على الإسلام دائرة ينهد من هولها رضوى وثهلان ذبح وصلب وتقتيل بإخوتنا كما أعدت لتشفي الحقد نيران يستصرخون ذوي الإيمان إخوتهم فلم يغثهم بيوم الروع أعوان هل هذه غيرة أم هذه ضعة للكفر ذكر وللإسلام نسيان بأي عيد نفرح؟ وبأي قلب نسعد؟ يا من تحمل بين أضلعك قلباً حياً ينبض بذكر الله ينبض بحب الله ينبض بحب رسول الله ينبض بحب الإسلام بأي قلب تسعد وطفلك وولدك في البوسنة قد شوي على النيران أمام أمه وعلى مرأى ومسمع من أبيه، وبعد ما انتهى الصرب من شيه قطعوه إرباً إرباً، وأجبروا والده المسكين تحت التهديد والتعذيب أن يأكل من لحم ولده أن يأكل من فلذة كبده أن يأكل من ثمرة فؤاده، ثم بعد ذلك أطلقوا عليه النيران فقتلوه؟! بأي عيد تفرح وبأي قلب تسعد أيها المؤمن وأخوك المسلم قد شرد أهله، وهدم بيته، وسفك دمه، ومزقت أشلاؤه؟ وبأي قلب تسعد يا من تحمل بين أضلعك قلباً حياً ينبض بالحياة ينبض بحب الله ينبض بحب رسول الله، وأختك في البوسنة قد انتهك عرضها، وضاع شرفها، وها هي الآن تصرخ وترجوكم رجاءها الأخير؟ أتدرون ما هو رجاؤها؟ رجاؤها يا أولاد الإسلام! ويا شباب الإسلام! أن اقتلوني، واقتلوا العار الذي أحمله بين أحشائي، اقتلوا ولدي الذي حملته من السفاح والزنا، هذا هو رجاؤها الأخير منك يا ابن الإسلام.
يا من تلذذتم بالفراش! يا من تلذذتم بالطعام! يا من أكلتم ملء بطونكم! ونمتم ملء عيونكم، وضحكتم ملء أفواهكم، هذا هو رجاء أختكم الأخير، تنادي عليكم وتقول: اقتلوني واقتلوا العار بين أحشائي اقتلوا ولدي من الزنا! اقتلوا ولدي من السفاح! هذا هو رجاؤها الأخير منكم يا أحفاد محمد! يا أحفاد صلاح الدين! يا أحفاد خالد بن الوليد! هذا هو رجاؤها الأخير بعد ما صرخت علينا طويلاً، حتى انقطع صوتها وهي تنادي وتقول: وا إسلاماه!! وا إسلاماه!! وا معتصماه!! ولكن أين المعتصم؟ ما ثم معتصم يغيث مـ ـن استغاث به وصاح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح وعدوا على الأعراض في انتشاء وانشراح يا ألف مليون وأين هم إذا دعت الجراح ما ثم معتصم يغيث مـ ـن استغاث به وصاح بأي عيد تفرح؟ وبأي قلب تسعد أيها المسلم وبرك الدماء، وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة وتحكي المأساة في كل مكان في البوسنة والصومال، في الهند وكشمير، في بورما في تركستان في طاجكستان في أفغانستان في الفلبين في الجزائر في الصومال وأخيراً في اليمن؟ وما زال المشاهدون من جميع أنحاء العالم قابعين في مقاعدهم يشاهدون فصول هذه المسرحية الهزلية المحرقة.
ما زال الجميع قابعاً في مقعده يرى آخر فصول هذه المسرحية، منهم من يبارك هذه التصفية، ومنهم من يبارك هذه الإبادة الوحشية ومنهم من جلس يمسح عينيه بمنديل حريري ولكنه ما زال قابعاً في مقعده؛ لأنه قد أصر على أن يصاحب آخر فصول هذه المسرحية الهزلية: آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج تساق يا قطيعاً من ألف مليون رأس يجري عليها السباق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت (وأعدوا) (وأعدوا) من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق ما الذي جرى؟! ما الذي حدث؟! ما الذي جرى لأمة دستورها القرآن؟! ما الذي جرى لأمة قائدها محمد عليه الصلاة والسلام؟ ما الذي غيرها؟ ما الذي بدلها؟! ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل قافلة الإنسانية بعد أن كانت في الأمس القريب تقود القافلة بجدارة واقتدار.
أصبحت أمة القرآن تتسول على موائد الفكر الإنساني بعد أن كانت منارة تهدي الحيارى والتائهين الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلم، وأصبحت أمة القرآن تتأرجح في سيرها لا تعرف طريقها التي يجب عليها أن تسير فيه، وهي التي كانت بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب الذي يسير في الصحراء المتشابكة، وفي الدروب المهلكة التي لا يجيد أن يسير فيها إلا المجربون.
أهذه هي الأمة التي قال الله عنها في القرآن: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]؟ أهذه هي الأمة التي وصفها الله بالوسطية، فقال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]؟ أهذه هي الأمة التي وصفها الله في القرآن بالوحدة فقال جل وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]؟ والجواب بحق وصدق: إن البون شاسع، وإن الفرق كبير بين الأمة التي زكاها الله في القرآن هذه التزكية وبين الأمة التي نراها الآن في واقعنا المعاصر.
يا أبناء الأمة! إننا نرى الآن أمة قد عطلت جميع طاقاتها العقلية، والعلمية، والعددية، والاقتصادية، بل والروحية.
أصبحت أمة القرآن في الوحل والطين، وتركت ذروة سنام الإسلام، ورضيت بالزرع، وتبعت أذناب البقر؛ فأذلها الله لمن كتب عليهم الذلة من إخوان القردة والخنازير من أبناء يهود.
لماذا أذل الله الأمة؟ لأن الأمة -أيها الأحباب- تخلت عن أصل عزها، ونبع شرفها، ومصدر كرامتها وبقائها ووجودها، فأصابها الله بهذا الذل وهذا الهوان، وهذا الضعف وهذه الفرقة، وهذا الشتات؛ لأنها تخلت عن أصل عزها، ونبع شرفها، ومعين كرامتها وبقائها ووجودها.(64/2)
بداية الصحوة ودور الشباب في التغيير
أيها الأحبة! هنا تساءل خطير وهام، يصرخ به كل شباب الأمة في كل بقاع الدنيا: ما الذي غير الأمة إلى هذا الحال؟ ما الذي حول الأمة إلى هذه الحالة المزرية من هذا الضعف والذل والهوان والعار؟ والجواب في كلمات حاسمة قاطعة، من قول ربنا جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ورب الكعبة لقد غيرت الأمة وبدلت -أيها الأحباب- وحرفت منهج ربها في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب الأخلاق في جانب التشريع في جانب الاتباع في جانب المعاملات والسلوك.
غيرت الأمة كثيراً كثيراً، وابتعدت عن كتاب ربها وعن سنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، حتى وصلت إلى هذه الحال المزرية التي نراها عليها الآن.
ولكن لا أريد أن أسكب القنوط واليأس في قلوبكم، وإنما أريد أن أشخص الداء حتى وإن كان مراً بطعم الحنظل؛ لنستطيع بعد ذلك أن نحدد الدواء النافع لأمراض هذه الأمة التي استشرت.
أقول: بالرغم من كل هذا شاء الله جل وعلا وهو الحليم الكريم اللطيف الخبير شاء الله عز وجل في هذه الأيام التي تجمعت فيها الأحزاب وكل جاهليات الأرض مرة أخرى، للقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، شاء الله جل وعلا أن يبزغ في الأفق نور يشرق، وأمل يتجدد، أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر، بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره، وكيف لا وهي أكبر حدث إنساني في السنوات الأخيرة من القرن العشرين؟! ها نحن نرى يا شباب الإسلام! صحوة عالمية مباركة لا في مصر وحدها، ولا في البلاد الإسلامية وحدها، بل في جميع بقاع الدنيا، في جميع أنحاء العالم.
رأينا هذه الصحوة في قلب قلعة الكفر أمريكا.
رأينا هذه الصحوة في كندا وفي أقصى الدنيا.
رأينا هذه الصحوة في فرنسا، وها نحن نرى بحمد الله جل وعلا كوكبة كريمة وثلة مباركة عظيمة من شباب في ريعان الصبا، وفتيان في عمر الورود، تلكم الكوكبة التي بدأت تتنزل بحمد الله في كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى، والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطرتها وطيبتها أنفاس الزهور، تلكم الكوكبة التي جاءت بعد بدر والقادسية واليرموك وحطين، جاءت في كهولة من الزمن لتعيد الإسلام غضاً طرياً، ولتمضي على تاريخ الدعوة الطويل الضارب في شعاب الزمان، من لدن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
جاءت لتمضي على ذات الطريق مستقيمة الخطى، ثابتة الأقدام، تجتاز الصخور والأشواك والحجارة، تجول هنا وتتمزق هنا ولكن الركب الكريم في طريقه لا ينحني ولا ينثني ولا يحيد؛ لأنه على ثقة مطلقة بنهاية الطريق، وبأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.
أيها الأحباب! أقول بقلب يملؤه اليقين، وبلغة يحدوها الأمل: بدأت الأمة تصحو من جديد، وليس معنى ذلك أن الأمة بجميع أفرادها صحت.
أيها الأحباب! إن كان شيوخنا وعلماؤنا هم عقول الأمة التي تفكر فإن شبابنا وأبناءنا هم سواعد الأمة التي تبني وتعمر، ولا يمكن على الإطلاق لعقل أن يأتي مجرداً دون أن يمشي على قدميه، ودون أن يتقوى بساعديه.
أقول: إن البداية الصحيحة أننا نرى كثيراً من شباب الأمة وفتيات الأمة قد عادوا إلى الله جل وعلا، فسمعنا آهات التائبين العائدين إلى الله جل وعلا تردد: آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.
ها نحن نرى ونسمع الأصوات قد ارتفعت مرة أخرى، نسمع أصوات أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان بموعود حديث رسول الله، كما في حديث في صحيح مسلم من حديث معاوية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس) نسمع الآن أصوات الشباب لا في مصر وحدها بل في جميع أنحاء الدنيا، هذا الشباب الذي بدأ يصرخ ويقول: أين الحل أين طريق الخلاص؟ والجواب يا شباب الصحوة في كلمات قليلة حاسمة، طريق الخلاص أن تعود الأمة من جديد إلى ربها إلى الإسلام بكماله وشموله بفروعه وأصوله، فهو مصدر عزنا الذي قال عنه فاروق الأمة عمر: (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
هذه هو طريق الخلاص الذي يجب أن يكون محفوراً في القلوب والعقول إلى درجة اليقين -وأعداء الأمة يعلمون هذا- الطريق، فلا بد أن نعلم أن طريق الخلاص هو أن تعود الأمة بكليتها إلى الإسلام بكماله وشموله، بفروعه وأصوله، وأن تحول الأمة من جديد هذا الإسلام إلى منهج حياة كما حوله الرعيل الأول إلى منهج حياة، فحولهم الله بذلك من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم.(64/3)
طرق إصلاح الأمة
أيها الأحباب الكرام! هذا هو الطريق، ولكن المشكلة الحقيقية الآن التي تعترض المصلحين الصادقين الذين يفكرون في حال الأمة، ويفكرون في العلاج -وانتبهوا معي جيداً لهذا العنصر المهم- ويشخصون الداء، ويصرفون الدواء.
إن المشكلة هي: كيف نعيد بناء الأمة من هذا الفتات المتناثر؟! والحق أن ما هدم في سنوات لا يمكن على الإطلاق أن يبنى في أيام، وإن هذا العمل يحتاج إلى جهد كبير وصبر جميل وتجرد في جميع مراحل هذا البناء وأود أن يعلم الجميع بصفة عامة والدعاة وأهل التربية بصفة خاصة أنه لا يمكن على الإطلاق أن نربي الأمة دفعة واحدة، كما أنه لا يمكن على الإطلاق أن نربي كل فرد من أفراد الأمة بصورة مباشرة؛ لأن أعظم مرب عرفته الدنيا لم يفعل ذلك.
إذاً: ماذا فعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بنى أمة من فتات متناثر، وأقام للإسلام دولة أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، وغيرت مجرى التاريخ في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً؟! أقول: لقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم القاعدة القوية الصادقة الأمينة، ثم انطلقت هذه القاعدة لتربي بقية الأمة، فكانت القدوة الصالحة، وانطلقت لتحول المنهج الرباني إلى واقع عملي يتحرك في دنيا الناس.
أيها الأحباب! كيف يمكننا أن نزيل غربة الإسلام الثانية؟ أستطيع -حتى لا أطيل أكثر من ذلك- أن أضع بين أيدي حضراتكم في عجالة سريعة بعض بنود المنهج العملي ليعي كل فرد منا دوره، وليعلم كل واحد منا مسئوليته.
أقول: أيها الحبيب! أستطيع أن أضع بين أيدي حضراتكم بعض بنود المنهج العملي الذي أراه من وجهة نظري القاصرة صالحاً للارتقاء بالأمة إلى مكانتها مرة أخرى:(64/4)
بناء صرح الأخلاق الإسلامية
ثالثاً: من بنود هذا المنهج العملي الذي أراه من وجهة نظري القاصرة صالحاً للارتقاء بالأمة إلى مكانتها مرة أخرى: السعي الجاد لبناء صرح الأخلاق الإسلامية.
قد يقول بعض الأحبة الآن: إنك تناقض نفسك، بقولك: نريد الآن العلم، والتكنولوجيا، ونريد الرقي، ونريد الخبرة، ونريد رءوس المال.
وأنا أقر هذا ولا أنكره على الإطلاق، ولكنني أقول: إن كل هذه المقومات بدون بناء أخلاقي لن تفيدنا، بل ستحول بيننا وبين العلم الدنيوي والأخروي.
فيا أيها الموحد! ضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا هيا ضم العالم كله إلى صدرك وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا وامتلأ بمعرفته.
هيا قم أيها الموحد! واسق الدنيا كأس الفطرة، لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موت، ولتهدى بعد ضلال.
قم أيها الموحد! قم يا حفيد صلاح الدين! تحرك بهذا الدين بدعوة الله، فإن أهل الباطل تحركوا على جميع المستويات لباطلهم، وما زال أهل الحق متفرقين.
يا أبناء الصحوة: كونوا على قدر هذه المسئولية، كونوا على قدر هذه المؤامرات الموتورة التي تكاد للأمة في الليل والنهار.
ألم تفكروا إلى الآن في حسم هذه المؤامرات؟! فلتتوحد الصفوف، ولتلتق القلوب، لا أقول تلتقي الجماعات في جماعة واحدة، فربما يكون هذا من ضرب الخيال، ولكن فلتلتق القلوب، وليحب بعضنا بعضاً، وليعذر بعضنا بعضاً، وليلتق الجميع على الحق، وإذا وجدت أخاك على خطأ فاقترب منه بحكمة ورحمة وقل له: يا حبيبي في الله! هذا خطأ.
إنك في حاجة إلى جهد أخيك، وأخوك في حاجة إلى جهدك! أيها الحبيب! فلتكن الرحمة شعارنا، ولتكن الحكمة منهجنا، ولتكن العدالة سبيلنا، فهيا لنتحرك لتلتقي القلوب على منهج الحق، فإننا الآن في أمس الحاجة إلى كل جهد مخلص صادق يبذل لدين الله جل وعلا.
أيها الشباب! أيها الأحباب! تحركوا بدين الله، تحركوا بدعوة الله! أخاطبك أيها المسلم، وأخاطبك أيتها المسلمة.
فإن الدعوة إلى الله مسئولية الجميع، وسنُسأل عنها بين يدي الله، وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)(64/5)
نبذ الفرقة وتوحيد الصف
أولاً: من بنود هذا المنهج: نبذ الفرقة وتوحيد الصف -وضعوا هذه في قلوبكم يا أبناء الصحوة- فإن الفرقة والشتات سبب لذهاب الريح وتوهين القوة، قال الله جل وعلا: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، وقال الله جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
ونحن إذ ننادي بالوحدة فإننا لا نريدها وحدة على غير أصول ثابتة، كلا، فنحن لا نريدها وحدة تجمع شتاتاً متناثراً، وأفكاراً متناقضة على غير حق واتباع وهدى، كلا، فإن هذا الكلام لا يقول به عاقل على الإطلاق، وإنما ننادي بالوحدة التي ترتكز على أصلين لا ثالث لهما، ألا وهما: الأصل الأول: الانتماء للإسلام دون سواه، فلننبذ كل العصبيات والقوميات والنعرات، وليكن ولاؤنا للإسلام فقط، وليكن نسبنا هو الإسلام، ولنردد مع سلمان قولته الجميلة: أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم أما الأصل الثاني لهذه الوحدة فهو: توحيد مصدر الهداية والتشريع، ومصدر الهداية والتشريع هو القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة، وحينئذٍ فقط توحد العقيدة وتصفى، وتوحد الشريعة وتنقى.(64/6)
إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة
ثانياً: من بنود المنهج العملي: إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة وهذه المسئولية تلقى على عواتق وأكتاف الشباب فهم عماد الأمة! أيها الآباء الكرام! يا من حملكم الله أمانة المسئولية وأمانة التربية! أقول: إننا الآن في أمس الحاجة إلى إعداد الكوادر الإسلامية المتخصصة في كل مجالات الحياة: في علم الذرة، في علم الطب، في علم الهندسة، في علم الفلك، في علم الجيولوجيا، في علم الكيمياء، في علم الصناعة، في علم الزراعة، في علم التجارة، في كل مجالات الحياة، نريد الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تنطلق من فهم دقيق، ووعي عميق للإسلام بكماله وشموله لتسير جميع شئون الحياة من منظور إسلامي، من قال الله قال رسوله، ولا يمكن على الإطلاق أن نسير شئون الحياة مرة أخرى إلا على أيدي هذه الكوادر الإسلامية المتخصصة التي تنطلق وهي تفهم الإسلام، ولتشهد للإسلام شهادة عملية بعدما شهدت له من قبل شهادة قولية.(64/7)
المستقبل لهذا الدين
وأخيراً: أقول بقلب يملؤه اليقين، وبلغة يحدوها الأمل: إن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين، ولا نقول ذلك من باب الأحلام الوردية، ولا من باب تسكين الآلام أو تضميد الجراح، ولكنه القرآن الكريم، وكلام النبي الصادق الأمين، يقول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]، ويقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، ويقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
أيها الأحباب! اعلموا بأن المستقبل لهذا الدين، وبأن الإسلام قادم كقدوم الليل والنهار، وبأن هذا الوعد هو وعد الله جل وعلا، ووعد الله لا يخلف، فاسألوا الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وتضرعوا إليه في هذه اللحظات -عسى أن يتقبل الله دعوة صادق فينا- أن ينصر الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم وأعل بفضلك كلمة الحق والدين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع.
اللهم فك سجن المسجونين، وأسرى المأسورين، واربط على قلوبنا وقلوبهم يا أرحم الرحمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا سددته، ولا حاجة فيها لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين! اللهم اجعل مصر سخاء رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصرنا الغلاء والوباء والفتن والبلاء برحمتك يا أرحم الرحمين! أيها الأحبة في الله! كل عام وأنتم بعافية وصحة وخير، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(64/8)
اقترب ظهور المهدي
العلامة الوسطى التي تقع بين علامات الساعة الصغرى وعلامات الساعة الكبرى هي: ظهور المهدي عليه السلام، الذي جاء في الأحاديث الصحاح ذكره ووصفه وصفاً دقيقاً، وجاء فيها ما يحصل في الأرض -في زمنه- من تغير وتحول.
بل جاء فيها ملاحمه التي سيخوضها مع المسلمين الموحدين ضد أعداء الدين، حتى يعم هذا الدين أرجاء الأرض.
فيجب الإيمان بهذه العلامة، وعدم تحكيم العقل في ذلك.(65/1)
ظهور المهدي من علامات الساعة الوسطى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! حديثنا -بإذن الله تعالى ومدده وتوفيقه- عن العلامة الوسطى، أو عن حلقة الوصل -إن صح التعبير- بين العلامات الصغرى والعلامات الكبرى للساعة، هذه العلامة الوسطى هي: ظهور المهدي عليه السلام، وهذا درس من أهم الدروس التي تملأ قلوب المستضعفين من المسلمين الآن بالأمل في أن الإسلام -بموعود الله وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم- سيظهره الله على الدين كله، فتدبروا معي هذه المحاضرة، فإنها من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة المسلمين وعز الإسلام.(65/2)
حال الأرض في زمن المهدي
والأرض تنتظر المهدي في وقت سيقدره الله الرب العلي، إذ لا يعلم وقت ظهور المهدي ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهو من الأمور الغيبية التي اختص الله عز وجل بعلمها.
يخرج المهدي في آخر الزمان يؤيد الله به الدين، ويملك سبع سنين، فيملأ الأرض عدلاً كما ملأت الأرض جوراً وظلماً، وتنعم الأمة في عهده نعمة لم تنعم بها قط، وتخرج الأرض في عهده نباتها، وتمطر السماء قطرها، ويكون المال بغير عدد، نسأل الله أن يعجل بخلافته.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: في زمان المهدي تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر، والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم.(65/3)
صفة المهدي
وصف النبي صلى الله عليه وسلم المهدي وصفاً دقيقاً كما وصف عيسى ابن مريم عليه السلام، وكما وصف الدجال عليه لعنات الله المتتالية.
وصف النبي المهدي بأنه أجلى الجبهة، أي: واسع الجبهة، يقل الشعر عند جانبي الجبهة.
وأخبر عليه الصلاة والسلام بأنه أقنى الأنف، والأقنى: هو الأنف الذي له أرنبة دقيقة، وله حدة أو دقة في الوسط، وهذا وصف يبين جمال الخلقة وحسن الصورة والمنظر.
يصلحه الله في ليلة واحدة، وقد وقف أهل العلم عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يصلحه الله)، فقالوا: يصلحه الله في ليلة واحدة أي: يطهره الله عز وجل من كل ذنب وخبث، وهناك قول ثانٍ وهو: إن المعنى: يهيئه الله عز وجل ويعده للخلافة في أيام الفتن والملاحم الأخيرة التي ستكون بين يدي الساعة.
ويؤيده الله عز وجل بنصره وعونه؛ إذ إن ظهور المهدي عليه السلام ليس أمر كسبياً منه، يعني: لا ينبغي لأحد أن يقول: بأني سأجتهد بالطاعة والعبادة لأكون المهدي، لا؛ لأن ظهور المهدي ليس أمراً كسبياً، كما أن النبوة ليست أمراً كسبياً؛ وإنما ظهور المهدي أمر قدري في الوقت الذي يشاءه وفي الشخص الذي يريده الرب العلي.(65/4)
ترجمة المهدي
كثير من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن المهدي، فمن هو المهدي؟ وما هي صفته؟ وما هي العلامة المؤكدة والمميزة لظهوره، لا سيما وقد رأينا كثيراً من الكذابين قد ادعى أنه المهدي؟ فهل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم علامة مميزة مؤكدة للمهدي الذي سيخرج في آخر الزمان، والذي سيكون بين يدي العلامات الكبرى؟ ثم ما هي الحروب والملاحم والفتن التي سيقود فيها المهدي جيوش المسلمين في الأيام الأخيرة بين يدي الساعة؟ كل هذه الأسئلة سنجيب عنها الليلة بحول الله عز وجل وطوله ومدده.
أيها الأحبة الكرام! رجل من المسلمين من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، من ولد الحسن بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واسم المهدي كاسم النبي، واسم أبيه كاسم أبي النبي، فهو محمد أو أحمد بن عبد الله الحسني العلوي الفاطمي رضوان الله عليه.(65/5)
ذكر بعض الأحاديث الواردة في المهدي
والأحاديث الواردة بشأن المهدي عليه السلام بلغت حد التواتر، والمتواتر عند جمهور العلماء يفيد العلم القطعي، ومن ثَمَّ فالعلم به واجب، والإيمان به فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ومن هذه الأحاديث الثابتة عن النبي الصادق في شأن المهدي: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين، وأقره الذهبي والألباني من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً -يعني: حججاً).
وروى أبو يعلى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشركم بالمهدي، يبعث المهدي على اختلاف من الناس وزلزال، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت الأرض جوراً وظلماً، ويرضى عنه -أي: عن المهدي - ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً، فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس).
وروى أبو داود في سننه وصححه الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تذهبوا أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العربَ رجلٌ من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي).(65/6)
كيفية معرفة المهدي
مما مضى من الأحاديث -أيها الإخوة- يتبين لنا أن الأحاديث الثابتة في شأن المهدي قد تواترت تواتراً معنوياً كما ذكرتُ، والسؤال المهم: كيف نعلم ظهور المهدي؟ فإنه قد خرج أناس كثيرون يدعي كل واحد منهم أنه المهدي، فكيف نعلم أن هذا الرجل الذي ادعى لنفسه المهدية، أنه هو المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم؟
و
الجواب
أن هذا السؤال مهم جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر لنا علامة أكيدة مميزة للمهدي عليه السلام دون غيره من الأدعياء الكذابين، فتدبر كلام الصادق الأمين! ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم عبث في منامه، أي: تحرك جسمه الشريف وتحركت أطرافه، وفعل شيئاً لم يكن يفعله في نومه، فقلنا: يا رسول الله! صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (العجب أن ناساً من أمتي يؤمون البيت -أي: البيت الحرام- لرجل من قريش قد لجأ في البيت، حتى إذا كانوا في البيداء -أي: في الصحراء- خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله! إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم المستبصر والمجئور -ابن السبيل- يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نيتهم) ومن العلماء المعاصرين من قارن وصف السفياني في أحاديث كتاب (الفتن) لـ نعيم بن حماد وطابقها على صدام حسين، وليس لدينا دليل على ذلك، إنما هو ضرب من المجازفة، وهذا مذكور في كثير من الكتب التي وقفت عليها، ويبدوا أن هذا السفياني شر في حياته وفي آخر حياته، وهو الذي سيخرج بجيشه لقتال المهدي.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يخرج رجل يقال له: السفياني في عمق دمشق، وعامة من يتبعه من كلب -قبيلة معروف تسمى قبيلة كلب- ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرم -الذي هو المهدي عليه السلام- فيسير إليه السفياني بمن معه، حتى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم، فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم)، وفي رواية: (إلا الشريد) يبقي الله عز وجل رجلاً ليخبر عن خسف الله عز وجل للجيش؛ ليشتهر وينتشر خبره وأمره، ولاحظ أن هذه هي العلامة الأكيدة المميزة للمهدي عليه السلام، فإذا ظهر رجل هنالك في مكة، وأعلن عنه أنه المهدي، وخرج جيش لقتاله، فخسف الله بهذا الجيش الأرض علمنا أن ذلك الرجل هو المهدي.
فإذا خسف الله عز وجل بالجيش الذي سيخرج لقتال المهدي الأرض، فمعنى ذلك: أن كل المسلمين على وجه الأرض في هذه اللحظة سيعلمون أن الرجل الذي ظهر بمكة هو المهدي، وحينئذ يرحل إلى المهدي -إلى مكة- كل مسلم على وجه الأرض ليبايعه، ثم يتقدم المهدي هذه الجحافل المؤمنة الطائعة، ليقود بهم الملاحم الأخيرة.(65/7)
أهم الملحم والحروب التي يقودها المهدي
فما هي أهم الملاحم والحروب التي سيقود فيها المهدي عليه السلام كتائب المسلمين في آخر الزمان، وهذا درس من أهم الدروس التي تملأ قلوب المستضعفين من المسلمين الآن بالأمل في أن الإسلام -بموعود الله وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم- سيظهره الله على الدين كله.
ما أن يخسف الله عز وجل بالجيش الذي خرج لملاقاة المهدي الأرض، حتى يعلو ذكر المهدي، وينتشر صيته، ويأتيه المسلمون من كل بقاع الدنيا ليبايعوه؛ ليشد المسلمون الصادقون -الذين يشتاقون إلى الجهاد في سبيل الله تحت خليفة يرفع راية التوحيد والسنة- على يد المهدي ويبايعونه على النصرة وعلى الجهاد؛ لإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى تحت شعار إحدى الحسنين: إما النصر وإما الشهادة، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الشهادة في سبيله.
وبعد خسف الله الأرض بالجيش الذي خرج لقتاله، يجتمع للمهدي بعد هذه العلامة المؤكدة جيش كبير جداً من الموحدين من كل بقاع الأرض، ثم لا يجد هذا الجيش بقيادة المهدي وقتاً للراحة ولا للنوم، وإنما يخوضون كثيراً من الملاحم والحروب والمعارك التي تحمر فيها الحدق، ويرتفع فيها صهيل الخيول، وتسمع فيها قعقعة السيوف والرماح، وتبلغ فيها القلوب الحناجر، ويسقط فيها كثير من القتلى والجرحى، حتى تخوض الخيول في برك من الدماء والأشلاء، وينبغي أن تعرف أن العالم سيقف على قلب رجل واحد لقتال المهدي، وتصور أن العالم كله بعد ظهور المهدي سيقف صفاً واحداً لقتال المهدي! وأبشر فما من معركة سيخوضها المهدي إلا وسينصره الرب العلي.
المعركة الأولى: غزو جزيرة العرب.
المعركة الثانية: غزو بلاد فارس.
المعركة الثالثة: غزو بلاد الروم أي: أوروبا وأمريكا.
ومن غزو بلاد الروم: فتح القسطنطينية.
المعركة الرابعة: قتال اليهود، والنصر عليهم.
المعركة الخامسة: قتال الترك، أي: الصين وروسيا واليابان ومنغوليا إلى آخر هذه الشعوب.
لو تصورت بعد هذا العرض السريع للملاحم والمعارك التي سيخوضها المهدي -كما ذكرت- يتبين لك أن العالم كله سيقاتل المهدي عليه السلام، وتدبر معي كلام الصادق المصدوق في الجملة! وسأفصل بعد ذلك إن شاء الله تعالى: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، الذي ارتقى يوماً المنبر فوصف لأصحابه ما سيكون إلى قيام الساعة، ومما ذكره عليه الصلاة والسلام في الملاحم التي سيقود كتائب المسلمين فيها المهدي عليه السلام ما روى مسلم وأحمد وابن ماجة وغيرهم من حديث نافع بن عتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله).
إذاً: المعركة الأولى: فتح بلاد العرب، ثم فتح بلاد فارس، ثم فتح بلاد الروم، ألا وهي أوروبا وأمريكا، ثم فتح الدجال.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال).
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود).
وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان)، وهي بلاد مشهورة يحدها من الغرب بلاد فارس، ومن الشمال خراسان، ومن الجنوب الخليج الفارسي، أو بحر فارس كما كان يُسمى قبل ذلك عند العرب، وهي حالياً بلاد الصين وروسيا واليابان، وقد وصف النبي وجوههم وصفاً عجيباً كأنه يراهم اليوم، فقال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزاً وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، كأن وجوههم المجان المطرقة) -أي: كأن وجوههم كالتروس المستديرة التي غطيت بالجلد، انظر إلى وجه الياباني أو وجه الصيني المستدير كأنه الترس المستدير غطي بنوع من الجلد، لو تفرست ودققت النظر في الوجوه لصليت على من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك)، ويراد بالترك هنا بلاد الصين وروسيا واليابان ومنغوليا إلى آخر تلك البلاد في تلك المنطقة، (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك، قوماً وجوههم كالمجان المطرقة، يلبسون الشعر ويمشون في الشعر) هذا وصف جديد، وفي رواية أخرى توضح هذه الرواية في البخاري عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً نعالهم الشعر) أي: أن النعال التي يمشون فيها من الشعر، ومن ينظر إلى نعال الصينيين والروسيين واليابانيين في هذه المناطق الباردة يعلم يقيناً أنها تصنع من الشعر، وما يسميه البعض: الفرو ومعظم الثياب التي يرتدونها من الشعر -الفرو- فلباسهم الشعر ويمشون في الشعر.
يقول عليه الصلاة والسلام -بأبي هو وأمي-: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً نعالهم الشعر، وحتى تقاتلون الترك صغار الأعين حمر الوجوه، ذلف الأنوف -هو الأنف الصغير الأفطس- كأن وجوههم المجان المطرقة).
قف بعد هذا الإجمال على هذا التفصيل:(65/8)
فتح المهدي لبلاد العرب
المعركة الأولى أو الملحمة الأولى هي: فتح بلاد العرب، وأول جيش سيخرج لقتال المهدي من بلاد العرب، وثبت في بعض الروايات أن الذي سيقود هذا الجيش هو السفياني، يخرج إليه فينصر الله عز وجل المهدي بمدد غيبي من عنده سبحانه وتعالى، يعني: بأمر قدري بحت لا دخل فيه لبشر، ولا دخل فيه لجيش، فيؤيد الله المهدي في هذه المعركة الأولى والتي ستبين للمسلمين في الأرض أن هذا الرجل هو المهدي حقاً، فيخسف الله عز وجل الأرض بهذا الجيش الذي خرج لملاقاته، وبعد هذه المعركة يخرج المهدي عليه السلام، ويبسط سلطانه على كل جزيرة العرب، التي ستفتح أبوابها بعد هذا النصر الغيبي للمهدي عليه السلام، ويتحقق فوراً بعد هذه الخسف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله عز وجل).
إذاً: الذي يفتح للمهدي جزيرة العرب هو الله تبارك وتعالى، دون قتال أو دون نزال بين جيش المهدي وبين هذا الجيش العربي الذي سيخرج لملاقاة المهدي بقيادة السفياني.(65/9)
فتح المهدي لبلاد فارس
المعركة الثانية: (ثم تغزون فارس فيفتحها الله)، وبعد سيطرة المهدي وكتائب التوحيد معه على أرض الجزيرة كلها ستخرج بلاد فارس بحدها وحديدها - من الشيعة الذين لا يرقبون في مؤمن من أهل السنة إلاً ولا ذمة- يخرجون لقتال المهدي عليه السلام، فيهزمهم المهدي شر هزيمة، ويتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم تغزون فارس فيفتحها الله)، فيمتد سلطان المهدي من جزيرة العرب ويتجه إلى ناحية الشرق، إلى ناحية بلاد فارس، فيسيطر عليها سيطرة كاملة بموعود الحق تبارك وتعالى، وبموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم.(65/10)
قتال المهدي لبلاد الروم
المعركة الثالثة: هي الملحمة الكبرى التي وصف النبي أحداثها وصفاً دقيقاً، كأنه يحارب في هذا الجيش الذي يقود كتائبه المهدي عليه السلام، هذه الملحمة الكبرى التي سيقودها المهدي بعد السيطرة على بلاد العرب وعلى بلاد فارس هي قتال الروم، هي قتال أوروبا وأمريكا، وتلك هي الملحمة الكبرى، وهي أشد الملاحم وأعظمها على الإطلاق، وهي المعركة التي سماها بعض أهل العلم: معركة هرمجدون، والتي ستأتي بعد فترة الهدنة والمصالحة التي نحن فيها الآن، أي: فترة مصالحة بين المسلمين وبين الروم الآن، وبعدها سيقاتل المسلمون مع الروم -أي: أوروبا وأمريكا- عدواً واحداً، وهذا العدو ربما يكون العدو الشرقي سواء الشيوعي أو الشيعي، وينتصر المسلمون مع الروم في هذه المعركة، وفي طريق العودة يقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: انتصر الصليب، فيغار رجل من أهل الإيمان والإسلام فيقوم إلى هذا الرجل فيدفعه أو يقتله، فحينئذٍ يغدر الروم بالمسلمين، وتقع هذه الملحمة الكبرى التي أخبر عنها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.
تدبر ماذا قال النبي عليه الصلاة والسلام! والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم في الأعماق أو بدابق) ودابق مدينة بالقرب من مدينة دمشق السورية، أي: مقر قيادة المهدي سيكون بمدينة بالقرب من دمشق، وستكون الملحمة في هذه الأرض في أرض المسلمين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم -أي: الأمريكان والأروبيون- في الأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة بقيادة المهدي من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافوا -أي: للقتال- قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) وقد تعجبون إن قلت لكم أن الذي سيشارك في فتح القسطنطينية وسيفتح الله عز وجل على يديه هذه المدينة هم مجموعة كبيرة من أهل الروم ممن أسلموا لله عز وجل، فسيسلم الروم في هذه المعارك بأعداد كبيرة جداً، وينضمون إلى كتائب التوحيد بقيادة المهدي عليه السلام، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا تصافوا قالت الروم: خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا؛ والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا) ولقد صاروا إخواناً لنا من المسلمين (فيقاتلونهم) تدبر ماذا يقول المصطفى في وصف دقيق عجيب: (فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً)، ينهزم ثلث من جيش المسلمين أي: من الفرَّار أو الكرَّار، والله أعلم بحالهم، يقول النبي في حقهم: (فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم) وتدبر ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق هذا الثلث الثاني: (هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث -أي: المتبقي- لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون -وليس رشاشاتهم- إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم -أي: المسيح الدجال قد خرج- فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج -أي: الدجال- فبينما هم يعدون للقتال ويسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم، فإذا رآه عدو الله -أي: إذا رأى الدجال عيسى ابن مريم- ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه -أي: لو ترك عيسى ابن مريم الدجالَ- لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) أي: فيري عيسى ابن مريم المسلمين الذين معه دم المسيح الدجال في حربته، أي: على رأس حربته التي قتله بها.
والنبي عليه الصلاة والسلام يصف هذه المعركة وصفاً دقيقاً آخر، في رواية أخرى في صحيح مسلم عن يسير بن جابر، قال: هاجت ريح حمراء في الكوفة، فجاء رجل ليس له عادة، أي: جاء على غير عادته، فقال: يا عبد الله بن مسعود! جاءت الساعة، جاءت الساعة، قال: فقعد عبد الله بن مسعود وكان متكئاً -انظروا إلى العلماء- فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا ونحاها نحو الشام، ثم قال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام، قلت: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة).
وفسرت لفظة النبي التي في الحديث الأول: (ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً) بأن هذا الثلث ثلث يرتد، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً.
وكلام ابن مسعود رضي الله عنه له حكم الرفع؛ لأن هذه الأمور الغيبية لا يتكلم بها صحابي من عند نفسه، ولا يتكلم بكلام مثل هذا إلا وقد سمعه من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
يقول: (وتكون عند ذاكم القتال ردة شديدة، فيشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل) وهذه نقطة ثالثة تبين أن الليل سيوقف المعارك، ومن المعلوم أن معارك الطائرات والصواريخ لا يوقفها ليل ولا نهار، (فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء -أي: يرجع هؤلاء وهؤلاء- كل غير غالب) أي: أنها حرب سجال ليس فيها غلبة لأحد، (وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب، وتفنى الشرطة) وهذا هو اليوم الثالث، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم أهل الإسلام فيجعل الله الدبرة عليهم -أي: الدائرة على أهل الكفر- فيقتتلون مقتلة لم يُر مثلها) هكذا يقول المصطفى، ولما يقول النبي: (لم ير مثلها) يعني: لم ير مثلها صلى الله عليه وسلم، (حتى إن الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلصهم حتى يخر ميتاً، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد) ولذلك يقول النبي: (فيقتتلون مقتلة لم يُر مثلها).
يقول: (فيتعاد بنو الأب كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ: إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم ويقبلون، فيبعثون عشرة فوارس طليعة، إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح مسلم في أعلى درجات الصحة، يقول عليه الصلاة والسلام: (فيبعثون عشرة فوارس طليعة، إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ أو: من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ).
فيتبين لنا من خلال هذه الأحاديث التي ذكرتها من صحيح مسلم أن هذه المعركة العنيفة بين المسلمين وبين الروم والتي سميت بالملحمة الكبرى التي لم يُر مثلها -كما قال النبي عليه الصلاة والسلام- ستدور رحاها في بلاد المسلمين بالقرب من سوريا أو دمشق، يعني: بلاد الشام، بمكان يسمى الأعماق أو دابق، وهذا المكان سيكون فيه مقر قيادة المهدي عليه السلام.
وروى أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى) سماها النبي بالملحمة الكبرى، و (فسطاط المسلمين) يعني: مقر قيادة المسلمين (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها: الغوطة، فيها مدينة يقال لها: دمشق) أي: أنه لم يكن على عهد النبي مدينة تُسمى دمشق أبداً، وهذه علامة من علامات النبوة، بل كل ما أذكره هو من علامات النبوة، يقول: (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى بأرض يقال لها: الغوطة، فيها مدينة يقال لها: دمشق، خير منازل المسلمين يومئذٍ)؛ لأنه يكون فيها كتائب المسلمين بقيادة المهدي عليه السلام، والحديث رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وصححه على شرط الشيخين، وأقر الحاكم الذهبي والألباني في صحيح الجامع.
إذاً: الروم حينما يجمعون ويأتون المسلمين تحت ثمانين غاية أو تحت ثمانين راية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً كما ذكر المصطفى، يقولون للمسلمين: (خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون للروم: لا، والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا)، وهذا يدل كما ذكرت على أن كثيراً من نصارى أوروبا وأمريكا سيسلمون بعد موقعة هرمجدون، وسيدخلون في دين الله أفواجاً، فيريد الروم أن يبدءوا المعارك مع المسلمين بالانتقام من هؤلاء الذين تركوا معسكرهم وأسلموا لله عز وجل، وتبدأ المعركة التي قال النبي في حقها: (فيقتتلون مقتلة عظيمة لم ير مثلها)، وينصر الله عز وجل في هذه المعركة المهدي عليه السلام وكتائب جيش التوحيد.(65/11)
وجوب الإيمان بخروج المهدي، وعدم تحكيم العقل في ذلك
والذي أود أن أقف عنده الآن أننا ذكرنا كلمات صادقة من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، أخبر فيها أن كتائب التوحيد ستعلق سيوفها بشجر الزيتون، وأخبر فيها أن عيسى عليه السلام سيُري المسلمين دم المسيح الدجال على رأس حربته، وذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أسماء الفوارس وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، وأنا أعلم أن من المسلمين من لا يصدق هذا الكلام ولو كان من عند المصطفى الصادق صلى الله عليه وسلم، وهم من الذين يعبدون العقل من دون الله عز وجل، ويقدمون العقل على النقل وإن صح.
وأنا لا أريد أن أقلل من شأن العقل، وإنما أقول: إن نور العقل لا يصطدم أبداً مع نور الوحي، بل إن شئت فقل -والكلام لـ ابن تيمية طيب الله ثراه-: إن نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً، بل يباركه ويزكيه ويقويه.
لكن لا ينبغي على الإطلاق أن يقدم العقل على صحيح النقل، فإذا صح النقل عن الله وعن رسوله فينبغي أن تسلم له، وأن تعلم يقيناً بأن الله سيهيئ الكون في لحظة يريدها؛ ليقع ما أخبر به نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
وأما كيفية ذلك فليس لمخلوق على وجه الأرض أن يقف على كيفية ذلك، وخذوا كلام أهل الغرب الذين يقولون كلاماً عجيباً في هذا الذي أذكره الآن، فإن من المسلمين -وسامحوني- من يصدق تماماً كلام الغربيين، ووالله! لست مبالغاً إن قلت: إن منهم من يصدق الغرب أكثر من تصديقه لكلام سيد المرسلين، فإذا جاء الكلام من الغرب مدعماً بكلام العلماء وأهل العلم تراه يقول: هذا هو الكلام العلمي الذي يقبله العقل، ومن هؤلاء من كانوا ينكرون حديث الذبابة مع أنه حديث صحيح، ويقولون: كيف تحمل الذبابة الداء في جناح وتحمل الدواء في جناح آخر، كيف ذلك؟! هذا كلام لا يصدقه العقل! بل ومنهم من قال كلاماً شديداً لاذعاً وهو من أهل العلم ممن يشار إليهم بالبنان! فلما صدر هذا البحث العلمي من أكثر من جامعة غربية أوروبية وألمانية وأمريكية وبريطانية، وتبين للعلماء في أواخر القرن العشرين أن الذبابة بالفعل تحمل فيروساً معيناً في أحد جناحيها وفي الجناح الآخر الدواء، الذي يفسد الفيروس في الجناح الأول، فلما أثبت العلم ذلك أذعن الجميع بعد ذلك لقول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
أقول: وعلماء الغرب يتكلمون عن أحداث هائلة قد تفنى فيها الأسلحة الحديثة، وقد ذكرت أن هذه الأسلحة البيولوجية والنووية والصواريخ والطائرات والدبابات إلخ قد تبقى في مكانها كما هي، وبجندي من الجنود التي قال ربنا في حقها: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] تسلب هذه الأسلحة من خصائصها ومن أعمالها.
خرجت أنا وأحد الإخوة في أمريكا لصلاة الفجر، وهو يركب سيارة مرسيدس من أحدث موديل، ولما ركبت إلى جواره، ونزل الضباب الكثيف الذي -والله! - حجب الرؤية داخل السيارة، ولا أقول: خارجها، فعجز الأخ الذي بجواري، وعجزت أنا معه أن نرى شبراً واحداً حتى إلى زجاج السيارة الأمامي، فتوقفت السيارة وتوقفت جميع السيارات، وحينئذٍ قلت للأخ الكريم: سبحان الله! هذا جواب سؤال كنت أبحث عنه، هذه السيارة أحدث موديل، فيها البترول، ويجلس على كرسي القيادة القائد، يجيد القيادة، لا يوجد أي سبب من الأسباب التي تتوقف وتتعطل بها السيارة، ولكن الله أرسل جندياً من جنوده فتعطلت الآلة في مكانها، وهذه أمور عجيبة جداً! أشهد أن الذي علم نبينا هو الله عز وجل.
وهذا بحث علمي -خذوا هذا الخبر أيضاً فهو مفيد؛ لأجل أن تعلموا أن لله جنداً لا يعلمها إلا هو -يقول الخبر: في الوقت الذي نجت فيه مئات الأقمار الصناعية من شهب تسمى بشهب الأسد التي احترقت في الغلاف الجوي للكرة الأرضية، قضى عشرات الآلاف ليلة أمس الأول في العراء، في درجة حرارة تصل إلى عشرين درجة تحت الصفر؛ انتظاراً لرؤية هذا العرض الكوني الفريد للألعاب النارية، في ظاهرة فلكية نادرة، ظهرت أكثر وضوحاً في قارة آسيا، وذكرت وكالات الأنباء أن الظاهرة التي تتكرر كل نحو ثلاثة وثلاثين عاماً شهدها بعض المحظوظين، بينما حالت السحب الكثيفة دون مشاهدة البعض الآخر لها، ولم يزد حجم معظم الشهب والنيازك الصغيرة التي تساقطت على الأرض على حجم حبات الرمل، وبلغت سرعتها مائتين وخمسين ألف كيلو في الساعة، مما أكسبها قوة تدمير هائلة، أثارت مخاوف العلماء من احتمال تعرض الأقمار الصناعية لأضرار جسيمة، غير أن الظاهرة مرت بسلام في النهاية! قال ربنا عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] فهل ازددتم -أيها الإخوة- حباً لله؟! وهل ازددتم حباً للصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه بعض الأبحاث العلمية التي تؤكد أن الأمر خطير، وليس بالأمر اليسير.
وأنا أقول: أنا على يقين جازم بأن الله تبارك وتعالى سيهيئ الكون في الوقت الذي يشاؤه، بالكيفية التي يريدها؛ ليحدث في الأرض ما أخبر به نبيه الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ومتى ذلك؟ وكيف ذلك؟ كل هذا لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، إنما هو في علم الرب العلي وحده تبارك وتعالى؛ لنعلم يقيناً أن الكون كله بيد الله، كما قال عز وجل: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].(65/12)
فتح المهدي عليه السلام للقسطنطينية
المعركة الرابعة التي سيخوض المهدي غمارها مع كتائب المسلمين والموحدين هي: فتح القسطنطينية، وقد أخبر النبي الصادق صلى الله عليه وآله وسلم بأن القسطنطينية ستفتح بقيادة المهدي عليه السلام، ولكن ستعجبون إذا علمتم أن القسطنطينية لن تفتح بسيف ولا برمح، ولا بخيول، وإنما ستفتح بلفظة: (لا إله إلا الله) و (الله أكبر)، هكذا قال الصادق، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟) والنبي صلى الله عليه وسلم ما رآها، ولكنه يصفها وصفاً كأنه رآها، فيقول لأصحابه: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر؟ قالوا: نعم، يا رسول الله! سمعنا بها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، فإذا جاءوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولون في الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها فيغنموا، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون) أي: إلى ملاقاة الدجال، وهكذا تفتح القسطنطينية بلا قتال وبلا سلاح ولا سهام.
وهذه هي المعركة الرابعة التي سيخوض المهدي غمارها مع المسلمين.(65/13)
قتل المهدي عليه السلام لليهود
المعركة الخامسة: هي قتال اليهود عليهم لعنات الله المتتالية، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! ورائي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر يهود) ومن المعلوم أن اليهود يكثفون من زراعة شجر الغرقد؛ لأنهم يعلمون يقيناً صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146].
فاليهود أهل غدر وأهل خيانة وأهل نفاق، ولا عهد لهم ولا ذمة على الإطلاق، وأنا أقول لكل مسلم على وجه الأرض: لقد نقض اليهود العهود مع الأنبياء، بل مع رب الأرض والسماء، فهل سيصدق اليهود في عهودهم مع الحكام والزعماء، فاليهود يعلمون صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يكثفون زراعة هذا الشجر اليهودي الأبكم الذي لا ينطق ولا يتكلم، ولكن بقية الحجر والشجر ستضج من نتن اليهود وريحهم الخبيث، فإذا ما اختفى يهودي خلف حجر أو شجر سينطق الله الحجر والشجر، فلا تعجب فأنت في زمن العجائب حينئذٍ! لا تعجب كيف ينطق الحجر! وكيف ينطق الشجر! لقد جاء رجل يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره أن ذئباً أخذ غنمة من أغنامه، فلما ذهب ليأخذها منه أقعى الذئب وقال: تأخذ مني رزقاً رزقنيه الله؟! فتعجب اليهودي وقال: ذئب يتكلم؟! قال: أتعجب من ذلك؟! أعجب منه رجل بين النخلتين أو بين الحرتين -أي: محمد- يخبر أنه لا إله إلا الله، فجاء الرجل إلى النبي فأخبره بما قال الذئب، فقال المصطفى: (أنا أصدق ذلك وأبو بكر وعمر) رضي الله عنهما.
إذاً: لا تتعجب كيف ينطق الحجر! وكيف ينطق الشجر! سبحان الله! لم لا تتعجب كيف ينطق التلفاز! وهو جهاز أمامك تضغط على زر فينطق، وتخرج صورة كاملة، فكيف لا تتعجب؟! هذا جماد ومع ذلك ينطق، بل تسمعه وتراه، بل ينقل لك ما الذي يحدث في أقصى الأرض في التو واللحظة! فيومئذٍ ينطق الله الحجر والشجر، ويقول: يا مسلم! ليس يا وطني! (يا مسلم! يا عبد الله، ورائي يهودي تعال فاقتله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود).
وفي رواية: (حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله!) أي: عيسى عليه السلام.
فيدل ذلك على أن كل هذه الأحداث ستكون في زمن العجائب، فنزول عيسى آية عجيبة، وخرج الدجال آية، وخرج يأجوج ومأجوج آية، وكل هذه آيات، فأنت في هذه اللحظات ستكون في لحظات العجائب والآيات الكبرى.
قال صلى الله عليه وسلم: (حتى إن الشجر والحجر ينادي: يا روح الله! هذا يهودي، فلا يترك أحداً ممن كان يتبع الدجال إلا قتله) أي: إلا قتله عيسى ابن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(65/14)
قتال المهدي عليه السلام لأهل خوز وكرمان
فيخوض المهدي حرباً أخرى ألا وهي حرب خوز وكرمان، فيفتح خوزاً وكرمان، ألا وهي بلاد الصين وروسيا واليابان، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد وصفهم النبي وصفاً دقيقاً كما ذكرت، وبذلك يخوض المهدي كل هذه الملاحم والمعارك التي سينصره الله عز وجل فيها كلها؛ ليتحقق وعد الله، وليتحقق وعد رسول الله، بأن الإسلام سيعم أرجاء الأرض.
والله العظيم لقد أخبرني أحد الإخوة يوم الجمعة قبل الماضية، فقال لي: والله! يا شيخ محمد! لقد رأينا في الكعبة عجباً عجاباً، فقلت له: ماذا؟ قال: نحن في يوم أحد عشر من شهر أيلول نطوف حول الكعبة، وإذ برجل كبير السن ذي لحية بيضاء، متعلق بأستار الكعبة ويبكي، وارتفع صوته فجأة وكأنما يتحدث بمكبر الصوت، قائلاً: إله الحق أرنا في أمريكا آية، دعوة عجيبة! والله العظيم! الواحد منا لا زال جسمه يرتعش منها إلى الآن، وظل يرددها ويبكي ويصرخ، يقول من حدثني: فكل الناس الذين في صحن الطواف سمعوا الدعوة، والكل بكى وصرخ، وبعد تقريباً ثلاث ساعات تذيع أخبار العالم ما وقع في أمريكا! أنتم تستهينون -يا إخواننا- بدعوة الضعيف الصادق؟! هذا سهم -والله- لا يرد، أنا أعتقد أن ما وقع إنما هو استجابة من الله عز وجل لدعوة المظلومين المقهورين الصادقين ممن تحترق قلوبهم، ولا يملكون أن يقدموا شيئاً.
وفي هذا بيان منالله أنه ليس هناك قوة على وجه الأرض ستقدر أن تهدم الإسلام؛ لأن الإسلام باقٍ وسيبقى، وسيهلك الله كل من يحارب الإسلام، وسيبقي الله الإسلام شامخاً؛ لأن الذي وعد بإبقائه هو الله الحي الباقي الذي لا يموت سبحانه وتعالى.
وأختم بالكلمة الجميلة هذه، وبهذا الخبر الذي نشرته مجلة (التايم) الأمريكية، تقول: وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي في هذه المرة لا تشرق من الشرق، وإنما تشرق من الغرب، من قلب أوروبا، تلك القارة العجوز التي بدأت المآذن فيها تزاحم أبراج الكنائس في روما ومدريد ولندن وباريس، وصوت الأذان كل يوم خمس مرات خير شاهد على أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً جديدة.
هذا خبر في التايم.
اليوم المسلمون في قلب أوروبا أكثر من خمسة وخمسين مليون مسلم، وهذا عدد لا يستهان به على الإطلاق، وهم الآن أصبحوا مثل اللقمة التي ليسوا قادرين على أن يبلعوها ولا أن يلفظوها، فوقفت في الزور لا تبلع ولا تمضغ ولا تلفظ.
اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، اللهم اهزم أحزاب الكفر، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم شتت رميهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم احفظ إخواننا في أفغانستان، اللهم احفظ أهلنا في أفغانستان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم احفظهم بحفظك، واكلأهم بعينك، واحرسهم برعايتك، اللهم إنهم ضعاف فقوهم، اللهم إنهم أذلاء فأعزهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إن أهل الأرض قد تجمعوا عليهم فكن لهم يا ملك! يا قدير! اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، واغفر ذنبهم، واستر عيبهم، وفرج كربهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل الدائرة على عدوهم، اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم، اللهم اجعل تدبير الأعداء تدميرهم، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(65/15)
الإرهاب اليهودي
واقع الأمة اليوم واقع مأساوي، ينزف بالدماء وتطاير الأشلاء، وأكبر المسئولين عن ذلك هم إخوان القردة والخنازير وقتلة الأنبياء، والواقع أكبر شاهد على أن اليهود أئمة الإرهاب العالمي وقادته.
فعلى الأمة الإسلامية أن تفيق لتأخذ بثأرها، وتنزع السوط من يد جلادها، وأن تعلم أن الحل لن يأتي عن طريق طاولة المفاوضات أبداً، فإن اليهود هم اليهود (نقضة العهود)، وإن الحل لا يكون إلا بالرجوع إلى الله، وبرفع راية الجهاد في سبيل الله.(66/1)
واقع ينزف
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً.
وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! الإرهاب اليهودي.
هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الذي يجمع بين الآلام والآمال، وبين الجراح والأفراح في العناصر المحددة الآتية: أولا: واقع ينزف.
ثانياً: اليهود هم اليهود.
ثالثاً: الكفر ملة واحدة.
رابعاً: فما الحل؟ وأخيراً: لا تيأسوا، فمن رحم الظلام يولد الصباح، فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يقر أعيننا بذل اليهود والأمريكان، ونصرة الإسلام والمسلمين، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
واقع ينزف! آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الد نيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق إنها المحنة والرزية إنها الفتنة إنها مرحلة الاستضعاف!! آه يا مسلمون القدس تباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق القدس من دولة المجد عثما ن أبوها والفاتح العملاق القدس من قلب مكة بالتو حيد يعلو لواؤها الخفاق تركوها وحولها من كـ لاب اليهود طوق من خلفه أطواق قدمته الصلبان لليهود قربا ناً ولليهود كلهم عشاق ولو فعلنا باليهود ما فعلوه لرأينا مثل الذي رآه عراق قد حفظنا للمرة الألف عنكم عالم الغاب ما له ميثاق(66/2)
صورة سوداء من صور الإرهاب اليهودي في فلسطين
واقع ينزف طفل لا يعرف أين ذهب أبوه! ولا أين ذهبت أمه! ولا أين ذهب إخوانه! طفل في الثانية من عمره ينظر إلى السماء التي حولها السلاح الأمريكي في أيدي اليهود إلى نهار مضيء فيتساءل: ما هذه الأنوار في جو السماء في ظلام الليل الدامس؟! ما الذي حول سماء فلسطين المظلمة إلى نهار وأنوار متأججة متوهجة وهو لا يدري أن الصواريخ والطائرات والدبابات والمدافع قد حولت هذا الظلام الدامس الحالك إلى نار مضيئة!! ثم ينظر فيرى أشلاء أمه تتناثر! ويرى أشلاء أبيه تتمزق! ويرى دماء إخوانه تنساح في كل واد! فيخرج الطفل مذعوراً مفزوعاً يخرج إلى الشوارع والطرقات! فيرى جندياً يهودياً يقابله بهذا المدفع الرشاش أو بهذه الدبابة! بل بأرتال من الدبابات والمجنزرات! حتى لم يبق اليهودي على بيت، ولا يبقى رجلاً ولا امرأةً ولا طفلاً يحمل حجراً في يده؛ لأنه ما زال يقدر على حمل الحجر في يده! دكوا مخيم جنين وسووا هذا المخيم بالأرض، وانبعثت رائحة -لا أقول رائحة الجثث- بل رائحة الخيانة خيانة العالم الغربي خيانة العالم العربي خيانة زعماء العالم كله في الداخل والخارج في الشرق والغرب.
لا أقول انبعثت روائح جثث إخواننا من الشهداء -أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء- بل انبعثت روائح الخيانة.
من أين؟! من تحت الأنقاض! من المقابر الجماعية! ما الذي فعله العالم إلى الآن؟ لم تستطع قوة على وجه الأرض أن تحصر عدد القتلى أو عدد الشهداء؛ لأن اليهود دكوا المخيم دكاً في تسعة أيام متواصلة وسووه بالأرض! ودفنوا الجثث في مقابر جماعية وأهالوا على هذه الجثث الزكية من رجال ونساء وأطفال التراب.
ولقد وصل بالأمس مبعوث الرمم المتحدة في الشرق الأوسط، وصرح تصريحات واضحة، وقال: إن ما حدث في مخيم جنين فاق كل التصورات، قال: حتى شممت رائحة الجثث في الشوارع في الطرقات، بل ورأى -على حد تعبيره- مجموعة من الفلسطينيين ما زالوا إلى يومنا هذا يستخرجون الجثث من بين الأنقاض.(66/3)
قلب الحقائق عند اليهود وأعوانهم
أيها الأحباب! بالأمس بوش -لعنه الله في الدنيا والآخرة، هذا الظالم السفاح، يقول: شارون رجل سلام! وعلى عرفات أن يبذل ما وعد به من القضاء على الإرهاب! آه! أمر يفجر الدم من الرأس! أي إرهاب يا مسلمون؟! أي إرهاب؟! أصار الدفاع عن العرض إرهاباً؟! أصار الدفاع عن المقدسات إرهاباً؟! أصار الدفاع عن الشيوخ والنساء والأطفال إرهاباً؟! قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر لو قتل غربي قام العالم كله، ولو قتل شعب آمن أعزل لا يملك شيئاً فهذا أمر عادي! إنهم إرهابيون!! إن الفلسطينيين هم الإرهابيون! أما شارون السفاح المجرم، مدبر كل هذه المجازر من (صبرا، وشاتيلا، وتل الزعتر، ودير ياسين) إلى آخر هذه المجازر في مخيم جنين فإنه رجل سلام!! إنا لله وإنا إليه راجعون.
أصرخ! ولكن في صحراء مقفرة! ويصرخ الأحرار والشرفاء في الشوارع والطرقات! ولكن أين المعتصم؟! عبثاً دعوت وصحت يا أحرار عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب مسندة فلا ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن ولا للمسلمين خيار يا ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت فليست للخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً لقادة العرب! شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاغ منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم يا مسلمون نساؤكم يسألن عنكم والدموع غزار هذي تساق إلى سراديب البغا سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار، أي: في فلسطين أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وجوع قاتل وحصار فاليهود يذبحون رجالهم ونساءهم وما لهم ناصر ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم يا مسلمون تنسون أن الضـ عف في وجه العدو مذلة وصغار هذي هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار هذا هو الأقصى يهود جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون نثار مليارنا لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جرَّأ اليهود إلا صمتنا ولكم يذل بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار واقع ينزف!! ما الذي دهى الأمة؟! ما هذا؟! إلى متى؟! متى سيفيق الحكام والزعماء؟ فوالله الذي لا إله غيره إن المخطط اليهودي لا يقتصر على فلسطين فحسب، بل إن خريطة اليهود مرسومة على (الكنيست)، وقد صرح بهذا بن غوريون في أول يوم اعترفت فيه الدول الغريبة الظالمة بهذه الغدة السرطانية الخبيثة على الثرى الطاهر، قال بن غوريون: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظور سياسي أو قانوني، ولكن فلسطين حق لنا من منظور ديني عقدي، فهي أرض الميعاد التي وعدنا الله بها من النيل إلى الفرات.
انظروا إلى خريطة وتاريخ اليهود؛ لتعرفوا أن القوم يخططون، ولن يقتصر اليهود على فلسطين، لا ورب الكعبة، بل إن لليهود هدفاً واحداً قد بينه لنا ربنا جل جلاله ألا وهو أن يخرج المسلمون من دينهم، كما قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].(66/4)
اليهود هم اليهود
عنصرنا الثاني بإيجاز شديد: اليهود هم اليهود، ومكمن الخطر أن الحكام والزعماء والساسة ما زالوا يتفاوضون معهم وهم لا يعرفون شيئاً ألبتة عن طبيعة اليهود.
ما زلنا ننتظر شارون رجل السلام اليهود حمائم السلام أمريكا هي الراعي الأوحد لعملية السلام في المنطقة! لابد من التدخل الأوربي! لابد أن نناشد هيئة الأمم ومجلس الأمن! لابد من أن يتدخل بوتن السفاح الروسي الملعون الملحد حتى يتم التوازن في المنطقة إلى آخر هذه الكلمات التي تنم عن جهل فاضح بطبيعة القوم بطبيعة اليهود بطبيعة من نفاوض.
لماذا؟ لأن القرآن غُيِّب عن الساحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غُيِّب بشريعته عن الساحة، فصار كل واحد يهرف بما لا يعرف! أما لو دخلت الساحة من جديد كلمات ربنا وكلمات الصادق نبينا؛ لعلم المفاوض مع من يتفاوض ولعلم الساسة مع من يتحدثون، وعلى مائدة من يجلسون.
اليهود لا يعرفون سلاماً، ولن يعرفوا سلاماً قط حتى ولو منحوا الفلسطينيين أو الأمة هدنة، فإنها هدنة للتجديد هدنة للتخطيط هدنة للإعداد فاليهود لا يعرفون ولن يعرفوا السلام قط.
هل تصدقون الله؟! هل تصدق الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! اليهود ما ثبتوا على عهد قط، وهذا كلام ربنا إن كنا لا زلنا نصدق ربنا! وليس بقول زعيم ولا عالم!! يقول ربنا جل جلاله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال:56].
هذا قرآن يا مسلمون! وددت لو أسمعت زعماء الأمة هذا، ربما كانوا لا يسمعون القرآن، ولا يقرأ أحد منهم كلام الرحمن: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال:56]، قال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا} هذا العهد منهم هم {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] فاستحقوا اللعن من الله، واستحقوا أن يبتليهم الله بقسوة قلوبهم، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13] فاليهود لا يعرفون عهداً ولا ميثاقاً ولا وفاءً! كيف يفي اليهود بالعهود؟! اليهود لا يعرفون سلاماً، وهذا دأب القوم وطبيعتهم، ولا ينبئك عن اليهود مثل خبير، قال جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] هذه عقيدة لابد أن تتأصل في قلب كل رجل وامرأة، وكل شاب وطفل من أطفالنا.(66/5)
الكفر ملة واحدة
أيها الأحبة! إنني أتعجب غاية العجب ممن ينتظرون من أمريكا أن تنصر القضية، أو أن ينصر الغرب القضية، فالكفر ملة واحدة وهذا هو عنصرنا الثالث.
فلابد من تكرار هذه المادة العقدية، ولابد من تأصيلها الآن في القلوب: لا ينصر الشرك إيماناً، ولا ينصر الكفر توحيداً قط: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
قال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
وقال الله جل جلاله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، قال الله جل جلاله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
هل تريد الأمة أدلة أكثر من ذلك؟! متى نصر الكفر إيماناً؟! حال أمتنا حال عجيبة وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة وسيحفرون لها قبوراً ضمن خطتهم رحيبة قالوا: السلام قلت يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبة فإذا سلامهم هو التنـ ـازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذاً وبئـ ـست هذه الخطط المريبة وأقول وأكرر: قالوا لنا: ما الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاو من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات لدنيا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه ولكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الأمن! بل يا مجلس الخوف! يا مجلس الأمن المخيف إلى متى تبقى لتجار الحروب رهينا وإلى متى ترضى بسلب حقوقنا منا وتطلبنا ولا تعطينا لعبت بك الدول الكبار فصرت في ميدانهن اللاعب الميمونا يا مجلساً غدا في جسم عالمنا مرضاً خفياً يشبه الطاعونا شكراً لقد أبرزت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إني أراك على نهاية ناهية ستصير تحت ركامها مدفونا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14].
أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام.
نم قرير العين واهنأ خاطراً إن عدل الله دائم بين الأنام {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] ونحن ورب الكعبة نؤمن بهذا إلى حد عين اليقين، بل حق اليقين: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47] فالغرب لن ينصر لنا قضية أبداً.
كررنا هذا، وأكرره وسأكرره مراراً وتكراراً: الغرب لن ينصر لنا قضية؛ لأن الكفر ملة واحدة.(66/6)
ما هو الحل
أيها الأحباب! السؤال الآن: ما الحل؟ والحل على مستويين: مستوى الأمة -مستوى الساسة والحكام- ومستوى الأفراد.(66/7)
الحل على مستوى الزعماء
أولاً: على مستوى الزعماء: أول خطوة تجب عليهم: أن يرجعوا إلى الله، وأن يعلنوا توحيدهم لله، وأن يحكموا في البلاد والعباد شرعه، وأن يمتثلوا أمره، وأن يجتنبوا نهيه، وأن يقفوا عند حدوده، وأن يرددوا مع شعوبهم المسلمة قولة السابقين الأولين الصادقين: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، ونحن بهذا أمام حد الإيمان وشرط الإسلام، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
فأنا لا أفهم أبداً من آية قرآنية أو سنة ربانية كونية أو كلمات نبوية، لا أفهم ألبتة أن رب البرية جل جلاله ينصر أناساً قد خذلوا دينه وغيروا شريعته في الجملة.
لابد أن يرجعوا إلى الله ابتداءً، وأن يحكموا في البلاد والعباد آيات الله ومنهج الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينئذٍ تكون الأمة مهيأة للخطوة التالية التي لا كرامة للأمة الآن إلا بها ألا وهي أن ترفع راية الجهاد في سبيل الله.
إنني أعي ما أقول! ماذا لو اتخذت الأمة عبر قادتها قرارات سياسية ودبلوماسية فإن لم تجد فنحن لا نحب الحرب ولا نحب سفك الدماء إطلاقاً، لكن لابد من أن تروى شجرة الدعوة بدماء الأطهار الأبرار؛ لتظل هذه الشجرة مثمرة.
هذا أمر كوني قدري قضاه الله تبارك وتعالى وقدره على أهل التوحيد؛ ليفوزوا بإحدى الحسنين: إما النصر، وإما الشهادة.
ولن تكون الأمة مهيأة لرفع راية الجهاد لإعلاء كلمة الله، إلا إذا عدنا إليه سبحانه وتعالى واعتصمنا به ولجأنا إليه وحده، وجددنا الثقة فيه وحده، ورجوناه وحده، وقطعنا كل العلائق والروابط وارتبطت قلوبنا بالله سبحانه وتعالى وحده.
لماذا لا تتخذ الأمة قرارات سياسية أو دبلوماسية كطرد سفراء أو سحب سفراء وإن كنت أعلم أن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، لكن فلتخط الأمة على الطريق خطوات؟! ولماذا لا تستخدم الأمة سلاح المقاطعة للسلع التي تستغني عنها الدول والشعوب؟ هناك كثير من السلع الاستهلاكية لا نحتاج إليها، أو لن نموت بدونها، أما السلع الرئيسية التي تحتاج إليها الشعوب والأمم فلا حرج في ذلك ولا بأس، لكن هذا يدفع الأمة الآن دفعاً إلى أن تبدع، والأمة لا تفتقر إلى العقول والأدمغة المبدعة، لكنها الهزيمة النفسية التي منيت بها أمة سيد البشرية ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولماذا لا تستثمر الأمة ما رزقها الله تبارك وتعالى به من طاقات كالبترول في محاربة أعداء الله؟! استهزئ بقرار العراق بقطع البترول عن أوروبا وأمريكا لمدة شهر! سخر بهذا القرار واستهزئ به، فماذا لو كان هذا القرار سارياً على مستوى الأمة؟! إذاً: لتغير الحال، فإن استخدمت الأمة كل هذه الخيارات السلمية ولم تجد شيئاً مع السفاح شارون -وأنا أعلم أنها لن تجدي شيئاً، لكن هذا من باب الطرح- فحينئذ لا خيار أمام الأمة إلا أن تفتح الباب لملايين الرجال والشباب ممن تتحرق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله.
أيها الأحباب! لماذا لا يمكن العلماء اليوم والدعاة من تجييش طاقة الأمة لإحياء روح الجهاد في سبيل الله؟! فليمت مليون! إلى أين يذهبون إن صحت النوايا إلى الفردوس الأعلى.
يا إخوة! تصوروا أن رجلاً قد أذنب ما قدر الله له أن يذنب -فنحن نؤمن بأن الخير والشر مخلوقان لله- ومع أول قطرة دم تنبعث من جسده الطاهر في ساحة الجهاد يغفر الله له كل ذنوبه! أي مكسب هذا في عالم المكسب والخسران؟ إما عظماء فوق الأرض بكرامة وإما عظام تحت الأرض، ونسأل الله الشهادة.
أقسم بالله أن نساءنا سيسبقنا وأن أطفالنا سيسبقوننا إلى هذه الساحة؛ لنعلم كلاب الأرض من اليهود مهما كانت مجنزراتهم وأسلحتهم درساً لا ينسوه أبداً.
ورب الكعبة سُيعلم شباب محمد صلى الله عليه وسلم كلاب الأرض من اليهود أن محمداً مات وما خلف بنات، بل خلّف رجالاً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله.
فليفتح الباب، فليمت مليون مليونان عشرة ملايين الناس يريدون الشهادة.
أيها الأحبة! لو مكن العلماء الآن من وسائل الإعلام لجيشوا -والله- ملايين الشباب في الأمة ممن يتشوقون للجهاد في سبيل الله ضد كلاب الأرض من اليهود، ثم لو حكم الزعماء شرع الله فلا خوف من هذا الشباب؛ لأنه سيرجع ليسمع ويطيع هكذا علمنا نبينا، فشبابنا لا يبحث عن الزعامات، ولا يبحث عن القيادات، إنما يريد فقط أن يحكم بقال الله قال رسول الله، ولو حكمنا عبد حبشي مجدوع الأنف سنسمع له ونطيع، وسنكون سهاماً في كنانته يحركنا حيث شاء ما دام أنه يحركنا إلى مرضاة من يقول للشيء: كن فيكون.(66/8)
الحل على مستوى الأفراد
أما على مستوى الأفراد فأنا أنكر غاية الإنكار على أي شاب مسلم يخرج في مظاهرة ليحطم سيارة أو محلاً! لماذا نحطم بلادنا وأرضنا؟! لماذا تحطم سيارة أخيك وهو يسير في أمن وأمان؟! لماذا نعتدي على محلات إخوتنا من المطحونين أصلاً؟! لماذا؟ نريد فطنة يا إخوة! نريد تعقلاً نريد فهماً نريد وعياً نريد حضارة إسلامية في التفكير والسلوك.
ما قيمة هذه المظاهرات التي تخرب وتدمر؟ أنا لا أمنعك من التظاهر، بل يجب عليك أن تعبر عن غضبك، وأن تعبر عن احتراقك بأسلوب حضاري، وأنا لا أستعير هذه اللفظة من هؤلاء المجرمين لا، بل إن الإسلام هو أول من أسس الحضارة، وما سرقت أوروبا الحضارة إلا من الأندلس، وما سرقت فرنسا الإضاءة الكهربائية إلا من المسلمين.
يوم رصفت شوارع الأندلس كانت فرنسا تعيش في الوحل والطين، ويوم أضيئت شوارع الأندلس كانت فرنسا رائدة الحضارة في هذا الزمان، وإنجلترا التي كانت لا تغيب عن مملكتها الشمس تعيشان في الظلام الدامس.
فالإسلام هو الذي أسس الحضارة، فنحن نريد أن نعبر عن غضبنا وعن ألمنا بأسلوب حضاري، ونبتعد كل البعد عما يغضب الله جل وعلا، وعما يفسد علينا أرضنا وبلادنا.
أنا لا أجامل بذلك مخلوقاً، إنما هذا ما أدين به لربي تبارك وتعالى.
ثم فرق كبير بين أن تعبر عن غضبك في مثل هذه المسيرات السلمية بالضوابط الشرعية: من عدم اختلاط، وعدم تعطيل وإفساد.
فرق كبير بين أن تعبر من خلال هذا وبين أن تعتقد أن النصرة للدين في مثل هذه المسيرات.
فرق كبير بين هذا وذاك، بل أخشى الآن -ورب الكعبة- أن تفرغ طاقات الأمة في مثل هذه المظاهرات الحماسية، أخشى أن تفرغ الطاقات في مثل هذه المظاهرات، فقد يخرج الرجل ويحطم بالحجارة ويرجع وهو معتقد أنه فتح القدس، وأدى كل ما عليه لله جل وعلا! أكرر القول حتى لا يردد القول أحد طلابنا بخطأ: فرق بين أن تعبر عن غضبك وأملك بقلبك في هذه المسيرات السلمية وبين أن تعتقد أن هذا هو السبيل للنصر، فالطريق النصر تصحيح العقيدة تصحيح العبادة تحكيم الشريعة تصحيح ما فسد واعوج من الأخلاق تهيئة جيل النصر بالتربية على القرآن والسنة وكل هذا التأصيل يأتي بعده حتماً: رفع راية الجهاد في سبيل الله.
هذا ما أدين الله به وسيسألني شاب من طلابنا: هل ستنتظر الأمة -أيها الشيخ- لتربى على العقيدة والعبادة؟!
و
الجواب
فرق بين جهاد الطلب وجهاد الدفع.
أما جهاد الطلب: فهو فرض كفاية، إن قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن بقية المسلمين، هذا هو الذي يحتاج إلى التربية المتواصلة من إعداد عقدي من إعداد تعبدي من تحكيم لشرع الرب العلي من تهيئة لجيل النصر.
أما جهاد الدفع، ومعناه: أن يداهم العدو أرضاً من أراضي المسلمين، فعند ذاك صار الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة في هذه الديار التي داهمها العدو، كل بحسب قدرته واستطاعته، ويحرم على المسلم القادر على الجهاد أن يجلس في بيت من بيوت الله ليطلب العلم الشرعي.
أيها الأحبة! في جهاد الدفع يجب عليك أن تدفع العدو الصائل، ويحرم عليك أن تتقاعس عن الجهاد لأي سبب إن كنت قادراً على أن تشارك في حدود قدراتك واستطاعتك وإمكانيتك.
فأرجو من شبابنا أن يؤصلوا هذه المسائل الشائكة الدقيقة؛ لأن الحماس وحده لا يكفي، ولأن الإخلاص وحده لا يكفي، بل لابد أن يكون الحماس والإخلاص منضبطين بضوابط الشرع، حتى نرضي ربنا جل جلاله، وحتى نكون بحق من أنصار نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا واقع مرير نحياه- وهذا تأصيل يبتعد كل البعد عن التنظير الباهت الفارغ البارد، لكنني أتحدث عن واقع نعرفه جمعياً.
إن لم تستطع أن تجاهد مع إخوانك بنفسك فبمالك، فلو تبرعنا الآن بمائه جنيه ونحن نعلم يقيناً أنه لن يصل من المائة جنيه إلا عشرة جنيهات فلنبذل المائة الجنيه لتصل العشرة جنيهات، فإخواننا هنالك في حاجة إلى جنيه لا إلى عشرة جنيهات، وأنا أتحدث من خلال الواقع الذي نعرفه.
أخي في الله! جاهد بمالك فإن لم تستطع فبدعائك، لا تحتقر الدعاء ولا تستهن به، فأنا أقسم بالله أن القطار الأمريكي ما خرجت عجلاته عن القضبان بالأمس، وقتل فيه من قتل، وجرح فيه من جرح إلا استجابة من الملك لدعوة مطحون مظلوم لا يقدر على شيء.
وأن هذه الطيارة السياحية التي ضربت هذا البرج العالي في إيطاليا، والله ما أراها إلا استجابة من الله العلي الأعلى لدعوة صادقة من مسلم يحترق قلبه وهو لا يقدر أن يقدم شيئاً إلا الدعاء مسلم اطلع الله عليه في جوف الليل يتململ كتململ العصفور المبلل بماء المطر بين يديه أن يرفع الغمة عن الأمة.
فلا تحتقر الدعاء -أخي- ولا تستهن به، فإننا الآن قد خذلنا إخواننا حتى في الدعاء، وأسألكم بالله من منكم دعا يوم الخميس الماضي في كل سجدات صلواته لإخوانه في فلسطين؟! أقسم بالله لو قدمنا الآن استمارة استبيان في الجمع الحاشد من الصفوة لرأينا قلة هي التي دعت لإخوانها في فلسطين في كل سجدة من سجدات الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
والله لن نرى إلا قلة، فاسمحوا لي أن أقول: أمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال والدماء؟! إن هذا التأصيل يأتي بعيداً عن التنظير البارد أمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالمال والدماء؟! أيها الأحباب! ثم يأتي الجهاد بالكلمة بالمحاضرات بالدروس في الشوارع في الطرقات في الوظائف في المكاتب في المجلات تستطيع أن تتصل على مسئول من المسئولين فافعل، إن كنت تقدر على أن تعبر بمقال في جريدة فافعل، إن كنت تملك أن تعبر برسم (كاريكاتوري) معبر فافعل، إن كنت لا تستطيع أن تتحدث عن هذه القضية إلا أمام امرأتك وأولادك فافعل، إن كنت تقدر أن تتحدث في هذه القضية مع زملاء العمل فافعل، المهم أن تشغل القضية مجالسنا وقلوبنا وعقولنا، وأن نجاهد بالكلمة، فالكلمة من أعظم صور الجهاد في سبيل الله، ولن يسألنا الله تبارك وتعالى عن شيء عجزنا عن فعله، والله يعلم الصادق من الكاذب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يسقط الواجب بالعذر عنه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يحيي قلوبنا، وأن يقر أعيننا بنصرة إخواننا.
أسأل الله أن يقينا حر جهنم، وأسأل الله أن يجعلنا من أهل الفردوس الأعلى؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الجميع.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(66/9)
لا تيأسوا فمن رحم الظلام يولد الصبح
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وبعد: فأخيراً: أيها الأحبة! لا تيأسوا، فمن رحم الظلام يولد الصباح، فقد صرح جنرالات اليهود أن الفلسطينيين سطروا ملحمة من أروع ملاحم البطولة والفداء في مخيم جنين.
قرأت لضباط في الجيش الصهيوني يقولون: لقد تحولت شوارع جنين إلى ألغام محرقة! هل تتصور ماذا فعل إخواننا مخيم جنين؟! مكان لا تزيد مساحته عن أربعة كيلو مترات مربعة فقط -ولا يزيد اتساع الشارع في كل شوارع مخيمات جنين عن مترين فقط- فخخ إخواننا أعمدة الكهرباء فيه ووضعوا العبوات الناسفة عليها، وعلى أغطية الصرف الصحي، وفخخوا بعض البيوت، وعجز الجيش اليهودي بأرتاله وصواريخه وطائراته لمدة ثلاثة أيام متواصلة أن يقتحم المخيم أمام هذا الصمود الباسل لإخواننا على أرض فلسطين، فما كان من المجرم رئيس الأركان شاءول موفاز إلا أن قاد العملية بنفسه، فبدأت الجرافات تهدم البيوت ليفتحوا طريقاً للدبابات في هذه الشوارع التي لا يزيد اتساعها عن مترين، ففتحوا مجموعة من الشوارع يزيد اتساع الشارع على20 متراً.
تصور معي حجم الهدم للبيوت ليجعلوا الشارع بهذا الاتساع! وهدموا البيوت وصمد الأبطال إلى آخر طلقة في بنادقهم الآلية التي لا يزيد مداها عن مائتي متر، أمام الطائرات (الإف 16) أمريكية الصنع أمام طائرات الأباتشي الأمريكية أمام الرشاشات التي تعمل بالليزر.
صمد هؤلاء الذين يعلمون يقيناً أن الغرب والشرق والعرب لن ينصروا لهم قضية، فاستعانوا برب البرية.
سمعت أماً قد تجاوزت السبعين من عمرها ترفع رأسها ويديها إلى السماء وهي تقول: النصر منك يا رب! قلت: من هنا يأتي النصر إن شاء الله حينما تقطع كل العلائق الدنيوية، وتتعلق القلوب بمن يدبر أمر الكون، سيأتي النصر إن شاء الله، وما يحدث الآن على أرض فلسطين -ورب الكعبة- نصر وإن جرت الدماء وإن تطايرت الأشلاء!! نعم، لابد أن تروى شجرة الدعوة بالدماء؛ ليذهب الشهداء إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وليبقى من قدر الله له أن يبقى في عزة وكرامة، وهذا وعد الله تبارك وتعالى، وهذه سنة ربانية لا تتبدل ولا تتغير.
صمد إخواننا في جنين إلى أن نفدت آخر رصاصة من بنادقهم الآلية، وسطروا ملحمة من أروع ملاحم البطولة الأم الفلسطينية الطفل الفلسطيني الشاب الفلسطيني الذي لم يبلغ العشرين من عمره، يعلم العالم كله الآن حقيقة التضحية وعظمة الفداء وشرف البطولة، فإن الله الذي جعل الأقصى والقدس سكناً للأنبياء لن يديم القدس أبداً سكناً لقتلة الأنبياء، قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ} اسمع! {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111].
هذه الآية في اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، بل ستنزل الخلافة على الأرض المقدسة كما قال الصادق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم بسند صححه الحاكم والذهبي والألباني: (أن النبى صلى الله عليه وسلم وضع يوماً يده على رأس ابن حوالة الأزدي، وقال: يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) فستنزل الخلافة الأرض المقدسة بموعود الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، لكن الله لا يعجل بعجلة أحد، ومع ذلك فليس أحد أرحم بالمستضعفين من رب العالمين.
وفي الحديث الذي رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله ثقات من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة).
وفي الحديث الذي رواه أحمد بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (بينما أنا نائم إذ رأيت عمود الكتاب قد احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) يعني: سيكون الإيمان في بلاد الشام حينما تقع الفتن.
هذا وعد الله وهذا وعد الصادق رسول الله.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم احفظ إخواننا في فلسطين اللهم احفظ إخواننا في فلسطين اللهم احفظ إخواننا في فلسطين اللهم احفظ إخواننا في فلسطين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم اللهم إنهم جياع فأطعمهم اللهم إنهم خائفون فأمنهم اللهم إنهم خائفون فأمنهم اللهم إنهم خائفون فأمنهم! اللهم شتت شمل اليهود اللهم شتت شمل اليهود اللهم! عليك باليهود وأعوانهم اللهم عليك بكل من خان الدين من أجل اليهود اللهم إنه لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه.
.
يا غياث المستغيثين يا غياث المستغيثين يا غياث المستغيثين أغثنا يا غياث المستغيثين أغثنا! اللهم أرنا في أمريكا آية اللهم أرنا في أمريكا آية اللهم أرنا في أمريكا آية اللهم أرنا في اليهود آية اللهم أرنا فيهم آية اللهم أرنا فيهم آية اللهم! أحصهم عدداً اللهم أحصهم عدداً اللهم اقتلهم بدداً اللهم لا تبق منهم أحداً.
اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً اللهم لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً! إلهنا انقطعت بنا كل الحيل، وانقطعت بنا كل السبل ولا ملجأ لنا إلا أن نلجأ لبابك فلا تحرمنا من فضلك وثوابك، ولا تطردنا عن جنابك! اللهم لا تحرمنا من فضلك وثوابك! اللهم لا تردنا خائبين ولا من فضلك قانطين، ولا من رحمتك وعفوك يائسين اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا يا من إليه يلجأ الخائفون يا من إليه يلجأ الخائفون يا من إليه يلجأ الخائفون يا من عليه يتوكل المتوكلون يا من إليه تبسط الأيدي ويسأل السائلون.
اللهم ارفع الهم والغم عن أمة المصطفى اللهم ارفع الهم والغم عن أمة المصطفى اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم! اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، يا رب لا تحرم مصر من الأمن والأمان يا رب لا تحرم مصر من الأمن والأمان.
اللهم ارفع عن مصر الغلاء اللهم ارفع عن مصر البلاء اللهم ارفع عن مصر الوباء اللهم ارفع عنها الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين! يا رب إن القلوب بين أصبعين من أصابعك فحول قلوب الحكام إليك يا أرحم الراحمين اللهم حول قلوب الحكام إليك يا أرحم الراحمين! اللهم حول قلوبهم إلى قرآنك اللهم حول قلوبهم إلى سنة نبيك اللهم حول قلوبهم إلى شرعك اللهم! حول قلوبهم إلى شرعك أنت ولي ذلك والقادر عليه! اللهم! اشف صدورنا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، أنت ولي ذلك والقادر عليه، برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/10)
الرزق ثمرة التوكل
التوكل على الله في الأمر كله من واجبات الإيمان، ومن مقتضى التسليم للرحمن، وليس معنى التوكل ترك الأسباب، بل إن الأخذ بالأسباب من تمام التوكل.
ثم إن الأسباب تنقسم إلى: مادية، ودينية، فالأولى: تقع للمسلم والكافر، والثانية: لا تقع إلا لأولياء الله، وهي كثيرة ومتعددة، وقد دل عليها الشرع وصدقها الواقع، فكم من قصص واقعية صدقت ذلك، سواء في الزمان المتقدم أو في وقتنا الحاضر.(67/1)
حقيقة التوكل
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا، الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(الرزق ثمرة التوكل)، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم المبارك، وسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع المهم في العناصر المحددة التالية: أولاً: حقيقة التوكل.
ثانياً: الرزق ثمرة التوكل.
ثالثاً: ثلة من بستان المتوكلين.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يرزقنا جميعاً صدق التوكل عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: حقيقة التوكل: روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم بسند صحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً).
تدبر معي كلام النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى: (تغدوا خماصاً)، أي: تخرج في الصباح الباكر وبطونها فارغة، لا تملك إدارة ولا تملك كمبيوتر ولا تملك إنترنت، (وتروح بطاناً)، أي: ترجع في وقت الروحة وقد رزقها الرزاق ذو القوة المتين.(67/2)
وجوب التوكل على الله مع وجوب الأخذ بالأسباب
فحقيقة التوكل أيها الأخيار الكرام! أن نأخذ بالأسباب، وأن تكون قلوبنا في الوقت ذاته معلقة بمسبب الأسباب، إذ إن الأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر مسبب الأسباب، فالمؤمن يأخذ بالسبب، ويعلق قلبه بمسبب السبب، فإن تيسر أمر فبتيسيره، وإن تعسر أمر فبتقديره، وأنا لا أعلم الآن أمة قد ضيعت قانون السببية كأمة سيد البشرية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالأمة الآن متواكلة إلا من رحم ربك جل وعلا، إذ إن الأمة قد ضيعت الأسباب وظنت أنها لعلاقتها بالله تبارك وتعالى، وبنسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم -دون أن تأخذ بالأسباب- ظنت أن الله سينصرها! ولله سنن ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة، فالمصطفى كان قائد المعركة في أحد، فلما تخلى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب النصر كانت الهزيمة.
إن لله سنناً ربانية في الكون لا تتبدل ولا تتغير، ولا تحابي تلك السنن أحداً من الخلق بحال، مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة.
فالتوكل على الله أن نأخذ بالأسباب: أن نأخذ بأسباب القوة، وأن نأخذ بأسباب النصر، وأن نأخذ بأسباب العزة والاستخلاف والتمكين، وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب لا بالأسباب، وهذا هو الفارق بين المؤمن الذي وحد الله جل جلاله، وبين الكافر الذي يأخذ بالأسباب ولا يعلق قلبه إلا بالأسباب فقط.
فحقيقة التوكل صدق اعتماد القلب على الله مع الأخذ بالأسباب، فالتوكل هو جماع الإيمان، وهو نهاية تحقيق التوحيد.
قال سهل بن عبد الله التستري: من طعن في الأسباب فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالدخول في الأسباب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عمل على سنته فلا يتركن حاله.
فسيد المتوكلين هو رسول الله، ومع ذلك ظاهر يوم أحد بين درعين، واستأجر يوم الهجرة دليلاً مشركاً ليدله على طريق الهجرة، وهو الصادق الذي هدى الله به العالمين، وكان يدخر القوت لأهل بيته، وكان إذا سافر للجهاد والحج والعمرة حمل الزاد والمزاد وهو صاحب القلب الذي لم يتعلق قط إلا بالله رب العالمين.(67/3)
فضل التوكل والمتوكلين
فهذه هي حقيقة التوكل ومن ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوكل فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3]، وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
وأثنى على أنبيائه ورسله الذين حققوا التوكل فقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12]، وأثنى على أوليائه الذين قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]، وأثنى على أصحاب النبي {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:173 - 174].
وأمر المؤمنين بتحقيق التوكل فقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، وجعل التوكل ثمرة حتمية للإيمان به سبحانه فقال جل وعلا: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
هذا هو التوكل وهذه حقيقته، هذا هو التوكل الذي جعله المصطفى ثمرة كريمة من ثمار الإيمان، وجعله المصطفى سبباً رئيسياً من أسباب الرزق.(67/4)
الرزق ثمرة التوكل
وهذا هو عنصرنا الثاني: الرزق ثمرة التوكل.(67/5)
المفهوم الشامل للرزق
قال ابن منظور في لسان العرب: الرزق هو ما تقوم به حياة كل كائن حي، مادياً كان أو معنوياً.
وكثير من الناس يظن أن الرزق هو المال فقط، وهذا فهم قاصر وخاطئ، فالرزق أوسع مدلولاً من المال، فالإيمان رزق، وحب النبي صلى الله عليه وسلم رزق، وحب الصحابة رزق، وحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم رزق، واليقين رزق، والتوكل على الله رزق، والخوف من الله رزق، والإنابة رزق، والتوبة رزق، والحلم رزق، والحكمة رزق، والعلم رزق، ومحبة الناس لك رزق، والزوجة الصالحة رزق، والذرية الطيبة رزق، والمال رزق.
والذي يرزق كل هذه الأرزاق هو الرزاق، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، لا على أوروبا ولا على أمريكا، لا على شرق ملحد ولا على غرب كافر، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
جلس إبراهيم بن أدهم ليأكل بعض قطع اللحم المشوي، فجاءت قطة فخطفت قطعة لحم وجرت، فقام وراءها ليراقب هذا الموقف، فوجد القطة قد وضعت قطعة اللحم أمام جحر في باطن الأرض في مكان مهجور ثم انصرفت، فازداد عجبه! وفجأة رأى ثعبان أعمى يخرج من هذا الجحر ليجر قطعة اللحم إلى جحره، فرفع إبراهيم رأسه إلى السماء وقال: سبحانك يا من سخرت الأعداء يرزق بعضهم بعضاً.
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6]، وقال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]، كيف ذلك والزرع في الأرض، والضرع في الأرض، والإدارة في الأرض، والشركات في الأرض، والوظيفة في الأرض، والله جل وعلا يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات:22]؟! لتعلم يقيناً أن كل ما تملكه في الأرض إنما هو الأسباب، والأسباب وحدها لا تضر ولا تنفع، ولا ترزق ولا تمنع إلا بأمر من استوى على العرش.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]، سمع الآية الكريمة أعرابي فقال: من ذا الذي أغضب الكريم حتى يقسم؟(67/6)
كيفية تحقيق التوكل
سئل حاتم الأصم فقيل له: يا حاتم! كيف حققت التوكل؟ سؤال جميل يحتاجه كل واحد منا.
فقال حاتم الأصم وهو من سادة المتوكلين من التابعين: حققت التوكل على الله بأربع خصال، قيل له: ما هي؟ قال: علمت بأن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت بأن عملي لا يعمله غيري فانشغلت به، وعلمت بأن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني على معصية، وعلمت بأن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله.
هؤلاء هم المتوكلون، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23]، ولكن الله جل جلاله لحكمته وكمال مشيئته قدر الرزق، وقدر للزرق أسباباً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: ما من شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.(67/7)
أسباب الرزق وأنواعه
وأسباب الرزق نوعان: أسباب مادية دنيوية، وأسباب إيمانية دينية.(67/8)
أسباب الرزق المادية
أما الأسباب الدنيوية المادية: فيستوي فيها الكافرون والموحدون، ولقد تعمدت أن أقدم المشركين والكفار؛ لأن بعض الناس يظن أن الأرض لا تعطي زرعها إلا لمن وحد الله جل جلاله، فالرزق عطاء ربوبية للكافر والمؤمن على السواء فالله يرزق الكفار ويرزق المؤمنين.
والسؤال المرير: أفيرزق ربنا الكفار، وينسى أن يرزق من وحدوا العزيز الغفار؟!
و
الجواب
أن الرزق عطاء ربوبية، فالأرض إن زرعها الكافر وبذرها وحرثها ورعاها أعطته الثمار، فهي لا تمنع رزقها وعطاءها عن الكافر وتمنح رزقها وعطاءها للمؤمن، كلا، لقد وعد الله أن يرزق كل دواب الأرض، فالرزق مكفول للكافرين والمؤمنين، فإن أخذ الكافر بأسباب الرزق الدنيوية المادية رزق.(67/9)
السبب الأول من أسباب الرزق الدينية
أما الأسباب الأخرى، فهي الأسباب الإيمانية الدينية، وهذه لا يذوق طعمها ولا يعرف حلاوتها إلا من وحد الله، فما هي هذه الأسباب؟ أما الأسباب المادية فإنها معلومة للجميع، ولكن الذي أود أن أؤكد عليه: أن الأسباب الإيمانية الدينية غفل عنها كثير من المسلمين.
ومن أعظم وأهم هذه الأسباب: التوكل على الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: فهو كافيه، تدبروا هذا، فوالله لو تدبر الناس هذا ما أكل الحرام من أكل، وما ارتشى من ارتشى، وما قتل من قتل، وما سرق من سرق إلا وهو جاهل بحقيقة التوكل على الله.
إن المفهوم الحقيقي لقضية الرزق مع التوكل على الله جل جلاله، وإلا فإننا نسمع بأذاننا في كل يوم تقريباً من يقول: انظر حولك، انظر خلفك، انظر بين يديك، الناس يتكاثرون، الأمطار تقل، الرزق يقل، من أين نأتي لهذه الأفواه الكثيرة بالطعام والشراب؟ ونسي هؤلاء أن الذي يرزق الكفار هو الله، أفيرزق الكفار وينسى من وحدوا العزيز الغفار؟! {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه.
وقال في الحديث الذي صدرت به الموضوع: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
ومن أرق وألطف ما قرأت في هذا الباب: أن حاتم الأصم -ذلكم الرجل الذي ذكرت أنه من سادة المتوكلين على الله- سأله رجل يوماً وقال له: يا حاتم! من أين تأكل؟ فقال له حاتم: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7]، أنت ترزق حتى إذا ما وجدت أخاً من إخوانك قد لبس ثوباً جميلاً قلت له: من أين أتيت بهذا الثوب؟ لو كنت رزاقاً ترزق العباد ونسيت أن ترزق هذا فسل: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7].
هذا الرجل - حاتم الأصم - كان فقيراً لا يملك إلا اليسير، وكان قد سمع الناس يتكلمون في حج بيت الله ويستعدون لذلك، فاشتاق لحج بيت الله، فجمع أولاده وقال: يا أولادي! لقد عزمت الآن على حج بيت الله، فقالوا: ومن يطعمنا؟ ومن يرعانا؟ ومن يأتي بحوائجنا؟ ومن يقضي لنا حوائجنا؟ فردت بنت صغيرة من بناته وقالت: يا أبتي! اذهب إلى حج بيت الله فإنك لست برازق.
وانطلق الرجل، ونفذ الطعام في البيت، وشعرت الأسرة بالجوع ودخلوا على هذه البنت التقية المتوكلة بالتوبيخ والتعنيف والتأنيب، فخلت هذه البنت بربها وقالت: إلهي وسيدي ومولاي! لقد عودت القوم فضلك فلا تحرمنا من فضلك، ولا تخزني بين أهلي.
وفي هذا التوقيت يقدر الرزاق ذو القوة المتين: أن يكون أمير البلدة في الشوارع والطرقات يتفقد أحوال الناس، وبينما هو أمام باب حاتم الأصم شعر بظمأ شديد كاد أن يقتله، فقال لجندي من الشرطة معه: أدركني بكوب من الماء، فلما علم أهل البيت أن الأمير على بابهم تعجبوا وهم الفقراء الذين لا يملكون شيئاً! يقف الأمير على بابهم سائلاً يطلب الماء! فأحضروا ماء بارداً وكوباً نظيفاً، فلما شرب الأمير الماء سأل: بيت من هذا؟ قالوا: بيت حاتم الأصم، قال الأمير: العبد الصالح؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي سقانا من بيوت الصالحين، أين هو لنسلم عليه؟ قالوا: ذهب لحج بيت الله، فقال الأمير: إذاً وجب علينا أن نكافئ أهل بيته في غيبته، وكانت العملة من الذهب، فأخرج صرة مملوءة ذهباً وألقاها في بيت حاتم الأصم.
ولكن الرزاق أراد المزيد، فالتفت الأمير إلى الشرطة والجند من حوله وقال: من أحبني فليصنع صنيعي، فألقى كل شرطي ما معه من المال مجاملة لأميره، وامتلأ البيت بالذهب، ودخلت البنت التقية النقية المتوكلة تبكي، فدخلت عليها أمها مع أولادها وقالت: لم البكاء وقد أصبحنا من أغنى الناس؟ فقالت هذه الفتاة الطيبة: لقد نظر إلينا مخلوق نظرة فاغتنينا، فكيف لو نظر الخالق إلينا؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، أما حاتم، فلقد أصيب أمير الحج بلدغة عقرب فسأل: هل في القوم من راق؟ قالوا: بيننا حاتم الأصم الرجل الصالح قال: ائتوني به، فرقاه حاتم فشفاه الله جل وعلا، فجعل له الأمير جعلاً كبيراً، فكان حاتم من أغنى الناس نفقة في الحج.
إن الذي يرزق هو الله.(67/10)
السبب الثاني من أسباب الرزق الدينية
السبب الثاني من أسباب الرزق: الاستغفار، والمداومة، والاستقامة على منهج العزيز الغفار.
قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13] أي: مالكم لا توحدون الله حق توحيده، ولا تعبدون الله حق عبادته، ولا تقدرون الله حق قدره، ولا توكلون على الله حق توكله؟! يا من حرمت من نعمة الأولاد! داوم على الاستغفار، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:12 - 13]، وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده وصححه العلامة أحمد شاكر، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب).
وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16] أي: لو استقاموا على منهج الله تعالى وعلى أوامره وحدوده؛ لرزقهم الله تبارك وتعالى رزقاً واسعاً طيباً.
روى الإمام أبو داود والترمذي وغيرهما بسند صححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نزلت به فاقة -أي فقر وحاجة- فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك الله له برزق عاجل أو آجل).
وفي الحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة)، سبحان الله! ما علاقة الحج والعمرة بالرزق؟ اسمع للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة).(67/11)
السبب الثالث من أسباب الرزق الدينية
السبب الثالث من أسباب الرزق: الانشغال بالطاعة والعبادة لله جل جلاله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
وفي الحديث القدسي الجليل الجميل الذي رواه الترمذي وابن ماجة بسند صححه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني -أي: لا تبتعد عني ولا عن طاعتي- أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلا).
ولا تعارض البتة بين ما أصلت له في أول اللقاء من الأخذ بالأسباب والتفرغ للعبادة، لا تعارض البتة بين هذا وذاك، فنحن لا نقول قولاً في أول اللقاء لننقضه في وسط اللقاء كلا، وإنما (تفرغ لعبادتي) أي: فرغ قلبك من كل ما سوى الله، وأنت في عبادة الله، فرغ القلب للعبادة فرغ القلب لله حال العبادة، إن وقفت بين يدي الله في الصلاة ففرغ القلب كله لله، إن قرأت كتاب الله ففرغ القلب كله لله.(67/12)
العبادة تسع أمور الحياة كلها
ثم العبادة تعني الحياة كلها، فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، والصدقة عبادة، والعمرة عبادة، ووقوفك في متجرك للبيع والشراء وللكسب الحلال مع تأديتك لحق الكبير المتعال عبادة.
فسعيك على رزقك لأولادك عبادة بشرط أن لا يشغلك رزقك عن حق الله، فلا تقف بالمحل وأنت تسمع الأذان، ويأتيك رجل بعد الآخر فلا تخرج للصلاة! ثم تقول: يا شيخ! العمل عبادة، نعم، عملك عبادة، وأنت تسعى على الرزق الحلال، لكن إن حال هذا العمل بينك وبين أداء حق الكبير المتعال فبئس العمل عملك! وابتسامتك لي عبادة، وابتسامتي في وجهك عبادة والتفويض عبادة، والإنابة عبادة، والخوف عبادة، والاستعانة عبادة، والبكاء من خشية الله عبادة، وبر الوالدين عبادة، وإحسانك للجيران عبادة، وصدقك في القول والوعد والعهد عبادة، وإتقانك لعملك عبادة، وإحسانك لزملائك ومرءوسيك في العمل عبادة.
فالعبادة تسع الحياة كلها، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (جاء أناس للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور: أصحاب الأموال والغنى- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: أوليس الله قد جعل لكم ما تصدقون به، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة -أي: في جماع الرجل امرأته صدقة- قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته فيكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: بلى قال: ولو وضعها في الحلال فله بها أجر).
فالعبادة تسع الحياة كلها بشرطين: الأول: أن تصح النية.
والثاني: أن يكون العمل على هدي ومنهج سيد البشرية.
حينئذ كل عمل من الأعمال الظاهرة والباطنة يندرج تحت العبادة، فلا تعارض البتة بين قولنا في أول اللقاء: تحقيق التوكل أن نأخذ بالأسباب، وأن نعلق قلوبنا بمسبب الأسباب، وبين قول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقاً، يا ابن آدم! لا تباعد مني أملأ قلبك فقراً وأملأ يديك شغلاً).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة وأبو داود بسند حسنه الألباني في صحيح الجامع من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جعل الهموم هماً واحداً: هم المعاد -أي: هم الآخرة- كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله به في أي أوديتها هلك).
وفي رواية الترمذي بسند صحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الآخرة همه: جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه: جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له).(67/13)
السبب الرابع من أسباب الرزق الدينية
السبب الرابع من أسباب الرزق: التقوى.
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، كثير من الناس لا يصدق قوله: (ويرزقه من حيث لا يحتسب).
وانظر إلى ثمار الإيمان والتقوى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، لم يقل: بركة، وإنما قال: (لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).
قال تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:36 - 37].
فما هي التقوى؟ قال طلق بن حبيب: التقوى هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
قال علي رضي الله عنه: التقوى هي العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
قال أبو هريرة حينما سأله سائل فقال: ما هي التقوى؟ فقال أبو هريرة: هل مشيت على طريق فيه شوك، قال السائل: نعم، قال أبو هريرة: ماذا صنعت؟ قال السائل: كنت إذا رأيت الشوك اتقيته -ابتعدت عنه- فقال أبو هريرة: ذاك التقوى، فأخذ ابن المعتز هذا الجواب البليغ البديع، وصاغه هذه الصياغة الجميلة فقال: خلي الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(67/14)
السبب الخامس من أسباب الرزق الدينية
خامساً: من أسباب الرزق: صلة الرحم.
وأعظم الصلة بر الوالدين، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه).(67/15)
السبب السادس من أسباب الرزق الدينية
سادساً: من أعظم أسباب الرزق: الإنفاق في سبيل الله.
قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! أنفق أُنفق عليك)، يا لها من عظمة! أن ينفق عليك صاحب الخزائن التي لا تنفذ! وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان إلى السماء، فيقول الأول: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).(67/16)
السبب السابع من أسباب الرزق الدينية
سابعاً: من أعظم أسباب الرزق: الدعاء.
تضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حيي كريم، يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)، فارفع إلى الله أكف الضراعة.
وفي صحيح سنن الترمذي وصحح الحديث شيخنا الألباني رحمه الله: (أن رجلاً جاء لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا علي! عليّ ديون عجزت عن سدادها فأعني، فقال له علي رضوان الله عليه: أفلا أعلمك كلمات علمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن قلتها أدى الله علنك دينك ولو كان مثل جبل ثبير؟ قال: بلى علمني، فقال علي: قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك).(67/17)
السبب الثامن من أسباب الرزق الدينية
ثامناً: من أعظم أسباب الرزق: الشكر.
قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، قال ابن القيم: الشكر هو الحافظ والجالب، هو الحافظ للنعم الحالية، والجالب للنعم المستقبلية.
والشكر يدور على اللسان والجنان والجوارح والأركان، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فالشكر يدور على اللسان بأن تشكر الله بلسانك، وعلى الجنان بأن تشكر الله بقلبك، وعلى الجوارح والأركان بأن تشكر الله بجوارحك، أي: بامتثالك للأوامر والنواهي، ووقوفك عند حدود الله جل وعلا.
هذه حقيقة الشكر أيها الأحبة الكرام! فمن أنعم الله عليه بالمال أنفق، ومن أنعم الله عليه بالعلم علم، ومن أنعم الله عليه بالقرآن علم، ومن أنعم الله عليه بالصحة استثمر هذه العافية في طاعة الله، وأشفق على المرضى، وهكذا.
أيها الأحبة الكرام! هذه بعض أسباب الرزق الإيمانية الدينية التي لا يذوق طعمها ولا يعرف حلاوتها إلا من وحد الله جل جلاله.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم من فضله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأكتفي بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(67/18)
ثلة من بستان المتوكلين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
وأخيراً أيها الأحبة الكرام: ثلة من بستان من المتوكلين.
تعالوا بنا لندخل هذا البستان الواسع الفسيح، لنقف أمام بعض زهراته؛ فنستنشق عبيرها، ونستمتع بأريجها، لعل الله عز وجل أن يرزقنا صدق التوكل عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وليس من الأدب أن أتحدث عن المتوكلين في بستانهم دون أن أبدأ بسيدهم المصطفى صلى الله عليه وسلم.(67/19)
نموذج من توكل النبي صلى الله عليه وسلم
روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، فكنا إذا وجدنا شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم، فنام النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق سيفه بغصن من أغصانها، فجاء رجل مشرك فوجد النبي صلى الله عليه وسلم نائماً، ووجد سيفه معلقاً، فأخذ المشرك السيف ورفعه على وجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، وقال: من يمنعك مني الآن يا محمد؟! فنظر إليه سيد المتوكلين وقال: الله! فسقط السيف من يد المشرك، فأخذ المصطفى السيف ورفعه على المشرك وقال: فمن يمنعك مني الآن؟ فقال المشرك: كن خير آخذ يا محمد! -يعني: يمنعني خلقك وحلمك- فقال المصطفى: لا، حتى تؤمن بالله ورسوله، فقال المشرك: لا، إلا أني أعاهدك ألا أقاتلك، أو أكون مع قوم يقاتلونك، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم وخلى سبيله، فانطلق المشرك إلى قومه ليقول: يا قوم! والله لقد جئتكم من عند خير الناس).
وروى البخاري من حديث ابن عباس قال: ((حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174]).(67/20)
نموذج من توكل إبراهيم الخليل وهاجر عليهما السلام
ودعونا قليلاً في بيت إبراهيم، إنه علم الدنيا التوكل، فها هو إبراهيم يأخذ زوجته هاجر وولده الرضيع إسماعيل، والحديث بطوله في صحيح البخاري من حديث ابن عباس، وينطلق إبراهيم بهما من بلاد الشام -من أرض كنعان- إلى أرض مكة زادها الله تشريفاً، وعند دوحة فوق زمزم -ولم تكن عين زمزم قد تفجرت بعد، ولا بني البيت الحرام- وضع إبراهيم هاجر والرضيع إسماعيل، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاءً فيه ماء، وأراد أن ينصرف.
أسألك بالله أن تتدبر، وأنا أعلم أنك سمعت هذا مراراً وتكراراً، لكن تدبره الآن في موضوع التوكل؛ لتتعرف على عظمه توكل هذه الأسرة التي علمت الدنيا حلاوة التوكل على الله.
إبراهيم يترك زوجته، ويترك رضيعها، يترك ثمرة فؤاده وفلذة كبده، فهو الذي حرم من الولد ما يزيد على الثمانين عاماً، ثم يتركه في صحراء لا إنس فيها ولا ماء ولا ظلال ولا بيوت ولا أشجار ولا أنهار، ومن سافر منكم للحج والعمرة ورأى جبال مكة وصحراء مكة عرف هول المصيبة.
فـ هاجر تتعلق بإبراهيم وتقول: إلى من تتركنا في هذا الوادي الذي لا شيء فيه؟ فيرفع إبراهيم رأسه إلى السماء وكأنه يريد أن يسلم قلبه وبصره وعقله لله جل جلاله الذي أمره بذلك، فقالت هاجر المتوكلة: آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه: أن نعم، فقالت أستاذة التوكل: إذاً لا يضيعنا الله أبداً.
أعلم أنني قلتها سهلة وكذلك سمعها حضراتكم سهلة، لكن لو تدبرها بعضنا والله لطاش عقلك.
هاجر لا ترى شيئاً، بل لا ترى إلا جبال سودتها حرارة الشمس، ولا ترى إلا رمالاً انعكست عليها أشعة الشمس المحرقة، فكادت الأشعة أن تذهب بالأبصار، لا ترى طعاماً لا ترى شراباً لا ترى شجرة تستظل بها لا ترى بيتاً لا ترى إنساً، وإبراهيم تركهم! وهي تقول: إذاً لا يضيعنا.
وبعد قليل نفد التمر ونفد الماء! بل وجف الماء في ثديها، ورأت الأم المسكينة رضيعها يتلمظ ويتلوى، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت حرارة شمس تصهر الحديد وتذيب الحجارة، فجرت وصعدت على أقرب جبل؛ على الصفا لعلها تجد شيئاً وراء هذا الوادي، فلم تر شيئاً، فنزلت تجري إلى بطن الوادي حتى وصلت إلى المروة، ثم نظرت مرة أخرى ناحية الصفا وجرت وهكذا، تجري المرأة سبعة أشواط تحت حرارة هذه الشمس، على جبال لا يقدر الأقوياء على المشي على حجارتها.
وفي المرة الأخيرة سمعت صوتاً فقالت: صه صه، كأنها تريد أن تقول: كأني أسمع صوتاً غريباً، فالتفتت ناحية الرضيع إسماعيل، فوجدت الملك -أي: جبريل- يلامس الأرض.
وفي رواية الطبري بسند حسنه الحافظ ابن حجر من حديث علي في كتاب الحج من فتح الباري: نادى جبريل على هاجر وهي على المروة وقال: من أنت؟ فقالت هاجر: أنا أم ولد إبراهيم، ولم تقل: أنا هاجر، وإنما نسبت نفسها إلى إبراهيم؛ لأن إبراهيم يعرفه أهل السماء، فقال جبريل: وإلى من وكلكما إبراهيم؟ يعني إلى من ترككم في هذا المكان، فقالت هاجر: وكلنا إلى الله.
فقال جبريل: وكلكما إلى كاف {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، وفي قراءة: (أليس الله بكاف عباده)، ثم فجر جبريل عين زمزم، تلك العين المباركة التي هي ثمرة حلوة من ثمار التوكل على الله التي شرب منها ملايين البشر، وما زالوا يشربون، لم يجف ماؤها، ولم تنضب عينها، ليعلم ضعاف اليقين والتوكل على رب العالمين، أن الرزق بيد الرزاق ذي القوة المتين.(67/21)
نموذج من توكل أم موسى عليها السلام
وهذه أم موسى، هل سمعتم في الدنيا كلها أنه يقال لأم: إن خفت على ولدك فارميه في البحر! ما هذا؟! قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، أي: فإذا خفت عليه فارميه في البحر، {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7]، تدبر لفظة (إنا) {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
وذلك أن فرعون كان يبحث عن الأولاد ويقتلهم؛ لأنه كان يعلم أن ملكه سيزول على يد أحدهم، فألقت الأم المتوكلة رضيعها في اليم وكان في تابوت، ويتهادى التابوت حتى يصل إلى قصر فرعون، ويقف التابوت، ويستخرج جند فرعون التابوت من أمام القصر الفرعوني.
يا إلهي! إنه طفل، إنه هو الذي يبحث عنه فرعون بعينه، ولكن الله نجاه لا بالطائرات ولا بالدبابات، وإنما بستر رقيق لا يخطر لأحد على بال، ألا وهو ستر المحبة، فقذف الله حب موسى في قلب امرأة فرعون بمجرد أن نظرت إليه، فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، والأوامر في القصور في الغالب للنساء، إذاً: لا يقتل.
وأتوا بالمراضع لموسى، كلما قدموا إليه مرضعة أبى هذا الطفل المبارك أن يلتقم ثديها؛ لأن الله قد وعد أم موسى أن يرد موسى إليها، فجيء بأم موسى لتدخل قصر فرعون لتحتضن موسى ولتضم رضيعها إلى صدرها، وفرعون يجلس إلى جوارها ويأمرها أن ترضعه.
أخي الكريم! أم موسى كانت بالأمس القريب تخشى على موسى من فرعون وملئه، وهي الآن ترضع موسى في قصر فرعون بأمره، إنه التوكل.(67/22)
نموذج من توكل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ومن الجفاء أن أتحدث عن التوكل وعن المتوكلين ولا أتحدث عن سيد المتوكلين في الأمة كلها بعد نبيها، إنه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، رحم الله ابن القيم إذ يقول: هذا هو أبو بكر الصديق الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له الصديق حب الحب على روض الرضا، واستلقى الصديق على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة مضاعفة وتركه هناك، ثم علا على أفنان شجرة الصدق ليغرد للصديق بأغلى وأعلى فنون المدح، وهو يتلو في حقه قول ربه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل:17].
الصديق الذي حقق التوكل في أعلى مقاماته، روى الترمذي بسند صحيح من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة يوماً، فوافق ذلك مالاً كان عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً.
يقول عمر: فأتيت للنبي صلى الله عليه وسلم بنصف مالي، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك يا عمر؟! قال: أبقيت لهم مثله يا رسول الله! قال: فجاء أبو بكر بكل ماله، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟! فقال: أبقيت لهم الله ورسوله).(67/23)
نموذج من نماذج التوكل في زماننا المعاصر
وقد يئن الحضور جميعاً من آبائنا وشبابنا ويقول الجميع: سامحك الله أيها الشيخ! تتكلم عن سادة التوكل من السلف! وأنت تعلم أننا نعيش الآن زماناً يختلف عن الزمان، ومكاناً يختلف عن المكان؟ وأنا أقول: والله لن تخلو أمة الحبيب من المتوكلين أبداً، (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
من أجل ذلك تعمدت أن أختم هذا اللقاء مع حضراتكم بهذه الكلمات الرقيقة، لأخت فاضلة متوكلة من أخواتنا، سجن زوجها لسبب ما -وهم من الفضلاء- ورزق الله هذه الأخت الفاضلة ببنت صغيرة وزوجها في السجن، ومرضت البنت في ليلة من الليالي، ارتفعت حرارتها ارتفاعاً كبيراً، حتى انتظرت الأم موت ابنتها.
تقول: والله وأنا لا أملك إلا أن أبكي، وأرفع أكف الضراعة إلى الله، فأنا لا أملك لابنتي ثمن الدواء، فأنا أشهد الله لقد كنا نبيت بغير عشاء.
تقول: جلست إلى جوارها لأضع لها الماء البارد على جبينها، وأنا أبكي وأتضرع إلى الله، وفي الساعة الثانية ليلاً سمعت الباب يدق، تقول: ففتحت الباب، فرأيت طبيباً يحمل حقيبته ويقول: السلام عليكم! قلت: وعليكم السلام، فقال: أين البنت المريضة؟ تقول: فارتجف جفني وقلت: تفضل! موجودة يا دكتور، فدخل الطبيب وكشف على البنت وكتب الدواء وخرج، فوقف خارج الباب ثم قال: أسرعي يا أخت! قالت: ماذا تريد يا دكتور؟ قال: قيمة الكشف، قالت: والله لا أملك، قال: عيب عليك! تتصلي علي الساعة الثانية ليلاً وأجيء وأكشف على البنت ثم تقولين: لا أملك شيئاً! قالت: والله ما اتصلت، وليس عندي تلفون، قال: أليس هذا بيت فلان، قالت: لا، بل هو البيت الذي بجوارنا، فبكى الطبيب وقال: ما حكايتك؟ وما قصتك؟ فوالله ما أخرجني الله إلا لك! فبكت المرأة وقصت عليه القصة، فبكى الطبيب، وعاد مسرعاً، فأحضر الدواء وأحضر العشاء، وجعل لهذه المرأة الفاضلة راتباً شهرياً حتى خرج زوجها، تقسم بالله وتقول: لما خرج الزوج كان يضيق بنا الحال، فكنت أبتسم وأقول لزوجي: اذهب وسافر فإن ربنا يرزقنا.
(لو أنكم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا صدق التوكل عليك، اللهم ارزقنا من واسع فضلك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم إنا نسألك أن تذيقنا حلاوة التوكل عليك، اللهم إنا نسألك أن تذيقنا حلاوة التوكل عليك، وبرد اليقين فيك، ولذة الثقة بك يا أرحم الراحمين! اللهم اهدِ نساءنا وبناتنا، واهدِ أولادنا، وأصلح شبابنا، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، ومكن للمجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً أمناً وأماناً وجميع بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(67/24)
أنت الذي تؤخر النصر عن الأمة
وعد الله عز وجل حق لا يتخلف، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض إذا حققوا شرط الإيمان والعمل الصالح؛ فمتى تحقق هذا الشرط تحقق المشروط، وما تعانيه الأمة اليوم من تسلط أعداء الإسلام عليها، من سفك دمائها، وتدنيس مقدساتها، وأخذ ثرواتها وما إلى ذلك؛ كله بسبب ابتعادها عن دين ربها وشرعه.
، ولو رجعت إلى دينها لتحقق لها موعود ربها بالنصر والتمكين.(68/1)
حال الأمة حين تركت الجهاد في سبيل الله
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات! عبثاً دعوت وصحت يا أحرار عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب جامدة فما ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن وما للمسلمين خيار يا ويحكم يا مسلمون قلوبكم ماتت فليست بالخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاب منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم يا مسلمون نساؤكم يسألن عنكم والدموع غزار هذي تساق إلى سراديب الهوى سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وخوف قاتل وحصار يُذَّبحون ويُقتَلون وما لهم نصير ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم تنسون أن الضعف في وجه العدو مذلة وصغار هذه هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار وهذا هو الأقصى يهود جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون نثار ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جرأ اليهود إلا صمتكم ولكم يذل بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11] الآية.
وفي مسند أحمد بسند صححه شيخنا الألباني رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).(68/2)
محاولة أعداء الإسلام تنحية قضية الجهاد
أيها الأخيار! لقد قلت مراراً وتكراراً بأن أعداء الإسلام في البيت الأبيض، وفي البيت الأحمر، ومروراً بكل المنظمات والأحلاف والهيئات الدولية الممثلة في هيئة الرمم وفي حلف الناتو وفي الاتحاد الأوروبي وغيرها، قد حاولت كل هذه المنظمات بشتى الطرق أن تظل قضية الجهاد بعيدة عن ساحة القدس والأقصى، وأن تظل القضية مطروحة في هذه المنظمات والأحلاف التي لا تنصر ديناً قط.
فالكفر لا ينصر توحيداً أبداً، كما قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وكما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] الآية.
فالكفر لا ينصر توحيداً، وليس كما يدعي الإعلام أن الغرب يكيل بمكيالين، فهذا باطل، بل الغرب لا يكيل إلا بمكيال واحد فقط، إنه مكيال العداء للإسلام والمسلمين، ولقد حاولوا بشتى الطرق تضليل قضية الجهاد، كما قال العدو والإرهابي الكبير مناحيم بيجن: إننا نحارب، إذاً: نحن موجودون، ويجب أن تظل قضية الجهاد بعيدة عن الساحة! فلقد حاول أعداؤنا بشتى الطرق طيلة السنوات الماضية أن يطمسوا قضية الجهاد، وألا تصبغ قضية القدس والأقصى بصبغة الجهاد في سبيل الله، حتى صرح زعيم عربي مخرف بهذا القول الخطير الخبيث وقال: ما هذه الضجة التي تفتعلونها على مسجد يسمى بالمسجد الأقصى؟! فليصل المسلمون في أي مسجد، وتنتهي الأزمة والمشكلة.
فهم لا يريدون للقضية أن تصبغ قط بصبغة الجهاد، ولما رفعت راية الجهاد في أفغانستان مرغ أنف الدب الروسي الغبي في الوحل والطين والتراب، ولا مقارنة بين العُدَد والعتاد والعَدَد، فلقد كان الروس يفوقون المسلمين في أفغانستان عتاداً وعدداً، لكن رفعت قضية الجهاد في سبيل الله فانقلبت كل الموازين.
لذلك هم لا يريدون لشباب الصحوة أبداً أن يشارك في هذه القضية، ولا يريدون أن يفتحوا الحدود والثغور أبداً أمام شباب مسلم يحترق قلبه شوقاً الآن للشهادة في سبيل الله، ورب الكعبة لو فتح هذا الباب الآن لرأينا من شيوخنا بل من أمهاتنا وأخواتنا فضلاً عن شبابنا من يذهب ليسد فوهة مدافع اليهود بصدره، وهو يريد أن يصرخ بهمته الطاهرة لزعماء العملاء ولزعماء اليهود أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف شباباً أطهاراً تحترق قلبوهم الآن شوقاً للشهادة في سبيل الله.
ويردد أحدهم قولة الإمام المجاهد العلم عبد الله بن المبارك لأخيه عابد الحرمين الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب(68/3)
الأمور التي تحل بها قضية فلسطين
أنا أدين لربي بأن القضية تحل في كلمتين اثنتين لا ثالث لهما: الأولى: تحقيق الإيمان.
الثانية: رفع راية الجهاد في سبيل الله.
ولن ترفع الراية إلا إذا حققت الأمة الإيمان؛ لأن الله ما أمر بالجهاد إلا من حقق الإيمان ابتداءً.
والإيمان يا شباب! ليس كلمة ترددها الألسنة، ولا دخاناً في الهواء، ولكن الإيمان الذي ستنصر به الأمة والذي سترفع به الأمة راية الجهاد في سبيل الله هو قول وتصديق وعمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:10]، يثبت الله لهم في صدر الآية بالنداء عقد الإيمان، ومع ذلك يأمرهم بتحقيق الإيمان قبل أن يأمرهم برفع راية الجهاد في سبيل الله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الصف:10 - 11]، مع أنه قد أثبت لهم عقد الإيمان في صدر الآية لكن لابد من أن تحقق الأمة الإيمان بالله.
فأمة لا تعرف ربها كيف تنصر؟ أمة لا تعرف معنى العقيدة كيف يمكن الله لها؟ والله ما وعد الله بالنصرة والعزة والتمكين إلا لأهل الإيمان، كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ} [النور:55] الآية، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فلن ترفع الأمة راية الجهاد دون أن تحقق الأمة العقيدة.
وأنا أسأل من هم الذين يدعون لإخواننا في فلسطين في صلواتهم؟! فانظروا إلى الحسرة والمرارة، حتى الدعاء بخلنا به، فأمة بخلت بالدعاء فهل تجود بالأموال والدماء؟! ونحن نصرخ: الجهاد الجهاد، القدس القدس! ولكن نريد صدقاً، فما أيسر التنظير! وما أسهل الكلمات الرنانة! لكن نريد صدقاً في التوجه، ونريد صدقاً في تحقيق الاعتقاد؛ فلن يحرر القدس إلا رجل عقيدة عرف الله جل وعلا، لقد عاد إخوانكم هنالك على أرض فلسطين إلى الله، وعلموا يقيناً أن أمريكا وأن البيت الأبيض والبيت الأحمر والبيت الأسود وهذه المنظمات لن تنصر قضية، ولن تنصر توحيداً، فعادوا إلى الله.
يحدثني إخوانكم من هنالك ويتصلون بي من على أرض المعركة ويخبرونني بأن الناس هنالك في هذه الحرب الضروس قد عادوا إلى الله جل وعلا، وعلموا يقيناً أنه لا ملجأ ولا ملاذ من الله إلا إليه، وعلموا أنه لن ينصرهم إلا الله، فالأمة لن تنصر إلا بالعقيدة.
يُذكر أن جحا صنع يوماً ساقية على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فتعجب العقلاء منه، وقالوا: عجباً لك يا جحا! تصنع ساقية على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر؟! فقال جحا: يكفيني نعيرها! ونحن نقول: منذ متى والأمة تصرخ، وتشجب، وتستنكر في مؤتمرات صحفية باردة كبرود الثلج، وفي كلمات هي أسكن من مياه البحر الميت؟ والعالم لا يعرف هذه اللغة، كما صرح الإرهابي الكبير بيجن: إننا نحارب، إذاً: نحن موجودون.
وقد قال بن غوريون منذ أربعين سنة أو يزيد: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظار سياسي أو قانوني، ولكنها أرض المعاد التي وعدنا الله إياها من النيل إلى الفرات، وإنه يجب الآن على كل يهودي أن يهاجر إلى دولة إسرائيل -هذا على حد تعبيره- بعد إنشائها؛ فإن كل يهودي لا يهاجر بعد اليوم إلى دولة إسرائيل، فإنه يكفر يومياً بتعاليم التوراة.
فهم يتحركون هنالك عن عقيدة، وقد صرح نتنياهو -ويومها كنت في أمريكا، وكنت أتابع نتيجة انتخاباته يوم نجح برئاسة الوزراء- وقال قولته الخطيرة: وأخيراً صوت اليهود للتوراة.(68/4)
بعض أسباب تأخير النصر
إن القوم يتحركون عن عقيدة، ويتحركون عن إخلاص لدينهم، لكن أين الأمة صاحبة الحق؟ ما أيسر أن ننظر يا إخوة! وما أيسر أن نتكلم! بل وربما سيغضب علينا بعض الشباب ويقولون: تكلمت الكثير، فماذا صنعت؟ وماذا فعلته؟ وأنا أقول: بل أنت ماذا صنعت؟ وماذا فعلت؟ وهل تدين ربك بأن بيتك بيت مسلم؟ وهل تدين ربك بأنك خطوت على الطريق خطوة أولى لدين الله؟ اعلم بأن ابتعادك عن العقيدة يؤخر النصر خطوة.
اعلم بأن انحرافك عن منهج الإسلام يؤخر النصر عن الأمة.
اعلم بأن امرأتك المتبرجة تؤخر النصر عن الأمة.
اعلم بأن ولدك الذي يقلد مايكل جاكسن يؤخر النصر عن الأمة.
اعلم بأن أولادك الذين تاهوا وضاعوا وراحوا يقتاتون قوتهم التربوي من وسائل الإعلام العفنة يؤخر النصر عن الأمة.
اعلم بأن تضييعك لصلاة الفجر يؤخر النصر عن الأمة.
اعلم بأن أكلك للحرام يؤخر النصر عن الأمة.
فأين العقيدة؟ وأين الإيمان؟! فما أيسر التنظير بالأصوات!(68/5)
منهج الله الرباني يحتاج إلى رجال
إن المنهج موجود، هذا المنهج هو الذي جعل ربعي بن عامر يرد على رستم قائد الجيوش الكسروية بعز واستعلاء ويقول له: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِل منا قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن حال بيننا وبين دعوة الناس لدين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.
قال: وما موعود الله؟ فـ ربعي الذي عرف الغاية وفهم الوظيفة التي من أجلها ابتعث، بل وحول المنهج الرباني والنبوي إلى واقع عملي وإلى منهج حياة قال له: أما الأولى: فالنصر لمن بقي من إخواننا، والشهادة لمن مات من إخواننا.
فقال له رستم: لقد سمعت قولك، فهل لكم أن تؤجلونا؛ لننظر في أمرنا ولتنظروا في أمركم؟ فقال بعز واستعلاء: لقد سن لنا نبينا ألا نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ليال، فانظر في أمرك وأمرهم واختر لنفسك واحدة من ثلاث.
قال ما هي؟ قال: الأولى: الإسلام، ونقبل منك، ونرجع عنك.
قال: ما الثانية؟ قال: الجزية.
وهذا الجزية أصبحت الأمة تدفعها الآن إلى أمريكا كاملة غير منقوصة.
قال: وما الثالثة؟ قال: القتال، ولن نبدأك بقتال فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا إن بدأتنا أنت.
قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يسعى بذمتهم أدناهم على أعلاهم.
وأنا أجزم أن ما بين أيدينا من مجلدات، ومن أشرطة، ودروس علمية ما كانت موجودة بين السلف بهذا الكم الهائل، لكن ما الذي فعلته هذه الأشرطة وهذه المجلدات؟ فالمنهج موجود، لكنه يحتاج إلى رجال يحولون هذا المنهج الرباني والنبوي إلى واقع عملي يتألق في دنيا الناس سمواً وروعة وعظمة وجلالاً، والله لو أن الأمة ذباباً يطن في آذان اليهود لفرقنا آذانهم، والله لو تفلت الأمة على اليهود لأغرقنا اليهود بتفلنا، لكنها الهزيمة النفسية، لكنه البعد عن العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها.(68/6)
واجب المسلم تجاه القدس
لن نحرر القدس بالمظاهرات الصاخبة، ولا بحرق الأعلام الأمريكية واليهودية، ولا بحرق الماكتات للزعماء، وإنما نحرر القدس بالعودة إلى دين الله وإلى منهج رسول الله، وبتحويل هذا المنهج الرباني والنبوي في بيوتنا وحياتنا إلى واقع.
ولو ظلت الأمة ألف سنة تشكو وتستنكر وتصرخ وتخطب خطباً رنانة فلن تغير من الواقع شيئاً.
لذلك أيها الأحبة! أناشد كل مسلم وكل مسلمة أن يبدءوا التصحيح، وما عليك أيها المسلم إلا أن تبذل أنت ودع النتائج إلى الله؛ فالله لا يعجل بعجلة أحد، ولو علم الله أن الأمة تستحق النصرة الآن على اليهود لنصرها، فالله لا يعجل بعجلة أحد، بل لابد أن تبذل الأمة أقصى ما في طوقها، كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فما بذلت الأمة شيئاً، وما أعدت الأمة شيئاً، فلابد أن تبذل أنت ولابد أن أبذل أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن سعد في الطبقات بسند صححه شيخنا الألباني: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) فلا تقل: قامت القيامة وهذه فسيلة متى ستنمو؟ ومتى ستثمر؟ ومن يأكل من ثمرها؟ ليس هذا من شأنك أنت، بل شأني وشأنك أن نغرس لدين الله، وأن نعمل لله جل وعلا، وأن ندع النتائج لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
فلماذا لا تربي امرأتك وبناتك وأولادك الآن على عقيدة الولاء والبراء؟ ما زلنا إلى يومنا هذا نرى من المسلمين من يقضي الليل أمام مباراة كرة، واليهود يطحنون إخواننا في فلسطين! كانت الأمة تصرخ بحناجر ملتهبة للأهلي على رويال مدريد واليهود يطحنون إخواننا بالطائرات في فلسطين طحناً! ما زالت الأمة بعيدة ترقص وتغني، ومازالت الأسر المسلمة بعيدة عن العقيدة بجمالها وكمالها.
وقد ترى الوالد المسلم إذا رأى ولده ذكياً ألمعياً يقول: الولد هذا أكيد سوف يكون دكتوراً.
وإذا رأى الولد يكسر ويمسك المفك يقول: هذا الولد مهندس، إنما إذا طلع أعمى، إذا طلع أعرج يقول لك: يطلع شيخ وخلاص! وكأنه لا ينبغي أن نقدم لله إلا المتردية والنطيحة، حتى صار المثل الأعلى لولدي وولدك لاعب كرة، أو ممثلاً هابطاً ساقطاً، وأصبح الأمر كما قال الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب فيا إخوة؛ ما أيسر التنظير وما أسهل الكلام! أسأل الله أن يرزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال، وأن يرد الأمة إلى الإيمان والجهاد رداً جميلاً؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/7)
حق القدس
اليهود المغضوب عليهم يعيثون اليوم فساداً في أرض الإسراء، فيبطشون بالمسلمين الأبرياء، لا يفرقون في ذلك بين كبير وصغير، ولا بين مريض وصحيح، ولا بين رجل وامرأة، بل يحرصون على أن تسيل منهم الدماء، ومع هذا يخادعون الأمة المحيطة بهم بدعوى السلام، ووالله لن يخرجوا من الأرض المقدسة إلا بالجهاد المبني على العقيدة.(69/1)
الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأحبابه وأصحابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو: داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير، فأنا لا أعلم زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها كهذا الزمان، فأردت أن أذكر نفسي وأمتي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت! عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وأن تردد مع السابقين الصادقين قولتهم الخالدة التي حكاها الله بقوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
ونحن اليوم على موعد مع اللقاء الخامس عشر من لقاءات هذه السلسلة الكريمة، وحديثنا اليوم في هذا الظرف العصيب، وفي هذا الوقت الحرج، عن حق عظيم جليل كبير ألا وهو: حق القدس.
فإن الداعي الصادق -أسأل الله أن نكون منهم- لا ينبغي أبداً أن يكون بموضوعاته وأطروحاته في وادٍ وأن تكون أمته الجريحة المسكينة بأحداثها المؤلمة المفجعة في وادٍ آخر، ومن ثمَّ فحديثنا هذا في سلسلة الحقوق هو عن حق القدس المبارك، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع الجريح النازف في العناصر المحددة التالية: أولاً: اليهود إخوان القردة والخنازير وزمرة الشيطان.
ثانياً: متى يفيق النائمون؟ ثالثاً: مقومات النصر.
وأخيراً: سيهزم اليهود.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يهزم اليهود، وأن ينصر المسلمين في فلسطين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.(69/2)
حقيقة اليهود
اليهود هم إخوان القردة والخنازير وزمرة الشيطان.
أيها المسلمون! والله الذي لا إله غيره! لولا أن الله قد أخذ على أهل العلم العهود والمواثيق أن يبينوا ويتكلموا ما تكلمنا، فلقد مضى زمن الكلام، وانتهى زمن التنظير، ولا مجال مطلقاً للجهود الدبلوماسية بعدما نطقت الدبابة والبندقية على أيدي أرذل وأنجس وأحقر أهل الأرض من إخوان القردة والخنازير، فلا مجال للكلام مطلقاً، ولولا أن الله قد أخذ على أهل العلم العهد والميثاق أن يبينوا والله! ما بينا، ووالله! ما تكلمنا.
لقد طاردتني الصور المؤلمة التي تحرق فؤاد كل مسلم حي -هذا إن كنا لا زلنا نحمل في الصدور أفئدة- ولا حول ولا قوة إلا بالله.
طاردتني كما طاردت كل مسلم صادق هذه الصور المؤلمة التي تحرق القلب، إنها صورة الطفل المسكين الذي لا ذنب له ولا جريرة إلا أنه ولد فوق الثراء الطاهر والأرض المباركة، فوق مسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فقام اليهود المجرمون الأنذال الذين لا يعرفون رحمة ولا يعرفون شفقة بقتله، حتى بعدما احتمى الطفل بأبيه، وجعل يرفع يديه خائفاً من هؤلاء المجرمين، وجعل الوالد المسكين يرفع يده مسلماً مستسلماً، ولكن هيهات هيهات أن يعرف اليهود الرحمة، اللهم إلا إذا دخل الجمل في سم الخياط! فأطلقوا الرصاص على رأس هذا الطفل المسكين فأردوه قتيلاً، وإن شئت فقل: لقد قتلوا أباه وإن لم تمته الرصاص، فتصور أن يموت ولدك بين يديك بهذه الصورة التي تحرق الأفئدة؟! والله! لقد نظرت إلى أطفالي بالأمس القريب، وتخيلت أن قاذفة من قاذفات العدو اليهودي قد أطلقت على بيتي وأنا فيه مع أهلي وأولادي، فتمزقت أشلاء أطفالي أمام عيني وبين يدي، فلم أذق طعم النوم؛ فأنى للقلوب التي تعرف حقيقة الإيمان، والتي ذاقت حلاوة الولاء والبراء أن تعرف طعم النوم، وأن تعرف طعم الراحة؟ والله! لولا أن المصطفى كان في المصائب يأكل لما أكلنا، إنها المصيبة والمأساة، فالطائرات والدبابات والصواريخ والمدفعية تدق بيوت الفلسطينيين العزل الذين لا يملكون إلا إيماناً بالله جل وعلا، ثم الحجارة، ثم الحجارة، ثم الحجارة.
وطاردتني صورة امرأة عجوز يتساقط بيتها فوق رأسها، وهي تنظر إلى سقف البيت يتحطم، ولا تملك أن تفعل شيئاً على الإطلاق.
وطاردتني صورة الأقصى الجريح وهو يأن ويستجير، وهو يصرخ في المسلمين: واإسلاماة! واإسلاماة! لكن من يجيب؟! القدس يصرخ، ولقد انتابتني حالة نفسية عجيبة حالة نفسية مؤلمة، لكن من يجيب؟ كنت أصرخ، ولكن الصرخة في صحراء مقطعة مهلكة، كما قال الشاعر: عبثاً دعوت وصحت يا أحرار! عبثاً لأن قلوبنا أحجار عبثاً لأن عيوننا مملوءة بالوهم تظلم عندها الأنوار عبثاً لأن شئوننا يا قومنا! في الغرب يفتل حبلها وتدار ولأننا خشب جامدة فما ندري ماذا يصنع المنشار أما سقوط الأقصى فحالة مألوفة تجري بها الأقدار هذي شئون القدس ليس لنا بها شأن وما للمسلمين خيار يا ويحكم! يا مسلمون! قلوبكم ماتت فليست بالخطوب تثار أنكرتم الفعل الشنيع بقولكم شكراً لكم لن ينفع الإنكار شكراً على تنظيم مؤتمراتكم وعلى القرار يصاغ منه قرار وعلى تعاطفكم فتلك مزية فيكم تصاغ لمدحها الأشعار يا ويحكم! يا مسلمون! نساؤكم في القدس يسألن عنكم والدموع غزار هذه تساق إلى سراديب الهوى سوقاً وتلك يقودها الجزار لو أن سائحة من الغرب اشتكت في أرضكم لتحرك الإعصار أما الصغار فلا تسل عن حالهم مرض وخوف قاتل وحصار واليهود يذبحون ويقتلون وما لهم ناصر ودمع عيونهم مدرار يا ويحكم! يا مسلمون! تنسون أن الضعف في وجه العدو مذلة وصغار هذي هي القدس يحرق ثوبها عمداً ويهتك عرضها الأشرار تبكي وأنتم تشربون دموعها وعن الحقائق زاغت الأبصار وهذا هو الأقصى يُهوَّد جهرة وبجرحه تتحدث الأخبار هذا هو الأقصى يطحنه الأسى وجموعكم يا مسلمون عار ملياركم لا خير فيه كأنما كتبت وراء الواحد الأصفار ما جرأ اليهود إلا صمتكم ولكم يذل بصمته المغوار خابت سياسة أمة غاياتها تحقيق ما يرضى به الكفار يا قدس! أرسل دمع العين مدراراً عميق الحزن وصب من النزف أنهار يا قدس! تاه الأهل والأحباب وعدت بأرض الأنبياء كلاب قدساه! أرض النور دنسها الدجى والحق ضاع وتاهت الأنساب قادت قرود الإفك قافلة الهدى وسجى بوجه النائمين ذباب ليكود قاد عصابة يعلو بها بالقدس مكر محدق وحراب طعنوا بها الشرفاء طعن مذلة فثوى بقدس المعجزات خراب والقبة العظمى تسيل دماؤها والقدس يبكي واشتكى المحراب وبدا اليهود بأرضنا وكأنهم أصحاب أرض ما لها أصحاب ضاعت فلسطين الجريحة واعتلى أقصى المساجد بالسواد ثياب قدساه! أين الفاتحون؟ أين عمر بن الخطاب؟ أين أبو عبيدة بن الجراح؟ أين صلاح الدين؟ أين محمود نور الدين؟ أين قطز؟ قدساه! أين الفاتحون وعزهم أين الجهاد الحق والألباب ماذا أصاب المسلمين فهل ترى يجدي لديهم بالخطوب عتاب اليهود هم اليهود، وقد كررنا ذلك حتى بحت الأصوات، لكن الأمة لا تريد أبداً أن تصدق رب الأرض والسماوات، فمتى وفى اليهود بعهد على طول التاريخ؟! لقد نقض اليهود العهود مع الأنبياء ومع رب الأرض والسماء، وأسأل بمرارة هل ينقض اليهود العهود مع الأنبياء ورب الأرض والسماء ثم يوفي اليهود اليوم بالعهود للحكام والزعماء؟! ها هو رابين قد أعلنها صريحة مدوية: لقد ماتت عملية السلام! وقد قلنا ذلك مراراً قبل ذلك فلم يصدقنا أحد.
فحال أمتنا حال عجيبة، وهي لعمر الله بائسة كئيبة يجتاحها الطوفان طوفان المؤامرة الرهيبة ويخطط المتآمرون كي يغرقوها في المصيبة وسيحفرون لها قبوراً ضمن خطبتهم رهيبة قالوا: السلام، قلت: يعود الأهل للأرض السليبة وسيلبس الأقصى غداً أثواباً قشيبة فإذا سلامهم هو التنازل عن القدس الحبيبة فبئس سلامهم إذاً، وبئست هذه الخطط المريبة فالمسجد الأقصى بالدماء له ضريبة قال ربنا الذي خلق اليهود وهو وحده الذي يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقال جل وعلا: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، وقال جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة:13] أي: على خيانة بعد خيانة، هذا كلام ربنا جل وعلا، ولا أريد أن أقف مع آيات القرآن؛ فالآيات كثيرة.
قال جل جلاله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60]، وقال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
فها هو القرآن يُقرأ ويُتلى في الليل والنهار، ولكن من يطبق كلام العزيز الغفار؟! ومن يطبق كلام النبي المختار صلى الله عليه وسلم؟! اليهود قوم بهت، وقوم خيانة، وهم متخصصون يا مسلمون! في نقض العهود، والله! الذي لا إله غيره لن تجد في إسرائيل وزارة أبرمت عهوداً ووفت بها في تل أبيب أو في غيرها، ولن تجد وزارة أو حزب عمل أو حزب ليكود يحترم عهداً أو ميثاقاً، فهذه جبلة وطبيعة اليهود منذ أول لحظة هاجر فيها المصطفى إلى المدينة، وقام عبد الله بن سلام حبر اليهود الكبير فنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف أنه ليس بوجه كذاب، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقال للمصطفى: (يا رسول الله! اليهود قوم بهت، وأهل ظلم ينكرون الحقائق، فاكتم عنهم خبر إسلامي وسلهم عني، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بطون اليهود وقال لهم: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، فقام عبد الله بن سلام إلى جوار رسول السلام صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فرد اليهود الكلاب المجرمون على لسان وقلب رجل واحد في حق عبد الله بن سلام، وقالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا، وجاهلنا وابن جاهلنا).(69/3)
متى يفيق النائمون؟
طبيعة اليهود منذ اللحظات الأولى لم تتغير، ولن تتغير، فمتى يفيق النائمون؟ هذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء، متى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون ليعلم الكل علم اليقين أن أمريكا ليست شريكاً نزيهاً في عملية السلام؟ كلا! وألف كلا! فالكفر ملة واحدة الكفر ملة واحدة الكفر ملة واحدة.
ولا يمكن أبداً أن تنصر أمريكا قضية من قضايا الأمة، ولا يمكن أبداً لهيئة الأمم أن تنصر قضية من قضايا الأمة، ولا يمكن أبداً أن يتدخل حلف الناتو لينصر الأقلية المستضعفة من العزل المدنيين في فلسطين من أجل سواد عيون الأمة، ولا تخدعوا بتدخل حلف الناتو في كوسوفا؛ لأنهم ما تدخلوا إلا لمصالحهم الاقتصادية والعسكرية والإستراتيجية، وهذا أمر لا ينبغي أن يجهله الآن مسلم أو مسلمة على وجه الأرض.
فالكفر لا ينصر توحيداً، والكفر لا ينصر إسلاماً.
إنهم يشاهدون على شاشات التلفاز كل ليلة ما يحدث لإخواننا وأخواتنا في فلسطين.
لكن أين النظام العالمي؟! أما له أثر؟! ألم تنعق به الأبواق؟! أين السلام العالمي؟ لقد بدا كذب السلام وزاغت الأحداق يا مجلس الخوف! الذي في ظله كسر الأمان وضيع الميثاق أوما يحركك الذي يجري لنا؟! أوما يثيرك جرحنا الدفاق؟! وحشية يقف الخيال أمامها متضائلاً وتمجها الأذواق هذا هو الغرب يا من خدعتم بالغرب! طيلة السنين الماضية، هذا هو الغرب أيها المرجفون! يا من تعزفون على وتر التقديس والتمجيد للغرب في كل المناسبات! قالوا لنا الغرب قلت صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا الغرب مقبرة المبادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينا الغرب مقبرة العدالة كلما رفعت يد أبدى لها السكينا الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلامَ يحمل قومنا الزيتونا؟! كفر وإسلام فأني يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا؟! أنا لا ألوم الغرب في تخطيطه ولكن ألوم المسلم المفتونا وألوم أمتنا التي رحلت على درب الخضوع ترافق التنينا وألوم فينا نخوة لم تنتفض إلا لتضربنا على أيدينا يا مجلس الخوف شكراً لقد أبديت وجه حضارة غربية لبس القناع سنينا شكراً لقد نبهت غافل قومنا وجعلت شك الواهمين يقينا يا مجلس الأمن انتظر إسلامنا سيريك ميزان الهدى ويرينا إن كنت في شك فسل فرعون عن غرق وسل عن خسفه قارونا متى يفيق النائمون؟ شهداؤنا بين المقابر يهمسون: والله! إنا قادمون والله! إنا عائدون والله! إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان وانتظموا صفوفاً ثم راحوا يصرخون عار عليكم أيها المستسلمون! وطن يباع وأمة تنساق قطعاناً وأنتم نائمون شهداؤنا قاموا وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: الله أكبر! إنّا عائدون شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار فلسطين الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انكسار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والمجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: والله! إنا عائدون، والله! إنا عائدون، والله! إنا عائدون أجسامنا ستضيء يوماً في رحاب القدس، سوف تعود تقتحم الحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: يا أيها المتنطعون! كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بعرض الكون يعرض في المزاد، وطغمة الجرذان بالوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون! والله! إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون: يا أيها الأحياء! ماذا تفعلون؟ في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم بها وفوق ربوعها الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان تصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون تباع أوطان، وتسقط أمة، ورءوسكم تحت النعال وتركنون تسلم القدس العريقة للذئاب ويكثر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون والقدس تسبح في الدماء وفوقها الطاغوت يهدر في جنون القدس تسألكم: أليس لها حق عليكم؟! أين فر الرافضون؟ أين غاب البائعون؟ أين راح الهاربون، الصامتون الغافلون الكاذبون؟ صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون وإذا سألت سمعتهم يتصايحون هذا الزمان زمانهم في كل شيء في الورى يتحكمون لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً؛ كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت، والنخاس يجري خلفكم، وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون؟!! متى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون؟ ومتى تعلم الأمة قول ربها: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]؟ ومتى ستسمع الأمة لقول ربها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]؟ ومتى ستتدبر الأمة قول ربها: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]؟ ومتى ستسمع الأمة عن ربها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]؟(69/4)
مقومات النصر
الكفر ملة واحدة، فمتى سترجع الأمة إلى ربها سبحانه وتعالى لتحقق منهج الله في الأرض، ولتكون أهلاً لنصرة الله؟! فالأمة تملك مقومات النصر، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء، وأعظم مقوم تملكه أمة التوحيد هو: عقيدة (لا إله إلا الله)، لقد صرخ أبطالنا المصريون في حرب العاشر من رمضان بلفظة التوحيد: الله أكبر، لا إله إلا الله، فرأينا أسطورة العدو الذي لا يقهر تتهاوى إلى ركام في ركام في ساعات قليلة.
فمتى عرفت الأمة ربها، ورددت كلمة لا إله إلا الله، وكبر في قلبها وعظم في صدرها جلال الله، وقالت: الله أكبر؛ نصرها ربها تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
فالعقيدة هي التي حولت سحرة فرعون إلى موحدين في التو واللحظة، واسترخصوا واستعذبوا كل بلاء، إنها العقيدة التي تملأ القلوب بالثقة في رب الأرض والسماء، والعقيدة تجعل كل فرد في الأمة ينظر إلى أمم الكفر على أنها هباء، وأنا لا أقول ما لا أعرف، بل أنا أعلم يقيناً حجم قوة أعدائنا، وأعلم يقيناً أن أمريكا من وراء اليهود، فإسرائيل غدة سرطانية في قلب العالم الإسلامي غرسها أعداء الإسلام، وغرستها أمم الكفر في قلب الوطن العربي.
وإن شئت فقل: إسرائيل حاملة طائرات ودبابات وصواريخ، يسكن على ظهرها ما يزيد عن خمسة مليون هم لأمريكا بمثابة اليد الطولى، فهي قريبة من روسيا من ناحية، ومن أوربا من ناحية، وفي قلب العالم الإسلامي من ناحية ثالثة، وقريبة من آبار النفط والموارد المعدنية من ناحية رابعة.
ومن ناحية خامسة فهي تشكل عمقاً استراتيجياً يمتد عبر ثلاث قارات، فهذه الدولة لا يمكن لأمريكا أن تتخلى عنها أبداً؛ لأنها تمثل اليد الطولى لأمريكا في المنطقة وفي قلب العالم الإسلامي والعربي، ومن ثمَّ فستظل أمريكا وراء اليهود حتى تفيق الأمة وترجع من جديد إلى العزيز الحميد؛ لتأخذ بما تملك من أسباب ومقومات النصر، وهي كثيرة.
أقسم بالله إن الأمة الآن قادرة على أن تجعل أمريكا في الغد تركع، يا إخوة! أنا أعي ما أقول تماماً، أقول: يكون ذلك بالعقيدة وبكلمة سواء يتخذها قادة العرب برجولة وصدق وقوة؛ فلم يعد هناك مجال للخلافات والنزاعات والتشرذم والتهاون، ولم يعد هناك وقت للضياع، فلو اتخذوها وأعلنوها لله تبارك وتعالى لتغيرت الموازين.
ولو اتخذت الأمة الآن قراراً بإسقاط التعامل بالدولار الأمريكي -لا أقول: في الاقتصاد ككل بل في مبيعات البترول فقط- والله! لانهارت أمريكا في التو واللحظة، فبمجرد هذه الأزمة ارتفعت أسعار البترول في البورصة العالمية، فهددت هذه الأسعار أمريكا اقتصادياً؛ حتى اضطرت أمريكا أن تعلن أنها ستسحب من احتياطياتها من البترول، والآن ارتفعت أسعار البترول مرة أخرى لهذا الوضع الحرج.
تستطيع الأمة بقرار -كما استطاعت في حرب العاشر من رمضان بقرار البترول- أن تغير الدفة، وأن تغير الموازين، فالأمة تستطيع أن تفعل شيئاً كبيراً جداً؛ لأنها تملك العدد، وتملك العتاد، وتملك العمق الاستراتيجي، وتملك العقول الموهوبة التي لا تقل أبداً عن عقول الغرب، بل إن عقول أبناء الأمة في الغرب تبدع، وليست فقيرة، وليست جاهلة، وليست ضعيفة، لكنها مهزومة نفسياً، والمهزوم النفسي مشلول الفكر والحركة.
فلتصحح الأمة عقيدتها بالله جل وعلا، فتلك العقيدة هي التي ستخرج الأمة من هذا المستنقع، ومن الهزيمة النفسية القاتلة.
تلك العقيدة هي التي جعلت أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتحولون من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة لجميع الدول والأمم.
تلك العقيدة هي التي انطلقوا بها فدمدموا العالم القديم بصولجانه وجبروته، واستطاعوا بهذه العقيدة الصحيحة الصافية أن يقيموا للإسلام دولة من فتات متناثر في وسط صحراء تموج بالكفر موجاً فإذا هي بناء شامخ عظيم لا يطاوله بناء.
تلك العقيدة هي التي جعلت طلحة بن عبيد الله يرمي بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يحمي رسول الله بصدره وهو يقول: (نحري دون نحرك يا رسول الله!).
تلك العقيدة جعلت عمير بن الحمام يسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض فيقول عمير: بخ بخ! جنة عرضها السماوات والأرض، فيقول له المصطفى: يا عمير! ما حملك على قول: بخ بخ؟ فيقول عمير: لا يا رسول الله! إلا أني رجوت أن أكون من أهلها، فقال المصطفى: أنت من أهلها) فأخرج تمرات يأكلهن ليتقوى بهن على القتال، وبينما هو يأكل تذكر الجنة وتذكر الموت في سبيل الله فقال لنفسه: ما بيني وبين الجنة إلا أن آكل هذه التمرات، وأنطلق في الصفوف لأقاتل فأقتل، والله! لأن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة، فألقى التمرات على الأرض، واندفع في صفوف القتال صادقاً مع الله ليصدقه الله عز وجل.
العقيدة هي التي جعلت الصحابة رضوان الله عليهم يبذلون الغالي والنفيس في نصرة دين الله.
العقيدة هي التي ستحرك القلوب والجوارح للجهاد في سبيل الله، فأنا أدين لله تبارك وتعالى أن طريق النصر آتٍ بتصحيح العقيدة ورفع راية الجهاد في سبيل الله، والله الذي لا إله غيره! لو أعلن الجهاد الآن وقيل: حي على الجهاد! من قبل أي حاكم من حكام العرب والمسلمين، والله! لخرج ملايين الشباب، بل والشيوخ، بل والنساء، بل والله! لخرج صبياننا وأطفالنا، والله! لخرجوا بغير سلاح ليصد أحدهم بصدره فوهات مدافع اليهود، ليرزقه الله الشهادة في سبيله، وليعلم أنجس أهل الأرض أن محمداً ما مات، وما خلف بنات، بل خلف أطهاراً أبراراً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة في سبيل الله.
والله الذي لا إله غيره! لم يعد لهذه القضية إلا الجهاد، فليفطن إليها الحكام والزعماء، وليعلم اليهود أن الشباب المسلم التقي النقي، وهذه الأمة التي قد مرضت واعترتها فترات من الركود الطويل أنها ما ماتت، ولن تموت بموعود الله، وبموعود الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق المصطفى إذ يقول كما في مسند أحمد بسند صحيح من حديث ابن عمر: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً دخل الجنة، فقال أبو سعيد: أعدها عليَّ يا رسول الله! فأعادها عليه، ثم قال: ألا وإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله).
فأمريكا، وهيئة الأمم، وحلف الأطلنطي، ومجلس الأمن؛ كل هذه الهيئات والمنظمات لا تريد أبداً للقضية أن تصبغ بالصبغة الإسلامية، لا تريد أبداً للقضية أن تخرج عن إطار القومية والوطنية والعروبة، فهم يعلمون أن القضية لو صبغت بالصبغة الإسلامية، ورفعت راية الجهاد لتحولت الموازين.
فاليهود يحاربوننا عن عقيدة، وقد أعلنها بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيل، في هيئة الأمم بعدما اعترفت الدول العظماء بإسرائيل فقال بالحرف: قد لا يكون لنا الحق في فلسطين من منظور سياسي أو قانوني، ولكن فلسطين حق لنا من منظور ديني، فهي أرض المعاد التي وعدنا الله إياها من النيل إلى الفرات، ثم قال: لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل، ولا معنى لقيام دولة إسرائيل على غير أرض المعاد! وترجم هذه العقيدة كل رؤساء وزرائهم، بدأ من بن غوريون إلى باراك، ولقد أصدر نتنياهو أربعة عشر قراراً استيطانياً في فترة حكمه، وكان من آخرها القرار الذي صدر بالاستيطان في منطقة جبل أبو غنيم ليؤكد بذلك التطوق السكاني اليهودي في القدس الشرقية، وقد صرح مراراً أنه لا مجال لأي مفاوضات لتقسيم القدس، فالقدس بشطريها عاصمة أبدية لإسرائيل! فهم على عقيدة، ولاحل إطلاقاً مهما جلسوا للمؤتمرات واتخذوا القرارات إلا إذا صححت الأمة عقيدتها، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله؛ فلم يعد هناك وقت للتنظير ولا للكلام، وليرى الحكام من هذه الأمة ما تقر به عيونهم إن صححوا العقيدة ورفعوا راية الجهاد في سبيل الله.
هذا ما أدين به لربي في هذا الظرف الحرج، وأسأل الله جل وعلا أن يهزم اليهود، وأن يخلص إخواننا المستضعفين العزل من شرهم وكيدهم، وأن يحرك قلوب حكام العرب لما يحبه ويرضاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(69/5)
هزيمة اليهود وعد إلهي
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: وأخيراً: أيها الأحبة! سيهزم اليهود، لا أقول ذلك رجماً بالغيب، ولا من ضغط الواقع المرير، ولا من باب الأحلام الوردية الجاهلة، ولا من باب الجهل بالواقع الذي تعيشه أمتنا ونحياه الآن بكل مآسيه، كلا! وإنما أقول ذلك من منطلق الحقائق الربانية والنبوية، فهو كلام ربنا، وكلام نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وتدبروا معي هذه الآية التي قرأتموها جميعاً، وسمعتموها جميعاً، لكن قل من انتبه إليها، ووقف معها ليتدبرها، ألا وهي قول الله في سورة آل عمران في حق اليهود: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111]، وقال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، فهذا هو كلام الخالق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167]، وقال جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104]، وهاهم اليهود يأتون ألفافاً من كل بقاع الأرض ليتحقق وعد الله في آية الإسراء الأولى، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:4 - 7]، اللهم عجل بهذه البشارة.
تدبر معي الآيات! لتقف على هذه البشارة العظيمة، فالحق وإن انزوى كأنه مغلوب فإنه ظاهر، والباطل وإن انتفش كأنه غالب فإنه زاهق، كما قال عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
تدبر معي قول رب العالمين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء:4 - 5]، أي: جاء وقت المرة الأولى لتدمير ما شيد اليهود {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، أي: بعث الله على اليهود عباداً له ليسوموا اليهود سوء العذاب، وقد اختلف المفسرون في تفسيرها، فقد قرأت ما يزيد على عشرين تفسيراً لهذه الآيات فوجدت أن جل المفسرين قد فسروا هذه الآيات بأن الذي سُلط على اليهود هم البابليون أو الرومان أو نبوخذ نصر فتدبرت الآيات مراراً وتكراراً، فوجدت بعض أهل العلم من المحققين قالوا: إن الله تبارك وتعالى يقول: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} [الإسراء:5]، والعبودية لا تكون أبداً إلا للموحدين، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63]، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23].
إذاً: العبودية إن نسبت لله تعالى وكانت خالصة له فهي عبودية المؤمنين الصادقين؛ والبابليون وثنيون، والرومانيون وثنيون، وبختنصر وثني ليس بمسلم، فكيف يقال: إن هؤلاء تنطبق عليهم الآية؟! إذاً: من هم عباد الله الذين سلطهم الله على اليهود أول مرة؟ إنهم أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهم الذين طردوا اليهود من بني النضير، ومن بني قينقاع، ومن خيبر، ومن بني قريظة، وأخرجوهم من المدينة، ثم الصحابة هم الذين دخلوا المسجد أول مرة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يوم ذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من المدينة ليستلم مفاتيح بيت المقدس بيده، وليكتب لأهل بيت المقدس من أهل إيلياء العهدة العمرية المشهورة، وقد تحدثت عنها بالتفصيل في موضع آخر.
إذاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم عباد الله الذين دخلوا المسجد أول مرة، وتدبر معي قول الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:5 - 6]، أي: على هؤلاء العباد الذين انتصروا عليكم، وها نحن نرى الكرة قد أعيدت لليهود علينا، أي: على أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الموحدين والمؤمنين، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ} [الإسراء:6]، أي: أمد الله اليهود بأموال، وها نحن نرى ذلك {وَبَنِينَ} [الإسراء:6]، وها نحن نرى أبناء اليهود من كل بقاع الأرض يجتمعون، {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6]، والنفير نفير الحرب، وها أنتم ترون اليهود يمتلكون الآن مائتي قنبلة نووية، وتمد أمريكا اليهود بالسلاح.
ثم قال لهم ربهم سبحانه: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:7]، أي: المرة الثانية والأخيرة، {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء:7]، أي: ليسوءوا وجوهكم، والفاعل عباد الله من الموحدين والمؤمنين، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7]، اللهم عجل بهذه المرة يا أرحم الرحمين، {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7].(69/6)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بهزيمة اليهود
ثبت عن نبينا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى في مسند أحمد وغيره بسند صحيح: أنه (وضع يوماً يده على رأس أبي حوالة الأسدي رضي الله عنه، ثم قال النبي لـ أبي حوالة: يا أبا حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) وأنا أسأل وأقول: هل تنزل الخلافة الأرض المقدسة والقدس عاصمة أبدية للصهاينة؟ وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون) وهذا وعد الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وأنا أرى فيما أراه الآن من حرب بكل معنى الكلمة من اليهود للعزل والمدنيين في فلسطين، أرى أن في هذه الحرب خيراً كثيراً، ولا أراها خيراً في ذاتها، بل أراها -إن شاء الله تعالى- القشة التي ستقصم ظهر البعير.
فإنا لم نر منذ الاحتلال إلى يومنا هذا مثل هذه الحرقة على القدس وعلى فلسطين بين أبناء الشارع الإسلامي والعربي في كل مكان، بل بين المسلمين في العالم أجمع كما رأينا في هذه الأيام، أرى أن الشعوب بدأت تضغط على حكامها ولو بصورة خفيفة، لكنها بداية أرجو من الله أن يجعل منها النهاية لليهود؛ إنه على كل شيء قدير، فأنا اعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يوجد شر محض أبداً، بل الشر يحمل في ثناياه ما لا نعرفه من الخير، قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
فلتقدم الأمة من أجل القدس خمسة ملايين أو عشرة ملايين شهيداً، ورب الكعبة! إننا لمستعدون الآن أن نخرج بدون سلاح، وما أحلاها من كلمات تلك الكلمات التي يرسلها إمام من أئمة المجاهدين العلماء لعابد من الزهاد العباد! إنها كلمات عبد الله بن المبارك لأخيه عابد الحرمين الفضيل بن عياض يرسل بها ابن المبارك من ساحة الوغى وميدان البطولة والشرف لأخيه في مكة ليقول له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يلتقي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب فليمت من إخواننا من يقدر الله له هذا الشرف، وأسأل الله أن يتقبلهم جميعاً في الشهداء؛ فإما عيش بكرامة وإما شهادة في سبيل الله، فالكل سيموت، وإن تعددت الأسباب فالموت واحد، فما أحوج الأمة الآن إلى أن تعي واجبها في هذا الظرف الحرج! أيها المسلم! لا تنس إخوانك من الدعاء، وذلك أضعف الإيمان، وبالمال إن استطعت، ثم رب نفسك وولدك على روح الجهاد، إن المعركة قادمة، إي وربي! إن المعركة مع اليهود قادمة، فهيئ نفسك، ورب ولدك، ورب امرأتك، ورب بناتك، ورب أولادك.
أتعجب حينما رأى بعض الناس معاوية بن أبي سفيان وهو طفل صغير يلعب، ورأوا عليه ملامح الذكاء، وأمه تنظر إليه بإعجاب، فقال الحاضرون: لو شب معاوية سيسود قومه، فقالت أمه: ثكلته إن لم يسد إلا قومه.
تريد أن يسود العالم كله، تريد أن يسود الدنيا كلها، فلماذا لا نربي أولادنا وأنفسنا على هذه العقيدة؟ ولنبذل أقصى ما في وسعنا، فالله يعلم قدراتنا وإمكانيتنا، ويعلم ضعفنا وواقعنا، ووالله! لو سأل الله أحدنا الشهادة بصدق لبلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
وأخيراً: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راح اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم إنك قلت لنبيك: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، اللهم ارم عنهم يا رب العالمين! اللهم إنهم مغلوبون فانتصر.
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك بأمريكا، اللهم عليك باليهود وأعوان اليهود، اللهم عليك بالخونة يا غفور! يا ودود! اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم اكتب النصر للمستضعفين، يا من هزمت الأحزاب وحدك! اهزم اليهود المغتصبين.
اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم انزع الخوف من قلوبنا، وانزع الجبن من صدورنا، وانزع الهزيمة من بيننا، اللهم ألف بين القلوب، ووحد بين الصفوف، اللهم وفق قادة العرب للعودة لدينك، اللهم اقذف في قلوبهم ما يرضيك، اللهم حول قلوبهم إلى ما يرضيك.
اللهم انصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أيد إخواننا في الشيشان وفي الفلبين، وفي كشمير وفي فلسطين، وفي كل مكان يا أرحم الراحمين! اللهم وفق مصر لتقوم بدورها، اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم احم مصر من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا رب العالمين! وجميع بلاد المسلمين.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وسددته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام نائمين، واحفظنا بالإسلام في كل وقت وحين.
اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم اكفنا شر الظالمين، اللهم اكفنا شر المجرمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(69/7)
حق القرآن وسبيل العزة
القرآن الكريم كلام الله المنزل من عنده سبحانه، وهو معجز في آياته وأحكامه، وهو سبيل عز هذه الأمة، ولما عمل به السلف وترجموه إلى واقع عملي، نصرهم الله، ومكن لهم في الأرض، وفتحوا الدنيا شرقاً وغرباً.
وفي المقابل: لما تركه الخلف وراحوا يتلمسون العزة في غيره أذلهم الله، والواقع خير شاهد على هذا، فإذا أرادت الأمة العزة والنصر فعليها أن تراجع كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فإنهما مصدر العز.(70/1)
داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الأخيار، وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! حقوق يجب أن تعرف، سلسلة منهجية تحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الكبير الذي استشرى في جسد الأمة، ألا وهو داء الانفصام النكد بين المنهج المنير والواقع المؤلم المرير، فأنا لا أعرف زماناً قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وضيعت فيه حقوق الإسلام كهذا الزمان، فأردت أن أذكر نفسي وأمتي من جديد بهذه الحقوق الكبيرة التي ضاعت، عسى أن تسمع الأمة مرة أخرى عن الله ورسوله، وأن تردد مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
ونحن اليوم بحول الله وطوله على موعد مع اللقاء المتمم للثلاثين من لقاءات هذه السلسلة الكبيرة، والحقوق الجليلة، ونحن اليوم على موعد مع حق جليل جليل جليل، كبير كبير عظيم عظيم، ولم لا؟! وهو حق القرآن الكريم.
وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تركيزاً شديداً في هذا الموضوع الجليل في المحاور التالية: أولاً: مصدرية القرآن دليل على إعجازه.
ثانياً: كيف جمع القرآن ووصل إلينا؟ ثالثاً: حق القرآن.
فأعيروني القلوب والأسماع بل والكيان كله، فإن الموضوع من الجلال والأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يرد الأمة رداً جميلاً إلى القرآن والسنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(70/2)
مصدرية القرآن دليل على إعجازه
أحبتي في الله! القرآن كلام الله جل وعلا، وهذا أعظم دليل على إعجاز القرآن، فمصدرية القرآن دليل على إعجازه، فهو كلام الله الذي فضله على كل كلام كفضل الله على سائر الخلق.
القرآن هو كلام الله الذي تحدى الله به البشرية عامة، وتحدى به المشركين المنكرين خاصة، ومازال التحدي قائماً إلى يوم القيامة قال تعالى: {قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، فلما عجزوا عن الإتيان بقرآن مثله خفف الله جل وعلا التحدي، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور فقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] , فعجزوا.
فخفف الله التحدي إلى أقل درجاته، فتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن الجليل فعجزوا، قال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24].
أيها الأفاضل! كلام الله جل جلاله لو أنزله على جبل لتصدع الجبل من خشية الملك الجليل، قال سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] , فالقرآن تخشع وتتصدع له الجبال، ولا تتحرك له القلوب الغافلة! لذا قال عثمان رضي الله عنه: (والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من كلام ربنا).
تصور أن المشركين في مكة كانوا يخافون على أنفسهم من سماع القرآن! تصور معي مرة أخرى أن المشركين أنفسهم كانوا يخشون على أنفسهم من سماع القرآن، لماذا؟! لأن القرآن كان يصدع الكفر والكبر في قلوبهم، بل في السنة الخامسة من البعثة النبوية المطهرة انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الله الحرام ليصلي لله جل وعلا على مرأى ومسمع من صناديد الشرك والكفر، وكانوا يكرهون ذلك، حتى قال اللعين أبو جهل: أيعفر محمد وجهه وهو بين أظهرنا! يعني: أيسجد محمد لربه على مرأى ومسمع منا عند الكعبة؟! قال: واللات والعزى لئن أتى محمد ليصلي لأطأن عنقه، أي: لأضعن رجلي أو حذائي على عنقه وهو ساجد بين يدي ربه، فجاء الحبيب صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد الحرام ووقف يصلي لله تعالى، فلما سجد انطلق اللعين أبو جهل وهو يزعم أنه سيطأ بقدمه في عنق النبي وهو ساجد، فلما اقترب من رسول الله عاد إلى الخلف وهو يجري ويدفع بيديه، وكأنه يرد عن وجهه شيئاً، فلما اقترب من المشركين قالوا: ماذا يا أبا الحكم؟! لماذا رجعت؟! لماذا جريت بهذه الصورة المزرية؟! فقال أبو جهل: إن بيني وبين محمد لخندقاً من نار، ووالله إني لأرى أجنحة.
فلما انتهى النبي من صلاته قال قولته الجميلة: (والذي نفس محمد بيده! لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً).
الشاهد: دخل النبي صلى الله عليه وسلم كعادته يوماً ليصلي لله جل جلاله، والمشركون ينظرون إليه بتغيظ شديد، ورفع الحبيب صوته بالتلاوة فقرأ سورة النجم كاملة، وأرجو أن تتصور حلاوة وجلالة القرآن وهو يخرج من فم الحبيب، الرسول هو الذي يتلو، فليست التلاوة الآن لبشر عادي، والمشركون يسمعون القرآن من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي السورة كاملة، وقرأ في أواخر السورة آيات جليلة تهتز لها الحجارة، وتخشع لها الجبال والقلوب: {أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:57 - 61] , أي: تغنون وترقصون وتطبلون وتزمرون، {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:61 - 62] , وخر النبي ساجداً لربه، فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه فخر ساجداً لله خلف رسول الله! هل تتصورون هذا أيها الأفاضل؟! الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب سجود التلاوة مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم -أي: بسورة النجم- وسجد معه المسلمون والمشركون والجن الإنس.
نعم والجن.
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] , الجن هم الذين يتحدثون عن القرآن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2] , سجد النبي وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وهذا هو السر -يا طلبة العلم- الذي جعل المهاجرين الأول الذين هاجروا من مكة فراراً من بطش المشركين إلى الحبشة؛ هذا هو السر الذي جعلهم يرجعون من الحبشة بعد هجرتهم الأولى لما بلغهم أن المشركين سجدوا خلف رسول الله، فظنوا أنهم قد آمنوا بالله جل وعلا، فعادوا إلى مكة، لكنهم لما رفعوا رءوسهم أنكروا جميعاً ما فعلوه وما صنعوه! لكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم فسجدوا جميعاً لله من جلال القرآن وروعته وعظمته.
نعم أيها الأفاضل! والوليد بن المغيرة والد فارس الإسلام وسيف الله المسلول خالد بن الوليد كان متعنتاً متكبراً منكراً، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه الملك والجاه والمال والسلطان حتى يرجع إلى دين آبائه وأجداده؛ قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات جليلة من القرآن الكريم، فقال الوليد كلماته الخالدة في حق القرآن -والحق ما شهدت به الأعداء- قال الوليد: والله! إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
هذه شهادة كافر عنيد للقرآن، فلما قال هذه الكلمات للمشركين قالوا: صبأ والله الوليد، إذاً لتصبأنّ قريش كلها، فعاد حتى لا تضيع زعامته في القوم، ففكر وقدر الأمر من جميع جوانبه، ثم عاد ليعلن شهادته الظالمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ربنا جل وعلا في شأن الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ ً} [المدثر:11 - 16] , لماذا؟ تدبر القرآن، {إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:16 - 28] إلى آخر الآيات.(70/3)
كيف وصل إلينا القرآن؟(70/4)
المرحلة الأولى
عنصرنا الثاني: كيف جمع القرآن؟ وكيف وصل إلينا المصحف الإمام؟ والجواب باختصار سريع: المرحلة الأولى من مراحل جمع القرآن كانت على عهد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي المرحلة التي جمع القرآن فيها في صدر النبي وفي صدور الصحابة، فقد من الله عليهم بملكة حفظ جليلة، حفظ النبي القرآن وانتقل القرآن من صدر النبي إلى صدور الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على القرآن يتعجل بالتلاوة خلف أمين وحي السماء فنزل قول الله جل وعلا: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:16 - 17] , أي: في صدرك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} [القيامة:17 - 18] , أي: قرأه جبريل عليه السلام، أو قرأناه على لسان جبريل، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18 - 19]، سيبينه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فجمع القرآن في صدر النبي، واتخذ النبي مجموعة من كتاب الوحي كـ زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي سماه الإمام البخاري بكاتب النبي، وكـ أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضوان الله عليهم، فكان النبي إذا نزل عليه جبريل بالآية أمر كتاب الوحي فنسخوها في الجلود والعسب واللخاف وهي نوع من أنواع الحجارة الرقيقة كان يكتب عليها, والعسب جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكتبون عليه أيضاً، فكان يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كتبة الوحي بكتابة الآيات كما يمليها عليهم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وظل القرآن مكتوباً في هذه المرحلة في الجلود والعسب، أي: في جريد النخل، ومكتوباً على الحجارة، وفي صدور الرجال إلى أن مات سيد الرجال صلى الله عليه وسلم.(70/5)
المرحلة الثانية
المرحلة الثانية: كانت في عهد أبي بكر رضي الله عنه، لما وقعت معركة اليمامة بين مسيلمة الكذاب وبين الصحابة قتل في هذه المعركة عدد هائل من الصحابة الذين كانوا يحفظون القرآن في صدورهم، فجاء الملهم عمر رضوان الله عليه إلى الصديق أبي بكر، وقال عمر للصديق: يا أبا بكر! يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! اجمع القرآن في صحف، فقال الصديق الذي كان مثالاً في الإخلاص والاتباع: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله؟ لا.
فقال عمر: هذا والله خير -والحديث في صحيح البخاري - قال الصديق: فما زال عمر يراجعني، أي: بجمع القرآن في الصحف، حتى شرح الله صدري لقول عمر، فأرسل إلى زيد بن ثابت رضوان الله عليه، فقال الصديق لـ زيد: يا زيد! إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك.
انظروا يا شباب الإسلام إلى شباب الصحابة، فـ زيد بن ثابت كان شاباً في ريعان شبابه، واختاره النبي كاتباً من كتاب الوحي، بل سماه البخاري كاتب النبي، يا لها من كرامة! (إنك شاب عاقل لا نتهمك، فتتبع القرآن فاجمعه).
قال زيد: (والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن) انظروا إلى أصحاب الهمم العالية الذين يقدرون المسئوليات الضخام الجسام، قال: والله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قال: فتتبعت القرآن فجمعته من اللخاف، أي: من الحجارة الرقيقة، والعسب، أي: جريد النخل، وصدور الرجال، وجمع القرآن في صحف ضخمة عديدة، وانتقلت هذه الصحف إلى بيت الصديق رضي الله عنه، فلما توفي أبو بكر انتقلت الصحف إلى بيت عمر رضي الله عنه، فلما توفي عمر رضوان الله عليه انتقلت الصحف إلى بيت أم المؤمنين حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.(70/6)
المرحلة الثالثة
المرحلة الثالثة: وهي الكبيرة والخطيرة، وكانت في عهد عثمان رضي الله عنه، ففي صحيح البخاري أن حذيفة بن اليمان عاد إلى عثمان رضي الله عنه بعد غزوة أرمينية مع أهل الشام، وبعد غزوة أذربيجان مع أهل العراق، فدخل حذيفة على عثمان فزعاً وهو يقول: يا أمير المؤمنين! أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى! قال عثمان: وما ذاك؟ رأى حذيفة أهل الشام يقرءون القرآن بقراءة أبي بن كعب، ورأى أهل العراق يقرءون القرآن بقراءة عبد الله بن مسعود، فكان أهل الشام يسمعون قراءة من أهل العراق لم يسمعوها من قبل، وكان أهل العراق يسمعون قراءة من أهل الشام لم يسمعوها من قبل، فاختلفوا اختلافاً شديداً حتى كفر بعضهم بعضاً! فجاء حذيفة فزعاً وقال: أدرك الأمة قبل أن تختلف في كتاب ربها كما اختلف اليهود والنصارى، مع أن الله عز وجل من رحمته وتيسيره على الخلق قد أنزل القرآن على سبعة أحرف كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) , لا حرج أن تقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] , وفي قراءة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتثبتوا) , والقراءتان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت بعض القبائل لا تستطيع أن تنطق حروفاً محددة، كانوا ينطقون مثلاً حرف الحاء عيناً، فيقولون في (حتى حين): عتى عين، فنزل القرآن ميسراً على سبعة أحرف قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع أهل الشام قراءة ما سمعوها من أبي وسمع أهل العراق قراءة ما سمعوها من ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً؛ اختلفوا، فأرسل عثمان بن عفان رضوان الله عليه إلى حفصة أم المؤمنين: أن أرسلي إلينا بالصحف -أي: التي جمعت في عهد الصديق رضي الله عنه- لننسخها في نسخة واحدة، فأرسلت حفصة الصحف إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى كاتب النبي زيد بن ثابت رضي الله عنه وإلى مجموعة من أصحاب رسول الله، وأمرهم أن ينسخوا الصحف في مصحف واحد، ونسخوا مجموعة كثيرة من هذا المصحف الواحد.
وأرسل عثمان إلى كل مصر -أي: إلى كل بلد من البلدان- بمصحف واحد إمام، وأمر ببقية الصحف غير هذا المصحف الإمام أن تحرق، وبذلك جمع عثمان رضوان الله عليه الأمة كلها على مصحف واحد قرأ به كله نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المصحف الذي تجدونه بين أيديكم الآن وهو يسمى: بالمصحف الإمام، أي: المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه من الصحف كلها، فلقد قال للصحابة: إن اختلفتم مع زيد فاكتبوا بلسان قريش فإنه قد نزل بلسانهم، أي: بالقراءة التي حفظها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قريش.
وبهذا -أيها الأفاضل- حفظ الله القرآن الكريم فلم تتغير منه آية ولم تبدل منه كلمة ولم يحذف منه حرف، فما تولى الله حفظه لا يضيعه أحد: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].(70/7)
حق القرآن
بيت القصيد، وهو العنصر الثالث والمهم من عناصر اللقاء، ما هو حق القرآن؟ لكن ولابد من هذه المقدمة الموجزة لنقف جميعاً على هذه الكلمات الجليلة التي قدمت.
ما حق القرآن؟ هل أنزل الله القرآن ليقرأ على الأموات في القبور؟! هل أنزل الله القرآن ليحلي به النساء صدورهن في مصاحف صغيرة؟! هل أنزل الله القرآن ليهدى من الزعماء والحكام إلى بعضهم البعض؛ فترى الحاكم يستلم المصحف منحنياً على كتاب الله ليقبله بخضوع جسدي كامل وكأنه عثمان بن عفان في الوقت الذي يضيع فيه شريعة هذا القرآن؟! {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] , ما أنزل الله عليك القرآن لتشقى به، أو لتشقى به أمتك من بعدك، أو لتشقى بحدوده وأوامره ومناهيه وتكاليفه, كلا.
بل أنزل الله عليك القرآن لتقيم به أمة، لتحيي به أمة، لتقيم به دولة، لتسعد به البشر في الدنيا والآخرة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].(70/8)
تلاوة القرآن الكريم
أول حق: أن نقرأ القرآن، أقسم بالله العظيم أن من المسلمين الآن من لم يقرأ كتاب الله، وإن قرأ فإنما يقرأ في رمضان وربما في العشر الأوائل فقط، فإن انتهى رمضان أودع كتاب الله علبته مرة أخرى لتتراكم عليه الأتربة، وهجر القرآن بالكلية هجر تلاوة، مع أن الأصل أنه يجب على كل مسلم قارئ أن يكون له ورد يومي مع كتاب الله تبارك وتعالى، قال ابن القيم: يقرأ القرآن وهو يتصور بقلبه وكيانه أن الله يحدثه.
أما أجر تلاوته فلا يعلمه إلا الله، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره من حديث ابن مسعود قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف، بل ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) , وفي الحديث الذي رواه الطبراني وصححه شيخنا الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبشروا! فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فإن تمسكتم به لن تهلكوا أبداً).
وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه -أي: تقدم القرآن- سورة البقرة وسورة آل عمران كأنهما غمامتان أو غيابتان أو غيايتان أو كأنهما خرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) أي: بين يدي الله جل وعلا.
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، ولا يسمع القرآن إلا صاحب القلب الحي، وهو الذي يصغي بأذن رأسه وقلبه فيسمع عن الله جل وعلا؛ لينتفع بآيات الله المتلوة وآيات الله المرئية في الكون من عرشه إلى فرشه.(70/9)
العمل بالقرآن
ثم حق العمل بالقرآن، آهٍ! ما أكثر من تغافل عن دائه، وأعرض عن دوائه؟! فظل في ضنكه وشقائه، والله ما ذلت الأمة لكلاب الأرض من الإرهابيين السفاحين المجرمين من اليهود، ولأنجس أهل الأرض من عباد البقر الهندوس، ولأكثر أهل الأرض من الملحدين الروس، ولغيرهم من أذل أمم الأرض؛ إلا يوم أن أعرضت عن القرآن.
والله ما هانت الأمة إلا يوم أن نحّت القرآن، وهجرت التحاكم إلى القرآن، وضيعت العمل بالقرآن، أعلنها بملء فمي وأعلى صوتي، يوم أن استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، يوم أن تركت الأمة سفينة النجاة الوحيدة وركبت قوارب الشرق الملحد تارة، وقوارب الغرب الكافر تارة، وقوارب الوسط الأوروبي تارة؛ فغرقت في أوحال الذل، وغرقت في بحار من الظلمات من الفتن.
ويوم أن نطق العربي في قلب الجزيرة بكلام الوحي، سادوا العالم، فقد تفاعلوا مع القرآن بصورة مذهلة للعقل، سمع أعرابي رجلاً يوماً يتلو قول الله جل وعلا: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:22 - 23] , فقال الأعرابي -ليس صحابياً-: من ذا الذي أغضب الكريم حتى يقسم؟! إلى هذا الحد من التفاعل مع القرآن، كانت الآية تنزل فيقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فتتحول في التو واللحظة إلى واقع، كان الصحابة في المدينة يشربون الخمر، ويدير أنس بن مالك كأس الخمر على الصحابة، قبل أن تحرم الخمر، فدخل عليهم أحد الصحابة وكئوس الخمر تدور بينهم، وقرأ عليهم قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوه} [المائدة:90] , فلما قرأ الآية والله ما أكمل صحابي جرعة الخمر في يده! ما قالوا: نكمل هذه الكئوس وننتهي، لا.
بل قام أنس بن مالك وسكب قلال وجرار الخمر، وسكب الصحابة الخمر في الشوارع حتى سالت في طرقات المدينة وقالوا على لسان وقلب رجل واحد: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.(70/10)
ساد الصحابة العالم باتباعهم للقرآن
الحمدلله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! إن الصحابة رضوان الله عليهم حولوا القرآن الكريم إلى واقع عملي ومنهج حياة؛ فسادوا الأمم، وحولوا العالم كله إلى كثيب مهيل، وأحالوه ركاماً في ركام، في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، لما قرأ الأعرابي قول الله، وقرأ العربي في قلب الجزيرة قول الله، وتحرك للقرآن قلبه، وانتفضت للقرآن جوارحه، وحول هذا الكلام في حياته إلى منهج حياة؛ صار قائداً.
والله ما عرفنا عمر، وما عرفنا خالد بن الوليد، وما عرفنا الصديق، وما عرفنا أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وما عرفنا الصحابة إلا بعد أن أحياهم ربنا تبارك وتعالى بفضل هذا القرآن، إلا بعد أن أخرجهم ربنا سبحانه وتعالى من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد والإيمان بهذا القرآن الذي كان يتلوه عليهم النبي عليه الصلاة والسلام.
ظلت الأمة ترفل في ثوب العز والكرامة وهي تطبق آيات وأحكام هذا الكتاب، فلما نحت القرآن هزمت عسكرياً واقتصادياً ونفسياً وسياسياً وثقافياً، وراحت تحاكي الغرب الذي انتصر، وكسب الجولة الأخيرة، فماذا كانت النتيجة؟! ما ترونه الآن من ذل وهوان، فلقد صارت الأمة قصعة مستباحة لأذل أمم الأرض، وأعلنها أعداؤنا مراراً وتكراراً: لابد أن يظل القرآن بعيداً عن ساحة المعركة، كما أعلنها الحقود قلادستون وغيره؛ لأن القرآن لو نزل ساحة المعركة لتحولت المعركة إلى جهاد في سبيل الله، وهذا هو الذي حرك الدنيا كلها وحرك العالم كله، يوم أن تحولت المعركة على أرض فلسطين إلى معركة يظلل سماءها كلام رب العالمين وكلام سيد المرسلين، حينما ترددت لفظة الجهاد، لفظة الشهادة، لفظة العمليات الاستشهادية، لما ترددت هذه الألفاظ؛ تحرك العالم كله! والله لا كرامة الآن لأي زعيم ولا لأي حاكم إلا بفضل أطفال الحجارة، هؤلاء هم الذين ردوا للأمة الآن شيئاً من اعتبارها، وشيئاً من كرامتها، وشيئاً من عزتها، ولأول مرة في التاريخ الحديث نرى أن اليهود أنفسهم يعيشون حالة فزع ورعب مع ما يتحصنون به من ترسانة عسكرية أمريكية حديثة لم يسبق لها مثيل! يعيشون الآن حالة من الرعب والفزع! لما علم أولادنا وشبابنا في المعركة أن الأمة قد تخلت عنهم ولن تنصرهم، وأن العالم الغربي الكافر لا ينصر إيماناً ولا توحيداً، فعاهدوا الله جل وعلا على الجهاد في سبيله، ورددوا قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] , وعلموا يقيناً قول الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] , ورددوا بيقين منقطع النظير قول الله تعالى عنهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73] , وعلموا قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، وسعدوا كثيراً بقراءة قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].(70/11)
الحث على الجهاد والشهادة في سبيل الله
لما تعامل جيلنا الآن على أرض فلسطين مع القرآن، وفهم هذه الآيات، وعلم شبابنا عقيدة اليهود لا عن طريق ألسنة البشر، ولا عن طريق المثقفين والكتاب والمفكرين، بل عرف شبابنا عقيدة القوم من كلام رب العالمين، ومن كلام سيد النبيين وسيد الصادقين صلى الله عليه وسلم؛ انطلقوا بهذه العقيدة التي حولت مجريات الأمور.
لما حول شبابنا شيئاً من منهج القرآن على أرض الواقع إلى منهج حياة؛ قلبت الأمور كلها وتغيرت تماماً، فبالأمس فقط شاب يضحي بنفسه لله جل وعلا، أسأل الله أن يتقبله عنده في الشهداء، والله ما حركه إلا كلام الله وكلام الصادق رسول الله.
أقسم بالله إن فلسطينية رزقها الله بست بنات وابن في العاشرة من عمره، فيخرج هذا الولد ابن العاشرة يحمل حجارة، ويلبس زياً عسكرياً! فيقول له أحد الكبار من الشيوخ حينما رأى طفلاً في العاشرة: ما اسمك يا بني؟ قال: محمد.
قال: وإلى أين أنت ذاهب؟! قال ابن العاشرة: إلى الجهاد في سبيل الله! فقال له الشيخ: أين أبوك؟ قال: استشهد قبل أربعين يوماً! فقال له الشيخ: هل استأذنت أمك؟ قال له ابن العاشرة: نعم، استأذنت أمي قبل أن أخرج! قال له: ماذا قالت؟! فقال ابن العاشرة: قالت لي: اذهب يا محمد إلى الجهاد، وأسأل الله أن يلحقك بأبيك! هل يحرك هذه القلوب بهذه الصورة كلام بشر؟! والله ما تعطشت القلوب للشهادة إلا لما حركها كلام الله وكلام الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما ذاقت حلاوة وعد الله، وخافت وعيده.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يلتقي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] , والله ما سطر الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره على جدار في القدس الشريف هذه الكلمات إلا من منطلق كلام ربه وكلام نبيه حينما قال: إما عظماء فوق الأرض، وإما عظام تحت الأرض، إنه القرآن الذي يربي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير: بخ بخ جنة عرضها السماوات والأرض! فقال له النبي: ما حملك على قول بخ بخ يا عمير؟ قال: لا، غير أني أرجو الله أن أكون من أهلها، قال له الصادق: أنت من أهلها)، فأخرج عمير بن الحمام تمرات يأكلهن؛ ليتقوى على القتال، فقال لنفسه: كأنه ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأنطلق في الصفوف لأقاتل فأقتل فأدخل الجنة! والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها لحياة طويلة! يا من تعيشون للعروش! يا من تعيشون للفروش! يا من تعيشون للكروش! {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] , سيموت الصغار والكبار، سيموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، ويموت الصادقون المخلصون الذين يبذلون لدين الله كل ثمن، سيموت أصحاب الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت كذلك التافهون الراقصون على الجراح، الذين يعيشون من أجل متاع دنيوي حقير زائل رخيص، الكل سيموت فلنمت بشرف، فلنمت بكرامة، ماذا لو اتخذت قمة كقمة الأمس قراراً برفع راية الجهاد بعد العودة إلى شريعة الله؟! أقسم بالله لتغير كل شيء، قرار على ألسنة قادة الأمة بالعودة إلى الله أولاً، ومحال أن ترفع راية للجهاد في سبيل الله قبل أن تعود الأمة إلى الله، وإلى تطبيق شرعه، وإلى التحاكم للقرآن، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114]، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]، {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ} [يوسف:39]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60 - 61] , فلابد من العودة أولاً إلى القرآن وامتثال آياته وأوامره وتكاليفه وحدوده أمراً أمراً وتكليفاً تكليفاً ونهياً نهياً وحداً حداً، بل وكلمة كلمة وحرفاً حرفاً، والعودة إلى القرآن ليست نافلة، العودة إلى القرآن ليس تطوعاً منا ولا اختياراً، بل إننا أمام شرط الإسلام وحد الإيمان، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65] إلخ الآية.
على قادة الأمة أن يعلنوا الجهاد في سبيل الله، وأنا أعي ما أقول، وأعي كل لفظة -بفضل الله- أرددها، فلنرجع إلى الله، ولنمتثل الأمر، ونحول القرآن إلى واقع، ولنجدد الإيمان، ولنحقق الإيمان، ثم لترفع راية الجهاد، وسيرى حكامنا -بهذا الشرط الذي ذكرت- سيرون من شباب الأمة العجب العجاب -أستغفر الله- بل سيرون من شيوخ الأمة العجب العجاب! والله لقد كنت أذكر بمثل هذا الكلام في مسجد التوحيد في القاهرة يوماً، وقلت: إن من شبابنا الآن من يحترق قلبه شوقاً للشهادة، وإذا برجل يجلس عن يمين المنبر على كرسي جاوز التسعين من عمره، بلحية بيضاء، حينما سمعني أقول: فإن من شبابنا، إذ به يقف ويقول: ومن الشيوخ يا شيخ! ومن الشيوخ! فلم تحمله قدماه فسقط على الأرض! جاوز التسعين وهو يريد الشهادة في سبيل الله! والله لرأى حكامنا من شباب الأمة ومن شيوخ الأمة العجب العجاب.
نريد أن نقتل في سبيل الله، والله نريد أن نقتل في سبيل الله، والله الذي لا إله غيره إن من شبابنا الآن من يستعد أن يضع صدره بغير سلاح على فوهة مدافع أعداء الله؛ ليعُلموا العالم كله أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف رجالاً أطهاراً تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة وللجنة.
آه يا مسلمون! متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساق نحن لحم للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق قد هوينا لما هوت وأعدوا واعدوا من الردى ترياق واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراق اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد حكام الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد حكام الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد علماء الأمة ورجالها ونساءها وشبابها وأطفالها إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم انصر الإسلام والمسلمين نصراً مؤزراً، اللهم اشف صدور قوماً مؤمنين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(70/12)
نهاية العالم: متى؟ وكيف؟
لقد أخبرنا الذي لا ينطق عن الهوى عما سوف تحياه الأمة في هذا الواقع المعاصر، وما سيشهده العالم من أحداث عالمية مؤلمة.
وكذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم بنصرة الله للإسلام والمسلمين، وبزوال هذه المحنة عن المسلمين بظهور المهدي وعيسى عليهما السلام.
وهذا الأمل يجب أن يدفع العقلاء للعمل، فإن أملاً بغير عمل هو أمل الجهلاء والسفهاء.(71/1)
الأخبار النبوية الفاصلة عن أحداث نهاية العالم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله: نهاية العالم: متى؟ وكيف؟! هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم المبارك، وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثي معكم في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية: أولاً: الأخبار النبوية الفاصلة في الأحداث العالمية المقبلة.
ثانياً: الملاحم الكبرى.
ثالثاً: وصدق الله ورسوله.
وأخيراً: ورقة عمل.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يقر أعيننا جميعاً بنصرة الإسلام وعز الموحدين, إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: الأخبار النبوية الفاصلة في الأحداث العالمية المقبلة: أحبتي في الله: لا يستطيع عاقلٌ على وجه الأرض فضلاً عن عالم أن يجزم بشكلٍ قاطع وفي وقتٍ محدد بنهاية العالم بقيام الساعة، لا يعلم وقت قيام الساعة ملكٌ مقرب، ولا نبي مرسل، فهذا من علم والغيب الذي استأثر به الله جل وعلا وحده، قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:42 - 46].
وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أمين وحي السماء جبريل عليه السلام سأل أمين أهل الأرض محمداً صلى الله عليه وسلم: (متى الساعة؟ فقال المصطفى: ما المسئول عنها بأعلم من السائل).
ومع ذلك فإن الله جل وعلا أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أمارات الساعة وعلاماتها، بل وعلى كل الأحداث التي ستقع في الكون بين يدي الساعة, فتدبر معي.
قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن:26 - 27] وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: (كنت أكتب كل شيءٍ أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش عن ذلك، وقالوا: إن رسول الله بشر، يتكلم في الغضب والرضا، قال: فأمسكت عن الكتابة، ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق) قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:1 - 5] ومن ثم قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] فما من شيءٍ إلا وأخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم.
تدبروا ما رواه البخاري ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبةً ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه وجهله من جهله).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر -ظل النبي واقفاً على المنبر يخطب في الصحابة من الفجر إلى الظهر- قال: فنزل فصلى الظهر ثم صعد المنبر فخطب حتى حضرت العصر، قال: فنزل فصلى -أي: العصر- ثم صعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، قال: فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا) أي: لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فما من شيءٍ وقع، وما من شيءٍ قائمٍ بيننا الآن, وما من حدثٍ سيقع في السنوات المقبلة بين يدي الساعة وإلا وقد أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فما تحياه الأمة الآن من واقع معاصر، وما سيشهده العالم من أحداثٍ دامية مؤلمة في السنوات المقبلة إلا وأخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
نعم! لقد جسد النبي صلى الله عليه وسلم واقعنا المعاصر تجسيداً دقيقاً، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر, وذراعاً بذراع, حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: كلا, أنتم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
ومع ذلك فقد أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, عن زوال هذه المحنة وكشف هذه الغمة، وأخبرنا عن نصرة الله للإسلام والمسلمين، وعن إذلال الله للشرك والمشركين، ووالله ثم والله إننا الآن لعلى مقربةٍ شديدةٍ من وقوع هذه البشريات النبوية المحمدية الصادقة مع ما نراه من واقعٍ مُرٍ أليم؛ لأن الذي سيهيئ الكون كله في الأيام والسنوات المقبلة ليحدث على الأرض ما أخبر به الصادق هو ملك الملوك جل جلاله، ومدبر الكون ومسير الأمر الذي يقول للشيء: كن فيكون.(71/2)
الملحمة الكبرى بين الإسلام والكفر
وهذا هو عنصرنا الثاني والمهم من عناصر اللقاء: الملحمة الكبرى:(71/3)
الهدنة بين المسلمين والروم
أيها الإخوة الكرام: لقد أخبرنا الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أنه بين يدي الملاحم الكبرى في السنوات القليلة القادمة ستكون هدنة بين الروم والمسلمين، والروم أو بنو الأصفر هم الأمريكيون والأوربيون.
فستبدأ الملاحم القادمة بهدنةٍ أو بصلحٍ آمن بين الروم -أي بين الأمريكيين والأوروبيين- وبين المسلمين، وأنا أسأل الآن: أو لم تقع الهدنة والصلح الآن بمثل ما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى؟ روى البخاري وغيره من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي, -موت الحبيب صلى الله عليه وسلم- ثم فتح بيت المقدس) وقد كان فتح بيت المقدس بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم في عهد عمر بن الخطاب بقيادة أبي عبيدة.
(ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم) طاعونٌ ينتشر فيكم كانتشار الداء في الأغنام، وقد وقع الطاعون في عمواس في بلاد الشام وفيه مات أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وكثيرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
(ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً) وقد وقع ذلك، فقد تعطي الرجل الآن مائة جنيه أو مائتين فيظل ساخطاً إما لعدم القناعة والرضا وإما لارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة بحيث لا يكفيه هذا المال لحوائجه وضرورياته.
أما العلامة الخامسة قال: (ثم فتنة لا تترك بيتاً في العرب إلا دخلته) يراها كثيرٌ من أهل العلم متمثلةً في وسائل الإعلام بكل صورها وأشكالها، فلم تدع هذه الوسائل الآن بيتاً من بيوت العرب إلا ودخلته.
ثم تدبر العلامة السادسة، قال الصادق: (ثم تكون هدنة بينكم وبين الروم، فيغدرون -والغدر شيمة للروم- فيجمعون لكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) والغاية هي الراية، وسميت الراية بالغاية؛ لأنها غاية الجيش، فإذا سقطت الراية ضاعت الغاية وهزم الجيش، فسميت الراية لذلك بالغاية.
وفي لفظٍ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة بسندٍ صحيح قال الصادق صلى الله عليه وسلم: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم -أي أنتم: أيها المسلمون، وهم أي: الروم، والروم كما اتفقنا هم أمريكا وأوروبا - عدواً من ورائهم) وتدبر كل كلمات الصادق (من ورائهم) ولم يقل: من ورائكم، (فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم فتسلمون وتغنمون، ثم تنزلون بمرجٍ ذي تلول -أي: أنتم والروم بمكانً أخضر، يتسم بالخضرة والمياه- فيقوم رجلٌ من الروم فيرفع الصليب، ويقول: غلب الصليب، فيقوم إليه رجلٌ من المسلمين فيقتله، فعندئذٍ يغدر الروم وتكون الملاحم، فيجتمعون لكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً).
تدبر معي هذا الكلام النبوي: قد وقعت الهدنة الآن، وهانحن نشهد الآن مرحلة الهدنة والصلح الآمن، معاهدات بين الأمريكيين والأوربيين وكل الأمة بلا استثناء، معاهدات وصلحٌ آمن، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المسلمين سيشاركون أمريكا وأوروبا في قتال عدوٍ مشترك، يا ترى من هذا العدو المشترك؟ هل هو الإرهاب؟ على حد تعبير الأمريكيين والأوربيين وجميع وسائل الإعلام العربية بلا استثناء؟ هل هو المعسكر الشرقي: روسيا والصين واليابان؟ هل هم الشيعة؟!
الجواب
الله أعلم بمراد رسوله.
إلا أن أهل الكتاب يؤمنون إيماناً جازماً بهذه المعركة المشتركة، ويسمونها في كتبهم وعقائدهم بمعركة هر مجدون أو هرمجيدو؛ وهرمجدون كلمةٌ عبرية تتكون من مقطعين، المقطع الأول (هر) بمعنى جبل، و (مجدون) أو (مجيدو) هو سهلٌ أو وادٍ، أين هو؟ في فلسطين، في سفرٍ من أسفار أهل الكتاب يسمى بسفر الرؤيا، في الإصحاح السادس عشر، يقول: اجتمعت جيوش العالم كلها في أرضٍ تسمى هرمجدون.
يقول الرئيس الأمريكي الأسبق روملد ريجن: إن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيرى هرمجدون.
يقول: أورل ريبرتسون صاحب كتاب: (دراما نهاية الزمن) يقول: كل شيءٍ سيمضي في بضع سنوات فستقع المعركة العالمية الكبرى، معركة هرمجدون أو معركة سهل مجيدو.
وتقول الكاتبة الأمريكية الشهيرة جريس هالسل -وهذا على حد تعبيرها-: إننا نؤمن كمسيحيين بأن تاريخ الإنسانية سينتهي بمعركة تدعى معركة هرمجدون، وسيخاض غمارها في سهل مجيدو، قالت: وستتوج هذه المعركة بعودة المسيح إلى الأرض.
ويقول القس الأمريكي الشهير جيمس جارتس: كنت أود أن أستطيع القول بأننا ننتظر السلام أو سنحقق السلام، قال: ولكنني أؤمن بأن معركة هرمجدون قادمة وسيخاض غمارها في سهل مجيدو في فلسطين.
نعم! إنها قادمة فليعقدوا ما شاءوا من اتفاقيات السلام، إنهم لن يحققوا شيئاً، فهناك أيامٌ سوداء مقبلة، هذه عقيدة القوم في هذه المعركة التي أخبر عنها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى بأنها ستكون معركة مشتركة بين الروم أي: الأوروبيين والأمريكيين والمسلمين من جانب وبين عدوٍ آخر من جانب آخر، فيغنم المسلمون بعد سلامتهم في هذه المعركة.
فماذا بعد هرمجدون؟ تدبر جيداً واحفظ هذا الجواب وعلمه امرأتك، وبناتك، وأولادك، فهو كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, وهو علم الوقت أي علم أو فقه المرحلة القادمة.
ماذا بعد هرمجدون؟ أو إن شئت فقل: ماذا بعد المعركة المشتركة بين الروم والمسلمين من ناحية وبين هذا العدو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية أخرى؟ انتبه معي! فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم سيغدرون بنا، وفي فترةٍ يجمعون الجيوش ويعدون العدة لاستئصال شأفة المسلمين من على الأرض حينما يرفع الصليبي الصليب ويقول: غلب الصليب، ويقوم إليه رجلٌ من المسلمين فيقتله.
في هذه الفترة الزمنية ورد في حديثٍ في مسند أحمد بسندٍ ضعيف أن المدة التي سيجمع فيها الروم للمسلمين هي مدة حمل المرأة، أي في تسعة أشهر، يجمعون الجيوش ويجيشون الجيوش لاستئصال شأفة المسلمين من على الأرض في هذه المنطقة، وهي منطقة فلسطين وسوريا كما سأبين الآن بكلام الذي لا ينطق عن الهوى.(71/4)
ظهور المهدي عليه السلام
في هذه المرحلة الزمنية الخطيرة يحدث في الكون أمرٌ قدريٌ كونيٌ لا دخل فيه للبشر على وجه الأرض، إنه أمرٌ قدره الله وقضاه في أم الكتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، أمرٌ ليس بكسبٍ مادي، ولا بطلبٍ بشري، إنما هو أمرٌ قدره الرب العلي يقع في الكون، كنزول عيسى بن مريم، وكخروج يأجوج ومأجوج، وكخروج المسيح الدجال.
ما هو هذا الحدث الكوني الخطير؟! إنه ظهور محمدٍ بن عبد الله المهدي -اللهم عجل به يا كريم يا علي! -.
من المهدي هذا؟ إنه رجلٌ من نسل المصطفى من أولاد فاطمة بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يخرج بدون كسبٍ منه، وطلبٍ، وبدون رغبةٍ أو طلبٍ من المسلمين، أو عملٍ معين، وإنما هو أمرٌ قدري كوني يقع في الكون كنزول عيسى وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج.
قال الصادق الذي لا ينطق عن الهوى كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وصححه العلامة أحمد شاكر، والعلامة الألباني من حديث علي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة) أي: يهيئهُ الله للخلافة رغم أنف العلمانيين والمنافقين، ويصلحه الله في ليلة، إننا سنبيت ليلة عادية من الليالي ونستيقظ في الصباح فنسمع نشرات الأخبار ونسمع في كل وكالات الأنباء وفي جميع وسائل الإعلام أن المهدي عليه السلام قد ظهر في بيت الله الحرام، (يصلحه الله في ليلة) أي: يهيئه الله للخلافة الراشدة؛ ليقود الأمة في هذه المرحلة القادمة، مرحلة الفتن والملاحم بين يدي الساعة.
روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها, ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً -وهو ما تحياه الأمة الآن- فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) (المهدي منا آل البيت يصلحه الله في ليلة).
وفي الحديث الذي رواه الطبراني والبزار والترمذي وابن حبان وابن ماجة والحاكم بسندٍ صحيح صححه الألباني في السلسلة وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت الأرض جوراً وظلماً يبعث الله رجلاً مني، اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي, فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت الأرض ظلماً وجوراً، فلا تمسك السماء شيئاً من قطرها، ولا تمسك الأرض شيئاً من نباتها, فيمكث فيكم سبعاً أو ثمانية فإن أكثر فتسعاً).
أيها المسلمون: لقد بلغت أحاديث المهدي مبلغ التواتر, والحديث المتواتر عند جماهير علماء الأمة يفيد العلم القطعي، ومعنى ذلك أن العلم به واجب، وأن العمل فرضٌ لازم.
وتدبروا معي كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، فقد يسأل سائل: وكيف نعرف أن الذي خرج في مكة هو المهدي الحقيقي، فقد خرج كثيرٌ من الكذابين والدجاجلة وادعى كل واحدٌ منهم أنه المهدي، فكيف نعرف أنه المهدي الحقيقي؟ لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعلامةٍ نبوية محمدية صادقة إن وقعت تلك العلامة فلتعلم الأمة كلها أن الذي ظهر ببيت الله الحرام هو محمد بن عبد الله المهدي عليه السلام، ما هي هذه العلامة؟ اسمع كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (عبث رسول الله يوماً في منامه -يعني: تحرك النبي حركةً على غير عادته في النوم- فقالت عائشة: يا رسول الله! رأيتك قد فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: العجب أن ناساً من أمتي يؤمُّون البيت الحرام -أي: يقصدون البيت الحرام- لرجلٍ من قريش لجأ بالبيت الحرام، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم) أي: إذا خرج هؤلاء القوم لهذا الرجل الذي اعتصم ببيت الله الحرام يخسف الله الأرض بهذا الجيش، هذه هي العلامة، وهذا أمرٌ كونيٌ قدريٌ آخر لا دخل لأحدٍ من البشر فيه، قالت عائشة: (قلت: يا رسول الله! فإن الطريق يجمع الناس -يعني ما ذنب كثيرٍ من الناس ممن يمشون في الطريق ممن لم يخرجوا لقتال المهدي في هذا الجيش- فقال النبي: نعم.
فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون جميعاً مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم) يبعث الله كل واحدٍ منهم على نيته الذي خرج بها ومات عليها.
وفي صحيح مسلم من حديث حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعوذ بالبيت -أي يحتمي ويعتصم ببيت الله الحرام- قومٌ -تدبر معي هذا الوصف النبوي الجميل- قومٌ ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة -فقراء ضعفاء- فيخرج إليهم جيش -أي: لقتالهم والقضاء عليهم- فإذا كانوا ببيداء من الأرض -أي: بصحراء من الأرض- خُسِف بهم) وفي لفظٍ في مسلم: (فلا يبقى إلا الشريد) أي: الذي ينجو من الجيش رجلٌ أو رجلان، ليخبرا عما أوقعه الله تبارك وتعالى بهذا الجيش الذي خرج للقضاء على المهدي عليه السلام.
فإن خسف الله بهذا الجيش علم المسلمون في الأرض أن الذي ظهر ببيت الله الحرام هو المهدي عليه السلام، فتقبل إليه الوفود المسلمة من أنحاء الأرض، ويقبل إليه المسلمون من كل أرجائها ليشدوا على يديه وليعلنوا له البيعة وليعاهدوا الله معه على الجهاد في سبيل الله وعلى إعلاء كلمة الله للبلوغ إلى إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة؛ نسأل الله أن لا يحرمنا من هذا الشرف إنه ولي ذلك والقادر عليه.
فماذا بعد البيعة؟ يعلن العالم كله الحرب على المهدي وكتائب التوحيد معه، فلا يعرف الموحدون مع المهدي طعماً للراحة ولا وقتاً للرخاء والدعة، بل يخوضون معارك وملاحم خطيرة في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً، فلا يُهزم المهدي في أي معركة بإذن الله.(71/5)
المعارك التي يخوضها المهدي قبل نزول عيسى ابن مريم
ما هي هذه الملاحم؟ وما هي هذه المعارك؟! قال الصادق كما في صحيح مسلم من حديث نافع بن عتبة: (تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله -وأرجو أن تتدبروا في كلمات النبي صلى الله عليه وسلم- ثم تغزون فارس - إيران - فيفتحها الله، ثم تغزون الروم -الأمريكيين والأوروبيين- فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله).
المعركة الأولى التي يخوضها المهدي وكتائب التوحيد معه معركة في قلب الجزيرة العربية، خرج الجيش الأول للقضاء عليه من المسلمين فخسف الله به الأرض، الجيش الثاني الذي يخرج لقتال المهدي مع علمه بأن الرب العلي قد خسف بالجيش الأول جيشٌ مسلمٌ كذلك من جزيرة العرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيفتحها الله) أي: يَهزِمُ المهدي وكتائب التوحيد معه هذا الجيش وتفتح الجزيرة العربية أبوابها كلها للمهدي وللموحدين معه بإذن الله تبارك وتعالى.
فيخرج إلى المهدي جيشٌ آخر من إيران من فارس، حينما يعلم الإيرانيون أن الذي خرج ليس المهدي الذي ينتظرونه في سرداب سامراء، فيخرجون إليه جيشاً جراراً، فيهزم المهدي هذا الجيش بإذن الرب العلي جل وعلا، ثم تغزون فارس فيفتحها الله.
ثم تغزون الروم، وقف معي وتدبر هذه المعركة الفاصلة الحاسمة، فهي أخطر المعارك على وجه الأرض، وقد بيَّن الصادق صلى الله عليه وسلم أرض المعركة، وذكر تفاصيل المعركة، بل وحدد نتيجة المعركة، فماذا قال الصادق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى؟ قال: (ثم تغزون الروم فيفتحها الله) وخذ التفاصيل: روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق) أين الأعماق؟ وأين دابق؟ هما موضعان بالقرب من حلب في دولة سوريا، سينزل الأمريكيون والأوروبيون في السنوات القليلة المقبلة هذه الأرض وهذه المنطقة كما أخبر الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
وقد عدت إلى بعض المعاجم القديمة لأقف على تأويل أهل المعاجم القديمة للأعماق ودابق فوجدت أنهم يقولون: الأعماق ودابق موطنٌ بين حلب في سوريا وأنطاكية في تركيا، قلت: سبحان الله العظيم! انظروا إلى القواعد العسكرية الأمريكية في تركيا وفي جل أنحاء العالم الإسلامي، بل والعالم الأوروبي لا سيما بعد أحداث أفغانستان، فقد وضعت أمريكا قواعدها العسكرية كذلك في قلب أوروبا.
قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بـ الأعماق أو بـ دابق) أي: منطقة في حلب في سوريا، ولعلكم تعلمون يقيناً أن أمريكا قد وضعت سوريا ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، بل وكان وزير الخارجية السوري هو الوحيد في اجتماع وزراء الخارجية الذي صرح بمقاطعةٍ كاملة مع الكيان الصهيوني، لكنهم رفضوا؛ فـ سوريا الآن موضوعة على قائمة الإرهاب الأمريكية.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فيخرج إليهم جيشٌ من المدينة هم من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافُّوا -أي: للقتال- قالت الروم للمسلمين: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) من هؤلاء؟ هؤلاء من الروم أصلاً لكنهم يوحدون الله جل وعلا ويشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيسلمون ويتركون جيش الروم من الأمريكيين والأوربيين ويقاتلون الروم مع المسلمين.
فهل تتابعون ما يشغل الآن الرأي العام الأمريكي كله منذ أسبوعٍ أو لا؟ هل تعلمون أن الرأي العام الأمريكي كله منشغلٌ الآن بقضية شابٍ يقال له: جون ولكر؟ هل تعرفون شيئاً عن جون ولكر؟ جون ولكر شابٌ أمريكي أسر منذ أسبوع في أفغانستان؛ لأنه أسلم وكان يقاتل في صفوف طالبان ضد الأمريكان، والرأي العام الأمريكي كله كان يتحدث في هذه القضية، وبالأمس في الـ ( mbc) نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني يقول: أنا لا أتصور أن شاباً أمريكياً تربى وترعرع في هذه الأرض ثم يكون مصيره أن يسلم وأن يحارب الأمريكان مع طالبان.
فتدبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه بشريات على الطريق، قال: (فإذا تصافُّوا -أي وقف الجيش الرومي: الأمريكيون الأوربيون والمسلمون للقتال- قالت الروم للمسلمين: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم) أي: اتركوا هؤلاء الذين أسلموا وتركوا ديارنا وعقيدتنا وديننا، نقاتلهم: أي: نبدأ بقتالهم، (فيقول المسلمون: لا.
والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا) هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيقاتلونهم فينهزم ثلث الجيش لا يتوب الله عليهم أبداً) ينهزم ثلث الجيش المسلم لا يتوب الله عليهم أبداً، لماذا؟ لأنهم خونة، فروا من أرض المعركة، وخانوا الله ورسوله والمؤمنين.
أما الثلث الثاني قال: (ويقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند الله).
أما الثلث المتبقي في الجيش المسلم فقال صلى الله عليه وسلم عنه: (ويبقى ثلثٌ فيفتح الله له) أي: فينصر الله هذا الثلث على الروم الأمريكيين والأوربيين (فيبقى ثلثٌ فيفتح الله له) قال الصادق: (لا يفتنون أبداً).
بل في رواية مسلم من حديث عبد الله بن مسعود في غير رواية أبي هريرة قال: (هاجت ريحٌ حمراء بـ الكوفة، فجاء رجلٌ ليس له هيجرى إلا: يا عبد الله بن مسعود! يا عبد الله بن مسعود! جاءت الساعة، فقعد ابن مسعود وكان متكئاً فقال: لا، -انظروا إلى العلم والعلماء- لا تقوم الساعة حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم أشار بيده نحو الشام، ثم قال: عدوٌ يجمعون لأهل الإسلام ويجمع لهم أهل الإسلام -تدبر- قال: وعند ذاكم القتال تكون ردةٌ شديدة) هذا هو الثلث الأول الذي ارتد وانهزم وخان، ثم قال: (فيشترط المسلمون شرطةً للموت لا ترجع إلا غالبة) أي: يقدم المسلمون مجموعةً من الكتائب وتشترط هذه الكتائب ألا ترجع إلا وهي غالبة، قال: (فيقتتلون -أي: يقتتل المسلمون مع الروم- حتى يحجز بينهم الليل، فتفيء كل فئةٍ غير غالبة، وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون -أي: في اليوم التالي- شرطةٌ للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فترجع فتفيء كل فئةٍ غير غالبة وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون في اليوم الثالث شرطةٌ للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فتفيء كل منهم غير غالبة، وتفنى الشرطة، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام -أي: نهض إليهم بقية أهل الإسلام- قال: فيجعل الله الدائرة عليهم -أي: على الروم- فيقتتلون مقتلةً عظيمة لم يُر مثلها، حتى إن الطائر لا يمر بجنباتهم فما يخلفهم إلا وقد خر ميتاً، قال: فيتعاد أبناء الأب الواحد قد بلغوا المائة, فلا يجدون قد بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح؟ وأي ميراثٍ يقسم؟ قال: فبينما هم كذلك إذ قد وقع بهم بأسٌ هو أكبر من ذلك، فإذ بهم يأتيهم الصريخ -أي من يصرخ فيهم- ليخبرهم أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم -أي في أولادهم- قال: فيرفضون ما بين أيديهم -أي: من الأموال والغنائم- ويبعثون عشرة فوارس طليعة -أي ليعلموا الأمر وليطلعوا عليه- قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: والله! إني لأعلم أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ).
وهكذا ينصر الله عبده المهدي والموحدين معه على كتائب الروم، على الأمريكيين والأوربيين رغم أنف العلمانيين والماديين الذين لا ينظرون ولا يؤمنون إلا بكل ما هو ماديٍ محسوس، هذه الفئة المباركة، هؤلاء الأولياء الأصفياء الأتقياء هم الذين يفتح الله لهم مدينة القسطنطينية بغير قتال، بل وبغير سلاح كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (سمعتم بمدينة جانبٌ منها في البر وجانبٌ منها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق فإذا جاءوها لم يقاتلوا بسلاحٍ ولم يرموا بسهم، وإنما قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الذي في البحر، فإذا جاءوها الثانية قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر, فيسقط جانبها الذي في البر، فإذا جاءوها الثالثة قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلوها).
قال الحافظ ابن كثير: وبني إسحاق في الحديث هم سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهم من الروم سيسلمون في آخر الزمان وسيجعل الله فتح القسطنطينية على يد طائفةٍ منهم ممن وحدوا الله وآمنوا بالصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم.(71/6)
المعركة مع اليهود والدجال
أما المعركة الخامسة والحاسمة التي يقودها المهدي فإنها ستكون مع أنجس خلق الله وأشرهم وهم اليهود، وتحدث الكرامات التي وعد بها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود, فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! خلفي يهودي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود).
أيها الأفاضل: يخرج اليهود مع الدجال الذي يهلكه الله على يد عيسى والمهدي، فيقاتل المسلمون اليهود ويجري الله عز وجل لهم هذه الكرامة التي أخبر بها الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ويستأصل الله شأفتهم ويطهر الأرض من نجاستهم وقذارتهم، وبذلك -أيها الأفاضل- لا يبقى على وجه الأرض دينٌ إلا دين محمد.(71/7)
وصدق الله ورسوله
وهذا هو عنصرنا الثالث: وصدق الله ورسوله، قال الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] وقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره من حديث تميم الداري: (ليبلغن هذا الأمر -أي: هذا الدين- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزٍ أو بذل ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام, وذلاً يذل الله به الكفر) صلى الله وسلم وبارك على الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
وأسأل الله جل وعلا أن يعجل بهذه الأيام المباركة الكريمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(71/8)
ورقة عمل
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، برحمتك وفضلك وجودك وكرمك يا رب العالمين.
أيها الإخوة الكرام: وأخيراً أقدم ورقة عمل: ليس معنى ذلك أن نتكاسل أو أن نتواكل، فهذا الأمل يجب أن يدفع العقلاء للعمل، فإن أملاً بغير عمل هو أمل الجهلاء وأمل السفهاء، أما الصادقون العقلاء هم الذين يدفعهم الأمل في موعود الله وموعود رسوله بنصرة الإسلام وظهوره على كل الملل للعمل، فلا بد أن نعمل، فهذه ورقة عمل سريعة:(71/9)
الاعتصام بالله سبحانه وتعالى
أولاً: يجب علينا أن نعتصم بالله وأن نستعين به، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله.(71/10)
طلب العلم
ثانياً: يجب علينا جميعاً مهما كانت وظيفتك، ومهما كان عملك أن تخصص وقتاً من وقتك لتتعلم فيه عن الله وعن رسوله، إن كنت طبيباً فأغلق عيادتك ساعةً في الأسبوع، إن كنت مهندساً فاعتذر عن عملك في مصنعك ساعةً في الأسبوع، إن كنت مدرساً فغيَّر مواعيد الدروس أو العمل ساعةً في الأسبوع، مهما كان عملك ومهما كانت وظيفتك يجب عليك أن تخصص لنفسك ساعةً تحرص فيها أن تأتي بيوت الله جل وعلا لتتعلم العلم الشرعي الصحيح، لتسمع عن الله وعن رسول الله ولتقف على فقه المرحلة القادمة، فإن الجهل من أخطر الفتن، لا سيما إذا علمنا أن جاهلاً بفتنة الدجال سيكفر بالواحد الكبير المتعال، يذهب إلى الدجال وهو لا يعرف شيئاً عما قاله سيد الرجال صلى الله عليه وسلم عن فتنته، فيقول له الدجال: أنا ربك، فيقول: لا.
فيقول: فهل لو أحييت لك والديك تؤمن بي؟ قال: نعم، أؤمن بك، وهو لا يعلم أن الدجال فتنة، بل هو أخطر فتنة على وجه الأرض، قال: فيظهر له شيطانان: شيطان على صورة أبيه، وشيطان على صورة أمه، فيأمرانه باتباع الدجال، فيسجد له ويقول: أنت ربي.
فيكفر بجهله.
فهذا لو علم الدجال وفتنة الدجال وما قاله سيد الرجال صلى الله عليه وسلم ما فعل ذلك.
فلا بد أن تحرص على العلم الشرعي، على علم القرآن والسنة الصحيحة على أيدي العلماء المتحققين بالعلم، وهؤلاء بحول الله لا يخلو منهم زمانٌ ولا مكان، إذ يجب أن يكون في الأرض قائمٌ لله بحجة.(71/11)
تحقيق الإيمان
ثالثاً: تحقيق الإيمان، الإيمان حصن أمانك، وسفينة نوح التي ستركبها في هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن التي نحياها والفتن المقبلة، الإيمان ليس كلمةً باللسان فحسب، بل هو قولٌ وتصديقٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح والأركان، حقق الإيمان فبه وبه فقط ينجيك الله من الفتن، وبالإيمان تقرأ على جبين الدجال كلمة (كافر) قال الصادق: (يخرج الدجال مكتوبٌ على جبينه: ك ف ر) وفي لفظٍ: (كافر) قال الصادق: (لا يقرؤها إلا المؤمن) فحقق الإيمان.(71/12)
التزود بالتقوى
رابعاً: التزود بالتقوى للآخرة.
أيها الأفاضل: أُقسم بالله إن كل ما أخبر عنه الصادق من علاماتٍ صغرى قد وقعت، ونحن الآن ننتظر المهدي، وقد ذكرت أن الله سيصلحه في ليلة، وإرهاصات المهدي موجودة بين أيدينا الآن، فتزودوا للآخرة، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب
والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب(71/13)
الاجتهاد في الطاعة
خامساً: احرصوا -أيها الأفاضل! أذكر نفسي والله وإياكم- على الاجتهاد في الطاعة والاجتهاد في العبادة، فالعبادة في الهرج -أي في الفتن- كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه مسلم من حديث معقل بن يسار: (العبادة في الهرج -أي في الفتن- كهجرةٍ إليَّ) أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حافظوا على الصلوات في الجماعة لا تضيعوا الورد اليومي للقرآن حافظوا على أذكار الصباح والمساء حافظوا على ركعات ولو قليلةٍ بالليل حافظوا على الصدقة ولو قلَّت حافظوا على الاستغفار.
وأنتِ -أيتها المسلمة- مخاطبةٌ بذلك هيا إلى الحجاب الشرعي هيا إلى القرآن هيا إلى الصلاة هيا إلى السنة، فوالله إن الساعة مقبلة، وإن الفتن والملاحم مقبلة، فلنتزود لهذه الأيام الحالكة بطاعة ربنا وبعبادته سبحانه وتعالى.
وأخيراً فلنتحرك جميعاً لدين الله، لا ينبغي أن نتواكل أو نتكاسل أو أن نكون سلبيين، قال الصادق: (إذا قامت القيامة -ليس إذا ظهر المهدي- وفي يد أحدكم فسيلة -أي: شتلة صغيرة- فاستطاع أن يغرسها فليغرسها) لا تقل قامت القيامة، وانتهى الناس، وهذه فسيلة متى تنمو؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل منها؟ ليس هذا من شأننا، شأننا أن نعمل لدين الله، وأن نغرس لدين الله، وأن نترك النتائج لله الذي لا يعجل بعجلة أحد.
الله الله في التوبة، وآسفاه! وآسفاه! إن دعيت بعد كل هذا الكلام إلى التوبة وما أجبت، واحسرتاه! إن ذكرت الآن بعد كل هذا بالله وما أنبت، متى سترجع إن لم ترجع الآن.
اللهم اشفِ صدور قومٍ مؤمنين، بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشفِ صدور قومٍ مؤمنين، بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم عجِّل بنصرتك لنا يا رب العالمين، اللهم إننا مغلوبون فانتصر لنا، اللهم إننا مغلوبون فانتصر لنا، اللهم احقن دماء المسلمين في فلسطين وأفغانستان، والشيشان، وكشمير وفي كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في الصومال والعراق، والسودان واليمن، وليبيا، وفي كل مكان.(71/14)
الثقة في الله
هذه رسالة تحمل في طياتها المخرج الوحيد من الهم والغم والضيق، بل هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وبدونها يعيش الناس في شقاء وبلاء، إنها الثقة بالله سبحانه وتعالى، وفي هذه الرسالة بسط الشيخ الحديث عن هذا الموضوع وأهميته مستدلاً بواقع المجتمع، ومشاكله، ومبيناً أن أساسها هو عدم الثقة بالله سبحانه وتعالى.
فهاهي دعوة صادقة توجه إليك أخي المسلم لتعود إلى الله سبحانه وتعالى، وتثق بدين الله.(72/1)
أهمية الثقة
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] عالم الغيب والشهادة، الذي استوى في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائنٌ وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوض إليه الأمر هداه، وصدق الله إذ يقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وأستاذنا محمد رسول الله، إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين، صاحب المقام المحمود، وصاحب الحوض المورود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ موحدٍ سليم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء، ويا سيد المرسلين، أشهد لك يا سيدي يا رسول الله ويشهد معي الموحدون أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج يا سيدي، وأمَّنت الخائف يا سيدي، وطمأنت القلق يا سيدي، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما يجزي الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه.
أما بعد: فيا أيها الأحباب! إن موضوعي اليوم مع حضراتكم يدور حول كلمةٍ واحدة، كلمة تتكون من خمسة أحرف فقط، هذه الكلمة هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، هذه الكلمة هي المخرج الوحيد للهم والغم والكرب والضيق الذي نعيش فيه في هذه الأيام، هذه الكلمة هي مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وبدونها هأنتم ترون أننا نعيش في شقاءٍ ونعيش في قحطٍ وضيقٍ وبلاء.
أتدرون ما هي هذه الكلمة؟ كلمة بسيطةٌ في حروفها، قليلةٌ في تركيبها، عظيمةٌ في معانيها وفحواها، إنها: الثقة.
ربما يعجب الكثير، ويقول في ذهنه في التو واللحظة: كيف يجعل خطبةً كاملة ننتظرها من أسبوعٍ لأسبوع عن كلمةٍ كهذه الكلمة ألا وهي كلمة: الثقة، ولكنكم بعد انتهاء الخطبة سترون أن الموضوع جد خطير؛ لأن الثقة -أيها الأحباب- تدور على ثلاثة أمور: أولاً: الثقة في الله.
ثانياً: الثقة في منهج الله وهو: (القرآن).
ثالثاً: الثقة فيمن بلَّغ عن الله وهو (ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم).
أعتقد أن الأمر قد اتضح قليلاً، وأن الموضوع جد خطير.
الثقة أمرٌ عظيمٌ وأمرٌ خطير؛ لأنها: أولاً: ثقة في الله الخالق، ثقةٌ في الله الرازق، ثقة في الله المانع، ثقة في الله الخافض، ثقة في الله المعطي، ثقة في الله الضار، ثقة في الله المانع.
ثانياً: ثقة في منهجه، ثقةٌ في تشريعه، ثقة في كتابه.
ثالثاً: ثقة فيمن بلغ عن ربه وهو ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(72/2)
مشكلة المجتمع اليوم
إن مشكلتنا اليوم ليست نقص في المياه ولا الكهرباء، وليست نقص في الثمرات، ولا في الأرزاق، وليست نقص في العلاج ولا في الإسكان ولا في البناء، وإنما مشكلتنا اليوم هي مشكلة عدم ثقتنا بالله جل وعلا، نحن اليوم لم نعد نثق بالله جل وعلا، إذا ما قلنا: أيها المسئول! لم لا تثق في الله، ولم لا تثق في كلام الله، ولم لا تثقُ في منهج الله، ولم لا تثقُ في شرع الله؟ وجدت أن عدم الثقة واضحةً جليةً وضوح الشمس في ضحاها، يردون عليك بمنتهى الوقاحة وبمنتهى التبجح الممقوت الصارخ، وهم يقولون لك: يا هؤلاء! يا من تنادون بمنهج الله! ويا من تريدون العودة إلى الله! ويا من تصرخون بالصلح مع الله! إذا فعلنا ذلك وأغلقنا (الكبريهات، والكزنوهات) ومنعنا الخمور، وقضينا على شبكات الدعارة، وقبضنا على مافيا المخدرات من علية القوم وسادات الناس، ومنعنا السياحة، فمن الذي يضمن لنا العملة الصعبة؟ إن الذي يضمن لنا ولكم العملة الصعبة والرزق هو الذي خلق الخلق، هو من بيده الرزق، هو من بيده الأمر كله.
فمشكلتنا -أيها الناس- وبلغوا هذا الكلام للجميع، وأنا أصرخ وأناشد المسئولين في هذا البلد، المسئولين عن هذا البلد الطيب: إن مشكلتنا الرئيسية أقسم بالله العظيم لا تكمن في نقص المياه، ولا تكمن في نقص الكهرباء، ولا تكمن في نقص الثمرات، وإنما مشكلتنا هي عدم الثقةٌ بالله الخالق.
إننا نعيش في قحطٍ وضيقٍ وبلاء، نعيش في أزمات تلو الأزمات، ولكن زاد الطين بلة، هذه القرارات الأخيرة، التي خرجوا علينا بها، وملئوا مسامعنا بها على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، وعبر موجات الراديو والإذاعات، هذه القرارات التي ترفع لأول مرة للمسئولين عن هذا البلد، ما هي هذه القرارات؟ قراراتٌ خطيرة، تنذر بأن الأمر خطير، وبأن المشكلة ليست كلاماً، وإنما هي مشكلةٌ حقيقية، نقصٌ في المياه، ثم بعد ذلك نقصٌ في الكهرباء.
نقص المياه يترتب عليه ماذا؟ يترتب عليه نقصٌ في استصلاح الأراضي الزراعية، ويترتب عليه نقصٌ في الثمرات وزيادة في المشاكل.
نقصٌ في الكهرباء.
ونقص الكهرباء يترتب عليه ماذا؟ تعطيل للصناعات، وتعطيل للمصانع، زيادة للمشاكل والأزمات، والأفواه تصرخ تريد أن تأكل وتريد أن تشرب، ولكن ما هي النتيجة، ما هي الحلول التي خرج علينا بها المسئولون عن هذا البلد، ما هي الحلول التي ذكّرونا بها للخروج من هذه الأزمات، وللخروج من هذه المشاكل؟ أتدورن ما هي؟ كل الحلول التي قرأناها على صفحات الجرائد، والتي سمعناها وشاهدناها أنهم يصرخون في الناس ويقولون: اربطوا على البطون الأحزمة، لا تسرفوا، لا إسراف في المياه ولا إسراف في الكهرباء، هذا أمرٌ طيب، هذا أمرٌ حث عليه الدين من قبل أن تذكرونا به، فلو كان في القلب ذرةٌ من الإيمان لسمعنا قول الله عز وجل، وهو يصف عباد الرحمن بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
إذاً: الاعتدال ركنٌ من أركان الإيمان، وركنٌ من أركان الدين، ولكن القضية ليست قضية عدم إسراف، الحل لا يكمن في عدم الإسراف وحده، الحل لهذه المشكلة والخروج من هذه الأزمة لا يكمن في عدم الإسراف وحده، لماذا؟ لأن النتيجة بعد عدم الإسراف، نفد الماء، ونقصت الكهرباء، وعدنا نضرب كفاً على كف ننتظر الفرج من الله.
إذاً: عدم الإفراط ليس هو الحل وحده، إن كان جزءاً من الحل فليس هو الحل كله.
إذاً: ما هي النتيجة؟ هل سمعنا مسئولاً واحداً يذكرنا بالصلح مع من بيده مفاتيح الماء؟! هل سمعنا مسئولاً واحداً يصرخ فينا بالرجوع إلى الله، حتى ممن ولاهم الله قيادة أمر الدين في هذا البلد؟ ما سمعنا مسئولاً يذكرنا بالصلح مع الله، ما سمعنا مسئولاً يذكرنا بالرجوع إلى الله، ما سمعنا مسئولاً يذكرنا بأن نرجع إلى من بيده مفاتيح الماء، إلى من بيده مفاتيح الدنيا والآخرة.(72/3)
الدعوة إلى تأمل كلام الله
استمعوا إلى الله أيها المسئولون، استمعوا إلى الله أيها المسلمون، ماذا يقول ربكم؟ ماذا يقول خالقكم؟ ماذا يقول رازقكم؟ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].
الذي أنزل الماء هو الله، وصاحب الماء هو الله، بالله عليكم لقد وصل الشرق والغرب إلى أعلى درجات الترقي والتطور والحضارة، فهل سمعنا أن هناك قوةٌ شرقية، أو قوةٌ غربية تجرؤ على أن تدعي أنها تستطيع أن تصنع ذرة واحدةً من الماء، هل تستطيع قوة على تصنيع ذرة من ذرات الماء؟! أبداً.
إذاً: المالك الحقيقي، والصانع الحقيقي لسبب الحياة الأول والأخير في هذه الحياة: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] سبب هذا المصدر، ومسبب هذا المصدر هو من بيده الأمر كله، هو الله جل جلاله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون:18] اسمعوا أيها المسئولون! اسمعوا أيها المسلمون: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] سبحانك يا رب.
يا من تقرءون القرآن ليل نهار، يا من تعقدون السرادقات، وتجلسون لسماع القرآن أين أنتم من كلام الله؟! {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [المؤمنون:18] بقدرٍ معلوم، بقدر حاجتهم للماء، وبقدر طاعتهم، وبقدر قربهم، وبقدر شكرهم، وبقدر حربهم على منهج ربهم.
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون:18] جعلناه في الأنهار، جعلناه في العيون، جعلناه في الينابيع، جعلناه في الأرض لتنتفعوا به، لتسقوا النبات، ولتسقوا الحيوانات، ولتشربوا عذباً فراتاً زلالاً.
{وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18] أي: على ذهاب بهذا الماء لقادرون: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
إذاً: الذي ينزل الماء هو الله، والذي يرفع الماء هو الله، والذي يحول بين الناس هو الله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18].
واستمعوا إلى الله جل وعلا وهو يقول في سورة الحجر: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22].
انتبهوا للقرآن، بلغوا هذا الكلام لكل مسئول، أسمعوا هذا الكلام لكل مسئولٍ عن هذا البلد: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] مهما بنيتم من سدٍ عالٍ، أو سدٍ منخفض، ابنوا ما شئتم من السدود، وابنوا ما شئتم من الحصون، ما أنتم له بخازنين إلا برحمتنا، ما أنتم له بخازنين إلا بأمرنا، ما أنتم له بخازنين إلا بقدرتنا، ما أنتم له بخازنين إلا بلطفنا: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] انتبهوا للقرآن، انتبهوا لكلام ربكم: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] إلا بأمر الله وإلا بإدارة الله وإلا بقدر الله جل وعلا.(72/4)
هلا شكرتم المنعم
واستمعوا إلى الله جل وعلا وهو يقول: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:68] انتبه يا موحد، انتبه يا مسلم {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69] من الذي أنزل الماء؟ الله {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:69 - 70].
فهلا تشكرون المنعم! فهلا تعترفون للمنعم بالفضل والنعم! فهلا تشكرونه!! فهلا تتقونه!! فهلا تعبدونه!! فهلا توحدونه!! لا إله إلا الله.
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69].
(من المزن): أي من السماء والسحاب.
(جعلناه أجاجاً): جعلناه ملحاً لا تستطيعون شرابه ولا تنتفعون به، جعلناه مراً علقماً: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:70].
واستمع إلى الله جل وعلا وهو يقول: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:25 - 27].(72/5)
(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:28 - 30] من؟ الله، الذي إن ذهب بالماء إلى أغوار الأرض وإلى قاع الأرض العميق لا تستطيعون أن تصلوا إليه، لا تستفيدون منه، ولا تنتفعون به.
(قل أرأيتم) أخبروني إن أذهب الله هذا الماء، أو إن منع الله الماء من السماء، أو إن منع الله هذا الماء أن تصلوا إليه في أعماق الأرض: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} [الملك:30] أي: غائراً في باطن الأرض لا تصلون إليه، ولا تستفيدون منه، ولا تنتفعون به: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] من غير الله يأتيكم بالماء؟ من غير الله يأتيكم بالرزق؟(72/6)
أتعجبون من هذا البلاء؟!
هذا هو كلام الله! هذا هو كلام ربكم أيها المسئولون! فهل تثقون في كلام الله؟! هل تثقون في أن الذي ينزل الماء من السماء هو الله؟! هل تثقون بأن الذي يستطيع أن يخرجنا من هذه الأزمة هو الله؟! إن كان الأمر كذلك فلم تخدعون الناس وتخدعون أنفسكم، إن كان الأمر كذلك فلم تحاربون الله ليل نهار؟! في بلادنا تصنع الخمور! في بلادنا تشرب الخمر! في بلادنا شبكاتٌ للدعارة والزنا! في بلادنا أبيح الربا! في بلادنا إعلامٌ عنيد يدمر الأخلاق والقيم! في بلادنا كل شيء، كل شيء يغضب الله، كل شيء أعلنا فيه الحرب على الله.
في بلادنا غناءٌ ماجن ورقصٌ فاحش، ولا يتورعون على أن نقرأ على صفحات الجرائد ليل نهار إعلانات في الصفحات الأولى، إعلانات عارية على الصفحات الأولى من الجرائد، إعلانات عن ماذا؟ عن الكباريهات، والكازنوهات، مع سلطانة الرقص الشرقي، مع ملكة الرقص الشرقي، بدون حياء وبدون خجل، تنتظرون ماذا؟! ماذا تريدون بعد ذلك؟! ماذا تريدون بعد هذه الحرب الشعواء التي شنها الناس على الله؟! ماذا تنتظرون؟! أتعجبون من هذا القحط الذي نعيش فيه؟! أتعجبون من هذا البلاء الذي نعيش فيه؟! أتعجبون من هذا الضيق الذي نعيش فيه؟! إن الله عنده أكثر من هذا البلاء، وأكثر من هذا الضيق، وأكثر من هذا القحط إن لم نرجع إلى الله، وإن لم نصطلح مع الله، وإن لم نعرف قدرتنا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ولن تستطيع قوةٌ على ظهر الأرض أن تتحمل حرب الله، وأن تتحمل حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسئولون! أيها المسلمون! إن أردتم أن نخرج من هذه الأزمة لا نقص في المياه، ولا نقص في الكهرباء، ولا نقص في الأموال، ولا نقص في الثمرات، فعودوا إلى رب الأرض والسماوات.
هذا هو الداء وذاك هو الدواء، إن أردتم أن نخرج من هذه الأزمة فأعلنوا في الناس أن الصلح مع الله قد آن، أما آن لنا بعد كل هذا أن نرجع، ماذا ننتظر؟! ماذا ننتظر بعد كل هذا الهم والغم؟! أما آن لنا أن نفيق، أما آن لنا أن نصطلح مع الله، إذا أردتم ذلك فامنعوا الخمور، إذا أردتم ذلك فأغلقوا الكباريهات، إذا أردتم ذلك فنظفوا الإعلام، إذا أردتم ذلك فعودوا إلى الله وامنعوا هذه الإباحية، وامنعوا هذا السفور، وهذه العربدة تحت ستار التطور والتحرر والمدنية، إن أردتم ذلك فحاربوا وأمسكوا على أيدي مافيا المخدرات الذين يريدون لعقول وشباب المسلمين التحطيم والتدمير، وأنتم تعلمون أنهم من علية القوم وسادة الناس، إذا أردتم ذلك فهيا أعلنوا الصلح كله مع الله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]؟! لابد أن ننظف أنفسنا، ولابد أن ننظف أحكامنا، ولابد أن نرجع إلى ربنا إذا أردنا أن نخرج من هذا البلاء، إذا أردنا أن نخرج من هذا الضيق، إذا أردنا أن نخرج من هذا الشقاء، أفلا تثقون بالله؟!(72/7)
الرجوع إلى الله وحده
مشكلتنا عدم الثقة في كلام الله، الله سبحانه وتعالى هو وحده القادر على العطاء، هو وحده القادر على المنع، هو الذي يعطي، وهو الذي يمنع، وهو الخافض، وهو الرافع، وهو القابض، وهو الباسط، وهو بيده رزق كل شيء: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] فلماذا لا نرجع إليه؟! ولماذا لم نصطلح مع الله تبارك وتعالى؟! أتذكر مشهداً في غاية الروعة والجمال، هذا هو سيدنا عمران بن حصين رضوان الله عليه، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً من قريش، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لعله يستطيع أن يقنع النبي أن يرجع عن دينه ويرجع إلى دين آبائه، فقال له عمران: [يا محمد! إنك فينا حيث قد علمت، صادقاً أميناً متزناً رزيناً، فهلا هادنت قومك وتركت سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم].
فماذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال له: (يا عمران! من تعبد؟ -ما هي آلهتك؟ - فقال عمران بن حصين: أعبد سبعةً من الآلهة، إلهٌ في السماء وستةٌ في الأرض، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأي إله تطلب لحاجتك يا عمران؟! -أي إن كنت في ضيق ٍوحاجة، تطلب من آلهة الأرض أم من إله السماء؟ - قال: بل من إله السماء، قال رسول الله: فإذا كنت في مرض فممن تطلب؟ قال: من إله السماء، قال: فإذا كنت في شدة فممن تطلب؟ قال: من إله السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما دام إله السماء يعطيك ويكفيك ويرضيك فلمَ لا تقل لا إله إلا الله؟!) فلمَ تشرك معه غيره؟ فما لبث عمران إلا أن يذعن لهذه الحجة القوية، ولهذا البرهان الواضح الساطع ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
أيها الأحباب! لو عدنا إلى الله فإن الله صاحب العطاء! لو عدنا إلى الله فإن الله صاحب الرزق، لو عدنا إلى الله فإن الله عنده الكثير، استمعوا إلى الله جل وعلا وهو يقول في الحديث القدسي الجليل: (يا ابن آدم! لا تخشى من ذي سلطانٍ ما دام سلطاني باقٍ، وسلطاني لا ينفذ أبداً، يا ابن آدم! لا تخشى من ضيق الرزق فخزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً، يا ابن آدم! لا تطلب غيري وأنا لك، فإن طلبتني وجدتني وإن فتني فتك، وإن فتك فقد فاتك الخير كله، يا ابن آدم! إن رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وصرت عندي محموداً، وإن لم ترض بما قسمته لك، فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يصيبك إلا ما قسمته لك، وصرت عندي مذموماً، يا ابن آدم! أنا لا أنسى من عصاني فكيف أنسى من أتى إلي تائباً؟ فوعزتي وجلالي لو أتيتني نهاراً قبلتك، ولو أتيتني ليلاً قبلتك، ولو تقربتَ مني شبراً تقربتُ منك ذراعاً، ولو تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، ولو أتيتني تمشي أتيتك مهرولاً، فمن أعظم مني جوداً وأنا الجواد الكريم).
أيها الأحباب! لا مفر ولا مناط: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم:57 - 58] أقسم بالله العظيم، أنه لن تكشف هذه الغموم، ولن تحل هذه المشاكل، ولن ترفع هذه الأزمات، إلا إذا اصطلحنا مع الله، وإلا إذا عدنا إلى الله، وإلا إذا رفعنا هذه الحرب عن منهج الله وعن شرع الله جل وعلا، وهأنتم مخيرون إن أردتم أن تخرجوا فاخرجوا، وإن أردتم أن تظلوا فيه هذا الهم والغم والضيق، وإن أردتم الكثير والكثير من الله، فالله عنده الكثير: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
عيشةٌ كلها خراب، وعيشةٌ كلها قحط، وعيشةٌ كلها ضيق لمن أعرض عن منهج الله، ولمن أعرض عن ذكر الله، ولمن أعرض عن شرع الله، ولمن أعلن الحرب على الله جل وعلا.
نعم.
يقول ربنا في الحديث القدسي الصحيح (يا عباد! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحد، وسألوني لأعطيتُ كل واحدٍ مسألته من غير أن ينقص من ملكي شيئاً، إلا كما ينقص المخيط إذا دخل في البحر ثم خرج) الإبرة!! إبرة المخيط، لو أنزلتها البحر وأخرجتها أي مقدار نقص من البحر؟ لا شيء، فلو أن الخلق الإنس والجن جميع العباد وقفوا في وقتٍ واحد وسألوا الله لأعطاهم مسائلهم من غير أن ينقص ذلك من ملك الله شيئاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يملك خزائن السماوات والأرض أسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، افعل ما شئت كما تدين تدان) وهو القائل أيضاً: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(72/8)
دعوة إلى التوبة إلى الله والصلح معه
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فصلى اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما يجزي الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه.
أيها الأحباب! هيا بنا لنثق في كلام الله، ونثق في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغ عن ربه، فإن مشكلتنا عدم الثقة بالله جل جلاله، يقول الله سبحانه، وأنا أُذكر المسئولين وأُذكر المسلمين في هذا البلد، ما هي نتيجة الصلح مع الله؟ وما هي نتيجة الرجوع إلى الله جل وعلا؟ يقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10].
ما هي النتيجة إذاً؟ ما هي النتيجة لو عدنا إلى الله من معاصينا؟ ما هي النتيجة لو تبنا إلى الله من ذنوبنا وتقصيرنا؟ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11].
يا من تريدون الماء! ويا من تريدون المطر! هاهو العلاج، هاهو الدواء {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:11 - 13].
هذا هو كلام ربنا، فالقضية قضية عدم الثقة بكلام الله.
لقد جربنا الشرق مرة، وجربنا الغرب مرة، واتخذنا جميع الخطط؛ خطةٌ خمسية، وخطةٌ سنوية، وخطةٌ شهرية، ولكن لا مفر من الصلح مع صاحب الأمر كله، لا مفر من الرجوع إلى الله، لابد أن نرجع: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:1] ما هي النتيجة؟ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:11] لأنه هو وحده بيده مفاتيح الماء، بيده مفاتيح الأرض والسماء: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:11 - 12] ولكنكم لا ترجون توقير الله، ولا ترجون أن تثقوا في الله، ولا تصدقون كلام الله، فأنتم ومصيركم.
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:11] يا من تريدون المطر، ويامن تريدون الماء، ويا من تخافون من نقص المياه، ونقص الكهرباء، هاهنا في استغفار الله، هاهنا في الرجوع إلى الله، هاهنا في العودة إلى الله جل وعلا.
ورُوي أن الحسن عليه رضوان الله جاءه رجلٌ يسأله ويشتكي له الفقر، فقال له الحسن: استغفر الله.
وجاء رجلٌ ثانٍ إلى الحسن يشكو الجدب -أي: عدم نزول المطر- فقال له الحسن: استغفر الله.
وجاء رجلٌ ثالث يقول للحسن: أنا رجلٌ صاحب أموال إلا أنني أريد البنين والأولاد، فقال له الحسن: استغفر الله.
وجاء رجلٌ رابع يشكو للحسن قلة ريع الأرض وإنتاج الأرض، فقال له الحسن: استغفر الله.
فتعجب الجميع من حوله، وقالوا له: ما هذا يا تقي الدين؟ إن رجلاً جاء وسألك واشتكى إليك الفقر، فقلت: استغفر الله، وجاء آخر يشكو إليك قلة ريع الأرض فقلت: استغفر الله، وجاء آخر يشكو إليك عدم نزول المطر فقلت: استغفر الله، وجاء رابع يشكو إليك عدم وجود البنين فقلتَ له: استغفر الله!! فقال لهم: هذا من كتاب الله جل وعلا ثم تلى عليهم قوله سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:10 - 13].
يقول الله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] يقول سبحانه: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] هذا كلام ربنا، فأين الثقة في كلام الله؟ إنها الثقة.
إذاً: مشكلتنا عدم الثقة في الله، وعدم اليقين في كلام الله تبارك وتعالى.(72/9)
ابن مسعود على فراش الموت
أتذكر هذا المشهد لأختم به خطبة اليوم حينما دخل عثمان بن عفان على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو نائمٌ على فراش الموت، فقال له عثمان بن عفان: [يا ابن مسعود! من أي شيء تشكو؟ قال له: أشكو ذنوبي، قال أي شيءٍ تخاف؟ قال: أخاف عذاب الله، قال: أي شيءٍ ترجو؟ قال: أرجو رحمة ربي، قال له عثمان: هل أستدعي لك الطبيب، فقال عبد الله: الطبيب لقيني، فقال عثمان: وماذا قال لك؟ فقال ابن مسعود: قال لي الطبيب: إني فعالٌ لما أريد، فقال عثمان: يا ابن مسعود! هل أكتب لبناتك شيئاً من المال بعد موتك؟ قال: كلا يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال له: لأنني علمتُ بناتي سورة الواقعة، سمعتُ حبيبي رسول الله يقول: (من قرأ سورة الواقعة في يومه وقاه الله شر الفقر طول يومه] يقين في الله، وثقة في الله.
إذاً مشكلتنا هي عدم الثقة في كلام الله؛ لأن الله يقول: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] إلا أننا نقول لربنا: لا يا رب الطريقة هاهنا، مرةً في الشرق ومرةً في الغرب، ومرةً مع العملات الصعبة، ولكن أقسم بالله العظيم ليس هذا هو الحل، أقسم بالله ليس هذا هو الحل.
اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد، الحل هاهنا الحل هاهنا الحل هاهنا الفرج هاهنا الفرج هاهنا أن نرجع إلى الله وأن نعود إلى الله، وأن نصطلح مع الله، وأن نجدد البيعة مع الله، وأن ننفذ شرع الله {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذريات:22 - 23] فما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها.
فهيا ثقوا في الله، ثقوا في كلام الله، ثقوا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجربوا الله مرة، وجربوا شرع الله مرة، لقد جربتم كل شيء، فلم تعرضون عن منهج الله، ولم تعرضون عن تجربة شرع الله؟ ففي منهج الله العز كله، لماذا؟ لأن الله هو الذي خلق، ولأن الله هو الذي قنن، ولأن الله هو الذي شرع، وصدق الله إذ يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
أسأل الله سبحانه أن يشرح صدورنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم ارفع عنا هذا البلاء، اللهم ارفع عنا هذا البلاء، اللهم ارفع عنا هذا البلاء، اللهم ارفع عنا هذا الغم والهم، اللهم ارفع عنا هذا الضيق، اللهم ارفع عنا هذا الضيق، اللهم إن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر، لا تعذبنا فأنت علينا قادر، لا تعذبنا فأنت علينا قادر، اللهم الطف بنا يا لطيف، اللهم ارحمنا يا رحيم، اللهم تب علينا يا تواب، اللهم نج مصرنا من هذه الفتن، اللهم ارفع عن مصرنا هذه الابتلاءات، اللهم ارفع عن مصرنا هذه المحن، اللهم إن بـ مصر عباداً ركعاً سجداً يبتغون فضلك ورضوانك، اللهم إن بـ مصر شيوخاً ركعاً، وأطفالاً رضعاً، وبهائم ركعاً فارحمهم يا رب العالمين، اللهم ارفع عنا البلاء وارفع عنا الضيق، اللهم اجعل مصرنا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل مصرنا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء، اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء، اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء، اللهم لا تحرمنا من نعمة الماء واجعلنا أهلاً لشكر نعمك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لنا عيوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجةً هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واستغفروه يغفر لكم، واشكروه على نعمه يزدكم.
وقبل أن أغادر هذا المنبر أذكركم بالتبرع لمسجد الإمام، عسى الله تبارك وتعالى أن يوفقنا للانتهاء من بنائه إن شاء الله جل وعلا، وأنفقوا ولا تخشوا من ذي العرش إقلالاً، وأعتذر لكم عن الدرس فإني على سفر، وأقم الصلاة.(72/10)
الحمل بالمسيح
ضمن فوائد سورة مريم يقف الشيخ منبهاً على عقيدة التوحيد، وذلك من خلال سياق قصة مريم عليها السلام حين جاءها الملك، وقصة حملها وولادتها بعيسى عليه السلام، وقد بيَّن -حفظه الله- قدرة الله وعنايته ورعايته ورزقه لمريم، ودعا أخيراً إلى الأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله.(73/1)
موقف أهل الإسلام من عيسى عليه السلام
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
أحمدك يا ربِ وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، أحمدك حمداً كثيراً طاهراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيءٍ بعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، والقوي الذي لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، هو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، إنما قوله لشيءٍ إذا أراده أن يقول له كن فيكون.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وأستاذنا محمد رسول الله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسا، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه.
أما بعد:(73/2)
عقيدة أهل السنة في عيسى عليه السلام
فيا أيها الأحباب! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، ومع اللقاء الرابع عشر على التوالي مازلنا نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم.
نكرر القول بين يدي كل لقاء من لقاءات تفسيرنا لسورة مريم ونقول أولاً: بأن عقيدتنا نحن الموحدون هي لا إله إلا الله، نقولها في كل زمان ومكان، نبتغي بها وجه ربنا ذي الجلال والإكرام ونقول: لا إله إلا الله، لا شريك له، ولا ند، ولا كفء، ولا شبيه، ولا ضد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
هذه هي عقيدتنا، وهذا هو توحيدنا، قالها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) هكذا قال ابن عبد الله، فقلناها والحمد لله، ونسأل الله أن يتوفانا على لا إله إلا الله.
ثانياً: نبرئ عيسى عليه السلام مما نسبه إليه النصارى، ونقول: بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم عليها السلام، ليس إلهاً، ولا ابناً للإله جل وعلا، وإنما هو عبد الله ورسوله، ونقول ما قاله الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [البقرة:116] هكذا قال النصارى {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:116 - 117].
لا زوجة له، ولا نِد له، ولا ولد له، ولا كفء له، ولا شبيه له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
ثالثاً: نهتف في كل لقاءٍ مع أستاذنا ومعلمنا الإمام ابن القيم ونقول لهؤلاء النصارى:
أعباد المسيح لنا سؤالٌ نريد جوابه ممن وعاهُ
إذا مات الإله بصنع قومٍ أماتوه فهل هذا إلهٌ
ويا عجباً لقبرٍ ضم رباً وأعجب منه بطنٌ قد حواهُ
أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيضٍ غذاه
وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه
ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله
تعالى الله عن إفك النصارى سيسأل كلهم عما افتراه(73/3)
حوار مريم والمَلَك
أما بالنسبة لتفسير الآيات، فلقد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:16 - 21].
لقد توقفنا في اللقاء الماضي عند قول الحق جل وعلا {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] هذه العذراء التي تربت على الطهر والعبادة والعفاف احتجبت يوماً من أيام حياتها عن قومها لقضاء حاجةً من حوائجها الخاصة جداً، وفجأة في هذه الخلوة، ووراء هذا الحجاب، وجدت أمام عينيها وبين يديها بشراً سوياً كاملاً مكتملاً، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] أي: إن كنت تتقي الله جل وعلا، وإن كنت ممن يخافون الله جل وعلا، فطمأنها هذا البشر السوي قائلاً: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [مريم:19] فسألت العذراء في تعجبٍ ودهشةً واستغراب.
قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] ليس لي زوج، ولم أكون زانية في يومٍ ما {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] فطمأنها الملك ثانيةً وهو جبريل عليه السلام قائلاً: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].
وهنا اطمأنت مريم لهذا الكلام، واطمأنت واستسلمت لقضاء الله وقدره {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] قدرة الله لا تحدها حدود {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [مريم:21] ولنجعل هذا المولود آية، أي: علامة؛ علامة على ماذا؟ علامة على قدرتنا وعلى كمال جلالنا وعظمتنا {وَرَحْمَةً مِنَّا} [مريم:21] رحمةً منا لمن شهد لي بالوحدانية وله بالرسالة والنبوة {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21] إذا قدر الله وإذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].(73/4)
حمل مريم بين عقيدة النصارى والمسلمين
نحن اليوم على موعدٍ مع المشهد الثاني؛ لأني قسمت قصة مريم إلى ثلاثة مشاهد، المشهد الأول -تكلمنا عنه في اللقاء الماضي- إلى قول الله جل وعلا: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].
المشهد الثاني: هو قول الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:22 - 26] هذا هو المشهد الثاني.
فحملت! كنت أود أن يكون موضوعنا اليوم عن معنى كلمة فحملت فقط؛ لأن هذه اللفظة تحمل معانٍ عظيمة وكثيرة.(73/5)
معنى قوله تعالى: (فحملته) عند النصارى
ماذا قال النصارى في حمل مريم؟ وماذا قال الموحدون في حمل مريم؟! قال النصارى عن معنى كلمة: (فحملت) واستمعوا إلى هذا الهراء، والافتراء، والكذب، ماذا قال النصارى عن معنى: (فحملت)؟! ماذا قالت أناجيل النصارى: برنابا، ومتى، مرقص، قالت أناجيل النصارى في حمل مريم بالإجماع: أي حملت بالإله؛ لأن اليعقوبية والنسطورية تقولان -وهاتان طائفتان من طوائف النصارى، كطوائف البروتستانت والأرثوذكس اليوم- بأن أم مريم هي زوجة الرب الإله، ولما أراد الإله أن يتجسد في الناسوت - لأنني قلتُ لكم بأنهم يقولون بأن الإله لاهوتاً وناسوتاً في آنٍ واحد- نزل إلى مريم، -استمع إلى هذه الألفاظ- نزل رب السماوات والأرض من على كرسيه وعرشه -هكذا قالوا- ودخل في فرج مريم، والتحم الإله ببطن مريم، وأقام هناك تسعة أشهر كاملة يتخبط بين اللحم والدم والحيض ثم خرج بعد ذلك لاهوتاً من جنس أبيه، وناسوتاً من جنس أمه، ثم بعد ذلك عاش ما قدر لنفسه أن يعيش، ثم صلبه اليهود وقتلوه، ودفن في قبره ثلاثة أيام ثم ترك الإله القبر، وصعد ليجلس عن يمين أبيه، وتجلس أمه عن يسار الرب ليحكم بين الناس يوم القيامة! هذا ما قاله النصارى، وهذا هو افتراء النصارى!!(73/6)
معنى قوله تعالى: (فحملته) عند المسلمين
ولكن تعالوا بنا لنفخر ولنعلي هذا الإسلام على رءوس الأزمان والأشهاد، فحقٌ لنا أن نفخر بأننا موحدون ننتسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ماذا قال الموحدون في حمل مريم؟ ماذا قال قرآننا عن معنى كلمة: (فحملته)؟ ماذا قال نبينا عن معنى كلمة: (فحملته)؟ ما هو كلام المسلمين المؤمنين، وما هو كلام علمائهم؟ يقول علماؤنا: لا ينبغي لنا أن نلهث وراء كيفية الحمل؛ لأنه لا يعلم كيفيته إلا من أمر به.
انظر إلى الأدب، انظر إلى الكمال والجلال، لا ينبغي لنا أن نلهث، أو أن نبحث، أو أن ندقق في كيفية الحمل، كيف حملت مريم؟! وكيف نفخ جبريل؟! وفي أي مكان نفخ؟! هل نفخ جبريل في فرجها أو جيبها أو كمها أو درعها؟! لا يجب أن نسأل على الإطلاق، لأننا نقر ونعترف أن الذي أراد ذلك هو الله وكل شيءٍ هينٌ أمام قدرته وعظمته وإرادته، قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].
انتبهوا معي لهذا الملحظ الجميل في قوله سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] إذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له:، وانتبهوا معي إلى هذه اللفظة، هذه الكلمة التي تتكون من حرفين: لام وهاء، أن يقول له: كن فيكون، نحن نفهم هذه العبارة وهذه الكلمة، إذا قال له: كن فيكون، كلمة له، تحمل معنى شيء، يعني: قال الله للجدار كن فكان، قال له كن أيها الجدار فكان، قال لهذه السماء كوني فكانت.
قال له: معنى كلمة (له) أنها تحمل معنى شيء وجد، وهذا يلفت أنظارنا إلى أن الله عز وجل يقول: إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن، أي أن هذا الشيء وجد قبل أن يقول الله كن، كلمة له موجود، وبعد ذلك يقول كن، إذاً: هو كان ويكون، دليلٌ على القدرة، والعظمة، والإرادة، قبل أن يقول الله كن إذا أراد الشيء كان، وإن كان هذا الأمر يحدث معي أنا إن كنت من المؤمنين الموحدين ودخلت الجنة، فإن هذا الأمر يحدث معك، فإذا كنت من أهل الجنة واشتهيت فاكهةً معينة، أو طعاماً معيناً قبل أن يتحرك لسانك بطلب هذه الفاكهة، وبطلب هذا الشيء ما عليك إلا أن تقول: سبحانك اللهم، وقبل أن تطلب تجد ما اشتهيته أمام عينيك وبين يديك.
إذا كان هذا أمرٌ لي أنا الإنسان، فكيف سيكون الحال مع خالق الإنسان والأكوان، إذا قال الله: كن لابد أن يكون.
فالله سبحانه وتعالى يقول: فحملته، ما ينبغي لنا أن نسأل، وما ينبغي لنا أن نبحث كيف كان الحمل، وكيف نفخ جبريل، هذا أمرٌ لا يعلمه إلا الله، المهم أننا نعلم أن قدرة الله لا تحدها حدود، فحملته انتهى الأمر {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} [مريم:21].(73/7)
عجز الإنسان عن إدراك حقيقة الروح
نحن في هذه الأيام في القرن العشرين، الذي صعد الإنسان فيه إلى سطح القمر، وصنع فيه الإنسان السيارة والطيارة والصاروخ والقنبلة النووية، وبالرغم من ذلك ما من قوة على ظهر هذه الأرض في عصرنا هذا اخترقت أو تجرأت على أن تقول: إننا قد أدركنا ما هي الروح، الإنسان عاجز إلى الآن عن إدراك ما هي الروح التي قال الله عنها: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85].
أي: أنكم مهما وصلتم وتوصلتم إلى أعلى مراتب درجات العلم، فإنكم لم ولن تستطيعوا أن تصلوا إلى كنه الروح أو ما هي الروح؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد اختص وحده بعلمها.(73/8)
خلاف أهل الإسلام في مدة الحمل
كيفية الحمل؛ الله أعلم به، قال بعض العلماء بأن معنى كلمة فحملته: أي: حملت مريم بعيسى وولدته في ساعة واحدة، وهم يستدلون بقول الله جل وعلا: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:22 - 23] فهم يستدلون بوجود الفاء هنا على أنها في اللغة تحمل معنى الترتيب والتعقيب، وهذا يحمل معنى سرعة الحمل والولادة.
ولكننا نقول لهم: لا.
وإنما حملت مريم بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، وهذا هو رأي جمهور العلماء، ورأي جمهور المفسرين، أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر.
الدليل: إذا كنتم تستدلون بفاء الترتيب والتعقيب، فإننا نقول: فاء الترتيب والتعقيب تأتي في اللغة العربية بحسب الشيء الذي يليه.
بمعنى: أن الله لما تكلم عن مراحل خلق الإنسان قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:12 - 14] جاءت هنا فاء الترتيب والتعقيب والحديث في صحيح البخاري ومسلم أن بين كل مرحلةٍ ومرحلة أربعين يوماً.
إذاً: فالتعقيب يأتي بحسبه، أنزل الله الماء من السماء فتصبح الأرض مخضرة، كلمة: فتصبح، فاء الترتيب والتعقيب هنا لا تفيد أنه بمجرد نزول المطر اخضرت الأرض، لا.
بل أخذت وقتاً وهذا الوقت بحسب الشيء الذي يليه.
فمريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، والدليل على ذلك أيضاً: أنها لما ظهرت عليها بوادر الحمل، وكبرت بطنها وثقلت كان يخدم معها في البيت رجلٌ صالحٌ يسمى: يوسف النجار، هذا الرجل الذي اتهم اليهود مريمَ به، قالوا: إن الذي فعل بها هذه الفعلة هو يوسف؛ لأنه هو الذي يوجد معها في بيت المقدس هذا لما نظر إلى بطن مريم، وإلى ثقل بطن مريم، تعجب! وأخذ يفكر في حقيقة الأمر، وكلما سيطر عليه هذا الهاجس وهذا التفكير دفعه بعنفٍ وقوةٍ وشدة لما يعلم من براءتها وطهرها وعفتها وعبادتها ودينها، ولكن سرعان ما يعود هذا الخاطر مرةً ثانية فيقول لنفسه: إذا كانت هي تقيةً ورعة، وأنا أقر بذلك فكيف هذا الحمل؟! كيف كبر بطنها وثقل ويظل يعيش مع هذا الخاطر يدفعه مرة ويسيطر عليه مرات، وفي النهاية ذهب إليها وقال: يا مريم! إني سائلك عن أمرٍ فلا تعجلي عليَّ فيه، فقالت مريم: وكأنها فهمت ماذا سيقول يوسف، قالت: يا يوسف سلني عما شئت ولكن قل قولاً جميلاً؟ فقال لها يوسف مُعرّضاً في الكلام، قال لها يا مريم هل ينبت زرعً بغير بذر؟ وهل ينبت شجر بغير غيث؟ وهل يكون ولدٌ بغير أب؟! فقالت مريم: نعم.
قال لها: كيف؟! فقالت له: يا يوسف! ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر؟! ألم تعلم يا يوسف أن الله أنبت الشجر يوم خلقه من غير غيثٍ ولا مطر؟! ألم تعلم يا يوسف أن الله يوم خلق آدم خلقه من غير أبٍ وأم؟! فنظر إليها قائلاً: أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير!! ولم يستطع بعد ذلك أن يناقشها، أو يجادلها، وتركها إلى حالها.
وانتصرت مريم، ولذا فإن الله جل وعلا يقول: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:57 - 59] من الخالق؟ الله {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:58 - 74] سبحان ربي العظيم.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:58] أفرأيتم هذه النطفة وهذا المني الذي يقذفه أحدكم بشهوة، ويجعل الله منه الولد بقدرته؟ من هذه النطفة ومن هذا الماء تكون أنت أيها الإنسان الكامل المغرور {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5 - 8].
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63 - 64] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69].
من الذي خلق؟ الله.
ومن الذي أنزل؟ الله.
ومن الذي ينبت؟ الله.
ألم تعلم يا يوسف أن الله خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر؟! وخلق الشجر يوم خلقها من غير غيث؟! وخلق آدم يوم خلقه من غير أبٍ وأم.
يقول سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ} [البقرة:259] رجل مرّ على قرية مهجمة لا أثر فيها لأي حياة، فنظر إلى هذا البناء متعجباً وقال: كيف يحي الله هذا الموات؟! {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:259 - 260].
أعلم أن الله على كل شيءٍ قدير، وأعلم أن الله عزيزٌ حكيم، قدرة الله لا تحدها حدود {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].(73/9)
ولادة عيسى عليه السلام
حملته حملاً عادياً بقدرة الله وبأمره، وطال وقت الحمل، وظهرت بوادره، وهنا ضاق قلبها، وضاقت نفسها، وضاقت ذرعاً بهذه الفضيحة المنتظرة، {فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] لما اقترب الوقت وحان الأجل، وعلمت أن أ/رها سيفضح بين قومها، خرجت بهذا الحمل الذي كاد أن ينزل صاحبه {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] خرجت إلى مكانٍ بعيد، إلى ما وراء الجبال حتى لا يراها أحد من الناس.(73/10)
إلجاء المخاض لمريم وشدته عليها
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:22] وهنا في هذا المكان البعيد عن أعين الناس، ولكنه قريبٌ من عين الذي لا يغفل ولا ينام، لا يتركها ربها أبداً، هنا يقول الله سبحانه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] انظر إلى دقة اللفظ: فأجاءها، بمعنى: فألجأها المخاض إلجاءً فاضطرها اضطراراً، وكلكم يعلم لا أقول النساء وإنما أقول أنتم أيضاً، فما من امرأة أو رجل إلا ويعلم شدة الوضع عند المرأة، فلقد رأيت زوجتك، وأمك، وأختك، وابنتك تتألم وتصرخ وأنت إلى جوارها في مكانٍ آخر، لأن آلام الوضع لا يعلمها إلا من جربت هذا الألم، ربما تألمت أنت لألمها إلا أن الألم الحقيقي لا تعرف قدره أنت مهما كان ألمك.
فهنا جاءها المخاض: أي الطلق، وآلام الولادة والوضع: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:23] أي: ففاجأها المخاض، واضطرها الطلق اضطراراً إلى جذع نخلة قريب من هذا المكان الذي ذهبت إليه وجلست فيه: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] استندت على هذا الجذع وهي تتألم.
ولكم أن تتخيلوا معي عذراء لأول مرة تلد، ليس معها أم، ولا أخت، ولا زوج، ولا ابن، ولا أي مخلوق، لكن معها الله، ومن كان الله معه فلا يحزن، عذراء تلد لأول مرة، وأعتقد أن النساء يعلمن ويعرفن هذا الأمر جيداً، فتاة تلد لأول مرة دون أن يكون معها إنسان.
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] وفجأة نزل الوليد، وليس الإله! هل هناك إلهٌ يولد؟! هل هناك إلهٌ ينزل من فرج؟! هل يليق بالإله أن يتلبط بين الدماء والحيض؟!! هل يليق بالإله أن يلتقم الثدي ليشرب من جوع؟! هل يليق بالإله أن يأكل الطعام ليسد جوعه؟! هل يليق بالإله أن يلف في لفائف، وأن يتبول وأن يتغوط؟! تعالى الله عما يقول النصارى علواً كبيراً! ونزل الوليد، وهنا رأت مريم نفسها أمام الفضيحة بجميع أركانها، لا مفر منها، ولدها أمام عينيها وبين يديها، وهنا قالت بلسان المرأة الضعيفة التي تعلم علم اليقين أنها في مواجهة قومها، قالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] ليتني متُ قبل هذا اليوم، ليتني ما رأيته، ليتني ما عشتُ إلى هذا اليوم، ماذا سأقول لقومي؟ وماذا سأقول لأهلي؟ وقد انتشر الخبر وشاع في بيت زكريا، وبيت عمران، وبني اسرائيل، بل واتهموها بـ يوسف النجار، وأن الفضيحة إذا خرجت من بيت الورع فإن الألسنة ترددها أيما ترديد، ولكن الفضيحة إن خرجت من بيت الفضيحة والرذيلة لا يأبه لها، ولا يهتم بها أحد، أما أن تخرج الفضيحة من بيت التقى والورع فإنها الفضيحة!! شاع الخبر في بني إسرائيل ومريم في هذه اللحظات أخذت تفكر وتتجاذب مع نفسها أطراف الحديث والحوار، ماذا سأقول لقومي؟! وماذا سيكون جوابي؟! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23].
وهنا ملحظٌ فقهيٌ عظيم، وهو: يجوز للمسلم أن يتمنى الموت إن كان تمنيه للموت من فتنةٍ ستدمر عليه دينه، ولكن لا ينبغي للمسلم أن يتمنى الموت لفقره، أو لمرضه، أو لرسوب ابنه، أو لمعاكسة زوجته إياه، لا ينبغي له أن يتمنى الموت لما ورد في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ وقع به، وإن كان ولابد فاعلاً أو متمنياً فليقل: اللهم توفني ما كانت الوفاة خيراً لي، وأحييني ما كانت الحياة خيراً لي) هذا ملحظ سريع في الآية.(73/11)
تفريج الله لكربة مريم
وفي وسط هذا الذهول، والفزع، والرعب، والألم، ألمٌ نفسي وبدني، ألمٌ نفسي لما ستلاقيه من قومها، وألمٌ بدني لآلامٌ الطلق والوضع ولا سنيد لها ولا معين يساندها أو يعاونها، هذه الآلام المتلاحقة في وسطها يشق هذه الآلام ويشق هذا السكون، وهذا الجو صوتٌ جميلٌ ندي، إنه صوت الوليد الرضيع، إنه الطفل الذي ولد منذُ لحظات، لا أقول منذُ ساعات، وإنما أقول منذُ لحظات، وهنا مريم تتألم وتنظر بعينيها إلى السماء لتفكر في حقيقة أمرها، ومواجهة قومها، وحقيقة هذا الأمر، وفجأة تسمع صوتاً ندياً جميلاً: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24].
لِمَ كل هذا الحزن؟! ولِمَ كل هذا الألم؟! ولِمَ كل هذا البكاء؟! {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم:24] قيل بأن المنادي هو جبريل وقيل هو عيسى، ولكن الأرجح أن النداء كان من عيسى؛ لأن عيسى تكلم وهو صبيٌ طفلٌ صغيرٌ رضيع: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] لا تحزني والله معك!! لا تحزني والله راعيك!! لا تحزني والله حافظك!! لا تحزني فإن الذي قدر لك هذا هو الله!! لا تحزني، لا تخافي؛ لأن من كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فلا ينبغي له أن يحزن، ولا ينبغي له أن يخاف أو يضطرب أو يفكر لا تحزني، لا تخافي: {قَد جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فجر الله لها عيناً من الماء العذب الفرات في هذه الصحراء، نظرت ووجدت عين ماء تحت هذا الطفل الصغير، جدولاً كما ورد فيما رواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين البخاري ومسلم: (فجر الله لها جدولاً صغيراً من الماء).
{َلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] سرياً: أي جدولاً أو نهراً صغيراً من الماء: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] فكلي من هذا الرطب، واشربي من هذا الماء وقري عيناً، لا تحزني، هذا هو وعد الله للمتقين، هذا هو عهد الله على ذاته للمؤمنين، حقٌ على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته، حقٌ على الله لمن اتقاه أن يستره الله فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض.
{َلَّا تَحْزَنِي} [مريم:24] وهنا أتذكر هذا المشهد المماثل تماماً بتمام، يوم أن ذهب إبراهيم الخليل مع ولده إسماعيل وأمه هاجر عليهم السلام وذهب بهما إلى مكانٍ لا زرع فيه ولا نبات، ولا إنس فيه ولا حياة، وترك الولد والأم وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] وتركهما الخليل وأراد أن ينصرف، فنظرت إليه هاجر وقالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟! إلى من تكلنا في هذا المكان الذي لا أنس فيه ولا زرع فيه ولا سبب من أسباب الحياة؟! وإبراهيم لا ينطق ولا يتكلم كلما كلمته هاجر، وأخيراً نظر إبراهيم إلى السماء، مشيراً أن الذي أمره بذلك هو الله، فقالت هاجر: آلله أمرك بهذا، فأشار برأسه أن نعم، أي أن الذي أمرني بذلك هو الله، فنظرت إليه هاجر قائلةً: إذا فاذهب، فإنه لن يضيعنا أبداً.
طالما أن الله هو الذي أمرك فلن يضيعنا الله أبداً.
يقول عيسى لمريم: {َلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] ثم قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.(73/12)
رزق الله لمريم حال نفاسها
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] فجر الله لك عيناً من الماء، فاشربي وكلي من الرطب، {رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25] أي: رطباً طيباً طرياً، وهنا قال العلماء فضلاً عن علماء قرننا العشرين: بأنه لا يوجد للنفساء طعامٌ أطيب من طعامٍ أنزله الله لمريم في فترة نفاسها وهو التمر، أطيب طعام للمرأة النفساء هو التمر أو الرطب؛ لأنه طعامٌ قدره الله لمريم فيه فاكهة.
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:25 - 26] اطمأني، فليطمئن قلبك، {وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:26] ليطمأن قلبك أن الله الذي قدر لك الماء، وأن الله الذي أنزل إليك التمر من الشجرة العجفاء، قادرٌ على أن يبرئ ساحتك أمام قومك بأمره وقدرته، {وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:26] لا تحزني، كلي واشربي وقري عيناً.
وهنا أراد هذا الطفل الصغير أن يلقن أمه حجتها، وقال لها: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] هذه هي نهاية المشهد الثاني، لو رأيتِ أحداً من الناس من قومك يكلمك ويجادلك فلا تردي، وإنما عليك أن تشيري أنك صائمة، نذرت الصوم لله جل وعلا، وكان الصيام عن الكلام مشروعاً في دينهم، وهو محرمٌ في ديننا، هكذا قال ابن حجر في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهكذا قال الإمام ابن قدامة، وهكذا قال أئمة المسلمين بأن الصوم عن الكلام في ديننا محرم، ولكنه جائز في دينهم.
قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] كما قال الله لزكريا: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:10] حتى إن زكريا إذا ما جاء ليذكر الله، نطق لسانه بذكر الله، وإذا ما جاء ليتكلم مع الناس لم يستطع لسانه النطق ولا الكلام كما شرحنا ذلك بالتفصيل {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26].
وننتهي هنا ونكمل إن شاء الله جل وعلا في الأسبوع المقبل المشهد الثالث، وهو مشهد لقاء مريم مع قومها، وما الذي دار؟ وما هو الحوار؟ وماذا قالت مريم؟ وماذا قال أهلها؟ وماذا قال الصبي الصغير؟ والطفل الرضيع؟ لنخرج بعد ذلك ببيان عقيدة النصارى الباطلة التي يعتقدونها في هذه الأيام، ولنفخر نحن الموحدون بعقيدة لا إله إلا الله.(73/13)
دعوة للأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله
هنا ملحظ أخير في الآية، وسوف أعلق عليه في الدرس إن شاء الله جل وعلا حينما قال الله لمريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] تخيل معي امرأة ضعيفة أنهكها الوضع، وقضى على كل قوةٍ فيها، وفي ساعة ولادتها لا سبب إطلاقاً من أسباب الطعام إلا أن تخدم نفسها، لكنه كما هو معهود أن المرأة التي وضعت لا تصنع شيئاً، وإنما تنام لترى من يغسل لها الثياب، ويقدم الطعام، والشراب وهكذا؛ ولكن هذه المرأة في هذا الوضع لا يمكن لمخلوقٍ أن يأتيها بطعامٍ أو شرابٍ وهي التي ستخدم نفسها بنفسها! والله سبحانه وتعالى يقول لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] أمر عجيب!! يا مريم اعملي! في هذا الضعف يا رب؟! في هذا المرض؟! وهذه الحالة؟! وأي جذع؟! هل ستهز جذع وردة ريحان، أو فل، أمر يسير ومذلل وسهل؟! ولكن الهز هنا لأي شيء؟ لجذع نخلة! والنخلة: نخلة البلح، وأنتم تعلمون أن أعظم جذع هو جذع النخلة، لا يقوى عنترة بن شداد على هزه، فكيف لامرأة ضعيفة في نفاسها أن تهز الجذع، والمقصود بالهز أن تهزه لينزل الرطب، يعني: لابد وأن يكون الهز قوياً شديداً؛ لأن شدة الهز ستتناسب مع كمية الرطب النازلة {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:25].
هنا ملحظ جميل، لا يظن أحد أن هز مريم الجذع يميناً أو يساراً سينزل الرطب، وإنما هي دعوةٌ من الله للأخذ بالأسباب ثم بعد ذلك التوكل على مسبب الأسباب.
يا مريم! حتى وأنتِ في هذه الحالة خذي بأسباب الرزق، لابد أن تسعى لرزق الله، وتأخذ بالأسباب، أما أن تجلس لتنتظر الزرق من السماء دون عمل، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، إلا إذا وصل الإنسان إلى درجة اليقين التي وصلت إليها مريم حينما دخل عليها زكريا المحراب في الشتاء فوجد عندها فاكهة الصيف، ودخل عليها في الصيف فوجد عندها فاكهة الشتاء، فتعجب قال: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] هذه درجة يقين عالية جداً ليست لكل الناس، وإنما لابد من الأخذ بالأسباب؛ لأن التوكل الحقيقي على رب الأرباب جل وعلا هو أن نأخذ بجميع الأسباب، ولكن لا نتكل على هذه الأسباب؛ لأن الأسباب لا تسعف، ولا تأتي برزق، وإنما نأخذ بالأسباب متوكلين على مسبب الأسباب وعلى رب الأسباب جل وعلا.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وخرجه ابن ماجة، والنسائي، وابن حبان، والحاكم والترمذي، وقال عنه الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح وليس في البخاري ومسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) الطائر ينهض في الصباح الباكر ولا يظل نائماً إلى الظهر، فهو الذي يوقظك لصلاة الفجر، في النهار المبكر يترك مسكنه منزله، وعشه ليسعى على رزقه، يغدو من الغدوة من الصباح المبكر، يغدو خماصاً فارغ البطن، خاوي البطن، فيقدر الله له الرزق في أي مكان، فيحصل الطائر على رزقه ويعود إلى عشه وقد تكفل الله برزقه قائلاً: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
فعليك أن تأخذ بالأسباب وأن تتوكل بعد ذلك على مسبب الأسباب، أما أن تقول: أنا متوكلٌ على الله دون أخذٍ بالأسباب، فهذا أمرٌ مردودٌ ومرفوض ما فعله سيد الأحباب محمد صلى الله عليه وسلم، ففي ليلة الهجرة أخذ أسباب الحيطة والاحتياط، والأمن والأمان، ولذا فإنه لما علم أنه قد أخذ بجميع الأسباب، ووجد أن الأسباب قد انقطعت يوم أن وصل المشركون إلى الغار، وقال له الصديق: [لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا] يعلم النبي أن الأسباب لا تنجي قال له: (يا أبا بكر! لا تحزن ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
هنا اللجوء إلى مسبب الأسباب؛ لأن الأسباب قد انقطعت حينها، وقد أعيتها الحيل، ولم تستطع أن تنجي محمداً وصاحبه صلى الله عليه وسلم، ولذا فاللجوء هنا إلى الله، إلى مسبب الأسباب، ولذا فعليك أن تأخذ بالأسباب.
يا طالب العلم! ذاكر، واسهر الليل، وحصل الدروس، ثم بعد ذلك توكل على الله، وقل: أنا معتمدٌ على الله وليس على مذاكرتي وتحصيلي؛ لأن من اعتمد على عقله ضلَّ، ومن اعتمد على الناس ذلَّ، ومن اعتمد على ماله قلَّ، ومن اعتمد على الله لا ضلَّ ولا قلَّ ولا ذلَّ.
فخذ بالأسباب، وتوكل على مسبب الأسباب، أما أن تأخذ بالأسباب وتقول: إن الأسباب هي التي ستنجحني، أو بأن الأسباب هي التي سترزقني، لا، وإنما الرزق بيد مسبب الأسباب جل وعلا، يقول ربنا في الحديث القدسي الجليل: (يابن آدم! لا تخشى من ضيق الرزق فخزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً) فعليكم أن تحصلوا الأسباب، وألا تعتمدوا عليها، فإن الرزق والفلاح والنجاح بيد مسبب الأسباب: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:25 - 26].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم توفنا على الإيمان وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا ما يرضيك من آمالنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، اللهم لا تدع لأحدٍ منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلى شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصٍ إلا هديته، ولا حاجةً هي لك رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم كما خلقتنا موحدين اختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم كما خلقتنا مؤمنين فاختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم كما خلقتنا موحدين فاختم لنا بالإيمان والتوحيد، اللهم توفنا على لا إله إلا الله، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض.
اللهم اجعل بلدنا مصر بلد الأمن والأمان، ووفق ولاة أموره للعمل بكتابك والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، اذكروا الله العظيم يذكركم، واستغفروه يغفر لكم.
ولا تنسوا التبرع لبيت الله جل وعلا، ادخروا في خزائن الله، ادخروا في خزائن الله وفي بنك حسنات الله، الذي يضاعف الله فيه الحسنات، فإن الحسنة عند الله بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فلا تنسو هذا الخير وهذا الفضل الذي ساقه الله إليكم في الدنيا.
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب.
وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.(73/14)
السحر والعلاج
شرع الله لخلقه عبادته، فأوجب أشياء ونهى وحرم أشياء، وسمى بعض ما حرمه بالكبائر والبعض بالصغائر، ومن هذه الكبائر: كبيرة السحر.
وقد أوجد الله السحر فتنة للناس، وجعل للعلاج سبلاً منها ما هو شرعي محمود، ومنها ما هو كفري مذموم.(74/1)
انتشار السحر على أرض الواقع
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى إلا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الضار النافع، الخافض الرافع، القابض الباسط، المعز المذل، فلا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ولا ضار لمن نفع، ولا نافع لمن ضر، ولا قابض لما بسط، ولا باسط لما قبض، الواحد الذي لا ضد له، الصمد الذي لا منازع له، الغني الذي لا حاجة له، القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وأسال الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين وإمام المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعدٍ مع اللقاء الثاني من السبع الموبقات، التي حذر منها سيد البريات صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داوُد والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
ولقد تحدثنا في اللقاء الماضي بتوفيق الله جل وعلا عن الكبيرة الأولى في هذا الحديث إلا وهي: الشرك، وبينّا خطورة الشرك، وتحدثنا بالتفصيل عن رحلة الشرك التي دنست الأرض ولوثت الفطرة، ثم تكلمت عن أقسام الشرك وقسمت الشرك كما قال علماؤنا إلى قسمين: الشرك الأكبر والأصغر، وبينت معنى كل منهما، ثم ختمت الحديث بعد ذلك عن فضل تحقيق التوحيد، ونحن اليوم على موعدٍ مع الكبيرة الثانية الخطيرة في هذا الحديث ألا وهي: السحر.
والسحر عالمٌ عجيب غريب تختلط فيه الحقيقة بالباطل، والعلم بالشعوذة والدجل، وعالم السحر عالمٌ ظاهره جميلٌ خلاَّب، يفتن أصحاب العقول الضعيفة، ويبلبل السذج والرعاع والبسطاء، وتاريخ السحر تاريخ طويلٌ مظلم يفتن فيه شياطين الإنس والجن عباد الله جل وعلا، بل ويوقعونهم في أبشع وأكبر وأخطر جريمة، ألا وهي جريمة الكفر والشرك والضلال، وها نحن الآن نرى إقبالاً مزعجاً على السحرة والسحر والمشعوذين والدجالين، بل نرى بأم أعيننا ونسمع بآذاننا من بين أبنائنا ومن إخواننا المسلمين من إذا حزبه أمرٌ واشتكى مرضاً عضوياً كأي مرضٍ من الأمراض، أو اشتكى مرضاً قلبياً كحبٍ أو بغضٍ إلى آخره، نراه يذهب على قدميه حراً مختاراً إلى قسيسٍ في كنيسة تحدى الله جل وعلا.
فيدخل المسلم صحيحاً معافى ثم يخرج من عند النصارى القساوسة الكفرة وقد أصابوه بمس الجن أو بسحرٍ لا يستطيع أحدٌ أن يخرجه بعد ذلك إلا إذا شاء الله جل وعلا وقدر, والأصل قول الله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102].
فها نحن نرى أيها الأحبة! في هذا العصر المتطور المتحضر نرى إقبالاً مزعجاً على السحر والسحرة والمشعوذين والدجالين، ونرى بأم أعيننا أيضاً أننا نعيش هذا العصر الذي طغت فيه الماديات والشهوات بصورة عارمة مزلزلة، ومن ثم كثرت العقد والمشكلات النفسية، وراح الناس الذين فقدوا راحة النفس، وطمأنينة القلب، وهدوء البال راحوا يلهثون وراء السحرة والمشعوذين والدجالين بعدما ذهبوا إلى الأطباء النفسيين، وعجز علماء الاجتماع على أن يحلوا ألغاز مشاكلهم التي يقف الطب أمامها مبهوتاً متحيراً، وبعد تشخيص دقيق حتى في دول العالم المتحررة المتحضرة يقول الأطباء: لا نجد تشخيصاً لهذه الحالة، ومن ثم يرجع هذا الثري أو هذا الغني إلى عالمٍ ويدور في حلقة مفرغة يذهب إلى الكذابين والنصابين والدجالين والمشعوذين، ولذا نرى سبباً لهذا قسوة في القلوب، وجفافاً لينابيع الخير في كثيرٍ من القلوب، وهؤلاء الذين يبحثون عن طمأنينة قلوبهم وراحة أنفسهم وسعادة بالهم، إذ ذهبوا إلى السحرة والمشعوذين والدجالين، فهم كمن يستجير من الرمضاء بالنار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولخطورة هذا الأمر أيها الأحبة! سأفرد له لقائين كاملين بإذن الله جل وعلا، وسينتظم حديثي معكم في هذا الموضوع الخطير في هذه العناصر التالية حتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا ومن بين أيدينا.
أولاً: تعريف السحر لغة واصطلاحاً.
ثانياً: حقيقة السحر وأنواعه.
ثالثاً: هل سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم حقاً؟ رابعاً: حكم السحر وحد الساحر.
خامساً: علاج السحر وإبطاله وإفساده.
فأعيروني القلوب والأسماع فإن هذين اللقاءين من الأهمية بمكان.(74/2)
أولاً: تعريف السحر لغة واصطلاحاً
السحر في اللغة هو: كل شيءٍ خفي سببه ولطف ودق.
يقول أبو عبيد: وأصل السحر في اللغة هو الصرف، أي: صرف الشيء عن حقيقته، قال الله تعالى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89] أي: فأنى تصرفون، يقول: وقد يكون الصرف للعين وهو الأُخذة أي: أن تؤخذ العين فلا ترى الشيء على حقيقته التي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للقلب من الحب إلى الكره، ومن الكره إلى الحب، ومن البغض إلى الحب، وهكذا.
وقد يكون الصرف بالقول الحلال، ألا وهو البيان والحديث كما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً) فالصرف أن يحب هذا فيبغضه عن طريق السحر، وهذا الرجل يحب زوجته فيبغضها، وقد يكون الصرف للعين فترى العين الشيء على غير حقيقته التي هو عليها في الواقع، وقد يكون الصرف للعقول وللقلوب بالقول والبيان الدقيق المنمق.
ولم يفرق بعض العلماء بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للسحر كما نسج في ذلك الإمام الكبير الفخر الرازي، وإن كنا نعلم أنه من أكابر علماء المعتزلة إلا أنه قال: إن السحر في عرف الشرع هو كل أمرٍ يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته في الواقع ويجري مجرى التمويه والخداع، وقد سار على ضربه ووافقه في ذلك الإمام الكبير أبو بكر الجصاص، وهؤلاء وغيرهم ممن يقولون: إن السحر خيالٌ وتخييل ولا حقيقة له في الواقع، وسوف أرد عليهم إن شاء الله جل وعلا.
هذا هو الرأي الأول الذي يقول بأن السحر في الاصطلاح: تخييل ورؤية الأشياء على غير حقيقتها، وتمويه وخداعٌ.
أما الرأي الثاني وهو رأي جمهور أهل السنة والجماعة، والذي يعرفه الإمام القدير ابن قدامة في كتابة الكبير المذهل المغني مع الشرح الكبير في المجلد العاشر إذ يقول: والسحر عقدٌ ورقى وكلامٌ يتكلم به الساحر أو يكتبه أو يعمل شيئاً فيؤثر في بدن المسحور من غير مباشرة له، وله (أي: وللسحر) حقيقة فمنه، (أي: من السحر)، ما يقتل -ومازال الكلام لـ ابن قدامة - فمن السحر ما يقتل ومنه ما يمرض وما يأخذ الرجل عن أهله فيمنعه وطأها، ومن السحر ما يفرق بين الزوج وزوجه ومنه ما يحبب بين اثنين.
هذا تعريف السحر عند علماء أهل السنة والجماعة، إذاً فمذهب جمهور السلف أن السحر ليس تخييلاً ولكنه حقيقة له واقعٌ ملموسٌ محسوسٌ مشاهد، فمنهم من قال: بأنه تخييل، ومنهم من قال: بأنه حقيقة.
ومن ثم -يا أحبابي- يجب علي هاهنا أن أفرق لكم بين ثلاثة أشياء خطيرة ألا وهي: السحر والكرامة والمعجزة، حتى لا تختلط الأوراق وتتلابس وتتشابك الأمور.
ما الفرق بين السحر والكرامة والمعجزة؟ السحر اتفاق وعقدٌ مبرمٌ بين ساحرٍ وشيطان، بشرط أن يزداد الساحر كفراً لله وعبادة للشيطان، وكلما ازداد الساحر كفراً وزندقة وانحلالاً ازداد الجني أو الشيطان طاعة لهذا الساحر، هذا هو عقد السحر.
أما الكرامة فلا تكون إلا لولي.
والمعجزة لا تكون إلا لنبي.
وجماعهما الأمر الخارق للعادة كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في المجلد الحادي عشر في بحثٍ قيمٍ مبدع لمن أراد أن يطَّلع عليه، الكرامة للولي، والمعجزة للنبي ومن ثم يجب أن نفرق أيضاً بين أولياء الرحمن، وبين أولياء الشيطان، فإن ولي الشيطان يحدث الشيطان له خرقاً للعادة ليفتن الناس وليضلهم عن التوحيد والهدى، ومن ثم إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشي على الماء وهو غير متبعٍ لشرع المصطفى فاشهدوا له بالكفر فإنه ولي من أولياء الشيطان.
أما أولياء الرحمن فهم الذين يجري الله على أيديهم أموراً خارقة للعادة وهم لا يريدونها ولا يحبون إظهارها، ومن ثم قال الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] من هم أولياء الله؟ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فالولي هو المؤمن التقي الذي يوحد الله حق توحيده، ويعبد الله حق عبادته ويخلص عمله لله ويخلص اتباعه لسيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد تُقاً وقُرباً قد يجري الله على يديه أمراً خارقاً للعادة، والولي لا يريد إظهاره، ذلك ولا يحب إظهار ولذا قال أحد السلف: النفس تتمنى الكرامة وتأبى الاستقامة، والله جل وعلا قد أمرها وطلب منها الاستقامة ولم يطلب منها الكرامة، فولي الرحمن بخلاف ولي الشيطان.
أما المعجزة فهي لا تكون إلا للنبي، وقد فرق بعض أهل العلم من علماء السلف بين الكرامة والمعجزة؛ أن الكرامة قد يجريها الله إذا شاء على يد ولي من أوليائه، ولكن المعجزة يجريها الله على يدي رسولٍ من رسله في مقام التحدي، في مقام إظهار الرسالة، وإظهار النبوة لهذا النبي الذي يتحدى قومه، ومن ثم تحدى موسى قومه بما برعوا فيه ومن جنسه بالسحر، برع قومه في السحر فأمده الله بعصا تنقلب إلى حية عظيمة تلقف ما يأفكون.
وأمد الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بمعجزةٍ من جنس ما برع فيه قومه، برع قومه في البلاغة والفصاحة والبيان فأعطاه الله جل وعلا القرآن الذي تحدى به البشرية كلها بل وما زال التحدي قائماً إلى يوم القيامة فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23 - 24] فأمده الله بالقرآن فسجد المشركون في محراب بلاغة وفصاحة كلام الحق جل وعلا، ولا يتسع الوقت للتدليل على هذا.
وهكذا أيها الأحبة! فالمعجزة من النبي من باب التحدي لهؤلاء الذين أرسل إليهم وبعث فيهم، يجري الله على يديه أمراً خارقاً للعادة وخارقاً لنواميس وقوانين هذا الكون ليثبت لهم أنه مرسلٌ من قبل الله جل وعلا.
وأنتم تعلمون أن النار قانونها هو الإحراق، ويأبى الله إلا أن يحول هذا القانون وأن يسلبه من النار حينما ألقى المشركون إبراهيم في النار فقال الله جل وعلا: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
وتعلمون أن قانون المياه هو الإغراق لا سيما إذا ما وضع شيءٌ في الماء تزيد كثافته عن كثافة الماء، فسرعان ما يسقط ويهوي، ولكن ما الذي حدث؟ جعل الله عنصر الإغراق وعنصر الإهلاك عنصر حياةٍ وأمن وأمان لنبي من أنبيائه فأوحى الله جل وعلا إلى أم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
فالمعجزة شيءٌ خارق للعادة ولقوانين ونواميس هذا الكون، يجريها الله على يد رسول من رسله، ونبي من أنبيائه في مقام التحدي لهؤلاء القوم الذين أنكروا رسالته، وأنكروا نبوته من قبل الله جل وعلا.
إذاً أيها الأحبة! من العلماء من قال: إن السحر تخييل لا حقيقة له، ومنهم من قال: بأن السحر حقيقة لا تخييل.(74/3)
حقيقة السحر وأنواعه
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: ومذهب أهل السنة والجماعة أن السحر ثابتٌ وله حقيقة، وقد اتفق على هذا أهل الحل والعقد الذين بهم ينعقد الإجماع ولا عبرة بعد ذلك لأقوال المخالفين.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وقد خالف في ذلك بعض أصحابنا من الشافعية، وقالوا: إن السحر تخييل لا حقيقة له أي: في الواقع، قال النووي: والصحيح الذي عليه الجمهور وعليه عامة العلماء أن السحر ثابتٌ وله حقيقة، دل على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة.
وانتبهوا معي أيها الأحبة! لنقف مع هذين الرأيين المتناقضين المتضادين المختلفين.
فلقد استدل أنصار الفريق الأول الذين يقولون: بأن السحر تخييل لا حقيقة له، بأدلة ينبغي أن نقف أمامها، استدل أنصار هذا الفريق بالقرآن الكريم وبقول الله عز وجل في سورة طه: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] واستدلوا بقول الله في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] واستدلوا أيضاً بالواقع فقالوا: لو أن السحرة يملكون قلب حقائق الأعيان لقلبوا الحصى إلى ذهب، ولقلبوا الأوراق إلى دولارات، ولقلبوا الجبال إلى ذهب، ولغيروا حقائق هذا العالم، لو قدر السحرة على ذلك ما تحايلوا على أكل أموال الناس بالباطل ولكانوا ملوك العالم وأغنى الناس فيه.
واستدلوا أيضاً بأن السحرة لو فعلوا ذلك واستطاعوا أن يقلبوا حقائق الأعيان بأن يحولوا مثلاً هذا العمود إلى ذهبٍ وهو من الحجارة أو إلى فضة أو إلى غيرهما، لو فعلوا ذلك لاختلط الحق بالباطل ولاختلطت المعجزة بالسحر حينئذٍ.
وقال جمهور أهل العلم رداً عليهم وهم الذين يقولون: أن السحر حقيقة لا تخييل، وقد استدلوا بأدلة أخرى من الكتاب والسنة الصحيحة: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
قال علماؤنا من جمهور السلف: إن الله جل وعلا قد صرح في هذه الآية بأن الشياطين يعلمون الناس السحر، وبأن الناس يتعلمون السحر من الشياطين، وما لم تكن للسحر حقيقة فما الذي علم الشياطين وما الذي تعلمه الناس؟ واستدلوا أيضاً بالآية فقالوا: ولقد صرحت الآية بأن الساحر يفرق بين المرء وزوجه بسحره، وهذه حقيقة لا يمكن على الإطلاق أن تنكر، لأن التفريق بين الزوج وزوجه أمرٌ عين بائنٌ واضح.
واستدلوا بقول الله جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] والنفاثات: هن السواحر اللاتي يعقدن السحر وينفثن عليه، وقالوا: بأنه لو لم تكن للسحر حقيقة ما أمر الله بالاستعاذة منه على الإطلاق.
واستدلوا أيضاً بالواقع فقال الإمام ابن القيم: والسحر الذي يؤثر مرضاً وثقلاً وحباً وبغضاً ونزيفاً للنساء معلوم موجودٌ يعلمه عامة الناس.
واستدلوا -وهذا من أقوى الأدلة التي استدل بها جمهور أهل السلف على أن السحر حقيقة لا تخييل- بسحر النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر، وهل سُحِر النبي؟! هذا ما سأجيب عنه إن شاء الله وقبل أن أتخطى إليه لا بد أن أقول: كيف نجمع بين هذين القولين؟ وكيف نرجح أحدهما على الآخر، فريقٌ يقول: بأن السحر تخييل لا حقيقة له، وفريق يقول: بأن السحر حقيقة لا خيال، كيف نجمع بين هذين القولين المتناقضين؟ أقول أيها الأحبة! التحقيق -والله أعلم- أن الذين قالوا بأن السحر كله تخييل لا حقيقة له قد جانبوا الصواب، والذين قالوا: بأَن السحر كله حقيقة لا تخييل فيه قد جانبوا الصواب أيضاً، والحق أقول لكم: بأن السحر ينقسم إلى أقسام منه ما هو حقيقي ومنه ما هو تخييل.
أما السحر الحقيقي فلا يكون إلا عن طريق مساعدة الكواكب والنجوم والسحرة والجن، وهذا شريطة أن يكفر الساحر بالله جل وعلا، وأن يزداد عبادةً للجن والشيطان، وللكواكب والنجوم، وحينئذٍ يستطيع الساحر أن يجري سحراً حقيقياً يضر ويؤذي به خلق الله وعباد الله عز وجل.
ومن السحر ما هو تخييل لا حقيقة له في عالم الواقع، وهذا السحر يكون تركيزه على العين وهو الأخذة كما ذكرت فتؤخذ العين وتسحر، فترى العين الشيء على غير حقيقته في الواقع، يقول الحافظ ابن كثير: وهذا السحر هو جنس سحر سحرة فرعون، قال الله عز وجل بصريح العبارة -وما زال الكلام لـ ابن كثير -: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] وقال الله عز وجل: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] إذاً وقع السحر هنا على العين فرأت العين الشيء على غير حقيقته في الواقع.
والخلاصة -يا أحبابي- والحق أقول: إن السحر منه ما هو حقيقي ومنه ما هو تخييل، ولا ينبغي أن نقول: إن السحر كله حقيقة، أو أن نقول: إن السحر كله تخييل، وهناك نوعٌ ثالث يطلق عليه مجازاً لفظ السحر ألا وهو فعل الشعوذة والدجل وخفة اليد التي نراها على شاشات التلفاز من آن لآخر، هذا هو التحقيق في هذه المسألة والله أعلم.(74/4)
هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! هل سحر النبي صلى الله عليه وسلم؟
و
الجواب
نعم، الحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة والنسائي والبيهقي وابن سعد في الطبقات وغيرهم، وهذا لفظ حديث البخاري في كتاب الطب من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ من بني زريق من حلفاء يهود كان منافقاً يقال له: لبيد بن الأعصم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله -لا إله إلا الله- تقول عائشة: حتى إذا كان ذات يومٍ أو ذات ليلة دعا رسول الله ثم دعا، ثم قال: يا عائشة! أرأيتِ أن الله جل وعلا قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ فلقد أتاني رجلان، قعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ -أي: مما يشكو النبي صلى الله عليه وسلم- فقال الآخر: مطبوب، -أي: مسحور- فقال الأول: ومن طبه؟ -أي: ومن سحره؟ - فقال الثاني: لبيد بن الأعصم.
فقال الأول: وفي أي شيء؟ -يعني: في أي شيءٍ سحره؟ - فقال الثاني: في مشطٍ ومشاطة وجف طلع نخل ذكرٍ) المشط معلوم، والمشاطة: هو ما يسقط من الشعر وشعر اللحية بعد الترجيل أي: بعد التسريح، ومن ثم ينبغي ألا نفرط في هذا الأمر أو أن نهمله قالت: (قال جبريل -وهو المتكلم في هذا الحديث- لصاحبه: سحره في مشطٍ ومشاطة) أي: في شعر رأسه وفي شعر لحيته الذي سقط من إثر التسريح والترجيل (وفي مشطٍ ومشاطة وجف طلعٍ ذكر) والطلع: هو العشب أو الغشاء الذي يطلع على النخلة أي: على نخلة البلح، هذا هو سحر النبي صلى الله عليه وسلم: (فقال الأول: وفي أي مكانٍ هو؟ فقال الآخر: في بئر ضروان، بئرٌ في المدينة المنورة تقول عائشة: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البئر في نفرٍ من أصحابه ثم جاء فقال: يا عائشة! كأن ماءها -أي: كأن ماء البئر- نقاعة الحناء -أي: لون الماء كنقع الحناء- وكأنه رءوس الشياطين، قالت: أفلا استخرجته؟ فقال: قد عافاني الله عز وجل وخشيت أن أثير على الناس شراً فأمر بها فدفنت).
وفي رواية عائشة وابن عباس عند البيهقي في الدلائل: (أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] فقال النبي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] فحل جبريل عقدة، فقال: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] فحل عقدة حتى إذا فرغ منها قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فحل عقدة حتى فرغ منها قام النبي وكأنما قد نشط من عقال) قام النبي بأبي هو وأمي وكأنما نشط من عقال، من قيودٍ وأغلال.
وهنا أحبابي قضية خطيرة ألا وهي أن هناك ممن ينتسب إلى العلم من رد هذا الحديث وأنكره وقال: بأن هذا الحديث باطلٌ ومقدوحٌ في سنده، لماذا؟ قالوا: لأن عقولنا تنكر هذا الحديث وتأباه وما تنكره العقول لا يمكن على الإطلاق أن يكون من المنقول، وهذه شنشنة قديمة حديثة، أثارها قديماً هؤلاء وأثارها حديثاً أفراخ المعتزلة الذي يقدمون العقل على النقل، ويرون أن عقولهم فقط هي الميزان الدقيق الحساس الذي من خلاله يحكمون به على صحيح الحديث أو ضعيفه وسقيمه، ويا للعجب لو كان الأمر أن تقف العقول أمام كل حديث، فإذا ما وافق الحديث العقل قبلناه، وإذا ما عارض الحديث العقل رددناه، لأصبحت سنة النبي ألعوبةً في أيدي البشر، فهذا حديثٌ يراه هؤلاء مقبولاً للعقل، وهذا حديث لا يراه هؤلاء مقبولاً للعقل، ومن ثم تضيع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن هناك من القواعد والمناهج والضوابط والأصول ما وضعه علماء سلف الأمة من المحدثين الجهابذة الكبار، ما يستطيعون به -كتجار الصرافة المهرة- أن يفرقوا بين صحيح الحديث وسقيمه، ولا ينبغي على الإطلاق لأحدٍ أن يأتي ليتجاوز هذه القواعد والنصوص والأصول والضوابط ليحكم على كل حديثٍ بعقله فما قبله العقل قبله وما رده العقل رده، وهذه شنشنة خطيرة، ورضي الله عنه علي بن أبي طالب إذ يقول: [لو أخذ الدين بالعقل لكن المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه] أنت حينما تمسح على خفك، تمسح على باطنه الذي تطأ به الأرض؟ أم تمسح على أعلاه؟ تمسح على أعلاه، وما الذي ينبغي أن يمسح عليه؟ يمسح على الباطن، إن كان ذهنك أنك تريد بذلك الطهارة لأن باطن الخف هو الذي يمشي على الأرض، ولكن الله جل وعلا والرسول أمر بالمسح على أعلى الخف لا على باطنه، فلو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه.
ولذلك يا أحبابي! لا ينبغي أن يتجاوز العقل حده على الإطلاق، نور الوحي لا يطمس نور العقل أبداً بل يباركه ويقويه ويزكيه ويعينه، شريطة أن يذعن العقل وأن يسلم لله رب العالمين، كما انقاد كل من في الكون لله رب العالمين.
أما أن يكون مقياسنا إذا كان العقل بارعاً في أمر من أمور الدنيا، وفي أمرٍ من أمور العلم فإنه حتماً يكون دقيقاً في أمر الوحي وفي أمر النصوص المنقولة، كلا على الإطلاق، وأضرب لكم بعض الأمثلة السريعة: هذا هو العقل الروسي الجبار شعاره يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة؛ يؤمن بـ لينين، واستالين، وماركس، ويكفر بالله، وبالدين، وبالملكية الخاصة، هذا عقل.
وهذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي فعل ما فعل، بل وعُبِدَ اليوم في الأرض من دون العزيز الغفار، هذا هو العقل الأمريكي الجبار يدافع إلى يومنا هذا عن الشذوذ الجنسي، وعن زواج الرجل للرجل، وما أمر الانتخابات الأخيرة لرئيسهم منا ببعيد، ولقد وعد الشواذ أن يأذن لهم بالدخول والالتحاق بالجيش، وهذا العقل أيضاً يدافع عن العنصرية اللونية البغيضة، وما أحداث لوس أنجلوس منا ببعيد هذا عقل.
وهذا هو العقل اليوناني يدافع عن الدعارة.
وهذا هو العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران.
وهذا هو العقل الهندي يدافع عن إحراق الزوجة مع زوجها، وهو أيضاً يدافع إلى يومنا هذا عن عبادة البقرة والفئران وعن عبادة عضو الذكورة عند الرجل، هذا عقل.
وهذا هو العقل العربي في جاهليته الأولى يدافع عن وأد البنات وهن أحياء.
وهذا هو العقل العربي في جاهليته المعاصرة يدافع عن البعثية العفلقية الكفرية، فيقول قائلهم:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
ويقول آخر:
هبوني عيداً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
هذا هو العقل ما قيمته؟ حقير تافه إذا انفك عن نور الوحي، وتحدى المنقول الصحيح من القرآن والسنة، لا قيمة له ولا وزن له.
هذا هو العقل المارد العملاق الذي يفجر الذرة في الجانب المادي، يفجر الكفر والإلحاد والزندقة في الجانب الديني.
هذا هو العقل البشري الذي غاص في الجانب المادي في أعماق البحار، يغوص في الجانب الديني في أعماق الكفر والزندقة والأوحال.
إذاً نور الوحي لا يطمس نور العقل، بل يباركه ويقويه ويزكيه شريطة أن يعرف العقل قدره وحده، وألا يتخطاه، وألا يتجاوزه، وأن يعلم يقيناً أن المنقول الصحيح حتى ولو لم يقبله ينبغي أن يذعن له، وينبغي أن ينقاد له، فليس كل ما يرده العقل غير صحيح.
ولكن نقول رداً عليهم بأن هذا الحديث باطلٌ ومقدوحٌ في سنده، نقول: إن الحديث مخرجٌ في أصح كتابين بعد كتاب الله جل وعلا، ألا وهما صحيح البخاري ومسلم، وإذا رأيت -أخي في الله- الحديث في الصحيحين وقد اتفق عليه الشيخان؛ فاعلم بأن الحديث قد ارتقى إلى أعلى قمم الصحة، وإذا رأيت الرجل يقدح في حديثٍ في الصحيحين فاعلم أن بضاعته في الحديث مزجاة هذا إن أحسنا الظن به.
أما القدح الذي ينبغي أن نقف أمامه حقاً أنهم قالوا: إن هذا الحديث يقدح في نبوة المصطفى وفي عصمته والله جل وعلا يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وهذا الحديث يؤيد قول المشركين الذي حكى الله عنه: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الفرقان:8] هذه تستحق التوقف والتدبر والجواب بدقة، والجواب بعون الله جل وعلا: إن هذا القول يقدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم غير صحيح لماذا؟ لأن النبي معصومٌ باتفاقٍ في جانب التبليغ والتشريع والدعوة عن الله جل وعلا، معصومٌ في هذا {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] وما ينطق عن الهوى في كل ما يبلغه عن ربه، ولكن هناك أمور قد يخطئ فيها النبي من أمور الدنيا، وما قصة تأبير النخل منا ببعيد وإلى آخره، أما ما يبلغه عن ربه وما ينقله عنه فلا يمكن على الإطلاق أن يخطئ فيه أو أن يزل فيه قيد أنملة بوعد الله جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
أما سائر الأعراض الدنيوية التي تسري على الناس من مرض وألم وفتنة ومحنٍ وابتلاءات، فهذه تصير على النبي كما تصير على غيره من سائر البشر، وقد قال الله جل وعلا حكاية(74/5)
إلى الباحثين عن السعادة
جميع الناس يبحثون عن السعادة مع اختلاف أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم، فبعضهم يراها بجمع المال وبعضهم يراها في المنصب والجاه، وبعضهم يراها في تقليد الغرب، فيستورد الأفكار المنحلة منهم، ولكن سرعان ما تنقضي هذه السعادة ويدب اليأس من جديد.
وذلك لأن السعادة الحقيقية ليست إلا من التزم بكتاب الله وسنة رسوله، فهما أساس السعادة الحقيقية في الدارين.(75/1)
الناس جميعاً يبحثون عن السعادة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا المسجد الطيب المبارك على طاعته؛ أن يجمعنا وإياكم مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: (إلى الباحثين عن السعادة) هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكعادتي فسوف ينتظم حديثي معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة.
ثانياً: سعادة العالم بين الوهم والحقيقة.
وأخيراً: هذا هو طريق السعادة.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
مهما اختلفت عقائد الناس وأفكارهم ومبادؤهم، فإنك لو سألت أي إنسان على ظهر الأرض: لمَ فعلت كذا؟ ولم صنعت كذا؟ لقال لك إما بهذه الأحرف أو بكلمات تختلف: أبحث عن السعادة.
إنها غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، ولكن يختلف الناس في سبيل الحصول على هذه السعادة.(75/2)
السعادة لا تكون في جمع المال
من الناس من يظن أن السعادة في جمع المال، ولو كان من الحرام، المهم أنه يريد أن يجمع المال بأي سبيل، ولا تعنيه الوسيلة لجمع هذا المال.
وأود أن أقول بدايةً: أنا لا أريد أن أقلل من شأن المال، فقد يكون المال سبب السعادة في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال سبب الشقاء في الدنيا والآخرة، المال ما أكرمه إذا حركته أيدي الصالحين والشرفاء، وما أشرف المال إذا عرف المسلم غايته، وعلم أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد من حديث أبي كبشة الأنماري، وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم- رجلاً آتاه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً) فهذا في أفضل المنازل عند الله جل وعلا.
فالمال ظل زائل، وعارية مسترجعة، لو عرف المؤمن غاية وحقيقة المال والوظيفة التي ينبغي أن يُسخر لها، فأنفق في سبيل الله جل وعلا، وعلم يقيناً أن ماله الحقيقي هو ما قدم، وبُذِلَ في حياته، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوماً فقال: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا من أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: فإن ماله ما قدم ومال ورثته ما أخر)، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (مالك يا بن آدم! تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت) ورحم الله من قال:
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
...
هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:46 - 49].
فالمسلم إذا عرف غاية المال واستخدمه استخداماً صحيحاً؛ فالمال يكون حينئذٍ سبب في سعادته في الدنيا والآخرة، وقد يكون المال من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة؛ إذا عاش الإنسان من أجل المال، وأصبحت غايته في هذه الدنيا أن يجمع المال بأي سبيل وطريق حتى ولو على سبيل الآخرة، يسمع النداء يقول: حي على الصلاة.
ولكنه منشغل بتجارته وبأولاده وبكرسيه ومنصبه، ما استجاب لله جل وعلا، بل من أجل الدنيا والمال غفل عن الآخرة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغفلة، فقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).
كم ممن ينتسبون الآن إلى الإسلام لا همَّ لهم إلا المال والدنيا، إن أمروا بأمر الله ما أتمروا، وإن نهاهم الله جل وعلا ما انتهوا، وإن حد لهم الله جل وعلا حدوداً تجاوزوا وتعدوا حدود الله تبارك وتعالى، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يخططون ويبذلون، بل وينفقون العقل والوقت والجهد والمال من أجلها.
أيها الأحبة: ليس كل صاحب مالٍ سعيد، وأنتم تقرءون آيات القرآن التي قص الله علينا فيها قصة قارون الذي انشغل الناس بملكه وسلطانه، ومع ذلك لما ذُكر بالله ما تذكر، اتق الله، ورد الفضل إلى الله جل وعلا، واعلم أن ما أنت فيه من نعمة إنما هو بفضل الله جل وعلا عليك، فرد قارون باستعلاء وكبر وقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] (إنه فن الإدارة) هذه الكلمة التي يرددها أصحاب المال الآن إلا من رحم ربك، فكانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
ولعل البعض منكم قد تابع قصة أغنى امرأة في العالم، فتاة في العشرين من عمرها، إنها: كريستينا أونسيس ابنة الملياردير الشهير أونسيس، لما هلك أبوها ورثت هذه الفتاة مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة؛ المليارات، والأساطيل، والشركات، وتزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقته، ثم تزوجت برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة فطلقها أو طلقته، ثم تزوجت برجل روسي شيوعي، فتعجب الصحفيون في حفل زفافها، وقال لها صحفي: كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية؟ فقالت الفتاة بصدق ووضوح: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه وطلقته، ثم تزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي فتقدمت صحفية لتقول لها: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم.
أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة، ثم وجدوها جثة هامدة في إحدى الشاليهات بدولة الأرجنتين.
فليس كل صاحب مال سعيد -أيها الإخوة- والله لن يذوق طعم السعادة إلا رجل منّ الله عليه بالمال؛ فعرف الغاية والوظيفة لهذا المال، فأنفقه لله جل وعلا في الليل والنهار، اكتسبه من الحلال، وأنفقه فيما يرضي الكبير المتعال.(75/3)
لا تنال السعادة بالمناصب
قد يظن صنف من الناس أن السعادة الحقيقية في المنصب، والجاه والسلطان، وأنا أقول لكم: قد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة؛ إذا اتقى الإنسان فيه ربه، وعرف أن المنصب والكرسي الذي أجلسه الله عليه أمانة، وعرف أن هذه الأمانة يوم القيامة قد تكون حسرة وندامة، ففي صحيح مسلم أن أبا ذر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ -لماذا لا تعطيني منصباً أو كرسياً في هذه الدولة العظيمة- فقال له المصطفى بعد أن ضرب على منكبه: يا أبا ذر! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها).
فالمنصب والمسئولية أمانة، وأستحلفك بالله: أن تتدبر هذا الحديث الذي يرعب القلب لخطره ومسئوليته، والحديث في أعلى درجات الصحة، فقد رواه البخاري ومسلم من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) تدبر أيها المسئول، مهما كانت مسئوليتك، ومهما كان منصبك، أنت في أمانة إن أديتها ربما أوصلتك هذه المسئولية إلى الجنان، إن اتقيت الله وعرفت قدر هذه المسئولية وقدر هذه الأمانة، فإن خان الإنسان هذه الأمانة؛ كان المنصب سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة.
لذا نرى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يكاد ينام ليلاً أو نهاراً، يمر في السوق فيلفت نظره إبل سمينة، فيقول عمر: [إبل من هذه؟ فيرد عليه بعضهم ويقول: إبل عبد الله بن عمر! -وكأن حية رقطاء قد أفرغت كل سمها في جوفه- ائتونِ به، ويأتي عبد الله وهو يرتجف -وأنتم تعملون أن عبد الله بن عمر إمام من أئمة الزهد والورع- فيقول له أبوه: ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فيقول: إبل هزيلة اشتريتها بخالص مالي يا أمير المؤمنين، وأطلقتها في الحمى ترعى؛ لأبتغي ما يبتغيه المسلمون من الربح والتجارة، فقال عمر في تهكم لاذع وهو الذي عرف حجم المسئولية وقدر الأمانة، قال: بخٍ بخٍ يا بن عمر، وإذا رأى الناس إبلك قالوا: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، فتسمن إبلك، ويربوا ربحك يا ابن أمير المؤمنين، عبد الله! قال: لبيك يا أبتي! قال: اذهب الآن فبع الإبل، وخذ رأس مالك ورد الربح إلى بيت مال المسلمين] لله دره! هؤلاء كانوا يقفون أمام كل لقمة شهية، وثوب جميل، ونعمة، يقفون وهم يرتعدون من الله جل وعلا.
ويقول عمر لنفسه: [ماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر، كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت وضيعاً فأعزك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم ولاك الله هذه الأمانة، فماذا أنت قائل لربك غداً يا عمر؟!!].
فيا أيها الحبيب! مهما كان حجم منصبك، ومهما كانت حجم مسئوليتك فإنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، أما إن اتقيت الله، وجعلت هذا المنصب وسيلة للجنة لتفريج كربات الناس، فلا.
ولا تعقد مصالح خلق الله، ولا تعقد مصالح عباد الله، بل كن مفتاح خير، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، فكن مفتاح خيرٍ بمنصبك، وكن مفتاح خير بكرسيك، واستغل هذا الكرسي لمرضاة الله، ولا تستغل هذا الكرسي لمن أجلسك عليه من العباد، فإن الكرسي ظل زائل، وعارية مسترجعة، ولو دام هذا المنصب لغيرك لما وصل إليك.
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب
والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب
فقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، كما أنه قد يكون المنصب سبباً من أسباب الشقاء والهلاك في الدنيا والآخرة.(75/4)
لا تدرك السعادة بمحاكاة الغرب
هناك صنف ثالث يظن أن السعادة الحقيقية في أن يسافر إلى الغرب، وأن يستورد أفكاره، فهؤلاء هم الذين يعيشون في سعادة من وجهة نظرهم، وأنا أقول لكم أيها الأخيار: والله الذي لا إله غيره! من سافر إلى بلاد الغرب علم يقيناً أن هؤلاء يعيشون الضنك بكل معانيه.
نعم.
هم حولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، فجَّروا الذرة، وانطلقوا في أجواء الفضاء، وغاصوا في أعماق البحار، وأعطوا البدن كل ما يشتهيه، وبقيت الروح في أعماقهم تصرخ، تبحث عن غذائها ودوائها، وهنا وقف الغرب أمام الروح وقفة العاجز، لماذا؟ لأن الروح لا توزن بالجرام، ولا تقاس بالترمومتر، ولا تخضع لبوتقة التجارب في معامل الكيمياء والفيزياء، فوقف الغربي حائراً عاجزاً.
إن المتابع للإحصائيات الأخيرة سيعجب عجباً حينما يرى هذا الانتشار السريع لعيادات الطب النفسي، ولحالات الانتحار الجماعي؛ لأن الإنسان بدن وروح، ولا يمكن لطائر جبار أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد لمدة طويلة، فإن طار وإن طالت مدة طيرانه سيسقط حتماً لينكسر جناحه الآخر، وهنا يقول الحق جل وعلا عند الروح: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] فالإنسان جسد وروح، ومحالٌ أن يجد الإنسان غذاء هذه الروح إلا في منهج الخالق جل جلاله، قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
كنت ألقي محاضرة في المركز الإسلامي في لوس أنجلوس، ودخل عليّ أمريكي مع أخوين مسلمين، وقطعا الأخوان محاضرتي وقالا لي: نريد أن تنطق هذا الأمريكي الشهادتين.
قلت: الحمد لله، تقدم يا أخي، وقبل أن ينطق الشهادتين، قلت له: لماذا أتيت مسلماً وأنت ترى واقع المسلمين لا يسر عدواً ولا حبيباً.
رد عليّ الأمريكي وقال: يا أخي أنا رجل ثري، أملك الشركات والأموال الطائلة، ومع ذلك يقول: فكرت في الانتحار أكثر من عشر مرات، يريد أن يتخلص من الحياة، لا يشعر للحياة بلذة ولا بذوق ولا بطعم، يقول: وعندي هذا الأخ، وأشار إلى موظف مع الأخوين اللذين جاءا معه، هذا الأخ الموظف عندي في إحدى شركاتي، ما من مرة أدخل عليه إلا وأراه مبتسماً نشيطاً في عمله، أميناً في عمله، صادقاً جاداً، فاقترب منه هذا الأمريكي وقال: يا أخي، ما من مرة أدخل عليك إلا وأرى السعادة تعلو وجهك، وأرى عليك الجد والنشاط والحيوية، وأنا صاحب هذه الشركة لا أشعر بما تشعر به، فرد عليه هذا الأخ الذي كان مثالاً للمسلمين، إذ أنني أعتقد من كثرة سفراتي إلى هذه البلاد أن المسلمين هم حجر العثرة في طريق التزام هؤلاء بالإسلام؛ لأن الأمريكي أو الغربي ينظر إلى كثير من المسلمين فيراهم قد انحرفوا عن منهج رب العالمين، هذا يشرب الخمر، وهذا يبيع الخنزير في محله، وهذا يعاقر الزنا، يقول: فما الفرق بيني وبينه؟! إذاً: لو كان المسلم مثالاً حقيقياً لهذا الدين بأخلاقه وسلوكه؛ لتغيرت هذه الصورة المقززة، التي نقلت إلى الغرب والشرق عن الإسلام والملتزمين المسلمين.
يقول: فرد عليَّ هذا الأخ المسلم وقال لي: الحمد لله أنا أشعر بالسعادة؛ لأنني مسلم.
قال: وما معنى ذلك؟ وهل المسلم يشعر دوماً بالسعادة؟ قال: نعم؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم علمنا حديثاً صحيحاً في صحيح مسلم من حديث أبي يحيى صهيب يقول: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
فرد الأمريكي وقال: فهل لو دخلت الدين الذي أنت عليه سأشعر بالسعادة التي تشعر بها؟ قال: نعم.
قال: أدخلني، دلني، فأمره بالاغتسال، فاغتسل وجاء به إلى المركز الإسلامي؛ ليعلن الشهادة، ووالله يا إخوة، ما إن وقف الأمريكي ليردد خلفي كلمة الإيمان والتوحيد إلا وبكى بكاءً هستيرياً طويلاً، فأراد الإخوة أن يسكتوه، فقلت لهم: دعوه، فلما أنهى بكاءه وجلس قلت له: لماذا بكيت؟ فقال لي: أشعر الآن بشيء من الفرح في صدري ما شعرت به قبل ذلك.
قلت: صدق ربي إذ يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124] إنها نعمة شرح الصدر والهداية، لا يتذوق طعمها إلا من ذاقه وعرفه.
قالوا لنا الغرب، قلت: صناعة وسياحة ومظاهر تغرينا
لكنه خاوٍ من الإيمان لا يرعى ضعيفاً أو يسر حزينا
الغرب مقبرة المبادئ كلما رفعت يداً أبدى لها السكينا
الغرب يكفر بالسلام وإنما بسلامه الموهوم يستهوينا
الغرب يحمل خنجراً ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتونا
كفر وإسلام فأنى يلتقي هذا بذلك أيها اللاهونا(75/5)
سعادة العالم بين الوهم والحقيقة
أيها المسلم! اعلم بأن السعادة الحقيقية تكمن في دين الله جل وعلا وامتثال منهجه.
إن العالم كله محروم من السعادة بلا نزاع وجدال، على الرغم من كثرة الأموال والبنوك والأسواق.
وعلى الرغم من كثرة المخترعات في جانب الأمن فإن العالم محروم من نعمة الأمن والأمان، ومحروم من نعمة السعادة! لماذا؟ لأنه انحرف عن منهج الله جل وعلا، وابتعد عن منهجه، ولا سعادة لمخلوق على ظهر هذه الأرض إلا إذا سمع عن الله فامتثل، واستجاب لأمر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تقل لي: أين النموذج؟ أقول لك: ما وجد هذا النموذج الذي يحول الإسلام في واقع الناس إلى منهج حياة، وإلى واقع عملي، فمن الظلم إذاً أن نحكم على منهج الله ودين الله بأنه ما حقق السعادة للناس على أرض الواقع؛ لأنه ما قدم إلى الآن هذا المنهج بالصورة التي ارتضاها الله جل وعلا أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهاهو المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، يوم أن حول أصحابه هذا الدين إلى واقع عملي ومنهج حياة، تحولوا من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، فلا سعادة إلا إذا عادت البشرية إلى الله، بعد أن أحرقها لفح الهاجرة القاتل، وأرهقها طول المشي في التيه والظلام، فإن البشرية كلها من خلق الله، ولن تعالج فطرتها وأمراضها إلا بدواء يقدم لها من عند الله، وهذا الدواء هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهيا أيها المسلم! قم وضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، هيا قم ودثر العالم كله ببردتك ذات العبق المحمدي، بيّن للدنيا عزة وعظمة وأخلاق هذا الدين، والله أسأل أن يجعلنا وإياكم خير دعاة بأقوالنا وأخلاقنا وسلوكنا ورحمتنا وتواضعنا وبذلنا لهذا الدين، فإن أعظم خدمة نقدمها اليوم أيها المسلمون لهذا الدين العظيم هي: أن نشهد له شهادة عملية على أرض الواقع، بعدما شهدنا له جميعاً شهادة قولية؛ لأننا نرى انفصاماً رهيباً بين هذا المنهج المنير، وبين هذا الواقع المر المرير.
والله أسأل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(75/6)
هذا هو طريق السعادة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة الكرام وأخيراً: هذا هو طريق السعادة:(75/7)
الإيمان والعقيدة هما الأصل في إيجاد السعادة
لخص الله هذا الطريق في آيات محكمة لمن أراد السعادة في الدنيا والآخرة، قال جل جلاله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] إيمان بالله جل وعلا، وعمل صالح، واستقامة على هذا الدرب حتى تلقى الله {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97] إذ أن الإيمان والعقيدة هما الأصل، ولا تصدق أبداً أن الأمة الآن أصبحت في غنىً عن العقيدة، أو في غنىً عن دعاة يركزون على العقيدة والتوحيد، فإن التوحيد هو اللبنة الأولى إن أرادت هذه الأمة أن يعاد إليها عزها ومجدها المسلوب.
فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم هذه الشريعة كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، يخرج علينا من يقول: لا تكثروا الدندنة حول الإيمان أو التوحيد؛ لأن النبي بدأ بالتوحيد، إذ أنه بدأ في بيئة شركية، فلا داعي للإكثار من الحديث عن التوحيد والإيمان وأركانه وأبوابه.
أقول: إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى التوحيد، بل لقد قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] فقد أثبت لهم عقد الإيمان ابتداءً؛ ومع ذلك يأمرهم بالإيمان؛ ليظل الإيمان عقيدة حية في قلوبهم، وراسخة في ضمائرهم، وعاملة في حياتهم وواقعهم، فلا بد أيها الحبيب من تأصيل الإيمان وتحقيقه وتجريده وتخليصه من أي شائبة من شوائب الشرك، فالأمة لا زالت الملايين المملينة فيها تسأل غير الله، وتستغيث بغير الله، ونحَّت شريعة الله جل وعلا، في كل عام في مصر وفي غيرها يحج إلى بعض القبور الملايين من البشر، وسمعنا بآذاننا عبر شاشات التلفاز من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد السيد البدوي المهاب، الذي إذا دعي في البر والبحر أجاب، وسمعنا من يخاطب النبي المصطفى ويقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ومن فيض جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وسمعنا من أبناء الأمة من يقول:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وسمعنا من أبناء الأمة من يقول: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً لتظل مصر فرعونية.
وسمعنا من أبناء الأمة من يقول: إن القرآن منتج ثقافي.
وسمعنا من يقول:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثانِ
ويخرج من يقول: كفوا عن التوحيد، أين التوحيد في هذه الأمة؟ ليكف الدعاة عن التركيز على التوحيد والإيمان؛ لتحقيقه وتجريده، فوالله لا عز ولا نجاة لهذه الأمة إلا إذا حققت الإيمان بالله جل وعلا ابتداءً: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النحل:97].(75/8)
التقرب إلى الله سبب السعادة في الدنيا والآخرة
صمنا رمضانات كثيرة، ومع ذلك لو سألنا أنفسنا -إلا من رحم الله- هل خرجنا بالتقوى من رمضانات كثيرة صمناها؟ لكان
الجواب
لا.
إلا من رحم الله، لماذا؟ لأننا دخلنا رمضان مدرسة الصوم بغير الشرط الذي به سنحصل التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لن تخرج من رمضان بالتقوى إلا إذا دخلت رمضان بالإيمان، إن لم تحقق الإيمان فلن تخرج بالتقوى، كم من المسلمين يذهب إلى حج بيت الله الحرام، وعلى عرفات، ورب الكعبة لقد رأيت بعيني على عرفات، من جلس بلباس الإحرام ليلعب (الورق)، فكاد قلبي أن ينخلع، فقلت: يا أخي في هذا اليوم العظيم تقضي هذا الوقت في مثل هذا؟ فقال: إن اليوم طويل، وأنا أريد أن أقضي بعض الساعات في اللعب حتى لا أشعر بالملل، هذا في عرفات، لا يشعر بلذة ولا بعظمة هذا اليوم؛ لأنه ما حقق الإيمان، فلن تخرج بتقوى، ولن تستطيع أن تغض بصرك، وأن تكف عن الحرام، وتمتنع عن الربا، وتفعل شيئاً على الإطلاق إلا إذا حققت الإيمان ابتداءً بالله جل وعلا.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] حياة سعيدة كريمة، سينشرح صدرك، وييسر الله جل وعلا أمرك، وستشعر بالراحة والطمأنينة وأنت في رحاب الله، وفي قرب من الله جل وعلا، إن أتيت الصلاة، أو قمت الليل، أو أكلت لقمة شعرت باللذة والسعادة، فحقق الإيمان واحرص على العمل الصالح؛ وستسعد بهذه الدنيا، بل وستدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، فإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، إنها جنة القرب من الله، وجنة الطاعة لله، وجنة اللذة بالأنس مع الله جل جلاله، فاحرص على الإيمان والعمل الصالح؛ لتشعر بالسعادة في هذه الدنيا قبل الآخرة.
يحدثني أستاذ جامعي في المنصورة في مصر ابتلاه الله بمرض في القلب، فسافر إلى بريطانيا لإجراء جراحة عاجلة، فلما قرر الأطباء الجراحة وظن أنه ربما يموت، قال: أمهلوني ثلاثة أيام لأرجع إلى أهلي لألقي عليهم نظرة أخيرة، ولأرتب بعض الأمور، فإن قدر الله عليَّ الوفاة أكون مطمئناً، فعاد الرجل وقبل أن يسافر بيوم إلى بريطانيا مرة أخرى لإجراء الجراحة، كان يجلس إلى جوار صديق له في مكتب إلى جوار جزار؛ -أي: رجل يبيع اللحم- ولفت نظره امرأة كبيرة تلتقط العظم وبعض قطع اللحم النيئ من الأرض وتضعه في سلة معها، فتعجب الرجل وخرج ونادى على هذه الأم الكبيرة، وقال: ما تصنعين يا أماه؟ قالت: والله يا بني لقد رزقني الله خمساً من البنات، ما ذاقوا طعم اللحم منذ عام تقريباً، فأنا أجمع لهم بعض هذه القطع.
فبكى الرجل وتأثر ودخل على هذا الرجل وقال: يا أخي هذه المرأة ستأتيك في كل أسبوع وأعطها من اللحم ما تريد.
قالت: لا، أريد كيلو فقط.
قال: بل أعطها اثنين، وأخرج من جيبه مباشرة قيمة لحم لعام كامل مقدماً، فبكت المرأة ولم تصدق، ورفعت يديها تتضرع بالدعاء إلى الله جل وعلا أن يسعد هذا الرجل وهو صاحب القلب المريض.
يقول لي: والله ما إن عدت إلى بيتي إلا وأنا أشعر بهمة ونشاط، حتى لو كلفوني بهدم بيت لفعلت ذلك.
يقول: فلما دخلت قابلتني ابنتي وقالت: ما شاء الله يا أبي أرى اليوم حركتك ونشاطك وجدك زاد، ما هذا؟ أرى وجهك يتهلل، فقص عليها القصة فبكت البنت، وكانت صالحة ورفعت يديها إلى السماء لتدعو الله جل وعلا وتقول: أسأل الله أن يسعدك بشفاء مرضك، كما أسعدت هذه المرأة وأولادها.
واستجاب الملك، وسافر الرجل بعد إصرار من أهله وهو الذي شَعُر بالتحسن الكامل، وأمام أطبائه في بريطانيا صرخ طبيبه الذي يعلم حالته وقال: ما هذا؟ فنظر إليه وقال: ما الذي حدث؟ قال: من الذي بذل لك العلاج بهذه الصورة؟ وعند أي الأطباء قد تعالجت وطلبت العلاج؟ فبكى الرجل بين يديه وقال: تاجرت مع الله فشفاني الله جل وعلا، بين غمضة عين وانتباهتها.
فاعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنك ستسعد في الدنيا والآخرة؛ إن قربت من الله وعرفت طريقه، وحققت الإيمان به، وسرت على درب الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو طريق السعادة يا شباب! هذا هو طريق السعادة يا أصحاب الأموال والمناصب! لن تشعروا بالسعادة في الدنيا والآخرة إلا إذا سلكتم هذا الدرب: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]، لتسعد بعد ذلك إن سلكت هذا الدرب سعادة حقيقية أبدية لا تشقى بعدها أبداً في جنات النعيم، {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108] هذه هي السعادة، إنها دار السعادة، ولن تدخل دار السعادة إلا إذا دخلتها في الدنيا، فحققت الإيمان، وسرت على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(75/9)
سعادة أهل الجنة ونعيمهم
أيها الحبيب الكريم! روى مسلم في صحيحه من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة، وأنجيتنا من النار، فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
أيها الأخيار! إن نعيم الجنة الحقيقي ليس في لبنها، ولا خمرها، ولا ذهبها، ولا قصورها، ولا حريرها، ولا حورها، وإنما نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه ربها، قال جل جلاله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي أن تتمتع بالنظر إلى وجه الله في جنات النعيم.
أيها الحبيب الكريم! هذا هو طريق السعادة، فداوم على هذا الدرب، واحرص عليه، واحرص على السير على طريق محمد بن عبد الله، فوالله ثم والله لن تشعر في دنياك بالسعادة ولا بنجاة وفوز وفلاح في أُخراك، إلا إذا سلكت هذا الدرب وهذا الطريق.
والله أسأل أن ييسر لي ولكم هذا الدرب، وأن يثبتنا وإياكم عليه.
اللهم اجعلنا من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، اللهم يسرنا بفضلك لليسرى، اللهم ارزقنا التقى والعفاف والغنى.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(75/10)
أميرة القصر، وقضية العصر
كان لحادث وفاة الأميرة البريطانية ديانا وعشيقها صداه المؤسف في الإعلام العربي المقروء والمسموع، مما يدل دلالة واضحة على الخلل العقدي، والفهم الخاطئ لحقيقة الولاء والبراء في الإسلام.
في هذه الخطبة أزاح الشيخ اللثام عن هذه الحقيقة وبيّن عوار الإعلام ومساويه، ووضح أهمية أمانة الكلمة، والأزمة التي يعيشها كثير من شباب هذه الأمة، ثم بيّن الفائدة والعبرة من هذه الحادثة، وأنهى الموضوع بالحديث عن الطريق الحق إلى السعادة في الدنيا والآخرة.(76/1)
قبل أن تغرق السفينة بالجميع
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (أميرة القصر وقضية العصر) هذا عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وكما تعودنا حتى لا ينسحب بساط الوقت من بين أيدينا سريعاً، فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: قبل أن تغرق السفينة بالجميع.
ثانياً: أمانة الكلمة وأزمة العقل المسلم.
ثالثاً: أين الولاء والبراء؟ رابعاً: فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وأخيراً: هذا هو طريق السعادة في الدنيا والآخرة.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً أيها الأحباب الكرام، والله أسأل أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، وأن يرزقنا جميعاً حسن الخاتمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! حملةٌ إعلامية مبالغٌ فيها بشكلٍ مثير، تستفز مشاعر كل مسلم صادقٍ غيور، حول حادث وفاة الأميرة البريطانية ديانا مع عشيقها بعد حفل عشاءٍ رومنسيٍ ساهر في مدينة باريس، الحدث في ذاته لا يستحق منا أبداً أن نهتم به لولا ما قرأت من كلمات، وما سمعت من آهاتٍ وأناتٍ وتوجعات، وما رأيت من حالاتٍ واعتقاداتٍ تصيب عقيدة الولاء والبراء بطريقٍ مباشر، لولا ذلك ما وقفت اليوم مع حضراتكم هذه الوقفة لأفرد خطبة جمعة كاملة لمثل هذا الموضوع، فلقد رأيت أنه من الواجب الذي سأُسأل عنه بين يدي الله جل وعلا أن أقف اليوم مع حضراتكم وقفة متأنية مع هذا الحدث؛ لأستخرج منه الدروس والعظات والعبر التي تربي النفوس، وتربط القلوب بعلام الغيوب جل وعلا.
فالداعية الصادق -أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الصادقين- هو الذي ينبض قلبه بحب أمته، ويتمزق قلبه في الوقت ذاته حسرةً على ما أصاب الأمة من انحرافٍ مزرٍ عن منهج الله، وعن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذا فهو يستغل الأحداث المتجددة؛ ليطرق على الحديد وهو ساخن؛ ليستخرج الدروس التربوية، والعظات الكبيرة، والعبر المفيدة.
لذا فالداعية الصادق هو الذي يختار اللحظة المناسبة التي تبلغ فيها حرارة الانفعال درجة الانصهار؛ ليجلي لأمته المنهج التربوي الإسلامي اقتداءً بالحبيب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك حدثاً من الأحداث في مكة أو المدينة في حياة الرعيل الأول إلا ووظف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحدث توظيفاً تربوياً فعالاً رائعاً، إذ أن التربية بالأحداث المتجددة من أعظم وسائل التربية.
ومن ثم وقفت اليوم بين يدي حضراتكم محذراً أبناء أمتي قبل أن تغرق السفينة بالجميع، بالصالحين والطالحين، والمهرجين والساقطين، فنحن جميعاً -يا إخوة- نركب سفينة واحدة، يركب هذه السفينة الصالحون والطالحون كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديثه الصحيح الذي رواه البخاري من حديث النعمان قال عليه الصلاة والسلام: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة -أي ضربوا القرعة على سفينة- فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذي في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا -يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم- لو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً) فنحن جميعاً ركاب سفينة واحدة، يركب السفينة الصالح والساقط، التقي والشقي، إن نجت السفينة نجا الجميع، وإن هلكت السفينة هلك الجميع، هذا الواجب الثقيل، واجب الأخذ على أيدي المهرجين والواقعين في حدود رب العالمين، هذا الواجب يا إخوة قد حمله الله والنبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم على كل مسلمٍ ومسلمة على وجه الأرض، كلٌ بحسب قدرته، كلٌ بحسب استطاعته، كلٌ بحسب فكره وعطائه وقدراته.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فإن رأيت منكراً -أيها المسلم- فغير هذا المنكر بيدك إن استطعت ذلك بالضوابط الشرعية والقواعد والأصول المرعية، فإن عجزت فبلسانك، فإن عجزت فبقلبك، ولا عذر لك عند الله جل وعلا إن لم تغير هذا المنكر بقلبك.
وتغيير المنكر بالقلب -أيها الأخيار- يقتضي منك أن تترك المكان الذي يرتكب فيه المنكر وأنت عاجزٌ عن تغييره، أيها المسلم وأن تُبغض المنكر وأهله، هذا الواجب إن لم تتحمله الأمة وقع بالأمة كلها عقاب الله وعذابه وسخطه، ويتعرض لهذا العقاب الصالحون مع الطالحين، ففي الصحيحين من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق النبي بالسبابة والإبهام، فقالت زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم إذا كثر الخبث).
فواجبٌ على الأمة تجاه هذه المهزلة التي نشهدها على صفحات الجرائد، بل وفي جل بيوت المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واجبٌ على أهل الإصلاح من الصالحين، على أهل المعروف المنكرين المنكر أن يحذروا الأمة من هذه السفاسف الرهيبة، وأن يذكروا الأمة بقضاياها الكبرى التي أراد لها الأعداء أن يصرفوها عنها، وسقط في هذه المصيدة وهذا الفخ الخطير كثيرٌ ممن يديرون الآن دفة التوجيه والتربية والقيادة في بلاد المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وراع الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها الذئاب
ويجب عليك أيها المسلم يا من لك العقل والفهم الرشيد السديد أن تقوم اليوم مذكراً، وأن تقف اليوم محذراً؛ لأننا نعيش زمن الفتنة، نعيش الزمن الذي قدم فيه الساقطون الزناة وأهل الدعارة ليكونوا القدوة لشبابنا، ليكونوا القدوة لنسائنا وبناتنا، وقد وصف الصادق هذا الزمان وصفاً دقيقاً محكماً كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم في المستدرك وصحح الحديث الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنواتٍ خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة! قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) صدق المصطفى ورب الكعبة، لقد تكلم التافهون الآن، وأُفرد للتافهين الصفحات الطوال، وأُفرد للتافهين الساعات الطوال ليحركوا عقول الأمة، ليوجهوا شباب الأمة توجيهاً يناقض تماماً ما أراده الله جل وعلا، وما أراده المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمةٍ أوجب الله عليها أن تحمل مشعل الهداية لهذه البشرية كلها، ولِمَ لا وبين يديها كتاب الله جل وعلا وسنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزداد هذا الواجب عليك الآن أيها الأخ الحبيب؛ لأننا نعيش هذا العصر الذي خان فيه كثيرٌ من أهل الفكر الأمانة، وتعرض فيه العقل المسلم لأزمة خطيرة تخلع القلوب الحية.(76/2)
أمانة الكلمة وأزمة العقل المسلم
أمام كل حدث نرى هذه الأزمة، أمام كل مصيبة نرى أزمة العقول المسلمة، ونرى مدى التفاهة لكثيرٍ ممن يديرون دفة التوجيه والقيادة على صفحات الجرائد والمجلات ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات.
أيها الأحبة الكرام! الكلمة أمانة، الكلمة في الجريدة، في الإذاعة، في التلفاز، في المسجد، في الوظيفة، في الشارع الكلمة التي ينطق بها الإنسان أمانة ثقيلة، أمانة عظيمة، الكلمة شأنها عظيم، الكلمة خطرها جسيم، ولِمَ لا؟ فبكلمة واحدة يدخل المرء دين الله، وبكلمةٍ واحدة يخرج المرء من دين الله، وبكلمة واحدة ينال المرء رضوان الله، وبكلمة واحدة ينال المرء سخط الله، قال جل في علاه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم) كلمة! هذه الأمانة العظيمة أمانة الكلمة، أمانة توجيه العقل المسلم، هذه الأمانة الثقيلة يتحملها العلماء، والدعاة، والأدباء، والمفكرون، والكتَّاب، والصحفيون، والمربون، والآباء، والأمهات، وكل من يساهم في تحريك دفة التربية والقيادة والتوجيه بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، يتحمل كل هؤلاء هذه الأمانة الضخمة، وهذه المسئولية العظيمة الكبيرة، فالأمة كلها تبعٌ لهؤلاء، الأمة بتوجهاتها وبعقلياتها وبفكرها تبعٌ لهؤلاء القادة ممن يشكلون عقلية هذه الأمة، الأمة تنتظر نتاج هؤلاء، وتنتظر توجيه هؤلاء، وتنتظر تقى هؤلاء.
وأعظم دليل على فشل جل هؤلاء ما نراه الآن من حالٍ مهين خطيرٍ لهذه الأمة، حيث أننا نرى الأمة إلا من رحم ربك تتعامل مع كل حدث وأزمة بسطحية مروعة، بسطحية مدمرة، نرى أن المسلم لا فارق بينه وبين هذا الرجل الغربي ألبتة، فالمسلم يتعامل مع الحدث كما يتعامل مع الحدث ذاته الرجل الغربي الذي لا يؤمن بالإله، ولم يهتد من حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكمن الخطر أن الذي يحرك ويشكل هذه العقليات المسلمة وهذه السطحية الخطيرة هم القادة، هم العلماء، هم الكتَّاب، هم الصحفيون، هم الأدباء، وبكل أسف رفعت الأمة هؤلاء على الأعناق، وفوق الرءوس، وهم في الحقيقة إلا من رحم ربك كالطبل الأجوف يُسمع من بعيد وباطنه من الخيرات خالٍ، جل هؤلاء ما يعرف قرآناً، ولا يعرف سنة، ولا يتصور المنهج التربوي الإسلامي بأصالته وسموه وكماله، ومن ثم فإن أي حدثٍ لا يمر على هذا (الفلتر) النقي، على (فلتر) المنهج التربوي الإسلامي ليوظف هذا الأديب أو الصحفي أو الكاتب هذا الحدث توظيفاً يتلاءم مع منهج الله ومع منهج رسول الله فيخرج المسلم بعد ذلك من خلال هذه الرؤية المسلمة العقلية الواسعة، يخرج المسلم بعد ذلك برؤية تخالف تماماً رؤية الرجل الغربي الذي سطر لنا هذا الحدث ليصرف الأمة عن دينها وعن طريق نبيها صلى الله عليه وسلم.
كل الجرائد والمجلات والإذاعات والصحف ضخمت الحدث لامرأة زانية، على أعلى مستويات هذه الأمة، قدم الحدث لامرأة ماتت وهلكت مع عشيقها، يقدم الحدث بهذه الصورة التي تثير حالة غبش تحياها الأمة ويحياها الشباب، فيقف الآن المسلم العادي البسيط وهو لا يستطيع أبداً أن يستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، لا يعرف أبداً أين القدوة، ومن هو القدوة والمثل؟ وهذا من أخطر ما تعانيه الحركة الإسلامية الآن، ألا وهي حالة الغبش والتذبذب التي يعيش فيها المسلمون أو جل المسلمين بمعنىً دقيق.
ولا يمكن على الإطلاق يا إخوة أن تخرج الأمة لنصرة دينها إلا إذا خرجت من حالة الغبش والتذبذب، إلا إذا تمايز الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمانٍ لا نفاق فيه، وفسطاط نفاقٍ لا إيمان فيه، إلا إذا أسقطت الأمة كل هذه الشعارات المضللة، وكل هذه اللافتات البراقة الخبيثة التي يتخفى خلفها أعداء هذه الأمة ممن لا يرقبون في المؤمنين والمؤمنات إلاً ولا ذمة.
لقد آن الأوان بكل صدق ليرفع مثقفو الأمة ومفكروها وعلماؤها وأدباؤها وقاداتها، آن الأوان أن يتخلصوا من عقدة النقص أمام الغرب بكل ثقافاته ومعطياته وسلوكياته، آن الأوان أن يحذر هؤلاء القادة الأمة من هذا الذوبان الخطير في هذه المناهج الغربية والثقافات الغربية التي تصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتنا وأخلاقنا وديننا، وقد حذر الصادق المصطفى من هذا الذوبان كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ -وفي لفظ: خربٍ- لتبعتموهم، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) مَن غير هؤلاء؟ تبعت الأمة سنن هؤلاء مع أن الأمة تعلم يقيناً أن هؤلاء على ضلالٍ وباطل، وأنها تحمل منهج ربها ومنهج نبيها صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد آن الأوان أن يتخلص هؤلاء من عقدة النقص أمام الغرب بثقافاته، ومعطياته، وسلوكياته، لا سيما في الجانب الأخلاقي التربوي، وإن كنت في الوقت ذاته أقول بأعلى صوتي: لا حرج على الإطلاق أن تستفيد الأمة من حضارة الغرب في الجانب العلمي والمادي والصناعي، ليت الأمة نقلت أروع ما وصل إليه الغرب في جانب التقدم العلمي، ليت الأمة فعلت ذلك، لكنها بكل أسف تركت أروع -وأنا أقر- أروع ما وصلَ إليه التكتيك الغربي في عالم الاتصالات، في عالم المواصلات، في عالم الذرة، في عالم الكيمياء، في عالم الطب، في عالم الجيولوجيا، في كل هذه العوالم تركت الأمة أروع ما وصل إليه الغرب في هذا الجانب، وراحت لتنقل أعفن وأقذر وأرخص وأحقر ما وصل إليه الغرب في الجانب الأخلاقي والتربوي، الذي يصطدم مع عقيدتنا وأخلاقنا، وقيمنا وديننا، حتى رأينا من بني جلدتنا من يقول: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم! تبعية ذليلة، وهزيمة خطيرة، خذ أفضل ما عند الغربيين لا حرج، واترك أعفن ما عند الغربيين مما يصطدم مع دينك وقيمك وأخلاقك.
إننا نشهد أزمة خطيرة للعقل المسلم تسبب فيها هؤلاء القادة الذين يوجهون ويقودون التربية ويتحكمون في توجيه وتشكيل عقليات أبناء هذه الأمة، إنها أمانة الكلمة، وتوجيه العقل المسلم أمانة، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله جميعاً في توجيه الأمة الوجهة الصحيحة التي أرادها لها ربها ونبيها صلى الله عليه وسلم؛ لتتبوأ الأمة من جديد مكانتها التي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وأنا لا أنكر في الوقت ذاته أننا نرى من هؤلاء القادة من علماء وأدباء ودعاة ومفكرين وصحفيين من تحترق قلوبهم على أحوال هذه الأمة الجريحة، لكنهم يصرخون في صحراء مقفرة، أسأل الله أن يوصل صرخاتهم الصادقة إلى قلوب وآذان هذه الأمة في الشرق والغرب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
لا أريد أن أطيل مع كل عنصر، فإن الموضوع والله طويل، وأنا كما ترون لا أريد أن أعالج الحدث في ذاته، وإنما أريد كما ذكرت أن أستخرج الدروس والعظات والعبر التي يجب على كل مسلمٍ أن يخرج بها من مثل هذه الأحداث التي تبين في كل مرة حجم انحراف الأمة عن منهج ربها، وطريق نبيها صلى الله عليه وسلم.(76/3)
أين الولاء والبراء؟
والله إن القلب ليحزن، مع كل حدث نرى شرخاً رهيباً لصرح عقيدة الولاء والبراء، رأينا هذا الشرخ الرهيب عند موت العندليب الأسمر، وعند قضية عبدة الشيطان، وعند قضية الاستنساخ، وعند موت سندريلا القرن العشرين، نرى هذا الشرخ الرهيب في صرح عقيدة الولاء والبراء، مسلمٌ في مصر يضرب عن الطعام من أجل سندريلا القرن العشرين، ومسلم في الباكستان ينتحر من أجل سندريلا القرن العشرين، وثالثٌ يقول: لقد ماتا معاً ليعيشا معاً في الجنة هكذا! يقول الإمام ابن القيم: من أحب شيئاً غير الله كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، وهذه هي محبة المشركين، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165].
اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب نبيك وحب المؤمنين الصادقين، وحب كل عملٍ يقربنا إلى حبك يا أرحم الرحمين! {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] المؤمن نعيم قلبه وقرة عينه في حب الله ورسوله والمؤمنين الصالحين.
قال المصطفى كما في الصحيحين من حديث أنس: (ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار) المؤمن قرة عينه ونعيم قلبه في البراءة من الشرك والمشركين، كيف يتعلق قلبك بمشركٍ أو مشركة؟ انتبه يا مسلم انتبه لهذه الكلمات، لا يصح دين ولا إسلام ولا إيمان إلا بموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والبراءة من الشرك والمشركين، فتش عن دينك، فتش عن عقيدة التوحيد في قلبك، قلبك يتعلق بمن؟ قلبك فيه من؟ فيه حب الله، فيه حب رسول الله، فيه حب الموحدين، أم فيه حب الساقطين والراقصين والمشركين؟ نقب يا مسلم، والله إني أصرخ بصدقٍ وإخلاص فأنا أحب لك ما أحبه لنفسي، أنا أخاطب المسلمين على وجه الأرض: نقبي يا مسلمة، يا من تعلقت بمغنٍ ساقط! ويا من تعلقت بممثلٍ هابط! فكر يا مسلم ونقب في قلبك عن حب الله ورسوله والمؤمنين، فإن امتلأ قلبك بحب الله ورسوله والمؤمنين طرد أيَّ حبٍ للشرك والمشركين وللباطل والمبطلين، وللساقطين والراقصين، فنقب الآن بصدق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [المائدة:51] فنقب عن هذا الحب في قلبك الآن اصدق الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] قرآن ربك يا مسلم! قال حذيفة بن اليمان: [فليخشَ أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري لهذه الآية: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
يا من وحدتم الله! يا من أعلنتم الإيمان بالله! نقبوا عن الولاء والبراء في قلوبكم، لقد ضاعت عقيدة الولاء والبراء مع هذا التصالح والتقارب والود مع اليهود، مع الشرك والمشركين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكانِ
وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطانِ
إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصانِ
فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتانِ
وقال الشاعر:
نعم لو صدقت الله حين زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفرُ
وواليت أهل الحق سراً وجهرةً ولما تعاديهم وللكفر تنشرُ
فما كل من قد قال ما قلتَ مسلمٌ ولكن بأشراطٍ هنالك تذكرُ
مباينة الكفار في كل موطنٍ بذا جاءنا النص الصحيح المقررُ
وتطبع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذاك وتجهرُ
فهذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنتَ تشعر(76/4)
فاعتبروا يا أولي الأبصار
قولوا من الواجب أن يدندن الإعلام المسلم على العظة والعبرة، فلقد تحطمت السيارة التي تركبها المرأة مع عشيقها، وتحولت إلى كومةٍ من الحديد تشبه علبة السجائر التي داستها الأقدام، والعهدة على جريدة الأهرام على صدر صفحتها الأولى، أما لنا في هذا عبرة؟! ولكن العقول وجهت توجيهاً آخر، أما المؤمن الذي يرى برؤية القرآن، ويرى برؤية السنة ينظر إلى الأحداث نظرة أخرى؛ لأن المؤمن يحمل قلباً وعقلاً يختلف تماماً عن قلب وعقل رجلٍ لم يوحد الله جل وعلا، ولم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه السيارة الضخمة الفخمة تتحول في غمضة عينٍ وانتباهتها إلى كتلة حديد؟! نعم أراد ذلك العزيز الحميد، قضى الملك: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] إنه الموت يا سادة، إنه الموت يا قادة، إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي يسكت عندها جبروت المتجبرين، إنها الحقيقة الكبرى التي يسقط عندها عناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرهاً العصاة والطائعون، بل وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون، قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
وقال جل وعلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أنك تموت والله حيٌ لا يموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير؟ كل باكٍ فسيبكى! وكل ناعٍ فسينعى! وكل مذخورٍ سيفنى! وكل مذكورٍ سينسى! ليس غير الله يبقى! من علا فالله أعلى! أين الظالمون؟ أين الملوك؟ أين الحكام؟ أين الزعماء؟ أين الوزراء؟ أين الأمراء؟ أين الصالحون؟ أين الأنبياء؟ أين الطالحون؟ أين الظالمون؟
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان
وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلمٌ وطغيان
فهل أبقى الموت ذا عزٍ لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان
لا والذي خلق الأكوان من عدمٍ الكل يفنى فلا إنس ولا جان
قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] قال ابن عباس: [أي: من يرقى بروحه إلى السماء] أيرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقال قتادة: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] أي: من الذي يبذل له الرقية، ومن الذي يقدم له الطب والعلاج ليحول بينه وبين الموت؟ تحركت مستشفى كاملة إلى الأميرة في موطن الحادث، واستمر أكابر الأطباء لمدة ساعتين كاملتين في إجراءاتٍ وإسعافاتٍ أولية سريعة ليحفظوا هذا القلب، وليمنعوا الروح، ولكن رب الروح قال: لا، إذا قدر الملك شيئاً فلا راد لقضائه، والله لا يمنعك منصبك أياً كنت، والله لا يمنعك مالك مهما كان غناك، والله سترحل، والله لو دام المنصب والكرسي لغيرك ما وصل إليك، هذا طبيبٌ في المخ، وهذا في القلب، وهذا في العظام، وهذا في الأعصاب، وهذا في البطن وغير ذلك، والكل قد التف حول الأميرة ولكن ملك الملوك جل جلاله كان قد أصدر الأوامر لملك الموت، فاستقبل ملك الموت هؤلاء جميعاً ونفذ أمر الله وقضاءه وقدره {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] إي: من يبذل له الرقية والطب والعلاج؟ لا، إن قضى الملك شيئاً فلا يستطيع أطباء الدنيا أن يحولوا بين هذا وبين ما أراده الله جل وعلا.
أيها المسلم! انظر إليها التف من حولها الأطباء كلٍ يدعو لها الرقية، كل يبذل لها العلاج، وانظر كذلك إلى المسلم الذي نام على فراش الموت والتف من حوله الأطباء كلٌ يبذل له الرقية ويبذل له العلاج فهو من هو؟ وهي من هي صاحبت المنصب والجاه والوجاهة؟ وهو من هو صاحب المنصب والجاه والوجاهة؟ انظر إليه اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يشعر بزمهريرٍ قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه بل إلى جسده كله.
وفقه الله لكلمة لا إله إلا الله، فينظر في لحظة صحوة بين السكرات والكربات فإذا وعى ما حوله من الأطباء والأهل والأحباب نظر إليهم نظرةً باكية، نظر إليهم نظرة استعطاف، نظر إليهم نظرة رجاء: يا إخواني! يا أحبابي! يا أهلي! يا أولادي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، أخفوني بأموالي، أخفوني بأعماركم، أنسيتم من أنا؟! أنا أبوكم! أنا أخوكم! أنا الذي بنيت لكم القصور يا أولادي! أنا الذي عمرت لكم الدور! فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين، أو يوماً أو يومين، أو سنةً أو سنتين؟ لا ثم لا، ثم يعلو صوت الحق فيقول جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96] سبحانك يا من ذللت بالموت رقاب الأمراء والأميرات والجبابرة، وأنهيت بالموت آمال الحكام والقياصرة، ونقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاسات الهوان والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب، سبحانك {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96].
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنبُ
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعبُ
والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتصلبُ
وغرور دنياكَ التي تسعى لها دارٌ حقيقتها متاعٌ يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تُعد وتحسبُ
أسأل الله أن يرزقنا جميعاً حسن الخاتمة، وأن يرزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنةً ورضواناً، ولا أريد أن أطيل عليكم أكثر من ذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(76/5)
طريق السعادة في الدنيا والآخرة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! أريد أن أُذكر إخواني وأخواتي من المسلمات ممن فتنوا بمثل هذه الحياة التي تعرفوا عليها من خلال هذه الحملة الإعلامية المكثفة، فظن كثيرٌ منهم أن هؤلاء هم الذين يعيشون حياة السعادة، أحببت أن أذكر نفسي وإخواني وأخواتي بأن أهل الكفر والمعصية وإن مشت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، فإن ذل المعصية في قلوبهم يأبى الله إلا أن يذل من عصاه، كما يأبى الله إلا أن يسعد من أطاعه واتقاه.
السعادة يا إخوة والله ما كانت في القصور، فكم من قصورٍ فارهة يعيش أهلها في شقاء وظنك.
السعادة يا إخوة والله ما كانت في المناصب، فكم من ألوفٍ يجلسون على الكراسي لا يشعرون بلذة النوم ولا راحة الضمير.
السعادة يا إخوة والله ما كانت في المال، فكم من أصحاب أموالٍ يقلقون ويخافون في الليل والنهار.
لا يشعر بالسعادة إلا من رزقه الله الإيمان والتوحيد، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] لا يشعر صاحب المال بلذة وسعادة إلا إذا ملأ الله قلبه إيماناً فعرف وظيفة المال والغاية من المال.
لا يشعر صاحب المنصب باللذة والسعادة إلا إذا استغل منصبه وكرسيه في طاعة الله، وفي تفريج كربات الناس وخلق الله، لا يشعر صاحب القصور بالسعادة إلا إذا عمرها بذكر الله وتقوى الله والإيمان بالله جل وعلا، فإن السعادة يا إخوة مصدرها الصدر: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فقد يعيش الإنسان في قصرٍ فاره، ويقف في حديقة القصر الرائعة، ومع ذلك يشعر باختناق، بل يفكر في الانتحار لماذا؟!! لأن السعة ليست في المكان وإنما هي في الصدور: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] نعمة شرح الصدر، نعمة الرضا، نعمة الطمأنينة، نعمة الإيمان، نعمة الذكر، نعمة الأنس بالله جل وعلا، نعمة الشوق إلى لقاء الله، فكم من فقيرٍ قد لا يجد قوت يومه ومع ذلك فهو يشعر برضا، ويشعر بانشراحٍ في صدره، ويشعر بسعادة، وهؤلاء هم الذين تكتمل سعادتهم في الآخرة إن شاء الله تعالى، بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108].
وفي صحيح مسلم من حديث أنس: (يقول الله لأهل الجنة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقول أهل الجنة: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيءٍ أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) وفي لفظ: (فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل جلاله) قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم ارزقنا حسن الخاتمة.
اللهم ارزقنا جميعاً حسن الخاتمة، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنةً ونعيماً ورضواناً، اللهم إن أردت بالناس فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود وعملاء اليهود، برحمتك يا أرحم الراحمين، بقدرتك يا قوي يا متين! اللهم املأ قلوب اليهود ناراً، اللهم املأ بيوت اليهود ناراً، اللهم دمر بيوتهم قبل أن يدمروا الأقصى، اللهم كما روعوا إخواننا في فلسطين ولبنان فروعهم يا رب العالمين! اللهم كما روع اليهود إخواننا في فلسطين ولبنان فروعهم يا رب العالمين! اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وفك أسرنا، وتول أمرنا، وأحسن خلاصنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، نشكو إليك خيانة الخائنين، وضعف الموحدين.
اللهم اجبر كسرنا، وارحم ضعفنا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصرنا من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والبلاء والوباء وجميع بلاد المسلمين.
أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأٍ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(76/6)
تبعية ثقيلة
إن مكانة الدعوة إلى الله تعالى عظيمة؛ فهي أشرف عمل يقوم به المسلم، وهي فرض عين على كل مسلم بحسب الاستطاعة، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، فلابد أن تكون هي الهم الذي يحمله كل مسلم.
لذلك تكلم الشيخ عنها واصفاً لها بأنها ثقيلة، مبيناً ضرورة الإخلاص فيها، وقد أعقب ذلك بالحديث عن الحكمة، وضرورة معرفة واقع الأمة، ثم ختم درسه بكلمة مهمة في الدعوة إلى الله.(77/1)
مكانة الدعوة إلى الله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا، الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة والمصطفى في جنته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: إننا الليلة على موعد في هذه اللحظات مع محاضرة تحتاج إلى وقت طويل، إننا الليلة على موعد مع هذه التبعة الثقيلة، والأمانة الكبيرة، والمسئولية العظيمة، ألا وهي تبعة الدعوة إلى الله عز وجل، الذي شرف الله جل وعلا بها الأنبياء والمرسلين، وجعلها وظيفة باقية في خير أمة أرسلت للناس، فالدعوة إلى الله جل وعلا هي أشرف عمل على ظهر الأرض، ولم لا وهي دعوة أنبياء الله ورسله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] إنها وظيفة الأنبياء، ووظيفة المرسلين، وقد امتن الله عز وجل على لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فجعل هذه الوظيفة في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
فما من نبي إلا وله أنصار، وحواريون وأصحاب، يحملون راية دعوته، ويتحركون بها معه في حضوره وبعد وفاته، وقد شرف الله عز وجل هذه الأمة فنقل إليها وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن ثم شهد الله سبحانه وتعالى لها بالخيرية؛ فشهادة الله بالخيرية لهذه الأمة -أيها الأحبة- لم تكن اعتباطاً ولم تكن من فراغ، وإنما لأن هذه الأمة قد حملت راية الدعوة إلى الله، وتحركت لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولتعلن على مدى الزمان والمكان إيمانها بالله جل وعلا، قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران:110].
والدعوة إلى الله عز وجل الآن -كما قال أكثر علمائنا- فرض عين وليست فرض كفاية؛ وذلك لكثرة المنكرات، ولقلة الآمرين بالمعروف، ولتحرك أهل الباطل لباطلهم بكل السبل والوسائل، فأصبحت الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل على حسب استطاعته وعلى حسب مقدرته.
وأنا أود أن يفرق الأحبة بين أمرين: بين طلب العلم الشرعي، وبين الدعوة إلى الله، فكثير من الأحبة الكرام يتقاعس عن الدعوة إلى الله جل وعلا بحجة أنه لا زال يطلب العلم! وأنا أقول: من قال لك بأن طلبك للعلم سينتهي عند فترة من فترات العمر، إن طلب العلم لا ينتهي ما دمت في هذه الحياة، رأى أحد الناس إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى يحمل المحبرة بين يديه يوماً من الأيام، فتعجب هذا الشيخ، وقال: يا إمام، وصلت إلى ما وصلت إليه ولا زلت تحمل المحبرة! فقال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة.
فطلب العلم لا ينتهي، ولم لا، ولا يزال الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم ممتداًً إلى قيام الساعة: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]! فلا بد أن نفرق بين طلب العلم الشرعي الذي لا ينتهي عند فترة من الفترات، وبين التحرك في الدعوة إلى رب الأرض والسماوات، كل بحسب قدرته واستطاعته؛ لقول النبي، بل وإن شئت فقل: لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا الحديث للوجوب لا للندب، إذ لم تأت قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب.
والحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية) فكم تحفظ -أيها المبارك- من الآيات؟ وكم تحفظ من الأحاديث؟! (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).(77/2)
ما الهم الذي تحمله؟
فكر -أيها الكريم- ما هو الهم الذي تحمله في قلبك؟ إن أهل الباطل قد تحركوا الآن لباطلهم بكل السبل، بذلوا الأوقات والأموال والأعمال والطاقات الجبارة الهائلة لباطلهم، وتقاعس أهل الحق عن حقهم، عن الحق الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض والجنة والنار، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وكما يفكر الواحد منا -أيها الأحبة- للإبداع في عمله والإبداع في وظيفته -وهذا أمر محمود مشكور- يجب عليه أن يفكر كيف يبدع لدين الله، وكيف يبدع لدعوة الله، وكيف يسخر أمواله وطاقاته ونساءه وأولاده ووقته وعرقه لدين الله جل وعلا.
أنا لا أختلف معك أنك تحمل في قلبك هموماً كثيرة، فهذا يحمل هم الوظيفة، وهذا يحمل هم البيت، وهذا يحمل هم الأولاد، وذاك يحمل هم المال إلخ، لا بأس على الإطلاق، لكن فتش في قلبك ما هو أول هم تحمله؟ هل هو هم الدعوة؟! هل هو هم الدين؟! هل هو هم هذه الأمة المسكينة التي تشرذمت وذلت الآن للذليل قبل العزيز، وللقاصي قبل الداني، وللضعيف قبل القوي؟! فكر في هذه الدعوة هل فكرت في أن تدخر جزءاً من مالك لتستغل هذا المال في الدعوة إلى الله إن عجزت أنت أن تتحرك بلسانك؟ فإن الدعوة إلى الله لا تقتصر على الدعاة والعلماء، بل لولا أن الله قد سخر شباباً هنا ما سمعتم مثل هذه الكلمات، وهؤلاء جنود، هؤلاء الإخوة الكرام في مركز الشباب هم الذين قاموا على أمر الدعوة، وهم الذين تكلفوا لتسمعوا دعوة الله عز وجل، فهذه دعوة، وهذا الذي أخذ إعلاناً لمحاضرة ووضعه في مسجد دعوة، وهذا الذي دعا أخاه، أو دعا زوجته، أو دعا ابنته ليحضر ليكثر سواد المسلمين، هذه دعوة، وهذا الذي طبع مائة أو ألف شريط، وتحرك على سائقي السيارات ودفع إليهم الأشرطة ليبلغوا دين الله، قد شارك في الدعوة، فلا تحقرن من المعروف شيئاً، فمن رحمة الله سبحانه أن فتح لنا من المعروف أبواباً كثيرة؛ ليتحرك كل مسلم على قدر استطاعته، وعلى قدر طاقته لدين الله عز وجل.
ولكن الذي ينبغي أن نفجره في القلوب، هو أن ينام كل مسلم ليفكر في دين الله وفي دعوة الله، لا تنم ملء عينك، ولا تأكل ملء بطنك، ولا تضحك ملء فمك وأنت منشغل عن دين الله، وعن دعوة الله، وكأن الأمر لا يعنيك، والله لتسألن عن هذا الدين: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) ستسأل عن كل هذه النعم عن الأموال، وعن العمر، وعن الصحة، وستسأل عن كل هذه النعم بين يدي الله عز وجل، وفي قبرك ستسأل عن هذا الدين من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فهل ستستطيع أن تجيب وتقول: ديني الإسلام وأنت ما بذلت لدين الله! وأنت ما تحركت لدعوة الله! وأنت ما أنفقت الوقت والجهد والمال والطاقات الهائلة التي منَّ الله بها عليك لدعوة الله؟!(77/3)
الدعوة إلى الله واجب الجميع
إن الدعوة إلى الله الآن -وأقصد الدعوة العامة- فرض عين على كل مسلم ومسلمة، لا سيما وقد قل الدعاة، وقل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، لأننا جميعاً -أيها الأحبة- ركاب سفينة واحدة، إن نجت السفينة نجا الصالحون والطالحون، وإن هلكت السفينة هلك الصالحون والطالحون، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة -أي: ضربوا قرعة من الذي يسكن أعلى السفينة، ومن الذي يسكن في قاعها- فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
كانوا إذا أرادوا أن يأتوا بالماء مروا على من يسكن الطابق الأعلى، فكأنهم تضايقوا من أذاهم للآخرين، فقالوا: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا) ما الذي يمنع أن نخرق في قاع السفينة خرقاً ونأخذ الماء مباشرة من قاع البحر، ولا نمر على من فوقنا ونؤذيهم بمرورنا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
فنحن جميعاً -أيها الأحبة- ركاب سفينة واحدة، ينبغي أن يبذل كل واحدٍ منا على قدر استطاعته، لأننا نلحظ في الأمة سلبية قاتلة وسلبية مدمرة، أخرت الأمة سنوات طويلة، بحجة مفهوم أو فهم مغلوط لآية محكمة من كتاب الله، ألا وهي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] كثير من الأحبة يردد الآن هذه الآية، ويقول: ما شأني بضلال الضلال، إذا كنت أنا على طريق الكبير المتعال، وعلى طريق منهج سيد الرجال، لا ينفعني ولا يضرني!! لا.
لقد خاف الصديق الأكبر رضي الله عنه يوماً من هذه السلبية القاتلة، ومن هذا الفهم المغلوط لهذه الآية، فارتقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه؛ أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) وفي لفظٍ صحيحٍ آخر: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده -وفي لفظ- ثم يدعونه فلا يستجاب لهم) والحديث رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح.
فينبغي أن يبذل كل واحد منا على قدر استطاعته لدين الله جل وعلا.(77/4)
السبيل الصحيح في الدعوة إلى الله
ثانياً: في عجالة سريعة: ما هو السبيل الصحيح للدعوة؟ وضح الله عز وجل هذا السبيل في آية محكمة؛ فقال جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] أدعو إلى الله، لا إلى جماعة بعينها، أتعصب لها تعصباً بغيضاً أعمى، يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، إن سألوك عن شيخك فقل: شيخي رسول الله، وإن سألوك عن منهجك فقل: القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وإن سألوك عن موطنك فقل: ألا إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن سألوك عن جماعتك فقل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78].
لا نريد أن نتعصب تعصباً بغيضاً أعمى للجماعات، وأن أجعل كل همي الجماعة، أدعو إليها وأوالي وأعادي عليها، هذا من العقبات الكئود التي تؤخر العمل الإسلامي الآن، إنما السبيل أيها الأحبة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم".
لا ينبغي أن نرفع شخصاً من الشيوخ أو من العلماء، لنوالي ونعادي عليه، لنلقي السلام على من جلس بين يديه، ولنغض الطرف عمن فارق مجلسه، هذا لا يليق، إنما يجب أن يكون ولاؤنا وبراؤنا لله جل وعلا، لا لشخص من الأشخاص ولا لجماعة من الجماعات، ولا لمنهج يخالف منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(77/5)
حاجة الدعاة إلى التجرد والإخلاص
إننا الآن -يا إخواني- في منعطف خطير، يجب علينا أن نجرد فيه دعوتنا إلى الله، وأن نجرد فيه أعمالنا لله، أن نجرد أقوالنا وأفعالنا له جل جلاله، وأن نبتغي بدعوتنا وقولنا وعملنا وفعلنا وجه الله سبحانه.
ورد في الحديث الطويل الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استشفع لم يشفع له، وإن استأذن لم يؤذن له)، رجل مطموس، لا يزعجه أين مكانته بين الدعاة إلى الله، هل هو في الصدارة بين صفوف القادة، أم في المؤخرة بين صفوف الجند، ما دام على طول الطريق يعمل لله جل وعلا لا يزعجه أن يشير إليه الإعلاميون والصحفيون أو لا يشيروا، لأنه لا يريد طبلاً أو مزماراً إعلامياً أو سياسياً، إنما يريد أن يرضي ربه جل وعلا، في سبيل الله لا يبتغي إلا رضاه.
واعلم أن من أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة لماذا؟ لأنه لم يبتغ بعلمه أو قراءته وجه الله، هؤلاء هم أهل الرياء والكذب، وإن زوروا في الدنيا أنهم يعملون من أجل الله، إلا أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، انظروا إلى هذا الدرس من دروس التجرد لله، لأنني أعلم علماً يقيناً أن الله لن ينصر الأمة إلا بمثل هذه القلوب المتجردة، التي تخلص عملها ودعوتها لله جل وعلا.
لما ولى الصديق -أيها الأخيار الكرام- خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، على أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح -انتبه ماذا قال الصديق لـ أبي عبيدة - أرسل له رسالة ليقول له فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة على بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة إلا لأني ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي خيرٌ منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام] انظروا إلى التجرد، وانظروا إلى العمل لوجه الله سبحانه وتعالى.
يا إخوة: ينبغي ألا يزعجنا من سيرفع الراية إن كانت الراية سترفع، ينبغي ألا نخاف على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت ستقال، يرفع الراية أبو عبيدة فلترفع، وليقف خالد إلى جانبه ليعينه إن كلَّ أو مل، يقول الحق أبو عبيدة فليقل، نريد إخلاصاً لله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] وأنت عندي خير منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
انظر إلى عظمة أبي عبيدة، هل قال أبو عبيدة: لن أطيع أمر الخليفة ومعي الجيش، وإنما تنازل على الفور عن القيادة، ليصبح أبو عبيدة جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً، وانظر إلى عظمة خالد هو الآخر، يتلقى الأمر من خليفة رسول الله فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة ليقول فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمين أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام، والقيام على جندها، والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك وما أردته -والله ما أردت هذا ولكنه الإخلاص لله، إنه التجرد- فأنت في موضعك الذي أنت فيه يا أبا عبيدة لا نقطع أمراً دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام].(77/6)
معرفة واقع الأمة
أيها الأحبة: السبيل الموصل إلى الجنة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] على حِلْم، وعلى حكمة وفهم، وعلى علم دقيق بواقع الأمة، فلا ينبغي أن يكون الدعاة بدعوتهم في واد والأمة بجراحاتها في واد آخر، هذا ليس من فقه الدعوة إلى الله، إنما ينبغي أن ينظر الداعية بعينٍ متبصرة وبفهم دقيق ووعي عميق لواقع الأمة وآلامها وآمالها؛ لأن الأمة المسكينة تسمع العلمانيين وتسمع المفكرين والصحفيين، كلٌ يدلو بدلوه مع أي حدث، وتبقى الأمة المسكينة في أمسِّ الحاجة لتسمع الكلمة الصادقة الهادفة ممن يقولون: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، الذين يشخصون الداء بدقة وأمانة، ويحددون الدواء كذلك بدقة وأمانة.(77/7)
الحكمة في الدعوة إلى الله
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وهذه هي النقطة الثالثة: منهج الدعوة هو منهج أنبياء الله جل وعلا، وهو الحكمة؛ فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ووالله يا إخوة! لقد قرأنا التاريخ فما وجدنا على طول الخط إلا أن العنف يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، والشدة تدمر ولا تعمر، فينبغي أن نتحرك، نحن لا نملك الآن إلا أن نحرك القلوب بكلام علام الغيوب، وكلام الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم، أما أن يهتدي الناس أو لا فليس هذا من وظيفتك ولا من شأنك أما أن نحكم على الناس بجنة أو نار، ليس من شأنك وليس من شغلك: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] هذا خطاب الله لسيد الدعاة عليه الصلاة والسلام: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18] وإن لم تفعل فما بلغت رسالته {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
ما عليك إلا أن تتحرك بالدعوة خالصاً لله، أما أن يهتدي الناس أو لا يهتدون فهذا ليس من شغلنا ولا من شأننا، هذا هو شأن الملك الذي يملك القلوب بين يديه جل وعلا، ووالله لو استطاع داعية على ظهر الأرض أن يهدي أحداً من أقرب الناس إليه؛ لاستطاع سيد الدعاة أن يهدي عمه أبا طالب الذي كان حجر عثرةٍ وسدٍ منيع لسيوف المشركين في مكة.
دخل عليه وهو على فراش الموت -والحديث في الصحيحين - وعنده بعض المشركين، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا عماه! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فقال له أهل الشرك: أترغب عن ملة عبد المطلب؟) فأبى أبو طالب أن ينطق الشهادتين، فماذا قال الحبيب، نهر الرحمة، وينبوع الحنان، وصاحب الخلق صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزل قول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]).
انظروا إلى هذا المشهد العصيب الرهيب، ما استطاع النبي أن يهدي عمه، فما عليك إلا أن تتحرك بهذا المنهج الذي ما تركه الله ليجتهد فيه كل داعية كيف شاء! لا، المنهج محدد وواضح، معالمه بينه.
أمر من الله إلى سيد الدعاة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].(77/8)
الحكمة في إنكار المنكر
وينبغي ألا يتحمس الشباب، وإنما يجب عليهم أن يرجعوا إلى العلماء والمشايخ وأهل الفضل.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين: "ولقد شرع النبي لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله -وتنبه معي لهذه الكلمات الدقيقة- ولقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، فهو أمر بمنكرٍ وسعي في معصية الله ورسوله، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، سيقول الشاب المتحمس: هذا كان في مكة في مرحلة الضعف! اصبر وتدبر ما قاله الإمام ابن القيم، يقول: ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى في مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة، وصارت مكة دار إسلام، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على هدم البيت ورده على قواعد إبراهيم، لم يفعل ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام.
إنها الحكمة، فما هي الحكمة؟ والتعريف لـ ابن القيم في المدارج في كتابه المدهش، يقول: الحكمة هي قول ما ينبغي، أو فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.(77/9)
من الحكمة: فهم الواقع
لا بد أن ينظر الداعية إلى الأمور نظرة متبصرة على بصيرة وفهم، وفهم الواقع قبل فهم الأدلة الشرعية أمر هام، وهذا الكلام ليس لداعية من دعاة العصر لا والله، بل هو كلام تأصيلي لأئمة السلف، اقرأ أول المجلد الثالث في إعلام الموقعين للإمام ابن القيم سترى كلاماً عجباً يقول ابن القيم: ولا يجوز للمفتي أن يفتي في مسألة من المسائل إلا بعلمين: علم الواقع، وعلم الأدلة الشرعية.
علم الواقع لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ثم بعد ذلك يقول: وعلم الأدلة الشرعية.
فالفهم -أيها الأحبة- فهم الأدلة ومراتبها، فهم المناطات الخاصة والعامة، فهم الواقع أو فهم المسألة التي تريد أن تسحب لها دليلاً عاماً أو دليلاً خاصاً، لا بد من الفهم للداعية ليتحرك إلى الله عز وجل على بصيرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري من حديث معاوية -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) قال الحافظ ابن حجر: يفقهه في الدين أي: يفهمه.
فلا بد من الفهم الصحيح والدقيق، لتتحرك لدعوة الله ودينه عز وجل على بصيرة.(77/10)
نداء وتوجيه هام
وأختم هذه المحاضرة الموجزة بهذا النداء والتوجيه الهام، أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، ألا وهو: أيها الأحبة: إن الدعوة أكبر من الدعاة، وإن الدعوة أبقى من الدعاة، والدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون وتبقى الدعوة خالدة على مر الأجيال والقرون، فليكن ولاؤنا لدين الله ودعوته لا لأشخاص الدعاة، فينبغي أن نتحرك لنؤصل المنهج في القلوب، ولنربط الناس بمنهج علام الغيوب، ومنهج الحبيب المحبوب صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ حتى إذا ما مات داعية، أو سافر أو تحرك يبقى الناس مرتبطين بالمنهج؛ بمنهج الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لما تعلق الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم تعلقاً جعل البعض منهم يلقي السلاح في غزوة أحد، بعد ما أشيع الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وألقى بعض الصحابة السيوف وقالوا: وماذا نفعل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن نقاتل؟ لقد انتهى أمر هذا الدين، فأراد الله أن يربيهم وأن يعلمهم هذا الدرس العظيم، فنزل قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
أيها الأحبة الكرام: فكروا في همِّ الدين وفي دعوة الله، وليفكر كل واحد منكم الآن: ماذا أقدم لدين الله، ولدعوة الله؟ وماذا يجب عليه أن يبذله وأن يقدمه وأن يفعله.
أيها الأحبة: لقد خلقنا الله سبحانه وتعالى لهذه الغاية ولهذه الوظيفة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فعليك أن تعيش لهذا الهدف ولهذه الغاية، وأن تحمل هذا النور الذي منَّ الله به عليك، وأن تتحرك به إلى غيرك من الناس، لعل الله أن يهدي بك رجلاً: (فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين, وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.(77/11)
عبدة الشيطان
إن حقيقة عبادة الشيطان هذه النبتة الخبيثة، وهذا الفكر الخبيث هي عبارة عن انتكاس للفطرة السليمة، وانزلاق في مهاوي الحيرة والضياع الذي أصاب المجتمعات البعيدة عن تعاليم ربها، وهي ظاهرة ناتجة عن الفراغ القاتل، ورفقاء السوء، وغياب دور الأسرة، وتأثير المناهج التعليمية المشوهة، وكذلك الإعلام الفاسد، حيث تنشأ مثل هذه الأفكار الهدامة المستقاة من الغرب، والتي بدأت في أوروبا ومن ثم أمريكا ثم تلقاها بعض العرب السذج؛ ليقع فيها كثير من الشباب والفتيات التائهين عن تعاليم الدين.(78/1)
كلمات حزينة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً، أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع المهيب الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: لا ينبغي للعلماء والدعاة أن يكونوا بموضوعاتهم في واد، وأن تكون الأمة بشرائحها ومشكلاتها وأزماتها في واد آخر، ومن هذا المنطلق؛ فإن لقاءنا اليوم معكم بعنوان: عبدة الشيطان.
وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: كلمات حزينة.
ثانياً: تاريخ أسود.
ثالثاً: عقيدة فاسدة، وطقوس شيطانية غامضة.
رابعاً: الشياطين تعترف.
خامساً وأخيراً: الأسباب والعلاج.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع الآن من الأهمية والخطورة بمكان، والله أسأل أن يجعلنا ممن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
مسكين والله هذا الجيل الذي ينشأ ويربى في ظل جملة هائلة من المتناقضات والأزمات والمشكلات، وكأنه يعيش فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ، بل إذا امتدت إليه يد حانية مشفقة طاهرة لتنقذه من هذا الغرق المحقق، جذبته أيادٍ أخرى كثيرة بكثرة الأعداء المتربصين بهذا الجيل ممن لا يريدون لهذا الجيل أن يتربى أبداً على منهج الإسلام، وعلى سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
بعد سنوات طوال عجاف، وبعد تجربة مريرة طويلة، حان وقت الحصاد، فلم تجنِ الأمة إلا الفشل الذريع في كل مجالات الحياة، يوم أن أعرضت الأمة عن منهج الله جل وعلا، وأيقن الآن المنصفون ممن يحترمون أنفسهم وعقولهم، أيقنوا الآن وهم الذين كانوا يدافعون بالأمس القريب عن المناهج التربوية الغربية الدخيلة على عقيدتنا وأخلاقنا وديننا، أيقن المنصفون منهم أنهم قصدوا سراباً، وزرعوا حنظلاً، وحصدوا شقاءً وتعاسة، وصدق ربي إذ يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
إنهم يرون الآن نبتة السوء، النبتة التي سقيت طوال السنين الماضية بمداد خبيث، يرون النبتة التي غذيت طيلة السنوات الماضية؛ بفكر منحرف زائغ ضال ضائع تائه، تتمثل هذه النبتة في مجموعة من شباب المسلمين والمسلمات، ومن شباب هذه الأمة، إنهم يعبدون الشيطان الرجيم، لا في أوروبا، ولا في أمريكا، بل في مصر بلد الأزهر، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وخرج علينا الإعلام، بل وخرج علينا الكثيرون ليقولوا لنا: إنهم مساكين، إنها شرذمة شاذة خرجت من بين هذه الضغوط التي مورست عليهم في وسط هذا المجتمع، يريد الإعلام لنا أن نعتقد أن هذه الجماعة قد خرجت من خلال الصدفة، وأرادوا أن يلبسوا على الأمة أن جماعة عبدة الشيطان جماعة منظمة، لها عقيدة مؤصلة، ولها طقوس منظمة.(78/2)
تاريخ أسود
أيها الشباب! أيها المسلمون والمسلمات: لاشك أن الشيطان قد عبد في الأرض منذ أول لحظة عصى فيها الإنسان الرحمن وأطاع الشيطان، إلا أن أقدم وثيقة لجماعة عبدة الشيطان ترجع إلى عام (1022) من ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
تدبر لتقف على تأصيل هذه العقيدة منذ القدم، فلقد اعتدنا أن نؤصل المعلومة حتى لا يُظن أننا ممن يثير العواطف فقط.
أقول: إن تاريخ الجماعة الأسود يبدأ منذ أن اكتشفت أول وثيقة منظمة لجماعة عبدة الشيطان في عام (1022) من ميلاد المسيح عليه السلام، في مدينة أورلانس بـ فرنسا، ومن فرنسا خرجت جماعة فرسان الهيكل الماسوني مع الحملات الصليبية المبكرة على بلاد المسلمين، واستطاعت جماعة فرسان الهيكل أن تقيم لها ولأول مرة في بلاد المسلمين، بل ستعجبون إذا علمتم في القدس الشريف على وجه التحديد، استطاعت هذه الجماعة الماسونية الخبيثة أن تقيم لها كنيسة في بيت المقدس، وفي القدس الشريف -أسأل الله أن يطهره، وأن يرده إلى الأمة رداً جميلاً، وأن يرد الأمة إليه رداً جميلاً- استطاعت هذه الجماعة أن تقيم لها كنيسة في بيت المقدس، لتمارس فيها لأول مرة طقوس عبادة الشيطان بإشراف الكنيسة الكاثوليكية في هذه الديار.
ومن بيت المقدس وفرنسا انتشرت الدعوة إلى بلاد أوروبا في ألمانيا وإنجلترا، وإلى بقية الدول الأوروبية، ثم انتقلت هذه العقيدة الخبيثة من الأوروبيين إلى أمريكا الجديدة بعد اكتشافها لأول مرة، وأصبحت أمريكا بعد ذلك مرتعاً خصباً لعبادة الشيطان، بل وقفزت هذه العبادة قفزات هائلة جداً على يد الكاهن الخبيث الأمريكي المجرم الذي يدعى انطون لافي، الذي بنى أخطر كنيسة على وجه الأرض، هذه الكنيسة تسمى: كنيسة عبدة الشيطان، وهذا الكنيسة أنشئت في سان فرانسيسكو.
ثم أنشأت الكنيسة لها فروعاً في كل أنحاء الولايات الأمريكية، ثم في مدن أوروبية، ثم في جنوب أفريقيا على وجه التحديد بصورة مكثفة، ولم تكتفِ الكنيسة بذلك، بل أرسلت منصرين ومبشرين -على حد تعبيرهم- ودعاة لهذه العقيدة الخبيثة الفاسدة في كل أنحاء الدنيا.
قدم هذا الكاهن الخبيث انطون لافي، الإنجيل المعروف الذي يسمى: بالإنجيل الأسود في عام (1969م) نشر هذا الإنجيل بعدة لغات، وفي عدة طبعات فخمة فاخرة، يسمى بالإنجيل الأسود، يدعو فيه إلى عبادة وتمجيد الشيطان وكراهية الملك الرحمن جل وعلا، والذي هو أصل أصول هذه العقيدة الخبيثة وهذه الجماعة الشيطانية المتمردة.
وفي عدد أكتوبر (1982م) -أًؤصل لكم تاريخاً، حتى لا تغتروا بما يريد هؤلاء أن يؤصلوه في عقول وشباب هذه الأمة المسكينة- نشرت مجلة التايمز الأمريكية مقالاً في (25) صفحة، تحت عنوان: عودة الشيطان المقدس إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقالت المجلة في هذا المقال: إن عبادة الشيطان تتم ضمن أجواء خاصة تبدأ بالرقص العاري، وسط أصوات الموسيقى الصاخبة، ثم تقدم فتاة عذراء لم تمارس الزنا من قبل، وتنام على خشبة عارية، وتغطى بغطاء جلدي، ويتقدم الكاهن -الخبيث- ويلبس على وجهه قناعاً أسوداً كرمز للشيطان، وهو يلبس معطفه الأسود، تتقدم العاهرات اللائي يلبسن الثياب الحمراء، من أعضاء جماعة عباد الشيطان، وهذا يسمى عندهم القُدّاس الأسود.
فيتقدم الكاهن ليبدأ هذا القُدّاس الخبيث، بوضع كأس مليء بالدماء بين ثديي هذه الفتاة العارية، فيكشف عنها الغطاء، ويأخذ هذا الكأس الذي مُلئ بالدم، ثم يشربه ويأذن ببداية الطقوس الخبيثة، فيقوم أعضاء الجماعة ليمارسوا الجنس مع هذه الفتاة العذراء بصورة جماعية، ثم ينطلقون بعد ذلك في صورة بهيمية لممارسة الجنس، إما أن يكون الذكور مع الذكور، أو الإناث مع الإناث، أو الذكور مع الإناث، ويلتفون حول دائرة أو حول نجمة خماسية، يسمونها بالنجمة الخماسية المقدسة، ويثبتون في أركان هذه النجمة الشموع السوداء، ويرقصون عبر هذه الأصوات الموسيقية الصاخبة، وعبر هذه الأضواء المتحركة، حتى يصلوا إلى حالة من فقد الوعي والهستيريا.
تقول المجلة: يرتكبون في هذه الحالة بعض الجرائم الشاذة الغامضة، القُدّاس الأسود لجماعة عبدة الشيطان، لاحظ أن هذه الصورة قد انتقلت بحذافيرها إلى هؤلاء المجرمين المتمردين في مصر بلد الأزهر، وقد أعلنت الجرائد ذلك، بل وقد صرحت التقارير الأمنية بذلك، ونُشر هذا الكلام ولم يعد خافياً على أحد، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر اللقاء.(78/3)
عقيدة خبيثة فاسدة وطقوس شيطانية غامضة
إنهم يعتقدون أقذر عقيدة على وجه الأرض، إنهم يعبدون الشيطان، ويكفرون بالرحمن الذي حذر من عداوة هذا العدو اللدود، فقال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] وأخبرنا الحق جل جلاله أن هذا الشيطان الرجيم سيتبرأ من عبّاده وأتباعه، قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] ويوم القيامة يعتلي الشيطان الرجيم منبراً من النار، ليبكت عُبّاده وأتباعه، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
إنهم يعبدون الشيطان الرجيم، ويكفرون بالرحمن الرحيم جل جلاله، ويعتقدون أن الله قد ظلم إبليس؛ لأنه طرده من الجنة، وأنهم يعبدون إبليس؛ لأنه هو الذي سيخلص العالم كله من الشر، وما ملأ العالم كله بالشر إلا إبليس الرجيم.
عقيدة خبيثة، وعقيدة فاسدة، وسأبيّن لكم الآن بالدليل أنهم يعتقدون هذه العقيدة، حتى لا يخرج علينا قائل يقول: عاملوهم بالرحمة والشفقة، هؤلاء مساكين، لماذا لا تقولوا هذا مع شباب طاهر مسلم انحرف فكرياً وسلوكياً؟ يوم أن انصرف عن الدعاة، فانصرف الشاب يقرأ من بطون الكتب، ففهم من تلقاء نفسه، فوقع بعض الشباب في بعض الأخطاء الفكرية والحركية، لا ننكر ذلك، لكن لماذا لم تعلنوا هذه المعاملة مع شباب طاهر طائع، أراد أن يخدم دين الله جل وعلا، وانصرف عن كل معصية لله، وإن زل عاد متضرعاً خاشعاً باكياً إلى الله؟ لماذا لم تكن المعاملة لهذا الشباب بالمثل؟ تلك إذاً قسمة ضيزى ورب الكعبة.
سأبين لكم بالدليل أنهم يعتقدون ذلك على ألسنة أعضائهم، حتى لا نُتهم بأننا نأخذ من بين السطور ما لا ينبغي أن يؤخذ، كلا، فليس هذا من منهجنا ورب الكعبة؛ لأننا تحترق قلوبنا على هذه الأمة المسكينة، وعلى شباب يجب عليه أن يرفع راية الجهاد، وأن يتحرك لدين الله جل وعلا، في وقت تحرك فيه أهل الباطل بكل قوة للكفر وللباطل وللفسق وللزندقة، وإنا لله وإنا إليه راجعون! طقوس خبيثة انتقلت من بلاد الكفر إلى بلد الأزهر إلى مصر، أسأل الله أن يرفع عنها الفتن، وأن يحفظها بحفظه، إنه على كل شيء قدير.
تبدأ الطقوس في مصر بالرقص تحت أصوات الموسيقى الصاخبة، والعالم كله يغني ويرقص، الإعلام العالمي يغني للشباب المسكين الذي قتله الفراغ الديني؛ كما سأبين الآن، العالم يرقص، والشباب يرقص، والفتيات يرقصن مع الشباب، الفتاة في مصر كما قالت التقارير الأمنية التي نشرت: فتاة ترقص بين شابين على حد تعبير قولهم، كهيئة (السندويتش) شاب من أمام الفتاة قد التصق بها، وشاب من خلفها قد التصق بها، رقص على أصوات الموسيقى الصاخبة حول نجمة خماسية رُكِزَت الشموع السوداء في أركانها، وتنام فتاة شبه عارية -هم يقولون- ويبدأ القُداس بذبح خنزير أو دجاجة على جسد هذه الفتاة، ويلطخ جسدها بالدماء، ويمرر الكأس على أعضاء الجماعة وقد ملئ بالدم -لاحظ الاتفاق- فيشرب كل واحد منهم رشفة ليبينوا ولاءهم للشيطان، وليتمنوا على الشيطان أن يقبل منهم النذر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم يبدأ الرقص الجماعي عبر رائحة المخدرات، ويمارسون الجنس الجماعي، هكذا أعلنت الصحف والمجلات، اتفاق وطقوس ثابتة وعقيدة ثابتة لجماعة عِبَادَةِ الشيطان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(78/4)
الشياطين تعترف
اعترف عضو أساسي في جماعة عبادة الشيطان، وهو طالب في المدرسة الثانوية الإنجليزية بالزمالِكِ وهو في العشرين من عمره، قال -وانتبهوا لخطورة ما يقول- قال: إن هذه الأفكار والمعتقدات قد نقلت إلى الشباب المصري عن طريق الإسرائيليين عبر الحدود بين مصر وإسرائيل، وفي منطقة طابا على وجه الخصوص.
فالصهاينة متخصصون في تدمير شباب الأمة، وفي صناعة سينما الدياثة في هوليود لامتصاص دماء شباب هذه الأمة المسكينة.
لقد نجسوا أرض سيناء الطاهرة بالعاهرات اللائي يحملن الإيدز، وهذه ليست منكم ببعيد، أخبار معلومة قديمة، يقول: يجتذب الإسرائيليون الشباب المصري بالمخدرات والجنس والموسيقى، فإذا ما دخل الشاب إلى هذا الثلاثي الخبيث المدمر، تُعرض عليه أفكار جماعة عبدة الشيطان.
ثم يقول هذا الشاب: وهناك اتصالات وتبادل معلومات بين أعضاء الجماعة في مصر وإسرائيل.
ويقول عضو آخر -وتدبر ما قال- وهو طالب في كلية الهندسة في السنة الدراسية الأولى، يقول: إننا نعبد الشيطان لسببين -كلام واضح، وعقيدة واضحة، هكذا يقول هذا العضو- السبب الأول: لأن الشيطان يبيح المتعة السريعة، فهو يبيح كل ما تحرمه الأديان -فالهدف الأساسي الجنس، وإشباع الغريزة الجنسية بكل وسيلة، فهم لا يمتنعون على الإطلاق من ممارسة الجنس في أجساد الأموات والبهائم، ومع الوالدين والأبناء من الأطفال الصغار، عقيدة وطقوس ثابتة- يقول هذا المجرم: إننا نعبد الشيطان لسببين -كلام صريح، فلا ينبغي أن يخرج علينا من يقول: إنهم لا يعبدون الشيطان- الأول: لأن الشيطان يبيح المتعة السريعة، فهو يبيح كل ما تحرمه الأديان.
والسبب الثاني يقول: من أجل خلاف ما اعتاد عليه الناس للتميز عليهم، حب الجديد، هذه الدعوة التي تنفخ كل يوم وتثير التمرد على القديم، وتقول: دعك من هذه العادات البالية، دعك من الدين، دعك من هذه القيود وتحرر، وانطلق أيها الشاب، وانطلقي أيتها الفتاة الجامعية وقلدي الداعرات في سينما هوليود، انطلقوا وتحرروا، ودعوكم من هذه التقاليد العتيقة.
فالشاب يقول: نريد أن نتحرر من القديم، نريد أن نتميز على الآخرين، نريد أن نخالط الآخرين، ثم يعلل صور هذا التميز فيقول: فالفتاة بدلاً من أن تضع على شفتيها اللون الأحمر تضع اللون الأسود؛ لأنه رمز الشيطان، نريد أن تخالف الفتاة التي تعتقد عقيدتنا كل الفتيات، فتضع اللون الأسود على شفتيها، وتطلي الأظافر الطويلة جداً باللون الأسود، وتلبس (الشورت) الصغير باللون الأسود، وهكذا الشاب يطيل الشعر جداً، ويلبس الزي الأسود المعروف، ويضع النجمة الخماسية على صدره، ويلبس هذا الغطاء على الرأس الذي يخرج منه قرنان، يريد أن يتشبه بالشيطان في كل منظر وزي.
وحينما أنكرنا على هؤلاء، قالوا: لنا حرية شخصية، وحينما دعوناهم لأن يفسحوا الأبواب للمنتقبات في الجامعات، قالوا: لا، هذا تطرف، لماذا لم يكن لبس المنتقبة حرية شخصية؟ لماذا لا تطبق نفس القاعدة على الطاهرات كما فتحت الأبواب للعاريات؟! لماذا غلقت الأبواب في وجوه الطاهرات؟ وقلتم: حرية شخصية للعارية، لماذا لم تقولوا: حرية شخصية للطاهرة والمنتقبة الشريفة العفيفة؟ تلك إذاً قسمة ضيزى ورب الكعبة.
فكرٌ يبث في الليل والنهار، فيُخرج لنا هذه النبتة السوداء الخبيثة الفاسدة، اعترافات خطيرة، لا أريد أن أطيل في مثل هذا الشق الأول من الموضوع.(78/5)
الأسباب والعلاج
أختم هذا الموضوع بهذا العنصر الأخير، الذي قد يحتاج منا إلى بعض الوقت، ألا وهو الأسباب والعلاج: هذا هو الأصل في موضوعنا، فإننا لا نريد أن نعري أحداً أو نجرح أحداً، وإنما نريد ورب الكعبة أن نضع الدواء الذي أسأل الله أن ينفعني وأن ينفعكم وأن ينفع شباب الأمة به، وأتمنى لو حرص كل شاب منكم -كما سأقول الآن- أن يُقدم هذا الشريط هدية لشاب يشعر منه أنه قد انحرف أو انصرف أو ابتعد عن طريق الهداية، لعل الله أن يجعل هداية هذا الشاب على يديك أيها الشاب الطائع الحبيب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) أسأل الله أن يثبت قلوبنا على الهداية، وأن يوفقنا وإياكم للثبات على طريق الاستقامة، وأن يختم لنا بخاتمة الإيمان والتوحيد: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
ما الأسباب والعلاج؟ وتعمدت أن أتكلم عن العلاج مع الأسباب في عنصر واحد؛ لأنني أعتقد اعتقاداً جازماً أن العلاج يكمن في الأسباب، فمن المحال أن أُشخص الدواء قبل أن أُشخص الداء، ومستحيل أن يصف طبيب ذكي الدواء وهو لا يعرف الداء، فإن عرف الداء حدد الدواء بدقة، فأنا أقول: إن الدواء يكمن في أسباب الداء.(78/6)
السبب الأول: استقالة الوالدين وغياب القدوة
أيها الآباء أيتها الأخوات أيها الإخوة! ماذا تقولون لو قلت لكم الآن: إن والداً قد قدم استقالة مكتوبة لزوجته أنه قد استقال من تربية الأبناء؟ ستضحكون بملء أفواهكم، وتقولون: إنه زوج أو أب مجنون.
ماذا تقولون لو قلت لكم: إن أماً قد قدمت استقالة مكتوبة أو شفوية لزوجها في البيت، لتخبره فيها بأنها قد استقالت من تربية الأبناء؟ ستتهم بالجنون.
ولكن لو نظرتم نظرة فاحصة مدققة لواقعٍ مريرٍ أليمٍ تعيشه بيوت المسلمين، لرأيتم استقالةً لا أقول: فردية، بل جماعية من كثير من الآباء والأمهات، استقال الأب عن أغلى وظيفة له، واستقالت الأم عن التربية، الطفل ينزل كصفحة بيضاء، وأول الخطوط التي تخط على هذه الصفحة، تخط في داخل الأسرة والبيت، أين الوالد؟ أين الأم؟ أين الأب الذي استقال منذ زمن؟ أين الأم التي استقالت منذ زمن؟ وظن الأب المسكين أن وظيفته أن يكون ممثلاً لوزارة المالية، وأن ينفق على الأولاد، وأن يُوفر المأكل والمشرب والمسكن فقط، هذه وظيفته، لقد صرح والد من هؤلاء المساكين، وقال: أنا لم أر ولدي منذ سنة، قلنا: ربما كان الوالد مسافراً، قال: لا لم أكن مسافراً، ولم ير ولده منذ سنة، وقالت أم: أنا لم أدخل غرفة ولدي، ولم أر هذه المناظر إلا الآن.
أين الأب؟ أين الأم؟ انشغل الأب بالتجارة والوظيفة والأموال، والسفر والحل والترحال.
قد أقول لكم الآن: بأنني أعذر كثيراً من الآباء؛ لأن الظروف الاقتصادية تطحن الناس طحناً، فقد لا يجد الوالد رمقاً من الوقت ليوفر لأولاده الحياة الطيبة الكريمة، هذا صنف، لكنني أتكلم عن صنف آخر، حتى لو تبقى له رمق من الوقت في آخر النهار، يرجع ليقتل هذا الرمق قتلاً بالمكث أمام الشيطان الذي جثم على صدورنا في البيوت، أمام التلفاز، يجلس ليقضي ما تبقى من الوقت أمام فلم داعر، أو مسلسل هابط، أو برنامج: العالم يغني، وهاهم الأولاد رقصوا وغنوا.
أين الأب؟ يا إخوة! إن جلوس الأب بين أبنائه ولو كان صامتاً فيه من عمق التربية ما فيه، فما بالك لو تكلم، لو ذكر أبناءه بالجنة وحذرهم من النار، لو حل مشكلة، ولو أجاب على تساؤل، ولو أزاح هماً، ولو خطط لأبنائه داخل البيت وخارجه، ماذا ستكون النتيجة؟ وتزداد الكارثة -يا إخوة! - إذا انضمت إلى استقالة الأب استقالة الأم، فانشغلت الأم المسكينة بالمسلسلات والمباريات والأفلام، والضرب في الأسواق، واللهث وراء أحدث المجلات والموضات والمضلات، انشغلت الأم وتركت الأبناء، فانطلق الأبناء وهم يشعرون باليتم التربوي، ليقتاتوا من أين؟ من الشوارع، ومن وسائل الإعلام التي تبث الرذيلة بثاً.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً
فقد يكون الوالد صالحاً، وقد تكون الأم صالحة، ويخرج الولد على غير الطريق، وهذا الاستثناء لا ينقض أصل القاعدة، فهأنذا أتذكر الآن بيتاً هو أطهر بيت في زمانه، الوالد الذي يقوم فيه على التربية إنه نبي من أنبياء الله، ومع ذلك خرج ابن هذا النبي كافراً مشركاً بالله جل وعلا: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43].
وفي المقابل أرى بيتاً هو أخبث بيتٍ على ظهر الأرض في زمانه، بل وفي كل زمان، إنه بيت فرعون، يقوم على أمر التربية فيه طاغوت، يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ومع ذلك خرج من هذا البيت نبي الله موسى، الذي قال الله جل وعلا له: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] لكن غالب فساد الأبناء يرجع إلى إهمال الأمهات والآباء.
أيها الإخوة! أيها الآباء الفضلاء: كما أن للوالدين حقوقاً على الأبناء، فإن للأبناء حقوقاً على الوالدين، وما أروع ما أصله فاروق الأمة عمر يوم أن جاءه والد يشكو إليه عقوق ولده، فقال: [ائتني به، فجاء الشاب فوقف بين يدي عمر، فقال له: لمَ تعق والدك؟ فقال الشاب: ما حقي على أبي يا أمير المؤمنين؟! قال: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن.
فقال الشاب: والله ما فعل أبي شيئاً من ذلك يا أمير المؤمنين.
فالتفت عمر للوالد وقال: لقد عققت ولدك قبل أن يعقك.
].
عقوق متبادل أخرج هذه النبتة السيئة والحصاد المر، وإهمال الوالدين للأبناء لن يضر الأبناء فحسب، بل يضر الآباء قبل الأبناء في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته).
فإن غش الراعي الرعية حرم الله عليه الجنة، ففي الصحيحين من حديث معقل بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) فاستقالة الأسرة، وغياب القدوة، الولد الذي يرى أباه لا يصلي، كيف يتعلم الصلاة إلا إذا وفقه المولى جل في علاه؟ البنت التي ترى أمها متبرجة مستهترة لا تُخلص لزوجها كيف ستتعلم الفضيلة؟!
مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده بمشيته بنوه
العلاج: أن تعي الأسرة مسئولية التربية، وأن يتق الوالدان الله، وأن يعلما يقيناً أنهما مسئولان بين يدي الرحمن جل وعلا، أسأل الله أن يستر عليّ وعليكم في الدنيا والآخرة.(78/7)
السبب الثاني: المناهج التعليمية الحديثة
إن المناهج التعليمية في مدارسنا وجامعاتنا تُحسن أن تعلم الجيل المعارف والمعاني والعلوم، ولكنها لا تُحسن أن تُعلم عيونهم الدموع، ولا قلوبهم الخشوع، لا تُجيد هذا أبداً، قد يدرس الشاب في كلية من الكليات أربع سنوات، لا يدرس في كتاب واحد كلمة تقربه من الله أو تبعده عن المعصية، وأنا أتحدى من يعارض، يدرس الشاب أربع سنوات لا يجد آية تقربه إلى الله، ولا يجد قدوة بين يديه يذكره بالله، بل قد يرى الأستاذ الدكتور ينظر إليه وهو يسخر منه، إذا رأى الشاب قد جلس وحده بعيداً عن الفتيات، يقول له: يا فلاح! اقترب من زميلاتك، ورب الكعبة لقد قيلت لي يوماً من الأيام.
سبحان الله! حتى الأستاذ! فالعملية التعليمية برمتها تحتاج إلى مراجعة، اختلاط مدمر، وأعتقد أنه قد آن الأوان ليحترم كل منصف نفسه، ولا يقول: بأن الاختلاط سيخفف حدة الكبت الجنسي عند الصنفين والنوعين، كلام لم يعد رجل يحترم نفسه يقول به الآن، فهاهي نتيجة الاختلاط ظاهرة وبينة، اختلاط بين شباب وفتيات في سن المراهقة، وفي سن خطير، نقدم النار ونقربها من (بنزين)، ونقول: إياك أن تشتعلي أيتها النار!
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
أمر عجب! مستحيل أن شاباً له غريزته وشهوته، وشابة أو فتاة لها غريزتها وشهوتها، متعطرة ومتزينة ومتجملة، كأنها ما خرجت إلا لمسرح أو لسينما، وما خرجت إلى الحرم الجامعي، وشاب مسكين، ماذا تنتظرون -يا سادة- بعد هذا؟ وقد أمر الله الصحابة وهم أطهر القلوب على وجه الأرض بعد الأنبياء، إذا كلموا أمهات المؤمنين أن يكلموهن من وراء حجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] إن أصلنا ذلك على صفحات المجلات نتهم نحن بالتطرف والإرهاب، تقول صحفية تنكر عليّ: إنه يحرم الاختلاط في الجامعة والمواصلات والمدارس، إنه التطرف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أصبحت الأصول تطرفاً، وأصبحت أصول هذا الدين خروجاً، اختلاط سافر بين الشباب والفتيات، وانظروا إلى التاريخ الإسلامي في كتب أبنائنا، حصة الدين ثانوية بل في آخر اليوم الدراسي، يقول لي ولدي: يا أبتي! إن المدرسة التي تدرسني الدين متبرجة، تلبس القصير، فقلت لها: يا أستاذة! التبرج حرام، فقالت له: اسكت يا حمار! وجاء ولدي يقول لي: حصة الدين، يدخل علينا المدرس ربما (بالسيجارة) ومدرسة ربما متبرجة قد كشفت عن شعرها لتدرس أبناءنا وبناتنا حصة الدين في آخر اليوم الدراسي، وقد تعب الطلاب، ولا يفهمون شيئاً، بل ويسعد الأبناء سعادة غامرة بمدرس يدخل ليقضي حصة الدين في الفكاهات والكلام الفارغ، حتى تنتهي الحصة والأبناء سعداء بهذا كله.
حذفت من كتب أبنائنا قصة الفدائي الصغير: علي بن أبي طالب، يوم أن فدى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، أبحث في الكتاب عن الفدائي الصغير فلم أجده، قلت: لعلهم وضعوا الفدائي الكبير أبا بكر أو عمر، وإذا بهم في مثل هذا الموضع يضعون قصة مخترع السينما بدلاً من علي بن أبي طالب، والله لا نقول هذا للإثارة أبداً، وإنما أحمل الجميع المسئولية أمام الله، فمحال أن يخلو هذا الجمع الكبير المهيب من مسئول له كلمة تُسمع، فاتق الله أيها الحبيب! وقل قولة حق، بأسلوب طيب رقيق رقراق، لعل الله أن ينفع بكلمتك، ويرفع بنصيحتك الضرر الكبير عن أبنائنا وبناتنا، وفي الجملة عن هذه الأمة المسكينة.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(78/8)
السبب الثالث: الإعلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! السبب الثالث: الإعلام، وما أدراك ما الإعلام، فإن القائمين على الإعلام لا يرقبون في المؤمنين إلاً ولا ذمة، وأستطيع أن أعلن بكل ثقة واطمئنان أن الناظر إلى الخريطة الإعلامية المقدمة سيخرج بهذه النتيجة الحتمية دون لف أو دوران، ألا وهي أن هذه الخريطة في الجملة تعزف على وتر الجريمة، والعنف، والجنس، كم عدد الأفلام التي تعرض للراقصات؟ كم عدد الأفلام التي تعرض للفاحشة في أدق التفاصيل؟ كم عدد الأفلام التي تعرض للعزف على وتر الجريمة؟ وللعزف على وتر (الفهلوة) ليتعلم الأبناء والبنات.
يجلس الطفل المسكين أمام التلفاز، أو حتى الشاب، فيرى ممثلاً ساقطاً هابطاً لا يجيد إلا أدوار العنف والقذارة والجريمة، هذا هو دوره، وفي فيلم آخر أو مسلسل جديد يرى نفس المجرم يلبس العباءة، وقد ركب لحية، وأمسك المسبحة، ويتمتم بآيات القرآن، وبحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فيرى الطفل أو الشاب هذا الممثل في هذا الدور، وهو بالأمس القريب رآه في فلم آخر يمثل دور الجريمة والفاحشة، فتختل في قلوب أبنائنا وبناتنا الفضيلة، وتستوي الفضيلة مع الرذيلة، ويستوي الحلال مع الحرام، والحق مع الباطل، لم يعد يفرق بين أي الشخصيتين يختار.
وفي وسط هذا الغثاء حديث الروح بالموسيقى، أو بعده فاصل من الرقص الراقي الذي يسمى بفن الباليه، أو بفن البلاء، تخرج فيه المرأة وهي شبه عارية، التمجيد للممثلين والممثلات واللاعبين واللاعبات في كل مناسبة، يقدم هذا الممثل على أنه فاتح وبطل، فيتمنى الطفل الصغير أن لو كان قدوته يتمثل في هؤلاء.
غياب القدوة أمر خطير، خريطة إعلامية معلنة، ونعتقد أن جهاز التلفاز من أخطر الوسائل للدعوة إلى الأفكار، لو استغل استغلالاً يرضي العزيز الغفار لرأينا العجب العجاب، فليتقِ الله القائمون على أمر الإعلام، كل مسلم يستطيع أن ينكر، لكن الأمة تبلدت مشاعرها وأحاسيسها بصورة تقتل، حتى الكلمة بخلنا بها، ارفع سماعة الهاتف واتصل بوزير الإعلام، وإن كنت مسئولاً اتصل على مخرج البرامج، اتصل على أي مسئول وذكره بالله، قل كلمة لعل الله أن يحول قلبه، وما يدريك، المهم أن تصنع شيئاً، دعونا من هذه السلبية القاتلة.
والله لو أن هذا الجمع تكلم كل واحد فيه كلمة، وأنا أقول: بالحكمة والرحمة وبالكلمة الرقراقة الرقيقة البسيطة المتواضعة، لا نطلب أكثر من ذلك، ومع ذلك يبخل المسلم وتبخل المسلمة، اكتب رسالة، وعوِّد نفسك على أن تعبر عن الحق بأي سبيل، إما عن طريق الهاتف، أو عن طريق الزيارة، أو عن طريق المكاتبة، بأي سبيل من هذه السبل عبر عن رأيك، انصح هؤلاء: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول لله؟! قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) انصح وابذل النصيحة لعل الله أن يجري الخير على يديك.
فالإعلام سبب خطير من الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الحالة من التفسخ والضياع، انظر إلى عدد الإعلانات الملصقة بالألوان بالأحجام الضخمة للراقصين والراقصات، تثير الشهوات الكامنة، وتستثير الغرائز الهاجعة.(78/9)
السبب الرابع: الفراغ الديني القاتل، وعدم قيام المساجد بدورها
إن هذا الشاب الذي خرج ليعبد الشيطان ما عرف الرحمن، وغيره من الشباب يعيش الآن في فراغ ديني قاتل، والدين هو الوقاية والعصمة والحصن: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].
وأنا أود أن أقول للجميع الآن: قارنوا مقارنة سريعة بين هذا الشاب الطاهر الطائع، وبين هذا الشاب التائه الضائع، إنه الدين، شاب يبتلى ويفتتن ومع ذلك يقبض على دينه كأنما يقبض على الجمر، يأتي الشاب إن زل في معصية يبكي ويعتصر قلبه، ويقول: كلما عاهدت الله على التوبة غلبني الشيطان فقمت وارتكبت المعصية المشهورة المعروفة بين شبابنا، ويتألم ويبكي، وبين شاب يمارس الزنا ويشرب المخدرات ويشرب الخمر.
والله لقد وقفت على دراسة كاد قلبي أن ينخلع، أجريت الدراسة في جامعة القاهرة على عينة عشوائية من الطلاب، تتكون هذه العينة من سبعمائة طالب وطالبة، فكانت النتيجة مروعة، (36.
4%) من نتيجة العينة شربوا المخدرات، و (50%) من نتيجة العينة شموا (الهيروين) في الجامعة وبين شبابنا! فراغ ديني قاتل، وأخيراً يحارب المنبر، حتى المنبر يحارب، يمنع الدعاة، لماذا؟ نحن مع من يقول، وأعلنها بين يدي هذا الجمع: لا ينبغي أن يرتقي المنبر أي أحد، نعم، مأساة أن يرتقي المنبر من لا يعرف شيئاً عن كتاب الله، ومن لا يعرف شيئاً عن حديث رسول الله الصحيح.
والله لقد سمعت بأذني على المنبر كلاماً يخلع القلب، وأنا في سفر ذات مرة، مررت على المسجد لأصلي في الطريق، وسمعت الرجل على المنبر يقول: لما قتل عثمان بن عفان أرسل معاوية -هكذا بدون تكريم- إلى نائلة زوج عثمان، وقال: أريد أن أتزوجك، فقالت: ولماذا؟ قال: أعشقك، قالت: وأي شيء فيّ يُعشق؟ قال: أعشق عينيك، فقال الخطيب المفوه: فخلعت نائلة عينيها، ووضعت العينين على طبق، وأرسلت بالطبق إلى معاوية، وكتبت له تقول:
يا اللي أنت غاوي الجمال رح القبر واطلع
تلقى الجمال بقى رمم العظم متخلع
نعم، يقال هذا على المنبر، وهذا أمر خطير، بل تشوه وتحرف العقيدة، الشريعة أصبحت مغيبة وضائعة، فيخرج على المنبر من يزيد النار اشتعالاً، ومن يزيد الناس ضلالاً، فنحن لسنا مع أي أحد يرتقي المنبر، وإنما في الوقت ذاته لا ينبغي على الإطلاق أن يحال بين المنبر وبين فرسانه، حتى وإن كانوا لا ينتسبون إلى الأزهر، فنحن لا نعرف في دين الله جل وعلا كهنوتية ولا رجال دين، لكن إذا ارتقى المنبر يقول: قال الله جل وعلا، وقال الرسول المصطفى في حديثه الصحيح، لا ينبغي أن يحال بين المنبر وبين فرسانه من الدعاة الصادقين المخلصين.
فلو نظرتم الآن إلى ساحة الدعوة، لرأيتم جُلّ دعاتنا المخلصين الصادقين المؤثرين ما تخرجوا من الأزهر، هل يُمنع هؤلاء؟ وهل يحال بين المنبر وبين هؤلاء؟! الذين قد وصلوا إلى درجة تفوق وبكل ثقة أعلنها، كثيراً ممن تخرجوا من هذه الجامعة العريقة لا أقلل من شأنها، لكن هؤلاء يضعون أيديهم في أيدي إخوانهم من علماء الأزهر، ومن شيوخنا الفضلاء الأكارم، ليرفع الجميع راية الدعوة إلى الله بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، والكلمة الرقراقة الطيبة الكريمة.
الفراغ الديني، والعلاج: ألا يحال بين المساجد وبين الشباب، وبين الشباب وبين المساجد، وألا نخشى المساجد، فالمساجد: هي الحضن التربوي الطاهر الذي يحمي أبناءنا بإذن الله من الانحراف، لما أُغلقت المساجد في وجوه الشباب، انطلق الشباب ليبحثوا عن العلم في الظلام، فأتى العلم مظلماً، ولما حيل بين الشباب وبين العلماء والدعاة انطلق الشباب ليبحثوا عن العلم في بطون الكتب، فجاء العلم في بعض الأحيان منحرفاً من خلال الفهم الخاطئ، فمن كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، فلا تخشوا المساجد، وافتحوا المساجد للعلماء وللدعاة وللشباب؛ ليتربى أبناؤنا وبناتنا، بل وآباؤنا وأمهاتنا في الأحضان التربوية الطاهرة.
وقد آن الأوان أن تُرفع من كل وسائل الإعلام كل صور الامتهان للعلماء والمشايخ والدعاة، لازلنا إلى الساعة نمر على أبنائنا في المدارس، فيقولون: إرهابي ومتطرف، إفراز للإعلام، قُدمت له هذه الصورة، صورة اللحية، وصورة سنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، على أنها الإرهاب، ولم يفرق الإعلام بين الإرهاب وبين الدين.
فينبغي أن ترد كرامة التدين، وكرامة أهل الدين، وأنت أيها المسئول! أيها الأخ الكريم! قد تكون مسئولاً في الجوازات، وقد تكون مسئولاً في المطارات، وقد تكون مسئولاً في الشوارع والطرقات، ما أصَّل لك القانون أن تهين إخوانك من المسلمين والمسلمات، بل يجب عليك أن تُجِلَّهم وتقدرهم وأن تحترمهم، وإذا رأيت واحداً من أهل الدين ومن أهل العلم وجب عليك أن ترد للدين هيبته، وللعلماء اعتبارهم، وللمشايخ كرامتهم.
لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك، فإني أخشى أن أشق على هذا الجمع الكريم، والله أسأل أن يُقر أعيينا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم اهدِ شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم استر نساءنا، اللهم استر بناتنا، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم لا تدع لأحد في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عيباً إلا سترته، ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان، يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً، اللهم ارفع عن مصر البلاء يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح شبابها وشباب المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم ارفع الفتن ما ظهر منها وما بطن عن مصر يا رب العالمين، وجميع بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم مكن لدينك يا رب العالمين، اللهم قيض للأمة القائد الرباني الذي يحكم الأمة بكتابك وسنة نبيك إنك على كل شيء قدير، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر بقدرتك يا أرحم الراحمين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأٍ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم بالله وأنساه.(78/10)
قل آمنت بالله ثم استقم
ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فهو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان هذه هي حقيقة الإيمان، والاستقامة عليه كان هذا محور حديث الشيخ؛ مبيناً حقيقة الإيمان والاستقامة، وموضحاً أثر الفكر الإرجائي على الأمة.(79/1)
الإيمان بالله والاستقامة على شرعه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: وصية غالية أذكر بها نفسي وأحبابي وإخواني، ولم لا وهي وصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
الوصية رواها مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك -وفي لفظ لـ أحمد والترمذي -: لا أسأل عنه أحداً بعدك) فلخص له النبي -أيها الأخيار- طريق السعادة وطريق النجاة في الدنيا والآخرة في كلمتين اثنتين، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم).
كلمتان اثنتان: إيمان بالله جل وعلا، واستقامة على هذا الدرب الكريم الطاهر المنير، هذا هو طريق النجاة، هذا هو طريق الفوز في الدنيا والآخرة، وفي رواية أحمد قال سفيان: (قلت: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل ربي الله ثم استقم.
فقال سفيان: فما أخوف ما تخاف عليَّ يا رسول الله؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه ثم قال: هذا).(79/2)
أثر الفكر الإرجائي على الأمة
أيها الحبيب الكريم: والله ما دمر الأمة إلا فكر إرجائي نخر في جسدها نخراً، لقد ذلت الأمة الآن لمن كتب الله عليهم الذلة من إخوان القردة والخنازير، يوم أن انحرفت الأمة عن حقيقة الإيمان، ويوم أن غاب عن الأمة المفهوم الحقيقي لمعنى الإيمان، فانطلق كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام يرددون بألسنتهم كلمة التوحيد والإيمان، من غير أن يقفوا لها على معنى أو على مقتضى، ومن غير أن يحولوا مقتضيات هذه الكلمة العظيمة في حياتهم إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة.
أيها الأحبة: ما أيسر التنظير! بل إن رفوف المكتبات تئن بالمراجع والمجلدات، وما وجدنا هذا الكم الهائل من المطبوعات بين سلف الأمة الصالح، ولكن البون الشاسع والفارق الكبير بيننا وبين هذه القمم الشماء والمثل العليا، أنهم كانوا إذا سمعوا عن الله أمراًَ، وإذا وقفوا لله على نهي، وإذا عرفوا لله حداً؛ امتثلوا الأمر واجتنبوا النهي ووقفوا عند حدود الله، وحولوا هذا المنهج النظري في جانب الإيمان إلى تصديق وإلى منهج عملي في واقع هذه الحياة؛ فسادوا الدنيا شرقاً وغرباً، وحولهم هذا المنهج المنير -يوم أن حولوه في حياتهم إلى واقع عملي- حولهم من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم، واستطاعوا في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق أن يقيموا للإسلام دولة عظيمة من فتات متناثر، فإذا هي دولة وبناء شامخ لا يطاوله بناء.
ويوم أن امتد الفكر الإرجائي إلى الأمة ونخر جسدها نخراً، وانطلق كثير من الناس يردد كلمة الإيمان والتوحيد من غير أن يصدقها قلبه، ومن غير أن يحولها في حياته إلى واقع عملي وإلى منهج حياة، فهو يقف عند قول الله تعالى في أمر فيمتثل، ويقف عند قول الله تعالى في قول آخر فلا يمتثل، يقرأ قول الله في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فيمتثل أمر الله في هذا الجانب، وفي السورة ذاتها يقف عند أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] فيقول: هذا الأمر لا يليق ولا يتفق مع مدنية هذا القرن يقرأ قول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فيمتثل، وفي السورة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] {الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] فلا يمتثل.
ومنهم من ردد بلسانه كلمة الإيمان وقد ضيع الصلاة، وامتنع عن الزكاة، وفعل الزنا، وشرب الخمر، وحرص على ذلك، والطامة الكبرى أنه بمجرد أن ردد لا إله إلا الله يعتقد أنه قد حصّل صكاً من صكوك الغفران، بدخول الجنان، والنجاة من النيران.(79/3)
حقيقة الإيمان
أيها الحبيب الكريم: اعلم أن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، قال الحبيب المصطفى كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) وقال الحسن: [ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل] فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه، فكلمة الإيمان حقيقة كبيرة ذات تكاليف، كلمة الإيمان أمانة عظيمة ذات أعباء.
فلا بد أن نعلم أن للإيمان أركاناً، لابد أن يحولها المؤمن في حياته إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، كما بينها لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) فأين حقيقة هذا الإيمان في قلوبنا وفي واقعنا الآن؟(79/4)
من صور الشرك في توحيد الربوبية
إن من الأمة الآن من يقول: ربي الله، ومع ذلك فهو يشك في أن الرزاق هو الله من الأمة الآن من أشرك في توحيد الربوبية، وأما أن تقر لله بالأمر والخلق والرزق والتصريف والتدبير، فهذا الجانب قد أقر به المشرك الأول في الجزيرة، إن سألته عن خالقه ورازقه: لمن تلجأ إذا وقع بك الضر في البحر؟ يقول: لله، ومن أبناء الأمة الآن يا إخوة -ولست مبالغاً- من أشرك حتى في هذا الجانب، في جانب توحيد الربوبية.
ولقد سمعنا بآذاننا رئيس دولة خرجت من بين برك الدماء والأشلاء يقول إنه ممن يعتقد أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبدالاً تدبر نظامه وتسير شئونه!! وسمعنا بآذاننا على شاشة التلفاز المصري من يقول: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دعي في البر والبحر أجاب!! وسمعنا من يقول الآن في الشهرين الماضيين فقط: إن القرآن منتج ثقافي!! وقرأنا لعميد الأدب العربي -زعموا- وهو يقول: ارفعوا القداسة عن القرآن، وضعوا القرآن بين أيديكم كأي كتاب من الكتب يستحق النقد ويستحق الثناء!! وسمعنا من هذه الأمة من يقول:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
إن الإيمان ليس كلمة فقط، الإيمان كلمة وتصديق وعمل وواقع، لابد أن نحول أركان الإيمان في حياتنا إلى منهج حياة، إلى واقع عملي، وقد حفظنا قديماً: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، فإذا استقرت حقيقة الإيمان في القلب فلابد وحتماً أن تنعكس على هذه الجوارح، فتسمع الأمر لله، والنهي لله، وتقف عند حد الله، وشعارك السمع بلا تردد، والطاعة بلا انحراف، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52].
الإيمان قول وتصديق وعمل، ووالله لو علمت قريش أن كلمة الإيمان ما هي إلا مجرد كلمة سترددها الألسنة، دون أن تتحول في حياتها إلى واقع ضخم كبير؛ لرددتها مراراً وتكراراً، وما دخلت هذا الصراع الرهيب مع ابنها البار الذي خلعت عليه بالإجماع لقب الصادق الأمين قبل أن يبعث نبياً من رب العالمين.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه وهو على فراش الموت: (يا عم! قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله يوم القيامة.
فيقول طاغوتان كبيران إلى جوار رأس أبي طالب: أترغب عن ملة عبد المطلب؟) وكأنه لو قال كلمة الإيمان سيرغب عن ملة عبد المطلب، إنهم يعلمون أن هذه الكلمة لابد أن تخلعه من الشرك خلعاً، لابد إن قالها أن يخلع رداء الكفر كله، ورداء الشرك كله على أول عتبة للإيمان بالله جل وعلا، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (قل.
وهما يقولان: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فالتفت إليهما وقال: بل على ملة عبد المطلب، فخرج المصطفى وهو يقول: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك.
فنزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]).
فيا أيها الأحبة الكرام: من الناس الآن من يردد كلمة الإيمان وهو لا يعرف لها معنى، ومن الناس من يرددها وهو لا يقف لها على مقتضى، ومن الناس من يرددها وقد قسم حياته إلى قسمين: قسم في جانب العبادات، فهو يمتثل أمر الله وأمر هذه الكلمة في هذا الجانب التعبدي، والجانب الآخر في المعاملات والسلوك والأخلاق، لا ترى لهذه الكلمة واقعاً في هذا الجانب على الإطلاق، فلابد أن نعي حقيقة الإيمان.(79/5)