تارك الصلاة
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، وقد وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها عمود الدين، ومن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين.
لذلك عرض الشيخ -حفظه الله- أدلة وجوبها، وكفر تاركها، مبيناً تعرضه للوعيد الشديد من الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
وختم حديثه بذكر عظيم فضلها وفضل المواظبين عليها.(1/1)
جزاء تأخير الصلاة عن وقتها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء الثلاثين مازلنا بفضل الله وحوله وصوله ومدده نطوف بحضراتكم في بستان سورة مريم، ولقد انتهينا بفضل الله جل وعلا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58].
أيها الأحبة! وبعد أن ذكر الله جل وعلا وتحدث عن هؤلاء الأصفياء من الأنبياء والأتقياء ممن تبعهم بإحسان، ذكر أنه تبارك وتعالى خلف من بعدهم خلف سيئ، هذا الخلف قال الله عنه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] مفارقة عجيبة بين هذين الفريقين، فريق إذا ما تليت عليه آيات الرحمن خر ساجداً باكياً لله جل وعلا، وفريق اتبع هواه وجرى وراء شيطانه، فاتبع الشهوات وأضاع الصلوات، ولا حول ولا قوة إلا بالله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59].
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ)) [مريم:59] أي أخروا الصلاة عن وقتها] وروى الإمام أبو يعلى الموصلي، وابن المنذر، وابن حبان، وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط، والحاكم والبيهقي وضعفا رفعه وصححا وقفه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] أتدرون ماذا قال الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ قال: (يا سعد! هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها)، ولم يقل: هم الذين يضيعون الصلاة، وهم الذين يتركون الصلاة، بل قال: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.
يقول الله جل وعلا: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] الله أكبر! هذا جزاء من ضيع مواقيت الصلاة، ولا أقول: من ترك الصلاة بالكلية، بل هذا جزاء من أخر الصلاة عن وقتها فسوف يلقى غياً، وغيٌ كما أخرج البخاري في تأريخه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [غيٌ نهر في جهنم] والعياذ بالله.
وروى الإمام ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني في الأوسط، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] قال عبد الله: الغي نهر أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر، خبيث الطعم، يقذف فيه كل من اتبع الشهوات]، {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] لا إله إلا الله، هذا جزاء من أخر الصلاة عن وقتها.(1/2)
حكم تارك الصلاة تكاسلاً
يا عباد الله، أيها المسلمون في كل مكان! أنا لا أخاطب الحاضرين الآن بين يدي في هذا المسجد، وإنما أخاطب المسلمين، وأرسل إليهم بهذه الرسالة، وأبعث إليهم بهذا الشريط في كل مكان من أرض الله: أيها المسلمون! أيها الرجل! أيتها المرأة! أيها المسلم! أيتها المسلمة! أيها الشاب! أيتها الفتاة! يا من ضيعت الصلاة، يا من تركت الصلاة، يا من أخرت الصلاة عن أوقاتها، أعيروني القلوب والأسماع في هذا اللقاء -يا عباد الله- لنستمع اليوم إلى هذا الحكم الذي يخلع القلوب، ويزلزل الأفئدة، وتضطرب إليه الجوارح، ولكن هيهات هيهات، فقد ماتت القلوب إلا من رحم علام الغيوب جل وعلا.
أعيروني القلوب والأسماع لنستمع اليوم إلى حكم تارك الصلاة، فإنه حكم يخلع القلوب ويزلزل الأفئدة، فانتبهوا معي جيداً.
يقول الإمام الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار: لا خلاف بين المسلمين على أن من ترك الصلاة ترك جحود وإنكار فقد كفر كفراً يخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وقال رحمه الله بعد ذلك: من كان تركه للصلاة تكاسلاً مع اعتقاده بوجوبها، وهذا حال كثير من الناس -والقول للإمام الشوكاني - وهذا هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه على قولين: أما القول الأول: وهو قول مالك، والشافعي، أنهم قالوا: بأن من ترك الصلاة تكاسلاً مع اعتقاده بوجوبها لا يكفر بل يفسق، فإن تاب إلى الله جل وعلا وإلا قتل بعد ثلاثة أيام حداً بالسيف، تقطع رأسه وتضرب عنقه بالسيف بعد ثلاثة أيام، هذا الرأي الأول.
وأما القول الثاني: والحق مع أصحاب القول الثاني بالدليل الصحيح من الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول جمهور أهل العلم أنهم قالوا: من ترك الصلاة تكاسلاً وانشغالاً عنها من غير عذر شرعي، فهو كافر كافر كافر، وقد أوجب الإسلام قتله، فهو كافر، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على كفره وعلى وجوب قتله.
استمعوا معي -أيها الأحباب- لأسرد إلى حضراتكم الأدلة على ذلك، وأولاً أود أن أذكر الجميع بأني لن أتدخل بكلمة واحدة من تلقاء نفسي، وإنما سأذكر لكم الأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم كل مسلم، ولتعلم كل مسلمة أن من رد هذا الكلام فهو رادٌ لكلام الله، وراد لكلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(1/3)
الأدلة على وجوب قتل تارك الصلاة
سأكتفي بدليلين صحيحين اثنين: الدليل الأول: حديث رواه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
وجه الاستدلال من هذا الحديث كما يقول أستاذنا ابن القيم رحمه الله: وجه الاستدلال من هذا الحديث المبارك أنه صلى الله عليه وسلم أُمر بقتال الناس حتى ينطقوا بالشهادتين، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، وأن دماءهم وأموالهم محرمةٌ بعد نطقهم بالشهادتين وإيتاءهم للزكاة وفعلهم للصلاة.
الدليل الثاني: الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذهيبة -أي بقطعة صغيرة من الذهب- وهو في اليمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة، فقال رجل من هؤلاء: اتق الله يا رسول الله -وفي رواية: إن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله جل وعلا- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ فقال خالد رضي الله عنه: ألا أضرب عنقه يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا لعله أن يكون يصلي).
قالٍ الإمام ابن القيم رحمه الله ووجه الاستدلال من هذا الحديث على وجوب قتل تارك الصلاة أن المانع الذي منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله هو كونه يصلي.
فهذان دليلان صحيحان على وجوب قتل تارك الصلاة، فتعالوا بنا إذاً لنستشهد بالأدلة الصحيحة على كفر تارك الصلاة، وقد تكلمنا عن الأدلة التي تذكر وجوب قتله، وأنا لا أتوقف عند جميع الأدلة وإلا لطال الوقت جداً، ولكنها ومضات سريعة صحيحة بإذن الله جل وعلا لتبين المراد، ونسأل الله أن يجعل في هذا الكلام النفع والبركة لكل مسلم ومسلمة على ظهر هذه الأرض، إنه ولي ذلك ومولاه.(1/4)
الأدلة على كفر تارك الصلاة
أما الأدلة -أيها الأحبة- على كفر تارك الصلاة من الكتاب والسنة، أقدمها بقول الإمام ابن حزم رحمه الله: قال الإمام ابن حزم: جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وأبي بكر وعن غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم جميعاً أنهم قالوا: [من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد] يقول ابن حزم: ولا نعلم لهؤلاء الصحابة مخالفاً.
من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها، فهو كافر مرتد عن دين الله، هذه صلاة واحدة فما ظنكم بمن ترك الصلاة جملة، ما ظنكم بمن ضيع الصلاة وما صلى لله ركعة.
يقولون: من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، فما ظنكم بمن ضيع الصلاة، وما ظنكم بمن جلس أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة مضيعاً لفرض الله جل وعلا، وما ظنكم بمن انشغل عن الصلاة بما لا يعد في الدين عذراً شرعياً.(1/5)
الأدلة من القرآن على كفر تارك الصلاة
من ترك صلاةً واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد، والأدلة على ذلك من كتاب الله ومن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ فإن كثيراً من الناس لا يأخذون إلا بأدلة الكتاب والسنة، فنقول لهم: أما الأدلة على كفر تارك الصلاة من القرآن الكريم فهي: الدليل الأول من القرآن قول الله تبارك وتعالى في سورة القلم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، ويقول جل وعلا بعدها في هذه السورة أيضاً: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] يقول سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42 - 43].
وجه الدلالة من هذه الآيات والكلام للإمام ابن القيم رحمه الله يقول: وجه الدلالة من الآيات: أن الله تبارك وتعالى لم يجعل المسلمين كالمجرمين، وهذا لا يليق بحكمه ولا بحكمته ولا بعدله، بل جعل الله المسلمين ضد المجرمين والمجرمين ضد المسلمين، وقال الله تبارك وتعالى وهو يحدثنا عن أحوال المجرمين في يوم القيامة، أنه يوم يكشف عن ساق يخر المسلمون الصادقون سجداً لله جل وعلا دليلاً على إيمانهم، وبرهاناً ساطعاً على صدق إسلامهم لربهم جل وعلا، ويأتي الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا بين هذه الصفوف كما كان حالهم من النفاق في الدنيا، يريدون أن يسجدوا مع المسلمين كما سجد المسلمون لربهم جل وعلا، فيأبى الله جل وعلا أن يسجدوا وتبقى ظهورهم رغم أنوفهم قائمة كظهور البقر، لا يستطيعون السجود لله جل وعلا.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فلا يسجد إلا المسلم، ولا يستطيع السجود غير المسلم، ولو كان هؤلاء من المسلمين لأُذن لهم بالسجود كما أُذن للمسلمين، ومنهم بنص الآية من ترك الصلاة في الدنيا كما قال سبحانه: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43].
الدليل الثاني من القرآن الكريم في سورة المدثر: يقول الله تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:38 - 40] يتساءلون عن من؟ {عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:41 - 42] هذا كلام الله -يا عباد الله- {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43 - 47] هذا قول الله جل وعلا، ووجه الدلالة من هذه الآية، والكلام للإمام ابن القيم رحمه الله: وجه الدلالة من هذه الآيات أن الله تعالى جعل المسلمين ضد المجرمين، وجعل من المجرمين السالكين في سقر بنص الآية من ترك الصلاة في الدنيا {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:39 - 43].
الدليل الثالث من القرآن الكريم من سورة براءة -التوبة-: قول الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ربط الله أخوتهم في الدين بإقامتهم للصلاة، فإن لم يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فلا أخوة لهم في دين الله، ولا يكونوا بذلك مع المؤمنين؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وأكتفي بهذه الأدلة من القرآن الكريم، وفي هذا الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(1/6)
الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة
أما الأدلة الصحيحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفر تارك الصلاة فهي كثيرة ووفيرة، فأعيروني القلوب والأسماع يا عباد الله.
أقول بداية: لا ينبغي لمسلم ولا لمسلمة إن سمع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد قولهما بقول عالم أو رجل أو شيخ، لا والله، لا يجوز ذلك في دين الله أبداً {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] هذا قول الله وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدليل الأول على كفر تارك الصلاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) هل تريدون حديثاً أوضح من هذا الحديث يا من ضيعتم الصلاة؟ وهل تريدون كلاماً أوضح من هذا الكلام؟ الحديث رواه مسلم وبإذن الله لا أذكر حديثاً ضعيفاً أبداً، رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة).
الدليل الثاني: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام أبو داود، والإمام النسائي، والإمام الترمذي وقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، من حديث يزيد بن حبيب الأسلمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
الدليل الثالث: ما رواه هبة الله الطبري، وقال الطبري: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك).
الدليل الرابع: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطبراني بإسناد جيد وقال: حديث صحيح على شرط الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال (من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الإمام ابن القيم لطيفة بديعة من لطائف العلم في هذا الحديث فقال: يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء؛ لأن تارك الصلاة يشغل عن الصلاة بشيء من هذه الأربعة، إما أن يشغله عن الصلاة ماله، أو ملكه، أو وزارته، أو تجارته، يقول: فمن شغله ماله عن الصلاة فضيعها حشر يوم القيامة مع قارون، ومن شغلته وزارته عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع وزير السوء هامان، ومن شغله ملكه عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع فرعون، ومن شغلته تجارته عن الصلاة فضيعها -وكثير ما هم- حشر مع أبي بن خلف، وهؤلاء العمالقة في الكفر والشرك في الدرك الأسفل من النار كما تعلمون جميعاً.
(من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف) في الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله.
الدليل الخامس: ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاةً مكتوبةً فقد برئت منه ذمة الله).
الدليل السادس: أن ترك الصلاة -يا عباد الله- يحبط جميع الأعمال، حتى الحج -يا حجاج اسمعوا- فتارك الصلاة لا يقبل الله منه حجاً، ولا صوماً، ولا زكاة، ولا صدقة، ولا خيراً، ما الدليل؟ ما رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الطبراني بإسناد جيد وقال حديث صحيح الإسناد على شرط الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح-وياله من فلاح- وإن فسدت خاب وخسر).
يقول ابن القيم رحمه الله: ولو قبل الله تعالى لتارك الصلاة عملاً من أعمال البر والخير ما حكم عليه الرسول بأنه من الخائبين الخاسرين والعياذ بالله، هي عمود الدين بعد توحيد الله جل وعلا، وأول ما تسأل عنه، فإذا صلحت الصلاة صلح سائر الأعمال، وإن فسدت الصلاة والعياذ بالله لا تسأل عن عمل بعدها، وفسد سائر العمل والعياذ بالله.
أكتفي بذلك -أيها الأحباب- من الأدلة الصحيحة الصريحة على كفر تارك الصلاة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/7)
حكم صلاة الجماعة
وفي عجالة سريعة أذكر بحكم صلاة الجماعة، ونذكر هواة الصلاة في البيوت والمنازل بحكم صلاة الجماعة، ونقول لهم: يا من تصلون في البيوت والحجرات وتركتم هدي خير البريات، وتركتم الجمع والجماعات: اعلموا بأنكم على خطرٍ عظيم حتى وأنتم تصلون؛ لأن من العلماء من قال بوجوب صلاة الجماعة والحق والدليل معهم، فمنهم من قال بوجوبها، ومنهم من قال بأنها سنة مؤكدة، والحق والدليل مع من قال بوجوب صلاة الجماعة؛ وإليكم بعض الأدلة يا عباد الله.
الدليل الأول من القرآن الكريم على وجوب صلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا: يقول الحق تبارك وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] فلو كان المقصود إقامة الصلاة فقط ما قال الله في آخر الآية: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهو الذي قال في أولها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] فلو كان الأمر يقتصر على الإقامة لقال الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ومعلوم أنه لا توجد كلمة في القرآن الكريم كله بدون هدف وبدون معنى وبدون حكم.
ولو كان المقصود إقامة الصلاة فقط لقال الله كما قال في آيات كثيرة من القرآن {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ولكنه قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
يقول الشيخ ابن باز: وهذه الآية نص في وجوب صلاة الجماعة.
الدليل الثاني: هو قول الله تبارك وتعالى وحكمه على المسلمين، حتى وهم في ساحة القتال وميدان الوغى، يوم أن تصمت الألسنة وتخطب السيوف على منابر الرقاب في مواجهة أعداء الله جل وعلا، لم يسمح الله بترك صلاة الجماعة، أسمعتم دليلاً أعظم من هذا الدليل، حتى في ميدان القتال والخوف من أعداء الله أن ينقضوا على المسلمين، لم يسمح الله جل وعلا أن يصلي المسلمون الصلاة فرادى في ميدان القتال، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بهم في الميدان جماعة، سبحان الله! فقال له ربه جل وعلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] وقال بعدها جل وعلا: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102] دليل عجيب وصريح في وجوب صلاة الجماعة، حتى في وقت الخوف والقتال، ولو كان الأمر يسيراً -كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله- لأُذن لهؤلاء في ميدان القتال أن يصلوا فرادى، وأن يصلي كل واحد منهم في موقعه، ولكن الله جل وعلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بهم جماعة.
الدليل الثالث: حديثٌ رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، وقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرخص له، أي أن يصلي في البيت فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء، قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: فأجب) أجب النداء، أجب منادي الله في بيت الله جل وعلا.
الدليل الرابع: الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهذا من حديث أبي هريرة أيضاً-: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الخير لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي، معهم حزم من حطب فآتي على قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار).
أسمعتم يا عباد الله! (أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) هذا حكم صلاة الجماعة.
فيا من تهوون الصلاة في البيوت وتتركون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلموا أنكم على خطر عظيم، ولو متم على ذلك لمتم على غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن مسعود في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (إنها من سنن الهدى، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) ثم يقول في آخر الحديث: (ولقد رأيتنا ولا يتخلف عن هذه الصلاة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين -أي يستند على الرجلين- حتى يقام في الصف) هذه صلاة الجماعة وهذا حكم صلاة الجماعة.
فيا من ضيعتم الصلاة! اتقوا الله جل وعلا، ويا من ضيعتم الصلاة في جماعة! اتقوا الله جل وعلا، فلو متم على ذلك لمتم على غير سنة رسول الله، وعلى غير هدي ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
بقي لنا -أيها الأحباب- أن نذكر في عجالة سريعة بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله جل وعلا، فضل الصلاة بصفة عامة، وأسأل الله عز وجل أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/8)
فضل الصلاة وعظيم أجرها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! هذه هي الصلاة وهذه هي عظمة الصلاة، وهذا هو خطرها، وهذا هو حكمها، وهذا هو فضلها، ولقد تكلمنا عن الأدلة التي تقول بوجوب قتل تارك الصلاة، وعن الأدلة التي تقول بكفر تارك الصلاة، وبينا حكم صلاة الجماعة وبقي لنا في عجالة سريعة أن نذكر المسلمين والمسلمات في كل مكان في أرض الله جل وعلا بفضل هذه الصلاة.
اعلموا -يا عباد الله- رحمني الله وإياكم بأن الصلاة هي عماد الدين، فمن تركها فقد ضيع الدين، وهو لما سواها أضيع، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [إن من ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع، وهي عماد الدين وأس الإسلام] أي أساسه الأول بعد توحيد الله جل وعلا، فقد بني الإسلام على خمس، وأول ركن من أركانه هو التوحيد والركن الثاني هو الصلاة -يا عباد الله- وفضلها عظيم وخطرها جسيم.
وسأكتفي بهذه الأحاديث الثلاثة التي وردت في فضل الصلاة، وكلها صحيحة إن شاء الله، أما الحديث الأول رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل منه كل يوم خمس مرات) أي: لو أن نهراً بباب أحدكم وينزل كل يوم خمس مرات إلى هذا النهر ليغتسل فيه خمس مرات (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟) أي: هل يبقى بعد ذلك على جسده من الأوساخ والقاذورات شيء (قالوا: لا يبقى من درنه شيء يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا) يا لها من كرامة، ويا له من فضل عظيم (فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).
وفي الحديث الذي رواه الإمام الطبراني بإسناد جيد، ورواته محتج بهم في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها) الله أكبر (تحترقون، تحترقون) أي بالذنوب والمعاصي والشهوات والأهواء (تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) يا له من فضل! وهذا من فضل الصلاة أيها الأحباب.
وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري والإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبع وعشرين درجة).
فيا عباد الله! أيها المسلم وأيتها المسلمة! الله الله في الصلاة الله الله في الصلاة! فيا تارك الصلاة لقد سمعت وعلمت قول العلماء بكفرك، فتارك الصلاة والله الذي لا إله غيره ملعون، والله لكأني بتارك الصلاة ينادي عليه ثوبه الذي يرتديه على جسده، ولو أنطقه الله لقال له بلسان الحال: يا تارك الصلاة لولا أني مسخر لك لفررت من على جسدك.
والله لكأني بلقمة العيش يرفعها تارك الصلاة إلى فمه، تنادي عليه بلسان الحال وتقول له: يا تارك الصلاة يا عدو الله تأكل رزق الله وأنت مضيع لفروض الله جل وعلا.
والله لكأني بالبيت الذي يؤويه وبالمنزل الذي يعيش فيه، ينادي عليه بلسان الحال إذا ما خرج كل يوم وكل صباح، يقول له: اخرج يا عدو الله، لا صحبك الله في سفرك ولا خلفك الله في أثرك، ولا ردك الله إلى أهلك، ولا إلى أولادك سالماً غانماً.
يا تارك الصلاة، ويا مضيع الصلاة، اعلم بأنك على خطر عظيم، ولو مت على ذلك لمت على الكفر والعياذ بالله، فالله الله يا عباد الله، الله الله في الصلاة، فلقد كانت آخر وصيةٍ لنبيكم صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت، وقد جعل يردد هذه القولة، وهذه الوصية الغالية؛ جعل يقول (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).
هذه رسالة وهذا شريط أرسل به وأبعث به إلى كل مسلم ومسلمة على ظهر هذه الأرض في أي بلد من بلاد الله جل وعلا، وأذكر نفسي وإياكم بعظمة الصلاة وبخطورة الصلاة، وأسأل الله جل وعلا أن يبارك في هذا الشريط، وأن يجعله نافعاً لكل مسلم ومسلمة، إنه ولي ذلك ومولاه.
وأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وباسمه الأعظم الذي إن سئل به أعطى، وإن دعي به أجاب: أن يرد المسلمين إليه رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم لا تجعل لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته.
اللهم خفف الصلاة على قلوبنا يا رب العالمين، اللهم اجعلها قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم اجعلها قرة أعين لنا يا رب العالمين، اللهم رب أولادنا في ظلال الصلوات، اللهم رب أولادنا في ظلال المساجد، اللهم رب أولادنا في ظلال القرآن، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلوات، اللهم اجعلنا من المحافظين على الصلوات، اللهم لا تجعلنا ممن هم عن صلاتهم ساهون، اللهم اقبلنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم تقبل منا صالح الأعمال، ووفقنا اللهم إلى ما تحبه وترضاه، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد، اللهم قد بلغت اللهم فاشهد!!!(1/9)
الطريق إلى الله
الطريق إلى الله طريق واحد، وهو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وما سواه من الطرق إنما هي طرق ضلال وغواية عن الصراط المستقيم، والناس في هذا الأمر قسمان: أولهم من ضل عن الطريق وعادى شرع الله وأهله، والآخر من اهتدى إلى الطريق وثبت عليه.(2/1)
الطريق إلى الله هو طريق الرسول والصحابة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، عالم الغيب والشهادة الذي استوى في علمه ما أسر العبد وما أظهر، الذي يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، حمداً لك يا من اعترف بفضلك وكرمك كل حاضرٍ وباد، حمداً لك يا من اغترف من بحر جودك وكرمك كل رائح وغاد، حمداً لك يا من نطقت بوحدانيتك الكائنات.
فالسماء دائماً وأبداً تقول: سبحان من رفعني بقدرته، وأمسكني بقوته، فهو ركني وعمادي! والأرض تقول: سبحان من وسع كل شيء علماً ومهد مهادي! والبحار تقول: سبحان من بمشيئته أجراني، وأسال عيون مائي لخطَّابي وورَّادي! والعارف به يقول: سبحان من دلني عليه، وجعل إليه مرجعي ومعادي! والمذنب يقول: سبحان من اطلع علي في المعصية ورآني، فلما رآني سترني وغطاني، ولما تبت إليه تاب علي وهداني.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، والصمد الذي لا منازع له، والغني الذي لا حاجة له، جبار السماوات والأرض، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام:103].
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقاص، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته، فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنه تبارك وتعالى كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان، لم يتغير عما كان، لا يحويه زمان، ولا يحده مكان، علم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
لا إله غيره، ولا رب سواه، من توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن فوض إليه الأمر هداه، وصدق الله إذ يقول: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا محمداً رسول الله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليك يا رسول الله صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء، ويا سيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي -ويشهد معي الموحدون- أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت الله حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك تمشي على شوك الأسى، وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين، وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل يا سيدي، وقومت المعوج، وأمَّنت الخائف، وطمأنت القلق، ونثرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد كما تنثر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلِّ اللهم وسلم وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، وجزاك الله عنا وعن الإسلام خير ما جازى الله به نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه.
يا مصطفى ولأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكل ما ملكت يدي
إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي ألا بغيرك اقتدي
لك معجزات باهرات جمة وأجلها القرآن خير مؤيدي
ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الجاني وشاه المعتدي
وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد
قد لامني فيه الكفور ولو درى نعم الإيمان به لكان مساعدي
يا رب صلِّ على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غدِ
اللهم صل وسلم عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء! ويا سيد المرسلين! أما بعد: فيا أيها الأحباب! أحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم! تعالوا بنا لنطوف سوياً في روضة القرآن الكريم، لنتعرف اليوم على الطريق الصحيح، فإن موضوعي اليوم مع حضراتكم بعنوان: الطريق إلى الله عز وجل، أين الطريق إلى الله عز وجل؟ خاصة وأن كثيراً من الناس اليوم قد التبست عليه الأمور واختلطت، وتشعبت به الأهواء، وكثرت من حوله الفتن، وكثرت بين يديه وأمام عينيه الفرق والجماعات، وهو في حيرة، أين هو؟ بل وأين الطريق؟ إن الطرق أمامه قد تشعبت، وإن الفرق أمامه قد اختلفت وتكاثرت وتباينت، الكل ينتصر لرأيه، والكل ينادي لمنهجه وفكره، حتى وصل الأمر إلى حد التصادم والنزاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فتعالوا بنا لنضع النقط اليوم على الحروف، لنتعرف على الطريق، أين الطريق الذي يوصلنا إلى الله جل وعلا في وسط هذا الركام الهائل من الأفكار والفلسفات والمبادئ؟ يقول صاحب ظلال القرآن -حتى تتعرفوا على الحقيقة- يقول الشيخ سيد قطب رحمه الله: إن الدنيا كلها بمبادئها وأفكارها وفلسفاتها ومناهجها إن لم تكن مرتبطة بمنشئها الأول، وقدوسها الأجل الأعظم وهو الله جل وعلا، فإنما هي في ضلال وضلال، إن الطريق هاهنا واضح وبين، وإن الطريق هاهنا بين.
الطريق إلى الله -أيها الأحباب- هو طريق واحد لا اعوجاج فيه ولا انحراف، لا اختلاف فيه ولا تباين.
الطريق حدده النبي صلى الله عليه وسلم، وحدد مراسمه من بلغ عن ربه جل وعلا، فقال فيما ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، انتبهوا معي -أيها الأحباب- إلى دقة التعبير القرآني في هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] لو انتبهتم معي للدقة القرآنية لوجدتم أن الله في هذه الآية قد وحد الطريق وأفرده: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} مفرد وطريق واحد، وجمع الله السبل والطرق؛ لأن الطرق المتعددة إنما هي طرق الشيطان والأهواء والضلال، وحد الله الطريق إليه وجمع السبل؛ لأن الطريق إلى الله واحد وواضح: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] بالإفراد، {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] بالجمع؛ لأن الطرق متعددة ومتنوعة كلها بدع وأهواء وضلالات، لا صدق ولا إخلاص ولا ابتغاء لمرضاة الله عز وجل فيها، إن الطريق الذي يسلكه ويبتغي فيه القرب من الله إنما هو طريق واحد، إنما هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.
ولقد ورد في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام النسائي في سننه، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً بيده -رسم على الأرض خطاً مستقيماً- ثم قال: هذا صراط الله مستقيماً، وخط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل جلس على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) على كل هذه الطرق المتفرقة والمتنوعة شيطان، يدعو الشيطان إلى حزبه وفكره ومنهجه ومبادئه، وصراط الله مستقيم واضح بين.
وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]، لو نظرتم في هذه الآية أيضاً لوجدتم أن الله قد جمع الظلمات وأفرد النور، ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ))، جمع ظلام وجمع ظلمة، ظلمات البدع، والأهواء، والدنيا، والشياطين، والطواغيت في هذه الأرض؛ لأن الطاغوت له في كل عصر لغة، وله في كل عصر لسان، وله في كل عصر منهج، بل ألف ألف لسان، يتنوع ويتشكل بتشكل العصور والأزمان، والأماكن والأوقات.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] الله جمع الظلمات ووحد النور؛ لأن مصدر النور واحد هو الله نور السماوات والأرض، أو كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه]، أو كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
إذاً: الظلمات متعددة، والطرق متنوعة، ولكن طريق النور هو طريق الحق وهو طريق واحد، هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو طريق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، من سلك هذا الطريق فقد سلك الطريق الحق إلى الله الحق، ومن شذ عن هذا الطر(2/2)
تحذير الله ورسوله للمؤمنين من الفرقة والخلاف
يا أيها الأحباب! إن الطريق إلى الله واحد وواضح ونير، لا لبس، ولا غبش ولا غموض، ولا اعوجاج، ولا انحراف فيه، ولا التفات عنه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الفرقة والاختلاف والتباين، وقال في الحديث الصحيح الذي خرجه الإمام أحمد والإمام القرطبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترق أهل الكتاب على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا فرقة واحدة، ما أنا عليه وأصحابي) إذاً الطريق لا لبس فيه، إن الطريق واضح، فلم هذه الاختلافات والفرقة، ولم هذه الأحقاد، ولم هذا التنازع والتباين؟ أيها الأحباب! يا من صدقتم في حبكم لله! ويا من أخلصتم في دعوتكم لله جل وعلا! ويا من صدقتم في حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم! لا تتفرقوا ولا تختلفوا ولا تتباينوا، اجتمعوا على قلب رجل واحد، فإن أعداء الإسلام يخططون لنا وللإسلام ليل نهار، ولكننا نحن المسلمين نحن الموحدين نحن المؤمنين نحن الدعاة إلى هذا الدين اختلفنا فيما بيننا، اختلفنا على أمور فرعية لا تسمن ولا تغني من جوع وتركنا الأصول، وكلنا جميعاً موحدون ومؤمنون ومسلمون، لا إله لنا إلا الله، ولا كتاب لنا إلا كتاب الله، ولا زعيم لنا إلا ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فلم هذه الأحقاد والاختلافات والنزاعات؟ سبحان الله! لا فرق بين أخ سلفي وبين أخيه من جماعة التبليغ، ولا فرق بين هذا وبين أخيه من جماعة الإخوان، ولا فرق بين هذا وبين أخيه من جماعة أنصار السنة، كلنا جميعاً نقول: لا إله إلا الله، كلنا جميعاً نقول: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا منهج لنا إلا القرآن، ولا شرع لنا إلا شرع النبي عليه الصلاة والسلام، فلم هذه الفرقة أيها الأحباب، وأعداء الإسلام والله لا ينامون ليل نهار؟ ما من لحظة إلا وهم يخططون لهذا الدين، إلا وهم يدبرون لهذا الدين، إلا وهم يخططون لتشويه صورة هذا الإسلام، وأعداء الإسلام كثيرون، وكلكم يعرف من هم أعداء الإسلام، لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال وصوت الله أكبر يرتفع ليل نهار في كل المساجد، فلا تختلفوا -أيها الأحباب- فإن الطريق إلى الله واضح وبيّن وكله نور!(2/3)
أقسام الناس في الطريق إلى الله تعالى
إن الناس على الطريق إلى الله قسمان: وهذا التقسيم ليس لي، وإنما هو تقسيم لأستاذنا ومعلمنا الإمام ابن القيم رحمه الله جل وعلا وأسكنه فسيح جناته، وطيب الله ثراه، وقدس الله روحه بقدر ما قدم للإسلام ولدين الإسلام وللمسلمين، ماذا يقول الإمام ابن القيم؟ انتبهوا حتى تعرفوا أين أنتم، هل أنت على الطريق أم أنت بعيد عنه، وبالرغم من ذلك فلقد زين الشيطان إليك عملك، وخدعك إبليس عليه لعائن الله، وقال لك: تمسك فإنك على الطريق، ولكن لو دققت في حقيقة أمرك، ولو فتشت في حقيقة سعيك لوجدت سعيك ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فتحرى الدقة أيها الأخ الكريم، وانتبه معي جيداً لتتعرف أين أنت، هل أنت على طريق الله أم أنت بعيد عن الطريق؟(2/4)
القسم الأول: قسم قد ضل عن طريق الله وأعلن العداء لشرعه
يقول الإمام ابن القيم: الناس قسمان: قسمُ قد ضل الطريق عن الله جل وعلا، بعد وانصرف عن الطريق الحق، ضل الطريق إلى الله سبحانه وتعالى، قسم أعلن العداء لله، وأعلن الحرب على شرع الله رجالاً ونساءً، رجال يقولون: إن في شرع الله التخلف والتأخر، وإن في النقاب الرجوع إلى الوراء: ما هذا التخلف والتأخر والتنطع؟ إن النقاب تخلف، وإن الحجاب تأخر وهكذا، وامرأة أخرى صرخت على صفحات الجرائد، وعبر شاشات التلفاز والإذاعات، تقول: أتريدون أن نرجع إلى عصر الناقة والحصان؟ أتريدون منا أن نرجع إلى الوراء؟ أتريدون منا أن نرجع إلى عهد الأعراب الذين عاشوا في الصحراء؟ إننا في القرن العشرين، إننا في عصر الصاروخ والطائرة والصعود إلى القمر، فلا رجعة ولا عودة إلى الوراء، وعرت عن صدرها وذراعيها، وكشفت عن ساقيها، وكأنها تقول بلسان الحال والمقال: يا رب! غير شرعك ودينك، فإن شرعك لم يعد يتفق مع مدنية القرن العشرين.
هؤلاء الناس ضلوا عن طريق الله، وأعلنوا العداء لله ولشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسخروا من الموحدين والمتوضئين! استهزءوا بهم في كل زمان ومكان، ووصفوهم بأنهم إرهابيون، ومتنطعون، ومتشددون، هل من تمسك بكتاب الله إرهابي؟! هل من تمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم متشدد ومتنطع؟ هذا الذي وضع المسك بدلاً من رائحة السيجارة والتدخين، والذي وضع المسواك في فمه بدلاً من السيجارة والعياذ بالله، هؤلاء إرهابيون، هؤلاء متنطعون، هؤلاء متشددون؟! أيها الموحدون! أيها المؤمنون! أيها المتمسكون بدين حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم! لا تضلوا عن الطريق، ولا يغرنكم من بعد عن الطريق، مهما كثر عددهم، فإن الحق واضح، ورسول الله كان وحده يدعو إلى الله جل وعلا، فلا تغتروا بكثرة المبتدعين، وكثرة المفتونين، واعلموا أن نبيكم وحبيبكم محمد كان وحده في الميدان يدعو إلى الله وحده، فثبته الله جل وعلا، وثبت معه المخلصون من هذه الأمة، الذين دعوا إلى الله جل وعلا، فنقلهم الله بتمسكهم بكتاب الله وسنة رسول الله من رعاة للغنم إلى قادة وسادة لجميع الأمم.
فهذا الصنف الذي أعلن العداء لله، وهذا الصنف الذي ضل عن طريق الله، وأعلن الحرب على شرع الله، وأعلن العداء للمتوضئين الذين أشرقت وجوههم بأنوار الإيمان والطاعة، الذين سجدوا لله في الليل، وهؤلاء بين الخمور وبين شاشات التلفاز، وأمام أشرطة الفيديو، والمغنيات والقينات والخينات والعياذ بالله.
فيا أيها المتوضئون! اثبتوا، واصبروا، واعلموا أن النصر حليفكم بإذن الله جل وعلا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، إن النصر للإسلام والله، وإن النصر لدين الله، لا تخافوا على الدين أبداً، فإن الذي تولى حفظ الدين هو الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، لا نحذركم ولا نخوفكم على الدين، وإنما الحذر علينا نحن المسلمين وأصحاب الدين من هذه الفرقة، ومن هذه الاختلافات؛ لأن الدين محفوظ بعناية الله وقدر الله سبحانه! وقد ذكرت لكم أن مدرساً تربى على الشيوعية والوجودية والإلحاد: دخل ذات يوم على تلامذته في الفصل، وأراد أن ينفث سموم هذه العقيدة العفنة في عقول هؤلاء الصغار، فوقف أمامهم وأشار إليهم وهم صغار العقول، وقال لهم: يا أولاد! هل ترون هذه السبورة! قالوا: نعم.
قال: إذاً السبورة موجودة.
تروني؟ قالوا: نعم.
قال: إذاً أنا موجود.
أترون الدرج الذي أنتم قاعدون عليه؟ قالوا: نعم.
قال: إذاً الدرج موجود.
أنتم ترون ربنا؟ قالوا: لا.
قال: إذاً غير موجود، لا وجود لخالق، إذاً هذا الكون كله من عرشه إلى طرفه لا خالق له.
سبحان الله! يا أعرابي! يا من عشت في الصحراء! يا من لم تدخل إلى جامعة من الجامعات! ويا من لم تدرس في كلية من الكليات! يا من لم ترتحل في جنبات الأرض بحثاً عن علم، أو جرياً وراء فكر، أو فلسفة زائفة، أو منهج خداع.
أيها الأعرابي البسيط! بالله عليك بماذا تعرفت على الله؟ وما الدليل على وجود الله؟ قال لهم: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟! سبحان الله! هذا الرجل المشرك الملحد الوجودي الشيوعي، يقول لهم: لا وجود للخالق، سبحان الله العظيم! وإذ بالله تبارك وتعالى الذي تكفل بحفظ دينه ينطق صبياً وطفلاً صغيراً من هؤلاء الصغار، ينطقه الله ويؤتيه الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269]، فقام تلميذٌ أراد أن يقلد أستاذه.
مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد مشيته بنوه
فقال علام تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
فقام التلميذ مقلداً لأستاذه، ووقف أمام أستاذه ونظر إلى زملائه من التلاميذ، وقال لهم: يا أولاد: أنتم ترون عقل الأستاذ؟ قالوا: لا، قال: إذن عقله غير موجود، مجنون ابن مجنون، هذا حفظ الله لدينه، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، عهد أخذه الله على نفسه، فلا تخافوا على هذا الدين، ولكن الخوف علينا نحن المسلمين إذا ما ضيعناه، وإذا ما فرطنا فيه، وإذا ما ألقينا كتاب الله وشرع رسول الله وراء ظهورنا، هنا يخشى علينا من الضياع والضلال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل -زبد لا قيمة له ولا نفع فيه- وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فيا أيها الأحباب! صنفٌ قد ضل عن الطريق وأنتم تعلمونه جيداً، أعلن العداء لله، وأعلن الحرب على شرع الله، وأعلن العداء للدعاة، وصب الإيذاء والعذاب صباً على كل من دعا إلى هذا الدين، هذا الصنف تحركه الشياطين، والأهواء والشهوات، ألم تقرأ قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83]، تدفعهم الشياطين إلى المعاصي دفعاً، وإلى الضلال دفعاً، وإلى جهنم دفعاً، نؤزهم أزاً إلى الضلال والمعاصي والهلاك، هذا هو الصنف الأول؛ بعد عن الله فبعد الله عنه، وويل لمن بعد الله عنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، هذه هي النتيجة، من أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن أعرض الله عنه فهو في ضلال.
نعيش في هذا الضنك والضيق، نقص في الأموال والثمرات والمياه والكهرباء والاقتصاد لا رخاء اقتصادي، ولا أمن، ولا أمان، لماذا؟ لأننا أعرضنا عن الله، وأعلنا العداء على الله، والحرب على شرع الله جل وعلا، فماذا تنتظرون؟ ماذا تكون النتيجة؟ هذا الضنك والضيق والضلال والبعد، وهذه الأزمات والمشاكل والظلمات التي نعيش فيها، هذه نتيجة حتمية لكل من أعرض عن منهج الله، هذه نتيجة حتمية لكل من شذ وأعلن الحرب على شرع الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] ما هي النتيجة؟ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:11 - 13] ما لكم لا تعبدون الله حق العبادة، ما لكم لا توحدون الله حق التوحيد، ما لكم لا تصطلحون مع الله، ما لكم تعلنون الحرب على شرع الله، وعلى منهج الله، وعلى كتاب الله، النقاب تخلف، وشرع الله تأخر؟ لا إله إلا الله، فهذا الصنف أيها الأحباب ضل عن الطريق، وبعد عن الله فبعد الله وأعرض عنه، فهو يعيش في حسرة، لا أمن ولا أمان ولا رخاء ولا استقرار، وإن نعمة الأمن والأمان، ونعمة الاستقرار والرضا، إنما هي نعمة عظيمة، انتبه {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، نعمة الطمأنينة ونعمة الرضا، لا ينعم بها إلا المؤمن الذي اطمأن قلبه بذكر الله، والذي كان مع الله فكان الله معه.
وكما يقول سيدنا قتادة: من كان مع الله كان الله معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، ومعه الحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، والقوة التي لا تذل.(2/5)
القسم الثاني: قسم عرف الطريق إلى الله وثبت عليه
الصنف الثاني: صنف عرف الطريق وثبت عليه -أسأل الله أن نكون أنا وأنتم منهم- لأن نعمة الثبات -أيها الأحباب- من أجل النعم، أسأل الله أن يثبتني وإياكم على طريق الله، وأن يتوفاني وإياكم على التوحيد الخالص.
من الناس في الصنف الثاني من عرف الطريق إلى الله وثبت عليه، فهو يجاهد نفسه ويجاهد شيطانه وهواه ودنياه على أن يظل في هذا الطريق، ولكن الكل يختلف عن الآخر، كلنا يختلف في قدر عبادته، وكلنا يختلف في قدر طاعته، هذه فطر الله في خلقه، فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتحاقدوا، واعلموا بأن فطرة الله في خلقه أن يكون هذا التباين والاختلاف، هذا سيد عمله العلم، لا يزال عاكفاً على العلم حتى يسلك من هذا الطريق إلى الله، وهذا سيد عمله الصلاة، وهذا سيد عمله تلاوة القرآن، وهذا سيد عمله قيام الليل، وهذا سيد عمله الصيام، وهذا سيد عمله إغاثة اللهفات، وتفريج الكربات وأنواع الصدقات، وهذا سيد عمله الحج والاعتمار، وهذا سيد عمله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله.
إذاً: فالكل يختلف بقدر ما منَّ الله به عليه من عطاء، كلنا يتباين في مقدار القرب والبعد عن الله، وكلنا يتباين في مقدار القربات والطاعات إلى رب الأرض والسماوات، وهذه فطرة الله في خلقه، وهذه سنة الله في خلقه.
ولذلك فإن الإمام ابن القيم رحمه الله يقسم هذا الصنف الثاني إلى ثلاثة أقسام، ما هي؟ قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، وذلك مأخوذ من قول الله في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
إذاً: الناس يتفاوتون في الطريق إلى الله، ظالم لنفسه، يعصي ويذنب ويرجع ويتوب، هذا هو حاله، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) إلا أنه لا يصر على المعصية، فهذا في رحمة الله بإذن الله.
الظالم لنفسه؛ فرط كثيراً في الزاد الذي يبلغه، والمقتصد زاده يبلغه إلى الطريق بالكاد، والسابق بالخيرات زاده كثير، وربحه وفير، هؤلاء هم الأبرار والمقربون، وهذه الأصناف جميعاً بإذن الله في رحمة الله جل وعلا، وإن كان العلماء كما ذكر ابن القيم قد اختلفوا في الظالم لنفسه على فرقتين: فهناك طائفة من العلماء قالت: إن الجنة للصنفين الآخرين، للمقتصد والسابق بالخيرات، أم الظالم لنفسه فإن غلبت حسناته سيئاته فهو من أهل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته فهو من أهل النار، وصنف آخر قال: بأن الظالم لنفسه من الكفار، ولكن الإمام ابن القيم رجح مع طائفة من رجحوا بأن الأصناف الثلاثة في رحمة الله بإذن الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى قال في بداية الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32].
إذاً: هؤلاء جميعاً الذين وضعوا أيديهم وأرجلهم على الطريق بإذن الله هم جميعاً في جنة الله وفي رحمته.
ولقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية ما ذكر الإمام ابن كثير أنه قال: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، وثلث يحبسون في المحبس يوم القيامة ثم يتجاوز الله عنهم -نسأل الله أن نكون منهم! - وذكر الإمام الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: (((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ)) [فاطر:32] فقال: أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيدخله الله الجنة برحمته) وفي رواية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم في الطبراني أيضاً، قال: (وأما الظالم لنفسه فيحبسه الله ويحاسبه فيظل في كرب وضيق وهم وبلاء، ثم بعد ذلك يتجاوز الله عنه، ويدخله الجنة برحمته).
وهنا أيها الأحباب أتذكر حديثاً للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وهو مروي عن عبد الله بن مسعود، بشراكم يا أمة الحبيب! بشراكم يا من وضعتم أرجلكم على الطريق! وبشراكم يا من عرفتم طريق الله! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آخر رجل من أمتي يدخل الجنة، رجل يمشي على الصراط مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة) وبعدما يتخطى الصراط -فيما معنى الحديث- ويعبر الصراط، وينجيه الله من نار جهنم، يلتفت إليها وينظر إلى حرها ونارها وهو يقول: تبارك الذي نجاني منكِ، ثم يقول: الحمد لله! والله لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين، وهو آخر الناس: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وهو آخر الناس، وقبله بزمان هناك من دخل بدون حساب، وهناك من دخل منذ زمن بعيد، ولكنه لما رأى النار وهول النار، يقول: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين.
وهنا حينما يعبر ويقترب من الجنة، يرفع الله له شجرة من شجر الجنة، شجرة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (يمشي في ظلها الراكب خمسمائة سنة) شجر في الجنة غرسها الله بيديه لأوليائه، فيرفع الله له شجرة جميلة عظيمة، وهنا ينادي العبد على الله، ويقول: يا رب! فيقول الله عز وجل: ماذا تريد؟ فيقول العبد: يا رب! قربني من هذه الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ولقد كانت تسفعه النار، إلا أنه عنده من الأمان، يا رب! ادنني.
قربني من هذه الشجرة استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل له: عبدي! يا ابن آدم! هل إن أعطيتكها وقربتك إلى هذه الشجرة لتستظل بظلها وتشرب من مائها، هل ستسأل شيئاً من ذلك؟ يقول: لا وعزتك، وماذا أسأل؟! لقد كنت سأقع في النار، وهأنت يا رب بفضلك ورحمتك نجيتني من النار، وهأنذا سأستظل بشجرة من شجر الجنة لا أسألك شيئاً بعدها يا رب.
فيقربه الله عز وجل منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، وبعد ذلك يرفع الله له شجرة ثانية هي أحسن من الأولى، وبنص الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه! وبعد فترة يقول له: يا رب! يقول له: نعم، يقول له: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة الثانية -هذه جميلة جداً، وأحسن من الأولى بكثير- استظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله: يا ابن آدم! ألم تعط العهود والمواثيق؟ يقول: شجرة اشتقت إليها، فيقربه الله عز وجل، فيستظل بظلها ويشرب من مائها.
ويمكث فترة، فيرفع الله له شجرة أخرى على باب الجنة، فينظر إليها فيشتاق، فيقول: يا رب! قربني إلى هذه الشجرة، وعزتك لن أسأل شيئاً بعد ذاك، فيقول: يا ابن آدم! ما أغدرك.
ألم تعط العهود والمواثيق على ألا تسأل غير الذي سألت؟ يقول: يا رب! وعزتك لن أسأل بعد ذلك شيئاً، فيقربه الله عز جل).
وهنا إذا ما اقترب إلى الشجرة الثالثة، التي هي على باب الجنة، ماذا يحدث؟ يستمع إلى أصوات أهل الجنة، وينظر إلى هذا النعيم المقيم الجنة، أنتم الآن في مجلس كله نقاء وكله حنان، فأنت في سعة وصدرك يتسع، فما بالك إن منّ الله عليك بمكان في بيتك كله سرور وكله راحة، لا شيء فيه يعكر عليك صفوك، تجلس في سعادة، فما بالك إن كنت في جنة الله جل وعلا، أو كما قال الشيخ الشعراوي بارك الله فيه، يقول حينما ذهب إلى قصر من قصور الضيافة في أمريكا، واستقبل في هذا القصر العجيب، وأخذ الناس من حوله يلتفتون إلى هذا البناء والمعمار والتشييد، فأراد الشيخ أن يلفتهم إيمانياً إلى الله، فقال لهم: أيها الناس! هذا إعداد البشر للبشر، فما بالكم بإعداد رب البشر، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولذلك لما وصفها علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
واعمل لدار غد رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أنهارها لبن مصفى ومن عسل والخمر يجري ريحقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفة تسبح الله جهراً في مغانيها
فمن أراد أن يشتري الدار في الفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها
شجرة في الجنة على باب الجنة، يسمع أصوات أهل الجنة ونعيم أهل الجنة، فيقول: (يا رب! فيقول الله له: لبيك.
ماذا تريد؟ فيقول: يا رب! أدخلني الجنة، فيقول الله عز وجل: عبدي! فيقول: نعم يا رب! فيقول الله له: ما الذي يرضيك مني؟! عبدي! ألا تحب أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟! وهنا يقول العبد: يا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟! وهنا ضحك عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن مسعود: لماذا لا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا له: مم تضحك؟ قال: أضحك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حينما حدث بهذا الحديث ضحك، فقالوا له: لم تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك لضحك رب العزة.
لأن العبد حينما يقول: يا رب، أتهزأ بي وأنت رب العالمين، يضحك الله منه، ويقول له: لا يا عبدي! لا أهزأ بك، ولكني على ما أشاء قادر).
فيا أيها الأحباب! اطمئنوا؛ فإن الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات بإذن الله كلهم في رحمة الله وجنة الله.
إذاً: فلتعلموا أن قصدي من هذا الكلام أن الناس متفاوتون، وأن الناس مختلفون، كلٌ على حسب فهمه، وكل على حسب عقله، وكل على حسب إيمانه، وكل على حسب طاعته، وكل على حسب قربه، فلا تختلفوا، ولا تتهموا هذا ولا ذاك، ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا: {(2/6)
الحب في الله بين عباده المؤمنين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحباب! تعالوا بنا لنعاهد الله من اليوم، ونعاهد رسول الله من الساعة أن نتحاب في الله، وأن ننسى المسميات، وأن ننبذ الأحقاد جانباً، وأن يعانق بعضنا بعضاً، وأن نرجع إلى هذا الرباط القوي والمتين، هذا الرباط الذي ضيعناه؛ إنه رباط الحب في الله.
أيها الأحباب! اتركوا الخلافات والمسميات والأفكار على اختلافها، ولكن تعالوا بنا نتحد ونتفق ونجتمع ونعتصم، نضع أيدينا جميعاً في يد كل من يدعو إلى الله جل وعلا أياً كانت جماعته، وأياً كانت طريقته بشرط أنه يدعو من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، طالما هذا هو منهجه وطريقه، فلا تختلفوا ولا تتحاقدوا ولا تتنابذوا، واجتمعوا واعتصموا، هيا بنا نجرب الحب في الله والبغض في الله، فمن أحب لله وأبغض لله، وترك لله، وأعطى لله ومنع لله، فهذا هو الذي قد استكمل الإيمان، كما قال سيد المؤمنين محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحباب! اعلموا جميعاً أن الناس يختلفون، وأن الناس يتفرقون ويجتمعون، وأن الناس يتفاوتون في العقول والأذهان، ويتقاربون ويتنافرون، فلا يغرنكم الشيطان ولا يبذر بيننا بذور الفتن والأحقاد والأهواء.
والله الذي لا إله غيره، لقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: دخل علينا أبو بكر الصديق يوماً وقد شمر عن ثيابه حتى ظهرت ركبته وهو يجري، فقال أبو بكر: (يا رسول الله! قال: ماذا تريد يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! لقد كان بيني وبين أخي عمر بن الخطاب شيئاً -أي: شيئاً من الخلاف، وعدم اتحاد الرأي، وعدم الألفة في أمر من الأمور- فندمت على هذا الخلاف، وذهبت إلى عمر بن الخطاب، وسألته أن يغفر لي فأبى) لله درك يا صديق! أبو بكر الصديق يذهب لـ عمر، ويسأله أن يغفر له زلته وخطأه واختلافه معه في الرأي، يقول أبو بكر: فذهبت إليه يا رسول الله، وقلت له: يا عمر! لقد ندمت على ما بيننا، وأسألك أن تغفر لي، فأبى عمر، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر، يغفر الله لك يا أبا بكر) ثلاث مرات، دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم- فندم عمر بن الخطاب وجاء مسرعاً - هذا هو الحب! لا جفاء؛ لأن المؤمن الصادق لا يحقد أبداً، ولا يبغض أخاً له في الله أبداً، ولا يغتاب أخاً له في الله أبداً، هذا هو المؤمن الصادق في إيمانه وفي حبه لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم- فندم عمر بن الخطاب، وذهب مسرعاً إلى أبي بكر في بيته فلم يجده، فجاء مسرعاً إلى رسول الله فوجد النبي وقد تغير وجهه ولونه، فقال: يا رسول الله! أما كنت قد ظلمت مرتين، سامحني يا رسول الله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ويلكم يا عمر! لقد كذبتموني فصدقني أبو بكر، وواساني بنفسه وماله، فهلا تتركوا لي صاحبي؟!).
أبو بكر وعمر الصحابيان العظيمان الجليلان يختلفان، ولكن سرعان ما يعود الود، وترجع الألفة، ويرجع الحب! إن الحب في الله يزيل كل خلاف، إن الحب في الله يزيل كل بغض، إن الحب في الله يزيل كل حقد، فتعالوا بنا نجرب الحب في الله، نجرب التجمع والاعتصام والألفة والوحدة؛ لأن فيها النصر لديننا، والعز لكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فيا أيها الأحباب! يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]، فأتلفوا أيها الأحباب، ولا تتخالفوا وتتفرقوا، واعملوا بأن الطريق إلى الله واضح وبين، هو الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي).
وأختم موضوعي بحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه الذي خرجه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال رضي الله عنه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، حتى قلنا: كأنها موعظة مودع، فأوصنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم من بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً -فرق وجماعات ومسميات ومناهج وأفكار ومبادئ وطواغيت! كل يدعو لمنهجه، وكل يدعو لمبدئه، وكل يدعو لفلسفته- فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
أسأل الله سبحانه أن ينجيني وإياكم من فتن الشيطان وأهوائه، وأن يثبتني وإياكم على طريق الرحمن، وعلى طريق النبي عليه الصلاة والسلام.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام العظيم وفي هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا في الدنيا ولا في الآخرة إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم ثبتنا على طريق الإيمان، اللهم ثبتنا على طريق الرحمن، اللهم ثبتنا على طريق نبيك عليه الصلاة والسلام.(2/7)
الطريق إلى الدار الآخرة
إن الرحلة إلى الدار الآخرة تبدأ بالموت وتنتهي إما إلى الجنة أو إلى النار؛ تلك هي الحقيقة التي تصبغ من يتذكرها بصبغة الذل والعبودية لله، فأول خطوة من خطوات الرحيل إلى الدار الآخرة القبر، وما أدراك ما القبر! فالقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.(3/1)
بداية الرحلة إلى الدار الآخرة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ند له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! لاشك أننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكر الآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، ولاشك أننا في أمس الحاجة إلى أن نتذكر هذه الحقيقة الكبرى، إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعاً أو كرها العصاة والطائعون، بل والأنبياء والمرسلون.
إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، أنه لا ألوهية إلا لله وحده، ولا بقاء إلا للذي تفرد بالعظمة والبقاء والجلال.
إنها الحقيقة التي تصبغ الحقيقة البشرية بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض.
إنها الحقيقة التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكرها، فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات، قيل: وما هادم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) رواه ابن ماجة والترمذي والنسائي من حديث عمر رضي الله عنه.
من أجل ذلك -أحبتي في الله- سوف أبدأ معكم من اليوم سلسلة أحاديث بعنوان: رحلة إلى الآخرة، ولاشك أن هذه الرحلة تبدأ بالموت، وتنتهي إما بالجنة أو النار، جعلنا الله جل وعلا وإياكم من أهل الجنة، وحرم أجسادنا ووجوهنا وإياكم على النار.(3/2)
على فراش الموت
أما الموت فإنه حق لا مراء ولاشك فيه، قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22]، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق أنك تموت والله حي لا يموت.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق إما أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] والحق إما أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، ذلك ما كنت تحيد منه إلى الطبيب إذا جاءك المرض وإلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وإلى الشراب إذا أحسست بالظمأ.
ولكن؛ ثم ماذا أيها القوي الفتي، أيها الذكي العبقري، يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مذخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى.
أيها الإنسان أيها اللاهي الساهي! يا من غرك مالك! ويا من خدعك جاهك وسلطانك! أيها الإنسان: مهما عظمت دنياك فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر.
أيها الإنسان! اعلم أنك راحل إلى الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] لابد أن تلقى الله عز وجل؛ فإذا ما اقتربت ساعة الصفر وانتهى أجلك كما حدده الله جل وعلا، وأصبحت في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا وصرت طريح الفراش وحولك أولادك يبكون! والأطباء من حولك يحاولون ولكن انظروا معي أيها الأحباب إليه وإلى حاله وكربه وفزعه انظروا معي إليه وقد نام على فراش الموت ولقد اصفر وجه وشحب لونه وبردت أطرافه وتجعد جلده وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه يريد أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يزحزح إلا لمن يسر الله عز وجل عليه.
وهو في هذا الفزع والجزع يطير فؤاده، وينخلع قلبه، فإذا أفاق بين صحوات الموت -بين السكرات والكربات- نظر إلى من حوله من الأولاد والأحباب والأطباء، فرآهم مرة ولم يرهم مرة أخرى، رآهم مرة يقتربون منه، ومرة يبتعدون عنه، مرة يسمعهم ومرة لا يسمعهم، فإذا أفاق لحظة أخرى بين الصحوات من سكرات الموت وكرباته نظر إليهم نظرة ثانية؛ نظرة طويلة وكلها رحمة وشفقة، ورجاء وسؤال وكأنه يقول لهم بلسان الحال: يا أولادي! يا أحبابي! يا أصحابي! لا تتركوني وحدي، ولا تخرجوني إلى لحدي، أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، هل منكم من يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا -أيها الأحباب- يأتيه صوت الحق من الله جل وعلا، فيقول: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96] سبحان ربي العظيم! من منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29]، هكذا خرجت روحه إلى خالقها جل وعلا، وصار طريح الفراش لا حراك في جسمه.
أيها الإنسان أين ريحك الطيب؟! أين لسانك الفصيح؟ أين حركتك الدائبة؟ ما أعجزك في هذه اللحظات! من الذي أخرسك وأسكتك؟ إنه الموت، إنها الحقيقة الكبرى التي لا يماري فيها إنسان، ولا يجادل فيها مخلوق على ظهر هذه الأرض.(3/3)
غسل الميت والصلاة عليه ووضعه في القبر
أيها الإنسان الغافل! يقوم أحب وأقرب الناس لديك إلى من يغسلك، وإلى من يخرجك من بيتك، وصدق من قال:
وقام عني أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني
وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيل بلا زادٍ يبلغني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني
حمله أحب وأقرب الناس إليه إلى أطباق التراب وأهالوا عليه التراب بأيديهم، وصدق الحبيب صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي أخرجه مسلم، من حديث أنس رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة، يرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله).
هكذا أيها المسكين حملك أحب وأقرب الناس لديك، وهناك في التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك ثم رحمة الله الحي الذي لا يموت! هناك وضعوك بين أطباق التراب وضعوك في بيت الوحشة والغربة والدود والضيق وضعوك في بيت الظلمة إلا لمن وسعه وأناره الله عليه.
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
وضعوك هناك في دارك الحقيقية إلى أن يأمر الحق جل وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور، فتخرج الأجساد من القبور حفاة عراة غرلاً للعرض على محكمة الله جل وعلا.
تلكم المحكمة -أيها الأحباب- التي لا تقبل الرشوة ولا تقبل المحسوبية ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، عنوانها: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، عنوانها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]، هنالك وضعوك وللحساب عرضوك، ولو ظل واحدٌ معك ما نفعك، ولو ظلوا معك جميعاً ما نفعوك!(3/4)
حياة البرزخ ووصف قبض الروح
ثم تعالوا بنا أيها الأحباب لنلقي نظرة سريعة على حاله في هذه الدار، دار البرزخ؛ لأننا نؤمن إيماناً صادقاً أن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران؛ لأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، نقر بذلك بأن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، وأن من مات وعليه حق من العذاب ناله هذا النصيب من العذاب سواء قبر أو لم يقبر، دفن أو لم يدفن، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل الدور ثلاث، ألا وهي: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل الله لكل دارٍ أحكاماً تخصها، فجعل الله الأحكام في دار الدنيا تسري على الأبدان والأرواح تبعٌ لها، وجعل الله الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح والأبدان تبع لها، وجعل الله الأحكام في دار القرار تسري على الأبدان والأرواح معاً، ذكر ذلك الإمام ابن القيم في كتاب الروح، والإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية، هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم منهم.
فالإيمان بعذاب القبر ونعيمه أمر واجب، والتصديق به أمر لازم، ولقد تواترت الأخبار من نبينا المختار صلى الله عليه وسلم على ثبوت ذلك، وكفانا دليلاً على ذلك حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والترمذي والنسائي والبيهقي، وأخرجه وصححه الحاكم وابن حبان، قال البراء في معنى ما قال؛ لأن الحديث طويل حتى لا نكون ممن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، ولما لم يلحد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، فرفع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونظر إلى أصحابه من حوله، وقال: يا إخواني! يا أصحابي! استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر).
قالها صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، وكان بيده صلى الله عليه وسلم عود ينكت به الأرض، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعدما أمر أصحابه أن يستعيذوا بالله من عذاب القبر: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكةٌ من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس).
الله أكبر! العبد المؤمن له كرامة عند الله في دنياه، وعند مماته وفي أخراه، وصدق من قال: حق على الله لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يتولى الله رعايته، وأن يحسن الله نهايته.
(إذا كان العبد المؤمن في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلت إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، ومعهم كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه، ويقول: يا أيتها النفس المطمئنة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج روحه تسيل كما يسيل الماء من فيّ السقاء، فإذا ما أخذها لا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، فتأخذها وتضعها في أكفان الجنة، وفي حنوط من الجنة، وتنبعث لها رائحة كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض.
ثم تصعد بها الملائكة إلى السماء، فإذا مرت بها الملائكة على سماء من السماوات، قالت الملائكة في السماوات: لمن تكون هذه الروح الطيبة؟ فتقول الملائكة التي تشيعها: إنها روح فلان بن فلان، بأطيب أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى إذا ما انتهوا بها إلى السماء السابعة، قال الله جل وعلا: اكتبوا روح عبدي في عليين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
ويأتيه في قبره ملكان فيجلسانه ويسألانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله.
ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام.
ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله جل وعلا فآمنت به وصدقت.
فينادي مناد: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، يأتيه من روحها وطيبها).
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، فيقول: من أنت؟ لا يأتي وجهك هذا إلا بخير، فيقول: أبشرك فأنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد، فينادي العبد على الله جل وعلا ويقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع لأهلي ومالي.
أما العبد الكافر -والعياذ بالله- إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة جاءته ملائكة سود الوجوه معهم مسوح، -ليف من النار والعياذ بالله- فيجلسون عند رأسه، فإذا جاءه ملك الموت قال: يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنتزع روحه كما يُنتزع السفود من الصوف المبلول، -أي: الحديد الصلب- فلا تدعها الملائكة في يده طرفة عين، وتلفها في هذا المسوح من النار، وإذا ما أرادوا أن يصعدوا بها إلى السماء انبعثت لها رائحة كأنتن ريح جيفة على وجه الأرض، ولا تفتح لها أبواب السماء، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، ثم ينادي الحق جل وعلا: اكتبوا روح عبدي في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه أرضاً، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
وتعاد روحه إلى جسده في القبر، ويجلسه الملكان، ويقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري.
ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري.
ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري.
فيقولان: لا دريت ولا تليت.
ثم ينادي منادٍ: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من سمومها -والعياذ بالله- ويضيق عليه قبره فتختلف أضلاعه -والعياذ بالله- ويأتيه رجل شديد سواد الوجه، نتن الرائحة، فيقول: من أنت؟ لا يأتي وجهك هذا إلا بشر، فيقول: أنا عملك السيئ، وهذا يومك الذي كنت توعد، فيقول العبد: رب لا تقم الساعة).
هكذا أيها الأحباب القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، فاستعدوا للقاء الله جل وعلا، واستعدوا لهذا اليوم الموعود، الذي ستنقلون فيه من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والغلمان إلى مقاساة الهوان والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(3/5)
أهمية الاستعداد للقبر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من سار على دربه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! لاشك أن هذه هي أول خطوة من خطوات الرحيل إلى الآخرة: الموت والقبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، وكان عثمان رضي الله عنه إذا ما ذكر الجنة وذكر النار لا يبكي، وإذا ما ذكر القبر بكى، وحينما سئل عثمان رضي الله عنه عن ذلك، قال: [إن القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن وجد العبد فيه خيراً فما بعد ذلك خيراً منه، وإن وجد فيه شراً -والعياذ بالله- فما بعد ذلك أشر -والعياذ بالله- مما يلاقيه العبد في هذه الدار].
فيا أيها الأحبة في الله! هذه هي أول خطوة، فاستعدوا لهذا اللقاء، واعلموا بأن أقرب غائب ينتظر هو الموت، وصدق من قال:
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم
تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب
وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم
فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو
وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم
بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم
فعودوا إلى الله جل وعلا، وتوبوا إلى الله عز وجل، واستعدوا للقاء الله تبارك وتعالى، واعلموا أحبتي في الله أن الله جل وعلا يفرح بتوبة التائبين، وهو الغني عن العالمين جميعاً، ورد في الحديث الذي رواه الترمذي، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -أي: بقرب ما يملأ الأرض من الخطايا والذنوب- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).
أسأل الله جل وعلا أن يغفر لي ولكم ولجميع المسلمين، اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، والاقتداء بشرع نبيك صلى الله عليه وسلم، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا رب العالمين، وانصر اللهم المجاهدين في كل مكان، وثبت أقدامهم يا رحيم يا رحمان، وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم يا ديان، إنك ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! ما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(3/6)
حادثة الإفك
لقد أنزل الله إلينا كتابه الكريم ليعلمنا ويؤدبنا، فمن الآداب التي حثنا عليها القرآن وأرشدنا إليها: أدب التثبت في نقل الأخبار، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن أهمية مبدأ التثبت، مستشهداً بما وقع في حادثة الإفك، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في موقف الجلاس، مبيناً ما يترتب على الخوض في مثل هذه الأمور من تقويض لدعائم المجتمع المسلم.(4/1)
أهمية مبدأ التثبت والتبين في نقل الأخبار
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فمع اللقاء السابع على التوالي ما زلنا مع سورة الحجرات، مع سورة التربية والأخلاق، وما زلنا نعيش مع هذه الآداب السامية العالية الرفيعة، التي يعلِّم الله جل وعلا بها عباده المؤمنين كيف يعاملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاهي الآيات تشير إلى حادثٍ وقع من وفد بني تميم الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع الذي سمي بعام الوفود، وكان من بين هذا الوفد الأقرع بن حابس الذي جاء ينادي على النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجرات زوجاته رضي الله عنهن جميعاً، ظل ينادي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا محمد! يا محمد! اخرج إلينا.
يا محمد! فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم، فعاود الأقرع النداء، يا محمد! اخرج إلينا؛ فإن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك الله عز وجل) فنزل قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:4 - 5].
الحديث ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وقال: أخرجه أحمد وابن مردويه، وابن جرير، والطبراني بسندٍ صحيح، والترمذي بسندٍ حسن.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ما احتجب عن أصحابه وعن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه، فكان إزعاجه في هذا الوقت معه صلى الله عليه وسلم، ولكن لحياء النبي عليه الصلاة والسلام، كان لا يقول لأصحابه ذلك، ولكن الله جل وعلا لا يستحيي من الحق فنزل قول الله عز وجل ليعلم هؤلاء ومن جاء بعدهم، كيف يكون الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن وضعت السورة أيها الأحباب المنهج العملي للأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، تبدأ السورة بوضع منهجٍ متكاملٍ لأسس مجتمعٍ إسلاميٍ كريم، سليم العقيدة، نقي القلب، نظيف المشاعر، مهذب الأخلاق، عف اللسان، عك السريرة، تصان فيه الحرمات، ولا تتبع فيه العورات، ويبدأ هذا المنهج التربوي والأخلاقي الذي وضعه العليم الخبير الذي يقول ربنا جل وعلا في ذلك: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يبدأ هذا المنهج التربوي الأخلاقي بهذه القاعدة التشريعية العظيمة الكبيرة، وبتثبيت هذا المبدأ الكبير الخطير ألا وهو مبدأ التثبت والتبين للأنباء والأخبار، فيقول العزيز الغفار جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
الله أكبر! إنه التشريع من العليم الخبير، يا له من مبدأٍ عظيم، ويا له من مبدأٍ كبير، إنه مبدأ التثبت والتبين من الأنباء والأخبار، لا تتخذ القرارات، ولا الفرمانات إلا بعد التبين والتثبت، فأين المسلمون من هذا المبدأ العظيم الكبير، ضاع هذا المبدأ العظيم، وضاعت هذه القاعدة الكبيرة، فأصبح كل مسئولٍ في مكتبه الوثير، وتحت مكيفه الكبير، أصبح يتخذ القرار دون تبين أو تثبت، ضاعت هذه القاعدة، وضاع هذا المبدأ العظيم الجليل، وأنى لأصحاب الأموال الذين تسربلوا بالريالات والدولارات، أنى لهم أن يحسوا بالفقراء والمحرومين وذوي الحاجات، بذرة قلم تتخذ القرارات التي بها تخرب البيوت، وتبكي العيون، وتشرخ القلوب، وتأتي الآلام فوق الآلام بذرة قلم تتخذ القرارات في المكاتب دون تثبت أو تبين.(4/2)
الخوض في عرض رسول الله بسبب غياب مبدأ التثبت والتبين
أيها المسلمون يا عباد الله! يا من استقر الإيمان في قلوبكم! ينادي عليكم الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].(4/3)
أثر ضياع مبدأ التثبت على الأمة
يوم أن ضاع هذا المبدأ، وضاعت هذه القاعدة كم من فتنة وقعت بسبب خبر ٍكاذب نقله فاسقٌ فاجر، بوذي أو يهوديٌ أو نصرانيٌ، أصبح البوذي مصدقاً، وأصبح النصراني مصدقاً وأصبح الكافر مصدقاً، أصبح كلام البوذي هو الثقة، وأصبح كلام الكافر هو المصدق في وسط المسلمين وفي مجتمعاتهم وبلادهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، كم من فتنةٍ وقعت بسبب خبرٍ كاذب نقله فاسقٌ فاجر؟! كم من أطفالٍ شردوا، وكم من حروبٍ اشتعلت بسبب أخبار كاذبة نقلت دون تثبتٍ أو تبينٍ أو تحرٍ، كم من بيوتٍ خربت، وكم من أرزاقٍ تسبب بعض الناس في قطعها بسبب عدم التحري، وعدم التبين والظلم البين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كم فرق بين الزوجين، كم فرق بين الأبناء والأحباب والوالدين والإخوة بسبب ضياع هذا المبدأ الكبير وغياب هذه القاعدة التشريعية العظيمة ألا وهي: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] كم من الحروب التي مات فيها ملايين البشر بسبب غياب وضياع هذا المبدأ.
يا عباد الله! إنه مبدأ التثبت والتبين والتحري، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ووالله ما وقعت على ظهر الأرض فتنة في تاريخ الأمة الطويل إلا بسبب غياب هذا المبدأ وضياع هذه القاعدة الكبيرة: مبدأ التثبت والتبين؛ ولتتجسد بين عينيك يا عبد الله! خطورة هذا المبدأ العظيم فعليك أن تراجع سورة النور.(4/4)
سبب حديث الإفك
بسبب غياب هذا المبدأ وهذه القاعدة العظيمة اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمي في شرفه وعرضه وأمانته، وفراشه، وزوجه عائشة رضي الله عنها بسبب مقولة كاذبة طيرها رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول عليه لعنة الله، طير المنافق هذه العبارة، وهذه القولة الآثمة، وزل في هذه الهاوية السحيقة الخطيرة بعض المسلمين، ونقلوا الخبر الأليم الفظيع وإنا لله وإنا إليه راجعون، زل بعض المسلمين في هذا الخبر والحديث رواه بطوله البخاري ومسلم: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما خرج لأي غزوةٍ من الغزوات أقرع بين نسائه، ومن وقعت عليها القرعة أخذها النبي صلى الله عليه وسلم معه في سفره، وفي إحدى الغزوات وقعت القرعة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعد انتهاء الغزوة، وفي طريق العودة إلى المدينة المنورة، وفي الليل تخلفت أم المؤمنين رضي الله عنها لقضاء حاجتها خلف الجيش، وتأخرت رضي الله عنها لعقدها الذي انفرط من صدرها فعادت إليه لتأتي به، وهي الفتاة الصغيرة في السن، وعادت أم المؤمنين فوجدت الجيش وقد رحل، ولم ينتبه ولم يلتفت أحدٌ من الجيش إلى أنها ليست بداخل هودجها الذي كانت تتحشم فيه بعدما نزلت آية الحجاب.
ورحل الجيش وذهبت أم المؤمنين فما رأت أحداً فانتظرت في مكانها وهي تعلم أنهم إذا افتقدوها سيرسلون إليها، وجلست رضي الله عنها، وهي الفتاة الصغيرة فغلبها النوم فنامت، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه وأرضاه كلفه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتأخر خلف الجيش ليأت بالمتاع الساقط لأي فردٍ من أفراد الجيش، ومر صفوان بن المعطل فرأى سواد إنسان فأقبل فرآها أم المؤمنين وكان يعرفها قبل أن تنزل آية الحجاب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول الصديقة بنت الصديق: فاستيقظت باسترجاعه.
استيقظت بقولته: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلما نظرت إليه غمرت وجهي بجلبابي: أي غطيتُ وجهي بجلبابي، تقول: والله ما كلمني كلمة ولا سمعتُ منه كلمة غير استرجاعه: أي غير قولته: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأناخ صفوان رضي الله عنه راحلته، وأعرض فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها وأخذها صفوان يقود لها الراحلة، إنها زوج نبيه صلى الله عليه وسلم، حتى أدرك الجيش في وقت الظهيرة، فلما رأى الهودج ورأى صفوان رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول، سأل وقال: من هذه؟ قالوا: عائشة رضي الله عنها، فقال رأس النفاق الوقح قولته العفنة الآثمة قال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، امرأة نبيكم باتت مع رجلٍ حتى أصبحت ثم جاء يقودها.
يا لها من قولةٍ عفنة آثمةٍ شريرة، وطير المنافق هذه الكلمة وهذه القولة، وتلقتها عصابة النفاق، والكذب والإثم والبغي، وطيروا هذه العبارة وهذه القولة الآثمة الشريرة، وسقط في الهاوية بعض المسلمين، الله أكبر! وماجت المدينة المطهرة المنورة بهذا الخبر شهراً كاملاً.
هاهو رسول الله، رسول الله، يُرمى في عرضه، وفراشه، وأمانته، وزوجته، وفي من؟ في عائشة التي أحبها من كل قلبه، رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرمى في طهارته وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين، يُرمى في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته، يُرمى في فراشه، وشرفه، وعرضه، بل قُل: يرمى في كل شيء حينما يُرمى في عائشة رضي الله عنها التي أحبها من كل قلبه، يُرمى في قلبه، وحبه، ودينه، ورسالته، وأغلى ما يعتز به أي عربي، وفيما يعتز بها كل نبي.(4/5)
حال الصديقة بنت الصديق بعد الشائعة
وهاهي الصديقة الطاهرة المطهرة المبرأة من السماء رضي الله عنها ترمى في فراشها وعرضها ترمى في شرفها بسبب غياب مبدأ التبين والتثبت.
نعم يا عباد الله! ترمى في أمانتها وهي التي تربت في العش الطاهر النقي النظيف، وهي الزهرة التي تفتحت في بستان الوحي، وفي حقل القرآن، وعلى يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهاهو الصديق رضي الله عنه الرجل النقي النقي القلب والمشاعر يُرمى في شرفه، وعرضه، وابنته وزوج نبيه وخليله الذي أحبه من كل قلبه، وأحبه النبي من كل قلبه، نعم يُرمى الصديق رضي الله عنه، في أغلى ما يعتز به أي عربي فضلاً عن أي مسلم، ويقول الصديق قولته المشهورة، بمنتهى الحسرة والألم والمرارة، يقول: [والله ما رمينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام!].
يُرمى في شرفه وها هو الصحابي الجليل الطاهر النظيف المجاهد الثقة صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه يرمى في خيانة نبيه وزوجه التي أحبها من كل قلبه، والله يوم أن يرمى صفوان في ذلك يرمى في دينه كله، وإسلامه كله.
بسبب ضياع هذا المبدأ ماجت المدينة بهذا الخبر الأليم، إنه التثبت والتبين يا عباد الله.
شهراً كاملاً تموج المدينة بهذه المقولة الآثمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يتألم آلاماً تنوء بحملها الجبال الراسيات، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، يتألم النبي حتى إنه ببشريته وبإنسانيته يرسل إلى أسامة حبّ رسول الله وإلى علي ليسألهما عن عائشة رضي الله عنها، إنها بشرية وإنسانية النبي صلى الله عليه وسلم، ولحكمةٍ يعلمها العليم الخبير، يمضي شهرٌ كامل لا تنزل آيةٌ واحدةٌ في هذا الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهرٌ كاملٌ يا عباد الله! والرسول صلى الله عليه وسلم يتألم وعائشة التي عرفت بالخبر مطحنها الألم ودغدغها البكاء بل وفلق البكاء كبدها، تتألم وهي تسأل أمها ببراءة الفتاة التقية النظيفة النقية، أو علمَ رسول الله بذلك؟ فتقول: بلى، أوعلم أبي ذلك؟ فتقول: بلى، أو تحدث الناس بذلك؟ فتقول أمها: بلى، وتنام عائشة رضي الله عنها يدغدغها المرض ويطحنها الألم ويعصرها الخبر الأليم، والفرية الخطيرة.(4/6)
نزول براءة الصديقة رضي الله عنها
عباد الله: وبعد شهرٍ كاملٍ يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر إلى عائشة التي تنام في فراشها تتلوى وتتألم وإلى جوارها الصديق، وإلى جوارها أمها، رضي الله عنهم جميعاًَ ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم، يجلس محمدٌ الإنسان، يجلس النبي الإنسان، يجلس الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، يجلس إلى جوار عائشة رضي الله عنها، ويحمد الله عز وجل، ويثني على الله جل وعلا، ويقول: (يا عائشة! لقد بغلني عنك كذا وكذا فإن كنتِ بريئة فسيبرؤك الله عز وجل، وإن كنت ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فقالت عائشة رضي الله عنها فنظرت إلى أبيها وقالت: أجب رسول الله فيما يقول، فقال الصديق رضي الله عنه: والله ما أجد ما أقوله لرسول الله، فنظرت إلى أمها وقالت: يا أماه! أجيبي عن رسول الله فيما قال: فقالت أمها: والله يا ابنتي ما أجد ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة فقلتُ: والله لا أجد لكم مثلاً إلا ما قال أبو يوسف: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون) لك الله يا عائشة! لك الله أيتها الصديقة الطاهرة! نعم يا عائشة: فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون.
قالت عائشة: [فحولتُ وجهي واضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أن الله مبرئي ببراءتي، ولكني ما كنتُ أظن أن الله منزلٌ في حقي قرآناً ووحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل الله جل وعلا فيّ قرآناً يُتلى].
تقول عائشة رضي الله عنها: كنتُ أرجو الله أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه يبرئني الله بها، تقول: فوالله ما خرج أحدٌ من البيت إلا ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ما زلنا في البيت، نزل الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام تقول: وسري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، أي زال عنه أثر الوحي وهو يضحك، ويقول لـ عائشة -وكانت أول كلمةٍ قالها-: (أبشري يا عائشة فلقد برأك الله عز وجل) فقالت أمها: [قومي يا عائشة قومي واشكري واحمدي رسول الله، فقالت عائشة: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل] فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم، وتلا على عائشة وعلى أبيها وعلى أمها براءتها التي نزلت من العليم الخبير، تلا عليها قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:11 - 26].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(4/7)
دعوة إلى أصحاب الكراسي للتثبت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحباب: من أجل خطورة هذا المبدأ وخطورة هذه القاعدة، يجب على كل مسلمٍ أن يتبين وأن يتثبت قبل أن يتخذ أي قرار، وأخص بالذكر المسئولين عن المسلمين في كل مكان، يجب على كل مسلمٍ أن يتبين وأن يتثبت، ويجب عليه أن يكلف نفسه أن يسمع من المتهم قبل أن يتخذ القرار، وإلا فليست القرارات سهلةً هكذا، فسوف يعرض الجميع أمام محكمةٍ قاضيها الله، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والله الذي لا إله غيره إن الظلم ظلمات يوم القيامة، فكم من الناس ظلم خلق الله وعباد الله، وذهب إلى فراشه فنام وغط غطيطاً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].
اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد يا رب العالمين.(4/8)
موقف الجلاس في غزوة تبوك
وفي مقابل هذه الصورة الآثمة صورة الإفك، والظلم، والطغيان والبطش، وعدم التثبت والتحري نرى صورة مشرقةً جميلةً وضيئةً، تَعلَّموا هذه الصورة واطبعوها في قلوبكم وقلوب أبنائكم وبناتكم إنه ذلك الفتى المؤمن، إنه الفتى الذي لم يتجاوز العاشرة إلا قليلاً، إنه عمير بن سعد رضي الله عنه، ذلكم الفتى البار الذي أحب رسول الله من كل قلبه، وتمكن الإيمان في كل كيانه وتغلغل في كل جوارحه، عمير بن سعد مات أبوه وتزوجت أمه برجلٍ ثري يقال له: الجلاس بن سويد وأحب عمير الجلاس حباً شديداً، وأحب الجلاس عميراً حباً شديداً لإيمانه وصلاحه وتقواه، وفي العام التاسع في غزوة تبوك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتجهزوا، ويستعدوا لهذه الغزوة البعيدة، في الوقت الذي اشتد فيه الحر وأمرهم بالإنفاق.
ولما كان المال في أيديهم أسرعوا بالإنفاق، ولكن سكن المال في قلوب المسلمين في هذه الأيام فمن أجل هذا المال يظلم، ويبطش ويطغى من أجل الحفاظ على كرسيه الزائل، ومنصبه الفاني الذي يدر عليه الريالات والدولارات، جاء الجميع بكل أموالهم، جاء الصديق بكل ماله، وجاء عمر بنصف ماله، وسابق المسلمون الصادقون في الإنفاق في سبيل الله، وتباطأ المنافقون الخالصون.
وعاد الفتى المؤمن عمير بن سعد إلى زوج أمه الجلاس بن سويد ليقص عليه أخبار البطولة، والبذل والعطاء والإنفاق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ليستثير همته لينفق في سبيل الله، وإذا بـ الجلاس بن سويد يقول قولةً تخرجه من الإسلام دفعةً واحدة، وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه، يرد الجلاس بن سويد على الفتى البار المؤمن، ويقول له: [والله إن كان محمدٌ صادقاً فنحن أشر من الحمير].
وذهل الفتى، وسقط في يده، ودارت به الأرض، ونظر إلى الجلاس وقال: [والله ما كان أحدٌ على ظهر الأرض بعد رسول الله أحب إليّ منك، ولقد قلت مقالةً إن أعلنتها فضحتك، وإن أخفيتها عن رسول الله خنتُ نفسي وديني!! -إن أعلنتها فضحتك، وإن أخفيتها أهلكتُ نفسي وخنتُ نفسي وديني- وإني ذاهبٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخبره فكن على بينةً من أمرك] وانطلق الفتى البار الصادق إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وأخبره بما قال الجلاس بن سويد.
هل اتخذ النبي قراراً؟ هل أصدر النبي فرماناً وحكماً مع أن الذي جاءه ثقة وشابٌ موثوقٌ؟ ما أصدر النبي القرار، وما اتخذ النبي الأمر، بل قال اجلس يا عمير؟ وأرسل النبي أحد أصحابه ليأتي بـ جلاس بن سويد، إنه التثبت والتبين.
قال سليمان للهدهد: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] نحن لا نأخذ بهذه الكلمات المعسولة، وبهذه الكلمات الحلوة، فإن كل أحدٍ يريد أن يثبت لنفسه الحق، ويريد أن يزيح عن نفسه المسئولية، ولكن هيهات هيهات، فإن الكل مسئول أمام من يعلم السر وأخفى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: اجلس يا عمير؟ وأرسل أحد أصحابه فأتى بالـ جلاس بن سويد، فأقبل الجلاس وحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس بين يديه، فقال له النبي: (يا جلاس ما مقالةٌ سمعها منكَ عمير بن سعد) وذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله عمير فقال الجلاس: [لا والله يا رسول الله ما قلتُ هذا أبداً، وإني أحلف بالله أن عميراً كذب عليك].
ونظر النبي إلى عمير بن سعد، وقد احتقن وجهه بالدم، وتساقطت الدموع على خديه وصدره مدراراً وهو يرفع رأسه إلى السماء يرفع عمير الفتى البار رأسه إلى السماء بعد هذا الموقف الحرج وهو يدعو الله جل وعلا ويقول: اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به.
واستجاب الله دعوة هذا الفتى، صعدت الدعوة إلى الله فاستجيبت فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذه ما كان يأخذه! فعلم الصحابة أن الوحي يتنزل فتعلقت الأنظار برسول الله صلى الله عليه وسلم وصمتت الألسنة، وهدأت النفوس وسكنت الجوارح، وشخصت الأبصار برسول الله صلى الله عليه وسلم والجلاس بدأ يظهر عليه الخوف وبدأ يرتعد، وبدأ يتهلل الفتى البار المؤمن عمير بن سعد رضي الله عنه، وسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وزال عنه أثر الوحي وهو يبتسم ويتلو قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] الله أكبر! وارتعد الجلاس بن سويد، وقال: صدق والله عمير يا رسول الله، وإني لمن الكاذبين، أتوب إلى الله يا رسول الله، أتوب إلى الله يا رسول الله، والتفت النبي إلى الفتى الصادق البار عمير بن سعد وهو يبتسم ومد النبي يده الشريفة إلى أذن عمير بن سعد وأمسكها برفقٍ وقال لـ عمير: (وفت أذنك ما سمعت وصدقك ربك يا عمير).
الله أكبر! إنه الصدق وإنه التثبت والتبين.
وبعد ذلك أيها الأحباب يُذكِّر الله الصحابة والمسلمين جميعاً بالنعمة العظيمة الكريمة ألا وهي: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7 - 8].
اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، وارزقنا الإخلاص في أعمالنا.
اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً جزلاً على البلاء صابراً.
اللهم ارزقنا اليقين فيك، اللهم ارزقنا التوكل عليك، اللهم ارزقنا الصبر على بابك، اللهم ارزقنا الاستعانة بك والاستغاثة بك.
اللهم ارزقنا يقيناً يباشر قلوبنا، وإخلاصاً يصدق أعمالنا، وصدقاً يباشر أقوالنا يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم طهر ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الشرك أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا حاجةً لك فيها رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم تقبل منا واقبلنا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك التواب الرحيم، ووفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه أنت ولي ذلك ومولاه يا رب العالمين، هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا وسيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وإن كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(4/9)
إنما المؤمنون إخوة
إن من أعظم الأسباب التي أعانت على قيام دولة الإسلام هي الأخوة الصادقة في الله عز وجل، التي جعلت من المسلمين جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، والأخوة في الله لها حقوق ينبغي أن يعمل بها الأخوة لكي تبقى الأخوة صافية صادقة بين المتحابين في الله عز وجل، وبالإضافة إلى ما تحققه الأخوة من مكاسب دنيوية، فإن لمن حققها الأجر العظيم في الآخرة.(5/1)
حقيقة الأخوة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني معكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: لما رأيت إخواني جزاهم الله خيراً قد وضعوا لمحاضرة الليلة هذا العنوان: (ماذا بعد الموت) تذكرت أنني في هذا المسجد في الزيارة الماضية أفردت محاضرة للرقائق ولأهوال القيامة، فآثرت أن أغير الموضوع في هذه اللحظات، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم التوفيق والسداد والرشاد، لذا فإن عنوان محاضرتنا في هذه الليلة: (إنما المؤمنون إخوة).
وكما تعودت دائماً حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي معكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر المحددة التالية: أولاً: حقيقة الأخوة.
ثانياً: حقوق الأخوة.
ثالثاً: الطريق إلى الأخوة.
فأعيروني القلوب والأسماع جيداً، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هدى الله وأولئك هم أولو الألباب.(5/2)
انهيار بناء الأخوة بين أبناء العقيدة
أولاً: حقيقة الأخوة: أحبتي في الله: لقد أصبحت الأمة الآن غثاء من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلاتٍ متناثرة بل متصارعة متحاربة، تفصل بينها حدودٌ جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية، وترفرف على سماء الأمة رايات القومية والوطنية، وتحكم الأمة قوانين الغرب العلمانية، إلا ما رحم ربك جل وعلا.
وتدور بالأمة الدوامات السياسية فلا تملك الأمة نفسها عن الدوارن، بل ولا تختار لنفسها حتى المكان الذي تريد أن تدور فيه، ذلت بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً تقود القافلة كلها بجدارةٍ واقتدار.
وأصبحت الأمة الآن تتسول على موائد الفكر العلمي والإنساني، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارةً تهدي الحيارى والتائهين ممن أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام، بل وأصبحت الأمة الآن تتأرجح في سيرها، بل ولست مبالغاً إن قلت: ولا تعرف طريقها الذي ينبغي أن تسلكه وتسير فيه، بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب جداً الدليل الحاذق الأرب في الدروب المتشابكة، والصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا المجربون، لقد أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لأحقر وأخزى وأذل أمم الأرض، وصدق في الأمة قول الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا.
ولكنكم يومئذٍ كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
لقد طمع في الأمة الآن كما ترون جميعاً الذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، بل والضعيف قبل القوي، وتجرعت الأمة الآن كئوس الذل والهوان، آهٍ يا مسلمون!
متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاقُ
أي شيءٍ في عالم الغاب نحن آدميون أم نعاج نساقُ
نحن لحمٌ للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاقُ
وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراقُ
قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياقُ
واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماقُ
وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراقُ
آه يا مسلمون، سراييفوا تُباد كوسوفا تباد
القدس تُباد والعالم كله خسة وخيانة ونفاق
كوسوفا من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق
كوسوفا من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق
تركوها وحولها من كلاب الصرب طوقٌ من خلفه أطواق
قدمتها الصلبان للصرب قرباناً وللصرب كلهم عشاق
ووالله لو فعلنا بالصرب ما فعلوه لرأينا مثل الذي رآه العراق(5/3)
سبب الذل الضارب جذوره في الأمة
ما هذا الذل؟ ما هذا الهوان؟ الذي تتجرع الأمة الآن كئوسه ألواناً وأشكالاً، ما السبب؟ وأنا ألخص لكم سبب هذا الذل والهوان الذي تحياه الأمة الآن، يتلخص في كلماتٍ دقيقةٍ قليلة بينها ربنا جل وعلا في آياتٍ جامعة من قرآنه فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وأنا أقرر لكم، بل وأسجل للتاريخ أن الأمة قد غيَّرت وبدلت: في جانب العقيدة غيرت.
في جانب العبادة غيرت.
في جانب التشريع غيرت.
في جانب الأخلاق غيرت.
حتى في الجانب النفسي غيرت.
فأنت ترى العقيدة في الأمة تُذبح شر ذبحة، وأنا لا أعلم أبداً ولا أفهم من قرآنٍ، ولا سنةٍ نبوية، ولا سنة كونية ربانية، لا أفهم ألبتة أن الله عز وجل ينصر أمة ذبحت عقيدته، وخذلت دينه، كانت العقيدة بالأمس القريب إذا مُسَّ جانبها سمعت الصديق يتوعد، والفاروق يهدد، وخالد بن الوليد يزمجر، ورأت العقيدة المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس.
لكنك ترى الآن العقيدة تذبح شر ذبحة، وفي هذه الأمة -ولست مبالغاً حين أقول ذلك- من يثق في بعض دول الأرض وأمم الأرض أكثر من ثقته في خالق السماء والأرض، اختلت العقيدة في قلوبنا، بل لقد سمعت بأذني على شاشات التلفاز من يقول في احتفالٍ صاخبٍ كبير يقول بالحرف: إننا الليلة نحتفل بمولد سيدي السيد البدوي المهاب، الذي إن دُعي في البر والبحر أجاب، والله جل وعلا يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] أإله مع الله يجيب المضطرين في البر والبحر؟! وقرأت قول القائل: إنه ممن يعتقدون أن للكون أقطاب وأوتاد وأبدال تدبر نظام الكون وتسيِّر شئونه، وسمعت قول القائل:
هبو لي ديناً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهمِ
سلام على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
وسمعت قول القائل: إن مصر ستظل فرعونية، ولو وقف الإسلام حجر عثرة في طريق فرعونيتنا لنحينا الإسلام جانباً لتظل مصر فرعونية.
وقرأت قول القائل: لقد عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم! والنجاسات التي في أمعائهم! أي عقيدة هذه؟! وفي العبادة: انحرف كثير من أبناء الأمة عن العبادة، فترى من يصرف العبادة لغير الله، ويحلف بغير الله، ويستغيث بغير الله، ويلجأ إلى غير الله، ويطوف بغير بيت الله في مكة شرفها الله، وترى من فهم العبادة فهماً جزئياً قاصراً، فهي لا تتعدى الشعائر التعبدية من صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وعمرةٍ وحجٍ فحسب، ونحيت شريعة الله جل وعلا، والله تبارك وتعالى يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
هذا هو العامل الأول من عوامل ذل الأمة، فأنا أقول: إن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قومٍ شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فالخطوة الأولى على طريق العز هي العقيدة.
وأرجو ألا تستهينوا على الإطلاق بالعقيدة، وحينما أذكر لفظة العقيدة فأنا لا أريد أن نفهم العقيدة فهماً جزئياً قاصراً، وإنما أقصد العقيدة بمفهومها الكامل الشامل الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعلمه أصحابه الكرام.
ثم ضاع العامل الثاني من عوامل العز، ألا وهو عامل الأخوة في الله.
فأنا أعتقد اعتقاداً جازماً أن الأخوة في الله هي العامل الثاني الذي أقام النبي بهما للإسلام دولةً في أرض الجزيرة من فتاتٍ متناثر، فإذا هي بناءٌ شامخ لا يطاوله بناء، بماذا؟ بالعقيدة التي ظل النبي صلى الله عليه وسلم يربي عليها الصحابة في مكة ثلاثة عشر عاماً.
وأرجو ألا يظن أحد أن النبي قد ترك العقيدة في مكة يوم أن هاجر إلى المدينة كلا.
فإن العقيدة لا يُنتقل منها إلى غيرها، بل ينتقل معها إلى غيرها.(5/4)
عبر من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
آخا النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل مكة من المهاجرين والأنصار في المدينة، هذا هو العامل الثاني: عقيدة ومؤاخاة، أخوة في الله، آخا بين حمزة القرشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، ومعاذ الأنصاري، وبلال الحبشي، وأنشد الجميع الأنشودة العذبة الحلوة:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
ويجسد لنا عبد الرحمن بن عوف هذه المؤاخاة التي لم ولن تعرف البشرية لها مثيلاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يجسد لنا عبد الرحمن هذه المؤاخاة تجسيداً بليغاً، والحديث في الصحيحين، يقول عبد الرحمن: [آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال لي سعد -وكان من أكثر الأنصار مالاً: يا عبد الرحمن! أنا أكثر الأنصار مالاً، وسأقسم مالي بيني وبينك شطرين، وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].
أسألكم بالله أن تتدبروا في هذا الكلام، فأرجو ألا يمر على آذاننا هكذا، العربي عنده غيرة، وشهامة، ورجولة! فلو قال: سأقسم مالي بيني وبينك شطرين لكان الأمر هيناً، لكن انظر إلى الثانية وما أعجبها وأجملها: [وعندي امرأتان فانظر أعجبهما إليك لأطلقها، حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها].
فقال عبد الرحمن بن عوف: [بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن أين السوق؟] فدله على سوق بني قينقاع فذهب عبد الرحمن فباع واشترى، ثم منَّ الله عليه بالربح، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وعليه أثر صفرة، أي عليه أثر الطيب فقال له النبي: (مهيم) أي: ما لي أشم عليك رائحة الطيب يا عبد الرحمن؟ فقال: [تزوجت امرأةً من الأنصار يا رسول الله! قال: (وما سقت لها) قال: سقت إليها مقدار نواة من ذهب] محل الشاهد ما قاله سعد بن الربيع وما قاله عبد الرحمن؟ فقد يئن الآن كثيرٌ من الإخوة ويقولون: رحم الله زمان سعد بن الربيع، أين من يعطي الآن عطاء سعد؟ وأنا أقول: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن؟ لقد انطلق رجلٌ إلى أحد السلف وقال له: أين من ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فقال له: ذهبوا مع من لا يسألون الناس إلحافاً.
إن سألت أين من يعطي عطاء سعد؟ سأجيبك: وأين من يتعفف عفة عبد الرحمن بن عوف؟ انظروا إلى هذه الصورة من المؤاخاة، فصدقوني لست مبالغاً إن قلت: لقد حل المهاجرون في قلوب الأنصار وعيونهم قبل أن يحلوا في بيوتهم ودورهم، واستحقوا من الله هذا الثناء الخالد: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].(5/5)
معنى الأخوة في الله وحقها
إن معنى الأخوة في الله لا نظير له في جميع الشرائع الوضعية على وجه الأرض؛ لأنه لا ينبني على أواصر العرق واللون والدم والوطن، وإنما ينبني على الأواصر الإيمانية، والروابط العقدية التي لا تنفصم عراها ولا تزول، فالمؤمنون جميعاً إخوة مهما اختلفت ألوان بشرتهم، ومهما اختلفت أرضهم وديارهم وأوطانهم، يربطهم جميعاً رباط الإيمان والإسلام، كأنهم روحٌ واحد حل في أجسامٍ متفرقة، أو كأنهم أغصانٌ متشابكة انبثقوا من دوحة واحدة، هكذا ينبغي أن يكون المؤمنون.
فإن وجدت إيماناً بلا أخوة صادقة فاعلم بأنه إيمانٌ ناقص، وإن وجدت أخوة بلا إيمان فاعلم أنه التقاء مصالح، وتبادل منافع، وليست أخوة إيمانية، إذ أن الأخوة ثمرة حتمية للإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
يوم أن ضاع هذا المعنى العظيم، وأصبح المؤمن ينظر إلى أخيه الذي جاءه من بلدٍ مسلمٍ آخر نظرة الغرابة والغربة، لما ضاع المعنى الحقيقي للأخوة أصبح المسلم يرى أخاه المسلم ويرى أخته المسلمة تذبح هنا وهنالك فينظر ويهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه، وربَّما يرى على شاشات التلفاز المسلم يُذبح في الصومال، أو فلسطين، أو العراق، أو كشمير، أو طاجكستان، أو الفلبين، أو أي مكان، وهو ينظر بعينه وسرعان ما يهز كتفيه ويمضي وكأن الأمر لا يعنيه لا من بعيدٍ ولا من قريب.
لماذا؟ لأن الأخوة في الله أصبحت باهته باردة لا تتعدى مجرد الكلمات، لا تتعدى مجرد لغة الشجب والاستنكار فحسب، حتى الشعور فقد مات، إلا من رحم ربك جل وعلا، صحيحٌ ربما تنسي المصائب المصائب، لكن لا ينبغي أن تفقد حتى مشاعر الأخوة تجاه إخوانك وأخواتك هنا وهنالك، لا بد أن يحمل كل واحد منا همَّ هذا الدين، وهمَّ هذه العقيد، وهمَّ هذه الأمة، إن الهموم بقدر الهمم.
فمن الناس من يحمل هم الطين، ومنهم من يحمل هم الدين، ومن الناس من يحمل هموم أسرته، ومنهم من يحمل هموم أمته، ومنهم من لا هم له سوى أن يجمع المال ولو كان من الحرام، ومنهم من لا هم له سوى أن يستمتع بامرأة حسناء في الحلال أو في الحرام، ولو نظرنا إلى أحوال همومنا وهِممنا وعرضناها على هموم وهمم السلف، لبكينا دماً بدل الدمع! فها هو عبد الله بن عمر رضوان الله عليه يجتمع في بيت الله الحرام هو وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان فيقول لهم مصعب بن الزبير: [تمنوا فنحن في بيت الله، تمنوا على الله جل وعلا، فقالوا: ابدأ أنت يا مصعب ما دمت قد طلبت ذلك، فقال مصعب بن الزبير: أما أنا فأتمنى ولاية العراق، وأن أتزوج سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله، فنال ما تمنى وتلك همته وهذا همه.
فقال عبد الملك بن مروان: أما أنا فأتمنى الخلافة، فنال ما تمنى.
فقال عروة بن الزبير: أما أنا فأتمنى أن أكون فقيهاً، وأن يحمل الناس عني حديث رسول الله، وقال عبد الله بن عمر: أما أنا فأتمنى الجنة] إن الهموم بقدر الهمم.
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وتعظمُ في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائمُ
ولله در المتنبي إذ يقول:
وإذا النفوس كانت كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
فلما ضاع المعنى الحقيقي للأخوة أصبحنا نرى المسلمين والمسلمات يُذبحون في الشرق والغرب ذبح الخراف ولا تتحرك حتى مشاعرنا، تبلدت المشاعر وبردت إلا من رحم ربك، أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن رحم.
من أجل ذلك أقول: ينبغي أن نتعرف -أيها الأحبة- على حقوق الأخوة، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجازٍ شديد من عناصر المحاضرة، وإلا فإن كل عنصرٍ من هذه العناصر يحتاج إلى محاضرة مستقلة.(5/6)
حقوق الأخوة
وبداية أسجل لكم أني لا أتكلم في حقوق الأخوة من منطلق الشعور بالأهلية، لا والله! بل يتردد في أذني قول القائل:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليلُ
وقد ينطلق المرء للحديث في موضوعٍ من منطلق الشعور بالمسئولية لا من منطلق الشعور بالأهلية، وهذا ما تؤصله القاعدة الأصولية: من عدم الماء تيمم بالتراب، والله أسأل أن يستر عليَّ وعليكم في الدنيا والآخر.(5/7)
الحق الأول: الحب في الله والبغض في الله
لن تتذوق طعم الأخوة إلا بهذا، أصبح الولاء الآن على غير هذا الأصل، وأصبح البراء على غير هذه الغاية؛ الحب في الله والبغض في الله، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان).
والحب في الله شيءٌ غالٍ، وأمرٌ عظيم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ينادي ربنا جل وعلا يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) لو عرفت هول الموقف؛ لاستشعرت حلاوة هذا الكلام النبوي، لو تصورت أن الشمس فوق رأسك، وأنك غارقٌ في عرقك، وأن جهنم قد جُرَّت إلى أرض المحشر، وقد أُتي بها لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملكٍ يجرونها -والحديث في صحيح مسلم - لو تصورت أن الله قد غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، لاستشعرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي الحق: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) حديثٌ عجيب جميل، وجزاءٌ عظيم للحب في الله، بل لن تتذوق طعم الإيمان إلا بالحب في الله والبغض في الله، كما في الصحيحين من حديث أنس: (ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف به في النار).
بل وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً زار أخاً له في قرية فأرصد الله له على مدرجته -أي: على طريقه- ملكاً، فقال له الملك: أين تريد؟ قال: لأزور أخاً لي في هذه القرية، فقال له الملك: هل لك عليه من نعمة تربها عليه؟ -أي: تريد زيادتها- قال: لا.
غير أني أحببته في الله، فقال له الملك: فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه) من أنت لتنال حب الله جل وعلا بالحب في الله والبغض في الله.
بل في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي ومالك في الموطأ بسندٍ حسن صحيح، أن أبا إدريس الخولاني رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق وإذا بفتى براق الثنايا، والناس من حوله يسألونه ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل رضي الله عنه، يقول: فلما كان من الغد هجَّرت إلى المسجد -أي: بكرت- فرأيت معاذاً قد سبقني بالتهجير ووجدته قائماً يصلي، فانتظرت حتى قضى صلاته، ثم أتيته من قبل وجهه فسلمت عليه وقلت له: إني أحبك في الله، يقول: فأخذني بحبوة ردائي -جبذني بحبوة ردائي- وقال: آللهِ، فقال: أبو إدريس: آللهِ، قال معاذ: آلله تحبني في الله، قال أبو إدريس: آلله، قال: آلله -ثلاثاً- قال أبو إدريس: آلله، فقال له معاذ: أبشر فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ).
ومن السنة -أخي الحبيب- إن أحببت أحد إخوانك أن تبين له حبك، فهذا مما يدعم أواصر الأخوة بينك وبين أخيك، كما في الحديث الذي رواه أبو داود بسندٍ صحيح، من حديث المقدام بن معد كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره).
وفي سنن أبي داود بسندٍ صحيح من حديث أنس أن رجلاً مر على مجلس النبي، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أحب هذا فقال له النبي: أأعلمته، قال: لا.
قال صلى الله عليه وسلم: فأعلمه، فانطلق الرجل خلف أخيه، وقال: إني أحبك في الله، قال: أحبك الله الذي أحببتني له).
وامتثالاً لهذا الحديث النبوي فأنا أشهد الله أني أحبكم جميعاً في الله، وأسأل الله أن يجمعنا مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأبشر حبيبي في الله فإن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب.
- حدد من تحب؟ ففي الصحيحين من حديث أنس أن رجلاً جاء للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل ولا صلاة غير أني أحب الله ورسوله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) يقول أنس: [فما فرحنا بشيء كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)].
يقول عبد الله بن عمر رضوان الله عليه: [والله لو صمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أرقد، وأنفقت مالي في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حبٌ لأهل طاعة الله، وبغضٌ لأهل معصية الله، ما نفعني ذلك كله].
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [لو قام رجلٌ يعبد الله بين الركن والمقام سبعين سنة لحشر يوم القيامة مع من يحب] ولاء وبراء، لا يصح لك دينٌ إلا بالولاء والبراء، بالحب في الله والبغض في الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
قال حذيفة بن اليمان: [فليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يدري لقوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ))].
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في الإمكان
وكذا تعادي جاهداً أحبابه أين المحبة يا أخا الشيطان
إن المحبة أن توافق من تحب على محبته بلا نقصان
فإن ادعيت له المحبة مع خلا فك ما يحب فأنت ذو بهتان
...
لو صدقت الله حين زعمته لعاديت من بالله ويحك يكفر
وواليت أهل الحق سراً وجهرةً ولما تعاديهم وللكفر تنصر
فما كل من قد قال ما قلتَ مسلماً ولكن بأشراطٍ هنالك تذكر
مباينة الكفار في كل موطنٍ بذا جاءنا النص الصحيح المقرر
وتصدع بالتوحيد بين ظهورهم وتدعوهم سراً لذلك وتجهر
فهذا هو الدين الحنيفي والهدى وملة إبراهيم لو كنتَ تشعر(5/8)
الحق الثاني: التورع في القول وحسن الظن بالإخوة
سبحان ربي العظيم! قد لا يتورع الأخ عن أكل لحم أخيه، في الوقت الذي ترى عنده تورعاً باهتاً ربما عن أكل الحلال، إن الكلمة خطيرة يا إخوة، والله عز وجل يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] من: التبعيضية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم).
فالكلمة خطيرة، فمن حق أخيك عليك أن تتورع عنه في القول، وأن تحسن الظن به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
من حقي عليك ومن حقك عليَّ أن أحسن في حقك القول، وألا آكل لحمك وأنهش عرضك بعد أن تفارقني، ربما يجلس الأخ مع أخيه في مجلسٍ واحد، وبمجرد أن يعطي الأخ لأخيه ظهره يطعنه بكلمات، والكلمة شديدة، ربما تكون الكلمة أخطر من السيف.
فبالكلمة قد تهدم البيوت، وتتحطم الأسر، بل وتثار المشاكل بين الدول والأمم بكلمة، سواء كانت الكلمة مقروءة، أو مكتوبة، أو مسموعة، أو مرئية، أو مرسومة.
إن ترك الألسنة تلقي التهم جزافاً دون بينةٍ أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقتٍ شاء، ثم يمضي آمناً مطمئناً، فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة، وإذا كل فردٍ فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالةٌ من القلق والشك والريبة لا تطاق بحالٍ من الأحوال، ولذلك روى النسائي بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان -أي تذل له وتخضع- وتقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا) وفي رواية الطبراني في الأوسط بسندٍ صححه الألباني بمجموع طرقه في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا اثنان وسبعون باباً، أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه).
انظروا إلى خطر الكلمة، فالكلمة خطيرة أيها الأحبة، فمن حق الأخ على أخيه أن يتورع عنه في القول، فبكل أسف قد يتورع المسلم عن أكل الحلال فيسأل هذا الشيء مستورد أم محلي؟ ورعٌ جميلٌ محمود، لا أقلل من شأنه أبداً، لكن الذي أقلل من شأنه أن ترى هذا التورع في هذا الجانب، الذي ربما يكون فيه الطعام حلالاً، ولا ترى عشر معشار هذا التورع عن أكل لحم الإخوة من المسلمين والمسلمات، فمن حق الأخ على أخيه التورع في القول.
وتزداد الكارثة والمأساة حينما يؤكل لحم العلماء أئمة الهدى مصابيح الدجى، والشموع التي تحترق لتضيء للأمة طريق نبيها، فقد ترى شبلاً صغيراً من أشبالنا لم يتربَّ إلا على التصنيف، لم يتربَّ على القرآن ابتداءً ولا على السنة، فخرج متأسداً متنمراً لبعض المسائل العلمية التي حفظها، فيتأسد على العلماء، وينتهك لحم وأعراض العلماء، فتسمع من يسيء إلى أئمة المسلمين في هذا الزمان، ولله در الحافظ ابن عساكر إذ يقول: "اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، اعلم بأن لحوم العلماء مسمومة، وأن عادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب".(5/9)
الحق الثالث: التناصح
روى مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة -انظروا إلى هذه البلاغة النبوية- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
يا أخي! أنا لست ملكاً ولا نبياً، أنا بشر وكل بني آدم خطَّاء، فمن حقي عليك إن أخطأتُ أنا أن تنصحني، وأن تقترب مني وأن تبذل لي النصيحة، لا أن تظل بعيداً عني لتصدر الأحكام عليَّ بالتكفير أو التفسيق أو التبديع، وإنما ادن مني واقترب، وابذل الحق الذي عليك لي، وانصحني بشروط النصيحة وآدابها، بتواضع، بحكمة، برحمة، بأدب، بخلق.
وأرجو من شبابنا وطلابنا أن يفرقوا بين مقام الدعوة ومقام الجهاد، فمقام الدعوة -أيها الأحبة- من الألف إلى الياء، ولو كانت الدعوة لأكثر أهل الأرض.
مقام الدعوة: الحكمة والرحمة واللين والتواضع، هذه آداب النصيحة، قال الله عز وجل لإمام الدعاة وسيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ما هي الحكمة؟ قال ابن القيم: الحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، وأركانها: العلم والحلم والأناة، وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل والطيش والعجلة.
بحكمة ورحمة قال الله لسيد الدعاة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يا أخي! انصحني برحمة، لا تكن غليظاً ولا شديداً عليَّ، أسمع أحد إخواننا ينصح مسلماً وهو بعد أن سمع الأذان، وإذا بالأخ يريد أن ينصح أخاه بالصلاة فيقول له: صلي يا حمار، فسمعت الكلمة واقتربت منه، قلت: يا أخي! إن الله لم يفرض الصلاة على الحمير، ففطن.
إذاً: هذه ليست دعوة، وليست نصيحة، انصح أخاك برحمة، أشعر من تنصحه أنك رحيمٌ به حليمٌ تخشى عليه، وهذا من حقه عليك.
يأتي شابٌ للنبي عليه الصلاة والسلام والحديث في مسند أحمد بسندٍ جيد، ويستأذن رسول الله -والله ما استأذنه للخروج إلى الجهاد ولا البذل ولا الخروج إلى الدعوة- وإنما جاء ليستأذن النبي في الزنا: (أتأذن لي يا رسول الله! في الزنا؟ فقال الصحابة: مه مه! فقال له: ادن -اقترب- وبلغة نبوية رحيمة، يقول له المصطفى المعلم والمربي والأسوة والقدوة: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، قال: وكذلك الناس) ومع ذلك رفع النبي يده ووضعها على صدر هذا الشاب ودعا له، الذي جاء يطلب الزنا دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) فانطلق الشاب ولا يوجد شيءٌ على الأرض أبغض إليه من الزنا، والأدلة النبوية العملية على الرحمة كثيرة.
ثم اللين: كن ليناً بمن تنصحه، هل رأيتم يا إخوة طبيباً فتح عيادته الخاصة للمرضى، حتى إذا دخل عليه مريض طرده؛ لأنه مريض؟ هو ما فتحها إلا للمرضى، فأنتم يا من منَّ الله عليكم بالسنة، والعقيدة الصافية، والفهم الراقي، أنتم أطباء لمرضى القلوب، والنفوس، ولمن انحرفوا عن الحق والمنهج، افتحوا قلوبكم وصدوركم إلى إخوانكم قبل أن تفتحوا مساجدكم وبيوتكم ومجالسكم، وابذلوا لهم النصيحة بهذه الضوابط والشروط، إن الله يأمر موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:43 - 44] قرأ سيدنا قتادة هذه الآية وقال: يا رب! تأمر موسى وهارون أن يقولا لفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] أن يقولا له قولاً ليناً؟ فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فكيف حلمك بعبدٍ قال: ((سبحان ربي الأعلى))؟ وأنا أقول: إن الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، والحديث في صحيح مسلم، مرت بغيٌ من بغايا بني اسرائيل على كلبٍ يلهث الثرى من العطش، فعادت إلى بئر ماء فملأت خفها بالماء وقدمته للكلب فشرب، يقول النبي: (فغفر الله لها بذلك).
أقول: إذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر الخطايا للبغايا، فكيف تصنع الرحمة بمن وحد رب البرايا؟ النصيحة والتناصح، بأدب وتواضع وحكمة ورحمة ولين، إن وجدت أخاك على خطأ ادن منه واقترب، وقل له: أخي! أحبك والله في الله، قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا.(5/10)
الحق الرابع: التناصر
وهذا من الحقوق الكبيرة التي ضاعت من حقوق الأخوة، روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قالوا: يا رسول الله! عرفنا كيف ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: أن تكفه عن الظلم فذاك نصره) إن وجدت أخاً من إخوانك مظلوماً، وكنت قادراً على نصرته انصره، وإن وجدت أخاً من إخوانك ظالماً انصره بكفه عن الظلم، ولو ضاع هذا الحق غرقت سفينة المجتمع، واستشرت المنكرات.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري من حديث النعمان: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
فيجب على الأخ أن يأخذ على يد أخيه، وأن ينصره إن كان ظالماً أو مظلوماً لتنجوا سفينة المجتمع، وإلا لهلكت السفينة، وهلك الصالحون مع الطالحين، فلا تظن أن الذين سينجون هم الصالحون فحسب! لا.
أو أن الذي سيهلك هم الطالحون فحسب؟ لا.
روى البخاري ومسلم من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ: قام من نومه يوماً من عندها فزعاً وهو يقول: (لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه بالسبابة والإبهام- فقالت زينب: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: نعم.
إذا كثر الخبث).(5/11)
الحق الخامس: الستر والتغافر
روى أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أبي برزة الأسلمي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولمَّا يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف رحله).
أسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة.
والناس صنفان، صنفٌ مشهورٌ بالصلاح وبالتقى، لكنه زل، فليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فمن حقه على إخوانه أن يستروا عليه.
وصنفٌ مشهورٌ بالفسق مجاهرٌ به، فهذا لا غيبة له، إن ذكر لم يتذكر، وإن نصح لم ينتصح.
الستر والتغافر وإن زل أخوك وأخطأ في حقك وأتاك فلا ينبغي أن تتعنت في حقه وأن تتفرعن عليه، وأن تقول: لا.
لا أعفو عنك، ولا أقبل عذرك، إنما ينبغي أن يغفر الأخ لأخيه، فالستر والتغافر من أجل وأرقى الصفات التي تدعم أواصر الأخوة بين الإخوة في الله.(5/12)
الحق السادس: الإعانة على قضاء الحوائج
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من فرج عن مؤمنٍ كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) فإن منَّ الله عليك بمنصب أو بوجاهة وأتاك أخوك لتشفع له فاشفع له، وإن طلب منك عوناً فأعنه، وإن أراد مصلحةً وكنت قادراً فيسرها له، ومن استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه، وأرجو في المقابل إن ذهب أخٌ إلى أخيه وطلب منه مصلحة ولم يقدر الله عز وجل لهذا الأخ أن يعين أخاه فيها فينبغي أن يعذره.
أتمنى أن لو قدم الأخ لأخيه طلباً للتوظيف مثلاً، أو معونةٍ مادية أو لأي مصلحة، وقال له: أخي في الله! هذه حاجتي إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك، فإن الأمور كلها تجري بمقادير الله، ما أجمل هذا الفهم! وما أرقى هذا الظن!(5/13)
الطريق إلى الأخوة
ما الطريق إلى الأخوة؟ الطريق الأول: العودة الصادقة إلى أخلاق هذا الدين، فأنا أقول لكم -أيها الأحبة- إننا لن نعيد الأخوة والعقيدة بالمحاضرات الرنانة، ولا بالمجلدات ولا بالأشرطة فحسب، إن المنهج النظري الإسلامي المنير العظيم، سيظل محبوساً بين المجلدات وعبر الأشرطة، ما لم يتحول هذا المنهج في حياتنا إلى منهج حياة، وإلى واقعٍ عملي.
وأنا أقول: لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم للإسلام العظيم دولةً من فتاتٍ متناثر، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء، أقام دولةً أذلت الأكاسرة، وأهانت القياصرة، أقام دولة حولت الصحابة من رعاة للغنم إلى قادة للأمم -وتدبر معي- وذلك يوم أن نجح المصطفى صلى الله عليه وسلم في طبع عشرات الآلاف من النسخ من المنهج التربوي الإسلامي العظيم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمدادٍ من التقى والنور.
فانطلق الصحابة ليحولوا هذا المنهج على أرض الواقع إلى منهج حياة، وواقعٍ يتألق سمواً وروعةً وعظمةً وجلالاً، وإن أعظم خدمة نقدمها اليوم لديننا -أيها الأحبة- أن نشهد للإسلام شهادة عملية على أرض الواقع، كلٌ في موطن إنتاجه وموطن عطائه، فنحن لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على المنابر، وإنما نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة لدين الله كلٌ في موقع إنتاجه وعطائه، بحسب ما منَّ الله عز وجل به عليه من قدرات وطاقات.
ثم السبيل الثاني أن نتحرك بين الناس، بعد أن نحول أخلاق هذا الدين في حياتنا إلى واقع أن نتحرك بين الناس لدعوتهم إلى هذا الدين العظيم، وإلى أخلاق هذا الدين العظيم.
وأسأل الله العظيم الحليم الكريم جل وعلا أن يردنا إلى هذه المعاني رداً جميلاً، وأن يأخذ بنواصينا إليه، وأن يرد إلى الأمة عزها ومجدها وكرامتها، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد بين صفوفنا، وأن يشف صدور قوم مؤمنين، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.
وأسأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، أن ينصر الإسلام والمجاهدين في كل مكان، وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام، وأن يجعل هذا البلد الكريم سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/14)
الإسلام وسعادة البشرية
البشرية كلها في هذه الحياة تبحث عن السعادة، فما من أحد من الناس كافرهم ومسلمهم، ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم، إلا ويبحث عنها.
فمن الناس من يبحث عنها في غنى مال، ومنهم من يبحث عنها في وجاهة ورئاسة، ومنهم من يظنها في الحياة المادية الرغدة والسفريات والنزه.
والحقيقة أن السعادة هي في الإيمان والاستقامة على شرع الله، والرضا بقضاء الله تعالى.(6/1)
الناس جميعاً يبحثون عن السعادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في الجنة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله؛ الإسلام وسعادة البشرية، هذا هو عنوان لقائنا معكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا سريعاً، فسوف أركز الحديث معكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة.
ثانياً: الإسلام وسعادة البشرية.
ثالثاً: السعادة الحقيقية وأسبابها.
فأعرني قلبك وسمعك -أيها الحبيب المبارك- وأسأل الله جل وعلا بدايةً أن يجعلني وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أيها الأحبة الكرام: الناس جميعاً يبحثون عن السعادة، غايةٌ يتفق فيها الخلق، الكافر والمؤمن، هذا وإن كان الكافر يبحث عن سعادة الدنيا فحسب؛ فإن المؤمن يبحث عن سعادة الدنيا والآخرة، لكنك لو سألت أي إنسان على ظهر هذه الأرض: لمَ فعلت كذا؟ ولمَ قلت كذا؟ ولمَ سافرت إلى البلد الفلاني؟ لأجابك على الفور بقوله: أبحث عن السعادة، سواء قالها بحروفها أم بمعناها.
إن البحث عن السعادة غاية يتفق فيها الخلق جميعاً، لكن ليس كل باحث عن السعادة يدرك طريقها، فكم من أناس يريدون أن ينقبوا عن الماء وسط النيران، وعن السعادة وسط الركام، فليس كل باحث عن السعادة يدرك طريقها، فهناك من الناس من يظن أن السعادة الحقيقية في جمع المال، وبداية فأنا لا أريد البتة أن أقلل من شأن المال أبداً، إذ أني أعلم يقيناً أن المال عصب هذه الحياة، وأعلم أن أموال المسلمين في بنوك الشرق والغرب هي التي تحرك الآن -بلا منازع- دفة السياسة العالمية، فأنا لا أقلل من شأن المال، بل ما أكرم المال إذا ما حركته أيدي الصالحين والشرفاء! ما أعظمه من نعمة إذا ما عرف الإنسان الغاية من وجود هذا المال، ونظر إلى المال فعلم علم اليقين أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، فقال: هكذا وهكذا يبذل هذا المال لمرضاة الله عز وجل، وتذكر دائماً قول القائل:
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن
ما أخذ شيئاً معه، فما أكرم المال إذا ما عرف الإنسان الغاية من وجوده، وعلم علم اليقين أن المال ظل زائل وعارية مسترجعة، فاستغل هذه النعمة في وجوده وحياته لمرضاة الرب جل وعلا، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، وفيه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أول هؤلاء- فقال: ومنهم رجل أو عبد آتاه الله مالاً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل) أي: عند الله جل وعلا، فما أكرم المال إذا ما عرف الإنسان الغاية منه، واستغله في حياته ووجوده في طاعة الله.
لكنني أقول بملء فمي أيها الخيار الكرام: ليس كل صاحب مال سعيداً، بل قد يكون المال سبباً من أسباب السعادة، وقد يكون المال سبباً من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، وها هو القرآن بين أيدينا نقرؤه في الليل والنهار، لكنه يحتاج إلى تدبر وتفكر، لقد ذكر الله جل وعلا لنا مثلاً في كتابه، يبين لنا فيه أن المال ما كان ولن يكون هو السبب الأوحد للسعادة، إنها قصة رجل آتاه الله من الأموال ما عجز العصبة من أولي القوة أن يحملوا مفاتيح خزائنه، إنها قصة قارون، الذي نظر إليه قطاع عريض من الناس وقالوا على لسان رجل واحد: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] فماذا كانت النتيجة يوم أن ذكر بفضل الله جل وعلا فما تذكر وما تدبر، وإنما قال قولة خبيثة يرددها الناس في كل زمان ومكان وإن اختلفت الألفاظ: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] إنه فن الإدارة، فماذا كانت النتيجة؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
وهناك من الأحبة من يحلو له أن نذكره بمثل من الواقع المعاصر، وها هي قصة عجيبة -أيها الإخوة- لعل البعض منكم قد تابع فصولها العجيبة، ألا وهي قصة: كرستينا أونتس، ابنة الملياردير أونتس، الذي يملك المليارات والجزر والأساطيل والأموال الضخمة، ولما توفي هذا الرجل ورثت هذه البنت مع زوجة أبيها هذه التركة الضخمة، ونظر العالم كله إلى هذه الفتاة الصغيرة على أنها قد حصلت السعادة من كل أطرافها، بل ودخلت قصر السعادة من أبوابه ونوافذه، فما هي الحقيقة؟ تزوجت هذه الفتاة برجل أمريكي عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت بعد ذلك برجل يوناني عاشت معه فترة قصيرة ثم طلقها أو طلقته، ثم تزوجت للمرة الثالثة برجل شيوعي، فتعجب الناس! كيف تلتقي قمة الرأسمالية بـ الشيوعية والنظريتان لا مجال للالتقاء بينهما البتة؟! وفي مؤتمر صحفي اقترب منها أحد الصحفيين وقال: كيف قبلت الزواج من رجل شيوعي؟ فقالت بالحرف الواحد: أبحث عن السعادة، ثم عاشت معه فترة قصيرة وطلقها أو طلقته، وتزوجت للمرة الرابعة برجل فرنسي، وفي عرس زواجها أو حفل زواجها اقتربت منها صحفية وقالت: هل أنتِ أغنى امرأة في العالم؟ فردت: نعم، أنا أغنى امرأة، ولكني أشقى امرأة.
هذا هو المال ما حصل لها السعادة، فكم من أصحاب الأموال لا يشعرون بلذة السعادة، ولا يشعرون بطعمها، فليس كل صاحب مال سعيداً، فقد يكون المال سبباً من أسباب السعادة إذا اتقى الإنسان ربه وعرف الغاية من هذا المال، وأنفقه في مرضاة الكبير المتعال، وعلم يقيناً أن المال ظل زائل، وعارية مسترجعة، وقد يكون المال سبباً من أسباب الشقاء في الدنيا بل والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل السعادة.
وهناك من الناس -أيها الخيار الكرام- من يعتقد أن السعادة الحقيقية في منصبٍ يجلس عليه أو يجلس فيه، وقد يكون المنصب سبباً من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، إذا نظر صاحب المنصب إلى المنصب على أنه أمانة، فاتقى فيه ربه جل وعلا، وتدبر دوماً قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر يوم أن انطلق ليطلب منه المسئولية والأمانة فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على كتف أبي ذر وقال: (يا أبا ذر! إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) والحديث رواه مسلم، فمن نظر إلى المنصب على أنه أمانة، وراقب الله جل وعلا بالليل والنهار، سعد بمنصبه في الدنيا بل والآخرة.
ورضي الله عن عمر بن الخطاب الذي نظر إليه عثمان بن عفان يوماً من الأيام، في وقت تكاد حرارة الشمس أن تذيب الحديد والصخور والحجارة، وينظر عثمان من شرفة من شرفات بيته، فرأى رجلاً في وقتٍ شديد الحر يجري في الصحراء فقال: [من هذا الرجل الذي خرج في هذا الوقت القائظ؟! فاقترب منه فإذا به أمير المؤمنين، إنه عمر، وينادي عثمان: يا أمير المؤمنين! ما الذي أخرجك في هذا الوقت الشديد الحر؟ فقال عمر -الذي عرف قدر هذه الأمانة-: بعير من إبل الصدقة قد ندّ يا عثمان، وأخشى عليه الضياع، وأخشى أن أسأل عنه بين يدي الله يوم القيامة، فقال عثمان: فتعال إلى الظل وإلى الماء البارد، وكلف أحد عمالك بالبحث عن هذا البعير، فنظر إليه عمر الفاروق رضي الله عنه، وقال: عد إلى ظلك ومائك البارد، يا عثمان! أأنت ستحمل عني وزري أمام الله يوم القيامة، فقال عثمان قولته الخالدة: والله لقد أتعبت كل من جاء بعدك يا عمر].
إنها الأمانة أيها الأحبة! فلو نظر الإنسان إلى وظيفته وإن صغرت على أنها أمانة؛ فيسر للناس مصالحهم، وذلل العقبات، ويسر الأسباب، وفتح للناس الأبواب، وفك ضيق المعسر، واستغل هذا المنصب لمرضاة(6/2)
السعادة في الإسلام الحق
كنت في زيارة قبل أربعة أشهر لمركز من المراكز الإسلامية في لوس أنجلوس، بولاية كليفورنيا، ودخل علينا في المركز أمريكيٌ يريد أن يُسلِم لله جل وعلا، فسألناه: ما سبب إسلامك؟ وكان من المنطقي كما اعتدنا أن يقول: قرأت عن الإسلام كثيراً وكثيراً، فعلمت يقيناً أن الإسلام هو دين الحق، ولكن الرجل ذكر سبباً غريباً -أيها الأحباب الكرام- فماذا قال؟ قال: أنا رجل أملك من الأموال الكثير والكثير، وعندي من الشركات الكثير، ولكني ما ذقت طعم السعادة أبداً، يقول: ففكر أكثر من مرة في أن ينتحر، وأن يتخلص من هذه الحياة، يقول: وعندي في إحدى شركاتي موظف مسلم، ما من مرة دخلت عليه إلا ورأيت البسمة على وجهه، والسعادة في نفسه وقلبه، فتعجبت له، واقتربت منه، وقلت له: يا هذا! ما من مرة دخلت عليك إلا ورأيتك سعيداً مبتسماً، وأنا صاحب هذه الشركة ما ذقت طعم السعادة، فقال له هذا الموظف التقي النقي: لأنني مسلم، قال: وهل المسلمون يشعرون بالسعادة؟ قال له: نعم.
وإن ابتلاهم الله عز وجل؛ لأن النبي قد علمنا في حديث رواه مسلم من حديث صهيب: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فقال الأمريكي: فهل لو دخلت في إسلامك الذي أنت فيه سأشعر بالسعادة؟ قال: نعم، قال: دلني على الإسلام، فجاء به إلى المركز الإسلامي ليعلن إسلامه، فاغتسل الرجل ووقف في وسط المركز، ووالله -يا إخوة- بمجرد ما نطق لسانه بالشهادتين حتى بكى بكاءً (هستيرياً) طويلاً فتركناه، فلما هدأت نفسه واستقرت جوارحه، اقتربنا منه وسألناه: لماذا بكيت هذا البكاء الطويل؟ فقال بالحرف الواحد ترجمة لقوله: أشعر الآن بسعادة في قلبي ما ذقت طعمها قبل اليوم، ألم يقل ربك: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ألم يقل ربك: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124] إن السعادة الحقيقية واللذة الحقيقية هي أن يردد لسانك: لا إله إلا الله، ترددها بقلب يعرف حقيقة هذه الكلمات وحقيقة الإيمان، بجوارح لا تحس باللذة ولا بالخشوع إلا في طاعة الملك الرحمن جل وعلا.
أيها الأحبة الكرام: إن السعادة الحقيقية في الإسلام، والله لا سعادة إلا في الإسلام وبالإسلام، وأن تعيش للإسلام وعلى الإسلام وبالإسلام، الإسلام الذي حقق السعادة للعالم يوم أن حقق المسلمون الإسلام على أرض الواقع إلى منهج حياة، يوم أن حول المسلمون الإسلام إلى منهج حياة، حقق الإسلام السعادة لا للمسلمين الذين طبقوه، بل لليهود والنصارى الذين عاشوا في كنف الإسلام وتحت مظلة الحكم الإسلامي، اقرءوا التاريخ يا أيها الخيار الكرام.
الإسلام دين الأمن والأمان، دين العدل والرحمة، هذا يهودي يقف أمام القاضي شريح إلى جوار أمير المؤمنين علي، فيقول القاضي شريح: ما القضية؟ فيقول علي بن أبي طالب: الدرع الذي مع هذا اليهودي درعي، ولم أبع ولم أهب.
فيقول شريح لليهودي: ما ردك على كلام أمير المؤمنين؟ فيقول اليهودي: الدرع درعي، وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب.
فيقول القاضي لـ علي: هل من بينة يا أمير المؤمنين! فإن البينة على المدعي واليمين على من أنكر؟ فيقول علي: لا.
جزاك الله خيراً يا شريح، ليس عندي من بينة.
فيقضي شريح بالدرع لليهودي، وهو درع أمير المؤمنين علي، فيأخذ اليهودي الدرع وينصرف، ويفكر في هذه العظمة ويقول: ما هذا؟ أنا مع أمير المؤمنين أمام قاضي المسلمين، ويقضي القاضي بالدرع لي وهو درع أمير المؤمنين، والله إنها لأخلاق الأنبياء، ويرجع اليهودي أمام علي وأمام القاضي، ويقول: يا أمير المؤمنين! الدرع درعك سقطت من بعيرك فأخذتها، وإني الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول علي: أما وقد أسلمت، فالدرع هدية مني لك.
وهذا قبطي من أهل مصر يسبق ابن حاكم مصر محمد بن عمرو بن العاص، فلما سبق القبطي ولد حاكم مصر نزل محمد بن عمرو وضرب القبطي، وهو يقول: خذها وأنا ابن الأكرمين، كيف تسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ وكان هذا القبطي يحمل -بلغة العصر- حساً سياسياً عجيباً، فانصرف إلى المدينة المنورة، إلى الأسد القابع هنالك في عرينه، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر: [ما القصة؟ فأخبره، فقال: اجلس، وكتب كتاباً لـ عمرو بن العاص يقول فيه: إن انتهيت من قراءة كتابي هذا فاركب إليَّ مع ولدك محمد والسلام].
وجاء عمرو بن العاص، ومن خلفه ولده محمد، فقال عمر: [أين القبطي؟].
قال: هأنذا يا أمير المؤمنين.
فأعطى عمر القبطي الدِرة -بكسر الدال لا بضمها- وقال له: [اضرب ابن الأكرمين] فضرب القبطي ابن حاكم مصر أمام عمر، ثم قال عمر: [أدر الدرة على صلعة عمرو، فوالله ما تجرأ عليك ولده إلا لسلطان أبيه].
فقال القبطي: جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين، لقد ضربت من ضربني.
فقال عمر بن الخطاب: [والله لو ضربت عمراً ما حلت بينك وبين ذلك] ثم التفت عمر إلى عمرو ليقول قولته الخالدة: [يا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً].
هذا هو الإسلام -أيها الأحبة- الذي حقق الأمان لا للمسلمين الذين طبقوه فقط، بل لليهود والنصارى الذين عاشوا في كنفه.
ومن الظلم الآن أن نحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين، فإن الإسلام مظلوم بسبب المسلمين الذين ابتعدوا عنه كثيراً كثيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله! أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(6/3)
السعادة الحقيقية وأسبابها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:(6/4)
الإيمان بالله والعمل الصالح
أيها الأحبة الكرام: أما السعادة الحقيقية في الدنيا فهي أولاً: في الإيمان بالله جل وعلا والعمل الصالح، قال جل في علاه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] الإيمان بالله عز وجل والعمل الصالح سبب من أسباب الحياة الطيبة، أي: من أسباب الحياة السعيدة، الإيمان بالله ليس كلمة تقال باللسان، ولكنه قول باللسان وتصديق بالجنان -أي: بالقلب- وعمل بالجوارح والأركان.(6/5)
الاستقامة على أمر الله
ثانياً: الاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى من أسباب السعادة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31 - 32].(6/6)
الإيمان بالقضاء والقدر
ثالثاً: من أسباب السعادة في هذه الحياة الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، فالمؤمن مطمئن منشرح الصدر، يعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، فهو مرتاح القلب منشرح الصدر على الدوام، والإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان بالله عز وجل، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.(6/7)
الإحسان إلى الناس
رابعاً: من أسباب السعادة في الدنيا: الإحسان إلى الناس: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) فإن أحسنت إلى الناس شعرت بلذة في قلبك، وسعادة في صدرك.
ومن أروع ما سمعت أني ألقيت هذه الخطبة تماماً في مصر في مدينة المنصورة، وبعد الانتهاء من الخطبة اقترب مني أستاذ جامعي عندنا، وقال لي: والله إني منذ سنتين وأنا أسافر إلى لندن لأتعالج أو لأبذل لنفسي العلاج؛ لأني أعاني من مرض في القلب، أسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين.
يقول: جلست في يوم من الأيام مع صاحبٍ لي إلى جوار رجل يعمل جزاراً، ونظرت فرأيت امرأة كبيرة فقيرة إلى جوار هذا الجزار الذي يبيع اللحم، تنقب عن قطعة لحم على الأرض أو على عظمة صغيرة، فشد انتباهي هذا المشهد، وناديت على المرأة وقلت لها: سبحان الله! ماذا تصنعين تبحثين عن قطع اللحم النيئ المرمي على الأرض؟ فقالت: والله إن أبنائي في شوق لقطعةٍ من اللحم، وما ذاقوا اللحم منذ ستة أشهر -تدبروا في هذه الكلمات أيها المسلمون- يقول: فبكيت، وقمت على الفور، وقلت لهذا الجزار: يا أخي! هذه المرأة ستأتيك في كل أسبوع فأعطها من اللحم ما تريد، وأنا أحاسبك على كل ما تأخذه عاماً بعام، فقالت المرأة: أحتاج إلى كيلو واحد فقط، فقال هذا الرجل: كلا.
بل أعطها اثنين، فسعدت المرأة وبكت، ورفعت رأسها إلى السماء، وتضرعت بالدعاء لهذا الثري الكريم الشهم، وأخرج الرجل من حافظة نقوده مبلغاً من المال ليكفي هذه المرأة عاماً بكامله، وعادت المرأة إلى بيتها سعيدة، وسعد الأبناء بهذا اللحم الوفير.
وعاد الرجل إلى بيته، دخل ووجهه يتلألأ، يشعر بشيء غريب في جسده كله، فقالت له زوجته: ما شاء الله! أراك نشيطاً، وقالت له ابنته الملتزمة: ما الذي غير وجهك يا أبي؟! فقص عليها القصة فبكت الأم وبكت البنت، وقالت البنت: أسأل الله -يا أبي! - أن يسعدك بشفاء مرضك كما أسعدت هذه المرأة الفقيرة وأولادها، يقول: بعد أيام قليلة أشعر بتحول كامل في بدني كله.
يقول: وبالرغم من ذلك أصر الأحبة أن أسافر إلى لندن لأجري الجراحة.
فلما ذهب إلى هنالك، ونام بين يدي طبيبه الخاص، صرخ طبيبه وقال: عند أي الأطباء في مصر قد أجريت جراحتك؟ قال: لقد تاجرت مع الله فأغناني الله وشفاني.
أيها الأحبة: إن التجارة مع الله تجارة رابحة، أحسن إلى الناس لتشعر بالسعادة في قلبك وفي بيتك وبين أولادك، فمن فرج عن مؤمن من المؤمنين -وما أكثر الكرب-: (من فرج عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).
هذه أسباب السعادة في الدنيا التي ستوصلك إلى السعادة الحقيقية في الآخرة، ألا وهي في التمتع بجنة الله، والنظر إلى وجه الله جل وعلا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله: يا أهل الجنة! هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك، فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول الله جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) وفي صحيح مسلم من حديث صهيب: (فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجه الله جل وعلا).
{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:105 - 108].
اللهم أسعدنا بطاعتك في الدنيا والآخرة، اللهم لا تجعل لأحدٍ ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، واشف اللهم صدور قومٍ مؤمنين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا البلد المبارك سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ هذا البلد بالتوحيد للموحدين وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأحبة الكرام: هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.(6/8)
تفسير سورة يوسف
إن القصة أسلوب من أساليب الدعوة إلى الله، ولها أثرها الكبير في نفوس الناس؛ لذلك ذكر الله في كتابه الكريم عدداً كبيراً من قصص السابقين من الأنبياء وغيرهم من الأمم الغابرة.
ومن تلك القصص قصة يوسف عليه السلام، والتي تكلم عنها الشيخ في هذا الدرس؛ مبيناً الابتلاءات التي ابتلى الله بها يوسف عليه السلام، والتي تجاوزها بفضل الله عليه، وبيقينه بربه، ومن تلك الابتلاءات ما حصل له مع امرأة العزيز، فأنجاه الله تعالى من ذلك؛ لأنه التجأ إليه، وكان من المخلصين ثم بين الشيخ خطورة الخلوة بين الرجل والمرأة، ذاكراً مشهداً يبين ذلك، مع ذكر بعض صور الخلوة.(7/1)
وقفات مع بعض الابتلاءات التي وقع فيها يوسف عليه السلام
الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله -أيها الأحبة- وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا دائماً وأبداً في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيءٍ قدير.
أحبتي في الله: كان من المنتظر في هذه الليلة أن نواصل حديثنا عن مشاهد يوم القيامة، ولكن تلبيةً لرغبة شيخنا الحبيب أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المحيسني حفظه الله، فإن لقاءنا في هذه الليلة الكريمة المباركة مع سورةٍ كريمةٍ مباركة، مع سورة يوسف.
وسورة يوسف سورةٌ مكيةٌ باتفاق العلماء، ونزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم في فترةٍ من أحرج فترات الدعوة، فلقد نزلت سورة يوسف على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة -شرفها الله- بعد موت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، وأنتم تعلمون جميعاً دور أبي طالب ودور خديجة في نصرة الإسلام، والوقوف إلى جوار النبي عليه الصلاة والسلام، علماً بأن أبا طالب كان على الشرك وعلى دين قومه حينئذٍ، ومات على ذلك نزلت سورة يوسف في هذه الظروف الحرجة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لأشد أصناف العذاب والبلاء والاضطهاد من أهل مكة، وهنا أنزل الله جل وعلا عليه سورة يوسف ليقص عليه ربه جل وعلا قصة أخٍ كريمٍ تعرض لجميع أصناف المحن والفتن والابتلاءات؛ ليثبت الله بهذه القصص قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأود أن أشير إشارةً سريعةً إلى أن هناك فرقاً شاسعاً بين القَصَصِ والقِصَصْ.
فإن القَصَصَ: بالفتح هو كلام الحق جل وعلا، لأن هذا هو القصص الحق.
أما القِصص: فهي من نسج خيال الكتاب والأدباء، التي يختلط فيها الحق بالباطل والحلال بالحرام والفضيلة مع الرذيلة.
نزلت قصة يوسف ليثبت الله بها فؤاد حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32] ليقص ربه جل وعلا عليه قصة أخيه الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم؛ إنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
ويقص الله فيها على حبيبه المصطفى صوراً من الفتن والمحن والابتلاءات التي تعرض لها يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وعدوا معي -أيها الأحباب- هذه الفتن التي تعرض لها نبيٌ من أنبياء الله جل وعلا: أولاً: محنة كيد الإخوة وحقدهم عليه.
ثانياً: محنة الجب وفراق أهله وأحبابه.
ثالثاً: محنة الرق وبيعه كسلعةٍ تتداول بين الأيدي بأبخس الأثمان.
رابعاً: محنة الشهوة والفتنة والإغراء وكيد النسوة وعلى رأسهن امرأة العزيز.
خامساً: محنة السجن بعد العيش الرغيد الرافه في قصر العزيز.
سادساً: محنة الملك والرخاء والسلطان، بعد ما صار قوت الناس وخبزهم بين يديه يتحكم فيه كيف شاء.
سابعاً: محنة لقائه بإخوته بعد قدرته عليهم.
ومع كل هذا اجتاز يوسف عليه السلام هذه المحن كلها بقوةٍ واقتدارٍ وجدارة، وخرج يوسف منها خالصاً متجرداً بدينه وإيمانه لم يخدش قط.
ومع كل هذا، ومع هذا الانتصار المدوي لا يتمنى يوسف بعد هذا إلا أن يتوفاه الله مسلماً، وأن يلحقه الله جل وعلا بالصالحين {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].(7/2)
أدلة براءة يوسف عليه السلام
أيها الأحبة: ولو توقفنا مع كل هذه المحن والفتن -والله- لاحتجنا إلى شهرين كاملين، نحتاج رمضانين بدون أي مبالغة، لذا فسوف أختار أشد وأقسى أنواع هذه الفتن التي تعرض لها يوسف عليه السلام لنعيش معها في هذه الليلة المباركة، وأظنكم جميعاً تشاركونني الآن أن أشد أنواع هذه المحن والفتن والابتلاءات التي تعرض لها يوسف فتنة كيد النساء، وعلى رأسهنّ فتنة امرأة العزيز، فتعالوا معي لنعيش هذه الدقائق المعدودات مع هذه الفتنة الحالكة التي يتعرض لها الشباب قديماً وحديثاً، وهي من أشد الفتن بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت فتنةً أشد على أمتي من النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) فأعيروني القلوب والأسماع، وكذلك أدعو الله أن يكنّ أخواتنا كذلك، ونسأل الله بهذه اللحظات وبهذه الكلمات أن يأجرنا إنه ولي ذلك ومولاه.
قبل أن نبدأ الحديث عن فتنة يوسف، تعالوا بنا لأسوق لحضراتكم الأدلة الناصعة على براءة يوسف عليه السلام.(7/3)
أن يوسف من المخلَصين فلا سلطان للشيطان عليه
الدليل الأول: تعلمون أن إبليس عليه لعنة الله أقسم بعزة الله جل وعلا أنه سيبذل كل ما يملك لإغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق ربهم جل وعلا، إلا أن الشيطان قد استثنى صنفاً من بني آدم ثبت أنه عاجزٌ عن إغوائه وإضلاله، فقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83].
المخلَصين: بفتح اللام، وهذه الصفة هي التي شهد الله جل وعلا بها ليوسف عليه السلام، فحينما شهد الله ليوسف بأنه من عباده المخلَصين، وإبليس قد استثنى المخلَصين من الإغواء والإضلال؛ دل ذلك على أن إبليس ما كان له سلطانٌ على يوسف عليه السلام، قال ربنا جل وعلا: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] والشيطان قال: لا أقدر على المخلصين.
هذا هو الدليل الأول.(7/4)
شهادة شاهد من أهل امرأة العزيز
الدليل الثاني: شهادة شاهدٍ من أهل امرأة العزيز {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف:26]، وجاء باحتمال صدقها أولاً لتكون الحجة عليها بعد ذلك أقوى وأبلغ {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف:26] لأنها تمنعه وتحول بينها وبينه فحتماً سيمزق القميص من القبل: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] لأنه حينئذٍ سيجري بين يديها، وهي أمام ضعفها البشري وشهوتها العارمة الجامحة ستضطر إلى أن تجذبه من قميصه من الخلف، فيتمزق القميص بين يديها، فالتفت إلى القميص من الأمام وإذا به سليم معافى، لم يمسسه سوء، ثم وجد أن القميص مزق من الخلف {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:27 - 29] {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف:29] استر هذا الأمر، لا تتحدث به ولا تتكلم، وأنتِ استغفري لذنبكِ إنكِ كنت من الخاطئين، هكذا فقط!(7/5)
شهادة امرأة العزيز على نفسها
الدليل الثالث على براءة يوسف: شهادة امرأة العزيز على نفسها! ماذا قالت؟ {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:51 - 53].(7/6)
فتنة امرأة العزيز وكيد النساء
وتبدأ القصة -أيها الأحبة- بقول الله جل وعلا: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] اسمعوا إلى أول كلمة نطق بها شابٌ في عنفوان شبابه، وفي عنفوان مراهقته وفتوته وشهوته، أول كلمةٍ نطق بها هذا التقي النقي: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] أي إنه سيدي العزيز الذي تقبلني وأكرمني وأحسن معاملتي وتربيتي، وذلك يوم أن قال لامرأته أول الأمر: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف:21] وأكرم العزيز مثواه وأكرم تربيته، فقال يوسف هذا الكريم الذي قدر هذا الكرم: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].(7/7)
وجود المؤهلات والمغريات للوقوع بها
ولكن المرأة بعد المراودة المكشوفة، وبعد هذه الألفاظ العارية عن كل ذرة حياء، وهي امرأة العزيز! صاحبة الجاه والجمال! صاحبة المال والسلطان! وهو عبدها وخادمها الذي يخدمها في البيت! ومع ذلك مالت إليه وهو خادمها، وهذا يؤكد لنا حقيقةً سنخلص إليها؛ ألا وهي خطورة الخلوة بين الرجل والمرأة مهما كان تقى المرأة ومهما كان إيمان الرجل، إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميلٌ عميقٌ في تكوين النفس البشرية، لا ينفك عنها ألبتة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لا يمكن على الإطلاق أن يخلو رجل بامرأة إلا وتتجلى دوافع النفس البشرية وفطرتها حتماً لا محالة في ذلك، أما هؤلاء الذين يكذبون على أنفسهم ويضللون أبناء أمتهم، ويقولون بالدعوة إلى الاختلاط بين الجنسين، بحجة أن الرجل إذا اختلط بالمرأة خف عنده الكلف الجنسي، ونظر إلى الأمر بعد ذلك على أنه أمرٌ عادي!! ويأبى الله إلا أن يظهر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، والواقع يؤكد صدق ذلك، وإن كنا لسنا في حاجةٍ إلى واقعٍ ليؤكد كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله لا يقول إلا عن ربه.
مراودة مكشوفة: {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وفي بعض القراءات: (هِئْتُ لَكَ) هيأت المرأة نفسها وزينت نفسها وتجملت وتعطرت، وأعدت الفراش، ونادت عبدها وخادمها، وقد أغلقت الأبواب باباً تلو الباب، ولا يوجد في هذا البيت إلا هي وهو {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] وبعد هذه المراودة المكشوفة تصر المرأة على شهوتها التي وصلت إلى عنفوانها، وقد تناست الأخلاق والدين والقيم والإيمان والأعراض، المرأة حينما تضعف أمام شهوتها تنسى كل شيء، إلا من رحم الله جل وعلا {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23].
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف:24] أي: إلى هذا العمل، همَّ فِعْلٍ، وهذا هو رأي جمهور المفسرين، وهمَّ بها هم نفسٍ، فهو بشر، وإن أعظم مرحلةٍ وفترةٍ تتجلى فيها عظمة يوسف عليه السلام أن يدعى إلى هذا الأمر وأن يذكر بالله جل وعلا، فيتذكر فيعرض عن الفاحشة، إنها له وليست عليه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] لسنا في حاجةٍ إلى أن نلهث وراء الإسرائيليات والأساطير التي ذكرت في هذه السورة بصفةٍ خاصة، لا يهمنا أن نتعرف على طبيعة هذا البرهان، المهم أن نعرف أن الله جل وعلا ذكره فتذكر، تذكر جلال الله، وتذكر نبوة والده يعقوب، وأنه من بيت نبوة، ابن طاهرٍ نقيٍ عفيف.(7/8)
عفة يوسف عليه السلام
(كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:24 - 25] انظروا إلى هذه الآية {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] جرى يوسف من بين يديها وجرت المرأة خلفه، وفي الآية الأولى قال: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:23] وفي هذه الآية يقول: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] وهذا دليل على أن يوسف قد قصد الباب الذي يستطيع أن يخلص منه وأن ينجو منه، ولكن المرأة أمام ضعفها وضعف شهوتها ما تركته، وإنما جرت خلفه وأمسكته من قميصه من الدبر؛ ليلتفت إليها وهي في كامل زينتها وأنوثتها وجمالها وطيبها وعطرها، إلا أن الله جل وعلا قد منَّ على يوسف حينما رأى يوسف ورأت المرأة سيدها -أي العزيز - وشاهداً معه، وبرَّأ الشاهد يوسف عليه السلام، بعد كيد المرأة المتقن المصحوب بالحب والحرص على يوسف.
{قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] لا تريد له الموت، وإنما تريد أن يبقى يوسف أمام عينها لا يموت، ففي السجن قد تستطيع أن تصل إليه وأن تراه {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] أما الموت فلا، ولا تستحي المرأة بعد ذلك أن تعلن هذا الأمر علانيةً بتبجحٍ عجيبٍ ووعيدٍ غريب، أمام المجتمع النسوي الذي اجتمع في بيت امرأة العزيز، متعجباً كيف لامرأة العزيز وهي من هي في الشرف والحسب والنسب والجمال والمال والسلطان، أن تنظر إلى خادمها وعبدها وفتاها الذي هو في بيتها؟! وأعدت المرأة لهن المتكأ كما تعلمون، وجملت وزينت يوسف عليه السلام، وأمرته أن يخرج عليهن {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31] وهذا يدلنا على قدر الجمال الذي منَّ الله جل وعلا به على يوسف، ما هذا بشراً! إن هذا إلا ملكٌ كريم! وهنا أعلنت المرأة عن رغبتها بمنتهى الصراحة ومنتهى العلانية فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32].(7/9)
لجوء يوسف عليه السلام إلى ربه جل وعلا
اعترف يوسف بضعف بشريته، ما نظر إلى عصمة الله له، ما استعلى ولا تعالى وإنما عرف ضعفه وعجزه البشري فلجأ إلى الله جل وعلا يطلب منه العصمة ويطلب منه المدد، فقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] انظروا الدعوة لم تعد ليوسف فردية من امرأة العزيز وإنما أصبحت الدعوة جماعية، رغبة ملحة جماعية من جميع النسوة اللاتي حضرن ورأينَ يوسف عليه السلام {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:33 - 34] الذي يسمع ويعلم صدق نيته، وصدق تضرعه ولجوئه إلى الله جل وعلا، ليعصمه من هذه الفتنة الصماء البكماء العمياء.(7/10)
تحريم الشارع الخلوة بين الرجل والمرأة
وهنا -أيها الأحباب- أقول لكم: هذه هي خطورة الخلوة بين الرجل والمرأة، فوالله ما خلا رجلٌ بامرأةٍ قط إلا كان الشيطان ثالثهما في هذه الخلوة، يجمل المرأة للرجل ويزين الرجل للمرأة، فترى المرأة الرجل الأجنبي جميلاً ولو كان قبيحاً، ويرى الرجل المرأة الأجنبية جميلةً ولو كانت ذميمة، ولذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم وحرم الخلوة بين الرجل والمرأة أياً كان هذا الرجل وأياً كانت هذه المرأة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم).
أيها الحبيب! هذا تحذيرٌ لك بينٌ من رسول الله، الذي لا ينطق عن الهوى: (لا يخلون رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم) لماذا يا رسول الله؟ لأنها لو خلت بهذا الرجل بغير محرم فحتماً سيشاركهما الشيطان في هذه الخلوة، كما ورد في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والترمذي بسندٍ حسنٍ صحيح من حديث عامر بن ربيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان).
حتى ورد في صحيح البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: (يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة -خرجت للطاعة لحج بيت الله الحرام- وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا؟ -أتدرون ماذا قال له الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ - قال: ارجع -اترك الجهاد واترك الغزوة وارجع- فحج مع امرأتك) وحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً صريحاً واضحاً بيناً من الدخول على المرأة الأجنبية في غياب زوجها أو أحد محارمها، حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال كما روى البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء؟! فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت) وزاد مسلم في روايته: قال الليث: (الحمو أخو الزوجِ أو أقارب الزوج).
يدخل على زوجة أخيه في غياب الزوج! هذا كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا نتهم بالتطرف، ويقال: كيف لا يدخل أخي على زوجتي في غيبتي! لا يدخل، ولست أَدرى بالمرأة وطبيعتها من خالقها جل وعلا، ولا ممن لا ينطق عن الهوى.
ووالله ما وقعت المصائب التي تعمي الأعين وتصم الآذان وتخلع القلوب إلا يوم أن أعرضنا عن منهج الله، وعن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول يحذرك ألا يدخل أخوك على زوجتك في غيبتك: (الحمو الموت) لأنه يدخل على مرأى ومسمعٍ من الناس، من هذا؟ إنه عم الأولاد، إنه أخو الزوج فليدخل في أي وقتٍ شاء، بدون أدنى حرج، وبدون قيود وشروط، لماذا؟ دخل لينظر إلى أبناء أخيه، هذا واردٌ لا شك فيه، ولا ننكره، أما أن يدخل في غياب الزوج، ولو كان الزوج أخاه، فلا يجوز ألبتة، ولو خلا أخو الزوج بزوجة أخيه فإنما هي خلوةٌ محرمةٌ في دين الله جل وعلا، والزوج آثم والمرأة آثمة، حتى ولو لم تقع المصيبة والفاحشة.
واعلموا أن الشيطان له خطوات، لذا لم يحذرنا الله جل وعلا من الشيطان دفعةً واحدة، وإنما قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] انتبهوا أيها الأخيار! ولا تتبعوا خطوات الشيطان، الشيطان له خطوةٌ تلو خطوة، لن يأتي من أول الأمر ليزين زوجة الأخ لأخيه، أو أقارب الزوجة أو غير ذلك، وإنما هي خطوات.(7/11)
مشهد يبين خطورة خلوة الرجل بزوجة أخيه
ولعلي أذكركم بما طالعتنا به الجرائد ومنكم من قرأ هذا الخبر: طالعنا الجرائد يومياً وهذا كثير، وهذه ثمرة حنظلٍ مرة؛ لبعد الناس عن منهج الله ومخالفتهم لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطالعنا الجرائد كل يومٍ بمآسي يشيب لها الولدان، ومن بين هذه المآسي: أن رجلاً ترك زوجته وسافر، وترك لها في البيت كل ألوان الفساد؛ من تلفاز وفيديو وتركها وانصرف، والمرأة مرأة! ودخل أخو الزوج لينظر أحوال أولاد أخيه، وهذا لا عيب فيه، أما في غياب الزوج فكل العيب فيه، ودخل الرجل وكانت المرأة قد أعدت لبناتها غرفةً خاصة، وفي هذه الغرفة وضع التلفاز مع الفيديو، ومرت الأيام وتابع الشيطان خطواته، ولعب الشيطان على حبائله، وذات مرة وقعت هؤلاء البنات أمام فتنة شريطٍ جنسي، وأخذن الشريط، وفي غيبةٍ من مراقبة الأم دخلت البنات غرفتهن ووضعن الشريط وشاهدنه المرةً تلو المرة، وفي ليلةٍ من الليالي وضعت البنات شريط الفيديو الجنسي القذر، ونسينه وخرجن إلى مدرستهن، وفي هذا اليوم عاد عمهن لينظر ما أمرهن، ودخل الرجل إلى بيت أخيه في غياب أخيه، فاستقبلته الزوجة وفتحت له الدار إنها عادة، ولا حرج في ذلك، والأمر عادي، ولا تضيقوا علينا -أيها المشايخ- لا تكونوا متطرفين، إن الأمر ليس فيه شيءٌ أكثر من أن ينظر الرجل إلى أحوال أولاد أخيه ويخرج، نحن لا ننكر هذا إطلاقاً، ولكن الشيطان له خطوات، وربما وقع هذا وربما حفظ الله هذا.
ودخل الرجل إلى غرفة بنات أخيه وجلس، وبدلاً من أن يجلس هكذا فارغاً امتدت يده ليقضي الوقت حتى ترجع البنات، وفتح الفيديو على هذا الشريط الجنسي القذر، ولم يعد الرجل قادراً على أن يغلق، فوالله إنها لمشاهد تحول النُسّاك العُبّاد إلى فساقٍ فجار إلا من رحم الله جل وعلا، وامتدت يد الرجل وفتح الجهاز، وشخص بصره وسمطت أنفاسه أمام مشهدٍ مرعب، وجلس الرجل ضعيفاً مستسلماً، وكانت زوجة أخيه تعد له كوباً من الشاي وهي لا تعلم عن الأمر شيئاً، ودخلت فشد نظرها هذا المشهد المرعب لأول مرة، ووقفت المرأة شاخصةً ببصرها إلى هذا، وأمام شهوتها العارمة الجامحة تضعف المرأة أمام هذا المشهد، ويضعف أخو زوجها، ويقوم الرجل أمام ضعف المرأة ويزني بزوجة أخيه.
الأدهى من ذلك أن الأمر بعد ذلك أصبح معتاداً، وكان الرجل يذهب إلى زوجة أخيه مراراً وتكراراً ليقضي معها الفاحشة والعياذ بالله! إنها ثمرة حنظلٍ مرة؛ لأننا أعرضنا عن منهج الله، وأعرضنا عن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الذي يحذرنا هو خالق البشر: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فالله الله في نسائكم أيها الأخيار! الله الله في حرماتكم أيها الأطهار! فإن الذي يحذرنا من الخلوة هو من لا ينطق عن الهوى، وهاهي امرأة العزيز وهي من هي! وها هو يوسف وهو من هو! تعرضهم الخلوة إلى الوقوع في الفاحشة لولا ستر الله جل وعلا، وفضل الله ورحمته جل وعلا بيوسف عليه السلام.(7/12)
صور الخلوة المحرمة
أيها الأحبة: وقبل أن أُنهي أود أن أحذر وأن أذكر ببعض صور الخلوة المحرمة منها: أولاً: خلوة الرجل بخادمته في البيت.
ثانياً: خلوة المرأة بخادمها في البيت.
ثالثاً: خلوة الخطيب بمخطوبته، بحجة أن الرجل قد خطب المرأة، لا يصح أن يخلو الخطيب بمخطوبته، ينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما، فإذا ما أعجبته وأعجبها يفصل بينهما ولا يجلسان في خلوةٍ أبداً حتى يعقد عليها لتصبح زوجته.
ومن صور الخلوة المحرمة: خلوة السائق بالمرأة في السيارة، ولا يعلم طبيعة الحديث الذي يدور بينهما إلا من يعلم السر وأخفى.
ومن صور الخلوة المحرمة: أن يخلو الطبيب بالمريضة بدون محرم، هذه خلوةٌ محرمةٌ شرعاً، لا يجوز لك أن تدع زوجتك أو ابنتك أو أختك أو أمك عند الطبيب بدون محرم، وإنما يجب عليك أن تدخل معها حتى لا تقع الخلوة المحرمة.
هذه بعض صور الخلوة المحرمة -أيها الأحباب- وأختم بهذا المشهد الذي أسوقه للأخوات الفضليات المسلمات القانتات الحافظات.(7/13)
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
للتقوى منزلة عظيمة، ولذلك فقد أمر الله بها الأولين والآخرين، وأمر بها الأنبياء والمرسلين، وهي الميزان الحقيقي الذي يخفض ويرفع في الإسلام، فمن استكمل شروطها، وأدى أركانها، كان حقاً على الله أن يسعده في الدنيا والآخرة.
وأما التفاخر بالأحساب، والتعاظم بالأنساب فإن ذلك من عبية الجاهلية، لا يرفع الإسلام لذلك راية، ولا يحقق لمن قام به غاية.(8/1)
جميع الناس مأمورون بالتقوى
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فمع اللقاء الحادي عشر، وما زلنا نعيش في رحاب سورة الحجرات، وما زلنا نعيش مع هذه القواعد التشريعية العظيمة، التي وضعها العليم الخبير جل وعلا؛ لصيانة المجتمع الإسلامي من: التمزق، والتشتت، والتفكك، والضغائن، والأحقاد.
ونحن اليوم على موعد مع قاعدة تشريعية جديدة، نبني من خلالها المجتمع المسلم، نحن اليوم مع مبدأ كريم، ألا وهو: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فبعد هذه النداءات المتكررة في سورة الحجرات للمؤمنين، يأتي النداء العام للإنسانية كلها، على اختلاف أجناسها وألوانها وألسنتها، يأتي هذا النداء بهذا المطلع المهيب.
(يا أيها الناس) يا أيها المختلطون أجناساً وألواناً وألسنة! يا أيها المتفرقون شعوباً وقبائل! يا أيها الناس من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها! يا أيها الناس! إن أصلكم واحد فلا تختلفوا، ولا تفتخروا على بعضكم بعضاً، ولا يتعال بعضكم على بعض، إن ربكم واحد، وإن أصلكم واحد، وهو: آدم عليه السلام.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، ولقد ذكر الإمام ابن الجوزي في زاد المسير، في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة أمر بلال رضي الله عنه أن يصعد على ظهر الكعبة ويؤذن، فلما صعد بلال رضي الله عنه ليرفع الأذان على ظهر الكعبة، في البلد الذي طرد منه النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله جل وعلا أن يعود إليه رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لينشر فيه أنوار التوحيد والإيمان.
فقام بلال رضي الله عنه ليرفع الأذان على ظهر الكعبة، فقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟! فنزل قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13].
وله شاهد عند الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزى هذا الحديث إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن أبي مليكة: (أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً)، فنزلت هذه الآية؛ لتربي القلوب، وتهذب الضمائر والأخلاق، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].(8/2)
التقوى ميزان التفاضل في الإسلام
لا مجال في الإسلام لهذه الرايات الزائفة، ولا مجال في الإسلام لهذه العصبيات الجاهلية العفنة المنتنة، لا مجال في الإسلام لعصبية العرق، ولا لعصبية الأرض، ولا لعصبية الوطن، ولا لعصبية الجنس، ولا لعصبية اللون، ولا لعصبية اللغة، وهذا الأساس كان القرآن قد وضعه قاعدة لبناء المجتمع الإسلامي من قبل مئات السنين، قبل أن تتغنى الدول الديمقراطية بهذا المبدأ، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
إن كل هذه الرايات لا مجال لها أن ترفرف في سماء الإسلام، كل هذه الموازين إلى زوال، وكل هذه القيم إلى فناء، إن الميزان الحقيقي الذي يخفض ويرفع، إنما هو ميزان التقوى، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذا هو الميزان، وهذا هو المقياس الذي يخفض ويرفع، عند رب الناس جل وعلا.
وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم فتح مكة، فقال: يا أيها الناس! إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله.
وفاجر شقي هين على الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: إنكم لآدم، وإن الله خلق آدم من تراب، ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]).
فلا فخر بالأنساب، ولا فخر بالجاه، ولا فخر بالسلطان، وهذا الحديث رواه الإمام الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أيضاً الإمام الترمذي من حديث عبد الله بن عمر وقال: حديث غريب.
وفي الحديث الآخر عن جابر بن عبد الله أنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق، فقال: أيها الناس! أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13])، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح.
لا ميزان في الإسلام إلا للتقوى، ولا لواء يرفع في دين الله إلا لواء التقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وهذا اللواء الذي رفعه محمد صلى الله عليه وسلم ساوى بين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وحمزة القرشي، ومعاذ الأنصاري، فلا تفاضل إلا بالتقوى، ولذلك فخر وتفاخر بهذا النسب سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم فلقد رفع الإسلام سلمان فارس ولقد وضع الكفر الشريف أبا لهب.(8/3)
انقطاع العلائق والأنساب يوم القيامة
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة، أمر الله منادياً يقول هذا المنادي: إني قد جعلت لكم نسباً، وجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أضع نسبكم، وأرفع نسبي، أين المتقون؟) والحديث رواه البيهقي، ورواه الإمام ابن المنذر، والحاكم وصححه، نقلاً عن الإمام السيوطي في الدر المنثور.
قلت: وله شاهد من حديث أبي هريرة الطويل في فضل العلم الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن حبان وصححه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين: البخاري ومسلم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم (من أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه).
وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون:101]، ينقطع كل نسب إلا نسب التقوى، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104]، إلى آخر الآيات.
نعم، إن الميزان الحقيقي الذي يرفع ويخفض هو: ميزان التقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13].(8/4)
أصناف الخلق
قال علماؤنا: لقد خلق الله الخلق على أربعة أصناف: خلق الله عز وجل آدم من غير أب ومن غير أم.
وخلق الله حواء من أب دون أم.
وخلق الله عيسى من أم دون أب.
وخلق الله سائر الناس من الأب ومن الأم.
وهذا دليل على كمال قدرة الله جل وعلا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، ورحم الله من قال: الناس من جهة الأصل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء نفس كنفس وأرواح مشابهة وأعظم خلقت فيهم وأعضاء وإن يكن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أجلاء فقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وهكذا تذوب جميع الفوارق، وتسقط جميع هذه الرايات المنتنة، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة) هذه العصبيات الجاهلية الممقوتة، التي نجح أعداء ديننا في بذرها في قلوب كثير من المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا راية في الإسلام إلا للتقوى، ولا ميزان في الإسلام يخفض ويرفع إلا للتقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم -كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري -: (يا رسول الله! أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم) إلى آخر الحديث.(8/5)
تعريف التقوى وأركانها
فما هي التقوى؟! الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى وقت طويل جداً، ولكنني سأوجز الجواب عن هذا السؤال الهام؛ لأني قد أفردت خطبة كاملة قبل ذلك للحديث عن التقوى، وهذا من باب: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]؛ فما هي التقوى أيها الأحباب؟ التقوى هي: وصية الله جل وعلا لجميع خلقه، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أمته، وهي الوصية التي ما زال يتوارثها سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعاً، وقد عرفها أحد السلف فقال -نقلاً عن الحافظ بن رجب في جامع العلوم والحكم- التقوى: هي أن تعمل بنور من الله، في طاعة الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وفي الحديث الذي أخرجه الحاكم وصححه من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعاً وموقوفاً -وقال الحافظ بن رجب في كتاب جامع العلوم والحكم: الموقوف أصح- أنه قال في قول الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
إذاً: فأركان التقوى هي: أن يطاع فلا يعصى.
وأن يذكر فلا ينسى.
وأن يشكر فلا يكفر.(8/6)
أول أركان التقوى: طاعة بلا معصية
الركن الأول: طاعة بلا معصية، والمعصية سبب لسخط الله جل وعلا في الدنيا والآخرة، ولها آثار خطيرة على العبد -عافانا الله وإياكم منها- ذكرها وأسهب في تفصيلها الإمام ابن القيم في كتابه القيم الداء والدواء، أو بعنوان آخر: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، حتى لا يلتبس الأمر على بعض الإخوة.
إن للمعصية آثاراً خطيرة، وهي سبب لسخط الله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والمعصية لها ظلمة في القلب، وأذكر نفسي وإخواني من طلبة العلم، بأن المعصية سبب رئيس من أسباب حرمان العلم، قال الشافعي: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأوصاني بأن العلم نور ونور الله لا يهداه عاصي ومن آثارها الخطيرة: أن صاحب المعصية يحس للمعصية بظلمة وبوحشة في قلبه، لا يعلمها إلا الله، كما قال الحسن رحمه الله: أبى الله إلا أن يذل من عصاه، ورحم الله ابن عباس حينما قال: إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للمعصية سوداً في الوجه، وظلمة في القلب، وضيقاً في الرزق، ووهناً في البدن، وبغضاً في قلوب الخلق.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذلك التقوى واصنع كماش على أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى إياك أن تحتقر معصية، فإن المؤمن ينظر إلى معصيته، على أنها كبيرة من الكبائر، ولو كانت من الصغائر، ولكن المنافق ينظر إلى عظم المعصية، كأنها ذبابة وقعت على أنفه فذبها عنه فطارت، لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى من عصيت! إن خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل: عليَّ رقيب فعليك أن تطيع الله جل وعلا، وأن تراقب الله في سرك وعلنك، ولقد أمسك أعرابي بأعرابية في الصحراء، وأراد أن يفعل بها الفاحشة، فقالت له الأعرابية: هل نام الناس في الخيام؟ فذهب الأعرابي فرحاً مسروراً بمعصية زائلة وبلذة فانية، وبمعصية تعرضه لسخط الله جل وعلا، وعاد إليها -وقد تملكه السرور- وهو يقول: أبشري لقد نام الناس جميعاً، ولا ترانا إلا الكواكب، فقالت له هذه المرأة النقية: وأين مكوكبها؟! {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت، وإن خلوت بنفسك فلابد أن تعلم أن الله جل وعلا يسمع ويرى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
إن خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت، ولكن قل: عليَّ رقيب(8/7)
ثاني أركان التقوى: أن يذكر فلا ينسى
الركن الثاني: (أن يذكر فلا ينسى)، والله إنه لشرف أن تذكر الله فيذكرك مولاك: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، والله لو ذكرت عند ملك من ملوك الأرض، أو عند حاكم من حكام الأرض، وذكرت بالخير لسعدت بذلك سعادة غامرة، فكيف إذا قيل لك: لقد ذكرك ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض؟! {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم) أي: ذكرت في الملأ الأعلى يا عبد الله! ذكر الله حصن حصين، يتحصن به الذاكر من شياطين الإنس والجن، إن مثل الذاكر لله جل وعلا، كمثل: رجل خرج العدو في أثره سراعاً، فأتى إلى حصن حصين، فاحتمى بهذا الحصن من عدوه، كذلك الذاكر لله جل وعلا، يحتمي بذكر الرحمن من الشيطان.
فلا تغفل عن ذكر الله، وليكن لسانك دائماً رطباً بذكر الله، وإن ذكرت الله جل وعلا فأنت في كنفه ورعايته، والحديث عن الذكر طويل، إلا أن أفضل الذكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم هو: (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد والإيمان، (أفضل الذكر لا إله إلا الله).(8/8)
ثالث أركان التقوى: أن يشكر فلا يكفر
الركن الثالث: (وأن يشكر فلا يكفر)، وكم من نعم لله جل وعلا علينا وهي بحاجة إلى شكر، ولابد أن نفرق بين معنى الشكر والحمد، فإن معنى الشكر أعم من معنى الحمد: فإن الحمد يقترن باللسان والقلب، ولكن الشكر لابد له من أركان، لابد له من شكر القلب، وشكر اللسان، وشكر الجوارح والأركان، كما قال صاحب فتح المجيد رحمه الله: إن الشكر أعم من الحمد قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13].
ولقد وعد الله بالزيادة على الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
والشكر -كما قال الإمام ابن القيم - هو: الحافظ وهو الجالب: هو الحافظ للنعم، وهو الجالب للنعم، أو لفضل الله جل وعلا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، والشكر لابد أن يكون بالقلب واللسان والأركان، فإن منّ الله عليك بنعمة المال وأردت أن تشكر الكبير المتعال، فشكرك لا يكون بالثناء فقط، وإنما يكون بالثناء على الله والإنفاق في سبيل الله.
وإن منّ الله عليك بنعمة الصحة، فلا ينبغي أن تقتصر على أن تحمد الله فقط، بل ينبغي أن تستغل هذه النعمة في طاعة الله جل وعلا، لذا فإن الشكر يدور على ثلاثة أركان: الركن الأول: هو الاعتراف بنعمة الله جل وعلا.
والركن الثاني: هو الثناء على الله جل وعلا.
والركن الثالث: هو أن تستغل نعم الله في طاعة الله عز وجل.
فلا تستغل نعم الله في معصية الله؛ لأن الذي من عليك بالنعم قادر على أن يسلب منك هذه النعم، ولا شك أن أفضل نعمة أمتن الله بها علينا هي نعمة التوحيد.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا نعمة، لو ظللنا الليل والنهار نشكر الكبير المتعال عليها ما وفيناه حقها أبداً، وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما أنت فلقد أمتن الله عليك بالتوحيد، من غير إرادة منك، ومن غير حول منك ولا قوة، وذلك فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فهذه هي أركان التقوى بإيجاز شديد، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
فالتقوى: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.(8/9)
تعريف الإمام علي رضي الله عنه للتقوى
وقال الإمام علي رضي الله عنه: التقوى هي: العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
(العمل بالتنزيل) سل نفسك: أين أنت من أوامر الله جل وعلا؟ وأين أنت من نهي الله جل وعلا؟ وأين أنت من حدود الله جل وعلا؟ هل نفذت أوامر الله؟ وهل انتهيت عن نواهي الله؟ وهل وقفت عند حدود الله جل علا؟ إن الله لم ينزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة من بعده لتحلى به الجدران، أو لتحلى به الصدور، أو ليقرأ على القبور، أو ليوضع في البراويز الذهبية والفضية، أو في علب القطيفة؛ ليهدى في المناسبات الرسمية وغيرها.
{طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]، يقول صاحب ظلال القرآن: يا محمد! ما أنزل الله عليك هذا القرآن لتشقى به، أو لتشقى بتكاليفه، أو لتشقى به أمتك من بعدك، ولكن ما أنزلنا عليك هذا القرآن إلا لتقيم به أمة، وإلا لتنشئ به دولة، وإلا لتربي به العقول والقلوب والضمائر والأخلاق، هذه مهمة القرآن.
ويوم إن هجرت الأمة القرآن أذلها الله جل وعلا، ولا عزة للأمة إلا إذا عادت إلى مصدر عزها، ألا وهو قرآن ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
اعرض نفسك على كتاب الله جل وعلا، لترى أين أنت من الأوامر والنواهي والحدود؟ وهذه من بنود التقوى.
(والرضا بالقليل) أن تحمد الله جل وعلا على ما امتن به عليك، فإن من حرم القناعة لن يملأ عينه إلا التراب.
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبيت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن (والخوف من الجليل) أن تراقب الله جل وعلا في سرك وعلنك، وأن تخشى الله تبارك وتعالى.
(والاستعداد ليوم الرحيل) لا تنشغل بهذه الفانية عن دارك الباقية، والله لست بمخلد في هذه الأرض.
أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى؟ ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا استعد ليوم ستعرض فيه على محكمة قاضيها الله، لا تقبل الرشوة، ولا تقبل المحسوبية، ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
الاستعداد ليوم الرحيل، ليوم ستنام فيه على فراش الموت، ولا تستطيع قوة على ظهر الأرض أن تحول بينك وبين أمر الله جل وعلا.
حتى ولو اجتمع إليك أطباء الدنيا فلن يستطيعوا أن يحولوا بينك وبين قدر الله عز وجل، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة، أو ملائكة العذاب، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، أي: ذلك ما كنت منه تهرب وتفر وتجري، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري! يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، وصدق من قال: كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مذكور سينسى، وكل مذخور سيفنى، ليس غير الله يبقى، من على فالله أعلى.
(العمل بالتنزيل، والخوف من الجليل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل) هذه بعض اللمحات في التقوى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتقين، إنه ولي ذلك ومولاه.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(8/10)
لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بمن اتقى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه.
هكذا يقول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، لا من أجل أن يفخر بعضكم على بعض، ولا من أجل أن يتعالى بعضكم على بعض.
{لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، عليم بكم، خبير بأموركم، فهو الذي يعلم التقي من الشقي، وهو الذي يعلم الصالح من الطالح، {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
أسأل الله جل وعلا أن يرزقني وإياكم لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، وأن يجعلنا وإياكم من المتقين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم اجعلنا من المتقين، اللهم لا تحرمنا التقوى يا أرحم الراحمين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا، ولنا فيها صلاح، إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا ولا حولنا شقياً ولا محروماً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه.(8/11)
فضل الدعاء
الإنسان في حاجة دائمة إلى أن يستلهم الرحمات ويقرع أبواب السماوات، ويناجي المولى لينال عظيم الأجر وحسن الثواب، ويرفع أكف الضراعة إلى الله في وسط أمواج الفتن الدهماء؛ لينجو من الشهوات والأمراض والهوى، ويتصل بالملك الأعلى.
وفي هذه الرسالة يتحدث الشيخ عن فضل الدعاء وآدابه وشروطه.(9/1)
أهمية اللجوء إلى الله في حياة المسلم
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن وهو بكل شيء عليم، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، ومع اللقاء الثالث من لقاءات هذا الشهر الكريم المبارك، ولقد كان لقاؤنا الأول في هذا الشهر العظيم عن فضل الصوم، وكان لقاؤنا الماضي عن فضل القرآن، ولقاؤنا اليوم عن (فضل الدعاء).
أحبتي في الله: إن الإنسان يعيش في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وكثرت فيه الفتن والشبهات، وكثرت فيه المطامع والرغبات، وكثرت فيه الأهواء والنزوات، واشتدت فيه الفتن والضوائق والكربات، وأصبح الإنسان المكروب في كل هذه الفتن في أمس الحاجة إلى حبل يربطه بخالقه جل وعلا، وفي أمس الحاجة إلى صلة تسكب في قلبه الأمن والإيمان، والراحة والسكينة، والهدوء والاطمئنان، وأصبح في أمس الحاجة إلى أن يتوقف طويلاً طويلاً ليلتقط أنفاسه؛ ليترك كل هذه الفتن وكل هذه الأهواء، وكل هذا العالم الذي يتخبط ويتلاطم في الصراعات والخلافات ليقف لحظة بين يدي الله جل وعلا، يرفع إليه أكف الضراعة مبتهلاً متذللاً متضرعاً، فيخشع قلبه، ويقشعر جلده، وتبكي وتدمع عينه، وبعدها يحس براحة لا يمكن على الإطلاق أن تعبر عنها كل الكلمات التي وردت في قواميس اللغة، ذلكم هو الدعاء.
إنها الصلة التي تربط العبد الفقير العاجز بربه القوي الغني، إن الإنسان بحاجة إلى أن يتوقف ليرفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، ورحم الله من قال:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبتُّ أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها مالي إلى حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد
إن الإنسان في حاجة إلى الدعاء، في حاجة إلى أن يقف على أبواب الرحمات، في حاجة إلى أن يحس بعجزه وفقره، وأن يعلم أنه لا ملجأ ولا ملاذ في هذا الكون من الله إلا إلى لله جل وعلا، وأن يلجأ إلى الله وهو يعلم عجزه، أي: ويعلم الإنسان عجزه وفقره وضعفه، وإذا لجأ إلى الله فإنما يلجأ إلى القوي الغني العزيز الحكيم.
إن موضوع الدعاء موضوع كريم، ونظراً لأن هذا الموضوع طويل طويل فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في عدة عناصر: أولاً: فضل الدعاء من القرآن والسنة.
ثانياً: شروط لابد منها لقبول الدعاء، وانتبهوا أيها الأحبة؛ لأننا نرى كثيراً من الناس يشتكي ويقول: بأنني قد دعوت الله كثيراً كثيراً ولم يستجب الله جل وعلا لي، فما هي الأسباب؟ فانتبهوا معي يرحمنا الله جل وعلا وإياكم.
ثالثاً: آداب الدعاء.
رابعاً: من هم الذين يستجاب دعاؤهم.
خامساً: من هم الذين يتقبل الله جل وعلا منهم الدعاء.(9/2)
فضل الدعاء من القرآن والسنة
والله لو لم يكن في فضل الدعاء من القرآن إلا آية سورة البقرة لكفى بها فضلاً ورحمة، ألا وهي قول الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] إن هذه الآية -أيها الأحبة- آية عجيبة تسكب في قلب المؤمن اليقين والثقة، ويعيش منها المؤمن في جناب رضا الله عنه، وفي ود مؤنس، وفي حالة من الأمن والأمان، والسكينة والهدوء والاطمئنان.
وفي هذه الآية لفتة عجيبة ينبغي أن ننتبه وأن نلتفت إليها: أولاً: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال إلا وكان الجواب من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: قل يا محمد كذا وكذا قال الله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة:222] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:63] إلا في هذه الآية، فلم يقل ربنا جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: وإذا سألك عبادي عني فقل، لا والله، وإنما تولى الله جل وعلا بذاته العلية الإجابة على عباده، فقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب، لماذا؟ حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا واسطة بين العبد وبين الله، ادع الله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، لا تسأل نبياً ولا تسأل ولياً، وإنما سل الله الواحد القهار، ارفع أكف الضراعة إليه في أي وقت شئت، بل وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء.
: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] لا سؤال إلا منه، ولا طلب إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا تفويض إلا إليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا ذبح إلا له، ولا نذر إلا له، ولا حلف إلا به، ولا طواف إلا ببيته جل وعلا، فلتكن عقيدتك وليكن توحيدك وإيمانك، أن ترفع إلى الله أكف الضراعة، بقولك: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
: (من لم يسأل الله يغضب عليه) والحديث رواه الترمذي وغيره، وهو حديث حسن، وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الجامع.
الله أكبر! الله يريد منك أن تتذلل إليه، وأن تعلن عجزك وفقرك وحاجتك، وأن تلجأ إلى الله الغني القوي العزيز الحكيم؛ لأن: (الدعاء هو العبادة) والحديث صحيح صححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) لأن الدعاء تذلل إلى الله، تضرع إلى الله، أن تلقي بحاجتك عند الله جل وعلا، وأن تسأل الله حاجتك: (الدعاء هو العبادة) بل: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) أسمعتم يا عباد الله؟! والحديث رواه أحمد ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وهو حديث صحيح.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
لأنه الفقير وإن كان غنياً؛ العاجز وإن كان في عرف الناس قوياً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17].
أيها الإنسان! ما غناك إلى جوار غنى الله؟ ما قوتك إلى جوار قوة الله؟ ما عزك إلى جوار عز العزيز الحكيم؟ ما سلطانك وما ملكك إلى جوار ملك الملوك جل وعلا؟ أيها الإنسان! اعلم بأنك الفقير إلى الله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] ذلكم هو الدعاء (إن الدعاء هو العبادة) (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء).
واسمعوا معي إلى هذا الحديث الذي يسكب الود والأمن والطمأنينة في قلوب المؤمنين سكباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم والحديث رواه أحمد وأبو داود، وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الجامع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين) الله يستحي منك وأنت لا تستحي من الله؟! لا إله إلا الله! فارفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، وقل لربك وخالقك ورازقك:
بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا
إني ضعيف أستعين على قوى ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا
أذنبت يا ربي وآذتني ذنوب ما لها من غافر إلاكا
دنياي غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاكا
رباه قلب تائب ناجاكا حاشاك ترفض تائباً حاشاكا
فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا
الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: [والله لقد كنت في جانب الغرفة فما سمعت حوار المجادلة، وسمعه الله من فوق سبع سماوات] نعم إنه السميع القريب المجيب: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] خطاب الله إلى موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46].
الله جل وعلا يسمع، الله جل وعلا يرى، الله جل وعلا يجيب، هذه صفات من صفات الله فلا تعطلوها، ولا تكيفوها ولا تمثلوها، ولا تقولوا بأن الله يسمع بكيفية كذا، ويرى بكيفية كذا، فكل ما دار ببالك -يا عبد الله- فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأذهان: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] جل عن الشبيه والمثيل والنظير، لا ند له ولا كفء له، ولا ولد له، ولا والد له، ولا مثيل له ولا شبيه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] جل ربنا تبارك وتعالى عن المثيل وعن الشبيه وعن النظير.
ادع الله عز وجل، والجأ إلى الله جل علا، واعلم أن الله سميع بصير قريب مجيب الدعاء.
وأختم هذا العنصر الأول في فضل الدعاء بهذا الحديث العظيم الجليل الكريم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، يقول: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -المعلم والمربي والإمام والقدوة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- أيها الناس! أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]- يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: وأنا خلفه صلى الله عليه وسلم، أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا عبد الله بن قيس! ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا حول ولا قوة إلا بالله) وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وصححه شيخنا الألباني في صحيح ا(9/3)
شروط لابد منها لقبول الدعاء
ثانياً: من عناصر هذا اللقاء: شروط لابد منها لقبول الدعاء: وانتبهوا إلى هذا العنصر الهام؛ لأنه -كما ذكرت آنفاً- يشتكي كثير من الناس ويقول: دعوت الله ودعوت الله فلم يستجب لي، فما هي الشروط التي لابد منها لقبول الدعاء؟(9/4)
الإخلاص
أولاً: إخلاص النية وإخلاص الدعاء لله جل وعلا، كما قال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] الإخلاص سر القبول وهو: تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، والله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو: ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو: ما كان موافقاً لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا تنس الآخرة، ولا يشغلك جمع المال عن حقوق الكبير المتعال، هذا هو المراد المقصود.(9/5)
إطابة المطعم
ثانياً: أيها الأحبة الكرام! أكل الحلال، أن تأكل من الحلال، وأن تشرب من الحلال، وأن تلبس من الحلال، وأن تتغذى من الحلال، واحذر تمرة تأكلها من الحرام، الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة من الليالي نظرته عائشة رضي الله عنها قلقاً متقلباً في فراشه، فسألته عليه الصلاة والسلام، أتدرون ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (وجدت تمرة على فراشي فأكلتها، وأخشى أن تكون من تمر الصدقة) فإلى من ملئوا بطونهم بالحرام، اتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن الله لا يقبل الدعاء ممن غذي بالحرام، وأكل من الحرام، وشرب من الحرام، ولبس من الحرام.
وفي الحديث الجامع الذي رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ولقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون:51] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172] ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب! يا رب! ومأكله حرام، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
كيف تأكل الحرام وتدعو ويستجيب الله؟! كيف تلبس الحرام وتدعو ويستجيب الله؟! كيف تشرب الحرام وتدعو ويستجيب الله؟! كيف تتغذى بالحرام وتدعو ويستجيب الله؟! فأنى يستجاب لذلك؟! وذكر الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما في كتاب الزهد لأبيه: أن بني إسرائيل قد أصابهم بلاء، فخرجوا إلى الصعيد يسألون الله جل وعلا، فأوحى الله إلى نبيهم وقال: قل لهم: الآن خرجتم إلى الصعيد بأبدان نجسة -نجستها المعاصي والذنوب- ورفعتم إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء، وملأتم بيوتكم من الحرام، الآن وقد اشتد غضبي عليكم، فلن تزدادوا مني إلا بعداً.(9/6)
اليقين والثقة بالله تعالى
أما الشرط الثالث من شروط قبول إجابة الدعاء: أن يكون الداعي على يقين وثقة بالله جل وعلا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما وحسنه شيخنا الألباني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلبٍ غافل لاهٍ) يا له من دواء، وكم استمعت إلى شكاوى كثير من المسلمين، يشتكون من طول الدعاء وما ذاك إلا لأن قلوبهم لاهية؛ لأن قلوبهم قد انشغلت وهامت في كل وادٍ، ما تحرك قلبه وما خشع قلبه، وما اقشعر جلده، وما دمعت عينه، وما أحس باللذة في مناجاته لله جل وعلا، فلو استمع إلى خمس دعوات أو عشر دعوات لأحس بالملل والضجر والطول، لماذا؟ لأنه والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من مناجاة ربنا جل وعلا، كيف وأنت تناجي القوي العزيز الكريم: (والله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه).
وأخيراً أيها الأحبة! نقلاً عن الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم، قال: مر إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة يوماً فالتف الناس حوله، وقالوا: يا أبا إسحاق! يرحمك الله، مالنا ندعو الله فلا يستجاب لنا؟ فقال إبراهيم: لأنكم أمتم قلوبكم بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تؤدوا حقوقه، وزعمتم حب رسوله ولم تعملوا بسنته، وقرأتم القرآن ولم تعملوا به، وأكلتم نِعَم الله ولم تؤدوا شكرها، وقلتم: بأن الشيطان لكم عدو ولم تخالفوه، وقلتم: بأن الجنة حق ولم تعملوا لها، وقلتم بأن النار حق ولم تهربوا منها، وقلتم بأن الموت حق ولم تستعدوا له، ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، وانتبهتم من نومكم فانشغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم.
إنا لله وإنا إليه راجعون! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(9/7)
آداب الدعاء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك وزد عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد فيا أيها الأحبة! ثالثاً: آداب الدعاء، فالدعاء له آداب كثيرة، وسوف ألخصها تلخيصاً لضيق الوقت:(9/8)
تحري أوقات الإجابة
أولاً: يجب على الداعي أن يتحرى الأوقات والأحوال الشريفة التي يستجيب الله تعالى فيها الدعاء، وهي بحمد الله وفضله كثيرة في هذه الأمة الميمونة المباركة: أولاً: من الشهور، شهر رمضان، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه وأحمد وغيرهما، وحسنه الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم -وأولهم- الصائم حين يفطر) لك دعوة مستجابة أيها الصائم، فلا تنس نفسك بهذه الدعوة المقبولة إن شاء الله جل وعلا.
ومن الأيام يوم عرفة: (إن أكرم الدعاء يوم عرفة وهو دعاء مستجاب) كما ورد في حديث الترمذي وحسنه، وكذلك يوم الجمعة، فإن النصوص قد تواترت على أن في الجمعة ساعة إذا سأل العبد ربه حاجة استجاب الله جل وعلا وأعطاه إياها.
كذلك من أوقات القبول ومن الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء، ليلة الجمعة كيوم الجمعة أيضاً.
ومن الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء من الساعات: ساعات الثلث الأخير من الليل، ولقد ورد الحديث في البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا) نزولاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله خلاف ذلك، فلا تقل: ينزل بكيفية كذا، أو كيف يتنزل الله جل وعلا؟ كما قرأنا في كتب لعلماء كبار أنهم يقولون: إن صفة النزول هي: تنزل رحمة الله جل وعلا، لماذا؟ هل أنت أعلم بالله من الله؟ هل أنت أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الرسول يقول: ينزل الله، ولكن صفة النزول إذا ما اقترنت بالله فإنها لا تشبه صفات المخلوق أبداً: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى يضيء الفجر).
فهيا أيها الحبيب قم في أوقات القبول، وفي أوقات الإجابة.
أيضاً من الساعات التي يستجاب فيها: الدعاء بين الأذان والإقامة، والحديث رواه الترمذي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد -وفي رواية الترمذي - قالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة) أي: ادعوا الله جل وعلا بهذه الدعوة الجامعة: (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة).
وأيضاً من الساعات التي يستجاب فيها الدعاء وأنت ساجد بين يدي الرب جل وعلا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه مسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء) وهكذا أيها الأحباب!(9/9)
الخشوع والتذلل بين يدي الله
ثانياً: من آداب الدعاء أن يكون الداعي خاشعاً متضرعاً مبتهلاً متذللاً إلى الله جل وعلا، فلقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه).(9/10)
عدم التعجل في الإجابة
ثالثاً: من آداب الدعاء المهمة جداً: عدم التعجل، ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) وكثير منا يعجل، وفي رواية مسلم: (قيل: وما الاستعجال يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء) فليس من الأدب مع الله أن تتعجل على الله، بل من آداب الدعاء ألا تتعجل.(9/11)
عدم الدعاء بإثم أو قطيعة رحم
رابعاً: من آداب الدعاء المهمة أيها الأحباب: ألا تدعوا بإثم أو بقطيعة رحم على أحد من الناس، وألا تدعو على أولادك، وكثير من الناس قد وقع في هذا المرض، يدعو على أمواله، وإذا غاظته زوجته دعا عليها، وإذا غاظه ولده دعا عليه، ويستجيب الله جل وعلا، وحينئذٍ يضع يده مرة أخرى على رأسه ويقول: يا رب يا رب! وهو سبب هذا البلاء، ورد في الحديث الذي رواه أبو داود بسند صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوا على أنفسكم، ولا على أولادكم، ولا على أموالكم، فتصادفوا من الله ساعة نيل فيها عطاء فيستجيب لكم) هذا بإيجاز عن آداب الدعاء.(9/12)
من هم الذين يستجاب لدعائهم؟
أما العنصر الأخير من عناصر هذا اللقاء هو: من هم الذين يستجيب الله جل وعلا لهم الدعاء؟ أولاً: الصائم.
ثانياً: الإمام العادل.
ثالثاً: المظلوم.
والحديث كما ذكرته أنفاً رواه الترمذي وأحمد وغيرهما، وحسنه الحافظ ابن حجر من حديث أبي هريرة قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم؛ يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول ربنا لهذه الدعوة: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) واعلموا بأن الله تعالى لا يرد دعوة المظلوم ولو كانت من كافر، لا تقولوا بأن هذا كافر لا حرمة له، نعم.
لا حرمة له؛ لأنه كافر نجس، ولكن لا تظلمه، ولا تأكل عليه حقه، ولا تأخذ منه حقه، أعطه حقه كاملاً موفوراً غير منقوص ولا تظلمه، فلو دعا عليك وهو كافر لاستجاب الله دعوته، وكفره على نفسه، وفجوره على نفسه، أما دعوة المظلوم فيرفعها الله فوق الغمام، ويقول لها: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) وكانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ وهو ذاهب إلى اليمن: (واتق دعوة المظلوم -وكم من الناس لا يهتم بها، ولا يأبه لها- فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
اعلم بأن الله يمهلك ولا ينساك ولا يغفل عنك، فإن كنت ظالماً لأحد من عباد الله ولأحد من خلق الله كافراً كان أو مسلماً، فرد إليه المظلمة قبل أن يأتي يوم لا درهم فيه ولا دينار، ولا مناصب ولا كراسي ولا وزارات، ويؤخذ من حسناتك -يا عبد الله- فتعطى لمن ظلمت، حتى إذا ما فنيت حسناتك أُخذ من سيئات من ظلمتهم في الدنيا فطرحت عليك، فطرح صاحب المظالم على وجهه في النار، وهذا هو المفلس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أيضاً ممن يستجيب الله لهم الدعاء: دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب، والحديث رواه مسلم: (ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل -وفي رواية أبي داود - إلا وقالت الملائكة: آمين ولك بمثل) فلا تنسنا أخي الحبيب بدعوة منك في ظهر الغيب، واعلم بأن الله جل وعلا سيستجيب منك هذه الدعوة وسيعطيك مثلها بموعود النبي صلى الله عليه وسلم.
أيضاً دعوة المسافر -أيها الأحباب- فدعوة المسافر لا ترد، ودعوة الوالد على ولده لا ترد، هذا بإيجاز شديد.(9/13)
تفريج الهم والغم
وأختم بعنصر أخير ربما نسيته في أول اللقاء وأنا أعدد العناصر ألا وهو: تفريج الهم والغم، ولقد تعمدت ذلك لكثرة الهموم والغموم والكربات، لتحفظوه أحبتي في الله، وأسأل الله جل وعلا أن يفرج عني وعنكم الهم والغم والكرب؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
وهذا الدعاء ورد في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو يعلى والبزار والإمام الطبراني، وصححه الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد، وصححه شيخنا الألباني في سلسة الأحاديث الصحيحة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي وهمي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من قال هذه الدعوات أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحاً، قيل: يا رسول الله! أفلا نتعلمهن؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن).
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم تقبل منا الدعاء يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن بطن لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن بطن لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم اجعلنا من المقبولين، اللهم اجعلنا من المقبولين، اللهم تقبل منا دعاءنا، وتقبل منا صيامنا وقيامنا.
اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(9/14)
العقل البشري ومنهج الله
تحدث الشيخ عن تساؤل مهم وهو: هل يمكن للبشرية الاستغناء عن منهج الله مهما بلغت من تقدم علمي وتقني؟ ثم وضح أن البشر لما انحرفوا عن منهج الحق؛ وقعوا في ضحالة ومهانة وتردٍ في جوانب متعددة أمنية، وأخلاقية، واقتصادية، وأنه لا نجاة لهم إلا بالتمسك بالدين الإسلامي الدين الحق.
وقد بين عجز العقل البشري عن التوصل إلى منهج كامل شامل، ذاكراً نتيجة الإعراض عن الدين الحق.(10/1)
مصادمة العقل البشري لمنهج الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الأطهار الأخيار الكرام وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيكم على هذا الجهد، وهذه المشقة، وهذا الصبر تحت حرارة هذه الشمس؛ أن يجزيكم خير الجزاء بمنه وكرمه وفضله، إنه ولي ذلك وولي العطاء، أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! هل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيدة عن منهج الله؟ هل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تعيش بعيداً عن منهج الله؟ أقول: سؤال يقفز إلى أذهان الكثيرين في قرننا العشرين، في وقت بلغت فيه البشرية هذا المبلغ من التقدم العلمي والمادي المذهل، فغاصت بعيداً في أعماق البحار، وانطلقت بعيداً في أجواء الفضاء، وفجرت الذرة، بل وحولت البشرية من خلال هذه التقنية الحديثة في عالم المواصلات والاتصالات، حولت العالم كله إلى قرية صغيرة، ما يحدث هنا يسمع ويرى هنالك في نفس اللحظة.(10/2)
دعوة شيطانية للتمرد على منهج الله
مع هذا التقدم العلمي والمادي الذي يأخذ العقول والألباب، نفخ كثير من شياطين الإنس في عقول كثيرٍ من البشر دعوة التمرد على منهج الله جل وعلا بحجة واهية سخيفة ألا وهي: أن في الانقياد لمنهج الله حجر على هذا العقل البشري المارد العملاق الذي استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه في هذا القرن العشرين، إن هذا العقل الذي فجر الذرة، وغاص في أعماق البحار، وانطلق بعيداً في أجواء الفضاء، واخترع القنبلة النووية، وصنع الصاروخ والطائرة، بل ووصل إلى سطح القمر، إن هذا العقل ينبغي أن ينطلق ليقنن لنفسه وليشرع لنفسه، كما اختار لنفسه هذه التقنية العلمية في جانب الدنيا؛ لأن الانقياد لمنهج الله حجر على هذا العقل المارد العملاق، الذي وصل إلى ما وصل إليه.
دعوة متبجحة جريئة، بدأ يؤجج نارها ويشعل فتيلها كثير من العلمانيين لا في مصر وحدها، بل في كل أنحاء الدنيا، بحجة ما وصل إليه العقل البشري من تقنية وتقدم علمي مذهل.
أيها الأحباب الكرام! نحن المسلمين لا ننكر ما وصلت إليه البشرية من تقدم علمي، ولكننا على يقين جازم أيضاً أن الحياة البشرية لا تقف عند هذا الجانب المادي فحسب، ولا يمكن على الإطلاق لطائرٍ جبار عملاق أن يحلق في أجواء الفضاء بجناح واحد، ولو نجح في ذلك لفترة ولو طالت فإنه حتماً ساقط منكسر؛ لأن الحياة ليست كلها مادة، ولا تقف الحياة عند هذا الجانب المادي فحسب، ومن أراد يا شباب الصحوة أن يتعرف على هذه الحقيقة الكبرى فليراجع إحصائيات الجريمة بكل أشكالها وصورها وألوانها في هذا العالم المتحضر -زعموا- ليرى ما هي الحقيقة لهذا العقل البشري حينما تحدى نور الوحي الإلهي، وحينما تحدى منهج الله رب العالمين.(10/3)
ضحالة العقل البشري حال استغنائه عن الله
انظر إلى هذا العقل الجبار، وإلى هذا العقل العملاق الذي وصل في الجانب المادي إلى ما وصل إليه، انظر إليه في الجانب الآخر؛ في الجانب العقدي والإيماني والروحي والديني، الذي لا بد فيه وحتماً لهذا العقل أن ينقاد إلى منهج الله، وأن يذعن إلى منهج أنبياء الله ورسله، انظر معي أيها الحبيب لتتعرف على حقائق وضحالة هذا العقل البشري.
فهذا هو العقل الروسي العفن الذي وصل إلى ما وصل إليه في جانب الدنيا، شعاره الذي يعلنه في الجانب الآخر العقدي شعاره الذي يعلنه ويتغنى به، أنه يقول: أنه يؤمن بثلاثة ويكفر بثلاثة: يؤمن بـ ماركس ولينين واستالين، ويكفر بالله وبالدين وبالملكية الخاصة.
وهذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي وصل إلى ما وصل إليه في الجانب المادي ما زال إلى يومنا هذا يدافع عن العنصرية اللونية البغيضة، وما أحداث لوس أنجلوس منا ببعيد، وهذا هو العقل الأمريكي الجبار لا زال يدافع إلى يومنا هذا عن زواج الرجل بالرجل، وهذا هو العقل الأمريكي الجبار الذي يتغنى بـ الديمقراطية وحرية المعتقدات لا زال يكيل بمكيالين، ويبارك هذه الإبادة الوحشية، وهذه التصفية الجسدية لكل من وحد الله في أرض الله جل وعلا.
وهذا هو العقل اليوناني يدافع عن الدعارة، وهذا هو العقل الروماني يدافع عن مصارعة الثيران، وهذا هو العقل الهندي يدافع عن إحراق الزوجة مع زوجها، بل وهذا هو العقل الهندي في قرن الذرة والفلك والفضاء والقمر والتقنية يدافع إلى يومنا هذا عن عبادة البقرة، وجاء زعيمهم الكبير غاندي ليقول بملء فمه وبأعلى صوته: إنني حينما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً؛ لأنني أعبد البقرة، وسأظل أدافع عن عبادة البقرة أمام العالم أجمع.
ومضى عابد البقر يقول: إن هناك ملايين الهنود الذين يتجهون بالعبادة والإجلال للبقرة -يقول غاندي - وإنني لأجد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين.
هذا في قرن الذرة والعلم الحديث أيها الأحباب، بل وفي الهند ذاتها تقام المعابد الفخمة، وتقدم إليها القرابين والنذور، ولكن يا ترى لأي آلهة تقدم هذه القرابين، ولأي آلهة تقدم هذه النذور؟!! ستضحكون بملء أفواهكم إذا علمتم أن هذه الآلهة هي الفئران.
وهذا هو العقل العربي في جاهليته الأولى يدافع عن عبادة الأصنام، ويدافع عن وأد البنات، وهذا هو العقل العربي في جاهليته المعاصرة حينما تحدى منهج الله، وانفك عن نور الله جل وعلا، هاهو يدافع عن الكفر والإلحاد والزندقة باسم القومية تارة، والبعثية تارة أخرى، وحرية الفكر تارة ثالثة، فيقول الأول:
هبوا لي ديناً يجعل العُرْب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
يدافعون عن الكفر باسم القومية والعروبة.
ويقول آخر:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
ويقول ثالث بحجة حرية الفكر، بل هي حرية الكفر ورب الكعبة، يقول: إن تطبيق الشريعة الإسلامية في مصر ردة حضارية بكل المقاييس.
هذا هو العقل يا سادة! الذي فجر الذرة في الجانب المادي، يفجر الكفر والإلحاد والزندقة في الجانب العقدي.
هذا هو العقل البشري يا سادة! الذي غاص بعيداً في أجواء الفضاء، وفي أعماق البحار، يغوص بعيداً في أعماق الكفر والزندقة والأوحال.
هذا هو العقل البشري حينما ينفك عن نور الوحي الإلهي، ويتحدى منهج الله، وينطلق ليقنن لنفسه وليشرع.(10/4)
عجز العقل البشري عن وضع المنهج السوي
ولا يمكن على الإطلاق أيها الأحباب مهما بلغ العقل البشري أن يضع منهجاً يتصف بهذه الصفات: بالتكامل والشمول، والتوازن والاعتدال، وبالتميز والمفاصلة؛ لأن الإنسان محكوم من ناحية الزمان والمكان، إن وضع منهجاً فقد يصلح هذا المنهج لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح هذا المنهج لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح هذا المنهج لطائفة من الناس ولا يصلح لآخرين.
وهكذا أيها الأحبة! أما منهج الله الذي خلق الإنسان، ويعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، هو الذي يعلم ما يصلح خلقه وما يفسدهم، ومن ثمَّ جاء منهج الله جل وعلا متصفاً بهذه الصفات: بالتكامل والشمول، بالتوازن والاعتدال، بالتميز والمفاصلة؛ لأنه منهج الله خالق الإنسان الذي يقول جل وعلا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(10/5)
نور الوحي لا يطمس نور العقل
إن نور الوحي الإلهي لا يطمس نور العقل البشري أبداً، حتى لا نتهم بأننا ضيقو الأفق، كلا.
إننا نحترم العقل، ونقدر العلم، بل ونتباهى ونتغنى به، ولكننا لعلى يقين جازم أن نور الوحي لا يطمس نور العقل، بل يباركه ويقويه ويزكيه، شريطة أن يسجد العقل مع الكون كله لله رب العالمين، شريطة أن ينطلق العقل البشري في هذا الكون ليتقرب من خالقه جل وعلا، وليعلم علم اليقين إن ما وصل إليه في هذا الكون من اختراعات واكتشافات إنما أودعها الله في الكون منذ آلاف السنين، وما اكتشفها العقل البشري إلا يوم أن قدر الله له أن يكتشف، وإلا يوم قدر الله له أن يخترع، وحينئذٍ وجب على هذا العقل البشري أن يتعرف على الله، وأن يزداد قرباً من الله، وأن يقف أمام قول الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].(10/6)
منهج الله في إرسال الرسل
أيها الأحبة الكرام! ولما كان الله هو الذي خلق البشرية، ويعلم ضعف الإنسان وفقره وعجزه وجهله، والشهوات التي تحكمه، والشبهات التي تضغطه؛ اقتضت حكمته ورحمته جل وعلا أن يرسل إلى البشرية الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين، ليبينوا لهم منهج الله جل وعلا الذي يضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة، لذا جاء كل نبي ورسول بمنهج واحد، بعقيدة واحدة، بدين واحد، لم يأت نبي بدين يخالف دين النبي الذي سبقه أبداً، ما جاء نوح إلا بنفس الدين الذي جاء به محمد، ما جاء عيسى إلا بنفس الدين الذي جاء به محمد، ما جاء إبراهيم إلا بذات المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ما جاء نوح إلا بالإسلام، قال الله حكاية عن نوح في سورة يونس: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وما جاء إبراهيم إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:127 - 128].
وما جاء يعقوب إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة البقرة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وما جاء لوط إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة الذاريات: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:31 - 36].
وما جاء موسى إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة يونس: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].
وما جاء عيسى إلا بالإسلام، قال الله حكاية عنه في سورة آل عمران: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].
وما جاء سليمان إلا بالإسلام: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31].
وما دخلت بلقيس يوم أن أسلمت إلا في الإسلام، قال الله جل وعلا حكاية عنها: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].
بل والإسلام دين الجن المؤمن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:14 - 15].
بل وجاء لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم، جاء بالإسلام، وخاطبه ربه جل وعلا بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]، فالإسلام منهج الله للبشرية كلها، لتسعد به في الدنيا والآخرة.
انتبه أيها الحبيب! إن من كفر بنبي واحد من هذه الكوكبة ومن هذا الموكب الكريم فقد كفر بهم جميعاً، ولذا انتبه إلى القرآن، وعش مع آياته، وقس كلماته، ما كذب قوم نوح إلا نوحاً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105].
وما كذب قوم لوط إلا لوطاً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160].
وما كذبت عاد إلا هوداً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123].
وما كذبت ثمود إلا صالحاً عليه السلام، وبالرغم من ذلك قال الله جل وعلا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141].
وهكذا أيها الأحبة! فمن كفر بواحد منهم، فقد كفر بنبيه ابتداء، وبإخوانه من الأنبياء انتهاء، ولذا أثنى الله على حبيبه المصطفى وعلى الموحدين معه بصفة الإيمان برسول الله وبجميع إخوانه من رسل الله، فقال جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].(10/7)
نتيجة الإعراض عن منهج الله
أيها الأحباب الكرام! أعود للسؤال الأول الذي طرحت، وهو: هل أصبحت البشرية قادرة على أن تعيش بعيدة عن منهج الله؟
و
الجواب
كلا.
هل قبلت البشرية هذا المنهج الذي أهداه الله لها؛ لتعيش سعيدة في الدنيا والآخرة؟ والجواب: لا.
لم تقبل هذا المنهج.
فما هي النتيجة؟ الجواب: النتيجة في إيجاز شديد حتى لا أشق على الأحباب في الشمس بخارج المسجد، أقول: النتيجة أننا نرى العالم اليوم محروماً من الأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، والطمأنينة النفسية والسعادة القلبية وانشراح الصدر.
لماذا؟ لأن البشرية قد أعرضت عن منهج الله، وأخذت تقنن للعالم بصفة عامة، والإسلامي منه بصفة خاصة، إلا من رحم الله جل وعلا.
أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن رحم، أخذت الأمة تلهث وراء الشرق الملحد تارة، ووراء الغرب الكافر تارة أخرى؛ لتقنن لنفسها منهجاً في الدماء والأعراض والأموال والتشريعات بعيداً عن منهج رب الأرض والسماوات، فسامها الله ذلاً، وأذلها لمن كتب الله عليهم الذل والذلة من إخوان القردة والخنازير، وأنا أسأل عن عمدٍ متكرر، وأقول: هل هناك أذل ممن أذله الله للأذل؟ والجواب: لا ورب الكعبة.(10/8)
الحرمان من الأمن والأمان
أيها الأحباب الكرام: النتيجة لإعراض البشرية عن منهج الله هي: أن العالم محروم من الأمن والأمان، هذا بالرغم من وجود كثرة من الوسائل الأمنية المذهلة التي اخترعها العلم الحديث في هذه الأيام، وبالرغم من التخطيط الهائل المبني على الوسائل العلمية والنفسية لمحاربة الجريمة بكل أشكالها وصورها، وبالرغم من هذه الاختراعات التي يولد منها كل يوم الجديد والجديد، بالرغم من هذا كله، أقول: أولاً إن العالم محروم من الأمن والأمان، وبدون ذرة مبالغة: ما من يوم إلا وتسفك فيه دماء، وتتمزق هنا وهنالك أشلاء، ويعيش الملايين في الدنيا في حالة ذعر ورعب وخوف، بل وينتظرون الموت في كل لحظة، ونسأل الله ألا يحرم مصر من الأمن والأمان، وإننا قد لا نشعر بهذا، ولا نتألم له، ولا نحس إلا بمجرد أن نردد كلمات باردة باهتة على الألسنة، أما القلوب والجوارح فإنها لا تشعر بهذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إن كثيراً من الناس اليوم من المسلمين يعيشون في حالة ذعر ورعب، وينتظرون الموت في كل لحظة، بل واسودت الدنيا عليهم، على الرغم من كثرة الأضواء من حولهم، بل وضاقت الدنيا عليهم على الرغم من هذا الفضاء الموحش؛ لأنهم قد طردوا من ديارهم وأموالهم وأوطانهم، وتركوا كل شيء وذهبوا يعيشون في الغابات وحول المستنقعات يبحثون عن لقمة الخبز في صناديق القمامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والخبراء والمفكرون يجتمعون، والمفكرون يبحثون عن الأسباب، والخبراء يضعون الحلول ثم لا أسباب ولا حلول.
إن العالم محروم من الأمن والأمان، بل تحولت الوسائل الأمنية التي اخترعها العالم اليوم إلى وسائل ذعر ورعب وإبادة للجنس البشري ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فورب الكعبة يا أحبابي أقول: أصبحنا الآن نرى أن الإنسان يفعل بأخيه الإنسان ما تستحي الوحوش أن تفعله في عالم الغابات.(10/9)
الحرمان من الرخاء الاقتصادي
إن العالم اليوم محروم من الرخاء الاقتصادي، على الرغم من كثرة الأموال والبنوك واتساع الأسواق، وبالرغم من ذلك فإننا نرى الملايين يبحثون عن لقمة الخبز بل ويبذلون ماء وجوههم للحصول على الملبس، وقد يضحون بأرواحهم للحصول على مسكن يعيشون فيه، ومنهم من يعيش تحت الكباري، ومنهم من يعيش بين القبور، ومنهم من لا يجد مكاناً تحت دوي هذه القنابل، وأصوات هذه المفرقعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب الأرض والسماوات، هذا لأن العالم قد شذ وتحدى منهج الله الذي ما أنزله للبشرية إلا لتسعد به في الدنيا والآخرة.(10/10)
الحرمان من طمأنينة النفس
إن العالم اليوم أيضاً محروم من طمأنينة النفس، وانشراح الصدر، وراحة البال.
لماذا؟ لأن النفس البشرية يا أحبابي إن حرمت من انشراح الصدر، وطمأنينة النفس، وهدوء البال، واستقرار الضمير، لا تستلذ بعيشٍ ولو كان رخياً، ولا تهنأ بثوب ولو كان فاخراً، ولا بمركب ولو كان فارهاً؛ لأن الأصل هو انشراح الصدر، فإننا نرى كثيراً ممن منّ الله عليهم بالمال وبالمناصب وبالكراسي يعيشون في حالة رعب وضيق وعدم توازن.
لماذا؟ يقول الحسن: [إنهم وإن طقطقت بهم بالبغال، وهملجت البراذين، فإن ذل المعصية في وجوههم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه] أما قرأت قول الله: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127] ليست السعادة في الكراسي والمناصب، ولا السعادة في الأموال، ولكن السعادة كل السعادة في انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، واستقرار الضمير، وهدوء البال، لذا امتن الله على رسوله بهذه النعمة الكبيرة في قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
أقول: السؤال الأخير أيها الأحباب هو: هل حقق منهج الله الذي نتغنى به الآن في فترة من الفترات الأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، وانشراح الصدر وسعادة القلب وطمأنينة البال؟ والجواب بملء فمي: نعم.
والتفصيل بعد جلسة الاستراحة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(10/11)
لا سعادة إلا بالإسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! أقول: إن الله جل وعلا هو الذي خلق الإنسان، وهو الذي شرع له المنهج الذي يسعده في الدنيا والآخرة، ولكن أبى الإنسان بجهله وضعفه وعجزه وفقره أن يحيد عن منهج الله إلا من رحم ربك جل وعلا، فأعرض عن هذا المنهج الرباني في جوانب كثيرة، ومن ثمَّ عاشت البشرية في هذا الضنك والشقاء، ولا يزال العالم يعيش في هذا الضنك وهذا الشقاء -العالم بصفة عامة والإسلامي منه بصفة خاصة- ولن تعود البشرية إلى رشدها وسعادتها إلا إذا عادت مرة أخرى إلى منهج الله جل وعلا، ولن تتخلص من لفح الهاجرة القاتل الذي يصفع وجهها كل يوم إلا إذا عادت مرة أخرى وولت وجهها إلى الله ومنهج الله، وانقادت لشريعة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(10/12)
شهادة التاريخ للإسلام بأنه منهج حياة
نحن لا نقول ذلك من باب العاطفة، وإنما نقول ذلك من باب الحق؛ لأن منهج الله هو منهج الحق، واقرءوا التاريخ لتتعرفوا على أن منهج الله جل وعلا قد حقق الأمن والأمان، لا للمسلمين الذين حققوا منهج الله، بل لليهود والنصارى الذين عاشوا تحت ظلال منهج الله.
اقرءوا التاريخ: هاهو علي يقف إلى جوار يهودي بعدما سرق اليهودي درع علي، ويقاضي علي اليهوديَّ أمام قاضي المسلمين، -انظر معي- يقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أمام خصمه، أمام قاض من قضاة المسلمين في ساحة القضاء، ويكني شريح القاضي رحمه الله، أي: ينادي عليه بكنيته ويقول: يا أبا الحسن! وينادي على اليهودي باسمه مجرداً دون تكنيه، فغضب علي، ونظر إلى شريح وقال: إما أن تكني الخصمين معاً، وإما أن تدع تكنيتهما معاً.
! ارفعوا رءوسكم إلى كواكب الجوزاء في عنان السماء، وبينوا للعالم كله إسلامكم.
والله لقد جاء دورك أيها المسلم العملاق الحنون، فقم وضم العالم كله إلى صدرك، وأسمعه خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، قم أيها العملاق الحنون، ودثر العالم كله ببردتك ذات العبق المحمدي، واسق الدنيا كأس الفطرة لتحيا بعد ممات، ولتروى بعد ظمأ، ولتهدى بعد ضلال، قم فوالله لقد جاء دورك، قم بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة، وتذكر دائماً أمر الله لحبيبه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
فإن الشدة تفسد ولا تصلح، وإن العنف يهدم ولا يبني، فتحركوا بسلاح من الخلق العذب، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة؛ لتحولوا القلوب والأعمال والسلوك، بل ولتحولوا البشرية كلها بمنهج ودين الله كما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقف علي إلى جوار اليهودي أمام القاضي، فقال شريح لـ علي رضي الله عنه: ما قضيتك؟ فقال علي: الدرع درعي ولم أبع ولم أهب.
سرق اليهودي درع علي، فنظر شريح إلى اليهودي وقال: ما تقول في كلام علي؟ فقال اليهودي بخبث ودهاء معهودين: الدرع درعي وليس أمير المؤمنين عندي بكاذب.
فنظر شريح بعظمة لـ علي وقال: هل معك من بينه؟ يقول لمن؟ لأمير المؤمنين، لخليفة المسلمين، لحاكم الدولة، والله ما غضب علي، ولا أمر باعتقاله وبسجنه، وقال: تطلب مني أنا البينة والدليل، أما تستحي؟! كلا.
لأنهم ينطلقون من قواعد ثابتة، من كتاب الله ومن سنة حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
نظر علي بمنتهى الغبطة والسعادة إلى قاضيه المسلم العادل إلى شريح رضي الله عنه وأرضاه، وقال: صدقت يا شريح ليس معي من بينة.
فقضى شريح بالدرع لليهودي.
وانطلق أمير المؤمنين رضي الله عنه، وخرج اليهودي ليكلم نفسه، وقال: ما هذا؟! أقف أنا وأمير المؤمنين في ساحة قضاء واحدة، ويحكم القاضي بالدرع لي وهو درعه؛ لأنه لم يقدم البينة، والله إن هذه أخلاق أنبياء، فيرجع اليهودي ليقف أمام علي وأمام شريح، ليقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وينظر علي لليهودي ويقول: أما وقد أسلمت فالدرع مني هدية لك.(10/13)
عدالة يشهد لها التاريخ
واقرءوا التاريخ.
وتعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى سمرقند التي فتحها الإسلام وهي الآن ترضخ تحت نيران الحكم الشيوعي ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سمرقند فتحها المسلمون والأبطال والموحدون لله جل وعلا، وأرسل حاكم سمرقند رسالة إلى قاضي قضاة المسلمين: بأن الفتح الإسلامي لـ سمرقند فتح باطل.
لم؟ قال: لأنكم ما التزمتم بالإسلام، يعلمون حقيقة هذا الدين ورب الكعبة، قال: ما دعوتمونا للإسلام، فإن أبينا فالجزية، فإن أبينا فالقتال، وإنما نابزتمونا بالقتال دون دعوة ودون جزية.
فماذا فعل القاضي؟ أرسل القاضي رسالة إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وأخبره بأن الفتح الإسلامي لـ سمرقند لا يجوز بحال، وأمره أن يأمر القائد في سمرقند بسحب الجيوش فوراً، وما تردد عمر، فأرسل عمر رسالة إلى قائد الجيوش في مدينة سمرقند، وأمره أن يسحب الجيش فوراً، وما أن وصل الأمر من عمر بن عبد العزيز إلى قائد الجيوش إلا وأصدر الأوامر إلى الجند بالانسحاب من سمرقند، فما كان من هؤلاء الناس إلا أن خرجوا عن بكرة أبيهم أمام هؤلاء الأطهار وأعلن الجميع على قلب رجل واحد: نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله.
الإسلام دين الأمن والأمان، فلماذا يخشى العلمانيون من الإسلام؟ ولماذا يخشى المرجفون من الإسلام؟ ولماذا يخشى المنافقون من الإسلام؟ أفسحوا الطريق للعلماء ليعلموا الشباب حقيقة الإسلام لتروا الأمن والأمان، والرخاء والاستقرار، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وراحة البال.
وحقق الإسلام الرخاء الاقتصادي؛ لأنه وضع نظاماً لو طبق ما وجدنا فقيراً، أما قرأتم التاريخ ووجدتم أنه قد مر على الناس يومٌ أرسل فيه الخليفة منادياً لينادي: من كان عليه دين فسداد دينه من بيت المال، من أراد الحج ولم تبلغه النفقة فحجه من بيت مال المسلمين، من أراد من الشباب أن يتزوج ولم يستطع الباءة فزواجه من بيت مال المسلمين، أين هذا؟ هذا وقع.
اقرءوا التاريخ أيها الأحباب؛ لتعلموا أن الأمة يوم أن حققت منهج الله رزقها الله من بين أيديها ومن تحت أرجلها: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
ولقد قرأت في مسند أحمد أنهم وجدوا حبة قمح بمقدار نواة التمرة في خزائن بني أمية في غلافها، وقد كتب عليها: هذا كان ينبت في الأرض في زمن العدل، فنزع العدل، ووقع الظلم، ورفع دين الله، وبدلت شريعة الله، فماذا تنتظرون؟!(10/14)
سنة ربانية لا تتغير
و
السؤال
قد يسألني أحد الشباب ويقول: فماذا تقول في هذه الأموال التي أغدقت على هؤلاء الكفار والمرجفين والمنافقين؟ أقول: لا بد أن نعي سُنَّةً ربانية لله جل وعلا، ألا وهي: سنة الفتح، يفتح الله على هؤلاء: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44].
إنها سنة ربانية ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، إذا رأيت الرجل في نعمة من الله وهو على معصية الله؛ فاعلم بأنه استدراج له من الله جل وعلا.
وقد حقق منهج الله لأتباعه وأبنائه انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وراحة الضمير، وسعادة البال، وهذه نعم لا يحظى بها إلا المؤمنون، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث صهيب: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
أيها الأحباب الكرام! لا بد أن نعود إلى منهج الله جل وعلا، وابدأ بنفسك ابتداءً أيها الحبيب الكريم، فأنت على ثغرة، فإياك أن يؤتى الإسلام من قبلك، واتق الله، وكن جندياً مخلصاً لدين الله ولمنهج الله.
أقول ورب الكعبة: إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي: أن نشهد للإسلام شهادة عملية وواقعية وأخلاقية وسلوكية، اقطعوا الطريق على المزورين الذين يشيرون إلينا بأصابع الاتهام، بينوا لهم الإسلام في رحمته وعظمته وأخلاقه وعطائه وصدقه وأمانته، بينوا الإسلام للعالم كله وللدنيا كلها بصورته المشرقة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحولها الرعيل الأول إلى منهج حياة، وإلى واقع يتحرك في دنيا الناس.
أيها الشاب الحبيب! تحرك لدين الله، ولدعوة الله، افهم الإسلام بكماله وشموله حتى لا تفتن وتنحرف عن المنهج الحق والطريق السوي، واسمع للعلماء المتحققين، واسع وابذل وقتك ودمك ومالك وولدك وأهلك لتتعلم هذا الدين، وتحرك لتأخذ العلم عن أهله المتحققين به، فإن العلم سبب من أسباب الهداية، وسبب عظيم من أسباب عدم الانحراف عن جادة الطريق، أما إذا ذهب هذا ليأخذ علمه عن الصحافة، أو عن هؤلاء الذين لم يتحلوا بالعلم الشرعي، فإنه حتماً سيضل وسينحرف عن الطريق وعن جادة الصواب، فاجلسوا بين يدي أهل العلم المتحققين به، وخذوا علومكم الشرعية عن هؤلاء العلماء، فإن الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
لا أريد أن أطيل أكثر من هذا.
أسأل الله جل وعلا أن يأجر الإخوة الجالسين تحت حرارة هذه الشمس بأن يقينا الله وإياهم حر جهنم، اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم حرم أجسادنا على النار، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار.
اللهم لا تدع لأحدٍ منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم أنت غياثنا فبك نغوث، اللهم أنت ملاذنا فبك نلوذ، اللهم أنت عياذنا فبك نعوذ، يا منقذ الغرقى، يا منجي الهلكى، يا سامع كل نجوى، يا عظيم الإحسان، يا دائم المعروف، يا ذا الجلال والإكرام، يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما يريد، يا ذا البطش الشديد، يا من ملأ نوره أركان عرشه، يا مغيث المستغيثين، ويا مجيب المضطرين، ويا مفرج كرب المكروبين، ويا كاشف هم المهمومين، اللهم فرج كربنا، اللهم اكشف همنا، اللهم أزل غمنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم بين يديك ذل قلوبنا.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم أعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، اللهم اكس المسلمين العراة، اللهم أطعم المسلمين الجياع.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم فك سجن المسجونين، وأسر المأسورين، اللهم اهدِ شبابنا يا رب العالمين، اللهم احفظ شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم احفظ نساءنا، اللهم استر أخواتنا، اللهم بارك في بناتنا.
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اللهم اجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم لا تتخل عنا يوم تخلى عنا المعين، اللهم كن لنا ناصراً يوم قل الناصر، اللهم كن للمسلمين ناصراً يوم قل الناصر، يا غياث المستغيثين! هتكت أعراض أخواتنا، وسفكت دماؤنا، وسلبت أرضنا، فاللهم مكن لأمة حبيبك المصطفى، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اقبلنا وتقبل منا، وتب علينا وارحمنا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تحرم مصرنا من الأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والفتن والبلاء، اللهم اجعل مصر مسلمة لك بقدرتك يا أرحم الراحمين، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم اشرح صدورنا بالإسلام، واملأ قلوبنا بالإيمان، اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، والإخلاص في أعمالنا، واليقين في أحوالنا.
اللهم جنبنا الرياء والنفاق، اللهم وطهر قلوبنا من النفاق، اللهم اجمع صفنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم ألف بين قلوبنا، اللهم وحد كلمتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق جميع إخواننا الطلاب، اللهم ذلل لإخواننا الطلاب الصعاب، اللهم يسر لهم الأسباب، اللهم فتّح لهم الأبواب، اللهم ذكرهم ما نسوا، اللهم علمهم ما جهلوا، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم سدد أقلامهم، اللهم ذلل لهم الصعب، اللهم لا تفجع والديهم يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا محمد كما أمرنا الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبينا محمد، وعلى آله وصبحه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(10/15)
فصبر جميل
الصبر الجميل هو ترفع على الألم، الذي يضرب أعماق المؤمن، واستعلاء على الفتن، التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، بالنصر الذي يأتي كسنة ثابتة من سنن الله، تلك عقبى الذين اتقوا، وعقبى الكافرين النار.(11/1)
الصبر زاد الدعاة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل الله حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد، يوضح الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّم الجاهل، وقوم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:(11/2)
أنواع الفتن
فمع اللقاء الحادي عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الزاد الذي لابد لكل داعية يسلك طريق الدعوة الطويل من تحصيله والتزود به، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الصبر، وزاد اليوم: صبر جميل صبر جميل.
أحبتي في الله! ليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد مرير يحتاج إلى صبر جميل، ولا يكفي أن يقول الناس: آمنا حتى يتعرضوا للفتن، ويثبتوا عليها، ويخرجوا منها خالصة عناصرهم صافية قلوبهم {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فالفتنة أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله جل وعلا {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فكما تفتن النار الذهب لتخلص بينه وبين العناصر الشائبة والرخيصة العالقة به، كذلك تفعل الفتن في النفوس البشرية، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، لماذا؟ لأن هناك نموذجاً من الناس يعلن كلمة الإيمان في وقت الرخاء، يحسبها هينة الحمل، خفيفة المئونة، فإذا ما تعرض لفتنة من الفتن حتى ولو كانت هذه الفتنة هينة لينة استقبلها بهلع وجزع وفزع، واختلت في نفسه القيم، وطاشت بين يديه الموازين، وتزلزلت في قلبه العقيدة، كما قال ربنا جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، إنه نموذج متكرر من البشر في كل حين وفي كل جيل، إنه نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، يظن العقيدة والدعوة صفقة يتاجر بها في أسواق التجارة {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، هذا الصنف أيها الأخيار الكرام لا يصلح أن يكون صاحب دعوة، ولا حامل رسالة، ولا أميناً على منهج؛ لذا لو كان طريق الدعوة إلى الله جل وعلا هيناً ليناً مفروشاً بالزهور والورود والرياحين لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، وأن يكون حامل رسالة، وأن يكون مؤتمناً على منهج، وما اختلطت حينئذ دعوات الحق بدعوات الباطل الزائفة الكاذبة؛ لذا فلابد على طول طريق الدعوة إلى الله عز وجل من الفتن التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، لماذا؟ ليغربل الله ويمحص القائمين عليها ويفرز الزائفين عنها، ولتبرز دعوات الحق من بين دعاوى الباطل الكاذبة الزائفة: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، فمن ثبت بعد هذه الفتن المزلزلة على طريق الدعوة الطويل فهو بحق وجدارة صاحب الأهلية لحمل راية الدعوة إلى الله عز وجل؛ ليسير بها بين الأشواك والصخور.
إنها فتن قاسية، إنها فتن مزلزلة، فهناك فتنة الظلم والبطش والطغيان من أهل الباطل والجبروت التي تصب صباً على رأس الداعية إلى الله جل وعلا، إن سلك طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد تُصب على رأسه الفتن صباً، ويُصب عليه البلاء والاضطهاد صباً، وتزداد الفتنة حين لا يرى من يسانده ومن يقف إلى جواره من البشر، وتزداد الفتنة إذا لم يجد من القوة والمنعة والحماية ما يدفع به عن نفسه الأذى والبطش والظلم والجبروت والطغيان.
وهناك فتنة الأهل والأولاد الصغار الذين يخشى عليهم الداعية أن يصيبهم الأذى والفتنة بسببه، وقد يهتفون به، وينادون عليه، ويصرخون في وجهه باسم الحب باسم القرابة باسم الرحم أن يسالم أو يستسلم للبطش والظلم والطغيان، وقد تزداد الفتنة أذىً وبلاءً على رأس الداعية المؤمن إذا وقع الأذى على أهله وأولاده أمام عينيه وبين يديه، وهو لا يملك لهم شيئاً، ولا يستطيع أن يرد عنهم من الأذى شيئاً.
وهناك فتنة إقبال الدنيا على الظالمين، على المبطلين، على المهرجين، على الساقطين والراقصين، فتنة إقبال الدنيا عليهم، ورؤية الناس لهم مرموقين ناجحين: تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير المخدوعة، وتصاغ لهم الأمجاد، وتحطم في طرقهم العوائق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب؛ والداعية المؤمن والمؤمن التقي النقي مهمل منكر، لا يحس به أحد، ولا يكرم من أحد، ولا يحتفي به أحد، بل ولا يحس بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً.
وهناك فتنة الشهوات والشبهات التي تعصف بقلوب كثير من الناس، وتحيد بهم عن طريق الحق وعن الصراط المستقيم، وقد يحس الداعية أحياناً بشيء من اليأس والملل والفتور والقنوط، ويظن أن هذه القلوب لا يمكن أبداً أن تأتي وأن تسجد لعلام الغيوب جل وعلا.
وهناك فتنة أخرى خطيرة، نراها بارزة في هذه الأيام، تعصف بقلوب كثير من المسلمين، بل وتعصف بقلوب بعض الدعاة أحياناً ألا وهي أننا نرى أمماً ودولاً غارقة في الكفر والشرك، ومع ذلك نراها تقدر الإنسان كإنسان، نراها تقدر عقله وتحترم فكره وتنمي مواهبه وتزكي قدراته، بل وتفتح ذراعيها لكل المبدعين والموهوبين في شتى المجالات، حتى ولو كانوا من غير بني جنسها؛ في الوقت الذي يرى المؤمن نفسه في كثير من بلدان المسلمين مهضوماً، يحتقر فكره، ويزدرى عقله، ويمتهن رأيه، ويشار إليه بأصابع الإرهاب وأصابع التطرف والأصولية، ويسجن عقله، بل ويسجن بدنه.
إنها فتن قاسية فتن خطيرة، ويزداد الهم والغم والبلاء على كل سالك لهذا الطريق إذا طال أمد الفتنة، وأبطأ نصر الله جل وعلا، حينئذ تكون الفتنة أشد، ويكون الابتلاء أقسى وأعنف، ولا يثبت على طريق الدعوة إلى الله إلا من ثبته الله جل وعلا، وأمده الله بخير زاد، وأمده الله بأقوى ضياء وأعظم زاد للبلاء، ألا وهو الصبر الجميل، لابد تجاه كل هذه الفتن من الصبر الجميل، فما هو الصبر الجميل؟ هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشكوى؟! هل الصبر الجميل هو الذي يصاحبه الأنين والألم؟! هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشهوة الخفية -وإن لم تترجم على اللسان- ويقول حينها الداعية: هأنذا يا ربي قد دعوت فلم يستجب لي؟! كلا، إنما الصبر الجميل هو ترفع على الألم، واستعلاء على الفتن، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، واطمئنان مطلق في حكمة الله ورحمة الله وقدرة الله ووعد الله عز وجل.(11/3)
تعريف الصبر وأقسامه
حد الصبر الإمام ابن القيم حداً جامعاً في كتابه القيم (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) فقال: الصبر: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحسب الجوارح عن المعاصي.
وقسمه إلى ثلاثة أقسام، وهي: صبر على الطاعة أو صبر على المأمور، وصبر عن المعصية أو صبر عن المحظور، وصبر على البلاء والمصائب أو صبر على المقدور، صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر على المصائب والفتن والبلايا، ولابد لكل داعية إلى الله جل وعلا يسلك طريق الدعوة الشاق الطويل من التزود بأنواع الصبر الثلاثة، لابد أن يتزود بالصبر على طاعة الله، ولابد أن يتزود بالصبر عن معصية الله، ولابد أن يتزود بالصبر على جميع الفتن والبلايا والمصائب التي ستكال على رأسه كيلاً؛ لمجرد أنه سلك طريق لا إله إلا الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، إرهابيون أصوليون متطرفون متعنتون متشددون سطحيون ساذجون: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:30 - 32]، لا إله إلا الله! هذا وعد الله جل وعلا وشهادة الله سبحانه.(11/4)
أحاديث في الصبر
روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)، الصبر أعظم عطاء؛ لذا قال: (والصبر ضياء) في الحديث الذي رواه مسلم من حديث الحارث الأشعري الطويل، (والصبر ضياء) أعظم ضياء وأعظم زاد للبلاء هو الصبر، وفي الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم البلاء مع عظم الجزاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).
وهذا هو الصحابي الجليل الذي تعرض للفتن والأذى، حتى كاد -يوم أن عصفت الفتنة بقلبه- أن يفقد الصبر، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتد الأذى وزادت الفتن على رءوسهم في مكة في أول أمر الدعوة، فيأتي خباب بن الأرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشتكي إليه الحال، وليرفع إليه الشكوى، فيقول خباب -والحديث رواه البخاري -: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقعد النبي عليه الصلاة والسلام وقد احمر وجهه، وقال: والله لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، فما يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليتمن الله هذا الأمر-أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
لقد أوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أشد الأذى فهذا بلال يؤخذ تحت حرارة الشمس المحرقة في أرض الجزيرة في مكة، على تلك الرمال المتأججة الملتهبة، فيرمى على ظهره، وتوضع الحجارة القوية الكبيرة على صدره، لماذا؟ لأنه قال: لا إله إلا الله، إنها الجريمة القديمة الحديثة إنها شنشنة أهل الباطل القديمة الحديثة؛ لأنه قال: ربي الله، ولكن بلالاً الذي تمكن الإيمان من قلبه جعله يستعذب العذاب في سبيل الله جل وعلا، وما برح بلال وما زال بلال على هذه الأنشودة العذبة الحلوة التي ما زالت ترن في أذن الزمان بعد هذه القرون الطويلة، وهو يرددها في وجه الباطل بقوة وثقة واطمئنان: أحد أحد، يعلن وحدانيته لله، ويعلن إيمانه بالله جل وعلا، ولو مزقوا جسده تمزيقاً وقطعوه إرباً إرباً، فليأخذوا الجسد وليمزقوه فالروح متعلقة بالله جل وعلا، واللسان لا يفتأ يذكر الله جل جلاله تحت سياط هذا العذاب، هذه والفتن.
وتعلمون ماذا فعل بآل ياسر بـ سمية، وبـ صهيب وبغيرهم حتى قالوا: (ألا تستنصر الله لنا؟) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بأن الحق وإن طال البلاء ظاهر ظاهر.
وهذا ابن مسعود رضي الله عنه -والحديث في البخاري ومسلم - يقول: (والله لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم طرده قومه فأدموه، ونزف الدم على وجهه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، لقد فتن النبي صلى الله عليه وسلم وأوذي، لقد ابتلي النبي عليه الصلاة والسلام ووضع التراب على رأسه، ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر ولكنه صبر؛ لأن الله أمره بالصبر: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، فاستجاب لأمر الله، وصبر لوعد الله جل وعلا، إنه البلاء، إنها الفتن -أيها الأحباب- ولابد من الصبر، لابد من الصبر على كل هذه الفتن، وعلى كل هذه الابتلاءات، ورحم الله من قال: يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله وإذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله أسال الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم صبراً جميلاً، وأن يجمل طريق دعوتنا وإياكم بالصبر، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(11/5)
كثرة الأمر بالصبر في القرآن
أيها الأحباب! لابد من التزود بزاد الصبر الجميل على طول الطريق؛ لوعورته ومشقته، ومن ثم يأتي الأمر من الله جل وعلا لمن نذر نفسه، وتجردت روحه لهذه الدعوة، وانطلق يوم أن قال الله له: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، فقام وأنذر ولم يجلس طرفة عين حتى أتاه اليقين، دعا إلى الله جل وعلا بثبات وقوة وثقة واطمئنان وصدق وإخلاص، يأتيه الأمر من الله جل وعلا بعد كل هذا أن يتزود بالزاد الذي تزود به من قبل إخوانه من الأنبياء والمرسلين، فيقول ربنا جل وعلا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35]، ويقول له جل وعلا: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، ويقول له جل وعلا: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، ويقول له جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، ويأتي الأمر للأمة من بعده صلى الله عليه وسلم للتزود بهذا الزاد العظيم الجليل الكريم فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، ويقول جل وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، بل ويبشر الله الصابرين بثلاث بشارات هي والله خير من الدنيا وما فيها، فيقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155]، هذا هو الطريق يوضح لنا من البداية: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، من هم الصابرون؟ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156]، (إنا لله): كلنا لله، بعقولنا وأموالنا وأولادنا وجوارحنا، {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، الله أكبر! ويبالغ الله في إكرام وتكريم الصابرين حتى في الجنة؛ بإدخال الملائكة عليهم لمصافحتهم والسلام عليهم وتهنئتهم بكرامة الله لهم، فيقول سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد:23 - 24] بماذا؟ {بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، ولم لا والذي يعلم جزاء الصابرين إنما هو رب العالمين! {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وتتجلى صورة التكريم للصابرين بمعية الله جل وعلا لهم فيقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، وبالجملة ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الله جل وعلا ذكر الصبر في تسعين موضعاً في القرآن الكريم، وهذا إن دل فإنما يدل على عظيم شرفه وكبير مكانته عند الله جل وعلا.(11/6)
النصر مع الصبر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الأحبة! وإن كان الله جل وعلا قد جعل الابتلاء والفتن لأهل الإيمان سنة ثابتة سارية فاطمئنوا، واعلموا يقيناً أن النصر في نهاية الطريق سنة ثابتة سارية، وأن أخذ الله جل وعلا للظالمين والمجرمين سنة ثابتة سارية، قال الله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34]، لابد من النصر في نهاية الطريق، في الوقت الذي يشاء ربنا، إن الله لا يعجل لعجلة أحد، إن الله لا يعجل لعجلة أهل الابتلاء من الدعاة والصادقين، كلا، بل يأتي النصر في الوقت الذي يشاء ربنا، وبالقدر الذي يشاء ربنا جل وعلا، فعلينا أن نتأدب مع الله، وأن نصبر على بلاء الله، وعلى الفتن وعلى العقوبات والأذى، ونمضي ونحن نضع رءوسنا في الأرض انكساراً وذلاً لله جل وعلا، ولندع نتيجة الأمر ونهايته لمن بيده الأمر كله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، أما أن نتململ ونقول: لقد دعونا فلم يستجب لنا! أو أن نقول: نحن ندعو إلى الله فلماذا نؤذى؟! فهذا من سوء الأدب مع الله جل وعلا، وإنما ينبغي أن ننطلق وأن ندع النتائج إلى الله جل جلاله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
كن -أخي الحبيب- على يقين مطلق بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لك أن الله جل وعلا في النهاية لابد وحتماً أن يأخذ المجرمين والظالمين، أين فرعون؟! أين فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؟! أين فرعون الذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوقه! أين هو؟ أين قارون الذي {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]!! أين النمرود بن كنعان الذي قال للخليل: أنا أحيي وأميت؟! أين هو؟! قتله الله وأهلكه بذبابة! أين عاد؟! أين ثمود أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلماً وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14] {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:4 - 11] استمع أيها الحبيب! {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:12 - 19] لا يصدقون ولا يؤمنون {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:19 - 22].
أين الظالمون في كل زمان؟! أين الظالمون في كل مكان؟! {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
أما أنت أيها الداعية المظلوم! أما أنت أيها المؤمن المظلوم! يا من ابتليت في مالك! يا من ابتليت في عرضك! يا من ابتليت في شرفك! يا من ابتليت في زوجتك وأولادك! لا تجزع ولا تفزع ولا تحزن واصبر، فوالله إن وعد الله حق.
أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنام نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائم بين الأنام وإن أمهل الله يوماً ظالماً فإن أخذه شديد ذو انتقام أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم صبراً جميلاً، وأن يثبتني وإياكم على البلاء والفتن التي تصب على رءوسنا في هذه الأيام صباً، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله! بهذا نكون قد أنهينا بفضل الله جل وعلا الزاد الذي لابد من تحصيله للدعاة على طريق الدعوة الشاق الطويل، ورأيت بفضل الله سبحانه وتوفيقه أن أوضح لكم وأن ألخص ما ذكرناه في اللقاءات العشرة الماضية، بصورة عملية متجسدة متحركة حية للدعوة إلى الله عز وجل، وأظنكم جميعاً ستتفقون معي على أن هذه الصورة الكاملة المشرقة التي لابد أن نتأسى بها وأن نقتدي بها هي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذا فلقاؤنا -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء في المجلس المقبل سيكون بعنوان مع أعظم داعية عرفته الدنيا؛ لتبقى لنا جمعة واحدة في سلسلة خواطر الدعوة، وبعد ذلك سوف تكون الخطبة بعنوان: بشرى وأمل.
اسأل الله جل وعلا أن يبشر قلوبنا وقلوبكم بنصرة دينه، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، اللهم أقر أعيننا بعز المسلمين، اللهم أقر أعيننا بعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أذل الشرك والمشركين والكفرة والملحدين برحمتك يا رب العالمين! اللهم ارزقنا الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد برحمتك يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(11/7)
وقفات مع آية الكرسي
في هذه المادة يقف الشيخ في محراب أعظم آية في القرآن الكريم، ذاكراً فضلها والحقائق الواردة فيها، مع بيان لكل جملة في الآية، مسترشداً بهديها وما تضمنته من الأسماء، مذكراً بعقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات.(12/1)
فضل آية الكرسي
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السموات والأرض فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إننا اليوم على موعد مع أعظم آية في القرآن الكريم كله، إنها سيدة آي القرآن، إنها آية تتكون من خمسين كلمة، ومن عشر جمل، تكرر فيها اسم الله جل وعلا ثماني عشرة مرة ما بين مضمر وظاهر، اشتملت على معظم قواعد التوحيد والصفات لرب الأرض والسماوات، إننا اليوم مع موعد مع آية الكرسي.
والدليل على أن آية الكرسي أعظم آية في القرآن الكريم كله ما رواه الإمام مسلم من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر -يخاطب النبي أُبي بن كعب - أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟ فقال أُبي بن كعب: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] يقول أُبي: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدري وقال: ليهنك العلم -أي: هنيئاً لك العلم- أبا المنذر).
إننا اليوم على موعدٍ مع سيدة آي القرآن الكريم كله، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيالٌ وبي حاجةٌ شديدة، يقول أبو هريرة: فرحمته فخليت سبيله، فلما أصبحت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! اشتكى حاجة وعيالاً وفقراً فرحمته وخليت سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود، يقول أبو هريرة: فعرفت أنه سيعود لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء يحثو من الطعام أخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكى إلى أبي هريرة ما شكاه المرة الأولى، قال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيال وبي حاجة شديدة، يقول أبو هريرة: فرحمته وخليت سبيله، فلما أصبحت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقال: يا رسول الله! اشتكى إليَّ عيالاً وحاجةً وفقراً فرحمته وخليت سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد كذبك وسيعود، يقول: فعرفت أنه سيعود فرفضته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قال أبو هريرة: ما هن؟ فقال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، يقول فلما أصبحت سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقال أبو هريرة: زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هن؟ فقال أبو هريرة: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، ألا تعرف من تخاطب منذ ثلاثٍ يا أبا هريرة؟ قال أبو هريرة: لا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان).
أيها الأحبة! هذا فضل آية الكرسي كما ورد في الصحيح.(12/2)
وقفات في محراب آية الكرسي
فتعالوا بنا نقف بسرعة في محراب هذه الآية الجليلة العظيمة الكريمة التي تبدأ بهذه الحقيقة الكبرى، وبهذه الحقيقة الأولى في هذا الوجود: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] الله أكبر! إن هذه الحياة البشرية كلها لتجد فاكهة القيمة مبتورة الهدف، معدومة النفع، إن لم تكن هذه الحياة مرتبطة بمنشئها الأول، وقدوسها الأجل الأعظم جل وعلا.(12/3)
وقفة مع قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله، من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، قال الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
إنها آيات توحد الله جل وعلا، وتنطق بوحدانية الله جل وعلا
ففي كل شيء له آية تدل على أنه هو الواحد
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:33 - 40].
وقال الله عز وجل: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [النمل:60] استفهام استنكاري {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60].
وبعد توحيد الربوبية الذي أقر به المشرك الأول، ينتقل الحق جل وعلا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية الذي لا بد منه، بل والذي لا ينفع توحيد الربوبية بدونه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:60 - 65].
الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلاه
الشمس والبدر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصمِّ قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
...
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذي الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والأصداح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد لله ساريا
ولو جن هذا الليل وامتد سرمدا فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
أإله مع الله، لا رب غيره ولا معبود سواه.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] إنها الحقيقة الأولى في هذا الوجود التي يشهد بها وعليها الكون كله من عرشه إلى فرشه، ومن سمائه إلى أرضه، ورحم الله الإمام أحمد يوم أن أمسك البيضة بين يديه يوماً وقال: هاهنا حصنٌ حصين أملس، ليس له باب وليس له منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح.
في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
يا أعرابي! يا من تربيت في مدرسة الفطرة، ما الدليل على وجود الله؟ قال: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟ ومن أروع ما قاله المفكر والفيلسوف سيسل هامان قال: إن الإنسان إذا ما اكتشف قانوناً في هذا الكون يصرخ هذا القانون قائلاً: إن الله هو خالقي، وليس الإنسان إلا مكتشفا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
أيها الأحبة! إن الإقرار بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو المحيي، وهو المميت، يجب على من أقر لله بذلك أن يصرف العبادة بركنيها من كمال الحب والذل إليه، وبشرطيها من إخلاص واتباع إليه، أما أن نقر لله بالخلق والرزق والأمر والتصريف والتدبير، وأن نصرف العبادة لأحدٍ مع الله، أو لأحدٍ من دون الله فهذا شرك بالله جل وعلا، ومن ثم إذا وجهنا العبادة لله جل وعلا وجب علينا أن نستمد تشريعنا من الله جل وعلا وحده، فليس من حق هيئة، أو سلطة، أو مجلس نيابي، أو برلماني، أو دولة أن تشرع للبشر من دون الله جل وعلا: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:39 - 40] لا لهيئة، ولا لدولة، ولا لمجلسٍ شعبي، ولا لمجلسٍ شوروي، ولا لبرلمان، ولا لأحدٍ على ظهر هذه الأرض أن يشرع للخلق من دون الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
أما المنافقون فهم الذين -والعياذ بالله- يعرضون عن حكم الله، ويعرضون عن شرع الله، ويعرضون عن منهج الله، ويعرضون عن سنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن أول حق لله علينا أن نوحده توحيداً شاملاً، توحيداً كاملاً، أن نقر له بتوحيد الربوبية، بل وبتوحيد الألوهية، بل وبتوحيد الأسماء والصفات، بل وبتوحيد الحاكمية، فإن من أعظم مفاهيم كلمة التوحيد أن يكون الحكم لله جل وعلا لا لأحد سواه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
فإذا أقر المسلم لله بالخلق والرزق لا يجوز له ألبتة أن يذهب حراً طليقاً ليختار لنفسه من المناهج والقوانين والأوضاع التي هي من صنع البشر، بل من صنع المهازيل من البشر من الشيوعيين، والعلمانيين، والديمقراطيين، والزنادقة، والفجرة، والفسقة الذين تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والشهوات، وأن يترك شرع الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] أن نقر لله بالتوحيد، وهذا هو أول حق لله علينا، كما في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال لي رسول الله: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
أيها الحبيب! هذا هو حق الله عليك، أن تعبد الله جل وعلا، وأن توحد الله جل وعلا، وأن تصرف العبادة بركنيها وبشرطيها لله جل وعلا؛ لأن الذي خلق، والذي رزق، والذي أبدع هو الذي يستحق أن يعبد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] لا نظير له، ولا شبيه له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا مثيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الحي الذي لا يموت {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
إذا ما أمر الل(12/4)
وقفة مع قوله: (الحي القيوم)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الذي يحتاج إليه غيره ولا يحتاج هو إلى غيره، القيوم: الذي تفتقر إليه جميع المخلوقات ولا يفتقر هو إلى خلقه بل هو الغني عن الخلق، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]،.
(يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً) لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.(12/5)
وقفة مع قوله تعالى: (لا تأخذه سنة ولا نوم)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).(12/6)
وقفة مع قوله تعالى: (له ما في السموات وما في الأرض)
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:255] فالملك ملكه، والجميع تحت قهره وتحت عبوديته.
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:255] السماوات ملكه، والأرض ملكه، بل وما في السموات وما في الأرض ملك لله جل وعلا يقول الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].(12/7)
وقفة مع قوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] لا يجوز لمخلوق ألبتة أن يشفع يوم القيامة إلا بعد إذن الله، وبعد رضا الله جل وعلا يقول الله تعالى: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] لا بد أن نتعلق بالله، ولا بد أن نصحح عقيدتنا في الله، ولا بد أن نعلم أن الأمر كله بيد الله.(12/8)
وقفة مع قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] إنه العلم المحيط الشامل الكامل يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم أينما كانوا بعلمه، بقدرته، بإرادته، بإحاطته، بقهره، لا تقل: معهم بذاته، فلا تقع فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد، حيث جعلوا ذات الله جل وعلا قد حل في كل شيء، وقالوا كلاماً يعف اللسان عن ذكره على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] معهم بعلمه، وبسمعه، وببصره، ما من جبل على ظهر هذه الأرض إلا وهو يعلم ما في وعره، ولا بحرٍ على سطح هذه الأرض إلا ويدري الله ما في قعره: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
وهاهي المرأة الأعرابية تعلمنا هذا الدرس العجيب العظيم، يوم أن ذهب إليها الأعرابي في الصحراء ليراودها عن نفسها، فقالت له لتعلمه: هلا ذهبت واطمأننت هل نام الجميع، فعاد هذا الأعرابي فرحاً بلذةٍ فانية لمعصية يظل ذلها دائماً، قال لها: أبشري فلقد نام الناس جميعاً، ولا يرانا إلا الكواكب، فنظرت إليه هذه الأعرابية قائلة: وأين مكوكبها؟ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة:7] يوم تتطاير الصحف، وتنشر السجلات، وينادى عليك باسمك، وتعطى هذه الصحيفة، تلك الصحيفة التي لا تغادر بليةً كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، فكم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك.
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي مهلٍ فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا
أسأل الله جل وعلا أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(12/9)
وقفة مع قوله تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! يقول الحق جل وعلا: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] لا يطلع أحد على علمٍ إلا بعد أن يعلمه الله إياه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] كما قال الخضر عليه السلام لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أنا على علم من علم الله علمنيه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله جل وعلا.
وفي النهاية فإن علم الخلق جميعاً إلى جوار علم الله كما قال الله عزوجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] في النهاية: أرسل الله للخضر وموسى عصفوراً فنقر هذا العصفور قطرة من ماء البحر، فقال الخضر لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: إن علمي وعلمك في علم الله جل وعلا بمقدار ما أخذ هذا العصفور من ماء البحر.(12/10)
وقفة مع قوله تعالى: (وسع كرسيه السماوات والأرض)
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] لا يصعب عليه شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو الذي يمسك السماء أن تزول، وهو الذي يمسك الأرض أن تزول: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255].(12/11)
مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات
ومذهبنا واعتقادنا في كل هذه الصفات التي وردت في هذه الآية ما عليه جمهور سلف الأمة رضوان الله عليهم، أننا نؤمن بجميع هذه الصفات، ونمرها صريحة كما جاءت في القرآن من غير تحريف لألفاظها، ومن غير تحريف لمعانيها، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل، فكل ما دار ببالك -أيها الحبيب- فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأذهان: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] هذا هو مذهب سلف الأمة في هذه الصفات، فنؤمن بأن لله جل وعلا أسماء الجلال، وصفات الكمال من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن يقفون عند القرآن، وممن يحولوا القرآن في حياتهم إلى واقع.
اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فلقد أمرنا الله جل وعلا بذلك في محكم تنزيله فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(12/12)
التبرج والسفور
خلق الله الخلق لعبادته، ولإعمار الأرض.
وحتى يبقى الاستخلاف ويدوم الإعمار خلق الله البشر على جنسين: ذكور وإناث، وجعل ميل كل منهما للآخر فطرة، ثم هذب هذه الفطرة بالزواج، فجوز وحبب ميل الرجل لامرأته والعكس، وحرم ميل الرجل لأجنبية والعكس، وحرم كذلك المقدمات التي تؤدي لمثل هذا الميل المحرم من تبرج وسفور واختلاط وغير ذلك، وقد منع كل ذلك حتى تكون حياة المجتمع المسلم طاهرة نقية.(13/1)
تحريم التبرج وفرض الحجاب وأسباب ذلك
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فمع الدرس الرابع من دروس سورة الستر والعفاف في سورة النور، وما زلنا بفضل الله جل وعلا نتحدث عن جريمة الزنا وعن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام حماية لأفراد المجتمع الإسلامي من الوقوع في هذه الكبيرة الخطيرة، وقلنا: إن هذه الضمانات تتلخص فيما يلي: أولاً: تحريم النظر إلى المحرمات.
ثانياً: تحريم التبرج وفرض الحجاب على المرأة المسلمة.
ثالثاً: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومنع الاختلاط المستهتر.
رابعاً: تحريم الغناء باعتباره بريد الزنا.
خامساً: الحض على الزواج لمن استطاع إليه سبيلاً، والحض على الصوم لمن لم يستطع الزواج، والحض على عدم المغالاة في المهور تيسيراً لتكاليف الزواج.
ولقد تكلمنا في اللقاء الماضي -بفضل الله جل وعلا- عن أول ضمان من هذه الضمانات الوقائية، ألا وهو تحريم النظر إلى ما حرم الله جل وعلا، وبينا ما يتعلق بهذا الباب من أحكام فقهية، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أيها الأحبة! نحن اليوم على موعد مع الضمان الثاني من هذه الضمانات الوقائية التي جعلها الإسلام سياجاً واقياً وحامياً لأفراده من الوقوع في هذه الفاحشة الكبرى، ألا وهو: تحريم التبرج وفرض الحجاب على المرأة المسلمة.
أيها الأحبة! إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع طاهر ونظيف؛ لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دوافع اللحم والدم في كل حين؛ لأن عمليات الاستثارة المستمرة لهذه الغرائز الهاجعة والشهوات الكامنة تنتهي إلى سعار شهواني لا يرتوي ولا ينطفئ، فالحركة المثيرة، والزينة المتبرجة، واللحن العاري، والرائحة المؤثرة، والمشية المتكسرة، والقولة اللينة المترققة كلها لا تصنع إلا أن تثير هذه الشهوات الهاجعة والغرائز الكامنة كلها تتكاتف لتصب في هذا المستنقع الآسن وفي هذه النار المشتعلة المتأججة المحرقة، ألا وهي نار الشهوات والفتن التي توصلها كل هذه الأشياء إلى قلوب الشباب والرجال وأصحاب القلوب المريضة! نسأل الله أن يحفظنا وإياكم.(13/2)
ميل الرجال إلى النساء ميل فطري
المرأة -أيها الأحباب- بينها وبين الرجل ميلٌ فطري، ميلٌ عميقٌ في التكوين الحيوي والنفسي؛ لأن الله جل وعلا قد أناط بهذا المني امتداد الحياة على ظهر هذه الأرض، لذا فإن عملية الجذب بين الرجل والمرأة عملية مستمرة لا تنتهي ولا تنقطع أبداً، وكذب من ادعى بأن مسألة الاختلاط بين الجنسين تزيل هذا الوباء والبلاء.
إن مسألة الميل الفطري بين الرجل والمرأة مسألة عميقة في تكوين النفس البشرية، جعلها الله كذلك ليضمن بها امتداد الحياة البشرية على ظهر هذه الأرض، والمرأة بطبيعتها جبلت بالجبلة وفطرت بالطبيعة على الأنوثة وحب الجمال وحب الزينة، والإسلام لم يعاكسها في هذه الفطرة التي فطرت عليها، ولم يتنكر الإسلام لهذا الخُلق الذي جبلت المرأة عليه أبداً، ولكن الإسلام لما طلب من المرأة أن تتزين حدد الإسلام لمن تكون هذه الزينة، ولمّا حرم الإسلام الزينة على المرأة حدد الإسلام من تحرم عليه هذه الزينة، فوضع الإسلام شروطاً وقيوداً وحدوداً.
فإذا تفلتت المرأة من هذه القيود والشروط وتعدت هذه الحدود؛ أصبحت ناراً محرقة متأججة لا تبقي ولا تذر، وخرجت سافرة متبرجة متعطرة لترسل سهام الفتنة والشهوة في قلوب الشباب والرجال! وحينئذٍ يصبح المجتمع جحيماً لا يطاق، وتحل فيه الفوضى، فلا راحة ولا هدوء ولا استقرار ولا أمان ولا فضيلة ولا خلق بل خطر كبير وشر مستطير، هذا إن تفلتت المرأة من حدود الله جل وعلا وتجاوزت القيود التي وضعها لها الإسلام، وخرجت متبرجة متعطرة متزينة تعاند الله جل وعلا، وهي تقول بلسان الحال: يا رب، غيِّر شرعك وبدل دينك؛ فإن الحجاب لم يعد يساير مدنية القرن العشرين، وخرجت كالعروس المزخرفة إلى الشوارع والطرقات، وقد أخذت زخرفها وتزينت وهي تقول بلسان الحال:
ألا تنظرون إلى هذا الجمال هل من راغب في القرب والوصال
هذا هو لسان حال المتبرجة التي تفلتت من حدود الله جل وعلا، وعاندت شرع ربها المعبود عز وجل.(13/3)
تبرج المرأة من أعظم أسباب السقوط في المجتمع الإسلامي
أيها الأحبة: لقد علِم أعداء ديننا أن المرأة من أعظم أسباب القوة في المجتمع الإسلامي، وعلِموا أنها من أخطر وسائل الهدم والتدمير في المجتمع الإسلامي فراحوا يخططون ويدبرون لمسخ هذه الأمة، ولقلب هوية هذه الأمة، ولتدمير أخلاق هذه الأمة التي بها وصلت إلى ما وصلت إليه فأذل كسرى وأهين قيصر يوم أن فشلوا في احتلال أرضنا احتلالاً عسكرياً بالجيوش، وقالها لويس التاسع يوم أن أسر في دار ابن لقمان بـ المنصورة بـ القاهرة قالها صريحة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، قال: إنه لم يعد من الممكن السيطرة على بلاد المسلمين بالجيوش العسكرية، فلا بد -الآن- من البحث عن سبيل جديد لغزو المسلمين، وكان الغزو الفكري أخطر بكثير من الغزو العسكري.
وبالتالي -أيها الأحباب- لم يسحب أعداء الدين جيوشهم من أرضنا وبلادنا إلا بعد أن اطمأنوا أنهم خلّفوا وراءهم في بلادنا جيشاً أميناً على كل أهدافهم، وأطلقوا على هذا الجيش الأمين الذي أخذ عنوة ليحج إلى قبلته وكعبته في الشرق الملحد تارة، وفي الغرب الملحد تارة أخرى، وعاد هؤلاء الذين أطلق عليهم أعداء ديننا أضخم الألقاب والأوصاف كالمحررين والمفكرين والمطورين، عاد هؤلاء بعد أن شربوا من هذا المستنقع الآسن العفن، عادوا لينفثوا سموم فكرهم النتن في عقول المسلمين والمسلمات، وأخذوا يطلقون هذه السهام المسمومة والرماح القاتلة تحت هذه الألقاب والشعارات البراقة التي خدعت كثيراً من المسلمين والمسلمات، ألا وهي: حرية المرأة، مساواة المرأة بالرجل، تحرير المرأة.
وهل كانت المسلمة أمة يا دعاة السفور، والفسق والانحلال؟! هل كانت المسلمة أمة حتى تحرروها؟! لا والله: إن الإسلام هو أول من أنصف المرأة -يا عباد الله- بعد أن كانت قبل الإسلام من سقط المتاع؛ تشترى في الأسواق وتباع، بل ويتاجر بها في أسواق الدعارة والعهر والفجور، فقد كان الوالد يقدم ابنته ويقدم زوجته في بيت من البيوت ويرفع عليه الراية الحمراء ليقتضي وليتقاضى الدراهم العفنة من وراء هذا العمل وهذه المعصية، والدعارة الماجنة! كانت المرأة تشترى وتباع، ويتاجر بها في أسواق الشهوات والنزوات، وكانت تقتل وهي حية خوف الفقر والعار: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] فجاء الإسلام ليعلي مكانة المرأة وليرفع من شأنها وليضعها في مكانتها التي تليق بها كإنسانة عظيمة بيدها عظمة هذا المجتمع.
إن الإسلام هو الذي جعل النساء شقائق الرجال.
إن الإسلام هو الذي جعل بر الأمهات مقدماً على بر الآباء.
إن الإسلام هو الذي جعل الجنة تحت أقدام الأمهات.(13/4)
عودة المرأة المسلمة إلى الله من ركائز الصحوة الإسلامية
يا بنت الإسلام، يا أصل العز، والشرف، والحياء.
يا بنت خالد، والفاتح، وصلاح الدين، ومحمد بن مسلمة أين العز والشرف، وأين السؤدد والمجد، وأين الحياء والكبرياء.
لقد عز على هؤلاء أن تكوني فوق كرسي مملكتك، فجاءوك على حين غرة، وعلى حين غفلة من أبنائك البررة، فأنزلوك من على عرشك، وأخرجوك من حصنك المنيع، ولكن الحمد لله، أننا رأينا المرأة المسلمة من جديد، ترفع بيمينها كتاب الله جل وعلا، وبشمالها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبست الحجاب ورددت الأنشودة العذبة الحلوة لله جل وعلا، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا، اغفر لنا ما سلف من الزينة والتبرج والعري، غفرانك ربنا وإليك المصير.
والله إننا نرى من ركائز هذه الصحوة الإسلامية عودة المرأة المسلمة إلى الله جل وعلا، فمرحباً مرحباً بك، مرحباً بك يا أماه، مرحباً بك يا أختاه، مرحباً بك يا بنتاه، مرحباً بك أيتها الكريمة الفاضلة، تحت ظلال شرع الله، وفي كنف دين ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
مرحباً بك تحت شجرة الحياء، مرحباً بك تحت ظلال الحياء، تعالي إلى الله، أقبلي إليه وعودي إليه، واعلمي يا أختاه، أن المؤمنة التقية النقية الطاهرة، هي التي تسلم وجهها لله جل وعلا، وتذعن لأمر الله تبارك وتعالى.
أمرها الله بالحجاب فتقول: سمعاً وطاعة.
أمرها الله بعدم الخروج متعطرة فقالت: سمعاً وطاعة.
أمرها الله بعدم الخروج متبرجة فقالت: سمعاً وطاعة.
أمرها الله بأي شيء تسلم وتذعن لأمره، وهي طائعة محبة مختارة، كملت عبوديتها لله جل وعلا تقول: سمعاً وطاعة لله جل وعلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المتبرجة والسافرة، التي نزعت برقع الحياء عن وجهها، وخرجت سافرة متبرجة عارية، متعطرة متطيبة، على مرأى ومسمع من زوجها، وأبيها، وأخيها، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أين الغيرة والشرف والحياء والرجولة والكرم والمروءة؟ أين الرجولة يا من ترى ابنتك الجامعية تخرج إلى الجامعة سافرة متبرجة، متطيبة عارية؟! أين رجولتك، أين مروءتك، أين دينك، أين إسلامك، أين الشهامة وأين الرجولة؟! زوجتك تخرج سافرة متطيبة على مرأى ومسمع منك يا عبد الله، اتق الله اتق الله أيها الرجل، اتق الله أيها الزوج، اتق الله أيها الأخ.(13/5)
تكريم الإسلام للمرأة
إن الإسلام هو الذي كرم المرأة كبيرة، بل وكرمها وقدرها صغيرة، فاسمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعن أيتها المسلمات الفاضلات في كل مكان على أرض الله جل وعلا، استمعن إلى هذه الأحاديث الفاضلة العظيمة لتعلمي أيتها الأخت الفاضلة أن الإسلام كرمك وعظمك وشرفك ورفعك من هذا المستنقع الآسن، إلى قمة المجد والسؤدد.
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم ليرد على دعاة الإباحية والتحرر والسفور الذين تباكوا على المرأة المسلمة التي ظلمت في ظل الإسلام والتي هضم حقها في ظله، وضاعت حقوقها في ظله فاستمعن أيتها المسلمات، واسمعوا يا دعاة الفسق والسفور والانحلال، ماذا قال الإسلام عن المرأة وفي أي الأماكن بوأها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في جزء من الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (استوصوا بالنساء خيراً).
وفي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة)، أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة إن كانت زوجته (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم).
وفي الحديث الذي رواه ابن عساكر، وصححه الإمام السيوطي في الجامع أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وما أكرم النساء إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم).
ولم يكتف الإسلام بتقدير المرأة كبيرة، وإنما قدرها وأجلها واحترمها وهي صغيرة، فاسمعوا إلى رسول الإسلام والسلام صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (من عال جاريتين -من رزقه الله بابنتين اثنتين ورباهما تربية طيبة- حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وقرن بأصبعيه بين السبابة والوسطى) أسمعتم -يا عباد الله- هذه مكانة البنت في الإسلام! هذه مكانة المرأة في دين ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ووضحت رواية الترمذي ذلك فقال: (وقرن بين أصبعية السبابة والوسطى) وفي رواية أبي داود قال عليه الصلاة والسلام: (من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن، فله الجنة).
وفي رواية البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخلت علي امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها) ولا ينبغي أن نمر على هذا سريعاً، وإنما ينبغي أن نقول: إن هذا بيت من بيوت المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يوجد فيه إلا تمرة واحدة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] والتمرة فيها ذرات خير كثيرة، إن تُصدق بها ابتغاء وجه الله جل وعلا! فتصدقت بالتمرة عليها، تقول أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها: (فقسمتها المرأة بين ابنتيها -إنه قلب وحنان الأم وينبوع الحنان والرحمة- ولم تأكل منها شيئاً! ثم قامت وخرجت والبنتان) تقول عائشة: (فدخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته حديثها فقال عليه الصلاة والسلام: من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار).
أسمعتم يا دعاة الانحلال؟! أسمعتم يا دعاة التبرج والسفور؟! أسمعتم يا أدعياء الذل والباطل؟! هل استمعتن أيتها المسلمات؟! هل استمعتم يا عباد الله؟! هل هناك مكانة أعظم من هذه المكانة للمرأة المسلمة في دين الله جل وعلا؟(13/6)
هدف الإسلام من فرض الحجاب
والله الذي لا إله غيره ما حرم الإسلام عليك التبرج يا أمة الله، وما فرض عليك الإسلام الحجاب يا أمة الله، إلا لصيانتك، وحمايتك، وحفظك من عبث العابثين، ومجون الماجنين حتى لا تتطلع إليك النظرات الزانية، وحتى لا تدنس بدنك هذه النظرات الخائنة، والله ما أراد الإسلام لكِ إلا العفة والستر والحياء جعلك الإسلام في شرعه كالدرة المصونة التي تحيط بها الصدفة، حتى لا تمتد إليها اليد العابثة الآثمة، نعم.
جعلك الإسلام كالدرة المصونة وكاللؤلؤ المكنون.
وأنا أسألك أيتها الأخت الفاضلة المسلمة! بالله عليك لو كان معك لؤلؤة نادرة، أو ماسة غالية جميلة، بالله عليك هل ستلقين بها في الطرقات والشوارع، أم ستحفظينها في مكان أمين مناسب، والله لو أن أنساناً رمى لؤلؤة غالية نادرة في الطرقات لاتهمه الناس بالجنون، وأنتِ كذلك؛ أنتِ درتنا المصونة أنتِ لؤلؤتنا المكنونة! يا أمة الله! أيتها الأم الفاضلة والأخت الكريمة! أيتها الغالية الحبيبة! والزوجة الكريمة! أنتِ لؤلؤتنا المكنونة، أنتِ درتنا المصونة، أنتِ أنتِ أنتِ، أنتِ من أنتِ؟ أنتِ أمي أنتِ زوجتي أنتِ أختي أنتِ ابنتي أنتِ كل شيء أنتِ العز والعظمة، أنتِ الفخر والمجد والشرف لما رأى أعداء ديننا أن المسلمة تربعت على عرش حيائها تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها عز عليهم ذلك، وعز عليهم أن تجود المسلمة من جديد على أمتها بالعلماء العاملين، والمجاهدين الصادقين! وصار همهم أن تصير المسلمة عقيماً لا تلد خشية أن تنجب خالد بن الوليد، وصلاح الدين، وابن تيمية وغير هؤلاء، عز عليهم ذلك والله! فراحوا يدبرون لكِ المؤامرات في الليل والنهار للزج بكِ في هذا المستنقع الآسن؛ مستنقع الرذيلة والعار أنت لؤلؤتنا المكنونة، ودرتنا المصونة.(13/7)
عودة الحجاب من ركائز الصحوة الإسلامية
يا بنت الإسلام، يا أصل العز، والشرف والحياء! يا بنت خالد، والفاتح، وصلاح الدين، ومحمد بن مسلمة! أين العز والشرف؟ وأين السؤدد والمجد؟ وأين الحياء والكبرياء؟ لقد عز على هؤلاء أن تكوني فوق كرسي مملكتك، فجاءوك على حين غرة، وعلى حين غفلة من أبنائك البررة، فأنزلوك من على عرشك، وأخرجوك من حصنك المنيع، ولكن الحمد لله أننا رأينا المرأة المسلمة من جديد ترفع بيمينها كتاب الله جل وعلا، وبشمالها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبست الحجاب ورددت الأنشودة العذبة الحلوة لله جل وعلا، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا، اغفر لنا ما سلف من الزينة والتبرج والعري، غفرانك ربنا وإليك المصير.
والله إننا نرى من ركائز هذه الصحوة الإسلامية عودة المرأة المسلمة إلى الله جل وعلا، فمرحباً مرحباً بك، مرحباً بك يا أماه، مرحباً بك يا أختاه، مرحباً بك يا بنتاه، مرحباً بك أيتها الكريمة الفاضلة، تحت ظلال شرع الله، وفي كنف دين ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
مرحباً بك تحت شجرة الحياء، مرحباً بك تحت ظلال الحياء تعالي إلى الله، أقبلي إليه وعودي إليه، واعلمي يا أختاه أن المؤمنة التقية النقية الطاهرة هي التي تسلم وجهها لله جل وعلا، وتذعن لأمر الله تبارك وتعالى.
أمرها الله بالحجاب فقالت: سمعاً وطاعة.
وأمرها الله بعدم الخروج متعطرة فقالت: سمعاً وطاعة.
وأمرها الله بعدم الخروج متبرجة فقالت: سمعاً وطاعة.
أمرها الله بأي شيء فسلمت وأذعنت لأمره وهي طائعة محبة مختارة! فكملت عبوديتها لله جل وعلا لما قالت: سمعاً وطاعة لله جل وعلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المتبرجة السافرة؛ التي نزعت برقع الحياء عن وجهها، وخرجت سافرة متبرجة عارية، متعطرة متطيبة، على مرأى ومسمع من زوجها وأبيها وأخيها إنا لله وإنا إليه راجعون!! أين الغيرة والشرف والحياء والرجولة والكرم والمروءة؟! أين الرجولة يا من ترى ابنتك الجامعية تخرج إلى الجامعة سافرة متبرجة، متطيبة عارية؟! أين رجولتك؟ أين مروءتك؟ أين دينك؟ أين إسلامك؟ أين الشهامة وأين الرجولة؟! زوجتك تخرج سافرة متطيبة على مرأى ومسمع منك يا عبد الله! اتق الله اتق الله أيها الرجل، اتق الله أيها الزوج، اتق الله أيها الأخ! اتقوا الله يا عباد الله!(13/8)
حقيقة التبرج ومظاهره
إن المتبرجة تخرج بلسان الحال الذي يقول: ألا تنظرون إلى هذه الزينة، وهذا الجمال، وهذا اللحم.
والله إن الشريفة لا تقبل هذا أبداً -دعك من الدين في هذا- فضلاً عن المتدينة التي استسلمت لأمر الله جل وعلا؛ لا تقبل أبداً أن تخرج وقد كشفت عن لحمها، وأظهرت مفاتنها ومحاسنها، وتطيبت وتعطرت وتزركشت وتزخرفت وتبهرجت، وخرجت لتنفث السموم، ولترسل السهام المسمومة في قلوب الشباب والرجال المساكين! خرجت على هذا الحال الذي لا يرضي الرحمن ويُرضي الشيطان خرجت متبرجة! فأمة الله! ما هو التبرج الذي حرمه الإسلام عليك؟ وما هي مظاهره؟ لأن كثيراً من الناس وكثيراً من الأخوات يعتقدن أن التبرج هو أن تظهر المرأة شيئاً من محاسنها فقط؟ التبرج لغة: هو التكشف والظهور، أو هو إظهار الزينة وإبراز المرأة لمحاسنها، وقال الإمام الزمخشري: هو تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه، وأما مظاهره فهي: أولاً: الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمداً.
ثانياً: الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها.
ثالثاً: الخضوع بالقول.
رابعاً: التعطر والتطيب لغير الزوج.
هذه بعض مظاهر التبرج، فأعيروني القلوب والأسماع.(13/9)
الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمداً
أول مظهر من مظاهر التبرج: الإغراق في حب الزينة وإظهارها عمداً، والإسلام يريد من المرأة أن تغرق في حب الزينة وتظهرها عمداً لكن لزوجها لا بد؛ فالمرأة جبلت على حب الزينة والتطيب والجمال، ولا مانع أبداً بشرط أن يكون ذلك للزوج؛ تعطري وتطيبي وتجملي وتزيني بل إن الإسلام يوجب عليك ذلك، وإن كثيراً من الأزواج ما هجروا البيوت إلا بسبب تضييع هذا الأمر؛ تضييع المرأة في ثيابها وزينتها وإقرار حقها فيهرب الزوج من البيت! الإسلام يأمركِ بذلك للزوج، وقديماً نصحت المرأة العاقلة والأم البليغة أمامة بنت الحارث ابنتها أم إياس بنت عوف الشيباني في ليلة زفافها، وكان من بين هذه النصيحة الطويلة التي ربما تعرضنا لها في مسألة الزواج إن شاء الله جل وعلا، قالت لها الأم: ولا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح فالإسلام يأمركِ أن تتزيني وتتجملي وتتطيبي وتتعطري لزوجك في بيتك، وبالمقابل يحرم عليك الإسلام أن تتزيني وتتجملي لغير الزوج، ووالله أقسم بالله العلي العظيم، إن الوجه من أعظم محاسن المرأة، فهو محط الجمال وينبوع الخطر ومكمن الفتنة، فالله جل وعلا يحرم على المرأة أن تضرب الأرض برجلها حتى لا يفتتن الرجل بسماع صوت خلاخيلها في قدمها، فبالله عليكم أيها الناس بالله عليكن أيتها المسلمات أفيدونا وأجبننا يا أصحاب الإنصاف، بالله عليكم أي الفتنتين أعظم: أن يسمع الرجل إلى صوت خلخال في قدم امرأة لا يدري أشرهاء هي أم حسناء، أم أن ينظر إلى وجه سافر جميل امتلأ شباباً ونظرة وحيوية وجمالاً وتجميلاً بالأصباغ والمساحيق؟! أي فتنةٍ أعظم: فتنة القدم أم فتنة الوجه؟ لا إله إلا الله! قليلاً من الإنصاف يا عباد الله، قليلاً من الإنصاف لنصل إلى الحقيقة الواضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، أي الفتنتين أعظم: سماع صوت خلخال في قدم المرأة أو النظر في وجه سافر جميل امتلأ بالشباب والنظرة والحيوية والجمال؟ بل والتزيين بالأصباغ والمكياج والمساحيق؟ أي الفتنتين أعظم؟ وأنا لا آتي بشيء من عند نفسي حتى لا نتهم بالتطرف في ذلك الأمر.
فلتجيبوا أيها المنصفون ولتجبن أيتها المنصفات الإسلام لم يحرم عليك الزينة لزوجك وإنما حرم عليك أن تظهري هذه الزينة لغير المحارم، سبحان الله العظيم! ورد في صحيح البخاري أن السيدة عائشة رضي الله عنه قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن المساجد كما منع نساء بني إسرائيل).
لا إله إلا الله! ماذا أحدث النساء في عصر عائشة؟! ماذا أحدث النساء في عصر الطهر والعفاف؟! ماذا أحدث النساء في خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! السيدة عائشة تقول على نساء زمانها ذلك! فبالله عليكم ماذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها لو رأت نساءنا في هذه الأيام وأحوالهن إنا لله وإنا إليه راجعون! والفقهاء الذين قالوا: إن الوجه ليس بعورة يشترطون عدم الفتنة، يقولون بالإجماع: يحرم على المرأة أن تكشف وجهها إن خشيت الفتنة، وهل أمنت الفتنة في زماننا هذا يا عباد الله؟ أجيبوا يا أهل الإنصاف، وأجبن يا ذوات الإنصاف، يقول الفقهاء الذين قالوا بجواز كشف الوجه: يحرم على المرأة أن تكشف عن وجهها إذا خشيت الفتنة.
وهل أمنت الفتنة في زمان قل فيه الورع والإيمان والتقوى، والمروءة، بل والشهامة والنخوة والرجولة؟ هذا الزمان وإن كنا لا نعيب زماننا كما قال أبو الطيب:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
أرى ثياباً تصان على أناس وأخلاق تداس فلا تصان
يقولون الزمان به فساد وهم فسدوا وما فسد الزمان(13/10)
الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها
المظهر الثاني من مظاهر التبرج الذي حرمه الشرع على المرأة المسلمة: الإغراق في تضييق الثياب وترقيقها وتقصيرها، حتى إننا نرى المرأة وقد خرجت بثياب ضيقة لاصقة في جسدها، حتى أبرزت في الجسد كل فتنة مخبوءة لا حول ولا قوة إلا بالله! ودائماً الممنوع مرغوب.
إن التي خرجت بهذه الثياب الضيقة، والعباءة التي لفتها على بدنها لفاً؛ فأظهرت كل فتنة مخبوءة في هذا الجسد عاصية لله جل وعلا، واسمعوا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: يصف النبي صلى الله عليه وسلم أحوال هؤلاء النسوة وصفاً دقيقاً عجيباً، وهذا الحديث من معجزات النبي الخالدة، يقول صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس -في السجون والمعتقلات- ونساء كاسيات عاريات) من أهل النار بشهادة نبينا المختار ما لم تتب هذه المرأة إلى العزيز الغفار، قال صلى الله عليه وسلم: (ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) كاسيات عاريات، قال الإمام النووي: تغطي شيئاً من بدنها وتظهر شيئاً آخر، فهن كاسيات عاريات، وأنا أقول: كاسيات عاريات: إما أن تلبس ثياباً رقيقة فتظهر ما تحت هذه الثياب من مفاتن البدن.
كاسيات عاريات: أي أن تلبس ثياباً ضيقة خاصة بعد أن رأينا هذه البنطلونات التي تتبعت فيه المرأة المسلمة فعل الكافرات العاهرات الماجنات، وخرجت بهذا البنطلون الضيق على مرأى ومسمع من زوجها؛ من نظر إليها يظنها عارية.
كاسيات عاريات: أظهرت كل موضع للفتنة وكل مكان مخبوء للشهوة، (كاسيات عاريات مميلات مائلات) مائلات عن شرع الله جل وعلا.
مميلات في مشيتهن: يتكسرن في المشية ويتغنجن في القول، مميلات لقلوب الشباب والرجال، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة فارغة تارهة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا.
ومن الأمور التي يجب أن ننبه عليها أيضاً: هذا الحجاب اليهودي المزعوم، الذي زعموه بأنه هو الحجاب الشرعي؛ تلبسه المرأة وتخرج كعروس مزخرفة مبهرجة، تلبس طرحة على رأسها وقد وضعت شريطاً ذهبياً أو فضياً على رأسها، وضيقت الثياب ووضعت حزاماً حول خصرها، ولبست حذاءً طويلاً يشبه لون الثياب ولون الطرحة إلى آخره، وخرجت متعطرة متطيبة في أجمل الأشكال وأبهى الحلل والألوان وتظن المسكينة المخدوعة المخادعة أنها محجبة، أعوذ بالله وحاشا لله أن يكون هذا هو الحجاب الشرعي الذي أراده الله جل وعلا، وقد بينا ذلك بفضل الله بالتفصيل في كتابنا (تبرج الحجاب) نسأل الله جل وعلا أن يقبله وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال.(13/11)
الخضوع بالقول
المظهر الثالث من مظاهر التبرج الذي حرمه الله جل وعلا وحرمه النبي صلى الله عليه وسلم: الخضوع بالقول، والله تبارك وتعالى يأمر أشرف نساء الدنيا وأطهر نساء العالمين، اللواتي ترعرعن في بيت النبوة وشربن من نهر الوحي وسمعن القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ولم يقف الأمر عند الخضوع بالقول كلا، وإنما يتدخل الأمر الإلهي ليحدد موضوع الحوار بين الرجل والمرأة: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
الأمر لمن، وفي أي عهد وعصر؟ الأمر لأطهر نساء العالمين وفي عهد الصفوة المختارة، والنبوة الكريمة يأمرهن الله جل وعلا إن تكلمن مع الأجانب ومع غير المحارم ألا يرققن القول، وألا تلين المرأة القول، لماذا؟ لأن أصحاب القلوب المريضة في كل زمان ومكان تجاه كل امرأة ولو كانت زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك بعض المتطورين والمتشددين والمفكرين قالوا: إن هذا الأمر خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله! أطهر نساء العالمين وأشرفهن يأمرهن الله جل وعلا بعدم الخضوع في القول، ويحدد لهن مسار الحياط: {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32]؛ لأن موضوع الحوار ربما يكون أكثر تأثيراً من طريقة الحوار وأسلوب الحوار، فلا يجوز أبداً أن يكون بين المرأة والرجل الأجنبي هدر ولا هزل ولا مزاح ولا نظرة خائنة ولا حركة مؤثرة ولا ينبغي أن تتكلم معه في موضوعات يعف الرجل الحيي أن يتحدث فيها في المكاتب وغيرها من المصالح، واليوم تتكلم المرأة مع الرجل الأجنبي في أدق ما خص أمور المرأة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يأمر الله أطهر النساء بعدم الخضوع في القول وأن يقلن قولاً معروفاً، ولكن هذا الأمر بعيد عمن يتغنجن في قولهن ويتكسرن في مشيتهن، ويجمعن كل فتن الأنوثة، ويطلقنها قنابل محرقة في قلوب الشباب والرجال إنا لله وإنا إليه راجعون! هكذا تقلب الحقائق حتى صارت البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والحلال حراماً إلا من رحم الله جل وعلا.
نكمل المظهر الرابع من مظاهر التبرج بعد جلسة الاستراحة وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(13/12)
التعطر والتطيب لغير الزوج
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! أما المظهر الرابع والأخير من مظاهر التبرج: هو ألا تتعطر المرأة لغير زوجها.
الإسلام لا يحرم الطيب على المرأة، بل إن الإسلام يريد المرأة دائماً متطيبة ومتعطرة ومتزينة ومتجملة لزوجها، ويحرم عليها أن تمس الطيب إذا خرجت من بيتها، لماذا؟ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة بين الشاب والمرأة، وكم من شاب تقي لله جل وعلا مشى في الشوارع والطرقات وقد أطرق بصره للأرض؛ لا يريد أن ينظر يمنة ولا يسرة، فمرت به امرأة متطيبة قد وضعت أرقى العطور وبمجرد مرورها عليه انتشرت رائحة العطر في كل مكان، فسكنت قلبه، فظل يغالب شيطانه ويغالب هواه، إما أن يقع في المعصية ويدنس نظره بالزنا والنظر إليها، وإما أن ينصره الله جل وعلا على هذه الفتنة العارمة، ويظل في طاعته وفي إطراق بصره لله جل وعلا! لماذا هذه الفتن؟ ولماذا هذه السهام المسمومة؟ ولماذا هذه الشهوات؟ ورد في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة استعطرت -وضعت العطر والطيب- ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية) أي: كل عين تنظر إليها بشهوة لتستمتع بها فهي زانية، وفي الحديث الصحيح: (إن العينين زناهما النظر) هذا كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى.
وفي الحديث الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرجت إحداكن إلى المسجد فلا تقربن طيباً) فإذا خرجت المرأة إلى المسجد فلا تمس الطيب، قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: يحرم على المرأة أن تمس الطيب إذا خرجت إلى مسجد، قلت: فكيف يكون حالها إذا خرجت إلى الأسواق والشوارع والطرقات، إن الطيب في حقها أشد حرمة.
هذه بعض مظاهر التبرج -يا عباد الله- فيا أيها الأب الغيور الكريم! ويا أيها الأخ الحبيب الرحيم! ويا أيتها الأم الكريمة! ويا أيتها الأخت المسلمة الفاضلة! اتقوا الله جل وعلا، وعودوا إلى الله عز وجل، واعلم -أيها الأب- الذي فرط في تربية بناته على شرع الله ودين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك موقوف بين يدي الله ومسئول عن بناتك أمام محكمة قاضيها الله جل وعلا.
وأنتِ -أيتها الأم- التي حاربتِ الحجاب وحاربت النقاب وقلت لابنتك: لا وألف لا، لا تلبسي الحجاب ولا ترتدي النقاب إلا بعد الزواج، اعلمي أن الزوج الذي جاء على معصية الله وعلى هذا الجمال الزائل واللحم العاري -لن يصون ابنتك أبداً؛ لأن رجلاً ذهب إلى الحسن وقال: إن لي ابنة، تُرى لمن أزوجها؟ قال: زوجها لمن يتقي الله؛ فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وأنت -أيتها المسلمة- اتقي الله جل وعلا وعودي إليه، واعلمي أن هذا الجمال إلى زوال، وأن هذا البدن إلى دود وتراب، وأنك ستعرضين على العزيز التواب جل وعلا ليسألك عن هذه الأمانة التي امتن بها عليك، فماذا سيكون جوابك بين يدي الملك الجبار؟! فاتقوا الله جميعاً يا عباد الله! وعودوا إلى الله، واعلموا أنكم مسئولون عن بناتكم وزوجاتكم بين يدي الله جل وعلا.
وأختم بكلام ربنا جل وعلا في سورة التحريم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:6 - 8].
نكمل إن شاء الله جل وعلا فرضية الحجاب في الأسبوع المقبل إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
اللهم احفظ نساءنا يا رب العالمين، اللهم بارك في شباب المسلمين، وأصلح نساء المسلمين، واجعلهم قرة عين لنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا.
اللهم قيظ لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر؛ أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه، هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا محمد: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.(13/13)
هذه قدوتك
كثير من نساء المسلمين اليوم -وللأسف الشديد- يعرفن عن الموضة والجديد الشيء الكثير، ويعرفن من الفنانات والمغنيات ما لا يحصى من العدد! ولو سألت إحداهن عن أمهات المؤمنين، ومربيات الجيل، والأبطال المجاهدين؛ لعجزت إحداهن أن تذكر امرأة واحدة، وها هي امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر قدوة في العفة والطهارة، قدوة في الكرم والسخاء، قدوة في الصبر والثبات، قدوة في الوقوف إلى جنب الزوج في الأزمات، قدوة في الحب والفداء وحسن العشرة للزوج، إنها خديجة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأم أولاده رضي الله عنها وأرضاها.(14/1)
من فضائل خديجة رضي الله عنها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكن الله أيتها الأخوات الفاضلات! وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكن جميعاً صالح الأعمال.
ومحاضرتنا في هذا الوقت الكريم المبارك بعنوان: هذه قدوتك.
أقدم لأختي المسلمة قدوة طيبة ومثلاً أعلى، في وقت قل فيه القدوة، وندر فيه المثل، أقدم هذه القدوة لأصل العز والشرف والحياء لصانعة الأجيال لمربية الرجال ومخرجة الأبطال لمن تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها.
نقدم هذه القدوة الطيبة والمثل الأعلى لأختنا المسلمة للقلعة الشامخة أمام طوفان الباطل والكذب لدرتنا المصونة، ولؤلؤتنا المكنونة، نقدم لها هذه القدوة الطيبة؛ لأننا نشهد الآن حرباً هوجاء لشل حركة المرأة المسلمة، وللزج بها في مواقع الفتنة ومستنقع الرذيلة، لتقويض صرح المجتمع الإسلامي، تنفيذاً لهذه المقولة الخبيثة لأعداء الدين، والتي تقول: كأس وغانية يفعلان في تحطيم الأمة المسلمة ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع.
فصار همُّ الأعداء أن تصبح المرأة المسلمة عقيماً لا تلد، خشية أن تجود على أمتها من جديد بالعلماء العاملين والمجاهدين الصادقين، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
فهاهي الصحوة الكريمة يمدها كل يوم فتيات في عمر الورود، زانهن حجاب أصاب أعداء الإسلام بالذهول والشرود، أسأل الله أن يثبتهن على الحق.
فتعالي معي أيتها الأخت الكريمة! لنقضي هذه الدقائق المعدودات مع هذه القدوة الطيبة، والمثل الأعلى في عالم النساء، مع رمز الوفاء، وسكن سيد الأنبياء، مع الطاهرة في الجاهلية والإسلام، مع أول صديقة من المؤمنات، مع أول زوجات المصطفى عليه الصلاة والسلام، مع أول من صلى على ظهر الأرض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أول من أنجبت الولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أول من بشرت بالجنة، مع أول من استمعت إلى القرآن بعد رسول الله، مع أول من نزل إليها جبريل عليه السلام ليبلغها من ربها السلام، مع نهر الرحمة، وينبوع الحنان، مع أصل العز وقلعة الإيمان، إنك الآن أيتها الأخت الفاضلة على موعد مع قدوتك الطيبة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها.(14/2)
خديجة ممن كمل من النساء
أيتها الأخوات! والله إن الكلمات لتتوارى خجلاً وحياء أمام هذه القلعة الشامخة، والزوجة الوفية المخلصة، التي بذلت مالها وقلبها وعقلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فآمنت به حين كفر الناس، وصدقته حين كذبه الناس، وواسته بمالها حين حرمه الناس، فاستحقت هذه الزوجة التقية النقية أعظم الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وفي الصحيحين كذلك من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد).
والراجح من أقوال أهل العلم أن معنى (خير نسائها) أي: خير نساء زمانها، فـ مريم خير نساء زمانها، وخديجة رضي الله عنها خير نساء زمانها.(14/3)
الله سبحانه وتعالى يقرأ على خديجة السلام
أيتها الأخت الفاضلة: لم تبلغ خديجة رضي الله عنها هذه المكانة عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإيمانها الصادق، فأنا أقول: قد بلغت هذه المنزلة عند رسول الله، بل وعند الله جل وعلا، ولك أن تتخيلي امرأة تقية نقية يرسل ربنا جل وعلا جبريل ليبلغها منه سبحانه وتعالى السلام.
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتت فأقرئها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب).
تصوري أيتها الأخت الكريمة! أن خديجة رضي الله عنها قد بلغت هذه المكانة، فأنزل الله جبريل عليه السلام بهذه البشرى وبهذا السلام من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض.
وفي رواية النسائي أن خديجة رضي الله عنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: إن الله يقرئك السلام وجبريل يقول: بلغها من ربها السلام ومني، فسيدتنا خديجة الفقيهة العالمة، لم تقل: وعلى الله السلام، وإنما قالت: إن الله هو السلام ومنه السلام، وعلى جبريل السلام، وعليك يا رسول الله السلام ورحمة الله وبركاته).(14/4)
مكانة خديجة من قلب النبي صلى الله عليه وسلم
انظري أيتها الأخت الكريمة الفاضلة! ولذا بلغت خديجة مكانة عالية في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى غارت عائشة رضي الله عنها من خديجة غيرة شديدة، مع أن عائشة لم تدرك خديجة قط، فلقد توفيت خديجة رضوان الله عليها قبل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة.
ومع ذلك ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط، ولكن كان النبي يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يبعثها في صدائق خديجة -أي: في صويحبات خديجة - وربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنها كانت وكانت، وكان لي منها الولد، ويظل النبي عليه الصلاة والسلام يعدد مناقب خديجة رضي الله عنها).(14/5)
حياة خديجة رضي الله عنها ونشأتها
أيتها الأخت المسلمة! أسألك الآن: ماذا تعرفين عن خديجة؟ هذه أمك أم المؤمنين، وهذه قدوتك، فأنا أسألك الآن وأجيبي بصدق، ماذا تعرفين عن خديجة؟! والجواب إن صدقنا سيكون مؤلماً للغاية، لأننا انصرفنا في هذا الزمان عن هذه القدوات الطيبة والمثل العليا، فانتبهي معي أيتها الأخت الفاضلة لأعرف لك أمك خديجة رضي الله عنها في لمحات سريعة:(14/6)
زواجها قبل رسول الله ولقبها قبل الإسلام بالطاهرة
فلقد نشأت خديجة رضي الله عنها في مكة المكرمة، في مكانة وشرف ومال، فتزوجت بـ عتيق بن عائذ المخزومي فمات عنها، فتزوجت أبا هالة بن زرارة التميمي وأنجبت منه هند بن أبي هالة رضي الله عنه، ثم مات عنها زوجها، فأعرضت عن الزواج بعد ذلك، وتقدم لخطبتها كثير من أشراف قريش؛ لشرفها ونسبها وخلقها، فلقد كانت تسمى في الجاهلية قبل الإسلام بالطاهرة.(14/7)
زواج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم
ولكنها لما سمعت بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام أرسلت إليه ليتاجر لها في مالها، فرأت أمانته وصدقه وعفته، فرغبت في الزواج منه عليه الصلاة والسلام.
واتفقت الروايات كلها على أن خديجة رضي الله عنها هي التي خطبت النبي صلى الله عليه وسلم لتتشرف بالزواج منه، وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت خديجة في صحبة عمه حمزة وأبي طالب الذي قام خطيباً في قوم خديجة، وكان مما قاله أبو طالب: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل من قريش شرفاً ونبلاً وفضلاً إلا رجح به محمد، ومحمد من قد عرفتم، وله في خديجة رغبة، ولها فيه مثل ذلك، وما أحببتم من الصداق فعليه.
فقال عمها عمرو بن أسد موافقاً على هذا العرض الكريم: هو الفحل لا يقدح أنفه.
أي: هو الكفء الكريم الذي لا يرد.
والجمهور من العلماء يقولون: إن خديجة رضي الله عنها كانت في الأربعين من عمرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين من عمره، وكان زواجاً سعيداً ميموناً مباركاً، ضربت فيه خديجة أروع المثل في الوفاء والبر والصلاح، والإيثار والكرم.(14/8)
أولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة
وأكمل الله السعادة، فولدت له خديجة: القاسم ثم زينب ثم رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة؛ عليهم جميعاً سلام الله وصلواته.
وامتلأ البيت بالحب والرحمة والحنان، ودبت في جنباته حياة جديدة مزينة بأسمى العواطف وأنبل المشاعر، عواطف الأبوة الرحيمة من رسول الله، ومشاعر الأمومة الكريمة من خديجة، وضم هذا البيت المبارك إلى جانب أولادها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدها من زوجها السابق هند بن أبي هالة، وكذلك ضم هذا البيت علياً بن أبي طالب رضي الله عنه، وزيد بن حارثة وأم أيمن، وهي حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو بيت خديجة.(14/9)
وقوف خديجة إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم عند بعثته
ومرت الأعوام تلو الأعوام على أكرم زوجين، ولما اقترب النبي عليه الصلاة والسلام من الأربعين من عمره الشريف بدأت إرهاصات النبوة تلوح في أفق حياته، فكان أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما في صحيح البخاري.
وحبب إليه في هذه المرحلة الخلاء، فخلا بنفسه واعتزل الناس، فكان يخرج إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد، وتزوده الزوجة الوفية المخلصة بما يحتاج إليه من طعام وشراب، فما سفهت رأيه، وما احتقرت عمله، فهو الذي كان يترك الدار والأولاد وينطلق بعيداً عن مكة بأصنامها ليتعبد لله جل وعلا في هذه الخلوة في غار حراء.
وكانت خديجة تقطع هذه المسافة على قدميها لتقدم له الطعام والشراب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومرت الشهور الستة للرؤيا الصادقة، وجاء شهر رمضان، وخلا النبي في غار حراء، وفي ليلة كريمة مباركة خيم على الكون هدوء خاشع، ثناه جبريل عليه السلام يقف أمام الغار، ويضم النبي المختار ضمة شديدة ويقول له: اقرأ.
والرسول يقول: ما أنا بقارئ، قال: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) [العلق:1 - 5]، فرجع النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات الكريمات يرجف فؤاده، فدخل على خديجة -رمز الوفاء وسكن سيد الأنبياء- وهو يرتعد ويضطرب ويقول: زملوني زملوني! فزملته حتى ذهب عنه الروع).
فسيدتنا خديجة رضي الله عنها ما صرخت في وجهه وما قالت: ما الخبر؟ وإنما هدأت من روعه فلما استيقظ واستراح وذهب عنه الروع، قالت له: ما الخبر؟ فقال لها: (لقد خشيت على نفسي وأخبرها بما كان، فقالت الزوجة الصابرة الوفية الذكية: كلا! والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل -أي: تساعد العاجز الضعيف- وتكسب المعدوم -أي: تعطي المحروم- وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، وهاهي الزوجة العاقلة التي تذكر زوجها بفضائله ومناقبه إذا وقع في وقت عسرة أو أزمة أو في شدة، فلا تصرخ في وجهه ولا تعنفه ولا توبخه إذا رأته في أزمة أو ضيق.
ولم تكتف خديجة بهذا، بل ذهبت برسول الله إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، وكان شيخاً كبيراً قد فقد بصره، فقالت له خديجة: (يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ماذا ترى يا ابن أخي؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى، فقال له ورقة: هذا هو الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي: شاباً صغيراً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال المصطفى: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب أن توفي ورقة، وفتر الوحي، أي: انقطع)، والحديث رواه البخاري.
ثم بعد ذلك نزل على رسول الله قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4]، وبهذا بعث النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي ميدان السبق الإيماني كانت الطاهرة الفائزة بالدرجة العليا، برتبة صديقة المؤمنات الأولى، لم يتقدمها رجل ولا امرأة كما قال جمهور أهل العلم، ومن يومها قامت بدور جديد في تثبيت وتبشير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤازرته ومعاونته في تبليغ الدعوة إلى الله، والصبر على عناد المشركين، وقدمت لرسول الله مالها وعقلها وفكرها ونفسها ووقتها، بل وجعلت من دارها حصن أمن وهدوء واستقرار، بل ومن دارها سطع نور الإسلام، ومنها أضاء على الدنيا كلها.
وازداد أهل مكة عداء وإيذاء للنبي عليه الصلاة والسلام، وتمادت قريش في طغيانها، وقاطعت بني هاشم مقاطعة اقتصادية كاملة مدة ثلاث سنوات، ودخلت الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته الصابرة الطاهرة، التي راحت تبذل مالها كله، ووقفت تشد أزره، وتشاركه في تحمل الأذى بنفس راضية صابرة محتسبة، حتى انتهى هذا الحصار الظالم وقد ازداد حب النبي صلى الله عليه وسلم لها، وازداد النبي صلى الله عليه وسلم تقديراً لمواقفها.
وهكذا تعلمنا خديجة درساً آخر من دروس الوفاء والصبر -أيتها الأخت المسلمة المؤمنة- فإن وقع الزوج في شدة وضيق فالزوجة الصابرة هي التي تقف إلى جوار زوجها، هي التي ترفع عنه الكرب بكلمة حانية طيبة، ولا تفرط في بيته، وسرعان ما تهرول إلى بيت أبويها حتى يرجع إلى الزوج خيره وماله، ويسترد عافيته! فهذا ليس من الوفاء، بل يجب على الزوجة أن تصبر مع زوجها في السراء والضراء على الخير والشر، لتعاونه وتؤازره إذا مر بضيق أو بأزمة من الأزمات! صبرت خديجة رضي الله عنها راضية مطمئنة، وخرجت من هذا الحصار مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد ازداد النبي صلى الله عليه وسلم حباً لها وتعلقاً بها.(14/10)
وفاة خديجة رضي الله عنها
ثم ما لبثت خديجة بعد هذا الحصار أن لبت نداء الله تبارك وتعالى راضية مرضية، مبشرة من سيد النبيين بجنات ونهر بمقعد صدق عند مليك مقتدر.
وبكى النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عليها كثيراً، وحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها حزناً شديداً، ونزل النبي بنفسه إلى قبرها، وأدخلها بيديه إلى القبر لعشر خلون من رمضان، وهي في الخامسة والستين من عمرها الكريم المبارك.
ثم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، ولكنها لم تفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد ظلت ذكراها العطرة في قلبه إلى آخر أيام حياته، وظل النبي صلى الله عليه وسلم وفياً لها أشد الوفاء، ولم لا وهي نبع الوفاء، وسيدة النساء، حتى غارت منها عائشة بعد موتها من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً: (لقد رزقت حبها).(14/11)
دعوة للنساء إلى الاقتداء بالصالحات والتخلي عن دعايات التغريب
أيتها الأخت الفاضلة! هذه قدوتك، هذا أعظم مثال أقدمه لك الآن، وهذه أكرم قدوة للزوجة الوفية المخلصة وقد آن لكن -أيتها الأخوات المسلمات- بعد سنوات التيه والتغريب والشرود آن لكل مسلمة على ظهر الأرض أن ترنو ببصرها إلى هذه المثل العليا، والقدوات الطيبة الصالحة؛ لتشق المرأة المسلمة من جديد طريق المجد والعزة والكرامة، ولتنجب لأمتها العلماء العاملين والمجاهدين الصادقين.
وبعد هذه الكلمات المختصرة أنصحك أيتها الأخت المسلمة بأن تفرغي قليلاً من وقتك لقراءة القرآن، وللوقوف على حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تجلسي مع زوجك وأولادك على مجلس يقرأ فيه القرآن، ويذكر فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام، فإن أعظم خطوة عملية على الطريق أن تفهمي الإسلام بشموله وكماله، وأن تخصصي وقتاً لك لتتدبري فيه سير الطاهرات العفيفات، سير أمهات المؤمنين، وسير الصحابيات الجليلات، وسير التابعيات المخلصات من هذه الأمة على مدار تاريخها الطويل.
يجب عليك أيتها المسلمة أن تتعلمي شيئاً من العلم الشرعي، أن تتعلمي الحلال والحرام، والحق والباطل، والسنة والبدعة؛ لتتفرغي بعد ذلك لتربية الأبناء تربية طيبة على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله، فإنني أعتقد اعتقاداً جازماً أنك في البيت تمثلين العمود الفقري، بل وتمثلين الركيزة الأولى لبناء الأسرة المسلمة التي نعتقد أنها هي اللبنة الأولى في بناء صرح مجتمع إسلامي ننشده جميعاً، فلقد ضحكوا علينا يوم أن قالوا: إن المرأة تمثل نصف المجتمع.
نحن نقول: كلا، بل إن المرأة هي المجتمع كله، نعم هي نصف المجتمع، ولكنها تقدم للمجتمع نصفه الآخر، فهي الأم، وهي الزوجة، وهي البنت، وهي الأخت، وهي الخالة، وهي العمة، وهي التي تنجب بعد ذلك الرجال الأطهار، والقادة الفاتحين الأبطال.
فأنت مجتمع بأسره أيتها الأخت الفاضلة! فاعتزي بهذا الإسلام، وارفعي رأسك بهذا الدين، ولا تستمعي إلى هؤلاء الكذابين الذين يدعونك في الليل والنهار للتحرر والحرية، وللتفلت من ضوابط الشرع وقواعده المعلومة المرعية.
زعموا أنهم يريدون أن يرفعوا عنك الظلم، ولا والله! بل ما جاء الإسلام إلا ليرفع قدرك، وليعلي شأنك، وما أمرك بالحجاب إلا ليصون كرامتك، فأنت درتنا المصونة، ولؤلؤتنا المكنونة، وأنا لا أعلم عاقلاً على ظهر الأرض أهديت إليه درة غالية ثمينة فراح ليلقيها في الشوارع والطرقات، وإنما يبحث عن أعظم وأطهر وآمن مكان ليحفظ فيه هذه الدرة المصونة، وهذه اللؤلؤة المكنونة.
وهاأنت يا أختاه درتنا المصونة، ولؤلؤتنا المكنونة، فاعتزي بهذا الدين، واسمعي له وأطيعي، واعلمي بأنه لا يريد لك إلا الفلاح والنجاة، والفوز في الدنيا والآخرة، فهيا خرجي لنا العلماء العاملين، والأبطال المجاهدين الفاتحين، والدعاة العاملين الصادقين.
والله أسأل أن يسترك في الدنيا والآخرة، وأن يمن عليك بالسعادة في الدنيا والآخرة، وأن يبارك لك في زوجك وولدك، إنه ولي ذلك ومولاه، وأن ييسر لك الزوج الصالح إن كنت لم تتزوجي بعد، والله أسأل أن يتقبل مني ومنكن صالح الأعمال، وجزاكن الله خيراً، والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.(14/12)
خير الزاد
إن أهم سفر يسافره الإنسان هو السفر إلى الدار الآخرة، وهذا السفر طويل لابد له من زاد، وخير ما تزود به المسلم في سفره هذا تقوى الله عز وجل في جميع أموره.(15/1)
خير الزاد التقوى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جمعياً أيها الإخوة الكرام! وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
أيها الأحبة! إن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يحتاج إلى زاد؛ فقبل أن تسافر إلى أي بلد غريب عليك أن تبحث عن الوسائل التي تعينك في هذا السفر، فتسأل عن العنوان، وتأخذ معك ما يعينك من الملابس والأموال والطعام والشراب.
فلابد أن تعلم أيها الحبيب الكريم! أنك في هذه الحياة الدنيا مسافر، ويجب عليك أن تعد الزاد لهذا السفر؛ لأن الدنيا وإن طالت فهي قصيرة، وإن عظُمت فهي حقيرة، وليلك مهما طال لابد من طلوع فجره، وعمرك مهما طال لابد من دخول القبر، فلابد أن تبحث عن الزاد لهذا السفر؛ فإن السفر طويل، وإن السفر بعيد، وإن العقبة كئود، فكما تبحث عن زاد هذه الدنيا فيجب عليك أن تبحث عن زاد الآخرة؛ لأنك هنا في بوتقة اختبار، وفي دار ابتلاء، وفي مزرعة للآخرة.
فابحث من الآن عن هذا الزاد الذي يوصلك إلى رب العباد جل وعلا.
ما هو هذا الزاد؟ قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
وقد يسألني أحد الأحبة: أسمع كثيراً عن التقوى، لكن ما هي التقوى؟ والتقوى أيها الأخيار الكرام! أصلها: أن يجعل العبد بينه وبين الله تبارك وتعالى وقاية يتقي بها سخط الله وعذابه.
وهذه التقوى عرَّفها أئمتنا فقال ابن مسعود: (التقوى هي أن يُطاع الله فلا يُعصَى، وأن يُذكَر فلا يُنسَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر).
وعرَّفها طلق بن حبيب فقال: (التقوى هي: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله).
وعرَّفها أبو هريرة رضي الله عنه حينما جاءه سائل فقال: (يا أبا هريرة! ما هي التقوى؟ فقال: هل مشيتَ على طريق فيه شوك؟ قال: نعم.
قال: فماذا صنعتَ؟ قال: كنتُ إذا رأيت الشوك اتقيته.
قال: ذاك التقوى).
فأخذ ابن المعتز هذا الجواب البديع وقال: خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى(15/2)
أركان التقوى
فالتقوى أيها الحبيب! لها أركان، أقف مع هذه الأركان بإيجاز: وسنأخذها من تعريف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(15/3)
الركن الأول: أن يطاع الله فلا يعصى
أول أركانها: أن يُطاع فلا يُعصَى: قد تقول لي: يا أخي، لستُ ملَكاً مقرَّباً، ولستُ نبياً مرسلاً معصوماً من الخطأ، فقد انتهى زمن العصمة بموت المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإنما أنا بشر أخطئ وأصيب وأزل، وتنتابني حالات كثيرة من الفتور، وربما من المعاصي، بل وربما أقع في كبيرة من كبائر الذنوب، وأنت تقول الآن بأن أول أركان التقوى هو: أن أطيع الله جل وعلا، وألا أقع في معصيته! فأقول لك: أبشر! فلقد ذكر الله المتقين في القرآن، وذكر من صفاتهم أنهم ربما يقعون في الفاحشة! فإذا قلت: ما دليلك؟ فأقول: تدبر معي قول الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] مَن هم يا رب؟ وما صفاتهم؟ قال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:134 - 135].
إذاً: التقي قد يزل؛ ولكن الفارق بينه وبين الشقي: أن الشقي إن زلَّ فذُكِّر بالله لا يتذكر، وإن زلَّ فوُعِظ لا يتعظ، وإن زلَّ فذُكِّر بالآخرة استعلى واستكبر واستأنف وكان في غفلة قاتلة، بل وربما استهزأ بالذي يذكره بالله جل وعلا.
أما التقي النقي فهو الذي إن زلت قدمه في بئر معصية أو في حفرة ذنب من الذنوب، ولطخت المعاصي ثيابه التقية النقية البيضاء سرعان ما يجذب ثيابه من أشواك المعاصي، ويطهرها بدموع التوبة والندم، ويتذكر عظمة الله وهيبة الله وجلال الله، ويمتلئ قلبه بالحب لله، والخوف من الله، فسرعان ما يتوب إلى الله ويعود إلى الله جل وعلا، والله يريد منك الذل والعبودبة والانكسار له، والله غني عنك، إذ لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية، قال تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي ذر عن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أنه جل وعلا قال: (يا عبادي! لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فالتقي هو الذي إن ظلم نفسه تذكر الله جل وعلا، فأناب وتاب وثاب وعاد، وهو يعلم يقيناً أن الله جل وعلا سيفرح بتوبته وهو الغني عن العالمين، الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
فإن زلت قدمك أيها الحبيب! وأردت أن تحقق التقوى فجدد بعد المعصية توبة، وأحدث بعد المعصية حسنة، وتذكر دوماً وصية الحبيب النبي لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه، والوصية رواها الترمذي بسند حسن، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) أي: أحدِث بعد السيئة حسنةً تمحُ الحسنةُ السيئةَ.
أوَلم تقرأ في كتاب الله في صفات عباد الرحمن: {إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]؟! فأول شروط التقوى: أن تتوب إن زلت قدمك، وربما يكون الشاب عزباً، ويتعرض لفتن قد تعصف بقلبه في فترة من الفترات، أو في وقت من الأوقات، فإن زلت قدمك أيها الشاب! فتُب، وإن زلت قدمك مرة ثانية فتُب، وإن زلت قدمك للمرة الألف فتُب، المهم أنك في كل مرة ترجع فيها إلى الله بصدق، والجأ إليه أن يحفظك من الوقوع في الذنب والزلة مرة أخرى، فإن زلت قدمك لضعفك ولبشريتك فما عليك إلا أن تتوب إلى الله، وكن على يقين بأن الله لا يمل حتى تملوا.(15/4)
الركن الثاني: أن يذكر فلا ينسى
الركن الثاني: وأن يُذكَر فلا يُنسَى: أيها الأخ الحبيب! تستطيع أن تكون ذاكراً لله وأنت في جنديتك وأنت في حراستك وأنت في خدمتك، فإن صححت النية فأنت في طاعة وفي عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، فما المانع وأنت في خدمتك أن تذكر الله جل وعلا، وأن تصحح النية، وأن تكرر على قلبك وذهنك وسمعك ما حفظت من كتاب الله، وأن تحمل كتاب الله في جيبك دائماً؟! فإن استشكل عليك شيء فتحت كتاب الله سبحانه وأنت في موطنك الذي أنت فيه، وما المانع أن تكون ذاكراً لله بأي صيغة من صيغ الذكر؟! بل إن ذهبت إلى بيتك لتعاشر زوجتك ولتقضي شهوةً ركَّبها الله فيك فإن صححت النية وأنت في معاشرتك لزوجتك فأنت في طاعة لله جل وعلا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة).
المهم أن تصحح النية، وأن تُقبل بنية أن تعف نفسك عن الحرام، وأن تعف امرأتك عن الحرام، وأن يرزقك الله ذرية، فتقول: يا رب! هذا نذرته لك، كما قالت أم مريم: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرَاً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
فمَن مِنا يا إخوة جاء على ولد من أولاده وقال: هذا وقف لله تبارك وتعالى؟! وهل يصح أن يكون وقفاً لله؟!
الجواب
نعم، فأنا أربي هذا الولد على كتاب وعلى سنة رسول الله، وأؤهل هذا الولد ليكون في يوم من الأيام داعيةً إلى دين الله جل وعلا.
هذا هو الذكر، ولا تظن أن الذكر هو أن تقف بعد كل صلاة مع أذكار الصلاة، أو أذكار الصباح والمساء فقط، بل انظر إلى الذكر بشموله وكماله، وعليك أن تكون ذاكراً لله على كل أحيانك وأحوالك.
وأنا أقول لك: الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، والغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء! وأكررها: الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، فلو حبسه المرض في فراش المرض فشُلت قدمه أو يده وكان قلبه شاكراً ولسانه ذاكراً فهذا هو الحي، وهذه هي الحياة الحقيقية، أما إن رأيت بطلاً منَّ الله عليه بالعافية والصحة، ومع ذلك فهو مدمن للمعصية، وعاكف على معصية الله، وعلى التحدي لشرع الله وأمر الله جل وعلا، فهذا ورب الكعبة قد مات قلبه في صدره، فإن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب.
جاء رجل إلى سفيان الثوري فقال: يا سفيان! لقد ابتُليت بمرض البُعد عن الله، فصف لي دواءً.
فقال سفيان: (عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن، وصفِّه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابعد عن الحرص والطمع، تشف من مرضك بإذن الله).
وهذا الدواء يحتاج إلى سنوات في تطبيقة: إخلاص وورع وصبر، هذه هي التقوى الحقيقية، والإنسان لا يستطيع أبداً أن يعيش دون أن يأكل أو يشرب، كذلك الروح قد تموت في القلب، وفي النفس، وفي البدن، وصاحبها لا يدري؛ لأن للروح دواءً، ولأن للروح غذاءً، ولأن للروح علاجاً، ولا يعلم دواء وعلاج وغذاء هذه الروح إلا خالقها، يقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلَاً} [الإسراء:85]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) ألم أقل لك: إن الذاكر لله حي وإن حُبست منه الأعضاء، وإن الغافل عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء؟!(15/5)
الركن الثالث: أن يشكر فلا يكفر
الركن الثالث: أن يُشكَر فلا يُكفَر.
كم لله علينا من نعمة أيها الشباب؟! قال عز وجل {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، وبكل أسف يظن كثير منا أن النعمة هي الدينار، ويقول: إن رزقني الله ديناراً فأنا في نعمة، وإن ضُيِّق علي في الدينار فلم يُنعم الله جل وعلا علي بأي نعمة، وهذه نظرة قاصرة ضيقة أيها الأخيار! بل إن لله نعماً لا تُعد ولا تحصى، ووالله لو لم يكن لله عليك من نعمة إلا أن جعلك موحداً، وأرسل إليك محمداً، لكفى بها نعمة، فإياك ألا تعرف قدرها وفضلها، فإن غيرك لا يعرف له رباً! ولا يعرف غايته التي وُجد من أجلها! ألم تسمع قول المتسكع الذي يقول: جئت لا أعلم من أين ولكني أتيتُ ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيتُ وسأمضي في طريقي شئت هذا أم أبيتُ كيف جئتُ؟! كيف أبصرتُ طريقي؟! لستُ أدري! ويظل يقطع الطريق كالسائمة، ولا يعرف له رباً، ولا يعرف لحياته معنىً، ولا يعرف له غاية، وقد قال الله في هذا الصنف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فاشكر الله على نعمه، فإنها نعمٌ كثيرة.
وقد دُعيتُ مرةً لإلقاء محاضرة عندنا في مصر في المعالي، وطلب الإخوة القائمون على أمر المسجد أن نجمع تبرعات لنشتري ملابس لمستشفى الأمراض العقلية، فاشترينا الملابس وذهبنا إلى إخواننا وأخواتنا في مستشفى الأمراض العقلية، وقدَّر الله أن يكون العنبر الأول للنساء، وإذا بامرأةٍ مكتملة الخلق جميلة، لكنها فقدت العقل، فأتت المرأة على موزع الملابس وإذا بها تأخذ الغترة وتجذب اللحية! فصَدَمَنا جميعاً مشهدٌ كاد أن يخلع قلوبنا! وهو أن فتاة في الثانية والعشرين من عمرها كانت تدرس في كلية الطب ولكنها فقدت عقلها! ففجأة تجردت من كل ثيابها! فأصبحت كما ولدتها أمها! فخرجنا وبكينا والله! وكأننا لم نبكِ من قبل، وقلت لإخواني من المشايخ يومها: والله يا إخوة! إنني ما عرفتُ نعمة العقل إلا في هذه اللحظة.
فهل فكرتَ في نعمة العقل؟! هذه نعمة ربما أنك ما فكرت فيها، فأنت تجلس على الطعام: اليد تمتد، والأصابع تمسك الطعام وترفعه إلى الفم، والمقاطع تقطِّع، والأنياب تمزِّق، والضروس تطحن، واللسان يظل يسهِّل، واللعاب يفرز، والمريء ينزِّل إلى المعدة، والمعدة تشتغل، والبنكرياس والأمعاء الدقيقة والأمعاء الغليظة تعمل، ثم يتحول إلى دم، والقلب يشتغل، وأذين وبطين وصمام! فمن الذي يوزع لنا الدم على هذا البدن؟! المخ يرسل إشارات إرسال واستقبال وأنت نائم في غفلة! ألم تفكر في فضل الله عليك؟! انظر إلى السماء وارتفاعها، وإلى الأرض واتساعها، وإلى الجبال وأثقالها, وإلى الأفلاك ودورانها، وإلى البحار وأمواجها، وإلى كل ما هو متحرك، وإلى كل ما هو ساكن! فوالله إن الكل يقر بكمال الله، ويعترف بالتوحيد لله، ولا يغفل عن شكر وذكر مولاه إلا مَن كفر من الإنس والجن، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
وقال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها * * * وقال الآخر: هي القناعة فالزمها تكن ملكاً لو لم تكن لك إلا راحة البدنِ وانظر لمن ملَك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفنِ(15/6)
فضل التقوى
أيها الأحبة! فضل التقوى عظيم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرَاً} [الطلاق:4].
والمتقون عند الله جل وعلا في جنات النعيم، كما قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]، وقال جل وعلا: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].
أسأل الله جل وعلا أن يجعنا وإياكم من المتقين، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(15/7)
الأسئلة(15/8)
قصيدة وعظية في أهوال القيامة
السؤال
نريد منك يا شيخ! القصيدة الوعظية الإيمانية: (مَثِّل لنفسك أيها المغرور)!
الجواب
إن شاء الله أعطيكم إياها؛ لأن المقام مناسب في هذا الوقت، ونسأل الله يتقبل منا ومنكم.
هذه الأبيات هي أبيات رقيقة؛ لأنها تذكر الناس بحقيقة الآخرة، وبما يحدث في ذاك اليوم الرهيب الذي يكاد يخلع القلوب، يقول الشاعر: مَثِّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كُدور وإذا الجبال تخلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابَه المنشور وإذا الصحائف نُشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جنايةً كيف المُصِرُّ على الذنوب دهور وإذا الجحيم تسعَّرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يحرم وجوهنا وإياكم على النار.(15/9)
الرفق في الدعوة ووجوب المحافظة على الصلاة
السؤال
لنا زملاء في العمل لا يصلون، علماً بأننا نأمرهم بذلك، ونحن نأكل ونشرب معهم، فما الحكم؟
الجواب
أيها الأحبة الكرام! أود أن تفرقوا بين مقامين: بين مقام الدعوة، ومقام الجهاد.
فمقام الدعوة هو: اللين والحكمة والرحمة، فما دمت في دعوة لأخيك فيجب عليك أن تكون ليناً حكيماً رحيماً، وعليك أن تفتح صدرك له، وإذا ما ذكرته فذكِّره بتواضع، ولا تذكره ولسان حالك يقول: أنا المتبع وأنت المبتدع، وأنا التقي وأنت الشقي، وأنا الطائع وأنت الفاسق، والله يا أخي! لن يسمع لك ولن يسمع منك، وسيدخل الشيطان إلى قلبه ليرد الحق على لسانك، فلا تكن عوناً للشيطان على أخيك، بل ادعه بحكمة ورحمة وأدب وتواضع وابتسامة جميلة، وذكِّر أخاك بالله جل وعلا، ذكِّره مرةً ومرتين وأكثر، فإن الله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
والله يا إخوة! لو فتحنا القلوب بهذه المفاتيح التي وضعها لنا ربنا ونبينا صلى الله عليه وسلم لرأينا الخير الكثير، والعجب العُجاب! جلست مع نائب رئيس جامعة كاليفورينيا في أميركا، فكان الرجل يقسم بالله أنه كان إذا رأى أحداً مثلي: بالغترة واللحية والثوب، يقسم لي بالله أنه كان يبحث عن مكان ليختفي فيه! ويقول: أنا أظن أنك آخذٌ رشاشاً! وكأنه يقول: أنا أخاف؛ لأن الصورة التي عندي أن هذا المنظر إرهاب بكل المقاييس! فالصورة عنده مشوهة؛ ولذا فأنا أقول: إن أعظم خدمة نقدمها الآن للدين هي أن نصحح هذه الصورة عن الإسلام والمسلمين، وعن الملتزمين بصفة خاصة، ولن يكون ذلك إلا بالخلق والأدب والتواضع، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل، فأول ما التفت إليه إذا بالرجل يرتعد، فقال له: (هون عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد في مكة) انظر إلى الأخلاق العالية! وانظر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة! ولاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو كفاراً.
قد تجد الرجل وحد الله وقال: (لا إله إلا الله)، وصلى مرةً وتكاسل مرةً، فهذا يحتاج منك إلى أن تذكره بالله جل وعلا بالحكمة والرحمة والموعظة الحسنة الرقراقة، وتدعوه ما بين ترغيب وترهيب، بحسب الأرض التي تبذر فيها البذر، ومراعاة حال التربة أمرٌ من فقه الدعوة.
فأسأل الله أن يهدي إخواننا إلى الحق.
وأذكر إخواننا الذين يضيعون الصلاة بأنهم على خطر عظيم، فلقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (بين المرء وبين الكفر ترك الصلاة)، وهذا ليس من كلامنا أبداً، وإنما هو من كلام الصادق الحبيب، فقد رواه مسلم؛ حتى لا نُتَّهم بالتطرف أو بالتشدد، ويقول صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء)، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود أنه رضي الله عنه كان يقول: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -أي: عن صلاة الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى به بين الرجلين حتى يقام في الصف).
فلا تترك هدي نبيك صلى الله عليه وآله وسلم، واحرص على هذا.
وأنا أقول لك: لو دعاك قائدك في المعسكر وقال: الجندي الفلاني، أو الضابط الفلاني يأتي المكتب في الساعة الفلانية، أتحداك أن تتأخر! فإن دعاك الملك جل وعلا فكيف تتأخر؟! وخذ مثالاً آخر: إذا كنت شاباً وخطبت فتاةً، فقد تذهب إليها وتجلس معها ساعات، بل لو تركك أهلها لجلست معها الليل كله! ثم إنك تجلس أربع ساعات وخمس ساعات، ثم تقول: الساعة جرت والله! والوقت جرى! فهذه خمس ساعات وأنت مستأنس، وأما عند الصلاة فكما قال الشاعر: تأتي للصلاة في فتور كأنك قد دُعيت إلى البلاء وإن أديتها جاءت بنقص لما قد كان من شرك الرياء وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للأمور بالارتقاء ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء وإن كنت المصلي بين خلقه أطلت ركوعها بالانحناء وتعجل خوف تأخير لشغل كأن الشغل أولى من لقاه وإن كنت المجالس يوماً أنثى قطعت الوقت من غير اكتفاء أيا عبد لا يساوي الله معك أنثى تناجيه بحب أو صفاء فأقبل على الله فإن الصلاة كفارة وصلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا، يا رسول الله! قال: فذلك مَثَل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، وفي الحديث الذي رواه بعض أصحاب السنن وحسنه الشيخ الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تحترقون تحترقون -أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فانظر إلى فضل الصلاة! أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للمحافظة عليها؛ إنه وليس ذلك ومولاه.(15/10)
أهمية ذكر الله عند الجماع
السؤال
هناك حديث يقول: (من أتى أهله وقال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ورزق من هذا الجماع ولداً لم يضره شيطان) هل معنى هذا أن الشيطان لا يأتي ذلك المولود؟
الجواب
الحديث حديث صحيح، ومعنى ذلك: أنك لو استعذت بالله جل وعلا من الشيطان حفظ الله تبارك وتعالى هذه النطفة، وحفظ الله جل وعلا بعد ذلك هذه الذرية، كما قال الله تعالى على لسان أم مريم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، لكن ليس معنى ذلك أن هذا المولود الذي سمى والده أثناء الجماع إن خرج لا يأتيه الشيطان، كلا، وإنما يأتيه الشيطان ويوسوس له؛ فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولكن شتان بين نطفة ذُكر اسم الله عليها واستُعيذ بالله من الشيطان حين إلقائها في الرحم، وبين نطفة أخرى ما خرجت إلا -والعياذ بالله- وقد باركها الشيطان! فأسأل الله تبارك وتعالى أن يجنبنا وإياكم مكائده، وأن يحفظنا وإياكم منه، إنه على كل شيء قدير.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(15/11)
الخوف والرجاء
الخوف والرجاء بالنسبة للمؤمن الحق منهج حياة، فتراه جامعاً بينهما مدة حياته، مغلباً الخوف حال صحته وعافيته، ومغلباً الرجاء حال مرضه وسقمه، فالخوف يحمله على الطاعة، وترك المعصية، والرجاء يحمله على التوبة من الذنب، وإحسان الظن بالرب سبحانه، وهذا هو دأب المؤمنين الصالحين.(16/1)
فضل الخوف والرجاء وأهميتهما
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، وقست فيه القلوب، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل فيه الخوف من علام الغيوب، فأردت أن أذكر نفسي وإخواني في هذا اليوم الطيب المبارك بكلمات تجمع بين الخوف والرجاء، عسى أن تدمع العيون، وتخشع القلوب، فتعود النفوس إلى الله جل وعلا.
الخوف والرجاء جناحان يطير بهما المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان كريمتان يقطع بهما السالكون إلى طريق الآخرة كل عقبة كئود، فلا يقود إلى قرب الرحمن، وروض الجنان، والنجاة من النيران، إلا أجنحة الخوف والرجاء.(16/2)
ثمرات الخوف من الله
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: من خاف الله دله الخوف على كل خير، وكل قلب ليس فيه خوف الله، فهو قلب خراب.
وقال الحسن البصري حينما قيل له: يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا من الله جل وعلا، حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن رحمه الله: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة.
نعم إخوتي الكرام! ففي الحديث الصحيح الذي رواه البيهقي في شعبه، وابن حبان في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين)، تدبر هذا الكلام أيها الحبيب! يقول ربك عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة).
والخوف الحقيقي هو الذي يحول بين العبد وبين معصية الله، ويدفع العبد دفعاً إلى طاعة سيده ومولاه، فليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه ثم ينطلق ليرتكب المعاصي والذنوب، ولكن الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقبه الله عليه، لذا فقد جعل الله الخوف منه سبحانه ثمرة حتمية لازمة للإيمان به جل وعلا، فقال عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فالخوف من الله ثمرة حتمية للإيمان، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يتأثر بالموعظة إلا من يخشاه، قال سبحانه: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10]، بل وبين ربنا جل وعلا أنه لن يعتبر بمصارع الظالمين، ولن يتأثر بأخذ الله للمجرمين إلا من خاف عذاب الآخرة، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:102 - 108] أي: غير منقطع ولا منته.
إن أهل الخوف من الله جل وعلا هم أهل الجنان، وهم أهل القرب من الرحيم الرحمن، لذا فإن الله تعالى قد جمع لأهل الخوف والخشية أعلى مقامات أهل الجنان من الرحمة والعلم والهدى والمغفرة والرضوان، قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف:154]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه ممن كان قبلكم -أي: يسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب- فلما حضرته الوفاة قال لأولاده: يا أولادي! إذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني -وفي لفظ في الصحيح: فاذروا نصفي في البر ونصفي في البحر- ثم قال: فلأن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال لهذا العبد: (كن) فكان، فإذا هو رجل قائم بين يديه، فقال الله له: ما حملك على أن صنعت ما صنعت؟ فقال العبد: مخافتك يا رب! أو خشيتك يا رب! فغفر الله له بذلك).
إنه الخوف، وإنها ثمرة الخشية من الله، وهذه هي مكانة الخائفين عند الله جل وعلا.(16/3)
أنواع الخوف ودرجاته ومراتبه
والخوف درجات وأنواع، منه:(16/4)
الخوف من مكر الله عز وجل
الخوف من مكر الله: قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، لا تأمن مكر الله أخي في الله! فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، كما في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، كقلب واحد يصرفه حيث شاء ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك).
فالقلوب تتقلب، فأنت الآن على حال وبعد لحظات ربما يتحول قلبك إلى حال آخر، فلا تأمن على الإطلاق كيف يكون حال قلبك وأنت على فراش الموت، يقول الله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فالخوف من مكر الله مزق قلوب الصادقين، وقطع قلوب المؤمنين العارفين العالمين.
ففي الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
وفي رواية سهل بن سعد الساعدي في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)، وفي لفظ البخاري: (فإنما الأعمال بالخواتيم).
إخوتي الكرام! إن العبرة بالخواتيم، والخواتيم ميراث السوابق، بمعنى: أن الخواتيم نتيجة عادلة لما سبق في حياتك من أعمال الخير أو الشر.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
إن عشت على الطاعة فيقتضي عدل الله جل وعلا أن تموت على طاعة، وأن تبعث على ذات الطاعة، وإن عشت على المعاصي فيقتضي عدل الله إن لم تتب إليه منها وتعترف له بفقرك وجرمك أن تموت على ذات المعصية، وأن تبعث يوم القيامة على ذات المعصية، فالعبرة بالخواتيم، والخواتيم ميراث السوابق.
فهذا مؤذن يؤذن لله أربعين سنة لا يبتغي الأجر إلا من الله، وقبل الموت مرض مرضاً أقعده في الفراش، وعجز أن يخرج إلى بيت الله ليرفع الأذان، وقبل الموت بساعات بكى وقال: يا رب! أؤذن أربعين سنة لا أبتغي الأجر إلا منك وحدك، وأحرم من هذه النعمة قبل الموت!! اللهم يسر لي الأذان، فلما سمع الأذان خارج بيته قال لأولاده: يا أولادي! وضئوني فوضئوه، قال: أريد أن أصدع بالأذان وأن أخرج إلى المسجد، فلما أراد أن يخرج عجز عن الخروج إلى بيت الله جل وعلا فقال: أوقفوني فأوقفوه على فراشه، واتجه إلى القبلة ورفع صوته بالأذان إلى أن وصل إلى آخر كلمات الأذان، فقال: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)، وخر على فراشه ساقطاً، فأسرع إليه أولاده فإذا روحه قد خرجت مع قوله: (لا إله إلا الله).
لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
وهؤلاء مجموعة من الشباب في السعودية اصطادوا ثلاث فتيات، وخرجوا بهن إلى مكان بعيد عن أعين الناس، ولكن الله جل وعلا يسمع ويرى، فقال أحدهم: نريد الطعام والشراب لنقضي ليلة حمراء ممتعة، فقال أحدهم: أنا آتيكم بالطعام والشراب بعد لحظات، وخرج وانصرف وعليه جنابة الزنا والعياذ بالله! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وفي الطريق انقلبت به سيارته، ولما تأخر عن رفقائه قال أحدهم للآخر: لماذا تأخر فلان؟ أنا أذهب لأنظر ماذا صنع؟ وعلى الطريق رأى سيارة تحترق وتشتعل فيها النيران، فلما دنا منها عرف أنها سيارة صديقه، فوجد صديقه في السيارة يعجز عن الخروج منها، والنار تأكله وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ فاقترب منه وسحبه والنار تشتعل فيه وقال له: من هذا الذي تتكلم عنه؟ فقال له: ماذا أقول لربي؟ ماذا أقول لربي غداً؟ فأنت سل نفسك أيها المسلم! وقل: ماذا سأقول لربي غداً؟ إن أتاك اليوم ملك الموت هل أنت راض عما أنت فيه من طاعة؟! عباد الله! إن أقرب غائب ننتظره جميعاً هو الموت، والموت لا يترك غنياً ولا فقيراً، ولا يترك شيخاً ولا صغيراً، ولا يترك رجلاً ولا امرأة.
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وكلما ازددت معرفة بالله كلما ازددت خوفاً من الله وخشية له، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا أعلمكم بالله، وأشدكم له خشية).(16/5)
نماذج وصور من حياة الخائفين
روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أرى مالا ترون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته، ساجد لله عز وجل، ثم قال: والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله جل وعلا).
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ما سمعت مثلها قط، وكان مما قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.
يقول أنس: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين).
أي: لهم بكاء بصوت خافت.
ومن أعجب ما قرأت في هذا: ما رواه البخاري وأحمد وغيرهما: لما مات عثمان بن مظعون وهو من سادة المهاجرين، ومن أولياء الله المتقين، وممن شهد بدراً، وأول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع.
لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقبله بين عينيه، وبكى رسول الله حتى سالت دموعه على خد عثمان بن مظعون.
ولما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها: أم العلاء قالت: رحمة الله عليك أبا السائب رحمة الله على عثمان بن مظعون، رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي لك أن الله قد أكرمك، فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: وما يدريك أن الله قد أكرمه؟! قالت: والله لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فمن؟ أي: فمن هذا الذي سيكرمه الله إن لم يكرم عثمان بن مظعون؟! (بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله لا أدري فمن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين وإني والله لأرجو له الخير، ثم قال المصطفى: والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي).
ولم لا يخاف خاتم الأنبياء وقد خاف من قبله الملائكة من رب الأرض والسماء؟ قال الله عز وجل: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، ولم لا يخاف بعد الملائكة وبعد الأنبياء المؤمنون الصالحون العارفون العالمون برب العالمين؟! هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينام على فراش الموت فيدخل عليه ابن عباس، والحديث في صحيح البخاري، فيقول ابن عباس: (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد صحبت رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، ثم صحبت خليفة رسول الله فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، ثم صحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، فقال عمر: ذلك منٌّ منَّ الله به عليّ، ثم قال -وتدبر ما قاله عمر -: والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه).
انظروا يا إخوة! لتقفوا على حال قسوة قلوبنا، إننا نسمع كلاماً -ورب الكعبة- يذيب الصخور، ويفتت الرمال، ولكنك تنظر إلى كثير من القلوب وكأن أصحابها ما سمعوا شيئاً عن علام الغيوب، وعن الحبيب صلى الله عليه وسلم لماذا؟ لأن قلوبنا مريضة إلا من رحم ربك جل وعلا، لم تعد الموعظة تؤثر، ولم يعد القرآن يهز القلب، ولم يعد كلام النبي عليه الصلاة والسلام يحرك الوجدان، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القلوب في صدورنا إما مريضة وإما ميتة.
قال ابن مسعود: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: في مجالس العلم، وعند سماع القرآن، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجد قلبك في هذه المواطن فسل الله أن يمن عليك بقلب؛ فإنه لا قلب لك).
اللهم اشف قلوبنا وأحيها يا رب العالمين! أيها الأحبة! لقد قست القلوب وتراكمت الذنوب على الذنوب، وبَعُدَ القوم من علام الغيوب، وتجرأنا على الله وتجاوزنا شرع رسول الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا عمر بن عبد العزيز تدخل عليه امرأته فاطمة بنت عبد الملك فتراه قابضاً على لحيته يبكي، فتقول له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟! فيقول لها: يا فاطمة! لقد وليت من أمر هذه الأمة وفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، واليتيم المكسور، والمضروب المقهور، والأرملة، والمسكين، وفي ذي العيال الكثير، وفي غيرهم وأشباههم في أقطار البلاد وأطراف الأرض، وعلمت أن خصمي دونهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة بين يدي الله جل وعلا.
وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة فيقول له حماد: أبشر يا أبا عبد الله! إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان: أسألك بالله يا حماد! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟! وهذا الشافعي لما نام على فراش الموت دخل عليه المزني فقال له المزني: كيف أصبحت يا إمام؟! فقال الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، ولعملي ملاقياً، وعلى الله وارداً، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشد الشافعي قائلاً: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما وكان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي للعزيز الغفار، وهو قابض على لحيته ويقول: يا رب! يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟!(16/6)
الخوف من عذاب الله في الآخرة
أيها الأحباب! ثم يأتي بعد ذلك: الخوف من عذاب الله في الآخرة، ومن منا يقوى على نار الدنيا؟ والله لا يقوى واحد منا على نار قليلة من نار الدنيا.
عباد الله! هل تعلمون أن هذه النار التي إذا اشتعلت في بئر من آبار بترول، أو دمرت مصنعاً من المصانع، أو أحرقت مزرعة من المزارع، أو أبادت مدينة من المدن، ما هذه النار إلا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم؟! (ناركم هذه التي توقدون هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! والله إن كانت لكافية، قال: ولكنها فضلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها).
ففي الصحيحين من حديث النعمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهون أهل النار عذاباً لرجل توضع في أخمص قدميه جمرتان من نار، فيغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهون أهل النار عذاباً).
الخوف من عذاب الله في الآخرة مزق قلوب الصادقين العارفين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: يا رب! أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: يا رب! مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله عز وجل للنار: يا نار! أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، وقال للجنة: يا جنة! أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي).
فهيا أيها الأحبة الكرام! هيا إلى الجنة، هيا إلى العمل من أجل الفوز بالجنة، فإن الجنة -ورب الكعبة- فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها الأحباب! وبعدما رهبت هأنذا أرغب، وبعدما خوفت هأنذا أذكر بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تفتح لمثلي أبواب الرجاء في التوبة والأوبة إلى رب الأرض والسماء، وأرجئ الحديث عن الرجاء إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(16/7)
الرجاء ثمرته وحقيقته ومعناه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، وإن الله عز وجل فتح أبواب الرجاء لكل مذنب مقصر عاص ليرجع إليه؛ وليعترف بذنبه وجرمه، وهذا هو الفهم الصحيح لأحاديث الرجاء، فالرجاء مع العمل، والرجاء مع الخوف لا ينفصمان ولا ينقطعان أبداً، فالمؤمن يخشى الله ويمتثل الأمر ويجتنب النهي، ويقف عند الحد، لكنه بشر فليس ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فربما يضعف فتزل قدمه في بؤرة المعصية، وحينئذ إن جذبت أشواك الذنوب ثيابه يقال له: اجذب ثيابك واغسلها بدموع التوبة، واعلم إن عدت إلى الله بأن الله يفتح لك أبواب الرجاء على مصراعيها.
هذا هو الفهم الدقيق لأحاديث وآيات الرجاء.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
فالمؤمن الذي يحسن الظن بالله يعمل، إن أمره الله ورسوله ائتمر، وإن نهاه الله ورسوله انتهى، وإن حد له الله ورسوله حداً وقف عند حدود الله ورسوله، ثم بعد ذلك إن وقع في معصية وضعف وزلت قدمه يذكر بأحاديث الرجاء بعد آيات الرجاء، فيجد الباب مفتوحاً، وإلا فأين يذهب الفقير إلا إلى الغني؟ وأين يذهب العاصي إلا إلى الغفور؟ وأين يذهب الضعيف إلا إلى القوي؟ عبد الله! اعترف بذنبك وتقصيرك وجرمك، وعد إلى الله جل وعلا وأنت على يقين مطلق بأن الله تبارك وتعالى سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، ويفتح لك أبواب التوبة وأبواب الرجاء على مصراعيها، ولا تسوف فإن الموت يأتي بغتة.
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيـ ـه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل فلا تسوف وُعد إلى الله وتدبر هذا النداء الندي الرخي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم).
وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا -نزولاً يليق بكماله وجلاله- ثم يقول ربنا: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلايزال كذلك حتى يضيء الفجر).
بل وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها).
وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي واللفظ له من حديث أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من رحمة هذه الأم بولدها)، لذا قال أحد أهل العلم: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك والعذاب، أفترضاه لي أنت وأنت أرحم الراحمين!! فيا أيها اللاهي! ويا أيها الساهي! يا من ضيعت الصلاة! يا من أكلت الربا! يا من شربت الخمر! يا من عاقرت الزنا! هيا لا تقنط ولا تيئس، وعُدْ إلى الله مهما كان ذنبك، ومهما كانت كبيرتك، عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، الذي لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.(16/8)
شروط التوبة
عباد الله! اعلموا أن للتوبة شروطاً وأركاناً: أولها: الإقلاع عن المعاصي والذنوب.
ثانيها: الندم، فالندم هو ركن التوبة الأعظم.
ثالثها: الإكثار من العمل الصالح، والمداومة عليه، وأن نلزم طريق الجنة حتى نلقى الله جل وعلا.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا هماً إلا فرجته، ولا غماً إلا أزلته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم ارزقنا جميعاً قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً ورضواناً.
اللهم أصلح أولادنا، اللهم أصلح أولادنا، اللهم رب لنا أولادنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، اللهم استر نساءنا وبناتنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المؤمنين، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين.
اللهم ارفع عن هذا البلد الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أحبتي الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(16/9)
أقسام التوحيد
حديث جبريل في بيان مراتب الدين من أجل الأحاديث الجامعة لعقائد التوحيد والإيمان، بل هو مشتمل على ما يجب على المسلم اعتقاده والعمل به، ففيه بيان أركان الإسلام، وأركان الإيمان، ومنزلة الإحسان؛ ولذا اهتم أهل العلم بهذا الحديث كثيراً.(17/1)
شرح حديث جبريل في مراتب الدين
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمرحباً بكم أيها الأحبة! ومع اللقاء الثالث على التوالي، وما زلنا نطوف في بستان هذا الحديث الطيب المبارك، في شرح حديث جبريل عليه السلام، والحديث رواه مسلم وغيره من أصحاب المسانيد وأصحاب السنن، وقلنا: إن مسلماً رحمة الله عليه قد قدم لهذا الحديث بمقدمة هامة، ولقد آليت على نفسي أن أقدم بهذه المقدمة مع متن الحديث في كل لقاء؛ حتى يتيسر على الجميع حفظه إن شاء الله عز وجل.(17/2)
نص الحديث
عن يحيى بن يعمر رحمه الله قال: (كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهني) أي: كان أول من قال بنفي القدر، وأن الأمر لا تقدير فيه لله عز وجل، قال: (فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، يقول يحيى بن يعمر: فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أنا عن يمينه وصاحبي عن شماله، وكنت ظننت أنّ صاحبي سيكل لي الكلام؛ لأني كنت أصفق لساناً منه، فقلت: أبا عبد الرحمن -لـ عبد الله بن عمر - لقد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم -أي: يبحثون عن غوامضه وخوافيه- ويقولون: إنه لا قدر، وإن الأمر أنف) أي: إن علم الله حادث، وإن الله لا يعلم الأشياء والأحداث إلا بعد أن تقع.
لقد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، ويزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، فقال عبد الله بن عمر: (إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني منهم براء، وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر).
ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت! قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
ولقد انتهينا بفضل الله جل وعلا في اللقاءات الماضية من الترجمة لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وبيّنا في لقاء مستقل بعض الآداب التي ينبغي أن يكون عليها طالب العلم، وأوضحنا في اللقاء الماضي بعض الآداب أو ما ينبغي أن يتحلى به المعلم أو العالم.(17/3)
علاقة الإسلام بالإيمان
كان لقاؤنا الماضي يدور حول بعض الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المعلم أو العالم، فتعالوا بنا أيها الأحبة في هذه الليلة المباركة، وفي هذا اللقاء الطيب، لنتعرض إلى أول سؤال سأله هذا السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
جلس هذا السائل بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا محمد! أخبرني عن الإسلام).
والإسلام لغة: هو الانقياد والإذعان، أما معناه من الناحية الشرعية إذا أطلق فله حالتان: الحالة الأولى: إذا أطلق اسم الإسلام دون أن يقترن بالإيمان، فهو في هذه الحالة يراد به الدين كله، من الأقوال والاعتقادات والأفعال والأعمال، لقول الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ولقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
فإذا جاءت كلمة الإسلام دون أن تقترن بكلمة الإيمان، فحينئذ يراد بالإسلام: الدين كله.
أما إذا ذكرت كلمة الإسلام مقترنة بكلمة الإيمان، فيراد بالإسلام: الأقوال والأعمال الظاهرة، ويراد بالإيمان: الأعمال الباطنة، لقول الله جل وعلا: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، فإذا أطلق الإسلام مع الإيمان فإن الإسلام يراد به: أقوال وأعمال الظاهر، ويراد بالإيمان: أعمال الباطن.
ويقول الإمام الخطابي رحمه الله: معنى ذلك: أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً.
فالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا اجتمعت كلمة الإسلام مع كلمة الإيمان افترقا فأصبح الإسلام له معنى، والإيمان له معنى آخر.
ومعنى: (إذا افترقا اجتمعا) أي: إذا أطلقت كلمة الإسلام فحينئذٍ يراد بها الإسلام والإيمان، وإذا أطلقت كلمة الإيمان فحينئذٍ يراد بها الإسلام والإيمان.
فالسائل يقول: (أخبرني عن الإسلام؟) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).
فلنتعرض إلى أول ركن من أركان هذا الإسلام العظيم، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله.
قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله)، و (لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد والإخلاص، ولقد قسمنا التوحيد قبل ذلك إلى ثلاثة أقسام، فأعيروني القلوب والأسماع لنجمل ما وضحناه من أقسام التوحيد الثلاثة، ألا وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.(17/4)
توحيد الربوبية
توحيد الربوبية: هو إفراد الله جل وعلا بالخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مميت إلا الله، فالله وحده هو الخالق وما عداه مخلوق، والله وحده هو الرب وما عداه مربوب، والله وحده هو الرازق وما عداه مرزوق: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
والأدلة على هذا القسم من أقسام التوحيد كثيرة جداً.(17/5)
الدليل النقلي على توحيد الربوبية
أولاً: الأدلة النقلية، القرآن كله من أوله إلى آخره يبين هذا القسم من أقسام التوحيد، وأكتفي بهذا الدليل من سورة النمل، يقول الله جل وعلا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:60 - 64] أإله مع الله؟! لا رب غيره ولا معبود سواه.
والأدلة النقلية في هذا الباب كثيرة، بل إن القرآن من أوله إلى آخره يتحدث عن هذا النوع، وصدق من قال: سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والأصداح والطير شاديا وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع التوحيد ساريا ولو أن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانياً أإله مع الله؟! الله ربي لا إله سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو الشمس والبدر من أنوار قدرته والبرق والبحر فيض من عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناداه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يهتف حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه أإله مع الله؟ قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام مَنْ يقود خطاك قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك هل هناك مصنع على ظهر الأرض يقدر على ذلك؟! إنها قدرة الذي يقول للشيء: كن فيكون، إنها عظمة وإرادة لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء.
والأدلة النقلية في هذا الباب كثيرة جداً، ولكنني أريد أن أنهي الحديث عن أقسام التوحيد الثلاثة بإذن الله جل وعلا.(17/6)
الدليل العقلي على توحيد الربوبية
الأدلة العقلية على توحيد الربوبية كثيرة، وسأكتفي بقولين أحدهما للأعرابي الذي استشهد على وجود الله جل وعلا بكلمات عجيبة! وهو أعرابي بسيط لم يلتحق بجامعة من الجامعات، ولا بكلية من الكليات، ولكنه تخرج في جامعة الفطرة، وتربى في أحضان الطبيعة: بين سمائها وجبالها، وإبلها وحيواناتها، فسئل: ما الدليل على وجود الله؟ قال: سبحان الله! البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، أفلا يدل ذلك كله على اللطيف الخبير؟!! واستشهد الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة بالبيضة، فأمسك البيضة يوماً فقال: هذا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينما هو كذلك إذ انصدع جداره، وخرج منه حيوان سميع بصير! إنها قدرة الله جل وعلا.
والأدلة العقلية كثيرة في هذا الباب.
فتوحيد الربوبية إذاً: هو الإقرار لله جل وعلا بالخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا رب إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا محيي إلا الله، ولا مميت إلا الله.
هذا ومن أقر بذلك كله وكفر بتوحيد الألوهية فهو مشرك؛ لأن المشركين قد أقروا لله جل وعلا بتوحيد الربوبية، وأقروا بأن الله هو الخالق وما عداه مخلوق، وبأن الله هو الرازق وما عداه مرزوق، وبأن الله هو الرب وما عداه مربوب، ولكن لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الألوهية -أي: إلى إفراد الله جل وعلا بالعبادة- قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فأنكروا توحيد الألوهية، فحكم الله عليهم بالشرك برغم إقرارهم بتوحيد الربوبية لله جل علا.(17/7)
توحيد الألوهية وشروط كلمة التوحيد
توحيد الألوهية هو: إفراد الله جل وعلا وحده بالعبادة.
والعبادة كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وهي كما عرفها ابن القيم رحمه الله: كمال الحب مع كمال الذل.
وفي الجملة: فتوحيد الألوهية هو تحقيق معنى لا إله إلا الله، وهي كلمة التوحيد والإخلاص.
هذه الكلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها خلق الله الجنة النار، ومن أجلها أنزل الله الكتب، وأرسل الله الرسل، وبهذه الكلمة تكون الشقاوة والسعادة، فريق في الجنة وفريق في السعير.
هذه الكلمة ورد في حقها أحاديث كثيرة، وأكتفي بذكر حديث واحد، وهو ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة من أي أبوابها الثمانية شاء)، وفي رواية: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).(17/8)
تقصير بعض المسلمين في فهم كلمة التوحيد
كلمة التوحيد ليست كلمة ترددها الألسنة، وتنكرها القلوب والأعمال، إن كلمة التوحيد واقع وسلوك، إن كلمة التوحيد دين كامل وشامل، فكم من المسلمين يردد كلمة التوحيد وهو لا يفهم لها معنى، ولا يعرف لها مدلولاً، ولا يعرف لها مقتضى! ولقد نجح أعداء ديننا نجاحاً باهراً في تجهيل المسلمين بحقيقة لا إله إلا الله، فجعلوا كلمة التوحيد في جانب والمسلمين بفهمهم لها في جانب آخر، حتى صار المسلمون في واد، وصار الإسلام وحقيقة التوحيد كما أرادها الله، وكما جاء بها ابن عبد الله في واد آخر.
نجحوا في أن يفرغوا لا إله إلا الله من محتواها كله، ومن مضمونها كله، ومن معناها كله، حتى صار المقتضى والمعنى والمفهوم منها في جهة، وصار المسلمون في فهمهم لها في جهة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من قالها بلسانه، وصدقها بقلبه، وطبقها بأعماله، والإيمان قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان؛ هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
فلابد أن تقولها بلسانك، وأن تصدقها بقلبك، وأن تترجم ذلك بأعمالك وجوارحك، إذا وقر الإيمان في القلب انعكس على جوارح العبد، فتحركت الجوارح بطاعة الله عز وجل، فائتمرت بأمر الله، وانتهت بنهي الله، ووقفت عند حدود الله جل وعلا.
إذاً: ليس كل من قال: (لا إله إلا الله) دخل الجنة، فلهذه الكلمة شروط لا ينتفع قائلها إلا بها، وهذه الشروط -بإيجاز شديد- هي التي جمعها صاحب المعارج بقوله: العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبه وفقك الله لما أحبه(17/9)
الشرط الأول: العلم
أول شرط هو: العلم، والعلم معناه: أن يكون قائلها على علم بمعناها ومقتضاها ومدلولاتها، وعلى علم بما تحمله هذه الكلمة من نفي وإثبات، وولاء وبراء، فكلمة التوحيد نفي للآلهة وللطواغيت وللأنداد وللأرباب، فهي نفي لجميع الآلهة غير الله، وإثبات للألوهية لله جل وعلا وحده.
وهي إثبات العبادة لله وحده: فلا عبادة إلا لله، ولا خوف إلا من الله، ولا إذعان إلا لله، ولا انقياد إلا لله، ولا استسلام إلا لله، ولا تفويض إلا إليه، ولا رجاء إلا فيه، ولا طلب إلا منه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ولا نذر إلا له، ولا ذبح إلا له، ولا حلف إلا به.
تكون عقيدتك قولاً وعملاً: اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، وأبرأ من الأمل إلا فيك، وأبرأ من التسليم إلا لك، وأبرأ من التفويض إلا إليك، وأبرأ من التوكل إلا عليك، وأبرأ من الصبر إلا على بابك، وأبرأ من الذل إلا في طاعتك، وأبرأ من الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، وأبرأ من الرهبة إلا لجلالك العظيم.
هذا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدتك أيها الموحد لله جل وعلا.
إذاً: شرط العلم: أن تكون على علم بمعناها، نفياً وإثباتاً، فهي تنفي جميع الآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت، وتثبت الألوهية لله وحده، والعبودية والعبادة لله وحده.
وهي ولاء وبراء: ولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وبراء من كل ما تبرأ الله منه.
فالعلم: أن تكون على علم بمعناها نفياً وإثباتاً: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19]، وفي الحديث الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).(17/10)
الشرط الثاني: اليقين
الشرط الثاني: اليقين، واليقين هو الإيمان كله، كما ورد في الأثر الصحيح الذي ذكره الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (اليقين هو الإيمان كله).
واليقين هو: أن يكون من قال: لا إله إلا الله على يقين جازم بمعناها ومدلولها، وذلك أن يقولها القائل بلسانه، وأن يصدقها بقلبه، وأن يطبقها بأعماله وجوارحه.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة، وهو طويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى نعلين لـ أبي هريرة رضي الله عنه وقال له: (يا أبا هريرة! اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه؛ فبشره بالجنة).
ومعنى اليقين: أن يكون قائلها على يقين بمعناها، فلا يقولها بلسانه ويكذبها بقلبه وأعماله.
هذا هو الشرط الثاني بإيجاز.(17/11)
الشرط الثالث: القبول
الشرط الثالث: القبول، والقبول معناه: أن نقبل كل ما جاءت به لا إله إلا الله، بأن نقبل أوامرها، وأن نقبل نواهيها، وأن نقف عند حدودها، ولا نقل كما قالت اليهود: نؤمن ببعض ونكفر ببعض! فلقد توعد الله من قال ذلك بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
فالقبول معناه: أن ننقاد لـ (لا إله إلا الله) فإذا أمرنا نمتثل، وإذا نهينا ننتهي؛ لأن من المسلمين من نَحَّى شرع الله عز وجل وهو يقول: (لا إله إلا الله)! ومن المسلمين من يشرب الخمر، أو يتعامل بالربا وهو يقول: لا إله إلا الله! أو زوجته سافرة وبناته سافرات وهو يقول: (لا إله إلا الله)! وإذا ما سألته، يقول: هذا شيء وذلك شيء آخر! {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
وهذا هو ما نجح فيه أعداؤنا، نجحوا في أن يجعلوا كتاب الله جل وعلا لا يتعدى قارئ يتغنى بالقرآن، ومن حوله بعض المسلمين يستمعون وهم لا يفهمون، فأصبح القرآن في أمة القرآن لا يتعدى أن يكون كتاباً محفوظاً في علبة، أو لا يتعدى أن يكون آية في برواز ذهبي أو فضي، أو لا يتعدى أن يكون بعض الآيات التي تقرأ على الحضور أو تلقى على الصدور.
نجحوا في ذلك، وفرغوا لا إله إلا الله من محتواها ومضمونها، ويوم أن حرف الجسر الحقيقي الذي يضمن لهذه الأمة البقاء والسيادة والرياسة ضاعت الأمة وسقطت من القمة إلى الحضيض والخزي والذل والهوان.
فالقبول: قبول لها بأوامرها ونواهيها وحدودها، والإسلام نظام شامل كامل متكامل، لا ينبغي أن يسجن الإسلام في بيوت الله جل وعلا، وإذا ما خرج المسلمون من المساجد تركوا الإسلام في بيوت الله عز وجل، أما أن يحكم التجارة فلا! أو الاقتصاد فلا! أو الاجتماع فلا! والتعليم والإعلام إلخ، هذا هو فعل اليهود الذين أخذوا ما شاءوا وتركوا ما أرادوا، والله جل وعلا يحذر ويقول: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
هذا -بإيجاز- هو الشرط الثالث من شروط لا إله إلا الله.
الإيمان كل لا يتجزأ، نقبل لا إله إلا الله بدءاً من الحاكمية، فلا حكم إلا لله، ولا شرع إلا لشرع الله، ولا سلطان إلا لله، وحتى إماطة الأذى عن الطريق كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فالقبول ينبغي أن يكون قبولاً كاملاً لكل ما جاءت به لا إله إلا الله من أوامر ونواه، ومن حدود ومقتضيات.(17/12)
الشرط الرابع: الانقياد والإذعان
الشرط الرابع من شروط (لا إله إلا الله) التي لا ينتفع قائلها إلا بها: الانقياد: والانقياد هو: الاستسلام والإذعان والتسليم لأمر الله عز وجل، وهذا الانقياد له شروط: أول شرط من شروط الانقياد: هو قبول شرع الله ورفض شرع ما سواه، من قوانين ديمقراطية علمانية شيوعية بعثية إلى آخره.
الشرط الثاني من شروط الانقياد هو: لا دين إلا ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله عز وجل، ولا يحق لأي سلطان، ولا لأي هيئة، ولا لأي جماعة، ولا لأي مجلس، ولا لأي سلطة: أن تشرع للناس من دون الله عز وجل، بل إن الحلال ما أحله الله والحرام ما حرم الله عز وجل.
الشرط الثالث من شروط الانقياد هو: نفي النسك عن غير الله عز وجل، أي: نفي العبادة عن غير الله، وتوجيهها لله جل وعلا وحده، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فتوجه العبادة كاملة بركنيها من كمال الحب وكمال الذل إلى الله جل وعلا.
فلا عبادة إلا لله، مع الكفر بجميع الطواغيت، والإيمان بالله وحده: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]؛ قدم الله الكفر بالطاغوت على الإيمان به؛ لأنه لابد من التخلية قبل التحلية: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:256].
هذا بإيجاز الشرط الرابع.(17/13)
الشرط الخامس: الصدق
الشرط الخامس من شروط (لا إله إلا الله) الذي لا ينتفع قائلها إلا بها هو: الصدق، والصدق شرط رئيسي من شروط لا إله إلا الله، فمن قالها بلسانه وكذبها بقلبه فهو منافق؛ لقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] قالوا: نشهد أنه لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ولكنهم قالوها بألسنتهم، وكذبوها بقلوبهم والعياذ بالله.
فإن من الناس من يقول: لا إله إلا الله بلسانه -وما أكثر هؤلاء! - ويكذبها بقلبه، مع أنه يقولها بلسانه، بل ويجري اللسان فيها كالسهم، وترتلها الألسنة كدخان في الهواء، ثم تلوكها الألسنة، لكن لم يكن لقولها معنى، ولم يعد لها مقتضى، وإنما قالتها الألسنة، وكذبتها القلوب والعياذ بالله؛ فهذا هو عمل أهل النفاق! فالصدق شرط رئيسي؛ ولذلك ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه حرمه الله على النار).
وفي قصة ضمام بن ثعلبة الذي رواها الإمام مسلم، أنه جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام، وقال: (والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن! وانصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي رواية: (لئن صدق ليدخلن الجنة).
فالصدق: أن تقولها بلسانك، وأن تصدقها بقلبك، هذا بإيجاز شرط الصدق.(17/14)
الشرط السادس: الإخلاص
الشرط السادس من شروط لا إله إلا الله: الإخلاص، والصدق والإخلاص متلازمان، لا ينفع أحدهما بدون الآخر، فمن قالها بلسانه وكذبها بقلبه فهو منافق، ومن قالها بلسانه ولم يخلص فيها لله جل وعلا فهو مشرك.
والشرك درجات: فهناك شرك أكبر، وهو الكفر بالله، وهو الذي لا يغفر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهناك الشرك الأصغر وهو الرياء، وهناك الشرك الخفي.
فالصدق والإخلاص متلازمان لا ينفع أحدهما بدون الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري أن أبا هريرة سأل النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه!).
والإخلاص هو تصفية العمل بصالح النية من جميع شوائب الشرك، قال أحد السلف: (من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص).
هذا بإيجاز شرط الإخلاص.(17/15)
الشرط السابع: المحبة
الشرط السابع من شروط لا إله إلا الله هو: شرط المحبة.
والمحبة ركن التوحيد، وبكمالها يكمل التوحيد، وبنقصها ينقص التوحيد، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن شجرة المحبة لو غرست في القلب، وسقيت بماء الإخلاص، وغذيت بمتابعة سيد الناس؛ أثمرت كل أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، فهي شجرة أصلها في قرار القلب، وفرعها يتصل بسدرة المنتهى.
والمحبة ركن التوحيد، فبكمالها يكمل التوحيد، وبنقصها ينقص التوحيد، ولقد ادعى ناس المحبة، فابتلاهم الله بآية المحبة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31].
إذاً: للمحبة شروط وهي: أولاً: أن تقبل ما جاء به الله عز وجل وإن خالف هواك، وأن تبغض ما أبغضه الله وإن مال إليه هواك، فهذا أول شرط، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
والشرط الثاني: هو محبة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن تكون محبتك لرسول الله أكثر من محبتك لمالك وولدك ونفسك التي بين جنبيك.
ولقد ادعى كثير من المسلمين المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المحبة واقع وسلوك واقتفاء لأثر الحبيب صلى الله عليه وسلم.
هذه الشروط الثقال قيدت بها كلمة التوحيد والإخلاص، فمن أتى بكلمة التوحيد بهذه الشروط فهو من أهل الجنة، أما إن قالها بلسانه وكذبها بقلبه وأنكرها بأعماله وسلوكه، فبإجماع أهل العلم أنها لا تنفعه لا إله إلا الله، وإن نفعته في الدنيا فلن تنفعه في الآخرة؛ لأن المنافقين قالوها فانتفعوا بها في الدنيا، ولن ينتفعوا بها في الآخرة، فإنهم في الدنيا عصموا بها دماءهم وأموالهم، وتزوجوا من المسلمات، وحضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعات والجماعات، بل وشاركوه في الغزوات، واقتسموا معه الغنائم، ولكنها لن تنفعهم يوم القيامة؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145].
إذا تقاضى الناس في أرض المحشر، وعمهم الظلام، قام أهل التوحيد بأنوار لا إله إلا الله، نورهم يضيء لهم الطريق، فيتحرك الركب النوراني بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]؛ يوم أن يتحرك هذا الركب النوراني بقيادة محمد عليه الصلاة والسلام، يقوم أهل النفاق يريدون أن يتحركوا مع هذا الركب، فيجدون أنفسهم في ظلمة، فينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
فمن قالها بلسانه وكذبها بقلبه فهو منافق، ومن قالها بلسانه وأشرك فيها مع الله عز وجل فقد أشرك، فالصدق والإخلاص متلازمان.
فهذه هي بعض الشروط الثقال التي قيدت بها كلمة التوحيد، ولا ينتفع قائلها إلا بهذه الشروط، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن انتفع بها في الدنيا والآخرة.
هذا بإيجاز توحيد الألوهية.(17/16)
قواعد في توحيد الأسماء والصفات
القسم الثالث من أقسام التوحيد: توحيد الأسماء والصفات: وهذا هو الباب الذي ضلت فيه أفهام، وزلت فيه أقدام، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الفهم والاستدلال.
نجمل هذا التوحيد في عدة قواعد، وأسميناها قبل ذلك في لقاء مستقل: القواعد الواضحات لفهم الأسماء والصفات.(17/17)
القاعدة الأولى
القاعدة الأولى: أن أسماء الله الحسنى وصفاته العلا هي التي أثبتها الله لذاته، وأثبتها له عبده ورسوله وأعرف الناس به محمد صلى الله عليه وسلم، وآمن بها جميع المؤمنين، وهي أسماء وصفات كمال وجلال.(17/18)
القاعدة الثانية
القاعدة الثانية: أن أسماء الله جل وعلا لا تنحصر بالتسعة والتسعين اسماً التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة).
أقول: إن الأسماء لا تنحصر بهذا العدد، والدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أحمد في مسنده، وصححه الإمام ابن القيم في بدائع الفوائد، وصححه الإمام ابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك -إذاً: فهناك من أسماء الكمال وصفات الجلال لا يعلمها إلا الكبير المتعال- أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله! أفلا نتعلمها؟ قل: بل ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها)، هذه هي القاعدة الثانية.(17/19)
القاعدة الثالثة
القاعدة الثالثة من القواعد الواضحات لفهم مبحث الأسماء والصفات هي: أن أسماء الله جل وعلا حق على حقيقة الذات، مطابقة وتضمناً والتزاماً، فاسم الله جل وعلا (الرحمن) حق على حقيقة ذات الله عز وجل، فلو قلت: الرحمن، لكنت على يقين أنه هو الله: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، فاسم الرحمن حق على حقيقة الذات مطابقة، وفي نفس الوقت يشتمل على صفة الرحمة تضمناً، وفي نفس الوقت يشتمل على جميع صفات الكمال والجلال التزاماً.
فأسماء الكمال حق على حقيقة الذات، مطابقة وتضمناً والتزاماً.(17/20)
القاعدة الرابعة
القاعدة الرابعة: هناك أسماء لا ينبغي أن تطلق إلا مقترنة مع بعضها البعض، وإذا جاءت هذه الأسماء وأفردت أوهم ذلك نقصاً في حق الله تعالى الله عن ذلك! فمن هذه الأسماء: المعطي المانع، الخافض الرافع، الضار النافع، المعز المذل، القابض الباسط، فهذه الأسماء لا ينبغي أن يشتق منها اسم واحد ليطلق على الله جل وعلا، فلا ينبغي أن يقال: بأن من أسماء الله المذل، الخافض، الضار، المانع، هذا لا يصح، وإنما ينبغي أن تطلق هذه الأسماء مع بعضها البعض؛ لأن الشرع ما ذكرها إلا كذلك، فلو قلت: إن من أسماء الله: الضار، المضل، الخافض، المانع؛ لأوهم ذلك نقصاً في حق الله، تعالى الله عن ذلك! أيضاً: هناك أفعال ذكرها الله تعالى ووصف بها نفسه من باب: الجزاء من جنس العمل كقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، وكقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وكقوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، فلا يجوز على الإطلاق أن نقول: إن من أسماء الله: الماكر المخادع، الناسي، وإن بعض الجهال قد اشتق من هذه الأفعال أسماء للكبير المتعال! ولكن هذه الأفعال التي وصف الله بها نفسه لا يجوز أن يشتق منها إطلاقاً بعض الأسماء لله عز وجل.(17/21)
القاعدة الخامسة
القاعدة الخامسة ذكرها الإمام الشنقيطي رحمة الله عليه في مبحثه القيم مبحث الأسماء والصفات، قال: إن هذا المبحث الخطير يتركز على ثلاث أسس، من جاء بها ومات عليها مات على المعتقد الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذه الأسس هي: الأساس الأول: تنزيه الله عز وجل وعدم تشبيهه بشيء من المخلوقات، وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ومأخوذ من قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، ومأخوذ من قوله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74].
الأساس الثاني: أن نؤمن بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
أو بعبارة أخرى قالها الشافعي: أن نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وأن نؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأساس الثالث: قطع الطمع عن إدراك كيفية ذات الله عز وجل، فلا يعلم ذات الله إلا الله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].(17/22)
خلاصة مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات
القاعدة السادسة من قواعد الأسماء والصفات: هي تلخيص لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب من أبواب التوحيد:(17/23)
الإيمان بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه
أولاً: نؤمن بآيات الأسماء والصفات، وبأحاديث الأسماء والصفات، كما جاءت، ونمرها صريحة من غير تحريف لألفاظها، ومن غير تحريف لمعانيها، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل.
وسأكتفي بمثال واحد، ألا وهو قول الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
قال أهل التعطيل وأهل النفي للصفات، وعلى رأسهم جهم بن صفوان -عليه من الله ما يستحقه- قال: لو كان الأمر بيدي لحككتها من المصحف وجعلتها: (الرحمن على العرش استولى)! وذلك ليعطل صفة الاستواء.
وهذا فعل أسلافه اليهود، قال الله جل وعلا لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: قولوا: اللهم احطط عنا الخطايا والذنوب؛ {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة:58]، فأبوا إلا أن يحرفوا ويبدلوا، فبدلاً من أن يدخلوا سجداً اعترافاً بفضل الله جل وعلا، وشكراً لله عز وجل، دخلوا يزحفون على أستاههم، أي: على مقاعدهم، وهم يسخرون بقول الله: (حِطَّةٌ) ويقولون: حنطة، فزادوا النون كما زاد جهم اللام في (استوى) فقال: استولى! قال: لو كان الأمر بيدي لحككتها من المصحف وجعلتها: (الرحمن على العرش استولى)! ليلغي صفة الاستواء، ولكن أهل السنة والجماعة يقولون: استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواء منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته، والكرسي وعظمته، الكل محمول بقدرته، مقهور بجلال قبضته.
فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ونحن نؤمن بأسماء الكمال وصفات الجلال، ونمرها صريحة.
يقول الله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22]، فلا ينبغي أن نأول، وأن نتحذلق ونقول: المعنى: وجاءت قدرة ربك.
الله يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) هل أنت أعرف بالله من الله؟! هل أنت أعرف بالله من رسول الله؟! هو يقول: (وَجَاءَ رَبُّكَ) فنؤمن أنه يجيء مجيئاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].(17/24)
خطورة الإلحاد في الأسماء والصفات
لقد حذر الله تبارك وتعالى من القول بغير علم في مبحث الأسماء والصفات، فقال في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].
يقول صاحب معارج القبول: الإلحاد في الأسماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إلحاد المشركين، وهو الذي قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) أي: يشركون في أسمائه، فسموا اللات من الإله، وسموا العزى من العزيز.
القسم الثاني: إلحاد المشبهين، الذين شبهوا الله عز وجل في أسمائه وصفاته بالمخلوقين.
القسم الثالث: إلحاد النفاة الذين نفوا أسماء الله جل وعلا وصفاته.
وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: قسم أثبت لله جل وعلا الأسماء الحسنى، ونفى عن هذه الأسماء ما تضمنته من صفات.
القسم الثاني: قسم أنكر الأسماء والصفات، فكفر بالله عز وجل.
هذا بإيجاز معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله)؛ فإن قدر الله جل وعلا لنا اللقاء والبقاء، فسوف يكون حديثنا في اللقاء المقبل عن الشق الثاني لشهادة التوحيد.
أسأل الله جل وعلا أن يتوفانا وإياكم على التوحيد، وأن يجنبنا الشرك، وأن يختم لي ولكم بخاتمة الإيمان، إنه ولي ذلك ومولاه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(17/25)
صبر أيوب
يبتلى الناس على قدر إيمانهم، فأكثرهم بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
وإن من توفيق الله لأهل البلاء أن يوفقهم للصبر على البلاء وعدم التسخط، فإن التسخط على القضاء لا يرفع البلاء ولا يجبر المصيبة، وإنما يذهب الأجر ويجلب الوزر.
أما الصبر على المصيبة فإنه يجبر الكسر ويجلب الأجر.
وإن من أروع من سطر الصبر في التاريخ نبي الله أيوب عليه السلام، حتى إن الصبر لا يذكر -غالباً- إلا معه، فهو قدوة وأسوة في الصبر عليه السلام.
وما زال الصابرون يسطرون أروع الأمثلة على مر الزمان، وحتى في زماننا الحاضر، وذلك لأن أمر المؤمن كله له خير، فإن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر.(18/1)
نبي الله أيوب عليه السلام نموذج للصبر
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (رسالة إلى أصحاب الأَسِرَّة البيضاء) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، وسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: صبر أيوب.
ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة.
ثالثاً: رسالة إلى أصحاب الأَسِرَّة البيضاء.
وأخيراً: رسالة إلى أهل العافية من البلاء.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أولاً: صبر أيوب.
أحبتي في الله! إن الله جل وعلا قد جعل الصبر جواداً لا يكبو، وجنداً لا يهزم، وحصناً لا يهدم، وبين أن الصابرين في معيته، ويا لها من كرامة، فقال جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]، وبين فضل الصابرين وكرمهم فقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] , بل وجعل الله الإمامة في الدين منوطة بالصبر مع اليقين، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، بل وبين الله سبحانه كرامة الصابرين في الجنة بدخول الملائكة للسلام عليهم وتهنئتهم فقال جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، وبين جل وعلا بالجملة: أن أجر الصبر لا حدود له ولا منتهى، فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].(18/2)
تعريف الصبر وأقسامه
الصبر لغة: المنع والحبس.
والصبر شرعاً: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي.
وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على المأمور، أي: صبر على الطاعة، وصبر عن المحظور، أي: صبر عن المعصية، وصبر على المقدور، أي: على ما قدره الله عليك من المصائب والمحن والبلايا.
والصبر الجميل: هو الذي يبتغي به العبد وجه الله الجليل, لا تحرجاً من أجل ألا يقول الناس: جزع، ولا أملاً في أن يقول الناس: صَبَر، وإنما يصبر ويبتغي بصبره وجه الله جل وعلا، يصبر واثقاً بالله، مطمئناً بقضاء الله وقدر الله، مستعلياً على الألم، مترفعاً عن الشكوى.(18/3)
أنواع الشكوى
والتحقيق أن الشكوى نوعان: شكوى إلى الله، وشكوى من الله, أعاذنا الله وإياكم من الأخيرة.
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، فلقد مدح الله نبيه يعقوب، وأثبت له الصبر في قرآنه فقال حكاية عنه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ومع ذلك فقد رفع يعقوب شكواه إلى مولاه، فقال: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] وأثنى الله على عبده أيوب فقال جل وعلا: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] ومع ذلك فقد رفع نبي الله أيوب شكواه إلى الله كما قال الله جل في علاه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر.
أما الشكوى من الله -أعاذنا الله وإياكم منها- فهي شكوى للمخلوق من الخالق.
فإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم! وإذا ذكر الصبر ذكر نبي الله أيوب، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلقد ابتلى الله أيوب بماله وولده وبدنه: فقد المال كله! مات جميع أبنائه جملة واحدة! ابتلاه الله في جسده بمرض أقعده في الأرض وألزمه الفراش؛ فصبر، وامتلأ قلبه بالحب لله والرضا عن الله، ولم يسلم من بدنه البتة إلا قلبه ولسانه! أما قلبه: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما لسانه: فلم يفتر عن ذكر الله جل وعلا، وهذه والله هي الحياة، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)، فالذاكر لله حي وإن ماتت فيه الأعضاء، والقاعد عن ذكر الله ميت وإن تحرك بين الأحياء، لم يبق إلا لسانه وقلبه، أما القلب: فقد امتلأ بالحب لله والرضا عن الله، وأما اللسان: فلم يفتر عن ذكر مولاه، وفزعت زوجته الصابرة الوفية حينما قالت له: ادع الله أن يفرج كربك، فقال نبي الله أيوب: لقد عشت سبعين سنة وأنا صحيح، ولله عليَّ أن أصبر له سبعين سنة وأنا سقيم، ففزعت زوجته!(18/4)
دعا أيوب ربه فاستجاب الله دعاءه
واختلفت الأقوال في المدة التي مكثها نبي الله في البلاء، وأصح ما ورد من هذه الأقوال ما رواه الإمام الطبري، وابن حبان وابن أبي حاتم والبزار والحاكم في مستدركه وصححه على شرط الشيخين، وقال الهيثمي في المجمع: ورجال البزار رجال الصحيح.
من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن نبي الله أيوب مكث في بلائه ثماني عشرة سنة)، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من خواص أصحابه كانا يغدوان عليه ويروحان، فقال أحدهما للآخر في يوم من الأيام: والله إن أيوب قد أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: مرض ثماني عشرة سنة ولم يرحمه الله! إلى آخر الحديث، قال أهل التفسير: فلما سمع أيوب بذلك خشي الفتنة، فلجأ إلى الله تعالى بهذا الدعاء الحنون، الذي سجله الله في قرآنه فقال جل وعلا: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فأجاب الله دعاءه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ هل انتقل أيوب إلى إحدى المستشفيات الخاصة في الخارج أو في الداخل؟ كلا، إذاً: ما الذي حدث؟ أمر الله جل وعلا نبيه أيوب أن يضرب الأرض من تحت قدميه، فضرب أيوب المريض المسكين الأرض ضربة هينة بقدمه, ففجر الله له عيناً من الماء، وإذ بأيوب يسمع النداء من الملك: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] أمر الله أيوب أن يشرب فشرب أيوب من الماء فشفاه الله من جميع أمراضه الباطنة، وأمره أن يغتسل فاغتسل، فشفاه الله من جميع أمراضه الظاهرة، وصدق الله إذ يقول: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].
أيها المبتلى! كن عن همومك معرضاً ودع الأمور إلى القضا وانعم بطول سلامة تسليك عما قد مضى فلربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا الله يفعل ما يشاء فلا تكن متعرضا وقال آخر: قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا بل سائل الأعمى خطا وسط الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا وسل البصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا وسل الجنين يعيش معزولا بلا راع ومرعى من الذي يرعاكا وإذ ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث من الذي صفاكا {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] , {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] , {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فاغتسل نبي الله وشرب، فشفاه الله عز وجل وعافاه، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة (أمطر الله عز وجل عليه بعدما عافاه جراداً من ذهب، فقام نبي الله أيوب ليأخذ الجراد الذهبي من ربه العلي ليضعه في ثوبه، فنادى عليه ربه جل وعلا وقال: يا أيوب أما تشبع؟! فقال أيوب: ومن يشبع من رحمتك يا رب!)، وهكذا نجى الله أيوب ورفع الله عنه البلاء، بعد هذه السنوات الطوال من الصبر الصادق.
وأود قبل أن أنهي الحديث عن هذا العنصر أن أحذر من لا يجيدون السباحة في البحور الهائجة، ومن لا يجيدون النزال عند اقتحام الخطوب والأهوال، من أمثال هؤلاء الذين انساقوا وراء إسرائيليات خطيرة شحنت بها قصة أيوب، في كتب التفسير وكتب السير، فانساقوا ليرددوا هذا الكذب العريض، وأن الله قد ابتلى نبيه أيوب بالدود! وكانت كلما سقطت دودة من جسده انحنى عليها وردها إلى جسده مرة أخرى! وانبعثت منه رائحة كريهة نتنة! اشمأز الناس منها وانصرف الناس عنه! هذا كذب عريض، وكذب حقير خطير، يمتهن العقول السليمة والطباع الكريمة، التي تعلم يقيناً أن الله جل وعلا قد نزه أنبياءه ورسله عن مثل هذا.
فاعلم أيها المسلم! أن الله جل وعلا ما ابتلى نبيه أيوب بمثل هذه القاذورات، وإنما ابتلاه بمرض ألزمه الفراش وأقعده في الأرض، وفي هذا كفاية، لكن أين الصبر وأين الصابرون؟! أيها الحبيب الكريم! لا أريد أن أطيل في هذا العنصر، قال الله جل وعلا: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:42 - 43].(18/5)
صبر امرأة في زماننا المعاصر
ثانياً: قصة مثيرة لامرأة صابرة بالمنصورة: وهي التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع في هذه الجمعة، ولولا أنني وقفت على هذه القصة بنفسي, ورأيت هذه المرأة المسلمة الصابرة بعيني، لظننت أن قصتها ضرب من الخيال! امرأة من أمة الحبيب المصطفى تجسد لنا في قرننا العشرين صبر نبي الله أيوب! الحمد لله أن رأينا من أمة الحبيب من يحاكي صبر الأنبياء.
هذه المرأة تبدأ قصتها بميلادها في قرية بمركز المنصورة، وفي الثامنة عشرة تتزوج، وبعد سنتين تنجب طفلها الوحيد، الذي توفي في الرابعة من عمره، فتصبر وتحتسب، وفي عام سبعة وستين يهاجمها المرض، فتحس بآلام حادة في بطنها، فتنقل على الفور إلى المستشفى الجامعي بالمنصورة، ويشخص الأطباء المتخصصون الحالة بأنها امتداد في الأمعاء الدقيقة، ويقرر الأطباء للمريضة المسلمة الصابرة جراحة عاجلة؛ لاستئصال جزء من الأمعاء، وبعد الجراحة لم تشعر المرأة بتحسن، وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثانية؛ لاستئصال جزء آخر من الأمعاء! وبعد ستة أشهر قرر الأطباء جراحة ثالثة؛ لاستئصال جزء جديد من الأمعاء! وفي هذه المرة اكتشف الأطباء أن المرأة مصابة بمرض خطير مشهور ألا وهو مرض الدرن المعروف عالمياً، وهنا قرر الأطباء عدم التدخل الجراحي، واكتفى الأطباء بالعقاقير والحقن وتركوا أمرها لله جل وعلا، صبرت المرأة واستسلمت لقضاء الله جل وعلا، ونامت على سريرها الأبيض في آخر غرفة في القسم الرابع عشر باطني بمستشفى المنصورة، مستسلمة لقضاء الله وقدر الله جل وعلا، لا يفتر لسانها عن ذكر الله سبحانه وتعالى، ثم هاجمها المرض هجوماً عنيفاً بعد ذلك، فانتقل هذا المرض الخطير إلى الأمعاء الدقيقة كلها، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى كليتها اليمنى، ففشلت الكلية اليمنى تماماً، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى الرحم، فأصيب الرحم بهذا المرض، ثم انتقل المرض بعد ذلك إلى العظام، فنخر المرض العظام نخراً، وأصبحت العظام هشة متآكلة، ثم فقدت عينها اليسرى، فلم تعد ترى بعينها اليسرى تماماً، انظروا إلى هذه المراحل من مراحل الابتلاء! ومع كل مرحلة، إذا ما علمت من الطبيب المسلم ما ابتلاها الله به، تبتسم وتنظر إلى السماء، وتقول: الحمد لله! الحمد لله! جبل من جبال الصبر! منذ عام سبعة وستين لم تفارق سريرها في المستشفى الجامعي! وطلقها زوجها بعد ست سنوات من المرض، ومات ولدها الوحيد واحتسبته عند الله جل وعلا! انظروا إلى هذه المفاجأة العجيبة، انظروا إلى هذه المفاجأة الغريبة، ففي عام خمسة وثمانين وقبل موسم الحج سمعت شريطاً لأحد المحاضرين يتحدث منه عن الحج، فقررت قراراً عجيباً! قررت أن تحج بيت الله الحرام! ما هذا؟! وقالت للطبيب المختص: أريد أن أحج بيت الله! فابتسم وقال: كيف ذلك؟! قالت: لقد عزمت وتوكلت على الله، فهددها الأطباء بأنها لو فارقت سريرها ستعرض حياتها للخطر في التو واللحظة، فقالت بكل ثقة ويقين: أريد أن ألقى الله وأنا على طاعة الله، فقررت أن تلقى الله على طاعة، فباعت ما تملك من الأرض، وقررت حج بيت الله الحرام، واقترب منها طبيب تقي نقي، فحثها على ذلك، وسأل الله عز وجل لها الثبات، ولما تقرر السفر, وجيء بالسيارة التي ستحملها إلى الطائرة في القاهرة، وتقدم الأطباء لنزع الخراطيم من هذا الجسد النحيل الضئيل، فهي امرأة ما تعيش إلا بهذه الخراطيم، استغفر الله! بل لا تعيش إلا بأمر الملك رب العالمين.
فالخرطوم الأول: وظيفته توصيل المحاليل الغذائية؛ لأن المرأة لا تأكل منذ عام سبعة وستين، بل تعيش عبر هذه المحاليل الغذائية وعبر هذه الخراطيم! والخرطوم الثاني: للبول -أعزكم الله- عن طريق القسطرة.
والخرطوم الثالث: لأكياس الدماء التي يوصلونها إلى هذا البدن الضئيل.
والخرطوم الرابع: لإخراج الفضلات من الأمعاء الدقيقة عن طريق الأنف.
ووقف الأطباء ينتظرون لها الموت مع أول دقيقة ينزع فيها أول خرطوم، فنزعت الخراطيم، والمرأة تتحدث وتبتسم، وهي سعيدة أنها ذاهبة لحج بيت الله الحرام! وحملت في السيارة، ثم إلى الطيارة، وحملت في جميع مناسك الحج، وأدت فريضة الله جل وعلا بإعجاز الملك الذي يقول للشيء كن فيكون، وهي تحكي هذه القصة وتتعجب وتقول: ما أكلت شيئاً إلا عن طريق الفيتامينات، وعن طريق الأدوية، بل عن طريق فضل رب الأرض والسماوات جل وعلا.
وهي تحكي صورة الرحلة وتشكر الله الذي أعانها في هذه الحالة أن رأت بيته، وزارت ربها في بيته جل وعلا، وانطلقت إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي، ثم للسلام على الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم- وعادت مرة أخرى إلى سريرها، ونامت في فراشها على سريرها الأبيض، وطلبتني لزيارتها لأول مرة، فذهبت لأزورها مع بعض الأحبة، ووالله يا إخوة! ذهبت لأذكرها بالله فذكرتني هي بالله جل وعلا، وخرجت من عندها وقد احتقرت نفسي واحتقرت شأني، واحتقرت عملي لله جل وعلا! امرأة عجيبة لا يفتر لسانها عن ذكر الله، ولا يفتر لسانها عن الحمد والثناء على الله جل وعلا، وقبل الموت بأربعة أيام -وقد ماتت يوم الأربعاء الماضي، العاشر من شهر إبريل لعام ستة وتسعين- وطلبتني لزيارتها مرة أخيرة، فذهبت إليها مع بعض أحبابنا، ودخلت عليها وجلست إلى جوارها، وهي تبتسم في وجهي، وتقول: أين أنت؟! فأعتذر لها عن تأخري عنها، فقلت لها: كيف حالك؟ فقالت: الحمد لله، تحمد الله على هذه الحالة.
أما غرفتها فقد قسمت الغرفة بستارة إلى قسمين: فجعلت نصفها مسجداً لله جل وعلا، وجعلت النصف الآخر لسريرها، ووضعت إلى جنبها صندوقاً لجمع التبرعات، فمن أراد أن يتبرع لفقراء المرضى ممن يعجزون عن شراء الدواء فعل ذلك، ووضعت إلى جوارها مكتبة صغيرة للأشرطة مع التسجيل، فإذا ما دخل عليها طبيب أو ممرضة، أعارته شريطاً لمحاضر من المحاضرين! تدعو إلى الله وهي في هذه الحالة! إنها الحياة، هذه والله هي الحياة، فكم من أناس يتحدون الله بعافيته، كم من أناس يتحدون الله بنعمه، وهي التي سلب منها كل شيء, لا تغفل عن الدعوة إلى الله جل وعلا! تدعو إلى الله بالأشرطة، تدعو إلى الله بالصدقة، تدعو إلى الله بالإصلاح بين الأطباء وبين الطبيبات، تدعو إلى الله بالإصلاح بين المرضى، استثمرت حياتها كلها في طاعة الله جل وعلا، فلسانها ذاكر، وقلبها شاكر، وجسدها على البلاء صابر! ذهبت إليها قبل الموت بأربعة أيام، وجلست إلى جوارها، فقلت: كيف حالك؟ قالت: الحمد لله، فأثنيت عليها خيراً، فردت عليَّ وقالت: والله يا شيخ! أنا خائفة.
قلت: لماذا؟ قالت: أخشى أن لا يتقبل الله مني صبري طيلة هذه السنوات! ولكن ادع الله لي أن يرزقني حسن الخاتمة.
قلت: أبشري! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه: أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] ما أرخصها من حياة إن عشت لشهواتك ونزواتك! ما أرخصها من حياة يا من لا تعيش إلا من أجل متاع الدنيا الحقير! ما أرخصها من حياة يا من تعيش من أجل كرسيك الزائل ومنصبك الفارغ! وما أغلاها من حياة يا من بذلت وقتك كله لطاعة الله! ما أغلاها من حياة يا من استخدمت كل نعمة من نعم الله في مرضاته جل وعلا.(18/6)
رسالة إلى أصحاب الأَسِرّة البيضاء
وأوجه رسالة إلى أصحاب الأَسِرّة البيضاء، وهذا هو عنصرنا الثالث من عناصر هذا اللقاء.
أيها المسلمون المعتلون الصابرون! اصبروا وأبشروا، إن صبركم على البلاء لا يعلم جزاءه إلا رب الأرض والسماء، قال جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقد وعدك الله أيها المبتلى الصابر بأن يصلي عليك، وبأن يرحمك، وبأن يهديك، فقال سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156] انظروا إلى الجزاء: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] فضل الله جل وعلا عليك عظيم أيها المبتلى الصابر! يا من حبسك المرض على السرير الأبيض! يا من حبسك البلاء في أي موطن من أرض الله جل وعلا! أياً كان هذا البلاء، اصبروا وأبشروا، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، واعلموا أن الحياة الحقيقية هي: أن لا يغفل لسانكم عن ذكر علام الغيوب، وإن حبست فيكم الأعضاء والأبدان والقدمان واليدان.
وأبشروا بموعود الله وبموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي يحيى صهيب الرومي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
وأبشروا أيها المبتلون الصابرون! بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري وغيره قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، وفي الحديث الآخر: (ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما له خطيئة, وقد ابتلي المصطفى بالحمى، وانتفض جسد الحبيب من شدة حرارتها، ودخل عليه ابن مسعود -والحديث في الصحيحين- وقال ابن مسعود: (إني أراك توعك وعكاً شديداً يا رسول الله! فقال المصطفى: أجل يا عبد الله إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم) , فقال ابن مسعود: ذلك بأن لك لأجرين يا رسول الله؟ قال: (أجل، فما من مسلم يصيبه أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها) , المرض يحط عنك الخطايا أيها المسلم المبتلى الصابر! أيها المبتلى الصابر أبشر بحديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي رواه أحمد والترمذي وهو حديث حسن صحيح، من حديث مصعب بن سعد بن مالك عن أبيه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً زيد في البلاء، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه) , فالبلاء رحمة، إن صبرت عليه يكفر الله به عنك الخطايا أيها المبتلى المسلم الصابر! وأذكركم يا أصحاب الأسِرَّة البيضاء بهذا الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يتمنين أحدكم الموت لضر وقع به، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي).
وأختم لكم هذه الرسالة أيها المسلمون الصابرون! بهذه الكلمات الدقيقة لـ شداد بن أوس -رضي الله عنه- إذ يقول: (أيها الناس لا تتهموا الله في قضائه، فإنه لا يظلم أحداً، فإذا أنزل الله بك خيراً تحبه فاحمد الله على العافية، وإذا أنزل بك شيئاً تكرهه فاصبر واحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب).
أسأل الله جل وعلا أن يغفر لهذه المرأة المسلمة، وأن يتقبلها عنده في الشهداء، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أن من مات من المسلمين ببطنه فهو شهيد عند الله جل وعلا، والحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهداء فيكم؟) , قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، فقال المصطفى: (والله إن شهداء أمتي إذاً لقليل! من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات في بطن فهو شهيد) , وفي الحديث الصحيح: (ومن مات في غرق فهو شهيد) , وفي حديث صحيح: (ومن ماتت بجُمع -أي: ماتت المرأة وهي تضع ولدها، أو ماتت وهو في بطنها- فهي شهيدة) , هذا فضل الله جل وعلا، فأسأل الله أن يتقبلها عنده في الشهداء، وأسأل الله لجميع إخواننا وأخواتنا من أصحاب الأسِرَّة البيضاء، ممن ابتلاهم الله جلا وعلا بالأمراض والبلاء، أن يجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا أرحم الراحمين! اللهم أبدلهم لحماً خيراً من لحمهم، ودماً خيراً من دمهم، وأنزل عليهم رحمة عاجلةً من عندك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(18/7)
رسالة إلى أهل العافية من البلاء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وكل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فأختم هذا اللقاء برسالة أوجهها إلى أهل العافية من البلاء, أذكر نفسي وإياكم جميعاً، وأقول: اسجدوا لله شكراً على العافية بعد الإسلام، فإن الصحة تاج يتلألأ على رءوس الأصحاء لا يراه ولا يعرف قدره إلا المرضى! يا مَن مَنَّ الله عليك بالعافية بعد الإسلام! اسجد لربك شكراً على هذه النعمة، واعلم بأن نعم الله عليك بالعافية بعد الإيمان لا تعد ولا تحصى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] يا من تستغل العافية -وهي نعمة من نعم الله- في معصيته أما تستحي! أما تستحي بعد سماع هذا الموضوع! يا من استخدمت بصرك لتتبع العورات والحرام أما تستحي! تذكر من فقد بصره! يا من استخدمت سمعك في سماع الحرام أما تستحي! تذكر من فقد سمعه! يا من استخدمت يدك للبطش والظلم أما تستحي! تذكر من فقد يده! يا من استخدمت قدمك للسعي في معصية الله أما تستحي! تذكر من ألزمه المرض الفراش! يا من استخدمت منصبك وكرسيك الذي جلست عليه لظلم العباد، وللتسفيه والتحقير لخلق الله أما تستحي! تذكر ضعفك وفقرك وعجزك، فأنت مسكين وضعيف، ولولا أن الله -عز وجل- قد أطلق البدن للزمت الأرض وللزمت الفراش، فإياك أن يغرك مركزك، إياك أن يغرك منصبك، إياك أن يغرك جاهك ووجاهتك، فأنت ضعيف أيها المسكين! تحمل البصاق في فمك، وتحمل المخاط في أنفك، وتحمل العرق تحت إبطيك، وتحمل البول في مثانتك، وتحمل النجاسة في بطنك، وتمسح عن نفسك النجاسة بيدك كل يوم مرة أو مرتين! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] تذكر ضعفك يا من غرك جاهك! اعلم بأن الله عز وجل قادر على أن يسلبه منك، واعلم بأن كرسيك إلى زوال، وأن منصبك إلى فناء، إذ لو دام الكرسي الذي جلست عليه لأحد ما وصل إليك! فاعلم بأن الدنيا كلها إلى زوال، وبأن المناصب كلها إلى فناء.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوَّخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه في السلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وصدق الله إذ يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] تذكروا هذا يا أهل العافية.
وهناك من الناس من يظن أن الرزق هو المال، وينسى نعمة العافية، ونعمة الصحة، ونعمة الإسلام قبل ذلك.
النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكا لو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الطيب والكفن وقيل: دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع ولا تجمع من الحرام فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع واعلم بأن الشكر يدور على ثلاثة أركان: الاعتراف بالنعمة باطناً، والتحدث بالنعمة ظاهراً، واستغلال النعمة في طاعة الله جل وعلا، فالحمد باللسان والجنان، أما الشكر فباللسان والجنان والجوارح والأركان، قال الرحيم الرحمان: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] وفي الصحيحين من حديث عائشة: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال المصطفى: (أفلا أكون عبداً شكوراً) , فالشكر يدور على اللسان، وعلى الجنان، يعني: على القلب، وعلى الجوارح والأركان، فإن منَّ الله عليك بالعافية فاشكر الله عليها، والشكر لا يكون إلا باستغلالها في كل ما يرضيه، إن منَّ الله عليك بالأولاد فاشكر الله على هذه النعمة، ولا يكون الشكر إلا بتربية الأولاد على كتاب الله، وسنة الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من الله عليك بالزوجة فاشكر الله على هذه النعمة، واتق الله فيها وربِّها على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن منَّ الله عليك بمنصب أو كرسي فاشكر الله على هذه النعمة، وسخر الكرسي والمنصب في تفريج هموم الناس وكربات الناس، إن من الله عليك بالأموال فاشكر الله على هذه النعمة، واعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالبذل والعطاء والإنفاق، وهكذا إن منَّ الله عليك بالعلم فاعلم بأن الشكر لا يكون إلا بالتعليم والتحرك هنا وهناك للدعوة إلى الله جل وعلا.
الشكر يدور على اللسان والجنان والأركان، فاشكروا الله يا أهل العافية! واسألوا الله أن يثبتها وأن يديمها عليكم، وأن يعيننا وإياكم على شكرها، وأن يعيننا وإياكم على استغلالها فيما يرضيه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(18/8)
الدعاء للمرضى وزيارتهم واجب على أهل العافية
ومن رسالتي لأهل العافية: لا تبخلوا على إخوانكم المرضى بالزيارة والدعاء، فحق المرضى علينا: الزيارة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) , واسمع إلى هذا الحديث الجميل الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: عبدي! مرضت فلم تعدني! فيقول العبد: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله جل وعلا: لقد مرض عبدي فلان، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟! يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني! فيقول العبد: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله عز وجل: لقد استطعمك عبدي فلان، أما علمت بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟! يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني؟! فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله جل وعلا: لقد استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟!) , فمن حق المرضى علينا -نحن أهل العافية- أن نزورهم، وأن ندخل عليهم السعادة والبسمة والسرور، وأن ننفس لهم في الأجل، وأن نكثر لهم من الدعاء.
وأخيراً: أيها الأحبة الكرام! جددوا التوبة والأوبة، وتذكروا أن الحياة الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أسفاركم عند من يعلم أسراركم، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] أقبلوا إلى الله، وعودوا إلى الله.
أيها الشباب! يا من استخدمتم نعمة العافية في معصية الله! أيها الرجال! أيها الشيبان! أيتها المسلمات! فلنعد جميعاً إلى الله سبحانه، ونحن على ثقة في رحمة الله، ونحن على يقين بكرم الله وعفو الله، قال جل في علاه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
اسأل الله أن يقينا وإياكم حرَّ جهنم، وأن يجعل هذه الدقائق في موازين حسناتنا جميعاً يوم نلقاه، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اجعل شفاءهم سهلاً ميسوراً يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم رحمة من عندك، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنَّا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم عليك باليهود وأتباعهم يا رب العالمين! اللهم جمِّد الدماء في عروق اليهود يا قوي يا عزيز! اللهم كما أفزع اليهود إخواننا في لبنان فاملأ قلوبهم وبيوتهم رعباً وفزعاً يا قوي يا عزيز! اللهم إنا نشكوا إليك خيانة الخائنين، وإجرام المجرمين، وتكاسل الزعماء والقادة، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم عليك باليهود وأتباع اليهود، اللهم شتت شملهم، اللهم مزِّق صفهم، اللهم املأ بيوتهم وقلوبهم رعباً وفزعاً يا رب العالمين! اللهم ثبت إخواننا اللبنانيين، وإخواننا المسلمين المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/9)
الاستقامة على الطاعة بعد رمضان
الاستقامة على الطاعة نعمة عظيمة جزاؤها الجنة، ولما كان الإنسان لا يدري متى يأتيه الموت، وجب عليه أن يستمر على الطاعة طوال عمره، حتى يكون مستعداً للقاء الله في أي لحظة، وكثير من الناس يستقيم على الطاعة في رمضان، ثم يترك بعد رمضان، وكأنه يعبد رمضان ولا يعبد الله، أو كأن رب رمضان غير رب الشهور الأخرى، وهذه غفلة عظيمة يجب على كل مسلم أن يتداركها ويصلح حاله مع الله.(19/1)
توديع لرمضان
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وإليك خاصمنا، وعليك توكلنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر اللهم لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله لنا إلا أنت! وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] هو الأول الذي لا شيء قبله، وهو الآخر الذي لا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
إلهي وسيدي ومولاي!! لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبت أشكو إلى مولاي ما أجد فقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مدت إليه يد فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين؛ أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين ومن عتقائه من النار في رمضان، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله: وهكذا قد انتهى رمضان، ومضى شهر الصيام والقيام والقرآن، وودعنا شهر البر والجود والإحسان، وقد ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر، وقبل فيه من قبل، وطرد فيه من طرد، فيا ليت شعري من المقبول منا في رمضان فنهنيه، ويا ليت شعري من المطرود منا في رمضان فنعزيه! فيا عين جودي بالدموع على فراق ليال ذات أنوار على ليال لشهر الصوم ما جعلت إلا لتمحيص آثام وأوزار ما كان أحسننا والجمع مشتمل منا المصلي ومنا القانت القاري فابكوا ليالٍ قد مضت واغتنموا ما قد بقى من فضل أعمار(19/2)
الحث على الاستقامة بعد رمضان
أيها الأحبة في الله: لقد رأينا المساجد معطرة في رمضان بأنفاس الصائمين، وشهدنا المساجد عامرة في رمضان بصفوف المصلين، وسمعنا للمساجد في رمضان دوياً بكتاب رب العالمين، وأسعد قلوبنا في رمضان تسابق أهل البر والجود من المحسنين، ولكن مما يؤلم القلب ويحزن النفس ويدمي العين، أن نرى المساجد بعد رمضان مباشرة خالية خاوية تشتكي حالها إلى الله جل وعلا، وأن نعرض إعراضاً عن كثير من الطاعات والعبادات التي افترضها علينا رب الأرض والسماوات، وكأن الناس في رمضان يصلون لرب، ويقرءون القرآن لرب، ويعتكفون في المساجد لرب، ويتسابقون في أصناف البر والجود لرب، فإذا ما انتهى شهر رمضان وجاءت الشهور الأخرى كأن لهذه الشهور ربّاً غير رب رمضان والعياذ بالله.
إن رب رمضان هو رب بقية الشهور: (يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت)، نرى المساجد بعد رمضان خالية تشتكي حالها إلى الله جل وعلا! أين المصلون أين الصائمون أين القائمون والتالون لكتاب رب العالمين أين المحسنون وأين المنفقون بعد رمضان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون؟(19/3)
من عاش على شيء مات عليه
أيها الحبيب! استقم على الطاعة فإنك لا تدري متى سيأتيك ملك الموت: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه، وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
فيا من عشت على الطاعة، ويا من عشت على التوحيد، اعلم بأنك ستموت على الطاعة والتوحيد، وستبعث يوم القيامة على الطاعة والتوحيد، وقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فوالله الذي لا إله غيره! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون يبنه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلا تغرنك الطاعة يا عبد الله، فبادر إلى الطاعة والاستقامة عليها، لأنك لا تدري متى سيأتيك ملك الموت، واعلم أن كل عبد يبعث على ما مات عليه، ووالله لقد مزق الخوف من سوء الخاتمة قلوب الصادقين من الموحدين، فقد كان سلفنا الصالح يخافون من سوء الخاتمة، حتى قال أحدهم: أخاف أن يسلب مني الإيمان وأنا على فراش الموت: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
وكان مالك بن دينار يقوم في الليل البهيم الأسود، ويقبض على لحيته ويبكي، ثم ينظر إلى السماء ويقول: يا رب! لقد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار.(19/4)
الاستقامة أصل السعادة
أخي! (قل: آمنت بالله ثم استقم) قل ربي الله ثم استقم ولا تضيع الصلوات، ولا تترك القراءة في كتاب رب الأرض والسماوات، ولا تنتقل عن الاستغفار والذكر والعبادة والطاعات.
عباد الله: إن الاستقامة على الطاعة أصل السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه القيم (جامع العلوم والحكم): وأصل الاستقامة استقامة القلب على توحيد الله جل وعلا، فإذا استقام القلب على توحيد الله استقامت الجوارح كلها على الطاعة، لأن القلب هو الملك، ولأن الأعضاء والجوارح هي جنوده ورعاياه، فإذا صلح هذا الملك صلحت الجنود والرعايا، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فأصل الصلاح هو القلب، ومحط الاستقامة هو القلب، فإذا استقام القلب استقامت الجوارح، وإذا طهر القلب وأشرق فيه مصباح التوحيد استقامت الجوارح كلها على طاعة العزيز الحميد، وإذا كان القلب في أغلفة تلو الأغلفة كفر بربه، وكفرت الجوارح بربها والعياذ بالله، وإذا نكس القلب عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي نافقت الجوارح الناس، وتناست رب الناس الذي يعلم السر وأخفى.(19/5)
الأعمال بالخواتيم
أيها المسلمون! إن الاستقامة على الطاعة أمر ضروري: (قل آمنت بالله ثم استقم) فيا من أطعت الله في رمضان، إياك أن تحيد عن طاعة الله في غير رمضان، فإن الاستقامة على الطاعة أصل السعادة في الدنيا والآخرة! يا من صمت نهار رمضان، وقمت الليل وعشت مع القرآن، وتسابقت في أوجه البر والخير والجود والإحسان، وستنفصل عن الطاعة بعد رمضان؛ هل ضمنت متى سيأتيك ملك الموت؟ هل سيأتيك ملك الموت على طاعة أم سيأتيك على معصية؟ أخي: لا يغرنك العمل، فإن العبرة بالخواتيم، ووالله إن أشد الخوف من سوء الخاتمة الذي أفزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي فطر قلبه على توحيد الله ولانت جوارحه وانقادت لطاعة الله، فكان يكثر في دعائه من قول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، فقالت له أم سلمة -والحديث في مسند الإمام أحمد بسند حسن-: (يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟ قال: ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء الله أقامه وإن شاء الله أزاغه).
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه سلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، كقلب واحد يصرفه الله حيث يشاء، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)، فهذا دعاء من فطر قلبه على توحيد الله دعاء من لانت وانقادت جوارحه في الليل والنهار لطاعة الله، بل ووالله لقد كانت عيناه تنام ولا ينام قلبه عن ذكر خالقه جل وعلا، يقوم يدعو الله ويناجيه ويقول: (اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك).(19/6)
رب رمضان هو رب الشهور كلها
إن رب رمضان هو رب شوال، وهو رب الشهور كلها، فينبغي أن نطيعه في كل لحظة وفي كل أوان وفي كل زمان، لأن من أعظم القربات والطاعات إلى الله جل وعلا: المداومة على الأعمال والطاعات وإن قلَّت، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل).
فيا من جعلت لنفسك ورداً يومياً وليلياً مع كتاب الله! ويا من جعلت لنفسك ساعة يومية مع الاستغفار والذكر والصلاة والسلام على رسول الله! ويا من جعلت لنفسك تسابقاً في أوجه البر والخير والطاعات في رمضان! ويا من حرصت كل الحرص على أن تؤدي الصلاة في بيوت الرحيم الرحمن؛ اعلم أن من أحب القربات إلى الله أن تداوم على هذه الطاعات وأن تستمر على هذه الأعمال، فإن أحب الأعمال إلى الله جل وعلا أدومها وإن قل، ومن ثم لما جاء الصحابي الجليل سفيان بن عبد الله رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً جامعاً في أمر دينه، فقدم له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الوصية الغالية التي ينبغي أن نضعها اليوم في قلوبنا، وأن نغمض عليها أجفاننا، وأن نحولها إلى واقع عملي متحرك مضبوط.
قال له سفيان: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟)، فلخص له الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أمر السعادة في الدنيا والآخرة في كلمتين اثنتين، فأعيروني القلوب والأسماع، فهي وصية رسول الله لنا لنسعد في الدنيا والآخرة: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: قل آمنت بالله ثم استقم)، وهذا لفظ مسلم، ولفظ الترمذي بسند حسن صحيح: (قال سفيان: يا رسول الله! حدثني بأمر أعتصم به، فقال صلى الله عليه وسلم: قل ربي الله ثم استقم، قال سفيان: فما أخوف ما تخاف علي يا رسول الله؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه ثم قال صلى الله عليه وسلم: أخوف ما أخاف عليك هذا).(19/7)
أقسام القلوب
القلوب تنقسم إلى أربعة أقسام، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الطبراني في معجمه الصغير، وأبو نعيم في الحلية، إلا أن من علمائنا الكبار من ضعف هذا الحديث كالإمام الذهبي والإمام الهيثمي، ومدار تضعيفهم لهذا الحديث على الليث بن أبي سليم وهو متكلم فيه، إلا أن حديثه لا يرد كما قال الإمام أحمد، لذا فإن الحديث حسن إن شاء الله تعالى، يقول حذيفة: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، -نسأل الله أن يجعلنا إياكم من هؤلاء- وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما، فتارة تراه في وسط القلوب المؤمنة، وتارة تراه في وسط القلوب المنافقة، وهذا يخشى عليه والعياذ بالله، أنه لا يدري متى سيأتيه ملك الموت، هل سيأتيه وقلبه في جانب أهل الإيمان، أم سيأتيه وقلبه في جانب أهل النفاق.
القلب الأول: هو القلب الذي أشرق فيه مصباح التوحيد، وأنار فيه مصباح الإيمان، وذلك هو القلب السليم الذي سلم من الشرك وسلم من الشك، وسلم من الغل والحقد، وسلم من الحسد، وسلم من الشهوات والشبهات، فانقادت له الجوارح بالطاعة لرب الأرض والسموات، ذلك القلب صاحبه في جنة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة في الآخرة، وذلكم هو القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].(19/8)
شروط سلامة القلب
إن القلب لا يسلم إلا بشروط خمسة، تعرف عليها اليوم لتتعرف على سلامة قلبك، وأين يقع قلبك بين هذه القلوب الأربعة.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ولا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء.
تلك هي أركان سلامة القلب، وتلك هي شروط صحته وطهارته ونقائه واستقامته، لتستقيم الجوارح بعده على طاعة الله جل وعلا: يقول: لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، ومن غفلة تناقض الذكرى، ومن شهوة تناقض الأمر، ومن هوى يناقض الإخلاص.
تلك هي شروط سلامة القلب، وتلك هي أركان صحة القلب.(19/9)
سلامة القلب من الشهوة
عبد الله! ولا يسلم القلب حتى يسلم من شهوة تناقض الأمر: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، هذا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصداقاً لقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(19/10)
سلامة القلب من الهوى
أما الشرط الخامس من شروط سلامة القلب فهو: ولا يسلم القلب حتى يسلم من هوى يناقض الإخلاص، فإن الهوى قد يدمر القلوب، ويبعثر الأعمال، والله جل وعلا لا يقبل الأعمال إلا إذا كانت خالصة، وفي الصحيحين من حديث أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار ويقولون: ما لك يا فلان، ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه) ذلكم هو الهوى، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال.
وهكذا أيها الأحبة! لا يستقيم القلب إلا إذا استقام على التوحيد، ولا تستقيم الجوارح على الطاعة إلا إذا استقام القلب على توحيد الله جل وعلا، وحتماً لا تستقيم الجوارح على طاعة الله إلا بعد استقامة القلب (قل آمنت بالله ثم استقم).
أخي الحبيب! أذكر نفسي وإياك بالاستقامة على طاعة الله جل وعلا بعد رمضان، حتى يأتينا ملك الموت ونحن على الطاعة، فإن الله تعالى قد أجرى عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أسأل الله جل وعلا أن يتوفاني وإياكم على التوحيد والإيمان، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(19/11)
سلامة القلب من البدعة
عباد الله! لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، واعلم يا عبد الله أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً، والخالص هو ما ابتغي به وجه الله، والصواب هو ما كان موافقاً لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] فلا بد من إخلاص العمل لله، ولو أخلصت عملك وعبادتك وصلاتك وزكاتك وصيامك وحجك وإنفاقك وصدقتك، وأنت غير متبع للحبيب صلى الله عليه وسلم فأنت مبتدع، وعملك مردود على رأسك، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
أحذر نفسي وإياك من الابتداع فـ: كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف(19/12)
سلامة القلب من الغفلة
أخي الحبيب! لا يسلم القلب حتى يسلم من غفلة تناقض الذكر وهذا هو الشرط الثالث من شروط سلامة القلب، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة)، فلا يسلم القلب حتى يسلم من غفلة تناقض الذكر.(19/13)
سلامة القلب من الشرك
لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، لأن أظلم الظلم وأقبح القبح وأجهل الجهل في هذه الدنيا هو الشرك، وما عصي الله جل وعلا على ظهر هذه الأرض بذنب أعظم وأقبح من الشرك والعياذ بالله! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه مسلم: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وفي الحديث الذي رواه مسلم والترمذي من حديث أنس وهذا لفظ الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).
إن أعظم ذنب يرتكب على ظهر الأرض هو الشرك بالله، ووالله ما أخر الله النصر عن الأمة إلا لأن من أبناء الأمة من لا يزال متلبساً بالشرك والعياذ بالله، فمن الأمة من يعتقد اليوم أن للكون أقطاباً وأوتاداً وأبداناً تسير الأمر وتصرف شئون الكون، والله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154].
ومن أبناء الأمة من يذبح لغير الله ومنهم من ينذر لغير الله ويطوف بقبور الأنبياء والأولياء، والله أمر أن يكون الطواف لبيته جل وعلا.
ومن الأمة من يستغيث بغير الله، ومنهم من يستعين بغير الله، ومنهم من يسأل غير الله، ومنهم من يحلف بغير الله، ومنهم من يحكم في الأمة غير شرع الله، وغير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالله لن تأتي النصرة إلا إذا صححت الأمة توحيدها، وأخلصت إيمانها، وصفت عقيدتها لربها جل وعلا: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
إن حق الله على الأمة وعلى الناس جميعاً أن يعبدوه وحده، وأن يخلصوا له العبادة وحده، قال معاذ بن جبل، والحديث في الصحيحين: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً،)، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فلا تصرف العبادة بركنيها من كمال حب وكمال ذل، وبشرطيها من إخلاص واتباع؛ إلا لله جل وعلا.
(حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: أتدري ما حق العباد على الله؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال معاذ: أفلا أبشر الناس يا رسول الله؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا).
وفي الصحيحين من حديث عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله جل وعلا).
وكلمة التوحيد ليست كلمة ترددها الألسنة فحسب، فإن مما يؤلم النفوس ويفزع القلوب أن نردد كلمة التوحيد في الليل والنهار، ونحن لا نقف عند أوامرها ونواهيها ولا عند حدودها، ونعتقد أن كلمة التوحيد كلمة تقال باللسان وتلوكها الألسنة في الليل والنهار، دخاناً يطير في الهواء لا قيمة له، ووالله لقد ردد المنافقون كلمة التوحيد في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نفعتهم في الآخرة، وإن كانت نفعتهم كلمة التوحيد في الدنيا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].
فلابد أن نحول كلمة التوحيد إلى واقع عملي، وإلى مجتمع متحرك منظور، لأن الفكر الإرجائي قد دمر الأمة تدميراً، (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)، ولكن ليست كلمة باللسان بدون واقع، وبدون عمل وانقياد وامتثال لأمرها، ونواهيها، وبدون وقوف عند حدودها، كلا، فإن هذه الأحاديث المطلقة على هذه الشاكلة قد وردت أحاديث كثيرة تقيدها، والقاعدة الأصولية تقول: (يحمل المطلق على المقيد)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما ذكرت آنفاً في رواية عتبان في الصحيحين: (فمن قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله)، (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) (من قال لا إلا الله صدقاً من قلبه) (من قال لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه).
فكلمة التوحيد ليست كلمة تقال باللسان، وإنما الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، ورحم الله الحسن حيث يقول: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، فمن قال خيراً وعمل خيراً قبل منه، ومن قال خيراً وعمل شراً لم يقبل منه.(19/14)
جزاء الاستقامة على الطاعة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيأيها الأحبة: أختم اللقاء بسؤال خطير وهام، ألا وهو: ما جزاء الاستقامة على الطاعة؟ ما جزاء من يطيع الله جل وعلا ويستقيم على طاعة الله عز وجل؟ لقد جاء بيان الجزاء في جواب بين جلي من الله العلي الأعلى جل وعلا، حيث يقول سبحانه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] هل قالوها كلمة تلوكها الألسنة دخاناً في الهواء؟ كلا، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] ما جزاؤهم؟ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
يا له من فضل، ويا لها والله من بشارة لا تقوم لها الدنيا بما فيها: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} [فصلت:30] وفي وقت تنزل الملائكة على أهل الاستقامة قولان: القول الأول قاله مجاهد والسدي وزيد بن أسلم: أن الملائكة تتنزل على أهل الاستقامة على فراش الموت.
الله أكبر! في وقت السكرة وقت الكربات وقت الأهوال وقت الفزع وقت الضيق، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحضر الملائكة -أي عند الموت- فإذا كان الرجل صالحاً قالت الملائكة: اخرجي أيتها النفس الطيبة، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راض عنك غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج) تُبشَّر من الملائكة وأنت على فراش الموت، يا من أطعت الله واستقمت على طاعة الله.
أما الوقت الثاني الذي تتنزل فيه الملائكة على أهل الاستقامة، وقاله ابن عباس وابن أبي حاتم وغيرهما، قال: تتنزل الملائكة على أهل الاستقامة عند الخروج من القبور يوم البعث والنشور.
تتنزل لهم بهذه البشارة في يوم الأهوال يوم الفزع يوم الكرب يوم الفضائح والعياذ بالله، يخرج أهل الاستقامة من القبور فتتنزل عليهم ملائكة العزيز الغفور بهذه البشارة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا} [فصلت:30 - 32] أي: ضيافة وإنعاماً وإكراماً وإحساناً، من رب غفور لكم رحيم بكم، غفر لكم الذنوب وستر لكم العيوب ولطف بكم اليوم في يوم الأهوال والكروب.
{نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32].
هذا هو جزاء الاستقامة أيها الأحباب.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ قلوبنا وإياكم بطاعته، وأن يصرف قلوبنا وإياكم على طاعته.
اللهم مصرف القلوب والأبصار صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، نقر لك بذنوبنا، ونعترف لك بجرمنا، ونعترف لك بضعفنا وعجزنا، فاللهم اغفر ذنبنا، واستر عيبنا، واجبر كسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، ولا تجعل الحياة هي همنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا.(19/15)
وجاءت سكرة الموت بالحق
ذكر الشيخ حفظه الله الحقيقة الكبرى الغائبة عن أذهان الكثير من الناس وهي الموت، ذاكراً سكراته وحال المحتضر، ومذكراً العاصي بالموت ولقاء الله تعالى.(20/1)
الحقيقة الكبرى
الحمد لله رب العالمين، الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، لذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره.
وأشهد أن حبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: حياكم الله جميعاً، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن ينضر وجوهكم، وأن يزكي نفوسكم، وأن يشرح صدوركم، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع خير الدعاة وإمام النبيين وسيد المرسلين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
أحبائي يا ملء الفؤاد تحية تجوز إليكم كل سدٍ وعائق
لقد شدني والله شوق إليكم مكلل بالحب والدعاء المشفق
وأرقني في المظلمات عليكم تكالب أعداء سعوا بالبوائق
أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما طلبوا إلا حقير المآزق
فسدد الله على درب الحق خطاكم وجنبكم فيه خفي المزالق
أيها الأحبة في الله! تلبية لرغبة الكثيرين من أحبابي وإخواني، فإننا الليلة على موعدٍ مع محاضرة أخيرة في الرقائق، والحق أقول: إننا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وغفل كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات، لذا فإني أرى مع الإخوة الذين ألحوا عليَّ في أن يكون لقاؤنا الليلة في الرقائق أرى معهم بأن القلوب تصدأ، وبأن هذه القلوب تحتاج من آن لآخر إلى من يذكرها بعلام الغيوب، فتعالوا بنا الليلة لنعيش مع كلام الحق مع قول الصدق مع أصل العز والشرف مع نبع الكرامة والهدى مع القرآن الكريم، مع القرآن الذي ضيعته الأمة فضاعت، مع القرآن الذي هجرته الأمة فأذلها الله لليهود إخوان القردة والخنازير، مع القرآن الذي ظنت الأمة أنه ما أنزل إلا ليكتب على الجدران أو ليوضع في علب القطيفة الضخمة الفخمة لتهدى لسادة القوم وعلية الناس في المناسبات الرسمية والوطنية وغيرها.
تعالوا لنعيش الليلة مع آيات من القرآن الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإسراء:9 - 10] وإننا سنعيش الليلة مع هذه الآيات التي استمعنا إليها في صلاة المغرب من سورة ق، فأعيروني القلوب والأسماع أيها الأخيار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22] وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أنك تموت والله حي لا يموت، وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وجاءت سكرة الموت بالحق والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، ذلك ما كنت منه تجري، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ، ولكن أيها القوي الفتي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الوزير! ويا أيها الأمير! ويا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! اعلم! كل باكٍ فسيبكى كل ناعٍ فسينعى كل مخلوق سيفنى كل مذكور سينسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مدى الزمان والمكان في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، ورأس كل طاغوت، أن البقاء لله الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة الكبرى التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة الكبرى التي تسربل بها العصاة والطائعون بل والأنبياء والمرسلون طوعاً أو كرهاً، إنها الحقيقة التي أمرنا حبيبنا ونبينا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد صلى الله عليه وسلم أن نذكرها ولا ننساها كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسندٍ حسن من حديث فاروق الأمة عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات -وفي لفظ- أكثروا من ذكر هاذم اللذات، قيل: وما هاذم اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت) إنه الموت.(20/2)
أيها العاصي تذكر الموت
أيها الأحباب! يا من عشت للدنيا! يا من عشت للكرسي الزائل! يا من عشت للمنصب الفاني! يا من ظننت أن كرسيك لا يزول! ويا من ظننت أن منصبك لا يفنى! أين الحبيب رسول الله؟ أين سيد الخلق؟ أين حبيب الحق؟ أين من قال له ربه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]؟
أيا عبد كم يراك الله عاصيا حريصا على الدنيا وللموت ناسيا
أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا
ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا
ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا
كم ستعيش؟ إن عمرك في حساب الزمن لحظات وما هي النتيجة؟ وما هي النهاية؟ يا أيها الإنسان! يا أيها الكبير! ويا أيها الصغير! {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
ويفتح سجلك يا مسكين! ويفتح ملفك يا غافل! وإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] سمع الأذان وسمع النداء يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح وهو مازال جالساً في المقهى على معصية لله جل وعلا لم يجب نداء الحق جل جلاله.
وتأتي للصلاة على فتورٍ كأنك قد دعيت إلى البلاء
وإن أديتها جاءت بنقصٍ لما قد كان من شرك الرياء
وإن تخلو عن الإشراك فيها تدبر للإمور بالارتقاء
ويا ليت التدبر في مباح ولكن في المشقة والشقاء
وإن كنت المصلي بين خلق أطلت ركوعها بالانحناء
وتعجل خوف تأخير لشغلٍ كأن الشغل أولى باللقاء
وإن كان المجالس فيه أنثى قطعت الوقت من غير اكتفاء
ألا يساوي الله معك أنثى تناجيه بحب أو صفاء
يا غافلاً لاهياً! يا ساهياً يا من نسيت حقيقة الدنيا ونسيت الآخرة! يا من تركت الصلاة! يا من ضيعت حقوق الله! يا من عذبت الموحدين لله! يا من بارزت رسول الله بالمعصية! يا من عق أباه! يا من عق أمه! يا من قطع رحمه! يا من ضيع حقوق الله!
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسها الملكان حين نسيتهم بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب
والروح منك وديعة أودعتها فتردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيهما تعد وتحسب(20/3)
(كلا إذا بلغت التراقي)
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] أي: إذا بلغت الروح الترقوة والحلقوم {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من الذي سيرقيه؟ من الذي سيبذل له الرقية؟ من الذي سيبذل له العلاج؟ وهو من هو؟ هو الملك، هو الحاكم، هو الوزير، هو الأمير، صاحب الجاه، صاحب المنصب، صاحب السلطان، يقول هو ومن حوله: أحضروا الأطباء أحضروا الطائرة الخاصة لتنقله على الفور إلى أكبر المستشفيات وأكبر الأطباء.
ولكن إذا اقتربت ساعة الصفر وانتهى الأجل، لا تستطيع قوة على ظهر الأرض ولا يستطيع أهل الأرض ولو تحولوا جميعاً إلى أطباء أن يحولوا بينك وبين ما أراد رب الأرض والسماء: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
انظر إليه والأطباء من حول رأسه، وقد حانت ساعة الصفر فاصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس، يزحف إلى أنامل يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا يريد أن يتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بكلمة التوحيد، فينظر وهو بين السكرات والكربات إلى الأطباء من حول رأسه، وينظر إلى زوجته وأولاده إلى أحبابه إلى إخوانه نظرة استعطاف، نظرة رجاء، نظرة أمل، نظرة تمنٍ، وهو يقول لهم بلسان الحال بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا أولادي! أنا أخوكم، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي بنيت القصور، وأنا الذي عمرت الدور، وأنا الذي نميت التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب الأكاسرة! سبحانك! يا من أذللت بالموت رقاب القياصرة! فنقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن رغد المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانك: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96].
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من يرقيه؟ من يبذل له الرقية؟ من يقدم له العلاج؟ من يحول بينه وبين الموت؟ لا أحد.
{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] تفسير آخر: من يرتقي بروحه بعدما فارقت جسده إلى الله جل وعلا، {مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] من الذي سيرتقي بها من الملائكة {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30].(20/4)
مرارة الرحيل
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وحملوني على الأكتاف أربعةٌ من الرجال وخلفي من يشيعني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليَّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني
فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني
وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني
يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم
تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب
وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت ما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم
فكم تَسدَرُ في السهو وتختال من الزهو
وتنصب إلى اللهو كأن الموت ما عم
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط
وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود
إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير
وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم
لذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتىً راح بآداب محمد يأتم(20/5)
ماذا بعد الموت؟
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالموت حق -أيها الأحبة- وليت الأمر يتوقف عند الموت لاسترحنا كثيراً ولكن بعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، وفي الحساب سؤال، والسؤال بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، إن الموت حقيقة لا تنكر.
ورحم الله الفضيل بن عياض إذ لقيه رجل فسأله الفضيل عن عمره.
فقال الرجل: عمري ستون سنة.
قال الفضيل: إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله يوشك أن تصل.
فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! قال الفضيل: هل عرفت معناها؟ قال: نعم.
عرفت أني لله عبد وأني إلى الله راجع.
فقال الفضيل: يا أخي إن من عرف أنه لله عبد وأنه إلى الله راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً.
فبكى الرجل وقال: يا فضيل وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة.
قال: ما هي يرحمك الله؟ قال: أن تتق الله فيما بقى يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقى.
ورضي الله عن هارون الرشيد الذي يوم أن نام على فراش موته قال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، وحملوا هارون إلى قبره - هارون الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إليَّ خراجك هاهنا إن شاء الله- حمل ليرى قبره ونظر هارون إلى قبره وبكى ثم التفت إلى أحبابه من حوله وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] أين المال؟ أين الدولارات؟ أين السيارات؟ أين العمارات؟ أين الأراضي؟ أين السلطان؟ أين الجاه؟ أين الوزارة؟ أين الإمارة؟ أين الجند؟ أين الحرس؟ أين الكرسي الزائل؟ أين المنصب الفاني؟ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] وبكى هارون وارتفع صوته ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] أين الفراعنة؟ أين الأكاسرة؟ أين القياصرة؟ أين الظالمون؟ أين الطواغيت؟ أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان
هل غادر الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان سلطان
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا أنس ولا جان
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بمنزلٍ ينسى الخليل به الخليل
وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل
قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل
من الباقي؟ إنه الحي الذي لا يموت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].(20/6)
يوم العرض على الله
فيا أيها الحبيب! يا أيها الكريم! هل ذكرت نفسك بهذه الحقيقة؟ هل تذكرت الموت؟ هل أعددت ليومٍ سترحل فيه عن هذه الدنيا؟ من منا كتب وصيته ووضعها تحت رأسه في كل ليلة؟ يا من شغلك طول الأمل! أنسيت يوماً سترحل فيه عن دنياك لتقف بين يدي مولاك.
وليس الموت هو نهاية المطاف، ولكنني -كما ذكرت- سنبعث لنسأل بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، سنعرض على هذه المحكمة الكبرى التي قال الله عز وجل عنها: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] فينادى عليك باسمك واسم أبيك أين فلان بن فلان؟ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] إنه يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الصيحة، يوم الحاقة، يوم القارعة، يوم الآزفة، إنه يوم {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] إنه يوم الوعيد يوم يؤتى بملكين: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21]، قال الحافظ ابن كثير قال عثمان في خطبته: سائق يسوق العبد إلى الله، وشهيد يشهد على أعمال العبد بين يدي مولاه، ستساق إلى الله جل وعلا، وسينادى عليك يا مسكين ليكلمك ملك الملوك بغير ترجمان.
تفكر الليلة لو عدت إلى بلدك ووجدت شرطياً يقدم لك رسالة ويقول: إنك مطلوب غداً للوقوف أمام قاضٍ من قضاة الدنيا، الفقراء الضعفاء الأذلاء لن تذوق عينك النوم الليلة، ستفكر! فهل فكرت في موقف ستسأل فيه من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض؟
مثل وقوفك يوم الحشر عرياناً
أين الإمارة والسلطان؟ أين الجاه؟ أين الكراسي؟ أين الجند؟
مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كان
لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا
وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه -عن يمينه- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه -عن شماله- فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
اتقوا النار فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21].
اللهم حرم جلودنا عن النار، ووجوهنا على النار، وأبصارنا على النار، اللهم إنا ضعاف لا نقوى عليها فنجنا، اللهم أدخلنا الجنة مع الأبرار، برحمة منك يا عزيز يا غفار! (اتقوا النار ولو بشق تمرة) ستسأل بين يدي الله أنت بشحمك ولحمك، سيكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، انظر أيها المؤمن واسجد لربك شكراً أنك من أتباع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما زادني فخرً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
اسجد لربك شكراً يا من وحدت الله، اسمع ماذا قال إمام الموحدين وقدوة المحققين وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة -سوف يقربك الله جل جلاله منه- حتى يضع رب العزة عليه كنفه) والكنف لغة لا تأويلاً للصفة هو الستر والرحمة، ونحن لسنا ممن يؤول صفات الحق جل وعلا، وإنما نؤمن بأسماء الجلال وصفات الكمال من غير تحريف لألفاظها ولا لمعانيها، ومن غير تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل؛ لأن الله جل وعلا جلَّ عن الشبيه والنظير والمثيل، لا ند له، ولا كفء له، ولا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له، ولا والد له ولا ولد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] (يُدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه يقول له ربه جل وعلا: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فيقول المؤمن: رب أعرف رب أعرف -لا ينكر يقولها مرتين- فيقول الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم).
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينادى عليهم بهذا النداء العذب الحلو: (ولكني سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) من الذي يقال له هذا؟ الموحد المؤمن، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الإيمان، وأن يختم لي ولكم عند الموت بالتوحيد، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، اللهم استرنا فوق الأرض، واسترنا تحت الأرض، واسترنا يوم العرض، برحمتك يا أرحم الراحمين! ينادى عليك لتسأل بين يدي الله تعالى أين فلان بن فلان؟ مَن أنا؟! هذا هو اسمي! أقبل، أقبل للعرض على الله جل وعلا، فتجد نفسك واقفاً بين يدي الحق فتعطى صحيفتك هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مصيبة ومعصية أسررتها، فكم من معصية قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها ذكرك الله إياها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، إن كنت من المؤمنين أعطاك الله كتابك باليمين وأنارت أعضاؤك وأشرق وجهك وانطلق النور من بين يديك وعن يمينك كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
أما أهل النفاق أهل الظلمات فينادون أهل الأنوار: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
{يُنَادُونَهُمْ} [الحديد:14] يا أهل الأنوار! يا أهل التوحيد! {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:14]؟ ألم نحضر معكم الجُمَع والجماعات {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] ينطلق وكتابه بيمينه بعدما سعد سعادة لن يشقى من بعدها أبداً، ينطلق في أرض المحشر إلى إخوانه وأحبابه وأقرانه ومن هم على شاكلته والنور يشرق من وجهه وأعضائه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه، يتقد مرة وينطفئ مرة] والأثر ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وتعقبه الإمام الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط البخاري ينطلق والنور يشرق من وجهه وأعضائه وكتابه بيمينه، والله لقد سعد سعادة لن يشقى بعدها أبداً، فينطلق إلى إخوانه وأحبابه من الموحدين في أرض المحشر، ويقول لهم: شاركوني السعادة، شاركوني الفرحة، شاركوني البهجة، اقرءوا معي كتابي، انظروا هذا كتابي بيميني، اقرءوا هذا توحيدي، وهذه صلاتي، وهذا صيامي، وهذا حجي، وهذا بري، وهذه صدقتي، وهذه دعوتي، وهذا عملي، اقرءوا معي {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:19 - 33].(20/7)
دعوة لمحاسبة النفس
لا إله إلا الله!! هل أعددت لهذا اليوم جواباً أيها الحبيب؟ أيها الحبيب: أقبل على الله، تعال إلى فلاح الدنيا والآخرة.
أيها الشاب! أيها الوالد الكريم! أيها الابن الحبيب! أيها الأخ الفاضل! أيتها الأخت الفاضلة! هيا جميعاً لنتب إلى الله جل وعلا في هذه الليلة الكريمة المباركة التي دمعت فيها العيون، وخشعت فيها القلوب لعلام الغيوب، تعالوا بنا لنجدد التوبة والأوبة والعودة، ولنكن على يقين جازم بأن الله جل وعلا لا يرد ولا يغلق باب التوبة في وجه أحد طرقه من ليل أو نهار: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
يا من أسرفت على نفسك بالمعاصي! أقبل إلى الله جل وعلا ولا يغرنك الشيطان عن الله، واعلم بأن الله كريم، واعلم بأن الله رحيم، واعلم بأن الله سيغفر لك أي ذنب إذا كنت موحداً لله جل وعلا، وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى في الحديث القدسي الجليل: يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
وأختم بقول الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35]، هل عرفت المزيد أيها الحبيب؟ إن نعيم الجنة ليس في لبنها، ولا خمرها، ولا قصورها، ولا ذهبها، ولا حريرها، ولا حورها، ولكن نعيم الجنة في رؤية وجه ربها، وهذا هو المزيد {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
أسأل الله جل وعلا أن يمتعني وإياكم بالجنة، وبالنظر إلى وجهه الكريم، وأن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والعمل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(20/8)
فتح مكة
إن من أسباب النصر حسن التخطيط، واستغلال مستجدات الأحداث، ولقد تمثل ذلك جلياً في صلح الحديبية التي انعقد بين المسلمين وقريش، فكان فتحاً مبيناً، ومقدمة لفتح مكة، حيث لم تلبث قريش أن نقضت هذا الصلح، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز للسير إلى مكة، وكان ذلك في سرية تامة؛ حتى لا يعلم أهل مكة أنه يريدهم، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، وتم فتح مكة هذا ما تحدث عنه الشيخ؛ مبيناً كيف أعز الله جنده وهزم الأحزاب وحده، ونصر عبده في هذا اليوم العظيم.(21/1)
خطورة تجهيل الأمة المسلمة بتاريخها
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصلِّ اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور العامرة بالإيمان إن شاء الله جل وعلا، وأسأل الله سبحانه أن يتقبل مني ومنكم صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: إننا اليوم على موعد مع يوم كريم من أيام شهر رمضان، إنه يوم أعز الله فيه دينه، ونصر فيه عبده، وأعز فيه جنده، واستنقذ فيه بيته الحرام، وبلده الأمين من أيدي الكفار والمشركين، إنه يوم الفتح الأعظم الذي استبشر به أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به نور الأرض ضياءً وابتهاجاً، وتحطمت فيه الأصنام ونكست رءوسها في ذل شديد، وتهللت الكعبة فرحاً بشروق يوم التوحيد، إنه يوم الفتح الأعظم، إنه يوم فتح مكة في العاشر من رمضان في السنة الثامنة من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
تعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعيش هذه الدقائق المعدودات مع هذا اليوم الكريم المبارك، وأنا أعلم يقيناً أن كثيراً من المسلمين لا يعلمون عن هذا اليوم إلا القليل القليل القليل، لماذا؟ لأن أعداء ديننا قد بذلوا كل ما يملكون، ليقطعوا الصلة بين المسلمين وبين تاريخهم المجيد المشرق، وذلك بتشويه حقائق التاريخ من ناحية، وبالحيلولة بين أبناء الأمة وأجيالها وبين حقائق التاريخ من ناحية أخرى، فنشأ جيل في فترة الاستغراب الطويلة الماضية، نشأ جيل لا يعرف عن إسلاميته ولا عن تاريخ فتوحاته ولا بطولاته وأمجاده شيئاً، في الوقت الذي يعرف فيه الكثير والكثير عن تاريخ الغرب، فقد تجد كثيراً من المسلمين يعرفون الكثير والكثير عن الثورة الفرنسية، أو عن الثورة البلشفية، ولا يعرفون إلا القليل عن غزوات خير البرية صلى الله عليه وسلم.
فقد ترى الشاب في هذه الأيام قد يعرف نابليون، وقد يعرف إستالين، وقد يعرف غيرهم وغيرهم، وهو لا يعرف شيئاً عن صلاح الدين، ولا عن محمد بن مسلمة، ولا عن خالد بن الوليد، ولا عن عمرو بن العاص، ولا عن غيرهم من هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار، فتعالوا بنا -أحبتي في الله- لنعيش مع هذا اليوم، وإني لأرى أنه من الواجب علينا أن نعاود من جديد دراسة تاريخنا الإسلامي، وأن نقف عند حقائقه؛ لأن التاريخ قد شُوه وحُرف وبُدل، وأن نعلم أولادنا حقيقة وعظمة تاريخنا، وعظمة وبطولات أبطالنا ورجالنا وأطهارنا؛ لينشأ الجيل على سير هؤلاء الأطهار الأبرار، بدل أن يغذى على سير أولئك الأوباش والأنجاس.(21/2)
نقض قريش لصلح الحديبية
ما هي المقدمات لهذا النصر المبين؟ لقد كان من شروط صلح الحديبية أن من دخل في عقد قريش وعهدهم دخل، ومن أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، فدخلت قبيلة بني بكر في عهد قريش وعقدهم، ودخلت قبيلة خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده، ولما طالت الهدنة بين الفريقين استغلت قبيلة بني بكر هذه الهدنة، وأرادت أن تنتقم وأن تثأر من قبيلة خزاعة لتحصل لها ثأراً قديماً بينها وبينها، فهاجمت قبيلة بني بكر قبيلة خزاعة على ماء لهم يسمى: الوتير، وأعملوا فيهم السيوف، وغدروا بهم، وقتلوا منهم عدداً كبيراً.
ولما لم تكن قبيلة خزاعة مستعدة لقتال ولا لحرب، فرت إلى البيت الحرام، ومن المعلوم عندهم أنه من دخل المسجد الحرام رفع عنه السيف، حتى ولو كان قاتلاً لأب الذي يحمل السيف وهو يريد أن يقتله، وبالرغم من ذلك لم تراعِ قريش حرمةً للبيت، ولم تراعِ قبيلة بني بكر حرمة للبيت كذلك، بل وأمدت قريش قبيلة بني بكر بالسلاح، ومنهم من قاتل في صفوف بني بكر مستخفياً بالليل.
ولما جاءت قبيلة بني بكر بقيادة رئيسهم نوفل بن معاوية الديلي، وأرادوا أن يقتحموا المسجد الحرام على خزاعة، قال له بعض العقلاء من قبيلته: يا نوفل! إنهم دخلوا المسجد الحرام، إلهك إلهك يا نوفل! فقال هذا الرجل قولة خبيثة، قال: لا إله له اليوم، ثم قال لقبيلته بني بكر: فلعمري يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تأخذون فيه ثأركم؟! ودخلوا عليهم الحرم وقاتلوهم فيه، وهنا انطلق عمرو بن سالم الخزاعي -رئيس قبيلة خزاعة- انطلق إلى المدينة المنورة مسرعاً، إلى محمد صلى الله عليه وسلم، حتى دخل المسجد على رسول الله فرأى النبي جالساً بين أصحابه، فوقف عمرو بن سالم الخزاعي على رأس النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
يارب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
قد بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعاً وسجدا
فانصر هداك الله نصراً أبدا وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل البدر يسمو صعدا
يا لها من بلاغة عجيبة! فقال له النبي: (نصرت يا عمرو بن سالم) وإن كان الحديث قد رواه ابن إسحاق في السير بغير سند إلا أن الطبري قد وصله بإسناد ضعيف.(21/3)
اعتراف قريش بالخطأ وإرسال أبي سفيان إلى المدينة
وأدركت قريش خطأها، نقضت العهد وخفرت الذمة، فلما أدركت الخطأ بعد فوات الأوان، أرسلت أبا سفيان بن حرب -سيد الحرب وقائد الميدان- إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أرسلته ليعيد للعقد الذي أهدرت كرامته، ليعيد إليه قوته وحرمته، وليعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما بدر من قريش، إلا أن الأوان قد فات وانتهى، فذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه النبي شيئاً، فترك أبو سفيان الحبيب صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله، فقال الصديق: والله ما أنا بفاعل، فترك أبو سفيان أبا بكر وذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليشفع له عند رسول الله، فقال عمر: أنا أشفع لكم عند رسول الله! والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.
فترك أبو سفيان عمر وذهب إلى علي فقال: يا علي! أنت أكثر الناس صلة بي ورحماً لي، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي: ويحك يا أبا سفيان! والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، ارجع.
فرجع أبو سفيان يجر أذيال الخيبة والفشل، وعلم يقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على أمر وسوف يباغتهم في مكة في أي لحظة من لحظات الليل أو النهار، وقيد الرعب أم القرى، وعلمت مكة أنها قد أخطأت خطأً كبيراً في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم.(21/4)
الرسول يأمر بالاستعداد لفتح مكة في سرية تامة
وهنا أمر النبي الناس بالجهاز، وبإعداد العدة للجهاد في سبيل الله وللخروج للغزو، إلا أنه لم يخبر أحداً أين سيكون المسير اليوم، حتى أن الصديق دخل على عائشة رضي الله عنها، فرآها تعد الجهاز لرسول الله، فقال لها: أي بنية! هل أمركن رسول الله بتجهيزه؟ قالت: نعم، فقال الصديق: فإلى أين ترينه يريد، قالت: والله ما أدري.
ولما تجمع الناس واستنفر الرسول الناس جميعاً والمسلمين خارج حدود المدينة المنورة، وتجمع في المدينة عشرة آلاف رجل موحد لله جل وعلا عشرة آلاف موحد بقيادة من؟! بقيادة سيد القادة وإمام الهدى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم القوم أنه سائر إلى مكة شرفها الله، وأمرهم أمراً جازماً أن يكتموا الخبر وأن ينطلقوا في سِرِّية تامة، وبالفعل -أيها الأحباب- انطلق المسلمون ينفذون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدقة، حتى أنه قد ورد في حديث ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله، وقال: (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها).(21/5)
قصة حاطب ورسالته إلى مكة
إلا أنه قد وقع حادث عجيب غريب، من صحابي جليل، ممن لهم السبق في جهاد الكفار والمشركين، إنه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ماذا فعل حاطب؟ اسمعوا أيها الأحباب! لتعلموا أن الرجل الكبير قد يقع وقد يمر عليه وقت يصغر فيه، وقد يهلك لولا فضل الله ورحمته، حاطب بن أبي بلتعة صحابي جليل ممن شهدوا بدراً، وقع في خطأ كبير متأولاً، كما قال الحافظ ابن حجر ما هو خطؤه؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يكتموا الخبر، وأن يخرجوا في سرية تامة، ليدخل مكة بدون أدنى قتال، لا يريد أن يسفك دماً في بلد الله الحرام، إلا أن حاطباً رضي الله عنه وغفر الله له، قد تطوع بإرسال كتاب إلى قريش يخبرهم فيه بخروج رسول الله إليهم، إلا أن من يسمع ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أخبر رسوله بكتاب حاطب، واستدعى النبي على الفور علياً والزبير والمقداد وأخبرهم بخبر كتاب حاطب بن أبي بلتعة، بل وحدد لهم النبي المرأة التي أعطاها حاطب الكتاب لتوصله إلى قريش، نظير مكافأة لها على توصيله، وحدد لهم النبي مكانها على الطريق إلى مكة شرفها الله.
والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد -أي: المقداد بن الأسود - وقال لنا: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ -اسم المكان الذي سيجدون فيه المرأة- فإن بها ضعينة -والضعينة هي المرأة في الهودج- معها كتاب فخذوه منها، يقول علي: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا -أي: تسابق خيلنا الرياح- حتى وصلنا وأتينا روضة خاخ، فإذا نحن بالضعينة، فقلنا لها: أخرجي الكتاب! قالت: ما معي من كتاب! وفي رواية غير رواية الصحيحين: أنهم فتشوا الهودج فلم يجدوا فيه شيئاً، فقال علي: والله ما كذب رسول الله، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك من الثياب، فلما رأت المرأة منهم الجد قالت له: أعرض.
يا سبحان الله! فأعرض علي رضي الله عنه، فحلت المرأة قرون رأسها -أي: ضفائر رأسها- فأخرجت من رأسها كتاب حاطب رضي الله عنه، فدفعته إلى علي بن أبي طالب، فانطلقوا مسرعين حتى أتوا به رسول الله في المدينة، ففتحه فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى بعض الناس في قريش، يخبرهم فيه ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه إليهم.
فاستدعى النبي حاطباً رضي الله عنه وقال: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله! فوالله ما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني ما فعلت ذلك إلا لأنني أردت أن أقدم لي يداً في مكة يحمون بها قرابتي بعد ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقكم.
فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم.
وفي رواية: فذرفت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم).
وهكذا -أيها الأحباب- غفر لـ حاطب ماضيه المشرف في قتال المشركين والمنافقين، بل وأمر النبي الناس ألا يذكروا حاطباً إلا بما فيه من خير، وهنا تتجلى وتتألق عظمة ورحمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان قط عوناً للشيطان على أصحابه، بل والله ما جاء إلا عوناً لهم على الهدى والتقى والجنة.
وهكذا أخذ الله العيون والأخبار؛ فلم يصل خبر إلى قريش، وبدأ الجيش الزاحف يتحرك من المدينة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم.(21/6)
من لطيف ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة
ومن الطرائف العجيبة واللطائف الجميلة التي حدثت للنبي في طريقه ما يلي: لقي النبي في الطريق إلى مكة عمه وابن عمه وابن عمته مسلمين لله جل وعلا، لقيه في الطريق عمه العباس بأهله وعياله مهاجراً مسلماً لله جل وعلا، ففرح النبي بعمه العباس فرحاً شديداً، ولقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وهو يختلف عن أبي سفيان صخر بن حرب زعيم قريش وقائدهم في غزوة أحد والخندق؛ حتى لا يحدث لبس كما سنرى بعد ذلك لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ولقيه ابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما النبي عليه الصلاة والسلام لشدة ما لقي منهما من الأذى، ومرير ولاذع الهجاء في مكة المكرمة.
فقالت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك.
إلا أن النبي قد أعرض عنهما صلى الله عليه وسلم، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى علي بن أبي طالب واستشاره ماذا يفعل؟ والله ما جاء إلا مسلماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه أتدرون ماذا قال علي الذكي العبقري؟ قال له: يا أبا سفيان! اذهب إلى رسول الله من قبل وجهه، من بين يديه، وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإن رسول الله لا يقبل أن يكون أحد أحسن منه قولاً، وأخذ أبو سفيان النصيحة الغالية من علي رضي الله عنه، وانطلق مسرعاً إلى رسول الله بين يديه من قبل وجهه، وقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، فنظر إليه النبي قائلاً: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) والحديث رواه ابن جرير الطبري، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي، إلا أن الحديث حسن.(21/7)
وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مشارف مكة
ووصل النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه الجرار إلى مشارف مكة في وقت العشاء -اسمعوا إلى التكتيك العسكري، اسمعوا إلى هذه الخطط التي كان أول من وضعها أعظم قائد عرفته ميادين القتال محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- فلما وصل النبي إلى مشارف مكة أعاد تنظيم صفوف الجيش، وأمر الجيش أن يوقدوا النيران؛ فأشعلت عشرة آلاف نار على مشارف مكة، ونظم النبي الصفوف مرة أخرى، فأمر خالد بن الوليد أن يدخل إلى مكة من الجنوب، وأمر الأنصار بقيادة سعد بن عبادة أن يدخلوا مكة من جهة الغرب، وأمر المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح أن يدخلوا مكة من جهة الشمال، وحدد لهم ملتقى عند جبل هند قبل أن يدخلوا المسجد الحرام؛ لتلتقي الجيوش جميعاً مرة أخرى ليترأس القيادة من جديد سيد القادة محمد صلى الله عليه وسلم.(21/8)
خروج العباس إلى حدود مكة وإسلام أبي سفيان
وخرج العباس يركب بغلة النبي البيضاء، وذهب إلى مشارف وحدود مكة لعله يجد حطاباً أو يجد رجلاً يذهب إلى قريش ليخرجوا يستأمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل عليهم مكة عنوة.
يقول العباس عم الحبيب صلى الله عليه وسلم: فسمعت -والله- صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتراجعان ويتكلمان وهذا أبو سفيان بن حرب سيد مكة وزعيمهم في أحد والخندق، وهو يختلف عن أبي سفيان بن الحارث الذي ذكرت آنفاً.
يقول العباس: سمعت أبا سفيان وبديل بن ورقاء يتراجعان، يقول أبو سفيان: والله ما رأيت نيراناً ولا عسكراً قط مثل هذه أبداً.
فيرد عليه صاحبه بديل بن ورقاء ويقول له: إنها قبيلة خزاعة التي اعتدينا عليها قبل ذلك، إنها خزاعة حمشتها الحرب.
فيقول أبو سفيان الذكي العبقري: لا والله إن خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
إنه رجل حرب ورجل ميدان.
يقول العباس: فعرفت صوت أبي سفيان فقلت: أبا سفيان.
فعرف أبو سفيان صوت العباس فقال: أبا الفضل.
فقال العباس: نعم.
فقال: مالك بأبي أنت وأمي.
فقال له العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجيش، واصباح قريش والله! فقال أبو سفيان: فما العمل فداك أبي وأمي؟! قال: والله لو أدركك رسول الله ليضربن عنقك، فاركب معي لأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فركب أبو سفيان بغلة رسول الله خلف العباس وباختصار حتى لا أطيل أسلم أبو سفيان في اليوم التالي، ولكن العباس يعرف نفسية أبي سفيان، فقال: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم.
من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته وأغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن) والحديث صحيح، وفي رواية مسلم: (ومن ألقى سلاحه فهو آمن).(21/9)
مرور الجيش على أبي سفيان ورجوعه إلى قومه
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم دبر خطة نفسية بارعة لقائد قريش أبي سفيان، فلما انطلق العباس قال له النبي: (يا عباس، اجعل أبا سفيان في مضيق الوادي حتى يرى جند الله وهي تمر عليه) ففعل العباس ما أُمر به، وجعل أبا سفيان في مضيق الوادي، وجعلت القبائل براياتها تمر عليهما، كلما مرت قبيلة برايتها سأل أبو سفيان العباس، حتى مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قبيلته وفي كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وقد غطتهم الدروع لا يرى منهم إلا الأعين، فسأل أبو سفيان وقال: من هؤلاء يا عباس؟ فقال العباس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار.
فوقع الرعب في قلب أبي سفيان وقال: والله ما لهؤلاء اليوم قبل ولا طاقة.
فقال له العباس: نعم.
فقال أبو سفيان: يا عباس، والله لقد أصبح اليوم ملك ابن أخيك عظيماً.
قال: إنها النبوة يا أبا سفيان.
فقال أبو سفيان: نعم.
فقال العباس: النجاة النجاة إلى قومك.
فانطلق أبو سفيان يسابق الريح إلى قومه، وإذا بأهل مكة يرون الجيش الزاحف يقترب رويداً رويداً، وتجمع الفرسان من الشباب والأبطال ينتظرون الأوامر من قادتهم وسادتهم، وإذ بهم يرون قائد القتال وسيد الميدان أبا سفيان يرجع بوجه آخر، فيصرخ فيهم أبو سفيان -وقد نجحت خطة النبي صلى الله عليه وسلم النفسية نجاحاً باهراً- فقال: يا معشر قريش! والله لقد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به ولا طاقة، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فوثبت إليه زوجته هند بنت عتبة آكلة اللحم والكبد، وأمسكت بشارب زوجها وصرخت في قومها وقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمش الساقين، قبحت يا أبا سفيان من طليعة قوم اليوم.
فنظر إليها ولم يلتفت إلى سبابها، فإن الساعة ليست ساعة مراجعة، وقال: لا تغرنكم هذه من أنفسكم، والله لقد جاءكم محمد بما لا قبل لكم به ولا طاقة، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
قالوا: قاتلك الله يا أبا سفيان! وما تغني عنا دارك يا رجل؟ قال -وتذكر ما أخبر به النبي-: ومن دخل بيته وأغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، وفي رواية مسلم: ومن ألقى السلاح فهو آمن.(21/10)
جيش الفتح بقيادة المصطفى يدخل مكة
وانطلق الناس، وخلت مكة من كل أحد إلا في البيوت، وفي بيت الله الحرام، وخلت الشوارع والطرقات، وتقدم الجيش الزاحف بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى دخل النبي مكة، ولما اقترب النبي من المسجد الحرام أحنى رأسه تواضعاً وتخشعاً وشكراً وذلاً لله جل وعلا، ولقد مر بذاكرته شريط طويل من الأحداث إنه اليوم يدخل مكة فاتحاً يتذكر يوم أن وضع التراب على رأسه هنا بالأمس القريب، وتذكر يوم أن خنق وكاد أن يموت بين أيديهم بالأمس القريب، وتذكر أصحابه الذين حنت لهم رمال مكة وصخورها لما لاقوا من العذاب الشديد، وتذكر أصحابه الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم وقد حرموا اليوم من هذا المشهد الجديد، وتذكر أصحابه وهم يخرجون إلى الحبشة في هجرة متكررة، وتذكر نفسه وهو يخرج إلى الطائف ويرجع وقد أدميت قدماه، وتذكر يوم أن خرج إلى المدينة مهاجراً فاراً بدينه، وتذكر يوم أن كان وحده في مكة يقول: لا إله إلا الله، ها هو اليوم يدخل مكة بعشرة آلاف يقولون: لا إله إلا الله.
أي كرامة هذه التي يتوج بها الحبيب في هذا الصباح الميمون؟! أي نعمة هذه التي يمتن الله بها على الحبيب في هذا الصباح الكريم المبارك؟ ويدخل الحبيب المسجد وفي يده قوس، يدخل في وسط كوكبة من المهاجرين والأنصار، يحيطون به كما تحيط الكواكب بالقمر في ليلة البدر، ويدخل الحبيب وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وبيد النبي قوس يطعن به هذه الأصنام؛ فتخر الأصنام على وجوهها بين يديه، وهو يتلو قول الله جل وعلا: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] والحديث رواه البخاري وغيره.
واستدعى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتح النبي ودخل الكعبة من داخلها، فوجد صوراً، ووجد من بين هذه الصور صورة لإبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله! والله ما استقسما بالأزلام قط) والحديث رواه البخاري ومسلم فأمر النبي فمحيت الصور، وكسر النبي الأصنام بيده داخل الكعبة، وأغلق عليه باب الكعبة، وعلى أسامة وبلال، وصلى لله بداخل البيت.(21/11)
النبي صلى الله عليه وسلم يصدر العفو العام عن قريش
وفتح الباب مرة أخرى وخرج فوجد قريشاً قد ملأت بيت الله الحرام، ينتظرون ماذا يفعل فيهم اليوم إمام الرحمة وينبوع الحنان صلى الله عليه وسلم.
فخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام، ونظر إليهم وقد وجمت الأبصار وشخصت، وصمتت الأنفاس، ونظروا إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: (لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبِّية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ثم قال: يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال الحبيب: لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء).
والحديث أخرجه ابن إسحاق وأبو داود وابن ماجة والنسائي والدارقطني، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، ولكن حديثه حسن بالشواهد، ويشهد للحديث حديث أبي هريرة في مسند الإمام أحمد، فالحديث حسن بشواهده إن شاء الله تعالى.
هذه هي رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم اليوم، كما قال سعد بن عبادة حينما مر عليه أبو سفيان، قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل فيه الحرمة، اليوم أذل الله فيه قريشاً.
فلما بلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا.
اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً).
صلى الله وسلم وبارك على إمام الهدى ونهر الرحمة وينبوع الحنان، وأسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(21/12)
بعض ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة: وهكذا أعز الله دينه، ونصر عبده، واستنقذ بيته الحرام وبلده الأمين من أيدي الكفار والمشركين.
وفي اليوم التالي وقف صلى الله عليه وسلم خطيباً في قريش، فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله، ثم قال: (يا معشر الناس! إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله لها إلى يوم القيامة، ولا يحل لامرئ أن يسفك فيها دماً، فإن ترخص أحد بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وإن حرمتها تعود اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) والحديث رواه البخاري ومسلم.
ودعا النبي بعد ذلك على الصفا فوقف بعض الأنصار الأطهار الأبرار الأخيار وحزنوا، ودب الرعب والخوف في قلوبهم في يوم الفرح، لماذا؟ لقد خاف الأنصار أن يبقى النبي في مكة ولا يرجع معهم مرة أخرى إلى المدينة، ولما أنهى النبي الدعاء ورآهم يتهامسون، نزل وقال: ماذا تقولون؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله! قال: ماذا تقولون؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله! فما زال النبي بهم حتى أخبروه.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (معاذ الله! بل المحيا محياكم، والممات مماتكم أيها الأنصار) والحديث رواه مسلم وغيره.(21/13)
بلال يؤذن للصلاة على ظهر الكعبة
أيها الأحباب: ولما حان أول وقت للصلاة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يرتقي على ظهر الكعبة، ذلكم العبد الأسود الذي كان يعذب على رمال مكة، ويحمل صخورها ملتهبة على صدره بالأمس القريب، هاهو اليوم يرتقي على ظهر الكعبة، وتشخص إليه الأبصار، وتنقطع الأنفاس، وتنحدر الدمعات كحبات اللؤلؤ على وجوه الموحدين، وتبكي الكعبة فرحاً لشروق شمس التوحيد الجديدة، ويخشع الجو ويصمد المكان ما هذا؟ هل هذا حلم؟! رسول الله مع عشرة آلاف موحد في مكة، سيروي الموحدون اليوم ظمأهم من ماء زمزم، سيمتع الموحدون اليوم نظرهم بالنظر إلى بيت الله هل هذا حلم؟ كلا! إنها الحقيقة تتألق كتألق الشمس في رابعة النهار.
ويقطع هذه المشاعر المتداخلة صوت ندي رخيم عذب جميل، إنه صوت الحق، صوت بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وهو يرفع صوته بكلمة التوحيد، وبالتكبير لله جل وعلا الله أكبر الله أكبر! الله أكبر الله أكبر! أشهد أن لا إله إلا الله نعم.
فلقد سقطت اليوم كل الآلهة المزعومة المكذوبة، ذهبت وكانت بالأمس القريب تعبد من دون الله، تحطمت اليوم على يد نبي التوحيد صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يحطم الطواغيت والأصنام على أيدي أبناء الموحدين، إنه ولي ذلك ومولاه.
ولكن تحطمت الأصنام ونكست رءوس هذه الآلهة المكذوبة على يد من؟ من الإمام؟ من القائد؟ من الطليعة الخيرة؟ من الهادي إلى الحق؟ يجيب بلال: أشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه، ونسأل الله جل وعلا أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأن يجزي عنا أصحابه الأخيار الأطهار الأبرار الذين أوصلوا إلينا الإسلام على جماجمهم، وعلى أرواحهم وعلى دمائهم وأشلائهم، فنسأل الله أن يقيض للأمة اليوم من يعيد للإسلام مجده، ومن يعيد للإسلام عزه، ومن يعيد للإسلام رايته خفاقة عالية، كما تركها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خفاقة عالية.
وأكتفي بهذا القدر من أحداث فتح مكة، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم أهلاً لنصرة الإسلام وعز المسلمين، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اجعل جمعنا هذا في هذا اليوم الكريم المبارك جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا شقياً ولا محروماً، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا طائعاً إلا ثبتَّه، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين، اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، اللهم تقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.(21/14)
الهمز واللمز وسوء الظن والغيبة
إن أي مجتمع لا يسلم من الآفات التي قد تكون سبباً في كثير من الفوضى والنزاعات والتفرق في المجتمع، ولذلك اهتم الإسلام بعلاج هذه الآفات، وذلك بذكرها والتحذير منها وتشديد العقوبة على فاعلها؛ حتى يعيش المجتمع الإسلامي في أمن وأمان وألفة واطمئنان.(22/1)
آفات المجتمعات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: ما زلنا نطوف بحضراتكم في رحاب سورة الحجرات، سورة التربية والأخلاق، وما زلنا نعيش مع هذه القواعد التشريعية العظيمة التي وضعها العليم الخبير جل وعلا؛ لصيانة المجتمع الإسلامي من التمزق والتشتت والتفكك والضغائن والأحقاد.
وما زلنا في رحاب هذه القاعدة العظيمة العريضة الكبيرة، ألا وهي: تعظيم حرمات المسلمين في المجتمع الإسلامي، وقلنا: بأنه لن تعظم حرمات المسلمين في المجتمع الإسلامي إلا إذا طهر المجتمع من ستة أمراض أو آفات، هذه الأمراض وتلك الآفات هي: 1/ السخرية.
2/ اللمز.
3/ التنابز بالألقاب.
4/ سوء الظن.
5/ التجسس.
6/ الغيبة.
ولقد تحدثنا في اللقاء الماضي بفضل من الله جل وعلا عن الآفة الأولى بالتفصيل ألا وهي: السخرية.(22/2)
اللمز
أما اللمز فهو: عيب الغير باليد واللسان والعين والإشارة الخفية وغير ذلك.
والهمز: لا يكون إلا باللسان فقط لقول الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:10 - 11] فاللمز: يكون باليد وبالعين وباللسان وبالإشارة أما الهمز فلا يكون إلا باللسان فقط.
واللمز -أيها الأحباب- آفة ومرض، وسبب من أسباب انتشار الحقد والضغائن في القلوب بين المسلمين، فمن حق المسلم على المسلم ألا يسخر من أخيه بيده، أو لسانه، أو عينه، أو حتى بالإشارة الخفية.
ولذلك يلفت الله القلوب النقية، والعقول الذكية في هذا النهي فيقول: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11] لأن المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أي: إن المؤمن إذا لمز أخاه فكأنما لمز نفسه؛ لأن المؤمنين جميعاً نفس واحدة، قال الله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات:11].(22/3)
التنابز بالألقاب
والتنابز بالألقاب معناه: أن يسمي المسلم أخاه بالأسماء والألقاب والكنى التي لا يحبها، والتي يكرهها وتؤذيه، فمن أدب المؤمن ألا يسمي أخاه إلا بالاسم الذي يحبه، وألا يلقبه إلا باللقب الذي يتمناه، وألا يكنيه إلا بالكنية التي يرتاح إليها قلبه.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لقب أبا بكر بـ الصديق، ولقب عمر بـ الفاروق، ولقب عثمان بـ ذي النورين، ولقب حمزة بـ أسد الله، ولقب خالداً بـ سيف الله وهكذا.
فلا يجوز لمسلم أن ينادي أخاه المسلم إلا بالاسم الذي يحبه، وباللقب الذي يريده، وبالكنية التي يحبها ويطمئن قلبه إليها، ((وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)) [الحجرات:11].
وبعد ذلك -أيها الأحباب- يقول ربنا جل وعلا: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] أي: إن خروج المسلم من طاعة الله إلى معصيته فسوق، وبئس الاسم أن يسمى الرجل فاسقاً بعد الإيمان، لذا قال الله جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات:11] أي: ومن لم يتب من هذه الآفات والأمراض التي نهى الله عنها فإنما هو ظالم لنفسه لوقوعه فيما نهى الله عنه، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] وبهذا تكتمل الآية الأولى.
يقول الله ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11].(22/4)
سوء الظن
تأتي الآية الأخرى لتضع ولتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الإسلامي النظيف النقي، الذي يقيمه الإسلام بهدي القرآن، فيقول ربنا جل وعلا في الآية التي تليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحجرات:12] إنه النداء المحبب إلى القلوب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أصغ السمع، وافتح القلب، فإن النداء من اللطيف العليم الخبير جل وعلا، إنما هو خير ستؤمر به أو شر ستنهى عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] هكذا أيها الأحباب! يطهر القرآن الضمائر من الهواجس والظنون والشكوك والريب، لماذا؟ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] وهكذا يدع القرآن القلوب نقية نظيفة طاهرة هادئة صافية، لا يعكر صفوها قلق أو غم أو شك، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الظنون القبيحة والسيئة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
الظن السيئ لا يجوز بأهل الخير والفضل، كما قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن قال: (ولقد أجمع كثير من العلماء على أن الظن السيئ لا يجوز بأهل الخير)، أو على حد تعبير الإمام القرطبي: أكثر العلماء على أنه لا يجوز الظن القبيح بأهل الخير، ولا حرج بالظن السيئ بأهل السوء وأهل الفساد، أي: لمن جهر بمعصيته وفسقه بين الناس.
وقال بعض السلف: الظن الذي نهى الله جل وعلا عنه هو: أن تظن بأهل الخير من المؤمنين شراً وسوءاً.
ولذلك -أيها الأحباب- أغتنم هذا الدرس لأذكر نفسي وإياكم بهذا المرض الذي استشرى في مجتمعنا في هذه الأيام، ألا وهو الظن السيئ بكثير من علمائنا ودعاتنا، ووالله يجب على كل مسلم ألا يظن بعلماء ودعاة الأمة إلا خيراً، فإن لحوم العلماء والدعاة مسمومة، فلقد أباح كثير من الناس لنفسه في هذه الأيام الخوض في لحوم العلماء والدعاة، وظن المسكين أنه أعلم بالأمور وأفقه بها من العلماء والدعاة، لا.
أغلق على نفسك هذا الباب، ولا تظن أنك أعلم بالأمور من علماء الأمة ودعاتها، فينبغي أن تظن بعلمائك خيراً، وأن تظن بدعاة الأمة خيراً؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم أخشى الناس لله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] فإياك إياك أن تظن بالعلماء سوءاً.
بل ينبغي أن تدعو الليل والنهار لعلمائك، اللهم بارك في علمائنا وثبتنا وإياهم على الحق، وارزقنا وإياهم حسن الخاتمة أنت ولي ذلك ومولاه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] وفي الحديث -أيها الأحباب- الذي ذكرته آنفاً (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) درس مهم جداً، الله جل وعلا نهى عن كثير الظن؛ لأن بعض الظن إثم، خشية أن تقع في هذا القليل.(22/5)
التجسس
يقول ربنا جل وعلا: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] يا له من مبدأ عظيم! ويا له من مبدأ خطير وضعه الإسلام قبل أن تتغنى الدول المتحضرة بذلك كله الإسلام وضع هذا المنهج من مئات السنين: {وَلا تَجَسَّسُوا}.
إن للمسلمين في المجتمع الإسلامي حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز بصورة من الصور أن تنتهك، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يعتدى عليها؛ لأن التجسس -أيها الأحباب- هو الحركة العملية التالية للظن، فإذا ظن المؤمن بأخيه شراً تاقت نفسه وتشوقت إلى أن يتجسس على حاله.
والتجسس هو: انتهاك لحرمات المسلمين والآخرين، ويأتي القرآن الكريم ليشدد في النكير على هذا المرض الخبيث اللئيم {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] إن للمسلمين حرياتهم إن للمسلمين كراماتهم إن للمسلمين عوراتهم ولا يجوز بحال من الأحوال أن نتخطى هذه الستور والحدود لنصل إلى ما لا يظهر لنا، بل أظهروا لنا أحسن أعمالكم والله أعلم بالسرائر، نحن لا نحكم على القلوب، ولا نشق عن البطون، وإنما يجب على كل مسلم أن يحكم على أخيه بما ظهر له من قوله وفعله.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (بعث علي بن أبي طالب بذهيبة -أي: بقطعة صغيرة من الذهب- وهو في اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة، فقال رجل منهم -وكأنه لم تعجبه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم-: اتق الله يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: لا.
لعله أن يكون يصلي، فقال خالد بن الوليد: فكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه -أتدرون ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ - قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم).
نحن لنا الظاهر، لا نتجسس، ولا نعطي لأنفسنا الحق أن نبحث عما وراء الستور والحدود: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم).
وفي الحديث الذي رواه الإمام أبو داود في سننه ورواه الإمام أحمد في مسنده وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال واسمعوا إلى هذا البيان الذي يخلع القلوب من الصدور، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) اللهم سلمنا وإياكم، وهذا هو محل الشاهد في الحديث أيها الأحباب: (ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) وفي رواية أخرى: (يفضحه الله في جوف بيته) في قعر داره يفضحه الله جل وعلا.
الذي يتجسس على إخوانه ويتتبع عوراتهم فإن الله جل وعلا آجلاً أو عاجلاً إن لم يرجع ولم يتب إلى الله تبارك وتعالى سيفضحه في قعر داره وجوف بيته: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].(22/6)
الغيبة
وبعد ذلك -أيها الأحباب- فإني لا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذه الآفات، لنقف طويلاً بعض الشيء مع هذه الآفة الكبرى، ومع هذا المرض السرطاني الخطير المدمر الذي استشرى في مجتمعات المسلمين، والله إنه مرض خطير وقع فيه كثير من الأخيار والأطهار، وقلَّ من وقع فيه وعوفي منه، ووقع فيه من وقع من العلماء والدعاة وطلبة العلم فضلاً عن عامة الناس، ووالله لا نبرئ أنفسنا منه والله لا نبرئ أنفسنا منه.
إنه مرض خطير وقعنا فيه بعمد أو بغير عمد، بقصد أو بغير قصد، ألا وهو الغيبة، الغيبة فاكهة المجالس أيها الناس، الغيبة ذلكم المرض السرطاني المدمر الذي استشرى واستفحل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أتدرون ما الغيبة؟ سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا السؤال، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
لا إله إلا الله، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، كم زلت الألسنة، وكم كثر الكلام، وكم وقعنا في الغيبة، الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره: (قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) والبهتان إثم ومعصية عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
في الحديث الذي رواه أبو داود في السنن، ورواه البيهقي، ورواه الحافظ أبو يعلى، وقال الحافظ ابن كثير إسناده صحيح، أن ماعز بن مالك رضي الله عنه وقع في معصية الزنا، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: (يا رسول الله! طهرني، يا رسول الله! طهرني) لأنهم كانوا يراقبون الله جل وعلا، من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما قبضت عليه هيئة، ولا دولة، وإنما كان يراقب الله جل وعلا، لم يراقب القانون الوضعي الأعلى، وإنما راقب الحي الذي لا يموت.
فلما وقع في الزنا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدميه مختاراً طائعاً، فقال: [يا رسول الله! طهرني أقم عليَّ الحد].
فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ومرة، فلما عاد ماعز رضي الله عنه، وأكد للنبي صلى الله عليه وسلم كبيرته وجريمته أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عليه الحد، ورجم ماعز بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما للآخر: (ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟!) هكذا وقع في مجتمع الصحابة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهما فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر على جيفة حمار -أعزكم الله- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أين فلان وفلان؟ فأقبلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهما: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا: يغفر الله لك يا رسول الله! هل يؤكل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكلكما آنفاً من لحم أخيكما أشد من أكلكما من جيفة هذا الحمار) وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها).
لا إله إلا الله! كم لوثت أفواهنا بأكل لحوم إخواننا، وكم لوثت أسناننا بتمزيق أعراض إخواننا.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع، أن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ما قالت إلا هذه الكلمة: (يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لمزجته) أي: لغيرت لونه، وطعمه، ورائحته.
في الحديث الذي رواه أبو داود، وأحمد في مسنده، والترمذي، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت لما عرج بي) انتبهوا أيها الناس لتعلموا صورة المغتابين عند رب العالمين جل وعلا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مررت حين عرج بي -أي: ليلة الإسراء والمعراج- على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال عليه السلام: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهم أظفار من نحاس يخمشون ويمزقون بها وجوههم وصدورهم، من هؤلاء يا جبريل أصحاب المشهد المروع؟ قال: (هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ما من يوم يمر إلا ويأكلون حتى يشبعون، كم وقع في هذا المرض من الأخيار والأبرار والأطهار، إنها الكلمة إنه اللسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ بن جبل الطويل، الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح، أنه عليه الصلاة والسلام قال لـ معاذ في آخر الحديث: (يا معاذ! أفلا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا سول الله! قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: كف عليك هذا -احذر هذا الثعبان- كف عليك هذا! كف عليك هذا! فقال معاذ بن جبل: وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
وهل أوقع الناس في الهاوية إلا هذا اللسان، يجلس الإنسان في المجلس فيريد أن يظهر للناس عبقريته، وخفة دمه، ولباقته، وذكائه، فيضحك الناس على أحد إخوانه، وربما كان ذلك على أحد العلماء أو الدعاة وإنا لله وإنا إليه راجعون: (وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
وفي رواية الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة -كلمة واحدة- من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم) كلمة!! وفي رواية أصحاب السنن بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً) كلمة!! أيها الأحباب: ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم قال: روى مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على الصديق رضي الله عنه، فرآه قد شذب لسانه -أي: أخرج لسانه خارج فيه- فقال عمر بن الخطاب: [مه مه، غفر الله لك يا أبا بكر ماذا تصنع؟ فقال الصديق رضي الله عنه لـ عمر: هذا الذي أوردني الموارد].
الصديق أبو بكر رضي الله عنه يخرج لسانه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] صديق الأمة -أيها الأحباب- إيه والله، أبو بكر يقول على لسانه الذاكر، الشاكر، النقي، العفيف، الطاهر: [هذا الذي أوردني الموارد] لا إله إلا الله [هذا الذي أوردني الموارد].
وأخذ ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن -نقلاً عن الحافظ ابن رجب - أخذ لسانه يوماً وهو يخاطبه ويقول له: [اسكت تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم] ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: [والله الذي لا إله إلا هو لا يوجد في هذا الكون شيء أحق بطول حبس من لسان] لا يستحق شيء أن يسجن في هذا الكون إلا هذا اللسان، هكذا يقول ابن مسعود عن نفسه أيها الأحباب.
وفي الحديث رواه أبو داود وأحمد وصححه شيخنا الألباني: (ما من يوم تصبح الأعضاء إلا وهي تخاطب اللسان، تقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، إن اعوججت اعوججنا).
فالله الله يا عباد في ألسنتنا، والله لا نبرئ أنفسنا من هذه الآفات، ولا من هذه الأمراض، الله الله في ألسنتنا، الله الله في أقوالنا، الله الله في أعمالنا.
يقول ربنا جل وعلا: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته الع(22/7)
الحالات التي تجوز فيها الغيبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحباب: وتحرياً للأمانة، وحتى تكتمل الفائدة -إن شاء الله تعالى- فما هي الحالات التي يجوز فيها الغيبة؟ ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في كتاب البر والصلة أسباباً وأغراضاً شرعية تجوز فيها الغيبة، ولا إثم في ذلك، وقال الإمام النووي: تجوز الغيبة لأسباب شرعية وعدّد هذه الأسباب وقال: أولاً: التظلم: أي يجوز للمتظلم أن يقول: فعل بي فلان كذا وكذا وكذا، لمن يتظلم إليه، هذه واحدة.
ثانياً: يجوز في حالة الاستعانة بتغيير المنكر، بأن يذهب مسلم غيور على دينه إلى أولي الأمر، أو إلى من يتوسم فيهم القدرة على أن يغيروا المنكر، فيذهب إليهم ويقول: لقد فعل فلان كذا وكذا فازجره عن ذلك، هذا أيضاً مباح، وهذا الكلام للإمام النووي رحمه الله، وهذا كلام كثير من أهل العلم غير الإمام النووي.
ثالثاً: الاستفتاء: بمعنى: أن يذهب المستفتي إلى المفتي فيقول: لقد ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا وكذا، فما الذي أفعله لرد هذا الظلم عن نفسي، فهذه حالة ثالثة تباح فيها أن يذكر الإنسان عيوب إخوانه الذين ظلموه، ويستدل الإمام النووي على ذلك بحديث فاطمة بنت قيس -والحديث رواه مسلم - أنها ذهبت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تقدموا لخطبتها فقالت: (يا رسول الله! خطبني معاوية وأبو جهم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما أبو جهم فرجل لا يضع عصاه عن عاتقه -أي: كثير الضرب للنساء- وأما معاوية فصعلوك لا مال له) هذه أيضاً جائزة ولا إثم في ذلك.
أيضاً من هذا العنصر الثالث تجريح المجروحين من علماء الحديث، كأن يقال: فلان سيئ الحفظ، أو فلان كذوب، وذلك لصيانة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أيضاً من الغيبة المباحة التي لا بأس بها.
رابعاً: تحذير المسلمين من الوقوع في أي شر، كأن يقال: فلان مبتدع، أو فلان كذا أو كذا، فهذا أيضاً جائز لا إثم فيه.
خامساً: تجوز غيبة الفاسق الذي جهر بفسقه، وقد بوب الإمام البخاري باباً في الصحيح بعنوان: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب، وقال الحافظ ابن حجر: ويستنبط من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي: ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو، فلما دخل الرجل ألان النبي له الكلام، فقالت عائشة: يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له الكلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة! إن شر الناس من يدعه الناس اتقاء فحشه).
قال الحافظ ابن حجر: ويستنبط من هذا أنه لا غيبة لمن جهر بالفسق والفساد والمعصية.
سادساً: التعريف، يعني: إن قيل: إن فلان الأصلع، أو الأعمش، أو الأعرج، أو القصير؛ ولكن بشرط ألا يكون ذلك من باب التحقير والتنقص، فإن كان ذلك من باب التحقير والتنقص فإنما هي غيبة محرمة لا تجوز شرعاً، أما إن قيل ذلك على وجه التعريف وليس على وجه التنقص فلا إثم ولا حرج في ذلك.
أسأل الله جل وعلا أن يحمينا وإياكم من الوقوع في المعاصي والزلل، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الرياء، وقلوبنا من النفاق، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اغفر لنا في هذا اليوم المبارك ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا في هذا اليوم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على آله نبينا وحبيبنا محمد وعلى صحبه وسلم.
هذا: وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(22/8)
إخلاف الوعد
إخلاف الوعد خصلة ذميمة من خصال المنافقين، حذر منها الشارع الحكيم أيما تحذير، كما أن صدق الوعد خلق كريم حث عليه الإسلام، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرسه في نفوس أصحابه، حتى إننا نجد أنهم ترجموا هذا الخلق إلى منهج عملي تمثلوه في واقعهم.(23/1)
تعريف النفاق وأقسامه
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! مازال حديثنا عن النفاق والمنافقين، وقلنا بأن النفاق لغة: من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير وإبطان الشر، وقلنا بأن النفاق شرعاً ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: هو نفاق الاعتقاد، وهو: أن يظهر الإنسان الإسلام ويبطن الكفر، وصاحبه مخلد في الدرك الأسفل من النار عياذاً بالله.
وأما القسم الثاني من أقسام النفاق هو: النفاق الأصغر -وهو نفاق العمل- وهو: أن يظهر الإنسان على نية صالحة وهو يبطن خلاف ذلك.
ولقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم أصول النفاق العملي في خمس خصال بمجموع روايتي أبي هريرة وعبد الله بن عمرو، والروايتان أخرجهما الإمام البخاري والإمام مسلم وغيرهما.
أما الرواية الأولى: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان).
وأما الرواية الثانية: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
وتحدثنا في اللقاء الماضي بتوفيق الله جل وعلا عن خصلة من خصال النفاق العملي، ألا وهي الكذب في الحديث.
ونحن اليوم على موعد مع الخصلة الثانية، من خصال النفاق العملي ألا وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وعد أخلف).(23/2)
اعتزاز الجاهلي بوفاء الوعد
أحبتي في الله! إن صدق الوعد خصلة كريمة من خصال الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، بل وشيمة كريمة من شيم الرجال حتى في الجاهلية قبل الإسلام، كان العرب قديماً في الجاهلية يعتزون بصدق الوعد، وينقمون نقمة شديدة على من يخلفه، ومن أجمل ما قرأت في هذا: أن النعمان بن المنذر -وكان ملكاً على الحيرة قبل الإسلام- كان له يومان: يوم بؤس ويوم نعيم، فإذا لقيه أحد في يوم بؤسه قتله وأرداه، وإذا لقيه أحد في يوم نعيمه قربه وأعطاه وحباه.
وفي يوم من أيام بؤسه لقيه رجل من قبيلة طيء، فعلم الطائي أنه مقتول لا محالة بعد ما علم أن هذا اليوم للنعمان بن المنذر هو يوم بؤسه، فاقترب الطائي من النعمان بن المنذر وقال: حيا الله الملك، حيا الله الملك، لقد خرجت وتركت أولادي على شفا تلف من الجوع، وقد خرجت اليوم مبكراً أبحث لهم عن رزق، ففتح الله عليَّ بصيد هذا الأرنب، فإن رأى الملك أن يأذن لي في إتيانهم والرجوع إليهم لأطعمهم ولأوصي بهم، وله عليَّ وعد وعهد أن أرجع إليه مرة أخرى في الموعد الذي يحدده حتى أضع يدي في يده، فرق له النعمان بن المنذر وقال له: لن أسمح لك بالرجوع إليهم إلا إذا ضمنك رجل منا، فضمنه رجل ممن مع الملك وهذا الرجل يقال له: شريك بن عمرو بن شراحيل، ضمن شريك هذا الرجل الطائي، وقال له: أنا أضمنه، قال: إن لم يرجع قتلناك مكانه، قال: افعل.
فانصرف هذا الرجل الطائي فأطعم أولاده وأوصى بهم، وفي الوقت المحدد عاد فوقف بين يدي النعمان بن المنذر، فوقف النعمان منبهراً بهذا الخلق، ومبجلاً لهذا الصدق، ومكبراً لهذه الأخلاق، فنظر النعمان إلى هذا الرجل الطائي، وقال: أيها الرجل! لقد صدقت في وعدك حتى لم تترك للصدق بعد ذلك سبيلاً، ونظر النعمان إلى شريك بن عمرو الذي جاد بحياته ضامناً لهذا الرجل وقال: أما أنت يا شريك بن عمرو فقد جدت وأكرمت حتى لم تدع للجود سبيلا، ثم قال النعمان: والله لا أكون ألأم الثلاثة، فكافأ الطائي وأطلقه، ورفع يوم بؤسه، فأنشد الرجل الطائي بين يديه قائلاً:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي
أي: دعتني قبيلتي وعشيرتي لأن أخلف وعدك أيها الملك.
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي فأبيت عند تجهم الأقوال
إني امرؤ مني الوفاء سجية وفعال كل مهذب مفضال
أيها الأحبة في الله! هذه شيم الرجال، وأخلاق الرجال، حتى في الجاهلية قبل الإسلام، فما ظنكم بدين ركنه وعماده هو الأخلاق، ما جاء الإسلام إلا ليعلي وليشيد بنيان الأخلاق، قال كارل ماركس زعيم الشيوعية والوجودية الملحدة: إن الأخلاق كنز لا معنى له، ويرد عليه سيد الأخلاق الذي جاء ليعلم الدنيا الأخلاق محمد صلى الله عليه وسلم ويقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
ما ظنكم بدين عماده وبنيانه هو الخلق الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليشيد بنيانه وليضع لبناته لبنة فوق لبنة، ولبنة بعد لبنة.(23/3)
مكانة الوفاء بالوعد في الإسلام
إن الإسلام جاء ليعلي وليشيد إشادة كريمة بهذا الخلق -بصدق الوعد- وليشن حملة ضارية على نقيضها ألا وهي إخلاف الوعد.
ولذلك أيها الأحباب! اسمعوا إلى الله جل وعلا، وهو يثني بهذه الصفة الكريمة، وبهذه الخصلة الحميدة على نبي من أنبيائه، فيخاطب ربنا نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54].
أحبتي في الله! نلحظ في هذه الآية ملحظاً جميلاً، ألا وهو أن الله جل جلاله قدم صدق الوعد على الرسالة والنبوة وهو يثني على إسماعيل عليه السلام، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن هذا الخلق الكريم الغالي إنما هو بمثابة المقدمة الضرورية للرسالة والنبوة {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54].
وجعل الإسلام نقيض هذه الصفة من صفات المنافقين كما ذكرت آنفاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا وعد أخلف).
أيها الأحبة في الله! والله الذي لا إله غيره ما أحوجنا نحن المسلمين هذه الأيام إلى هذه الخصلة الغالية الكريمة، وإلى هذا الخلق العظيم الجليل إلى صدق الوعد، بل لا أكون مغالياً إن قلت: إن العالم بأسره بُحكّامه ومحكوميه في أمسِّ الحاجة في هذه الأيام إلى هذه الصفة وتلك الخصلة.(23/4)
الغرب والوعود الزائفة
إن أزمة العالم اليوم هي أزمة الثقة في الوعود والتصريحات والأقوال، نعم.
أيها الكرام! وعد بليل يخلف بنهار، ووعد بنهار يكذّب بليل، وتصريح هنا يناقض تصريحاً هناك، وتصريح هناك يكذب تصريحاً هنا وهكذا دواليك.
شأنهم في ذلك كما ذكرت في اللقاء الماضي كشأن جحا الذي صنع ساقيته على النهر؛ لتأخذ الماء من النهر وترد الماء إلى نفس النهر مرة أخرى، فلما عجب الناس من صنيع جحا وقالوا: عجباً لك يا جحا! تأخذ الماء من النهر بساقيتك لترد ساقيتك نفس الماء إلى النهر مرة أخرى، فقال جحا: يكفيني نعيرها.
ونحن لا نسمع إلا تصريحات ووعوداً ولكنها مكذوبة وملفقة، ودجل في دجل، وكذب في كذب، فكم من مرة سمعنا الزعيم الصربي النصراني الحقود يصرح هنا وهناك، ويطير من هنا وهناك، ليعلن على مرأى ومسمع من الدنيا بأنه سيوقف هذه الإبادة البشرية الكاملة للجنس المسلم في جمهورية البوسنة والهرسك.
ولكن ما زالت المسرحية الهزلية الإبادية، مازالت على خشبة المسرح العالمي كله، مازالت إلى يومنا هذا تمارس، والأضواء العالمية كلها تسلط عليها، وما زال المجاهدون من جميع أنحاء العالم قابعون في مقاعدهم أمام أعضاء الفرقة الصربية المسرحية الإبادية الكبرى، مازال المشاهدون في مقاعدهم يشاهدون وينظرون ويتابعون أحداث المسرحية باهتمام بالغ، ومنهم من يصفق بشدة وبحدة وبقوة لأعضاء فرقة الإبادة الصربية الكبرى، ومنهم من يزكي ويبارك هذه التصفية العنصرية، ومنهم من جلس يبكي ويمسح عينيه وخديه التي بللت بالدموع، ولكنه مازال قابعاً في مقعده، مصراً على أن يجلس، وعلى أن ينظر صامتاً ساكتاً؛ ليتابع آخر فصول هذه المسرحية الهزلية الإبادية الكبرى.
وما زال عالمنا الغريب، وما زال عالمنا العجيب يتابع عن كثب، ولا يجيد عالمنا إلا لغة الاستنكار، والشجب، والكلمات والبيانات والإعلانات في الصحف هنا وهناك، وفي وسائل الإعلام من هنا ومن هناك، هذا هو عالمنا، العالم الذي مزقته العصبية المذهبية، عالمنا الذي مزقته العصبية العنصرية، عالمنا الذي مزقته العصبية اللادينية، عالمنا الذي مزقته العصبية الشيوعية والنصرانية الحاقدة التي انطلقت في العالم بأسره، وقد أعماها الحقد، وقد أعماها العنصر والمذهب واللون، أعماها حتى انطلقت لتسوم البشرية حرباً بعد حرب، وبلاء بعد بلاء، وشقاء بعد شقاء، لتسوم البشرية الضنك والشقاء والهوان والذل، حرباً في الحرب، وحرباً في السلم، هذه هي العنصرية المذهبية الجديدة، وهذه هي العنصرية اللونية الجديدة، وهذه هي عنصرية العالم المتحضر، هذه هي عنصرية العالم المتطور، الذي يتغنى كل يوم بحرية الاعتقاد، وبـ الديمقراطية، وبالدعوة إلى السلام.
ما زالت فصول المسرحية قائمة على الرغم من كثرة الوعود، وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من التصريحات الكاذبة، ومن الإعلانات الملونة التي تنيم الناس، وتنيم المسلمين، لتتم آخر فصول هذه المسرحية بإبادة الجنس المسلم من جمهورية البوسنة والهرسك المسلمة.
ما أحوجنا إلى صدق الوعد، ما أحوج العالم بأسره إلى صدق الوعد حكاماً ومحكومين، إنه المسخ الذي يصيب الروح البشرية في عصر الظلام والانتكاس، إنه المسخ الذي يصيب الحياة البشرية في عصر قيادة العالم الأوروبي المتحضر، في عصر قيادة الرجل الغربي، وما هنالك من بلسم يمس هذه الروح البشرية فيشفيها، وما هنالك من شعاع يضيء خوافيها ودروبها، ولن تعود هذه البشرية، ولن تفيء إلى الحق إلا إذا عاد الإسلام من جديد؛ ليقود ركب البشرية مرة أخرى ليحيل اختراعاتها وعلومها واكتشافاتها إلى أدوات رحمة وسلام، لا إلى أدوات حرب وانتقام، حولتها إلى أدوات حرب لأنها تملك صناعة الحرب، لأنها تملك القنبلة والصاروخ والمدفع ولا تملك ذرة من ذرات الحب، ولا طاقة من طاقات الصدق، ولا دليلاً من أدلة العدالة، على مرأى ومسمع من الدنيا، وعد بنهار يخلف بليل، ووعد بليل يخلف بنهار، وتصريح هنا يكذب هناك، وتصريح هناك ينقض هنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أين الشهامة؟ أين المروءة؟ أين الرجولة؟ لذا أيها الأحباب! لابد أن نرفع رءوسنا خفاقة عالية بأخلاق إسلامنا، هذا الإسلام الذي لابد له مرة أخرى أن يعود من جديد، ليتحمل قيادة البشرية، وليقود قافلة البشرية إلى بر التوحيد والإيمان والأمان، ولن يعود الإسلام هكذا كما تتنزل الأمطار من السماء، وإنما إذا أردنا أن يعود الإسلام فكل منا على ثغرة من الثغور لعودته، لابد أن نعود نحن أولاً إلى الإسلام، لابد أن نعود إلى مصدر عزنا وشرفنا وبقائنا، وكرامتنا وقيادتنا، إنه الإسلام الذي حول رعاة الغنم في أرض الجزيرة في الماضي القريب إلى قادة وسادة لجميع الأمم، إنه الإسلام الذي قال عنه فاروق هذه الأمة: [لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله].
لابد من العودة إلى أخلاق الإسلام جملة وتفصيلاً، لابد من العودة إلى الإسلام بدأً من الحاكمية لله فلا يحكم إلا كتاب الله وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نلفظ شرع البشر من ملاحدة وزنادقة وعلمانيين وشيوعيين وديمقراطيين واشتراكيين وغيرهم من هذا الصنف الخبيث لنعود إلى شرع الله وحده: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
ولابد من العودة إلى أخلاق الإسلام جملةً وتفصيلاً بدأً من الحاكمية -كما قلت- وحتى إماطة الأذى عن الطريق (الإيمان بضع وسبعون شعبة) نعم لابد من العودة إلى جميع هذه الشعب، لابد من العودة إلى كتاب الله لنقيمه حكماً حكماً، ونهياً نهياً، وحداً حداً، وكلمةً كلمةً، بل وحرفاً حرفاً {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
والعودة إلى هذه الأخلاق ليست أمراً مستحيلاً، وليست من المثل العليا في دولة أفلاطون المثالية، لا.
فإن الإسلام هو دولة مثالية، إن الإسلام هو دولة الأخلاق، إن الإسلام هو دولة العقيدة والسلوك والعمل.(23/5)
الأنصار والوفاء بالوعد
إن الإسلام عقيدة وشريعة، إن الإسلام معاملة وسلوك وواقع، إن الإسلام منهج حياة، ولذلك لما ربى النبي صلى الله عليه وسلم الرعيل الأول على أخلاق الإسلام ضربوا للتاريخ كله أروع المثل على صدق الوعد وعلى الوفاء بالعهد، واستطاعوا أن يضربوا لنا المثل في أن الإسلام ما أنزل إلا ليحول إلى واقع حياة، وإلى منهج عملي، وإلى سلوك واقعي تطبيقي.
تعالوا بنا لنطير على جناح السرعة إلى هذا الاجتماع المبارك، حيث جلس الأنصار الذين شرح الله صدورهم للإسلام على يد داعية الإسلام الأول مصعب بن عمير رضي الله عنه، جلس ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم ليعقدوا معه بيعة العقبة الثانية.
ولنترك أحد قادة الأنصار يحدثنا عن هذا الاجتماع التاريخي الكبير الذي حول وجه التاريخ في صراع الوثنية ضد الإسلام، لنترك كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه يحدثنا والحديث بطوله رواه الإمام البيهقي، ورواه ابن إسحاق بإسناد صحيح، ورواه الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله والحديث رواه ابن حبان أيضاً في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
ماذا يقول كعب، يقول: (اجتمعنا في الشعب عند العقبة، وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، فجلسنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان ما زال على دين قومه -أي: والعباس مازال على دين الشرك ولكنه جاء لينظر في أمر ابن أخيه- يقول كعب بن مالك: فكان أول متكلمٍ هو العباس، فقال العباس بن عبد المطلب: يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فإنه في عز من قومه، ومنعة في بلده، إلا أنه أبى إلا الانحياز لكم، واللحوق بكم، فإن أنتم أنجزتم له ما دعوتموه إليه فأنتم وذلك، وإن أنتم رأيتم أنفسكم أنكم خاذلوه وأنكم مسلموه فدعوه من الآن فإنه في عز من قومه ومنعة في بلده، يقول كعب بن مالك: فقلنا للعباس: قد سمعنا ما قلت يا عباس، فتكلم أنت يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، يقول كعب: فتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقرأ القرآن ودعا إلى الله جل وعلا، وبايعنا على أن نمنعه مما نمنع منه أبناءنا ونسائنا، ووعدنا الجنة) وفي رواية جابر بن عبد الله التي أشرت إليها آنفاً قال الأنصار: (علام نبايعك يا رسول الله؟ قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقوموا لله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا أتيت إليكم، وأن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم).
نرجع إلى كعب بن مالك، يقول كعب: (فأقبل إليه البراء بن معرور رضي الله عنه وأخذ بيد الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: والذي بعثك بالحق نبياً يا رسول الله! لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله، فوالله إنا لأهل الحروب وإنا لأهل الحلقة، ولسوف ترى منا ما تقر به عينك، فبايعنا يا رسول الله) وفي رواية جابر بن عبد الله، يقول: (فقاطع البراء بن معرور وهو يتكلم أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه فقال أبو الهيثم: يا رسول الله! إن بيننا وبين الرجال -أي: بيننا وبين اليهود- حبالاً وإنا قاطعوها، فإن نحن فعلنا ذلك وأظهرك الله أترجع إلى قومك وتدعنا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبتسماً: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، أنا منكم وأنتم مني) وفي رواية جابر: (قام أسعد بن زرارة رضي الله عنه ليبين للأنصار خطورة هذه البيعة وخطورة هذا العهد، فلما نظر إليهم قال له الأنصار: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نستقيلها، يقول جابر: فقمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه رجلاً رجلاً ويعدنا على ذلك الجنة).
وتمضي الأيام، وهاهي الأيام تمر، تجر خلفها الشهور، وتسحب معها السنين، ويأتي أول اختبار على صدق هذا الوعد والعهد والبيعة للأنصار في غزوة بدر الكبرى، يرى النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ولا محالة فيه قتال، فيشير النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ويقول: (أشيروا علي أيها الناس، فيتكلم أبو بكر رضي الله عنه الصادق الكريم، فيحسن الصديق رضي الله عنه القول فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، ويتكلم فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويحسن عمر الخطاب والكلام فيدعو له النبي صلى الله عليه وسلم بخير، ويتكلم المقداد رضي الله عنه فيقول: يا رسول الله! امض لما أراك الله، فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله يا رسول الله، لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه).
ولكن المتكلمين أبو بكر وعمر والمقداد كانوا من المهاجرين، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يستمع إلى رأي الأنصار لأن رحى الحرب ستدور على كواهلهم وسواعدهم، فهم الكثرة الكاثرة في جيش النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ملتفتاً إلى الأنصار: أشيروا علي أيها الناس، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم، سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، فقال سعد: (والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل يا سعد - أتدرون ماذا قال سعد الأنصاري؟ - قال سعد: يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، فامض يا رسول الله حيث شئت، والله لا يتخلف عنك منا رجل واحد، والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله يا رسول الله) فسر النبي صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء هم الرجال، هؤلاء هم الأبطال، هؤلاء هم أهل الصدق والوفاء الذين بيضوا وجه الحنيفية، وسطروا للتاريخ كله أن هؤلاء هم تلامذة محمد بن عبد الله الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأخلاق فتحولوا من رعاة الغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم، إنه صدق الوعد.
ما أحوجنا إلى أن نقف أمام هذا الدرس العظيم الكريم لنأخذ منه الدروس والعظات والعبر.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(23/6)
حكم إخلاف الوعد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! انتبهوا معي إلى هذا الجانب الفقهي من موضوعنا اليوم، فلقد لخص الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى في كتابه القيم جامع العلوم والحكم أحكام إخلاف الوعد، فقال: وإخلاف الوعد ينقسم إلى قسمين: الحالة الأولى: أن يعد الإنسان وفي نيته ألا يفي بالوعد -وهو شر الخلف- يقول الحافظ فإن وعد وقال: إن شاء الله، وفي نيته أن يخلف الوعد فقد وقع في الخلف والكذب، إن قال: إن شاء الله أفعل كذا، وفي نيته ألا يفعل فقد وقع في الخلف والكذب.
أما الحالة الثانية: أن يعد وفي نيته أن يفي بوعده، ولكن يطرأ عليه طارئ بحال، فيخلف وعده من غير عذر له في الخلف، وهذا أيضاً من إخلاف الوعد.
الحالة الثالثة: وأنا أضيف إلى هاتين الحالتين حالة من عند نفسي، لأننا كثيراً ما نقع فيها ألا وهي: أن يعد الإنسان وفي نيته أن يفي بوعده إلا أنه ينسى -وهذا كثيراً ما يقع- وإن شاء الله تعالى من وقع في هذه الحالة فلا إثم عليه للأدلة الصريحة الصحيحة في ذلك ومنها: ما رواه الإمام مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما نزل قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله جل وعلا: قد فعلت) ولما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والحديث رواه ابن ماجة في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ورواته محتج بهم كلهم في الصحيحين إلا أن الإمام أحمد رحمه الله قد أنكر هذا الحديث إنكاراً كبيراً.
أيها الأحبة في الله! اصدقوا إذا وعدتم، واصدقوا إذا عاهدتم، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يتحلى بهذا الخلق، بل وبكل أخلاق الإسلام، إنه ولي ذلك ومولاه.
اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا، والإخلاص في أعمالنا، والإخلاص في أحوالنا، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم حلنا بأخلاق القرآن، اللهم حلنا بأخلاق الإسلام، اللهم حلنا بأخلاق الإسلام أنت ولي ذلك والقادر عليه يا رب العالمين.
اللهم أعد الأمة إلى الإسلام وردها إليه رداً جميلاً، اللهم رد الأمة إلى الإسلام رداً جميلا، اللهم خذ بنواصينا إليك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.
اللهم عليك بالصرب النصارى يا رب العالمين، اللهم مزق شملهم، اللهم شتت صفهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم أرنا فيهم يوماً كيوم عادٍ وثمود أنت ولي ذلك والقادر عليه، اللهم أطعم المسلمين الجياع، اللهم احمل المسلمين الحفاة، اللهم اكسُ المسلمين العراة، اللهم كن لنا ولا تكن علينا يا رب العالمين، وإن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحبتي في الله! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله تعالى وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله من أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.(23/7)
الثبات حتى الممات
إنما الأعمال بالخواتيم، فمن ختم له بخير فقد أفلح ونجح، ومن ختم له بشر فقد خاب وخسر والعياذ بالله، فعلى كل مسلم أن يخاف من سوء الخاتمة، وأن يسأل الله عز وجل الثبات على الدين حتى الممات، وعليه أن يحرص على العمل بأسباب الثبات؛ عسى الله أن يوفقه لذلك.(24/1)
لا يشترط في الواعظ عدم الخطأ
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! (الثبات حتى الممات) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه, ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: مقدمة موجزة.
ثانياً: أهمية الموضوع.
ثالثاً: مواطن الثبات.
رابعاً: الناس صنفان.
وأخيراً: وسائل الثبات.
فأعرني قلبك وسمعك، وأسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
أولاً: مقدمة موجزة: أيها الأحبة! كان من المفترض ألا يتكلم عن الثبات حتى الممات إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، ولست -والله- منهم، ولكنني أقول دوماً: قد ينطلق المرء للحديث لا من منطلق شعوره بالأهلية وإنما من منطلق شعوره بالمسئولية، وهذا ما تؤصله وتقرره القاعدة الأصولية: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ويكاد يرن في أذني وأنا أتحدث عن موضوع الثبات قول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس والطبيب عليل فالله أسأل أن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يسترنا في الدنيا والآخرة، وأضرع إلى الله عز وجل مع القائل: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني(24/2)
أسباب طرح موضوع الثبات
ثانياً: أهمية موضوع الثبات: إن موضوع الثبات حتى الممات من الموضوعات الهامة التي يجب أن تطرح لا في المناسبات وإنما في كل الأوقات، فإنه الغاية والهدف أن تلقى الله على طاعة، أن تلقى الله على التوحيد الخالص، وعلى العبودية الكاملة، وتزداد أهمية طرح الموضوع من وجهة نظري لسببين: السبب الأول: كثرة الفتن في هذا الزمان، فلو أسميت هذا الزمان الآن بزمان الفتنة أو بزمان الفتن ما بالغت وما تجاوزت الحد؛ فلقد كثرت الفتن، روى مسلم رحمه الله من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) سل نفسك: لماذا؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبيع دينه بعرض من الدنيا) يبيع الدين بعرض من الدنيا؛ والدنيا زائلة، يبيع الغالي بالرخيص، فلقد كثرت الفتن في هذا الزمان بصورة مدمرة مزلزلة، وحتى لا أطيل ولأعرج على بقية عناصر الموضوع -إن شاء الله جل وعلا- أقول: بالجملة فإن الفتنة تنقسم إلى قسمين: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، أما فتنة الشهوات فلقد عصفت الآن بكثير من القلوب، وعبد كثير من الناس هذه الدنيا، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يبذلون، ومن أجلها يعملون، ومن أجلها يخططون، ومن أجلها يفكرون، بل ومن أجلها يوالون ويعادون، فالأكثر لا هم له إلا الدنيا، ولا يبذل الوقت والجهد والعرق إلا من أجل هذه الدنيا.
ووالله -يا إخوة- ما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من الفقر أبداً، بل خاف النبي على هذه الأمة من الدنيا، كما روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الفقر أخشى عليكم) وتدبروا هذا الحديث! فرسول الله لا يخشى على أمته من الفقر، (والله ما الفقر أخشى عليكم) إذاً: ما الذي تخشاه على الأمة؟ يقول المصطفى: (ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) فكم من الناس الآن من لا يعيش إلا من أجل شهواته!! وفتنة الشبهات التي مزقت الأمة الواحدة إلى جماعات شتىً، وإلى فرق، وإلى أهواء، ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة -وفي لفظ: على ثلاث وسبعين ملة- كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي) فالفتن كثيرة، فهناك فتنة الأموال، وهناك فتنة الإعلام، وهناك فتنة هوان الأمة وذلها، وهناك فتنة الابتلاءات التي تصب على رءوس الموحدين هنا وهنالك في كل مكان، فالفتن كثيرة، وهي تعصف بقلوب الموحدين في هذه الأيام، حتى شعر المسلم الحقيقي بالغربة في هذا الزمان، كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي غير رواية مسلم: (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي لفظ قال: (الذين يصلحون ما أفسده الناس) وفي لفظ قال: (الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس)، وفي لفظ قال: (الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فالغريب الآن هو: الذي يفر بدينه من الفتن، بل إن الذي يصبر على الدين، ويعيش الآن للدين، ويتحرك بهمِّ هذا الدين، ويفكر في أمر هذه الدعوة؛ كالقابض على الجمر بيديه، جاء في سنن الترمذي -والحديث حسن بشواهده- من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي زمان على الناس الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) إن الذي يريد الآن أن يتمسك بدين الله، ويريد أن يصبر على هذه الفتن والأهواء التي تعصف بقلبه؛ كأنه يقبض على الجمر بيديه، ولكثرة هذه الفتن وجب أن يُطرق موضوع الثبات، وأن يدندن العلماء والدعاة حوله، وأن يبينوا للأمة وسائل الثبات وسط هذا البحر الخضم من الفتن والأهواء، نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
السبب الثاني من أسباب أهمية موضوع الثبات: أن موضوع وأمر الثبات على الدين أمر متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على التوحيد، فانتبه لدعاء من فطره الله على التوحيد، وانتبه لدعاء من لينت مفاصله وجوارحه على طاعة العزيز الحميد، ألا وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكثر في دعائه من قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال المصطفى: يا أم سلمة! ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه) والحديث رواه أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه، ثم قال: اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلوبنا على طاعتك).
أيها الأحبة! لقد صور النبي صلى الله عليه وسلم عرض الفتن على القلوب بصورة بليغة دقيقة، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) وكيفية صناعة الحصير في الماضي هي: أنه كان يجلس الصانع فيضع العود بعد العود بعد العود، فيصنع بذلك الحصيرة الكبيرة المعروفة، (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فتعرض فتنة صغيرة فيتشرب القلب الأسود هذه الفتنة، فتنكت هذه الفتنة في القلب نكتة سوداء، ثم تعرض عليه فتنة أخرى فيتقبلها ويتشرف لها؛ فتتوسع بقعة السواد في القلب، وهكذا حتى يعلو الران القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15].
فأمر الثبات أمر خطير؛ لأنه متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، فأنت الآن قلبك على حال، وأنت إذا كنت في بيئة الطاعة فقلبك يزداد فيه الإيمان، ومحال أن يكون جلوسك في بيئة الطاعة كجلوسك أمام فيلم من الأفلام الداعرة أو مسلسل من المسلسلات الفاجرة؛ والإيمان يزيد وينقص، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص الإيمان بالمعاصي والزلات، فعرض قلبك لبيئة الطاعة ليقوى الإيمان في قلبك، واصرف قلبك وعينك وجوارحك عن بيئة المعصية حتى لا يعلو الران قلبك وأنت لا تدري، أسأل الله أن يطهر قلوبنا بالإيمان.(24/3)
ذكر بعض المواضع التي يجب الثبات فيها
ثالثاً: مواطن الثبات.
في عجالة سريعة أقول: إن المواطن التي يحتاج فيها المسلم إلى الثبات كثيرة، وأهمها الثبات على الدين وعلى المنهج، والثبات في الفتن، والثبات في الجهاد، والثبات عند الممات.
أما الثبات على المنهج فواجب على كل مسلم أن يثبت على منهج الله، ومن فضل الله ورحمته بنا أن الله جعل منهجه ميسراً لكل مسلم، فما عليك إلا أن تخطو على طريق الله، وما عليك إلا أن تفتح باب المسجد، وأن تدخل إلى بيت الله، وأن تتضرع إلى الله، وأن تطرح قلبك بين يدي الله، واترك بعد ذلك التسديد والمدد والتوفيق لمن بيده القلوب جل وعلا، فالمنهج ميسر، وتدبر معي قول الله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] الله أكبر! وقوله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وكما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) الشاهد من الحديث قوله: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) فمنهج الله ميسر، ما عليك إلا أن تخطو على الطريق، وستجد المدد والتوفيق والتسديد من الله جل وعلا.
فيجب عليك أن تثبت عند هذه الفتن الكثيرة التي ذكرت، وهذا بتعرفك على وسائل الثبات التي سأذكرها، وحرصك على أن تحولها في حياتك إلى واقع.
ويجب عليك أن تثبت في الجهاد، والجهاد مراحل ودرجات، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقمع أهل الزيغ وأهل الفساد، ووالله ما ذلت الأمة إلا يوم أن تركت ذروة سنام الإسلام، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، لقد تثاقلت البطون والقلوب إلى الأرض وإلى الوحل والطين، ونسيت الأمة هذه الرسالة المباركة التي أرسل الله بها أمثال الإمام المجاهد العلم عبد الله بن المبارك لأخيه التقي النقي عابد الحرمين الفضيل بن عياض، أرسل له بهذه الرسالة من ميدان البطولة والشرف من ساحة الوغى، من الميدان التي تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب، يقول عبد الله بن المبارك لأخيه الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين! لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب فلا بد أن يعد الإنسان نفسه ليثبت إن منَّ الله عز وجل برفع علم الجهاد؛ والجهاد ماضٍ وباقٍ إلى يوم القيامة، ومن كذّب ذلك وأنكره فقد كذب الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم مواطن الثبات: الثبات عند الممات، اللهم ثبتنا عند الموت، فالثبات عند الممات هو الغاية، بل أنت مأمور به كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فأنت مأمور أن تموت على الإسلام، فمن الذي يثبته الله على فراش الموت؟ ومن الذي يضله الله عن التوحيد على فراش الموت؟ سؤال ينبغي أن نفكر فيه بقلوب واعية، والجواب لك على هذين السؤالين من الله: يقول جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
إذاً: الذي يثبته الله على فراش الموت هو المؤمن، ويضل الله على فراش الموت الظالمين، فيخون الظالم لسانه، ويعجز اللسان أن يردد (لا إله إلا الله) في وقت يكون الإنسان في أمس الحاجة إلى أن يعي قلبه حقيقة التوحيد، وأن يترجم لسانه حقيقة الإيمان، وهنا ينقسم الناس إلى صنفين وهذا هو عنصرنا الرابع بإيجاز شديد.(24/4)
أصناف الناس عند الموت
الناس صنفان: صنف إذا نام على فراش الموت تهلل وجهه، وتهللت أساريره، وترى الابتسامة العريضة تعلو وجهه وشفتيه، وترى لسانه وكلامه يردد: (لا إله إلا الله)؛ لأنه عاش على لا إله إلا الله، وبذل وقته للتوحيد، وحول التوحيد في حياته إلى واقع، فحق على الله -حق أخذه الله على ذاته؛ إذ ليس لأحد حق على الله- لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يحسن الله نهايته، وأن يتولى الله رعايته، واسمع إلى الحافظ ابن كثير إذ يقول: (لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه) الله أكبر! إن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على المعصية -أعاذني الله وإياك- مت على المعصية، وبعثت على المعصية، روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) فإن مت على الطاعة بعثت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد مت على التوحيد، وبعثت تحت راية إمام الموحدين وسيد المحققين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(24/5)
مواقف وأحوال بعض العصاة عند الموت
هذا صنف خبيث آخر -نسأل الله الستر والسلامة والعافية- إذا نام على فراش الموت خانه لسانه، وخانه قلبه، ويضله الله عن قولة التوحيد، وعن قولة الإيمان، يذكر الإمام ابن القيم في أحد كتبه: أن رجلاً مرت عليه امرأة فقالت له: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فنظر هذا الرجل إلى المرأة وإلى جمالها، فوقعت في قلبه، فأشار إلى باب داره، وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة الدار، ولما علمت أنها وقعت في فخ المعصية، أرادت أن تزين المعصية له حتى تهرب، ثم انصرفت إلى حال سبيلها بعدما قالت: ائتني بكذا وكذا، فخرج الرجل ليأتيها بالطعام والشراب، ولما عاد كانت المرأة قد خرجت وهربت، فلم يجدها، فخرج ليبحث عنها في الشوارع والطرقات وهو يقول: يا رب قائلة يوماًَ وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ ولما نام على فراش الموت ذهبوا ليلقنوه.
(لا إله إلا الله) فكان يرد عليهم قوله: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وختم له بهذه الكلمات.
والعياذ بالله! وهذا رجل في المنصورة يخبرني عنه أخ ثقة: أنه كان جاراً له؛ يقول: ما من مرة دخلت البيت إلا وأسمع الغناء الفاحش في دار هذا الرجل، فذكرته مراراً وتكراراً فأبى، فكبر سنه وهو لم يصل لله جل وعلا.
يقول: فسمعت أنه يحتضر، فصعدت إليه؛ لأنه كان يسكن في البيت الذي يعلوني، فرأيت الرجل في فراش الموت يحتضر، ولا زال شريط الغناء يغني! فقلت لأبنائه: اتقوا الله؛ أبوكم يحتضر، وملك الموت بيننا، والملائكة الكرام حولنا، وأنتم تضعون الغناء، ضعوا القرآن الكريم لعل الله أن ييسر عليه، وأن يهون عليه السكرات والكربات، يقسم بالله العظيم إن أبناءه سكتوا، واقترب من جهاز الكاست ليخرج شريط الغناء، يقول: أقسم بالله لقد كشف الرجل الغطاء عن وجهه وقال لي: دع الغناء؛ فإنه ينعش قلبي!!! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.(24/6)
مواقف في ثبات بعض الصالحين المتأخرين عند الموت
أيها الأحبة! قد يقول قائل من آبائنا وأحبابنا: هؤلاء هم أصحاب النبي، وهؤلاء هم السلف، فأين نحن من هؤلاء؟! فنقول: يا إخوة! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله ذو الفضل العظيم، كما قال تعالى: {ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين} [الواقعة:39 - 40] وقال: {ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين} [الواقعة:13 - 14].
هذا شاب أمريكي يختم له وهو ساجد يصلي لله عز وجل.
وأخبرني بعض الإخوة عن داعية من إخواننا في الإسكندرية، وقف يتكلم عن مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة، وهو يتلمض ويتغيظ قلبه، ويكاد قلبه أن يتمزق وأن يتقطع، فيصاب بانفجار في المخ؛ فيموت وهو على منبر رسول الله! انظروا إلى الخواتيم؛ فالخواتيم ميراث السوابق.
وهذه أخت فاضلة ترجع مع زوجها بعد العمرة، وتركب الباخرة التي سمعتم عن حكايتها، وأوشكت الباخرة على الغرق، فقال هذا الزوج لزوجته: هيا اخرجي لنصعد فوق السطح؛ لأن المركب يغرق، فقالت: انتظر حتى ألبس ثيابي ونقابي فقال: هذا وقت نقاب؟! أهذا وقت ثياب؟! اخرجي فالناس أوشكوا على الغرق، فقالت: والله! لن أخرج إلا بكامل ثيابي، حتى إن قدر الله عليّ الموت ألقى الله وأنا على طاعة، ولبست ثيابها والمركب يغرق، وصعدت إلى السطح، فلما علمت أنها إلى الهلاك سائرة تعلقت بزوجها وقالت: أستحلفك بالله، هل أنت راضٍ عني؟ فبكى، فقالت: أريد أن أسمعها منك، قال: والله! ما رأيت منك إلا الخير، قالت: أريد أن أسمعها منك، فنظر إليها وبكى، وقال: أشهد الله أني راضٍ عنك، فتعلقت به وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يقول: والله! ما رأيتها بعد هذه الكلمات، وأسأل الله أن يجمعني بها في جنة رب الأرض والسماوات.
إنها الخواتيم! وهذا مؤذن يؤذن عشرين سنة ابتغاء مرضات الله عز وجل، وقبل الموت مرض مرضاً شديداً أعجزه أن يخرج للصلاة، وأعجزة أن يخرج إلى بيت الله جل وعلا، وفي اليوم الموعود بكى، ورفع أكف الضراعة إلى الله وقال: يا رب! أؤذن عشرين عاماً، وأحرم من الأذان في آخر عمري! فنادى على أولاده وقال: وضئوني، فوضئوه، فقال: هل حان وقت صلاة الظهر؟ قالوا: نعم، فقام على سريره في بيته واتجه إلى القبلة ورفع الأذان كاملاً إلى أن وصل إلى قوله: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم خر على سريره، وقد فاضت روحه إلى الله، ولسانه يردد: لا إله إلا الله! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.(24/7)
مواقف في ثبات بعض السلف الصالحين عند الموت
تدبروا هذا الصنف المبارك الذي عاش في الدنيا لدين الله، ولتوحيد الله؛ فمات على التوحيد، فهذا صديق الأمة الأكبر رضوان الله عليه أبو بكر، فقد جاء أنه لما نام على فراش الموت، وحشرجت روحه؛ دخلت عليه الصديقة بنت الصديق عائشة رضوان الله عليها، وأنشدت بيتاً من الشعر فقالت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق الغطاء عن وجهه، وهو على فراش الموت بثبات عجيب، ونظر لـ عائشة وقال: يا ابنتي! لا تقولي هذا، وإنما قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
ولما نام فاروق الأمة عمر على فراش الموت دخل عليه الصحب الكرام، ومن بينهم ابن عباس، فقال له: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد مصّر الله بك الأمصار، ونشر الله بك العدل، وصحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر، فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راضٍ, وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فإنهم عنك راضون، ثم شهادة في سبيل الله، فأبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فبكى عمر وقال: والله! يا ابن عباس! لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله! لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه! عمر فاروق الأمة يقول: لو أن لي ملء الأرض لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه.
انظروا إلى هذا الثبات العجيب أيها الخيار الكرام! ومن بين هؤلاء الناس يخرج شاب يلبس ثوباً طويلاً- والحديث في صحيح البخاري - فينظر عمر، ودماؤه تنزف، والأمة تصرخ وتبكي على فراق فاروقها الملهم، وينظر عمر وهو على فراش الموت إلى هذا الشاب وهو يلبس ثوباً يجره على الأرض، فيقول الفاروق الأمير: ردوا علي هذا، ويرجع إليه الشاب، فيقول له عمر: يا ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك وفي لفظ البخاري: (فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك.
الله أكبر! على فراش الموت يأمر بالمعروف، على فراش الموت ينهى عن المنكر! ما قال: هذه قشرة من قشور الدين، لا، والله! وما قال: هذه جزئية من جزئيات الدين، لا، والله! لأن الدين لا ينقسم إلى قشور ولباب، وإنما الذي جاء بالكل هو الذي جاء بالجزء، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أتفق معك -أيها الحبيب المبارك يا من تنادي بفقه الأولويات في الدعوة إلى الله- أنا معك على طول الخط، فلابد من فقه الأولويات، لكن شتان شتان بين فقه الأولويات، والسخرية والتحقير للفرعيات والجزئيات، فلا تحقر فرعاً، ولا تحاول أن تزيحه، نعم؛ ابدأ بالأهم فالمهم، لكن لا تحقر جزئية، ولا تقل: هذه من قشور الدين؛ فإن الدين كل لا يتجزأ، ولا ينقسم إلى قشور ولباب.
والشاهد هو: ثبات عمر رضوان الله عليه.
وهذا عثمان رضوان الله عليه؛ روى الطبري بسند صحيح أن عثمان بن عفان لما حوصر من الأوغاد المجرمين، ومنعوا عنه الماء، ووالله! لو صبروا عليه قليلاً لمات عثمان عطشاً، وهو الذي لا زال ماء بئره الذي اشتراه بخالص ماله يفيض على المسلمين في كل أنحاء مدينة رسول الله.
عثمان رضوان الله عليه في هذه الليلة التي قتل فيها ينام بعدما صلى ما شاء الله له أن يصلي، وقرأ من القرآن ما شاء الله له أن يقرأ؛ فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقول له الحبيب: أفطر عندنا غداً يا عثمان! فيصبح عثمان ويفتح باب داره، ويفتح القرآن بين يديه؛ لأنه علم أن الأجل قد انتهى، وأنه مقتول، ودخل عليه المجرمون الثوار؛ فدخل عليه الغافقي المجرم فضربه بحديدة في يده، وضرب المصحف برجله! فاستدار المصحف دورة كاملة، واستقر مرة أخرى في حجر عثمان؛ لتسيل عليه دماء عثمان، فتخالط دماء عثمان آيات القرآن كما خالطت آيات القرآن دماء عثمان رضي الله عنه، ويقتل عثمان وهو يقرأ القران، يا لهذه الخاتمة! وهذا علي يطعن هو الآخر ويعود إلى فراشه ويقول: أدخلوا عليّ أبنائي، فأدخلوا عليه أبناءه، فبذل لهم وصية طويلة -كلما قرأتها تعجبت! - وقال: انصرفوا عني، وظل يقول: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) حتى فاضت روحه وهو يرددها، رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه ينام على فراش الموت ويدخل عليه ابن عمه ويقول له: يا أمير المؤمنين! لقد تركت أولادك فقراء، ألا توصي لأبنائك بشيء؟! فيقول عمر بن عبد العزيز: (وهل أملك شيئاً من المال لأوصي لأبنائي به أم تريد أن أوصي لهم بأموال المسلمين؟! والله! ما أنا بفاعل، أدخلوا أبنائي عليّ، فأدخلوهم عليه، وهو على فراش الموت، فنظر إليهم وبكى، وقال: أي بنيّ! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن يترككم فقراء ويدخل الجنة أوأن يترككم أغنياء من أموال المسلمين ويدخل النار، ولقد اختار أبوكم الجنة إن شاء الله، وأنتم عندي أحد رجلين: إما أن تكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن تكونوا غير ذلك فلا أدع لكم ما تستعينون به على معصية الله؛ وأسأل عنه أنا بين يدي الله، اخرجوا عني، فخرجوا عنه، وهو يردد قول الله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وفاضت روحه إلى رب العالمين، وهو يردد هذه الآية من كلام أحكم الحاكمين.(24/8)
وسائل الثبات على دين الله عز وجل
أيها الأحبة! ما هي الوسائل التي تعينك على الثبات على دين الله، حتى تلقى الله عز وجل على دينه وطاعته، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لذلك، فإنما الأعمال بالخواتيم، أسأل الله أن يحسن خاتمتنا:(24/9)
من وسائل الثبات الاستعانة بالله عز وجل
أول وسيلة من وسائل الثبات حتى الممات: أن تستعين برب الأرض والسماوات؛ فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاستعن بالملك أن يثبت قلبك، وأن يسدد رميتك، وأن يثبت قدمك على الطريق، ذكر الإمام ابن الجوزي أن شيخاً من الشيوخ قال لطالب علم عنده: يا بني! ماذا أنت صانع لو مررت على غنم فنبحك كلبها؟ فقال التلميذ: ادفع الكلب ما استطعت، قال: فماذا تصنع إن نبحك الثانية؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، قال: فإن نبحك الثالثة؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، فقال الشيخ لتلميذه: يا بني! ذاك أمر يطول، ولكن استعن بصاحب الغنم يكف عنك كلبها، وكذا استعن بالله يكف عنك كيد الشيطان.
فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن استعان به هداه، فأول سبيل أن تطرح قلبك بمنتهى الذل والفقر لله عز وجل، واعترف له بضعفك وبعجزك، واعترف له بفقرك، وقم في الليل، ففي الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، وإن لله عباداً يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنّ عليهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب لحبيبه، نصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا إلى الله جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه؛ فإن أول ما يمنح الله عز وجل هؤلاء أن يقذف من نوره جل وعلا في قلوبهم، فقم في الليل، وإذا خلا الأحباب بالأحبة فقم أنت وتضرع إلى الله ليثبتك ويسددك، واطلب العون والمدد منه جل وعلا.(24/10)
من وسائل الثبات ذكر الجنة والنار
وأخيراً: ذكر الجنة والنار، فأكثر من ذكر الجنة، وأكثر من التدبر في أحوال النار وأهل النار؛ فإن كثرة التذكر والتدبر للجنة والنار يدفعك للطاعة، ويعينك على أن تثبت على الطاعة، فهذه الدنيا قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة، فكم ستعيش؟! ستعيش أياماً قليلة جداً، فبالمقارنة إلى الزمن ستعيش أياماً قليلة، فتذكر دار القرار، وتذكر النار، واعلم أنك هنا في مزرعة، وفي بوتقة ابتلاء واختبار، فاغرس هنا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وتذكر الجنة، وذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيل وأضلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل وذكرها بقول الآخر: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا أسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على الحق، اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا.
اللهم برحمتك لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم اجعل هذه البلاد سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واجعل هذه البلاد أمناً وأماناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(24/11)
من وسائل الثبات مجالسة الصالحين
خامساً: مجالسة الصالحين وصحبتهم كما ذكرت، فاحرص على صحبة الصالحين في الدنيا، وبعد موتهم بقراءة شعرهم، والاطلاع على أخبارهم، يقول الإمام ابن القيم: كنا إذا ضاقت صدورنا ذهبنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فإذا رأيناه وسمعنا كلامه؛ انطلقنا وقد شرح الله صدورنا.
وفي سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير، مغاليق للشر) فاحرص على هذه المفاتيح التي تفتح قلبك وأذنك وسمعك وبصرك على الخير.(24/12)
من وسائل الثبات قراءة القرآن والعمل به
ثانياً: من أعظم وسائل الثبات قراءة القرآن الكريم والعمل به، قال تعالى: {وَقَاْلوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] فالترتيل للقرآن من أعظم وسائل الثبات.
أيها الحبيب المبارك! إن عجزت عن أن تقرأ أنت بنفسك فاسمع القرآن، وإن عجزت عن ذلك كله فاجلس إلى رجل واطلب منه أن يقرأ عليك القرآن، فكما يفكر الواحد منا في أن يدخل لبيته كل وسائل الترفيه، وكل وسائل السعادة؛ فليفكر في أن يمنح لرجل من أهل القرآن راتباً نظير حبسه لوقته، لا نظير تعليم القرآن، وليقل له: تعال علمني القرآن، وعلمني قصار السور، وأسمعني القرآن، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66] فاقرأ القرآن، وتدبره واجتهد على قدر استطاعتك أن تعمل به.(24/13)
من وسائل الثبات مداومة ذكر الله عز وجل
ثالثاً: ذكر الله، فلا يفتر لسانك عن ذكر الملك، ولقد ضرب النبي لنا مثل الذاكر ومثل الغافل في حديث عجيب رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) فالذاكر حي، والغافل عن الذكر ميت ولو كان يعيش بين الأحياء، فأكثر من ذكر الله، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله عن رب العزة عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فهل تريد شيئاً أعظم من أن يكون الله معك؟! وإذا كان الله معك فمن يكيدك؟ ومن ضدك؟ (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).(24/14)
من وسائل الثبات المحافظة على الصلاة في جماعة
رابعاً: المحافظة على الصلوات في جماعة، فاحرص على أن تهرول إلى بيوت الله، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإخوانك هم الذين يأخذون بيديك إلى الطاعة، ويذكرونك بالله، والنظر في وجوه الصالحين ورؤيتهم تذكرك بطاعة رب العالمين، كما قال سيد المرسلين: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إن لم تشتر منه ستشم الطيب منه، ونافخ الكير إن لم يحرق كيره ثيابك ستشم منه رائحة خبيثة) وصلاة الجماعة من أعظم وسائل الثبات على الدين، فقد روى أحمد وبعض أصحاب السنن وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحترقون تحترقون، حتى إذا صليتم الصبح غسلتها) الله أكبر! كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، قال في الحديث السابق: (تحترقون تحترقون حتى إذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون-أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فاحرص على الخير وعلى الطاعة، وقل: آمنت بالله ثم استقم، واستقم على طريق الخير، وعلى طريق الطاعة، وعليك بالمحافظة على الصلوات.(24/15)
الترغيب في الزواج
الزواج حصن للمرء من الوقوع في معصية الله تعالى، وقد حث الله عليه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم من سنته، ونهى عن التبتل والانقطاع، كما أن الزواج يحقق رغبة الفطرة، ويشبع الميل البشري مع الحفاظ على العفاف والطهر.(25/1)
أهمية الزواج
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فلا شيء قبله، وهو الآخر فلا شيء بعده، وهو الظاهر فلا شيء فوقه، وهو الباطن فلا شيء دونه، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله عز وجل، وبعد وقفة طويلة توقفناها مع آلام أمتنا وجراحاتها، وكان لا بد من هذه الوقفة تألماً لآلام المسلمين، وتبصرة للمسلمين بما يدبر لهم في الليل والنهار، وتذكرة للمسلمين بواجبهم تجاه إخوانهم الذين يذبحون ذبح الخراف هنا وهناك، على مرأى ومسمع من الدنيا، وكان لا بد من هذه الوقفة تأدباً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وبعد هذه الوقفة الطويلة نسأل الله جل وعلا أن يشفي جراحات الأمة، وأن يردها إلى إسلامها رداً جميلاً، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز المسلمين، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير؛ بعد هذه الوقفة الطويلة تعالوا بنا أحبتي في الله لندخل مرة أخرى إلى رحاب سورة الستر والعفاف، إلى رحاب سورة النور، فنحن اليوم على موعد مع الدرس السابع من دروس هذه السورة المباركة، وما زال حديثنا بتوفيق الله جل وعلا عن الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام سياجاً واقياً لأفراده رجالاً ونساءً من الوقوع في الفاحشة والعياذ بالله.
إن الإسلام منهج حياة متكامل شامل، لا يقوم أصلاً ولا يقوم أساساً على العقوبة، إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة، ثم يعاقب بعد ذلك من ترك هذه الأسباب الطاهرة النظيفة، وذهب ليتمرغ في الوحل والطين طائعاً مختاراً غير مضطر.
ومن بين هذه الضمانات الوقائية التي تحدثنا عنها، والتي وضعها الإسلام سياجاً واقياً لأفراده من التردي والانحلال والوقوع في الفاحشة: أولاً: تحريم النظر إلى المحرمات.
ثانياً: تحريم التبرج وفرض الحجاب.
ثالثا: تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية والاختلاط بها.
رابعاً: الحض على الزواج لمن استطاع إليه سبيلاً، والحض على الصوم لمن لا يستطيع الزواج، والحض على عدم المغالاة في المهور.
ونحن اليوم بفضل الله جل وعلا على موعد مع الضمان الرابع الذي يعد من وجهة نظري من أعظم الضمانات الوقائية التي وضعها الإسلام حماية وتأميناً للعلاقة بين الرجل والمرأة؛ لأن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين البشري؛ لأن الله تعالى قد أناط به امتداد الحياة على ظهر الأرض، لذا فهو ميل دائم لا ينقطع ولا ينتهي، ومن أجل ذلك شرع الإسلام الزواج وحث عليه، وجعل الله الزواج من سنن المرسلين، وجعله الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من سنته، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).(25/2)
الزواج راحة للقلب واستقرار للحياة
امتن الله علينا بنعمة الزواج فقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] أيها الحبيب! أيتها الأخت الكريمة الفاضلة! هل سمعتم هذا الأسلوب الرقيق العذب اللطيف الذي يمتن علينا به القرآن عند حديثه عن الزواج إنه من أعظم النعم التي امتن الله بها على الرجال والنساء على حد سواء، إنها صلة السكن للنفس والقلب، إنها صلة الراحة للجسد والقلب، إنها صلة الاستقرار للمعاش وللحياة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) لماذا؟ سكن راحة قلب وراحة نفس راحة بال وراحة ضمير استقرار حياة، واستقرار معاش، وشتان بين علاقة بين رجل وامرأة في الحلال، وبين علاقة بين رجل وامرأة في الحرام.
انظروا إلى رجل يعاشر زوجته في عش الزوجية، وبينما هو في هذه العبادة وهذه الطاعة -إن صحت النية فإن الله جل وعلا يأجره على ذلك- بينما هو على هذا الحال يطرق ويقرع عليه بابه، فما الذي يحدث، وما الذي يصير؟ يقوم بمنتهى الأمن والأمان والطمأنينة ليغتسل أو ليرتدي ثيابه، ثم يذهب ليرى من يطرق عليه بابه! وانظر إلى رجل مع امرأة في علاقة محرمة (الزنا) والعياذ بالله، في مكان أياً كان، ثم يطرق عليه الباب أو يسمع صوتاً هامساً في الشارع، أو يسمع حركة بخارج الدار، مستحيل أن يتم هذا اللقاء، وأن يستمر هذا الوضع، بل تراه قائماً مضطراً خائفاً وجلاً، وهذا هو الفرق بين العلاقة في الحلال كما أرادها الله، وكما شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين علاقة حرمها الإسلام وحرمها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا) اسمعوا مني هذه الكلمات واحفظوها، أقول: العلاقة الزوجية إن خلت من المودة والمحبة والرحمة أصبحت كالجسد الميت، إن لم يدفن فاح عفنه ونتنه، ودفنه هو الطلاق الذي أثار عليه المستشرقون شبهاً طوالاً عراضاً، وهي رحمة من أعظم رحمات الله جل وعلا.
لا بد للحياة الزوجية أن تبنى على الحب وعلى المودة وعلى الرحمة، على الحب الذي دنس واستغل ووضع في غير موضعه! وأصبح يعبر عن الحب بأقبح العلاقات الجنسية القذرة التي أصبح يعلمها لأبنائنا وفتياتنا الإعلام العميل للشيوعية والعلمانية وغيرهما.
إن العلاقة الزوجية لا بد أن تبنى على المحبة، ولا بد أن تبنى على الرحمة، ولا بد أن تبنى على المودة.(25/3)
النهي عن التبتل والرهبانية
أمر الإسلام بالزواج، وحث النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ونهى عن التبتل والرهبانية، وجعل هذا الزواج بهذه الأصول وتلك الضوابط من سنته، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته -أي عن عبادة رسول الله- فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها -أي: كأنهم تقالوا عبادة النبي عليه الصلاة والسلام- فقالوا: وأين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا -وفي رواية الإمام مسلم: فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قام وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا).
صاحب الأخلاق عليه الصلاة والسلام يقول: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟) أي: هل أنتم الذين قلتم: أنا أصلي الليل أبداً، وأنا أصوم النهار أبداً، وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج؟ قال: (أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني!).
النبي عليه الصلاة والسلام حث الشباب المسلم على أن يغض بصره، وعلى أن يحصن فرجه بهذه النعمة العظيمة نعمة الزواج، وحث غير القادر على الصيام، فإنه خير سياج وخير وقاية وأعظم ضمان، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: وقاية من الوقوع في الفاحشة والمعصية، إذا ما راقب الله جل وعلا، واتقى الله عز وجل، وعلم أن الله يعلم سره ونجواه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] أي: معهم بعلمه، معهم بقدرته، معهم بإحاطته، معهم بإرادته جل وعلا، ولا تجعلوا معية الله في الأماكن معية الذات حتى لا تقعوا فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد وأهل التشبيه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]،0 {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103] إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) أي: فمن لم يستطع باءة الزواج ومئونة الزواج (فعليه بالصوم فإنه له وجاء).(25/4)
الحض على عدم المغالاة في المهور
حض الإسلام -تيسيراً للزواج- على عدم المغالاة في المهور، وإن المشكلة الآن أضحت ضخمة كبيرة بصورة لا ينبغي أن نغمض عنها أعيننا، وأحمل الآباء والأمهات مسئولية جريمة هذه الكثرة الكاثرة من شباب الأمة الذي لا يستطيع الزواج، وهذه الكثرة الكاثرة من فتيات الأمة اللائي فاتهن ركب الزواج، أحمل هذه الجريمة برمتها الآباء والأمهات، إلى الآباء الذين وقفوا وقفة تعنت وتشدد أمام مغالاتهم في المهور، وأمام إسرافهم في النفقات والتكاليف، وكأنهم يريدون لعش الزوجية أن يتحول في أول أيامه إلى معرض تعرض فيه أرقى وأحدث ما تنتجه المصانع الإيطالية والأمريكية من أثاث! ما هذا يا عباد الله! اتقوا الله أيها الآباء! واتقين الله أيتها الأمهات! اتقوا الله في شباب الأمة الذي فتح عليه باب شر مستطير، وباب فتنة خطير كبير، إن الشاب في هذه الأيام يقضي زهرة عمره وأحلى أيام شبابه في الجمع لتكاليف الزواج، وإذا ما من الله عليه بجمع القليل ليحصن نفسه ويعف فرجه، يكون قد تجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وارجعوا إلى الإحصائيات فاقرءوها لتبكوا دماً بدل الدمع على حال شباب أمتنا، وعلى حال فتياتنا اللائي يصرخن بالليل والنهار، ويقضين الليل يشتكين إلى الله ظلم العادات القبيحة التي حالت بينهن وبين ما تتمناه كل فتاة، وتسعد به كل أنثى.
والله الذي لا إله غيره لو وصلت المرأة إلى أرقى الدرجات، وبلغ أبوها من الغنى ما بلغ فلن يغني عنها شيئاً، إن الفتاة لا تريد الغنى ولا تريد الجاه عند أبيها، بقدر ما تريد زوجاً تقياً نقياً يصون عرضها، ويحصن فرجها، ويستر عورتها، ويتقي الله فيها.
فاتقوا الله أيها الآباء! وارحموا شباب الأمة المساكين، ارحموا عجز الشاب، وارحموا ضعفه، وارحموا فقره.
وإن من الله عليك بالمال ورأيت شاباً تقياً نقياً فما الذي يحول بينك وبين أن تذهب إليه لتعرض عليه ابنتك، أو أنك أكثر حياء من أمير المؤمنين عمر؟! ذهب عمر يعرض ابنته حفصة رضي الله عنها على عمالقة الصحابة وأتقيائهم رضي الله عنهم! إذا منّ الله عليك بالمال ورأيت شاباً صالحاً، فاذهب إليه، ولا تستحي، اذهب إليه وقل له: يا بني! هل لك في فتاة تتقي الله؟ هل لك في فتاة تحافظ على فرض الله؟ هل لك في فتاة تصون عرضك وتصون شرفك؟ اعرض عليه ابنتك، ولا تستحي أيها الأب الكريم فأنت لست مخلداً، إنما الذي سيبقى لابنتك هو زوجها.(25/5)
المعتبر في الزوج الخلق والدين لا المال والجاه
روى الإمام الترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك وصححه، وصححه أيضاً الإمام السيوطي في الجامع الصغير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)، والله لقد وقعت الفتنة ووقع الفساد العريض، يوم أن وقف الأب أمام المتقدم لابنته يقول: ما ثمنك؟ ما قيمتك؟ ولم يقل: من أنت؟ ما دينك؟ ما حالك مع القرآن؟ ما حالك مع الصلاة؟ ما حالك مع الله؟ أصبحت هذه الأسئلة لا وجود لها، بل يتقدم الشاب فيسأله عن عرض الدنيا الزائل، وعن حطام الدنيا الفاني، أصبح لا يسأل عن الدين، ووالله إن من تقدم بماله لفتاتك أيها الأب، ولابنتك أيتها الأم، والله الذي لا إله غيره -وأقسم بالله غير حانث- إنه سيعامل ابنتك كما ينظر إلى الريال والدولار، وإذا ما قضى منها نهمته، وشهوته ستتحول عنده إلى سلعة، لا تختلف شيئاً عن أي قطعة أثاث اشتراها بماله، وربما امتن عليها بغناه في يوم من الأيام قال رجل: (يا حسن! إن لي ابنة، فلمن أزوجها؟ قال: زوج ابنتك لمن يتقي الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها).
أيها الآباء أيها الأخيار أيها الأحباب! هذه نصحية شاب من أبنائكم، ونصيحة ابن من أبنائكم: إذا جاءك من ترضى عن خلقه ودينه فقدم إليه ابنتك، واعرض عليه ابنتك، ولا تستحي أن يقال: إن فلاناً قد باع ابنته لفلان، هذا كلام العادات القبيحة الجاهلة، ورحم الله الإمام ابن القيم حيث قال: ما عادى الرسل إلا العادات.
إي والله، ما عادى الرسل إلا العادات، أي: ما وقف حجر عثرة في طريق الرسل إلا العادات، إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، هذه تنظر لابنة فلان فتقول: ابنة فلان قدم لها من المهر كذا وكذا، وقدم لها من الأثاث كذا وكذا، وأنا لا أقل عنها في شيء، وهذا ينظر إلى فلان، وهذه الأم تنظر إلى ابنة فلانة، ما هذا يا عباد الله؟! ووقف الشاب المسكين تائهاً حائراً بين هذه التيارات القبيحة من العادات، ووقفت البنت مسكينة حائرة تشكي أمرها إلى الله، وتشكي حالها إلى الله، ووالله لولا حياء فتياتنا، ولولا حياء أخواتنا، ولولا حياء بناتنا؛ لصرخن في وجوهنا في الليل والنهار، وقلن لنا: ارحموا عجزنا، وارحموا ضعفنا، واستروا عوراتنا، ماذا تصنع البنت إلى أبيها، ماذا تصنع البنت إلى أمها؟! هل تريد لابنتك أن تقضي عمرها في بيتك أم تريد لابنتك أن تقضي عمرها في فراشك؟! والله ما لهذا خلقت، وما لهذا وجدت، بل ما وجدت إلا لتكون في بيت زوجها، وإلا لتكون في عش الزوجية؛ لتباهي الأمم ولتباهي الدنيا بنسلها الذي تربيه على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(25/6)
أيسر النساء مهراً أعظمهن بركة
روىالإمام أحمد في مسنده، وفي إسناد هذا الحديث عيسى بن ميمون قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث، وبقية رجال الإسناد ثقات، وروى الحديث من طريق آخر الإمام ابن حبان، وقال: حديثه حسن، من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم النكاح بركة أيسرهن مئونة) خفف ولا تسرف (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
فيسروا على عباد الله، ارحموا شباب الأمة يرحمكم الله، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، ارحموا الشباب والفتيات، يسروا لهم أمر الزواج، وخففوا عليهم عبء الزواج، أما تعلمون أن رسولكم صلى الله عليه وسلم قد زوج رجلاً بما معه من القرآن، بوب الإمام البخاري باباً في كتاب النكاح في صحيحه بعنوان: باب التزويج بالقرآن وبغير صداق، انظروا إلى فقه البخاري، ورحم الله من قال: فقه البخاري في تراجمه، يترجم الباب بهذا العنوان: باب التزويج على القرآن وبغير صداق، وروى في هذا الباب حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي لك) امرأة وهبت نفسها لرسول الله، وهذا أمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون غيره من سائر الأمة، قال: (فقامت المرأة قياماً طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء تصدقها؟) أي: تقدمه لها صداقاً، (قال: لا، ليس معي إلا إزاري) سبحان الله! (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، التمس شيئاً) أي: ابحث عن شيء آخر تقدمه لها.
(فذهب الرجل فلم يجد شيئاً، فرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي: التمس ولو خاتماً من حديد، فقال الرجل: لم أجد شيئاً) لم يجد حتى خاتماً من حديد يقدمه صداقاً لهذه المرأة إذا تزوجها.
فقال له النبي عليه الصلاة والسلام (هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم.
معي سورة كذا وكذا، سور يسميها)، أتدرون ماذا قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! قال: (قد زوجتكها بما معك من القرآن).
هذا هو إسلامنا، هذا هو ديننا، إنه التخفيف، إن المرأة ليس لها في هذا الوجود إلا أن تجلس وأن تعيش مع زوج يتقي الله ويعينها على طاعة الله، ويأخذ بيدها وتأخذ بيده إلى مرضاة الله جل وعلا، لا أن تجلس مع أبيها، ولا أن تجلس مع أمها، إذا ما بلغت سن زواجها وسن إحصانها وسن إعفافها.(25/7)
قصة ابن المسيب في تزويج ابنته
ولا ينبغي أن ننسى هذا المشهد المهيب، هذا المشهد الكريم، وأزفه إلى الآباء والأمهات، إنه مشهد زواج بنت سيد التابعين سعيد بن المسيب، عاصر كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعترف معظم علماء الحديث بمراسيل أحد أكثر من اعترافهم بمراسيل سعيد بن المسيب، كما قال أحمد وغيره.
سعيد بن المسيب كانت له فتاة، أتدرون من خطبها لابنه، خطبها أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، لولده الوليد، أي نسب وأي شرف! أمير المؤمنين يخطب فتاة لولده، إنها زيجة يحرص عليها كل الناس، ولكن من ملأ الإيمان قلبه، وملأ التقى جوانحه، يريد أن يقدم ابنته لرجل صالح تقي نقي يراقب الله فيها، ويتقي الله فيها، ولو كان فقيراً لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، ورفض سعيد بن المسيب أن يزوج ابنته للوليد بن عبد الملك بن مروان، وغضب عليه عبد الملك بن مروان بسبب ذلك، فلما أبى سعيد بن المسيب جلده مائة سوط.
ارجعوا إلى سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في المجلد الرابع تحت عنوان: تزويجه ابنته، ضربه مائة سوط في يوم بارد، وأبى سعيد بن المسيب أن يقدم فلذة كبده وثمرة فؤاده للوليد بن عبد الملك بن مروان، وقدمها لطالب علم في حلقته فقير متواضع، إلا أنه وجد فيه التقى، ووجد فيه الصلاح والفلاح، قدمها لـ كثير بن أبي وداعة رحمه الله، والقصة أوردها الإمام أبو نعيم في الحلية، وأوردها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وأوردها ابن خلكان في وفيات الأعيان، وأوردها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء من طريق أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وعلى الرغم من أن كثيراً من علماء الجرح والتعديل قد ضعف أحمد هذا إلا أن الإمام مسلماً رحمه الله تعالى قد احتج به على ضعفه، وقد وثقه غير واحد كـ ابن أبي حاتم وغيره.
يقول كثير بن أبي وداعة: كنت ممن يجلس في مجلس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فسألني: أين كنت؟ فقلت: لقد توفيت أهلي، أي: ماتت زوجته وكان متزوجاً، فما قال: لن أزوجها لرجل قد تزوج قبل ذلك.
قال: أين كنت؟ قال: لقد توفيت أهلي فانشغلت بها، أي: ماتت زوجتي فانشغلت بها، فقال سعيد: هلا أخبرتنا فشهدناها معك، ثم قال سعيد بن المسيب: هل استحدثت امرأة أخرى، أي: هل تزوجت غيرها؟ فقال له كثير بن أبي وداعة: يرحمك الله يا أبا محمد! ومن يزوجني ولا أملك من الدنيا إلا درهماً أو درهمين! وفي رواية: إلا درهمين أو ثلاثة! فقال له سعيد: أنا أزوجك، قال: أوتفعل؟ قال: نعم، يقول: فقام سعيد فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على رسول الله، وزوجني ابنته على درهمين! يقول كثير: فانطلقت إلى بيتي وأنا لا أعلم ماذا أصنع من الفرح، ثم صليت المغرب وعدت إلى داري وكنت صائماً، وقدمت العشاء وكان خبزاً وزيتاً، وبينما أنا جالس أفكر فيمن أستدين منه، وإذا ببابي يقرع، فقلت: من؟ قال: سعيد! يقول: ففكرت في كل أحد اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه منذ أربعين سنة لم ير إلا بين مسجده وبيته، ففتحت الباب، فإذا به سعيد بن المسيب فقلت: أبا محمد! وظننت أنه قد فكر في شيء آخر وغير رأيه، فقلت: يا أبا محمد هلا أرسلت إلي فآتيك؟ فقال سعيد بن المسيب: لا، أنت أحق أن تؤتى، ثم قال سعيد: يا كثير، لقد فكرت في أمرك: رجل عزب وقد زوجتك، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وإذا بابنته واقفة في طوله من خلفه، فأخذها بيده ودفعها إلى دار كثير بن أبي وداعة، فأغلق الباب وانصرف، يقول كثير: فسقطت المرأة من الحياء! كن على حياء! يقول: فخشيت أن ترى الخبز والزيت، فجعلته وراء الشعلة -أي: وراء الضوء حتى لا تفتن لأول مرة بعيشته- وصعدت إلى سطح منزلي فناديت على جيراني، فجاءت زوجة من نساء الجيران فدخلت إليها لتؤنسها، ولما علمت أمي بذلك جاءتني وقالت: وجهك من وجهي حرام يا كثير إن مسستها قبل ثلاثة أيام، يقول كثير بن أبي وداعة: فتركتها ثلاثة أيام حتى جهزوها وأعدوها، فدخلت عليها فإذا هي من أجمل النساء، ومن أعلمهن ومن أحفظهن لكتاب الله، وأعلمهن بسنة رسول الله، وأعرفهن بحق الزوج، فغبت معها ولم أخرج إلى مجلس سعيد بن المسيب شهراً كاملاً، وبعد شهر خرجت إلى سعيد، فلما انفض المجلس اقترب مني وقال: كيف حال هذا الإنسان؟ قلت: بخير حال، بحال يسر الصديق ويسيء العدو، فقال لي سعيد: خذ عشرين ألف درهم لتستعين بها على حياتك! بالله عليكم بأي شيء نعلق! وماذا نقول، رحم الله من قال: رغيف خبز واحد تأكله في زاوية وكوز ماء بارد تشربه من صافية وغرفة نظيفة نفسك فيها هانية وزوجة مطيعة عينك عنها راضية وطفلة جميلة محفوفة بالعافية اختارك الله لها حتى تكون داعية خير من الدنيا وما فيها وهي لعمري كافية ما هذا! إنه الإسلام يا عباد الله! هذا هو ديننا: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(25/8)
قصة شريح مع زوجه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: وأخيراً أيتها الأخت الفاضلة الكريمة! أزف إليك هذه القدوة، أزف إليك هذه القدوة بعدما حدثنا الآباء، وتحدثنا مع أمهاتنا الفضليات الكريمات، أزف إليك هذه القدوة يا بنت الإسلام يا أصل العز! ويا أصل الشرف! يا من أغظت أعداء الإسلام بحجابك وتمسكك بدينك والتزامك، يا درتنا المصونة! ويا لؤلؤتنا المكنونة! أزف إليك هذه القدوة لتتحدثين بها بين يدي أبيك وأمام أمك إذا ما تقدم إليك الرجل الصالح، تكلمي وتحدثي، فخلقك العزم، وبلسانك الحلم, ولا تستحي أن تعرضي قضيتك بين يدي أبيك وبين يدي أمك.
هذه القدوة يزفها إلينا التاريخ، إنها زوج شريح القاضي، الذي ولاه عمر بن الخطاب قضاء الكوفة فمكث فيه ستين سنة، وضرب بعدله المثل، له ترجمة طويلة في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في المجلد الرابع.
يمر عليه الشعبي يوماً، والشعبي هو أعلم التابعين كما قال زيد عن مكحول: أعلم التابعين الشعبي.
يقول: التقى شريح بـ الشعبي فقال الشعبي لـ شريح: كيف حالك يا شريح؟ قال بخير حال، قال: كيف حال أهلك؟ أي كيف حال زوجك؟ فقال شريح: والله يا شعبي! منذ عشرين سنة لم أر من زوجي ما يغضبني قط، قال الشعبي: سبحان الله! وكيف ذلك؟! قال شريح: يا شعبي منذ أول ليلة دخلت فيها على زوجتي رأيت بها جمالاً نادراً وحسناً باهراً فقلت: أصلي ركعتين شكراً لله! يعترف لله بالفضل، ما قال: أقوم لأبحث عن كأس خمر، أو عن شريط قذر نجس، أو عن فيلم أقضي الليلة معه، لا، بل قال: أقوم أصلي ركعتين شكراً لله عز وجل.
يقول شريح: فلما صليت وسلمت رأيت زوجتي تصلي بصلاتي وتسلم بسلامي أي: أنها دخلت معه في الصلاة لله جل وعلا، فلما انتهينا، وانفض الأهل والأحباب، مددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية! اسمعوا ماذا تقول هذه المرأة، وماذا تقول هذه الزوجة في ليلة بنائها: على رسلك يا أبا أمية، ثم قالت: أحمد الله وأستعينه وأستغفره، وأصلي وأسلم على رسول الله، وبعد: أبا أمية! إني امرأة غريبة عنك، لا علم لي بأخلاقك، فبين لي ما تحب فآتيه، وما تكرهه فأتركه.
أبا أمية! لقد كان لك من نساء قومك من هي كفؤ لك، ولقد كان لي من رجال قومي من هو كفؤ لي، أما وقد قضى الله أمراً كان مفعولاً فاصنع ما أمرك الله به: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولك.
الله أكبر! يقول شريح: فأحوجتني والله إلى الخطبة في ذلك يا شعبي، فجلست وقلت: أحمد الله وأستعينه وأستغفره وأصلي وأسلم على رسول الله وبعد: فإنك قلت كلاماً إن ثبت عليه يكن حظك، وإن تدعيه يكن حجة عليك.
أما إني أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا.
قالت: فما تحب من زيارة أهلي؟ قال: ما أحب أن يملني أصهاري، قالت: فمن تحب من جيرانك أن يدخل دارك، قال: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، وما رأيت من حسنة فانشريها، وما رأيت من سيئة فاستريها.
يقول شريح: فبت معها بأنعم ليلة، ومكثت عشرين سنة، والله لم أعتب عليها في حياتي إلا مرة واحدة، وأشهد الله أني كنت لها ظالماً! قلت: يا لها من عيشة هانية، يا لها من عيشة هانية راضية، وهكذا تكون المرأة الصالحة التي تراقب الله جل وعلا في زوجها، وتتقي الله تبارك وتعالى في بعلها، هذا هو الزواج، وهذا نداء للآباء ونداء للأمهات ونداء للفتيات ونداء للشباب.
أسأل الله جل وعلا أن يحصن فروجنا، وأن يحصن فروج شباب أمتنا، وفتياتنا وبناتنا، إنه ولي ذلك ومولاه، اللهم حصن فروجنا، اللهم حصن فروجنا، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، اللهم يسر لشباب الأمة زواجاً يعفوا به أنفسهم، ويسر لفتيات الأمة زواجاً يعففن به أنفسهن، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(25/9)
فضل الصيام
شهر رمضان شهر عظيم مبارك، اصطفاه الله تعالى من بين شهور السنة؛ لأداء فريضة عظيمة فيه، وركن من أركان الإسلام، وهو: الصيام.
وهو موسم فيه بركات إلهية كثيرة، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وتكثر فيه أبواب الخير.(26/1)
(وربك يخلق ما يشاء ويختار)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فمرحباً بكم أحبتي في الله، لقد كان من المنتظر أن يكون لقاؤنا في هذا اليوم المبارك هو الدرس السادس من دروس سورة الستر والعفاف سورة النور، ولكن اسمحوا لي -أيها الأحبة- أن نتوقف عن مواصلة دروس سورة النور لنحيي ضيفاً كريماً قد حل بنا ونزل علينا، إنه ضيف كريم يحل بنا وتحل معه البركات، إنه ضيف عظيم ينزل علينا وتنزل معه الرحمات، إنه ضيف مبارك تخشع فيه القلوب، وتصفو فيه النفوس، وتلين فيه الجلود، وتخشع فيه الجوارح، إنه شهر رمضان، إنه شهر الصيام، إنه شهر القرآن، إنه شهر القيام، إنه شهر الإحسان، إنه شهر العتق من النيران لمن تاب وأناب إلى الرحيم الرحمن جل وعلا.
تعالوا بنا -أيها الأحبة- لنعيش بعض الوقت مع هذا الشهر العظيم المبارك، ومع هذا الضيف العزيز الخفيف الذي سرعان ما يحل بنا، وسرعان ما يولي من بين أيدينا وظهورنا، فلقد كنا نقول منذ يومين أو ثلاثة: غداً رمضان، وسوف نقول بعد وقت قليل: لقد انتهى رمضان، وها هي أيام الخير، وها هي أيام البركات والرحمات تولي سريعةً من بين أيدينا وأظهرنا، فالله الله في هذه الأيام، الله الله في شهر القرآن، الله الله في شهر الصيام، الله الله في شهر الإحسان.
يا عباد الله! يا أبناء هذه الأمة الميمونة المباركة! يا من اختصكم الله جل وعلا بهذا الشهر العظيم المبارك واختصكم فيه بليلة هي خير من ألف شهر، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، والاختيار هنا بمعنى الاصطفاء والاجتباء كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
إن الله جل وعلا هو الذي يخلق وهو الذي يفضل ما يشاء، ويختار من بين خلقه ويصطفي ما يشاء؛ فلقد خلق الله جل وعلا السموات سبعاً واختار العليا منها، فاختصها بالقرب من عرشه جل وعلا.
وخلق الله الجنان واختار منها جنة الفردوس، فجعل عرشه سقفاً لها، ويا لها من كرامة! وخلق الله الملائكة واصطفى من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل، فجبريل هو صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وإسرافيل صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته جميع الأموات بإذن رب الأرض والسماوات، وميكائيل هو صاحب القطر الذي به حياة كل شيء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
وخلق الله جل وعلا البشر، واصطفى من البشر الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل، واصطفى من الرسل أولي العزم الخمسة، واصطفى من أولي العزم الخمسة الخليلين الكريمين: إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم، واختار محمداً صلى الله عليه وسلم ففضله على جميع الأنبياء والمرسلين، فجعله إمام الأتقياء، وجعله إمام الأنبياء، وجعله سيد المرسلين، ورفعه الله جل وعلا على جميع الخلائق، وزكاه في كل شيء، فرفع له ذكره، ووضع عنه وزره، وشرح الله صدره.
زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
ووضع عنه وزره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
وخلق الله جل وعلا الأمم، وعددهم كما ورد في الحديث: (خلق الله سبعين أمة)، واختار من بين هذا العدد الضخم الكبير أعظم الأمم وأفضل الأمم وخير الأمم، وهي هذه الأمة، أمة النبي صلى الله عليه وسلم، فضلها الله على جميع الأمم، وكرمها الله على جميع الأمم، وخاطبها بقوله جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسند حسن ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم موفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل).
وجعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الوسط، أي: هي الأمة العدل، وهي الأمة الشاهدة على جميع الأمم، فقال ربنا جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143]، جعل الله هذه الأمة الأخيرة هي الأمة الشاهدة على جميع الأمم السابقة، وفي الحديث الذي رواه البخاري وأحمد والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت قومك؟ والله جل وعلا أعلم، فيقول نوح عليه السلام: نعم بلغت قومي، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيقول الله جل وعلا لنوح: من يشهد لك يا نوح أنك بلغت قومك؟ فيقول نوح عليه السلام: يشهد لي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته).
هل رأيتم نوحاً؟ هل عاصرتم نوحاً عليه السلام؟ لا والله ما رأيناه ولا عاصرناه، إذاً ما الذي سيجعلنا نشهد لنوح عليه السلام أنه بلغ قومه وأنذر قومه، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فتدعون فتشهدون لنوح أنه بلغ قومه، وذلك قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) [البقرة:143]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: الوسط: العدل)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثم أشهد عليكم).
وفي رواية الإمام أحمد (يقال لهذه الأمة -المباركة الميمونة- ما الذي جعلكم تشهدون لنوح؟ فتقول الأمة: أتانا رسولنا وأخبرنا أن الرسل قد بلغوا قومهم فصدقناه وآمنا به).
نزل القرآن على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم فقرأنا فيه قول الله جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1]، إلى آخر السورة التي سماها الله جل وعلا في قرآننا باسم نبي الله نوح، تشهد هذه الأمة المباركة لنوح عليه السلام أنه بلغ قومه وأنذر قومه.
هكذا أيها الأحباب! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68]، إنه فضل الله جل وعلا {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فأنتم خير أمة، وأنتم أكرم أمة على الله جل وعلا، وفضل الله عليكم عظيم، وصدق -والله- من قال: ومما زادني فخراً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا يا أمة القرآن! يا أمة الإسلام! يا أمة التوحيد! يا أمة الإيمان! يا أمة الإحسان! يا أمة التصديق! يا أمة الشهادة! أنتم خير أمة أخرجت للناس: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، بماذا ولماذا؟ بهذه الشروط وتلك القيود: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فوالله إن اختلت هذه الشروط اختلت النتيجة، وضاعت الخيرية عنكم، فإنكم إن لم تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر، وتؤمنوا بالله جل وعلا؛ فلستم بخير أمة أخرجت للناس.(26/2)
فضل شهر رمضان
يا أبناء هذه الأمة الميمونة المباركة! إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، ومن أعظم هذه النعم هذا الضيف الكريم الذي حل بنا، من أعظم النعم التي امتن الله جل وعلا بها عليكم يا أمة الإسلام والتوحيد شهر رمضان، شهر القرآن والصيام والقيام والإحسان، قال ربنا جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، إنها نعمة عظيمة يا عباد الله! إنه فضل كبير عليكم، إنه فصل الخيرات والرحمات، إنه موسم البركات والنفحات، ألا فتعرضوا لرحمة الله جل وعلا، ألا فتعرضوا لنفحات الله جل وعلا في الطاعة: بالصيام والقيام وقراءة القرآن والإحسان.
إنه موسم الطاعات إنه موسم الرحمات إنه موسم البركات، أما سمعتم إلى كلام سيد البريات صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني ورواته ثقات من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أقبل شهر رمضان يقول بأبي هو وأمي: (أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ويباهي بكم ملائكته، وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل).
يباهي بكم ملائكته فيقول: انظروا إلى عبادي انظروا إلى الصائمين في النهار انظروا إلى من أقاموا الليل ركعاً سجداً بين يدي الله جل وعلا انظروا إلى من قضوا الليل مع قرآن الله وكتابه، وهذه علامات من علامات الحب لله تبارك وتعالى؛ لأن الليل كما قال أستاذنا ابن القيم: إن الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، ومدرسة الصالحين، من هذه المدرسة تخرّج العارفون بالله جل وعلا، وتخرج الصادقون مع الله جل وعلا، إن عباد الله الصالحين ينتظرون هذا الليل يرعونه بالنهار كما يرعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه؛ قام عباد الله الصالحون فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا جباههم، وناجوا ربهم جل وعلا طيلة الليل بقرآنه، وتضرعوا إليه تبارك وتعالى، وطلبوا منه تكرمه وإنعامه وإحسانه، هذه علامات عباد الله الصالحين، (ويباهي بكم ملائكته وينظر فيه إلى تنافسكم في الخير)، هذا ذاكر لله، وهذا صائم لله ذاكر صابر، وهذا صائم لله ذاكر شاكر، وهذا متصدق محسن، وهذا قارئ للقرآن، وهذا مستغفر لله جل وعلا، وهذا متصدق على الفقراء والمساكين، وهذا يمر بين الجائعين من الفقراء ليحسن إليهم.
قال: (فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل)، ولهذا الحديث المبارك شاهد صحيح من حديث أبي هريرة رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام الترمذي والإمام النسائي، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، وهو: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أقبل رمضان يقول: أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر).
وروى ابن حبان والحاكم وابن ماجة والبيهقي وحسنه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث: (وينادي مناد كل ليلة -أي: من ليالي رمضان- يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر).
اسمع -أيها الحبيب- لتسجد لربك شكراً أنك من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: (ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار في هذا الشهر الكريم.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به.
والصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم.
والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه).
وفي الحديث الذي رواه أحمد في مسنده بسند حسن والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة -اسمع أيها الحبيب! ماذا يقول الصيام وماذا يقول القرآن- يقول الصيام: أي ربي! منعته الطعام والشراب والشهوة -أي: من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، الطعام بين يديه وامتنع عنه طاعة لله، زوجته بين يديه وامتنع عنها امتثالاً لأمر الله، والشراب بين يديه وهجره طمعاً في رحمة الله جل وعلا- فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي ربي! منعته النوم بالليل فشفعني فيه)، يا عبد الله! هل أنت من هؤلاء؟! أيها الحبيب الكريم! يا من هجرت النوم في الليل طاعة لله جل وعلا، وجلست مع كتاب الله تبارك وتعالى؛ هل أنت من هؤلاء أم أنت ممن سهر الليل مع المسلسلات الفاجرة، والأفلام الداعرة والعياذ بالله؟ أسأل الله أن يحفظني وإياكم من المعاصي، وأن يعزني وإياكم بطاعته، وأن يشرفني وإياكم بالعمل لدينه إنه ولي ذلك ومولاه.
أتدرون ماذا قال حبيبكم ورسولكم المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فيشفعان)، أي: فيشفع الصيام فيك أيها الصائم، ويشفع القرآن فيك أيها القارئ، يا لها من كرامة، ويا له من فضل، ويا لها من عظمة، ويا لها من رحمات! هذه بعض الأحاديث الصحيحة أيها الأحباب التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصيام، والأحاديث كثيرة طويلة، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].(26/3)
الحث على اغتنام رمضان فيما يقرب من الله
الله الله -أيها الأحباب- في هذه الجائزة، وفي هذه المنحة، وفي هذه الصفقة! فوالله الذي لا إله غيره لو قيل لك يا عبد الله: إن هناك صفقة تجارية تستطيع لو دخلت فيها أن تربح ألف ريال، والله لن تتخلى عنها ولن تتركها، فما قولك بصفقة تعرض عليك فتربح فيها جنة عرضها السماوات والأرض؟ جنة عرضها السماوات والأرض بالصيام والقيام، فيغفر الله لك أيها الصائم القائم (من صام وقام -كما ذكرت آنفاً- غفر له ما تقدم من ذنبه)، صفقة عظيمة يا عباد الله، ورحمة كريمة من الله جل وعلا.
فهيا أيها الحبيب! هيا أيها المسلم! هيا أيها المكرم من الله جل وعلا! أقبل، تعالَ تعالَ إلى الله، عد إلى الله، ارجع إليه، استغفر الله جل وعلا، وامش بين يديه، وقف على بابه ذليلاً خاشعاً طالباً منه العفو والرحمة والغفران، ولا تيئس ولا تقنط مهما ارتكبت من الذنوب والمعاصي، ومهما وقعت في الكبائر، عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن عفو الله أعظم من كبائرك، وأعظم من ذنوبك، وأعظم من معاصيك.
الله جل وعلا -وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض- يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يتنزل الله تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فلا تعطلوا صفة النزول، ولا تكيفوها، ولا تؤولوها، إنما نؤمن بصفة النزول كما أخبر بذلك نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم، ونقول: يتنزل تنزلاً يليق بكماله وجلاله، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، لا تدركه العقول ولا تكيفه الأفهام، فاقطع الطمع عن إدراك ذات الله جل وعلا، لا نعطل ولا نكيف ولا نؤول ولا نشبه، ولكن نردد مع الإمام الشافعي قوله: نؤمن بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، ونؤمن برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاى والسلام: (ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول ويقول: أنا الملك أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر).
قم يا عبد الله، قم يا حبيبي في هذا الليل وكن من الساجدين بين يدي الله جل وعلا، كن من الراكعين، كن من القائمين، كن من الذاكرين والمستغفرين في الأسحار.
(من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟) الله جل وعلا يناديك فهل أنت ممن سيقول لربه: هأنذا يا ربي بين يديك أسألك العفو والمغفرة، أسألك أن تغفر لي ما قد سلف من الذنوب والعصيان، وكن على يقين بأن الله جل وعلا سيستجيب منك الدعاء، وكن على يقين بأن الله جل وعلا غفور رحيم، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أما علمت أيها الحبيب أنك إذا عدت إلى الله جل وعلا سيفرح الله تبارك وتعالى بتوبتك وأوبتك وعودتك، وهو الغني عنا فلا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية ففي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه مسلم، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15 - 17]، أنت الفقير إلى الله، والله هو الغني، لو عدت إليه -وهو الغني عنك- لفرح الله بك، ولا تعطل أيضاً صفة الفرح لله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعرف الناس بربه، ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عنده وعليها طعامه وشرابه -فأراد أن يعبر عن شكره لله جل وعلا- فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)، هذه الفرحة أنست الرجل نفسه؛ فجعلته يقول هذه المقولة، فالله جل وعلا يفرح بك إذا تبت إليه وعدت إليه أشد من فرح هذا العبد بعودة أسباب الحياة إليه مرة أخرى، إنه فضل الله جل وعلا.
وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
فهيا أيها اللاهي أيها الساهي أيها الغافل عد إلى الله جل وعلا، وذكر نفسك بأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ وأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر؛ وأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، دنياك مهما طالت لابد وحتماً أن تلقى الله جل وعلا، وذكر نفسك بقول من قال: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز ولا الذليل وذكرها بقول القائل: دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب اسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل منا وإياكم الصيام والقيام، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(26/4)
التحذير من التفريط في رمضان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فيا أيها الأحباب! لا تضيعوا رمضان، ولا تنشغلوا في رمضان بما لا ينفعكم عند الله جل وعلا في الآخرة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، احذروا هذه الملاهي والشواغل التي تشغل العباد عن رب العباد جل وعلا! احذروا المسلسلات! احذروا الأفلام! احذروا التلفزيون! احذروا كل هذه الأمور التي ستشغلكم عن العزيز الغفور جل وعلا! وأقبلوا على الله تبارك وتعالى، أقبلوا على القرآن، اقرءوا القرآن وتدبروا معانيه، وقفوا بين يدي أوامره ونواهيه وحدوده، أقبلوا على الذكر، أقبلوا على الاستغفار، جددوا التوبة للعزيز الغفار، واعلموا بأنها فرصة، ووالله لا يضمن واحد منا أن يعيش إلى رمضان القادم، فلا تضيع هذه الفرصة من بين يديك، واعلم أن رمضان سيولي سريعاً سريعاً، وبعد أيام قلائل سنقول بملء أفواهنا وبحسرة مؤلمة: لقد انقضى رمضان، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من الرابحين ومن الفائزين، اللهم تقبل منا الصيام والقيام يا رب العالمين، اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه، اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه، اللهم كما بلغتنا رمضان فبارك لنا فيه.
اللهم اجعلنا ممن صام وقام ورضيت عنه يا رب العالمين، ولا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك يا أرحم الراحمين.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا واجعلنا من الفائزين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم عافنا واعف عنا واغفر لنا وارحمنا واقبلنا وتقبل منا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك، ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور أبصارنا، وشفاء صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم اجعلنا ممن أقام حروف القرآن وحدوده يا رب العالمين، ولا تجعلنا ممن أقام حروفه وضيع حدوده يا أرحم الراحمين.
اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه.
هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه!(26/5)
أهوال وعذاب القبر
إذا مات ابن آدم انتقل إلى المرحلة الأولى من مراحل الآخرة، ألا وهي مرحلة القبر وأهواله، فيأتيه ملكان ويسألانه ثلاثة أسئلة، وهي: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فمن عمل بطاعة الله ثبته الله بالجواب على هذه الأسئلة، ومن كان على غير ذلك فإنه ينعقد لسانه، ويتلعثم كلامه، ويكون من الهالكين والعياذ بالله!(27/1)
الامتحان في القبر
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه وأمره.
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرضت عليه الدنيا بأموالها وزخارفها وسلطانها وذهبها وحريرها وملكها، كما قال الشاعر: عرضت له الدنيا فأعرض زاهداً يبغي من الأخرى المكان الأرفعا ما جر أثواب الحرير ولا مشى بالتاج من فوق الجبين مرصعا وهو الذي لبس السعادة حلة فضفاضة لبس القميص مرقعا وهو الذي لو شاء نالت كفه كل الذي فوق البسيطة أجمعا صلى عليك الله يا علم الهدى، ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! مرحباً بكم، وشكر الله عز وجل لكم، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل مني ومنكم جميعاً صالح الأعمال، وأن يكتب لنا بهذه الخطوات الدرجات، وأن يرفع لنا بها الأجر، إنه سبحانه وتعالى كريم جواد حليم.
نتحدث إن شاء الله هذه الليلة عن ثلاثة أسئلة، من أجاب على هذه الأسئلة دخل الجنة، ومن لم يجب عن هذه الأسئلة -وإن كان من العلماء- دخل النار وبئس القرار!! تعالوا بنا لنتعلم سوياً هذه الأسئلة والإجابة عليها؛ لنفوز بإذن الله جل وعلا بالجنة.
أولاً: انظر أين تسأل هذه الأسئلة؟ ومن الذي سيسألك؟ وأين ستكون لجنة الامتحان؟ ومن الممتحن؟ ومن الذي سوف يقدر النتيجة؟ يا ترى! هل ستجيب بامتياز مع مرتبة الشرف، أم سوف تجيب بدرجة جيد جداً، أم سوف تجيب بدرجة جيد، أم سوف تجيب بدرجة مقبول؟!(27/2)
لجنة الامتحان
أولاً: لجنة الامتحان، اللجنة التي سوف تمتحن فيها: هي القبر.
ومن سيمتحنك؟ يمتحنك في القبر الملكان: منكر ونكير.
ورقة الأسئلة فيها ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: من ربك؟ السؤال الثاني: من نبيك؟ السؤال الثالث: ما دينك؟ ماذا سيقول المؤمن؟ ربي الله حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، وديني الإسلام، الجواب سهل جداً في هذا الوقت، كلنا أجبنا، الكل قال: ربي الله، ورسولي محمد صلى الله عليه وسلم، وديني الإسلام، ولكن الأمر هناك ليس سهلاً كما تتخيلون! وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
فاللجنة صعبة جداً، وجو اللجنة مرعب؛ لأنه مكان ضيق ومظلم، ولكنه ضيق على من ضيقه الله عليه، وواسع على من وسعه الله عليه، ومظلم على من أظلمه الله عليه، ومضيء لمن نوره الله عليه.
وكي تحس برعب لجنة الامتحان تلك، أطفئ النور في البيت، أو ادخل غرفتك وأطفئ نور البيت كله، وعتم غرفتك تماماً، واترك أولادك في الخارج، أو كن في مكان لوحدك في البيت، ونم على سريرك، وليس على الأرض، وتذكر القبر.
والله العظيم سوف تحس أن الأمر صعب جداً، سوف تحس أن الأمر شديد، كان أحد الصالحين إذا أراد أن يذكر نفسه بالقبر، وبالآخرة، وذلك إذا وجد أن الدنيا قد سيطرت عليه: يسمع الأذان فلا يجيب ويقول لك: لا، أنا واقف في المحل حقي، والعمل عبادة!! أي عبادة هذه التي منعتك عن السجود والركوع لمن أنعم عليك؟! المؤذن يقول له: حي على الصلاة، وهو جالس يلعب دمنة في الخارج!! المؤذن يقول له: حي على الصلاة، وهو يقول: لا، إلى أن تنتهي المباراة! المؤذن يقول له: حي على الصلاة، وهو يقول: لا، العمل ورزق العيال أولى، إنا لله وإنا إليه راجعون!! تذكر حالك عندما تكون واقفاً على طابور الجمعية، أو على طابور الخبز ثلاث ساعات؛ من أجل أن تحصل على خمسة أرغفة، أتستكثر العشر الدقائق على الله؟! هذا عجيب!! مضيع الوقت كله للدنيا، وعند العشر الدقائق التي هي زمن الصلاة يقول: العمل عبادة، نحن نطلب رزق العيال، من أين آتي لأولادي بالأكل؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!! كان أحد الصالحين إذا سيطرت عليه الدنيا قليلاً، وأحب أن يذكر نفسه بالآخرة، حفر لنفسه قبراً في وسط الصالة، بدلاً من أن يضع طاولة السفرة، التي تعمل لنا مشاكل في كل يوم! تجيء الزوجة، وتقول: لو ما كانت طاولة السفرة بثمانية كراسي ما كان هناك زواج.
فجاء الرجل الصالح هذا إلى مكان طاولة السفرة، وحفر قبراً وغطاه بخشب، وعندما تسيطر الدنيا على قلبه قليلاً، ينزل إلى القبر، فيغلق القبر على نفسه بهذه الخشبة، ويظل يصرخ ويبكي ويصيح وينادي ويقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، حتى إذا ما انقطعت أنفاسه، وغرق في عرقه، دفع الخشبة برجله، وخرج إلى النور والهواء، وبكى وأكثر من البكاء، وقال لنفسه: ها أنتِ يا نفس! قد عدتِ وخرجت، فاعملي بما قلتِ، ثم يقول: والله إني لخائف أن تنزلي هذا القبر يوماً، وتنادين: رب ارجعون، فلا يستجاب لكِ! إذاً: لجنة الامتحان صعبة جداً، تخيل لو أن شخصاً أتى إليك وقال: أنت مطلوب غداً للمحكمة! أتحداك إن تنام تلك الليلة!! لن تنام أبداً! وسوف تسهر طوال الليل وأنت تفكر، وتقول: ماذا عملت؟ ماذا سيسألني؟ ماذا سأقول له؟! وهذا كله مع أنك سوف تعرض على محكمة سوف يحاسبك فيها إنسان!! فكيف سيكون حالك إذا ما عرضت على محكمة أحكم الحاكمين؟! هذه المحكمة التي لا تقبل الرشوة، ولا المحسوبية، ولا تقبل المحاماة، ولا تقبل الاستئناف للأحكام؛ لأن قاضيها هو الواحد الديان، عنوانها: لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب، وصدق من قال.
مثل وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تزفر من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا فهذه هي المحكمة وهذه لجنة الامتحان، إنه جو مرعب! ومكان صعب.
القبر الذي ينادي عليك كل يوم: يا ابن آدم! وأنت في غفلة، القبر الذي ينادي عليك كل لحظة: يا ابن آدم! وأنت في سهو ونسيان.
يقول لك: يا ابن آدم! تمشي في جماعة على ظهري، وسوف تقع وحيداً في بطني.
يا ابن آدم! تسرح وتمرح وتجري على ظهري، وسوف تبكي في بطني.
يا ابن آدم! تأكل أموال اليتامى على ظهري، وسوف يأكلك الدود في بطني.
إذا ما ذهبت إلى هذا القبر وأنت محمول على الأعناق يا غافل! يا ساهي! يا عاصي! يا تارك الصلاة! يا تارك الصيام! يا من قضيت عمرك أمام المسلسلات والأفلام! اعلم أن الذي سيحملك إلى القبر أولادك وأحبابك، وهم الذين سيضعونك ويهلون على رأسك التراب، وأنت في غفلة يا مسكين! وأنت في سهو لا تتذكر هذا المشهد، ولا تفكر في هذا اللقاء، وإذا ما ذهبت إلى هناك رجع مالك للورثة، ورجعت زوجتك لتتزوج، ورجع أولادك ليتنعموا بالأموال، أما أنت فقد وضعت في التراب، وهنا ينادى عليك بلسان الحال: عبدي! رجعوا وتركوك! وفي التراب وضعوك! وللحساب عرضوك! ولو جلسوا معك ما نفعوك! ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت! والله العظيم! لن ينفعك أحد، لا ابنك سوف ينفعك، ولا أمك سوف تنفعك، ولا زوجتك سوف تنفعك، لن ينفعك إلا عملك، يا من تلهث ولا هم لك إلا جمع المال! لن ينفعك مالك إلا إذا أخذته من الحلال، وأنفقته فيما يرضي الكبير المتعال.(27/3)
أهوال القبور
إذاً: لجنة الامتحان صعبة جداً، هذا هو جو اللجنة، القبر الذي قال عنه أحد الناس حينما قال: أيا من يدعي الفهم.
فإن كثيراً من الناس يدعون الفهم، وهم لا يفهمون شيئاً؛ لأن اعتقادهم أن الفهم الحقيقي هو: كيف يحسب التجارة؟ وكيف يحسب الأموال؟ وكيف يعد الدولارات، وكيف يعد الريالات؟! أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم صلى الله عليه وسلم، وصدق الله جل وعلا إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:26 - 40]، بلى قادر! بلى قادر! إذاًَ: القبر لجنة صعبة جداً، والأمر ليس سهلاً كما تتخيلون.(27/4)
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت
وقد تسأل شخصاً: من ربك؟ من نبيك؟ وما دينك؟ سيقول لك: ربي الله، ومحمد نبيي، وديني الإسلام، لكن الأمر ليس سهلاً هكذا! كم من العلماء الذين ملئوا المساجد بعلمهم ربما سئلوا هذه الأسئلة ولم يستطيعوا الجواب! وكم من أمي لا يستطيع أن يقرأ، ولا يعرف أن يكتب سيجيب بطلاقة وفصاحة لسان، لماذا؟! لأن الذي سيجيب في هذه اللحظات ليس هذا اللسان الذي تعود على الكذب، والذي تعود على الرياء، والذي تعود على النفاق، والذي تعود على الغيبة، والذي تعود على النميمة، وإنما الذي سيجيب في هذه اللحظات هو عملك، استمع إلى قول الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27]، ما هو القول الثابت؟ هو: لا إله إلا الله محمد رسول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، والقبر أول منزل من منازل الآخرة، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(27/5)
منكر ونكير وما كلفا به من أسئلة
القبر: إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، القبر إما أن يضيق على العبد فتختلف أضلاعه، وإما أن يتسع فيراه كالفضاء، فلجنة الامتحان صعبة جداً، والكلام في اللجنة طويل وهذا فيه كفاية، وننتقل إلى الأسئلة الثلاثة.
وماذا عن الملكين اللذين سيوجهان الأسئلة؟ إنهما منكر ونكير، وهما ملكان من ملائكة الله عز وجل، وكل ملك من الملائكة له وظيفة من يوم أن خلق إلى يوم أن تقوم الساعة، فجبريل موكل بالوحي إلى الأنبياء، وميكائيل موكل بتقسيم الأرزاق بين العباد، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وعزرائيل موكل بقبض الأرواح، وهكذا كل ملك له وظيفة، ورقيب وعتيد يسجلان عليك الحسنات والسيئات.
ومنكر ونكير مكلفان بأسئلة القبر، وهناك ملائكة ساجدة، وهناك ملائكة قائمة، وهناك ملائكة راكعة، الكل في عبادة ربه وفي ذكر مولاه، حتى إذا ما نفخ إسرافيل في الصور قام الجميع قائلاً: سبحانك! ربنا ما عبدناك حق عبادتك!! فمنكر ونكير هما المسئولان عن السؤال في القبر، إنه منظر عجيب ومنظر رهيب!! لأول مرة سوف ترى ملكاً.(27/6)
السؤال الأول: من ربك
السؤال الأول: سوف يقولان لك: من ربك؟ انتبه! فإن الذي يوفق للجواب هو المؤمن الصادق، أما المنافق والدجال ونحوهم فإنهم لا يوفقون إلى الإجابة، وأما نفاقهم ودجلهم فإنه ينتهي بخروجهم من الدنيا، ولا مجال لفعله في القبر، وبعض الناس إذا نصح قال: أنا قلبي مثل اللبن (أبيض)، وهو لا يصلي! فهذا قلبه أسود من ظلام المعصية؛ لأنه لو كان في قلبه ذرة من إيمان، لركع وسجد للواحد الديان.
وربما رأيت مسلماً فتح الله عليه من الرزق وهو لا يصلي، وما شاء الله! صحة طيبة! ومع ذلك لا يصلي، وبعد ذلك تقول له: يا أيها الرجل! لماذا لا تصلي؟! فيقول لك: ربك رب رءوف! وتراه لا يزكي، فتسأله: لماذا لا تزكي؟! فيقول لك: والله أنا عندي عيال يأكلون الحجارة! وتراه ذا مال ومع ذلك فإنه لا يحج! فسبحان الله العظيم! المسلم هو الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله باللسان، ويصدق ذلك بالجنان وتنطلق بذلك الجوارح والأركان؛ لأن الإيمان عند أهل السنة: قول باللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.
وكثير من الناس في هذا الزمان يقول: والله! أنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم.
وهل هناك مسلم لا يحب النبي؟! لكن المحبة لها دلائل وبراهين، فقد يزعم بعضهم ويقول: أنا محب للنبي وهو لا يصلي! (محب للنبي) وهو مبتدع! (محب للنبي) وهو لا يزكي! (محب للنبي) ووهو بعيد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم! بالله عليكم: هل هذا محب أم كذاب؟! إذاً: الكذب سهل جداً، يقول لك: أنا أحب النبي.
لكن أين سلوكك؟! وأين محبتك العملية لرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! من أجل هذا أذكر إخواننا هنا بأنه كان هناك تلميذ صغير يتعلم عند أستاذ، وسمع التلميذ الصغير أن أستاذه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا، فجاء التلميذ، وقال له: يا أستاذ! أنا أريد أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: يا بني! النبي صلى الله عليه وسلم لا أحد يراه إلا إذا كان محباً له وصادقاً معه ومنفذاً لسنته، فلا يزور النبي إلا أحبابه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لأن من الناس من يذهبون لزيارة النبي، ومن الناس من يأتي النبي لزيارته! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً؛ فإن الشيطان لا يتمثل بي).
إذاً: السؤال الأول في القبر: سوف يقال لك: من ربك؟ والذي سوف يجيب هنا هو المؤمن الصادق، الذي قالها بحق وصدق في الدنيا: ربي الله، لم يسأل إلا الله، ولم يستعذ إلا بالله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم يلجأ إلا إلى الله، ولم يفوض الأمر إلا إلى الله، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله! المؤمن الذي كانت حياته كلها لله عز وجل: صلى لله، وترك لله، وأعطى لله، ومنع لله، وأبغض لله، وراقب الله جل وعلا في سره وعلنه، هذا الذي يستطيع أن يجيب إذا ما سئل عن ربه، فيقول: ربي الله الذي آمنت به في الدنيا، ربي الله الذي راقبته في الدنيا، ربي الله الذي امتثلت لأوامره وشرعه وحدوده.
أما الرجل الكاذب الذي لم يصل، ولم يصم، ولم يزك، ولم يحج! وإنما هو مسلم بالبطاقة الشخصية! فإذا أدخل القبر فوالله لن ينطق بالصواب؛ لأن الله عز وجل قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، يثبت الله الذين آمنوا.
إذاً: المؤمن هو الذي يستطيع أن يجيب عن السؤال، والأمر ليس سهلاً مثلما تتخيلون؛ لأن الذي سوف ينطق هو إيمانك، والذي سوف ينطق هو عملك، والذي سوف ينطق هي صلاتك، والذي سوف ينطق هو قيام ليلك وقرآنك وبرك بوالديك، وإنفاقك على الفقراء واليتامى، وإحسانك للجيران، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -والثلاث عمل عمله في الدنيا- صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع الناس به) فينتفع بذلك في قبره.
إذاً: الذي يجيب عن السؤال هو الذي آمن بالله حقاً في الدنيا، ولذلك فإن سيدنا حارثة -وهو صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- قال عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حارثة! كيف أصبحت -يعني: كيف حالك وماذا أنت عامل هذا اليوم؟ - قال له: أصبحت مؤمناً حقاً، والحمد لله، يا رسول الله! قال له: انتظر يا حارثة! إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولك، وما حقيقة إيمانك؟ فقال حارثة: حقيقة إيماني يا رسول الله! أني قد عزفت نفسي عن الدنيا) فاعلم أن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر؛ ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، وأن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم!! (عزفت نفسي عن الدنيا) علم أن الدنيا قنطرة، أو شجرة استظل بظلها ثم تركها ورحل، علم أن الدنيا جيفة شاة ميتة، كما في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شاة ماتت وأصبحت جيفة، فقال لأصحابه: (أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ قالوا: نعم، يا رسول الله! ومن هوانها ألقوها، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: والله للدنيا أهون عند الله من هذه الشاة على أهلها، ولو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
الدنيا حقيرة جداً، ونحن نتكالب ونتهافت عليها، والولد يقتل أباه من أجل الدنيا، والبنت تسب أمها من أجل الدنيا.
وكل هذا من أجل الأموال والكراسي والمناصب.
المحاكم ممتلئة بالبلايا، لماذا؟! بسبب الطمع والجشع، وكلهم ناسٍ أنه سيترك الدنيا حافياً عارياً، وصدق من قال: النفس تجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنىً يطغيها وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها هي القناعة فالزمها تكن ملكاً ولو لم تكن لك إلا راحة البدن وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن هل أخذ معه فداناً من الأرض؟! هل أخذ معه بقرة؟! هل أخذ معه مالاً؟! لا، أبداً.
قال الشاعر: دع الحرص على الدنيا وفي العيش فلا تطمع ولا تجمع من المال فلا تدري لمن تجمع فإن الرزق مقسوم وسوء الظن لا ينفع فقير كل من يطمع غني كل من يقنع إي والله! وأحكي لكم قصة ظريفة: هذا سيدنا عيسى عليه السلام مشى مع صاحب له، وبعد ذلك وقف عيسى عليه السلام يصلي، ودخل صاحبه القرية؛ ليأتي بطعام فأتى بثلاثة أرغفة، فلما وقف عيسى عليه السلام يصلي جاع الرجل فأكل رغيفاً، ولما أنهى عيسى الصلاة قال له: أين الرغيف الثالث؟ قال: والله ما كانا إلا رغيفين، يكذب على نبي! قال له: يا رجل! قال: إنما هما اثنان.
قال له: خيراً! ومر عيسى على ظباء ترعى -يعني: غزلان- فنادى نبي الله عيسى على ظبي من هذه الظباء وذبحه وشواه؛ لكي يأكلوا فوضع الظبي مشوياً، وقبل أن يمد الرجل يده سأل عيسى ربه أن يحيي له هذا الظبي فأحياه الله؛ لأن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49].
وساعة رؤية الرجل للظبي الذي كان سيأكله مشوياً، فرآه حياً أمامه! سبحان الله! قال له عيسى: بحق الذي أراك هذه المعجزة من صاحب الرغيف؟ قال له: والله ما كانا إلا رغيفين! قال له: خيراً.
فأخذه بيده ومشوا، فمر نبي الله عيسى على نهر، فأخذه عيسى من يده يجره؛ ليعبر به على سطح الماء، فتأخر الرجل، فقال له: هيا، فعبر به نبي الله عيسى على سطح الماء حتى الشاطئ الآخر.
فقال الرجل: سبحان الله! يمشي على الماء! فقال له: بحق الذي أراك هذه المعجزة من صاحب الرغيف الثالث؟ فقال له: والله ما كانا إلا رغيفين! قال له: خيراً، فمر به نبي الله عيسى على أرض صحراء فيها رمال، فجمع عيسى ثلاثة أكوام من الرمل متساوية، وسأل عيسى ربه أن يصير له هذه الأكوام الترابية إلى ذهب! وأنتم تعرفون أن الذهب يذهب العقول.
قال الشاعر: رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن لا عنده مال فعنه الناس قد مالوا رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة ومن لا عنده فضه فعنه الناس منفضة فحول الله تعالى الأكوام الترابية إلى ذهب، فقال له سيدنا عيسى: الكوم الأول من الذهب لي أنا، والكوم الثاني لك، والكوم الثالث لمن أكل الرغيف، فقال الرجل: أنا الذي أكلت الرغيف، فقال له نبي الله عيسى: كلها لك، ولكن هذا فراق بيني وبينك.
وانظر كيف كانت النهاية! قعد الرجل بجانب الثلاثة الأكوام وهو يقول: سوف أبني وأشتري عشرة فدادين، وسوف أعمل مزرعة ماشية! فمر عليه ثلاثة من قطاع الطرق، فلما رأوا الثلاثة الأكوام من الذهب ذهبت عقولهم فقتلوه.
ثم قال أحدهم: فليذهب أحدنا بسرعة ويحضر لنا طعاماً كي نأكل، ثم نهرب، فذهب رجل منهم ليحضر لهم طعاماً، -إنها فتنة المال!! إن الولد يقتل أباه من أجل المال، لكن: هل سيبقي هذا على صاحبيه؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! - فقال لنفسه: لماذا لا تصنع سماً في الطعام، فتقضي على صاحبيك، وتأخذ الثلاثة الأكوام لوحدك، دون أن يعلم أحد بالخبر؟! وفي نفس اللحظة صاحباه الآخران يقولان: بدلاً من أن نقسم الأكوام، لم لا نقتله ونقسم الثلاثة على اثنين؟! فجاء صاحبهما بالطعام المسموم، وأثناء وصوله انقضا عليه فقتلاه، وجلسا يأكلان الطعام فماتا!! فعاد عيسى عليه السلام إلى المكان، فوجد أكوام الذهب في مكانها، ووجد صاحبه وإلى جواره ثلاثة من الرجال؛ فبكى نبي الله عيسى وقال: هكذا تفعل الدنيا بأهلها! الذي سيجيب عن السؤال هو من كان مؤمناً في الدنيا، وتذكر قول سيدنا حارثة، عندما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حقيقة إيمانك يا حارثة؟ قال له: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأ(27/7)
السؤال الثاني: من نبيك
ثم يجيء السؤال الثاني: من نبيك؟ المؤمن الصادق الذي التزم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي التزم بشرع النبي صلى الله عليه وسلم، والذي طبق هدي النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سيقول: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم.(27/8)
السؤال الثالث: ما دينك
المؤمن الذي أحب الإسلام، وعاش للإسلام، والتزم بتعاليم الإسلام وعمل لإسلامه، وافتخر بإسلامه، وأعلى إسلامه في كل مكان هو الذي سيقول: ديني الإسلام.
إذاً: من هو الذي يقدر على الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة؟ لاشك أنه المؤمن الذي صدق في إيمانه في الدنيا، أما المنافق والكاذب والمضيع للفروض والمضيع للسنة فلن يستطيع أن يجيب عن الأسئلة أبداً؛ لقول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(27/9)
حديث قبض الروح
نرجع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي شمل كل هذه المعاني، وهو حديث رواه البراء بن عازب وخرجه الطبراني والترمذي وغيرهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع الأنصار في جنازة -شخص مات، وذهبوا ليدفنوه- فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر -يعني: على حافة القبر- وكان مع النبي عليه الصلاة والسلام عود وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينكت الأرض بهذا العود -يعني: يضرب بالعصا- وبكى صلى الله عليه وسلم، ثم قال لإخوانه بعدما نظر إليهم: يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا -أي: لمثل القبر- لمثل هذا فأعدوا، لمثل هذا فأعدوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن العبد إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة) أي: العبد الصالح المؤمن التقي النقي إذا مات أو كان على فراش الموت، وبدأت علاقته وصلته تنقطع مع الحياة الدنيا، وتتصل بالآخرة، (تأتيه ملائكة، وبيدهم حنوط من الجنة) هذا للمؤمن، والحنوط: طيب من الجنة (ويجلسون عند رأسه) يهيئونه، كي يأتي الدكتور الكبير الذي سوف يجري العملية الجراحية، وهو ملك الموت، هناك أطباء يهيئون المريض، الذي هو الميت، وهم الملائكة.(27/10)
حال المؤمن عند قبض روحه
إن المؤمن الذي ينام على فراش الموت يرى أموراً عظيمة، وكثيراً ما نسمع من الناس: أن فلاناً ابتسم وهو في سكرات الموت، وأن فلاناً والعياذ بالله أسود وجهه وهو في سكرات الموت! نريد أن نفهم ما هو سبب ذلك؟! عندما يكون المؤمن على فراش الموت، فإنه يرى الملائكة، ولا يراهم أحد غيره، ولذلك فإن الإنس والجن لا يرون شيئاً من ذلك، يرى ملائكة تقترب من بعيد، ويرى أنها ملائكة بيض الوجوه، طيبي الرائحة، معهم حنوط من الجنة، فيعلم أن هذه ملائكة الرحمات، فيبتسم.
أتدرون لماذا يبتسم؟ لأنه في اللحظة هذه وهو على فراش الموت يرى مكانه في الجنة.
يرى ملائكة من بعيد تقترب معهم حنوط من الجنة، رائحتهم زكية طيبة، ويجلسون عند رأسه -يحرسون المكان كله- وبعد ذلك يأتي ملك الموت، ويجلس ملك الموت عند رأس عبد الله المؤمن، حتى إذا ما انتهى الأجل المحدد من قبل الله عز وجل، ينادي ملك الموت على روح المؤمن، ويقول: (يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راض عنك غير غضبان).
يقول الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم: (فتخرج روحه سهلة سلسة، كما يسيل الماء من فم السقاء) يعني: القربة، انظر عندما تملأ قربة بالماء، ثم تصب منها ماءً، كيف ترى نزول الماء؟! ستجده ينزل بسلاسة، كذلك روح المؤمن تخرج سهلة سلسة جميلة.
فلا تدعها الملائكة مع ملك الموت طرفة عين، فيأخذون الروح، ويلفونها في حنوط من حنوط الجنة، وفي طيب من طيب الجنة، وهنا تصعد الملائكة بالروح الطيبة إلى الله، فيجيء ملائكة السماء الأولى، ويقولون: يا الله! لمن تكون هذه الروح الطيبة؟! ومن صاحبها؟! فتقول الملائكة التي تشيع الروح: إنها روح فلان بن فلان، بأطيب أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا.
وتعبر الملائكة سماء بعد سماء، حتى تنتهي الملائكة بالروح إلى خالق الروح، وهنا يقول الله جل وعلا لملائكته: يا ملائكتي! اكتبوا روح عبدي في عليين، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:19 - 21].
اكتبوه في عليين، ثم أعيدوها إلى الأرض، فمنها خلقناهم، وفيها نعيدهم، ومنها نخرجهم تارة أخرى، فتعاد إلى القبر حتى تسأل، وإذا ما دخل هذا العبد القبر استقبله القبر وتكلم معه، وقال له: مرحباً بك وأهلاً!! لقد كنا في شوق إليك، ونحن في انتظارك يا ولي الله! جميع المخلوقات تسعد بالمؤمن في الحياة وبعد الممات.
وإذا دخل القبر وجد في استقباله في القبر رجلاً، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام وهذا نص الحديث: (وجد في استقباله في القبر رجلاً شديد بياض الوجه، طيب الرائحة، فيقول له: مرحباً بك، فيقول: من أنت، فوجهك وجه لا يأتي إلا بخير؟) يقول له الميت: من أنت يا صاحب الوجه الأنور! لا يأتي وجهك هذا إلا بخير؟! من أنت؟! فيقول له: (أبشر واسعد بأسعد يوم مر عليك منذ أن ولدتك أمك، ألا تعلم من أنا؟! أنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد به) أنا صلاتك، أنا قيامك بالليل، أنا قرآنك، أنا ذكرك، أنا استغفارك، أنا حجك، أنا زكاتك، أنا صدقتك، أنا بر الوالدين، أنا الإحسان لليتامى، أنا الإحسان للفقراء، أنا الإحسان للجيران، أنا عملك الصالح، وهذا يومك الذي كنت توعد به.
ثم يقول له: سيأتيك الآن ملكان من عند ربك وسيسألانك من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فقل لهما: ربي الله حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، وديني الإسلام.
فيأتي منكر ونكير ويقولان له: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، وديني الإسلام، فينادي منادٍ من قبل الواحد الديان، ويقول: إن صدق عبدي، فافتحوا له باباً إلى الجنة، وافرشوه فراشاً من الجنة، ووسعوا له في قبره، فيفسح له في قبره مد البصر، (القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران).
وعندما يرى العبد هذا النعيم، ينادي على الله وهو في القبر، ويقول: يا رب! فيقول له: لبيك يا عبدي.
فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، فيقال له: ولم؟ فيقول: حتى أري أهلي منزلتي عندك في الجنة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/11)
أكل مال اليتيم
تكلم الشيخ حفظه الله عن عظيمة من العظائم، وكبيرة من الكبائر وهي: أكل مال اليتيم، ثم حدد تعريف اليتيم وبيّن منزلة اليتيم في القرآن والسنة، كما تطرق إلى عاقبة من يأكل مال اليتيم ظلماً وعدواناً، وما هو الجزاء والعقاب الذي ينتظره، ثم أوضح الشيخ أمراً ربما يستغرب منه البعض، وهو أن الطفل قد يعاني من مرارة اليتم رغم وجود والديه، كما عرج الشيخ إلى أمر في غاية الأهمية، وهو كيف يؤمن الوالد مستقبل ولده بعد موته.(28/1)
أولاً: من هو اليتيم؟
نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا السادس مع السبع الموبقات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات.
قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
ونحن اليوم على موعدٍ مع الكبيرة الخامسة في هذا الحديث، ألا وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (وأكل مال اليتيم) ويا لها والله من كبيرة! قد وقع فيها معظم أولياء اليتامى نسأل الله السلامة والعافية.
ونظراًَ لخطورة هذا الموضوع وطوله أيها الخيار الكرام، فسوف ينتظم حديثي معكم في العناصر التالية: أولاً: من هو اليتيم؟ ثانياً: مكانة اليتيم في القرآن والسنة.
ثالثاً: عاقبة آكل مال اليتيم.
رابعاً: يتم رغم وجود الوالدين! وأخيراً: كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد موتك؟ فأعيروني القلوب والأسماع -أيها الأحبة الكرام- فإن هذا الموضوع من الأهمية والخطورة بمكان.
أولاً: من هو اليتيم؟ قال ابن منظور في لسان العرب: اليتيم في الناس من فقد أباه، واليتيم في الحيوانات والطيور من فقد أمه، قلت: وهذه لطيفة لغوية دقيقة لها مغزى قل من ينتبه إليها، قال ابن منظور: وأصل اليتم في اللغة هو الغفلة، وبه سمي اليتيم يتيماً، أي: لأنه يتغافل عن بره بعد موت أبيه، وقال: وأصل اليتم في اللغة أيضاً هو: الانفراد، يقال: درة يتيمة، أي فريدة، ويقال: بيت يتيم، أي: بيت منفرد أو وحيد.(28/2)
ثانياً: مكانة اليتيم في القرآن والسنة
لقد أولى القرآن الكريم عناية فائقة بأمر اليتيم وشأن اليتيم، اهتم القرآن بتربية اليتيم وبأمره من الناحية النفسية ومن الناحية المادية على السواء مراعاة لظروف اليتيم النفسية بعد فقد أبيه، فقد يحس بشيء من الذل أو القهر أو الانكسار، وراعى القرآن هذه الحالة النفسية مراعاة دقيقة؛ لأن الذي يشرع هو الذي خلق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(28/3)
مكانة اليتيم في القرآن
ستعجبون -أيها الأحباب الكرام- إذا علمتم أن اهتمام القرآن بأمر اليتيم كان منذ الفترة الأولى لتنزل الوحي على قلب الحبيب المصطفى الذي نشأ يتيماً، فكان يتمه تشريفاً لكل يتيم.
منذ الفترة الأولى اهتم القرآن بأمر اليتيم، بل امتن الله جل وعلا بذلك على حبيبه المصطفى الذي ولد يتيماً ونشأ يتيماً، فكان يتمه كما ذكرت تشريفاً وتكريماً لكل مسلم يتيم، قال الله تعالى ممتناً على حبيبه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8] أي: لقد كنت يتيماً يا محمد -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فآواك الله وأيدك وأحاطك بعنايته ورعايته وحفظه وفضله، وكنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة والرضا، ثم أفاض عليك بعد ذلك بالمال الوفير الحلال الطيب، وكنت شارداً تائهاً تبحث عن الحق في شعاب مكة وربوعها، في بيئة جاحدة، وبين نفوس شاردة، وفي هاجرة قاتلة محرقة، فهداك الله جل وعلا للحق، وطمأن قلبك، وشرح صدرك، ورفع ذكرك، ووضع وزرك، ومنَّ الله جل وعلا عليك بكل هذه الأفضال والنعم، ومن ثمَّ جاء هذا التوجيه الرباني الكريم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9 - 11].
بل تعجبون إذا علمتم أن الله جل وعلا قد أمر بالإحسان إلى اليتيم، ولم يكن هذا الأمر خاصاً بأمة الحبيب فحسب، بل لقد أمر الله بذلك الأمم من قبل أمة النبي صلى الله عليه وسلم، بل لقد أخذ الله هذا الأمر ميثاقاً جامعاً من بين المواثيق الجامعة التي أخذها على بني إسرائيل، فقال جل وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83].
ومن هذا المنطلق الكريم بالاهتمام بأمر اليتيم، أمر الله جل وعلا ولي اليتيم والوصي على ماله بالمحافظة على هذا المال محافظة تامةً كاملة.
وأمر الله ولي اليتيم بعدم تبديد أمواله، أو تبديلها بالخبيث من الأموال، أو المتاجرة بها فيما حرم الله جل وعلا، وأمر الله جل وعلا ولي اليتيم أيضاً بألا يسرف بالإنفاق من أموال اليتامى، وبألا يسرع في تبديدها قبل أن يكبر أصحابها اليتامى ليأخذوا حقهم.
وأمر الله ولي اليتيم أيضاً بأنه إذا ما أحس النضج والرشد عند هؤلاء اليتامى، ورأى أنهم أصبحوا قادرين على تصريف شئونهم، وتدبير أحوالهم، والمحافظة على أموالهم، أمره الله أن يسارع برد لهذه الأموال كاملة وافرة غير منقوصة.
وإن كان هذا الولي غنياً فليستعفف عن الأكل من أموال اليتامى، وإن كان فقيراً فله أن يأكل من هذه الأموال مع اليتامى بالمعروف من غير سرفٍ ولا تبذير، وفي أضيق نطاق، وأقل الحدود.
ثم أمر الله وصي اليتيم بعد ذلك إذا ما كبر اليتامى أن يدفع إليهم أموالهم، وأن يُشهد على ذلك تبرئة للذمة، ودرأً للشبهة.
وإليكم هذه الآيات الكريمة التي تؤكد هذه المعاني التي ذكرتها آنفاً، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].
وقال الله عز وجل في سورة النساء: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] أمر للوجوب؛ إذ لم تأت قرينة تصرف هذه الأوامر من الوجوب إلى الندب {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2] أي: إثماً وذنباً عظيماً، وقال عز وجل في سورة النساء أيضاً: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء:6] قالت الشافعية والمالكية: إن الأمر بالإشهاد للوجوب أيضاً إلا أن الحنفية قالوا: إنه للندب وليس للوجوب، ولكن ظاهر الآيات يدل على أن الأمر بالإشهاد عند دفع المال للوجوب كذلك {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء:6].
ويا لها والله من خاتمة جليلة تفزع القلوب الحية! ألا وهي قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [النساء:6] فهو الحسيب والرقيب والشهيد على أحوالكم وأقوالكم وأعمالكم، هو الذي يعلم منكم السر وأخفى، وهو الذي سيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم في يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وصدق الله إذ يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وتأتي هذه الآية الجليلة -أيها الأحباب- التي تقرن أمر الإحسان إلى اليتيم بأمر عبادة الله وحده لا شريك له، ويا لها من مكانةٍ عظيمة لليتامى! قال الله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] إنه تكريم وتشريف أن يقرن الأمر بالإحسان إلى اليتامى بالأمر بعبادة الله جل وعلا وحده لا شريك له.
ومع أن كل هذه الآيات تشمل أمر اليتيم واليتيمة -أي: الذكر والأنثى- إلا أن ربنا جل وتعالى قد خص اليتيمة بآيتين للتأكيد على حقها، ولزيادة التوضيح والبيان؛ فقال ربنا جل وعلا في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وقال عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127].
ورد في صحيح مسلم أن عروة بن الزبير سأل خالته عائشة رضي الله عنها عن الآية الأولى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء:3] قالت: [يا بن أخي: هي اليتيمة في حجر وليها، فيرغب وليها في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا إليهن في صداقهن، وأُمروا بنكاح سواهن مثنى وثلاث ورباع] أي: أن الله جل وعلا يأمر ولي اليتيمة إن رغب في الزواج منها فقد أوجب الله عليه أن يكمل لها الصداق، وأن لا ينتقص حقاً من حقوقها، قال عروة: [قالت عائشة: إلا أن الناس قد استفتوا رسول الله بعد ذلك فأنزل الله جل وعلا: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127]] هذه هي مكانة اليتيم واليتيمة -أيها الأحبة- في القرآن، والآيات كثيرة جداً لا أستطيع أن أقف معها كلها، وأكتفي بهذا القدر لأعرج على مكانة اليتيم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(28/4)
مكانة اليتيم في السنة
لقد كرم النبي صلى الله عليه وسلم الذي نشأ يتيماً اليتامى على الأرض من المسلمين تكريماً عجيباً، ووالله لو لم يأت في السنة إلا هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة لكفى، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) أسمعت يا عبد الله؟ يقول حبيبك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار النبي بالسبابة والوسطى) الله أكبر! أي فضلٍ وأي شرف، ولفظ رواية مسلم: قال صلى الله عليه وسلم: (كافل اليتيم له أو لغيره -أي إذا كان اليتيم من قرابته أو كان اليتيم أجنبياً عنه لا يعرفه- معي في الجنة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى) أي فضل وأي شرف لمن يكفل اليتيم أن يكون مرافقاً في الجنة للنبي صلى الله عليه وسلم.
نقل الحافظ ابن حجر في الفتح مقولة عن ابن بطال إذ يقول: حق على كل من سمع بهذا الحديث أن يعمل به ليكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة فهي أفضل منزلة في الآخرة.
من منا لا يريد أن يرافق الحبيب في الجنة؟ بل لقد ورد في الحديث الذي رواه أبو يعلى وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الأدب معلقاً على هذا الحديث الذي استشهد به: وإسناده لا بأس به من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أول من يفتح باب الجنة، فأرى امرأة تبادرني -أي تسرع خلفي لتدخل معي إلى الجنة- فأقول لها: مالكِ؟ من أنتِ؟ فتقول المرأة: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) امرأة جلست تربي أيتامها بعد موت زوجها تسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدخل معه الجنة، قال الحافظ ابن حجر: وقد يشتمل هذا الحديث على الأمرين، أي: على أمر السرعة والمنزلة معاً، تسرع لتكون مع رسول الله ولتكون في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، يقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالكِ؟ من أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) جلست على أيتام لها لتربيهم تربية طيبة بالحلال الطيب، بعيداً عن أجواء المعصية العفنة عياذاً بالله جل وعلا.
بل وفي الحديث الذي رواه النسائي بسندٍ جيد من حديث أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللهم إني أحرج -والحرج هو: الإثم الشديد والذنب العظيم- اللهم إني أحرج على حق الضعيفين اليتيم والمرأة).
وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين -والأرملة هي التي مات زوجها وترك لها أولاده- كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل).
أسمعت يا عبد الله إلى هذا الفيض وإلى هذه النعم؟! (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل) أي فضلٍ هذا؟! والله الذي لا إله غيره إن من تخلى عن هذا الفضل لمحروم في الدنيا والآخرة.
الساعي على من مات عنها زوجها وترك لها أفراخها الصغار أجره عند العزيز الغفار كأجر المجاهد في سبيل الله الذي حمل نفسه وروحه على أسنة السيوف والرماح وطلب الشهادة من الله جل وعلا، أو كالذي يتعب نفسه ويصوم النهار ويقوم الليل لله العزيز الغفار جل وعلا.(28/5)
ثالثاً: عاقبة آكل مال اليتيم
إذا كان هذا هو قدر اليتيم عند الله وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء القرآن يحذر وينذر بصورة تحذير رهيب وإنذار شديد لمن يتطاول ويتجرأ على أكل مال اليتامى ظلماً بغير حق، فلقد قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] الله أكبر! أي رعبٍ هذا؟! أي إنذار شديد هذا؟! والله إنه إنذار يخلع القلوب الحية، وينذر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:10] فكم من أموالٍ لليتامى قد أكلت ظلماً، بل ومن الذي سلم إلا من سلمه الله جل وعلا، ووالله إن شربة ماء من أموال اليتامى بغير حق إنما هي نار تغلي في البطون، وإن لقمة خبز من أموال اليتامى بغير حق إنما هي نار تتأجج في البطون {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10].
ولما نزلت هذه الآيات نزلت على قلوبٍ حية، نزلت على قلوبٍ تستمع إلى القرآن لتنطلق على الفور لتحول القرآن إلى وقع وإلى منهج حياة، كان حالهم عجيباً وعجباً، ليس كحالنا اليوم، فإننا نستمع إلى أوامر الله أمراً أمراً، وإلى نواهي الله نهياً نهياً، وإلى حدود الله حداً حداً، ولا يستجيب إلا من رحم ربك، وينطلق البعض أو الأكثرون وكأنهم لم يسمعوا شيئاً، كأن الله لم يأمر، وكأن الله لم ينهَ، وكأن الله لم يحد حداً، واجب على الناس أن لا يتعدوا حدود الله جل وعلا، لما نزلت هذه الآيات في مجتمع الصحابة الذي رباه من رباه الله ليربي به الدنيا صلى الله عليه وسلم، لما نزلت هذه الآيات فزع الصحابة فزعاً شديداً، وتزلزلت قلوبهم زلزلة عظيمة، وذهب كل صحابي في بيته يتيم ففصل ماله عن مال اليتيم كله، وشرابه عن شراب اليتيم كله، حتى أن الأكل كان يوضع بين يدي اليتيم -كما قال ابن عباس - فيأكل اليتيم فإذا ما تبقى شيء من الطعام لا تمتد إليه الأيدي مطلقاً حتى يفضل هذا الطعام، فإن أكله اليتيم مرة ثانية وإلا خرب وفسد، وشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتكوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل وعلا الذي لا يغيب ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي يربيهم بمنهجه وقرآنه أنزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220] وقد ظن بعض المفسرين أن هذه الآية الأولى منسوخة بآية البقرة وهذا وهم وخطأ، فإن آية البقرة آية محكمة لم تنسخ ولكن هذا من باب التخفيف عن هؤلاء الخيار الكرام الذين وقعوا في مثل هذا الحرج الشديد.
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] يعلم من الذي يفسد أموال اليتامى، ويعلم من الذي يريد أن يصلح أموالهم وأن ينميها ويربيها لهم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220] وهكذا -أيها الأحبة- يأتي هذا الوعيد الشديد من الله تبارك وتعالى لآكل مال اليتيم.(28/6)
رابعاً: يتمٌ رغم وجود الوالدين!!!
أما العنصر الرابع فهو عنصرٌ قد يراه بعض الإخوة غريباً ألا وهو: يتمٌ رغم وجود الوالدين! كيف يكون ذلك؟ ألم أقل في أول الخطبة بأن ابن منظور قال في لسان العرب: بأن اليتم في اللغة أصله الانفراد، فإذا عاش الطفل منفرداً فريداً وحيداً أحس باليتم وبالغربة؛ فهو بين والد قد انشغل بتجارته وأمواله ولم يعط لولده قليلاً من الوقت، وبين أم قد انشغلت عن ولدها بالعمل تارة، أو بالضرب في الأسواق تارة أخرى، أو بالجري وراء أحدث الموضات مرة ثالثة، وتركت ولدها ووليدها ونعمة ربها التي يريدها كثير من النساء غيرها، تركت هذه النعمة في أحضان المربية، أو في أحضان الخادمة، أو في أحضان المدارس، ووالله قد يُترك هذا الطفل بين أحضان مدارس أهل الكفر، هذه المدارس التي تركز على الظاهر لإبهار الكثير من المسلمين بتعليم اللغات، وأشهد الله على منبر رسول الله لقد دخل عليَّ أحد الإخوة الكرام وهو يبكي فقال لي: أدركني وقل لي ما الحل؟ قلت: ما الذي جرى ما الذي حدث؟ قال: دخلت زوجتي على ولدي في غرفته الخاصة، فوجدت الولد يصلي كصلاة النصارى ويقول: بسم الأب والابن والروح القدس وهو مسلم، قلت: سبحان الله! وأين رأى الولد هذه الصلاة؟ هل يدخل ولدك الكنائس؟ قال: لا.
قلت: عجيب، فما الذي جعله يصلي هكذا؟ فقال: إن ولدي في مدرسة تسمى بـ (الفرنسسكان) قلت: سبحان الله! وهل يريد من زرع الشوك أن يجني الورود، محال لمن زرع الشوك أن يجني إلا الجراح، ولدك على مائدة اللئام، وتريد أن يتربى على التوحيد والإسلام!! إنه وهم، ولدك يربى على موائد اللئام وتريد أن يعود إليك موحداً وعلى علم بتوحيده وبدين الإسلام!! هذا مستحيل! الولد جوهرة غالية، ونعمة كبيرة، ودرة صافية تقبل كل شيء ينقش عليها، فإن ربي على الإسلام وعلى الخير خرج عضواً صالحاً لنفسه ولمجتمعه وسعد في الدنيا والآخرة، وإن نقشت على هذه الدرة الشر أشربت الشر، وقبلت الشر وخرج عضواً فاسداً في مجتمعه، وشقي في الدنيا والآخرة والوزر والذنب على رأس والديه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فقد ينشأ الطفل بين والديه إلا أنه يحس باليتم، وبالوحشة، وبالغربة، لا يجد أباً يجلس إليه، ولا يجد أماً تأخذه في أحضانها لترضعه حنانها ورحمتها، كلا.
ورحم الله من قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي ترى له أماً تخلت أو أباً مشغولا(28/7)
خامساً: كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد موتك؟
وأخيراً: أيها الأحبة! يبقى لنا هذا العنصر الأخير في هيئة سؤال ألا وهو: كيف تؤمِّن مستقبل ولدك بعد موتك؟
و
الجواب
مباشرة من الله جل وعلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] جوابٌ محكمٌ من الذي خلق، ويعلم ما خلق ومن خلق {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] يقول سيد التابعين لولده: [إني سأكثر من الطاعات براً بك] براً بولده {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] وفي الآية الأخرى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] طاعة الوالد، وتقوى الوالد لا تضيع أبداً لا في حياته ولا بعد مماته، كيف لا وقد دخل مسلمة بن عبد الملك ابن عم عمر بن عبد العزيز عليه وهو على فراش الموت، فقال له: [يا أمير المؤمنين! ألا توصي لأولادك بشيء؟ فهم كثير وقد أفقرتهم ولم تترك لهم شيئاً] فقال عمر بن عبد العزيز: [أتريد مني أن أوصي لهم بما ليس لي، وهل أملك شيئاً لأوصي لهم به؟ أم تريد أن أوصي لهم بحقٍ لغيرهم، فوالله لا أفعل، فإنهم أحد رجلين: إما أن يكونوا صالحين والله يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير صالحين فوالله لا أترك لهم ما يستعينون به على معصية الله عز وجل، أدخلوا أولادي عليَّ! فأدخلوا أولاده عليه كالفراخ الصغيرة، وهو على فراش الموت، فودعهم عمر بهذه الكلمات التي تذيب الحجارة، وتفتت الصخور، نظر عمر إلى أولاده وقال: يا بني! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن تستغنوا ويدخل النار، وبين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وقد اختار أبوكم الجنة، انصرفوا فأنتم وديعة عند الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين].
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] وأحب ألا يفهم كلامي فهماً خاطئاً، ويقال: بأن الشيخ يدعو إلى الدروشة، ويريد أن ينقطع الآباء إلى العبادة وينشغلوا عن الدخول في الأسباب لتوفير المال الحلال الطيب لورثتهم، كلا.
فإن الأمر بالتقوى لا يعارض ألبتة الدخول في الأسباب، فإن الدخول في الأسباب كما قال الشاطبي في الموافقات: أمر واجب شرعاً.
يجب علي وعليك أن ندخل في الأسباب، فلا مانع أن تدبر المال الحلال الطيب لولدك، ولا مانع من أن تسعى ومن أن تكدح، شريطة أن لا تضيع حق الله أو حق ولد من أولادك، فإن كثيراً من الناس قد يظن أن الكدح والسعي على الأولاد لا حرج فيه أن يضيع الصلوات، وإذا ما قلت له يرد عليك ويقول: أليس العمل عبادة؟ أنا في عبادة، فلماذا أترك هذه العبادة لآتي للصلاة، فنقول لمن هذا حاله: لا حرج أن تسعى على رزقك من الحلال لتيسر لأولادك السعة والرخاء في الدنيا وبعد موتك، شريطة ألا يشغلك هذا الكدح عن حق الله جل وعلا أو عن حقوق أولادك، فإننا نرى كثيراً ونقرأ كثيراً عن آباء قد تركوا أولادهم وانصرفوا عنهم، واهتموا بأن يدبروا لهم الطعام والشراب فقط، وظنوا أن الأمر متوقف عند المال، وعند الطعام والشراب، ثم عاد هذا الرجل وهذا الوالد المسكين بعد فترة ليرى ولده -عياذاً بالله وحفظنا الله وإياكم- مدمناً للمخدرات، أو مدمناً للهروين، أو شارباً للخمر، أو زانياً أو مسك في بيت من بيوت الدعارة؛ لأن الوالد المسكين قد ظن أن كل ما عليه تجاه ولده أن يدبر له الطعام والشراب فقط.
وهذا خطأ كبير أحذر نفسي وأحبابي منه، فإن الولد في حاجة إلى أبيه، لا إلى مال أبيه فقط، فإن وفرت له المال ويسرت له السعة والرخاء مع كل ما تملك من فكر ورحمة، وعطاء وحنان وبذل ونصح وإرشاد، وتربية على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الخير بل هو قمة الخير، بل وجزاك الله عن ذلك كل الخير، والأصل في ذلك حديث مسلم (أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن أبي وقاص وهو مريض فقال سعد: يا رسول الله! هل أتصدق بنصف مالي؟ قال الرسول: لا، ثم قال: بالثلث والثلث كثير، وقال عليه الصلاة والسلام: إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) أي: يسألون الناس.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم حصن فروجنا، وطهر أموالنا، وارزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا وأعمالنا أنت ولي ذلك ومولاه.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واعل بفضلك كلمتي الحق والدين، اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة لك فيها رضى ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.
أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا رسول الله كما أمرنا بذلك ربنا جل وعلا فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على حبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيقٍ فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهوٍ أو زللٍ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وأقم الصلاة.(28/8)
المستقبل لهذا الدين
تعيش الأمة في حاضرها الكثير من المآسي والنكبات؛ فقد رزحت تحت ظلام الفجور والفسوق والعصيان والذل والهوان، وذلك بسبب مخالفتها لمنهج ربها سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك تلوح في الأفق القريب بشارات النصر والعزة لهذا الدين وأهله وعلو رايته من جديد، تزرع التفاؤل وتنزع القنوط واليأس، بشارات حقة ذكرت في الكتاب والسنة أبان عنها شيخنا الفاضل في خطبته، مذيلاً ذلك بذكر أسباب النصر التي كتبها الله على أهل نصرته.(29/1)
واقع الأمة بين ماضيها وحاضرها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله! لقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن واقع الأمة المسلمة في واقعنا المعاصر وعن حالها في واقعنا الحاضر، وبينا أن الأمة التي ذكرها الله جل وعلا في القرآن تختلف كثيراً عن أمة القرآن التي نراها في مثل هذه الأيام، وقلنا: إن الأمة التي ذكرها الله جل وعلا في القرآن وصفها الله بالخيرية، وعلل الله خيريتها؛ بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله جل وعلا، ولكن أمة القرآن الآن ضيعت هذا المنهج الرباني، فضاعت بين الأمم، وسقطت من القمة السامقة إلى قمة الحضيض.
وقلنا: إن الله جل وعلا قد وصف الأمة في القرآن بالوسطية والاعتدال، ولكن الأمة في الواقع المعاصر تركت هذا المنهج الوسط، وأبت إلا أن تسلك طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى، جنحت الأمة لليمين مرة ولليسار مرة، وللشرق مرة، وللغرب مرة، وتركت طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولما فعلت الأمة ذلك أذلها الله لمن كتب الله عليهم الذلة والهوان، ولا يوجد على الإطلاق أذل ممن أذله الله للأذل.
وقلنا: إن الله وصف الأمة في القرآن بالوحدة ودعاها إلى ذلك، ولكن الأمة قد أبت إلا أن تمزق شملها وتشتت صفها، وينفرط عقدها ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويوم أن وصلت الأمة إلى هذا الحال من التشتت والتمزق والتفرق والضياع، طمع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والفقير قبل الغني ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم.
وقلنا: إنه مما يزيد اليأس والقنوط عند كثيرٍ من المسلمين أنه حتى لو نظر إلى أمة القرآن من مضمون الركب المادي الحضاري -كما يقولون- لوجد أمة القرآن تأتي خلف الركب إن لم تكن وراء الراكب البعيد، فطاقات أمة القرآن معطلة، عُطلت طاقاتنا العقلية، وعُطلت طاقاتنا العددية، وعُطلت طاقاتنا العلمية، وعُطلت طاقاتنا العملية، وعُطلت طاقاتنا الثقافية، فأثقل شيءٍ عندنا هو العمل، وأحب شيء إلينا هو الكسل، وأقل الثروات قيمة عند الأمة هو الإنسان.
وقلنا: إنه مما يزيد اليأس والقنوط عند كثيرٍ من المسلمين أنه في الوقت الذي يرى فيه أمة القرآن على هذا الحال من التمزق والتشتت، والخزي والضياع، يرى أمماً أخرى قد وصلت إلى أرقى درجات التقدم المادي، بصورة لا يكاد يصدقها عقل، ومما يزيد اليأس أيضاً عند كثيرٍ من المسلمين أنه يرى جميع الأمم على اختلاف مشاربها، وعلى اختلاف أيدولوجياتها، وعلى اختلاف نظرياتها، لا تتفق على شيءٍ قدر اتفاقها على الكيد للإسلام والمسلمين، ولكن بالرغم من كل ذلك ومن أكثر من ذلك فإننا على يقين كما أننا على يقين أن الشمس تشرق في كبد السماء، لتنير أرجاء المعمورة، إننا على يقين -وينبغي أن تكونوا على يقين أيها المسلمون في كل مكان- إننا على يقين جازم على الرغم من كل هذه الحروب بأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.(29/2)
بشارات النصر لدين الإسلام
إن المستقبل لهذا الدين بإذن الله جل وعلا؛ لأنني أرى في هذه الأيام بالذات، وتحت رحى هذه الفتنة الطاحنة، أرى كثيراً من القلوب قد اجتاحتها موجة عارمة من القنوط واليأس على أنه لا يمكن أبداً أن يكون هناك عودة للمسلمين، وأن يكون هناك نصرة لدين الله عز وجل، ولكن أبشروا أيها المسلمون، واعلموا علم اليقين بأن النصر لدين محمد صلى الله عليه وسلم، وبأن المستقبل لهذا الدين رغم كيد الكائدين.
وتعالوا معي لأزف إليكم هذه البشائر التي تبشر بنصر دين الله جل وعلا، على الرغم من كل هذه المحاولات التي تدبر وتخطط في الليل والنهار، من الكيد للإسلام والمسلمين أقول: بالرغم من ذلك أبشروا بنصرة الله، أبشروا بوعد الله، ووعد الله قائم، ووعد الله صدق، ووعد الله حق، ووعد الله لا يُخلف أبداً: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9].(29/3)
وعد الله بنصرة دينه وغلبته وإظهاره على الدين كله
البشارة الأولى من هذه البشارات: هي وعد الله جل وعلا بنصرة دينه وغلبته وإظهاره على الدين كله، استمع إلى الله جل وعلا وهو يقول في سورة الصف سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] يا لها من بشارة عظيمة {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الصف:8]، وهل يضر السماء نبح الكلاب؟!! سقطت ذبابة حقيرة على نخلة عملاقة، فكادت الذبابة أن تطير، فقالت لهذه النخلة العملاقة: تماسكي أيتها النخلة فإني راحلة عنك، فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، وهل أحسست بك حينما سقطت عليَّ لأستعد لك وأنت راحلة عني؟!! {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] لا تطفئ نور الله جعل وعلا جميع الأفواه ولو اجتمعت {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] ويا لها من شهادة، الله يشهد لدين محمد بأنه الهدى ودين الحق، ويا لها من شهادة، وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف:9] وقد تحقق وعد الله، لا تظنوا أن هذا كلاماً لم يتحقق، تحقق وعد الله مرة في حياة حبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم، أتم الله لهم النعمة، وأكمل الله عليهم الدين، وأظهر الله دينه على كل الأديان، فالدين الإسلامي في ذاته كبير لا يقف أمامه أي دين، وفي واقعه أظهره الله جل وعلا في حياة رسوله وعلى يد الرعيل الأول الذي حمل راية الإسلام خفاقة عالية، وهم يحملون أرواحهم على أسنة السيوف والرماح، ويحرصون على الموت كحرصهم على الحياة، فدانت لهم معظم المعمورة على مدى قرن من الزمان أو يزيد أظهر الله دينه.
ولقد أظهر الله دينه مرة، ووعد الله جل وعلا قائم إن قام المسلمون بمنهج الله جل وعلا، وعد الله مذكور لكل فئة من أهل الإيمان، ترفع راية الإسلام خفاقة عالية، وتطلب النصرة من الله جل وعلا، وعد الله قائم لا يتبدل ولا يتخلف ولا يتغير {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9].(29/4)
الخسار والبوار لأموال الكفار الصادة عن سبيل الله
إليكم البشارة الثانية في سورة الأنفال، وهذه البشارة بالذات لها وقع عجيب على قلوب أهل الإيمان، ولها وقع لذيذ على قلوب أهل الثقة بالله جل وعلا، واستمعوا إلى هذه البشارة الطيبة أيها المسلمون، وأبشروا بها في كل مكان على ظهر هذه الأرض، يقول الله جل علا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
يا لها من بشارة! {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [الأنفال:36] لماذا؟ {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] فدعهم ينفقون الأموال والمليارات والدولارات: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36].
يا لها من بشارة عظيمة! {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:36] إن أعداء هذا الدين لا يتورعون في الليل والنهار على أن يبذلوا كل ما يملكون من محاولات لتنحية هذا الإسلام، فهم على يقين مطلق -يا عباد الله- أن هذا الإسلام هو المارد العملاق، الذي إن هب من مرقده أباد مدنية الشرق الملحدة، وحضارة الغرب الكافرة، هم يقولون ذلك في كتبهم، ويسجلون ذلك، هم الذين قالوا: لا يمكن أبداً أن ننتصر على هذا الإسلام بقوة عدد، أو بقوة عتاد، لا يمكن على الإطلاق أن ننتصر بعد اليوم على المسلمين بقوة السلاح، وبقوة العتاد؛ لأن الاستعمار بالسلاح، والاستعمار بالأبدان والجنود يثير الحماس في قلوب المسلمين، ويثير الحمية في قلوبهم فيثورون على المستعمر، لذا فاطمئنوا جيداً أنه لا يمكن على الإطلاق أن تكون في واقعنا المعاصر صورة من صور الاستعمار المادي، أن تأتي قوة أو دولة وتستعمر دولة أخرى، هذا لا يمكن على الإطلاق، ولكن هناك صور أخرى من الاستعمار أقسى وأمر كأس خمر وغانية يفعلان في تحطيم الأمة المسلمة ما لا يمكن أن يفعله ألف مدفع، وقد فعلوا ذلك تماماً وأكملوا المؤامرة والمخطط، هذا هو تدبيرهم لا يتورعون أبداً من إنفاق ما يملكون من الأموال للصد عن سبيل الله، ولتنحية هذا الإسلام العظيم.
انتبهوا معي أيها المسلمون فكم أُنفق من أموال على تنصير المسلمين، وكم أُنفق من أموال على تدعيم الاقتصاد الربوي اليهودي الكافر، حتى لا تقوم للاقتصاد الإسلامي قائمة، كم أنفق من أموال على أندية الوتاري في جميع أنحاء العالم الإسلامي وغيره، كم أنفق من أموال على أندية الماسونية في جميع أنحاء العالم، كم أنفق من أموال على حرب دامت سنوات طويلة للقضاء على الموحدين الأفغان وعلى المسلمين الأفغان، كم أنفق من أموال لإشاعة الرذيلة وتحطيم الأخلاق بين صفوف المسلمين عن طريق الأفلام الداعرة، والمسلسلات الفاجرة، كم أنفق من أموال؟! ولكن ما الذي حدث؟ إن هذه الأموال التي أُنفقت بالمقارنة إلى ما وصلوا إليه من نتائج أمر يزلزل قلوب أهل الكفر ويشرح صدور أهل الإيمان، لقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] وتتم حسرتهم الكبرى يوم يحشرون إلى جهنم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] يالها والله من بشارة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] لا بد من غلبة الحق، ولا بد من أن يظهره الله جل وعلا، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33].
قالها أحدهم: إن الإسلام سيكون دين أوروبا في القريب أو البعيد، وسوف نرى في خطبة اليوم أن هناك صرخات مدوية، وصرخات وصرخات مرعبة، لا أقول من أبناء المسلمين، وإنما أقول من أبناء الشرق والغرب، هذه الصرخات تنذر بسوء مصير البشرية.
إن أمام هذه الحضارة المادية التي ما تركت شيئاً إلا واخترعته لإبادة هذا الإنسان صرخات تنذر بسوء مصير البشر على ظهر المعمورة، وها نحن نسمع في كل يوم، ما نشرة إلا ونسمع، وما من جريدة إلا ونقرأ مصير مرعب للبشر في كل أنحاء الأرض لما اخترعته هذه الحضارة المادية المرعبة، ومن قرأ كتب هؤلاء العلماء أو المفكرين والأدباء من الشرق والغرب فزع والله، صرخات مرعبة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].(29/5)
استخلاف الله للمؤمنين في الأرض
أما البشارة الثالثة يا عباد الله يا أهل التوحيد ويا أهل الإيمان والإسلام البشارة الثالثة من سورة النور، يقول الله جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] إيمان وعمل صالح، هذا هو الشرط، فما هو جواب هذا الشرط أيها الأحباب؟ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] وعد الله قائم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور:55] فأين أهل الإيمان، وأين أهل العمل الصالح؟ إن وجد أهل الإيمان ووجد أهل العمل الصالح فأبشروا بوعد الله جل وعلا، فما هو هذا الوعد؟ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55] تحقق وعد الله أم لم يتحقق؟ تحقق والله مرة في عهد الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الرعيل الأول الذين حملوا راية الإسلام خفاقة بمنتهى العزة والرفعة، حملوه وانطلقوا في ربوع الأرض بعزة أهل الإيمان، وثقة أهل الإسلام، بأيديهم اليمنى كتاب الله ودين الله جل وعلا، وبالأخرى سيف ورمح، يدعون إلى دين الله عز وجل، وليفرضوا دين الله على وجه كل من أبى، وعلى كل من وقف ليصد الناس عن الدخول في دين الله عز وجل.
انطلق بعزة أهل الإيمان وقالها ربعي لـ رستم: [نحن قوم ابتعثنا الله] لماذا؟ ابتعثنا الله لبناء العمارات، وركوب أفخم السيارات، وأكل ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وقضاء الأوقات أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة، وقضاء الأوقات أمام المباريات وصرخات وقتالات، وحروب على هذا الهراء؟! لا.
[نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة] يوم أن فهموا ذلك وانطلقوا بهذا الفهم دانت لهم أرجاء المعمورة، حتى وصلت حدود الدولة الإسلامية إلى أقصى المشرق والمغرب، وأُذل كسرى وأُهين قيصر، تحقق وعد الله جعل وعلا {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} [النور:55] وسيظل الحال هكذا إن هم عبدوني وحدي ولم يشركوا بي شيئاً.(29/6)
بلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار
أما البشارة الرابعة: فهي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فالآيات التي تتحدث وتبشر بنصرة دين الله كثيرة جداً ولله الحمد والمنة.
أحبتي في الله! أعيروني القلوب والأسماع، واستمعوا إلى هذا الحديث المبارك الذي يدخل الأمل والسرور والطمأنينة إلى قلب كل موحد بالله جل وعلا، الحديث رواه أحمد ورواه الإمام الطبراني وقال الطبراني: رجاله رجال الصحيح، وصححه الحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين، وصححه الألباني على شرط مسلم، من حديث تميم الداري رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر -أي الدين أو الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) أسمعتم بشارة أعظم وأغلى من هذه البشارة؟! (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر -حتى بيوت الشعر والصوف- إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر).
ويؤيد هذا الحديث حديث خباب بن الأرت الذي رواه البخاري، أن خباباً رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد اشتد علينا إيذاء أهل قريش، أو إيذاء أهل مكة، فذهبت إليه وقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمرٌ وجهه وقال: لقد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه فلا يصرفه ذلك عن دين الله، ويؤتى الرجل فيوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق نصفين ما يصرفه ذلك عن دين الله، والله -أو والذي نفسي بيده! - ليتمن الله هذا الأمر -أي هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) وعد الله قائم أيها المسلمون.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وقال صاحب مجمع الزوائد: رجاله ثقات، وصححه الإمام العراقي صاحب تخريج الإحياء من حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً أو عضوضاً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وعد الله قائم (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) إن شاء الله جل وعلا.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقاتل المسلمون اليهود) لا بد وحتماً من ذلك، وعد الله قائم، لا اتفاقيات، ولا معاهدات، ولا بنود، وعد الله قائم، ولن يخلف الله وعده، ولن يخلف الله عهده: (يقاتل المسلمون اليهود فينتصرون عليهم، حتى يقول الحجر والشجر) ينطق الله الحجر والشجر، يا لها من معجزة، ويا لها من كرامة! حتى ينطق الحجر والشجر ويقول الحجر والشجر: (يا مسلم يا عبد الله! تعال إن ورائي يهودي تعال فاقتله) ينطق الحجر وينطق الشجر إلا نوعاً واحداً من الأشجار، ألا وهو شجر الغرقد، وتعجبون أن اليهود الآن يقومون بحملة رهيبة واسعة لزراعة معظم الأراضي من شجر الغرقد؛ لأنهم على يقين بقول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أعلنها صريحة والله وأقول: بأنه لا يمكن للمسلمين على الإطلاق أن ينتصروا في يوم من الأيام على اليهود بسلاح أو بعتاد؛ لأن اليهود أهل عقيدة، ولن يغلبوا إلا بالعقيدة، بعقيدة التوحيد، وعقيدة الإسلام، ينطق الله الحجر والشجر حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! خلفي يهودي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد، والآن حملة رهيبة لزراعة هذا الشجر؛ لأنهم يثقون بقول محمد صلى الله عليه وسلم، ربما لا أكون مبالغاً إذا قلت: بأنهم يثقون بمحمد أكثر من ثقة بعض المسلمين بقول رسول الله.
يا لها من بشائر، والأحاديث في هذا الباب أيضاً كثيرة -أيها الأحباب- فهذه بشائر أخرى.(29/7)
إفلاس جميع الأنظمة البشرية
خامساً: من بين البشائر المختلفة التي تبشر بنصرة دين الله جل وعلا: إفلاس جميع الأنظمة البشرية، وها نحن نسمع الآن الصرخات المدوية التي تعلن بسوء مصير هذه البشرية أمام هذا التقدم المادي الذي ما ترك شيئاً إلا واخترعه لإبادة هؤلاء البشر، صرخات من هنا ومن هناك، تنادي على منقذ، ولا شك أن المنقذ هو الإسلام، لماذا؟ أولاً: لأن الإسلام هو دين الفطرة، وهو دين البشرية جمعاء الذي ارتضاه الله جل وعلا لجميع البشر ديناً.
ثانياً: ما نراه من صحوة إسلامية عارمة في كل جميع أنحاء العالم الإسلامي، وما نراه من عودة صادقة من المسلمين إلى الله جل وعلا، وإلى دين الله عز وجل، وإذا أردت أن تتحقق من ذلك، فبنظرة عابرة على أي مسجد من مساجد المسلمين لترى كتائب الشباب المسلم وقد عمرت بيوت الله جل وعلا، منذ ثلاثين سنة فقط أتحدى أن يقول لي أحد الناس: إنه كان يرى هذه الجموع المؤمنة من كتائب الشباب المسلم في أي بيت من بيوت الله عز وجل، حتى ولو في بيت الله الحرام، أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه بشارة تطمئن وتشرح الصدور، وهذا من فضل الله جل وعلا.
وبدأ المسلمون يعودن إلى دين الله عز وجل، ويعلمون أنهم خدعوا طيلة السنوات الماضية، ربما خدعهم أبناء المسلمين ممن فُرقوا في مدارس الاستعمار، ومدارس أعداء الدين، الذين لقبوا بأنصاف المحررين والمجددين والمطورين، وعادوا إلينا لينفثوا سموم فكرهم وعقيدتهم التي تربوا عليها في مدارس الاستعمار، لقد فَهِم المسلمون ذلك والحمد لله، وذلك بفضل الله جل وعلا، ثم بفضل العلماء المخلصين والدعاة الصادقين، فَهِم المسلمون ما يخطط لهم، وما يراد بهم، وهذا من فضل الله جل وعلا.
وبشارة ثالثة: أننا نرى والحمد لله غير المسلمين يدخلون في الإسلام على الرغم من أن الدعوة التي تبذل لدعوة هؤلاء لا تذكر، ولكنه دين الفطرة، فمعنا الفطرة -أيها الأحباب- معنا رصيد فطرة الإنسان، ومعنا رصيد فطرة الكون، ومعنا دين الحق الذي لأجله قامت السماوات والأرض، وأنزل الله لأجله الكتب، وأرسل الله لأجله الرسل، وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله، ويا لها من معية: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].(29/8)
الإسلام قادم بوعد الله أولاً وبأنصاره ثانياً
فيا عباد الله ويأيها المسلمون! الموضوع طويل جداً، ولكنني أريد أن أضع النقاط على الحروف وأقول: مهما كانت الحروب التي تُكاد للإسلام وتدبر للمسلمين فإن وعد الله قائم، وإن المستقبل لهذا الدين، رغم كيد الكائدين، والإسلام ما دخل معركة إلا وانتصر فيها بإذن الله جل وعلا وهو أعزل من السلاح بالمقارنة إلى ما يوجد عند غيره من سلاح ومن عتاد، الإسلام هو الذي قهر التتار، الإسلام هو الذي كافح الصليبين، الإسلام هو الذي كافح الاستعمار البريطاني في السودان، الإسلام هو الذي كافح الاستعمار البريطاني في مصر، الإسلام هو الذين كافح الاستعمار الفرنسي في الجزائر وهو أعزل من سلاحه، إلا من قوة الحق التي أودعها الله فيه، فمعه الحق، ومعه رصيد فطرة الإنسان، ورصيد فطرة الكون، فمن كان الله معه فمن يكون ضده، ومن يكون عليه؟ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
فوعد الله جل وعلا قائم يا عباد الله، وعد الله لا يخلف {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] ولكن هل يتنزل النصر كما يتنزل المطر من السماء؟ أتظنون ذلك؟ أبداً الأمر يحتاج إلى كفاح، ويحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى رجال، ويحتاج إلى أطهار، ويحتاج إلى أبرار، ويحتاج إلى أهل صدق، ويحتاج إلى أهل رجولة، يحملون الإسلام من جديد، يرتفعون إلى مستوى هذا الدين الذي ما أنزله الله إلا ليقود البشرية جمعاء، نريد رجالاً يرتفعون إلى هذا المستوى العالي، إلى مستوى هذا الدين الذي ما أراده الله إلا ليقود البشرية جمعاء، النصر لا يتنزل كنزول المطر، ولكن النصر يتنزل بأسباب أودعها الله في كونه، فإن أخذنا بهذه الأسباب جاءنا نصر مسبب الأسباب جل وعلا، وإن تخلينا عن هذه الأسباب فلا نصرة لنا ولو كان قائدنا ومعنا في المعركة هو محمد صلى الله عليه وسلم، لو كان قائدنا في المعركة رسول الله وتخلينا عن أسباب النصر والنصرة ما جاءنا النصر من الله جل وعلا، ذلك وعد الله أيضاً وسنن الله الثابتة، وسنن الله القائمة، يوم أن تخلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد واختلت بعض أسباب النصر، كانت النتيجة كما تعلمون جميعاً، فالله جل وعلا أودع الكون أسباباً ونواميساً وقوانيناً لا بد أن نرتفع إلى مستواها، ولا بد أن نأخذ بها حتى يأتينا نصر الله جل وعلا.(29/9)
أسباب نصر الله لهذا الدين وأهله
بعض الناس يشتكون ويقولون: نسمع كلاماً يحمس القلوب، ويزلزل الأفئدة، ولكننا نخرج وما علم كل واحد منا دوره، فما دوري أنا وأنا على ثغرة من ثغرات الإسلام؟ هذا هو المطلوب، انتبه يا عبد الله، انتبه أيها المسلم! يا من شرفك الله بالإسلام، انتبه أيها المسلم في كل مكان، اعلم علم اليقين أنك على ثغرة من ثغرات الإسلام، في متجرك، في مصنعك، في مدرستك، في جامعتك، في عملك، في مسجدك، أنت على ثغرة، لا نريد أن يتحول الناس جميعاً إلى دعاة يدعون لدين الله جل وعلا في المساجد ويتركون المزارع والمتاجر والمصانع، لا نريد ذلك، أنت جندي للإسلام في موقعك، أينما كنت فأنت جندي لدين الله جل وعلا.
وسوف أضع بعض النقاط العملية التي هي من السهولة واليسر على كل مسلم غيور على دين الله أن ينطلق من الآن ومن اليوم لنصرة دين الله جل وعلا، وعلى ألا يؤتى الإسلام من قبله، حتى لا يكون خائناً للأمانة التي أمَّنه الله عز وجل عليها.(29/10)
العودة إلى هذا الدين والكفر بقوانين البشر وأنظمتهم
أولاً: يجب على المسلمين وفوراً -وأنت واحد منهم- أن يعودوا إلى الإسلام، وأن يكفروا -وأنت واحد منهم- بجميع قوانين البشر، من ديمقراطية وعلمانية وشيوعية وبعثية إلى آخر هذه القوانين الكافرة التي نحت شرع الله عز وجل، وأعلت شرع البشر على شرع الله جل وعلا، يجب على جميع المسلمين -وأنت واحد منهم- ألا تذعن لهذا القانون على قدر ما استطعت {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
والله أعجب لهذه العبارة التي قالها يوماً جمال الدين الأفغاني للهنود يوم أن احتلهم الإنجليز: لو أن ملايينكم طنت في آذان الإنجليز لخرقتم آذانهم، فهل صرخ كل مسلم في وجه حاكمه الذي رفض شرع الله وحكم فيه شرع البشر، هل صرخ كل مسلم في وجهه وقال: لا، إلا لشرع الله جل وعلا.
ولكننا نسمع لا أقول المسلمين، بل العلماء يقولون: نعم للرجل الذي يحكم فينا شرع الله، أي شرع يا عباد الله؟ شرع الله جل وعلا، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هل صرخت أيها المسلم في وجه حاكمك بقدر ما تملك، وبقدر ما تستطيع، لو صرخ الجميع فوصل الصوت صوتاً واحداً والله لطبق فينا شرع الله جل وعلا، ولكنه الجبن، فأنت مسئول بقدر ما تملك وبقدر ما تستطيع في موقع مسئوليتك وفي موقع عملك أن تربي الناس، وأن تربي نفسك، وأن تربي أولادك، وأن تربي بيتك على أن الذي يحكمنا قانون كافر، على أن الذي يحكمنا قانون من وضع البشر، وغاب عنا قانون الله جل وعلا وشرعه، ولا يمكن أبداً أن تكون لنا عزة وريادة وسيادة وكرامة إلا إذا كفرنا بقوانين البشر، وحكمنا فينا قوانين رب البشر جل وعلا؛ لأن بعض الناس يقولون: إذا أردنا مدنية وحضارة فلا بد أن ننحي شرع الله ونعلي شرع العبيد؛ لأنه أثبت أنه أجدى من شرع العزيز الحميد.(29/11)
إعداد الكوادر المسلمة في كل موقع ومكان
ثانياً: إعداد الكوادر المسلمة في كل مكان، وفي كل موقع، أقول: لا نريد كل المسلمين دعاة في المساجد، بل أنت من الآن في متجرك، في مصنعك، في جامعتك، في مدرستك، في كل مكان مسئول، فهيا فكر من الآن واجتهد وقل: كيف أنفع الإسلام وأخطط للإسلام وأنا في هذا الموقع؟ أضرب لحضراتكم مثالاً: الاقتصاد، رجال الاقتصاد لماذا لا يجلسون من الآن ويخططون ويدبرون ويضعون المنهج للقضاء على الاقتصاد الربوي، أو على الأقل لرفعة الاقتصاد الإسلامي، لماذا لا تفكر أيها الاقتصادي في ذلك، أيها الدكتور في الجامعة، يا من درست الاقتصاد، ويا من درست التجارة، أنت داعية إلى الله، أنت جندي من جنود الله، لماذا لا تشغل بالك، لماذا لا تنام الليل وأنت تحمل هم هذا الدين تفكر كيف أستغل دراستي لنصرة دين الله عز وجل.
أيها العامل في موقعك! لماذا لا تفكر في هم الدين وتقول: كيف أبتكر وأنا واقف على آلة، كيف أطور هذه الآلة لنصرة دين الله عز وجل؟ أيها المدرس! لماذا لا تفكر: كيف أنتشل عقول هؤلاء الأطفال، أو عقول هؤلاء الطلبة من الباطل إلى الحق لنصرة دين الله عز وجل؟ إعداد الكوادر في كل مكان، وفي كل اتجاه، نريد المهندس المسلم، والطبيب المسلم، والاقتصادي المسلم، والدبلوماسي المسلم، والوزير المسلم، والحاكم المسلم، نريد حاكماً كـ عمر بن الخطاب، أو كـ عمر بن عبد العزيز، ونريد قائداً كـ خالد بن الوليد، ونريد قاضياً كـ شريح القاضي، ونريد دبلوماسياً يعبر عن الإسلام كـ جعفر بن أبي طالب، يوم أن وقف أمام النجاشي يتحدث عن الإسلام، نريد الكوادر المسلمة في كل مكان، وإلا لو طُبق الإسلام الآن في بلد من بلاد المسلمين ولا توجد مثل هذه الكوادر أتظنون أنه سيأتي الخير؟ لا والله، والله ما يكون في ذلك خير أبداً؛ لأنها ستكون كارثة، ستكون صدمة، سيحكم على الإسلام من خلال هذه الكوادر الفاشلة، فنريد إعداد الكوادر المسلمة من الآن، فكر واجتهد.(29/12)
استثمار أموال المسلمين في بلادهم
ثالثاً: على جميع رجال المال في العالم الإسلامي -وهم كثرة ولله الحمد والمنة- أن يتقوا الله في دين الله، وأن يتقوا الله في الأموال التي وهبهم الله جل وعلا، بدلاً من أن يستثمروها في بلاد الكفر، يستثمروها في بلاد المسلمين، وها نحن نرى مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزارعة في السودان ومصر وغيرها، ونريد أموالاً طائلة، فينبغي أن تستثمر هذه الأرض؛ لاكتفاء المسلمين ذاتياً من الطعام والشراب، وينبغي أن تستغل هذه الأموال؛ لأن أموال المسلمين في خارج بلاد المسلمين يتحكم فيها هؤلاء لتسيير دفة العالم الاقتصادي كله، ومن بينهم أهل هذا المال وأصحابه، فلماذا لا تكون لنا القيادة، ولماذا لا تكون لنا الريادة؟ أنتم أصحاب الأموال التي تسير هذه البنوك، هي أموالكم يا مسلمون ويا عباد الله، لماذا لا ننتبه، لماذا لا نسترد هذه الأموال ونستغلها لصالح الإسلام، ولصالح المسلمين؟ وهبنا الله المال، ووهبنا الله الأرض، ووهبنا الذهب الأسود، ووهبنا الله الغنى، ووهبنا الله مساحة يحسدنا العالم كله عليها، ووهبنا الله موقعاً فريداً يحسدنا العالم كله عليه، لماذا لا نتقي الله جل وعلا في مقدراتنا التي وهبها الله جل وعلا إلينا، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين.(29/13)
تربية الأمة على العقيدة الصحيحة
رابعاً: علينا أن نبدأ من الآن ونحن مسئولون عن ذلك، أيها المسلم في كل مكان أنت مسئول عن دين الله جل وعلا، هيا فلنبدأ من الآن بخطوة البدء التي بدأ بها محمد صلى الله عليه وسلم، خطوة البدء هذه أن نتربى على العقيدة الصحيحة، وأن نحول لا إله إلا الله إلى منهج حياة، إلى واقع عملي في حياة الأمة، أنت لا تملك النتائج، خذ بالأسباب، والنتائج موكولة إلى مسبب الأسباب جل وعلا، لن يسألنا الله: لماذا لم تنتصروا؟ ولكنه سيسألنا: لماذا لم تعملوا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين، اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين، اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد يارب العالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكن ولكم فاستغفروه.(29/14)
مسئولية الإسلام مسئولية الجميع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذه مسئوليتكم أيها المسلمون، وهذا هو دور كل واحد منكم، ولا ينبغي أن يدعي واحد منا أنه لا دور له ولا مسئولية يتحملها، بل كل منا مسئول أمام الله عز وجل، فاتق الله على قدر استطاعتك: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، والله جل وعلا سيجعل في هذا الجهد ولو كان ضئيلاً الخير بإذن الله عز وجل، ووعد الله قائم ينتظر العصبة المؤمنة التي تقوم وتعلو لمستوى هذا الدين الذي ما أنزله الله جل وعلا إلا ليقود.
وأكتفي بهذا القدر خارج موضوعنا الذي كنا نتحدث فيه وهو تفسيرنا لسورة مريم، وأعدكم أن نعود من الأسبوع المقبل إن قدر الله لنا اللقاء والبقاء؛ لتفسير آيات سورة مريم.
أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب، ولنضرع إلى الله جل وعلا بقلوب صادقة، وبقلوب خالصة، وبدعوات مخلصة أن يوفق الله جل وعلا الإسلام والمسلمين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم عجِّل بالقائد الرباني يا رب العالمين، اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم أطفئ نار هذه الحرب والفتنة يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلها بداية خير للإسلام والمسلمين.
اللهم ارحم البلاد والعباد، اللهم ارحم البلاد والعباد، الله ارحم البلاد والعباد، اللهم ارحم البلاد والعباد، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا يسرتها وقضيتها يا رب العالمين.
أحبتي في الله! هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله وملائكته يصلون عليه، فأمركم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويقذف به في النار، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(29/15)
مداخل الشيطان
خلق الله آدم عليه السلام وأمر الملائكة أن تسجد له، وحينها حسده إبليس على تلك المكانة؛ فأبى أن يسجد، فطرده الله من رحمته، فأبى إلا أن يدخل النار معه أكبر قدر ممكن من بني آدم، وذلك بدعوتهم إلى سبيله، وقد اتبع الشيطان في سبيل ذلك طرقاً شتى لا تخطر بعقل بني آدم، وجعل لذلك مداخل يدخل منها لينال مأربه منهم.
ولقد قيض الله للأمة من يبين لها هذه المداخل، وطرق تجنبها، كما جعل الله لعباده الصالحين حروزاً وتعاويذ يلوذون ويعوذون بها من الشيطان ومداخله.(30/1)
طواغيت عُبدوا من دون الله
الحمد لله الذي لم يكن له شريكٌ في الملك وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا ومعلمنا وقدوتنا وقرة أعيننا محمد رسول الله، اللهم صلِّ وسلم، وبارك عليك يا سيدي يا رسول الله، صلاةً وسلاماً يليقان بمقامك يا أمير الأنبياء وسيد المرسلين، وأشهد لك يا سيدي ويشهد معي الموحدون أنك قد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة، وكشف الله بك الغمة، وعبدت ربك حتى لبيت داعيه، وجاهدت في سبيل ربك حتى أجبت مناديه، وعشت طوال أيامك ولياليك تمشي على شوك الأسى وتخطو على جمر الكيد والعنت، تلتمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علمت الجاهل يا سيدي! وقومت المعوج! وأمنت الخائف! وطمأنت القلق! ونشرت أضواء الحق والخير والإيمان والتوحيد، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فصلى الله وسلم وبارك عليك يا رسول الله، وجزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن قومه.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! تعالوا بنا لنواصل مسيرتنا المباركة في شرحنا لآيات من كتاب ربنا جل وعلا، ومع اللقاء السادس والثلاثين على التوالي ومازلنا بفضل الله وحوله وطوله ومدده نطوف مع حضراتكم في بستان سورة مريم، وانتهينا في اللقاء الماضي من تفسير قول الحق جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81 - 82] وقلنا في اللقاء الماضي: بأنها صورة من صور الشرك المتكررة وآلهة من آلهة العصر المتغيرة؛ لأن الطاغوت: هو كل شيء عبد في الأرض من دون الله جل وعلا، وللطاغوت في كل عصر لغة وصورة وأسلوب ولسان، إنها صورة من صور الشرك المتعددة والمتغيرة التي تتطور وتتغير بتغير الزمان والمكان، فقلنا: بأنه ربما تكون صورة الطاغوت والإله التي تعبد في الأرض من دون الله جل وعلا متمثلة في فرد من الأفراد، تصاغ له الأمجاد، وتهتف له الدنيا، وتصفق له الجماهير المخدوعة، كأديب من أدباء أولاد الحارات والبارات، أو كواحد من مدمني المخدرات من الممثلين والممثلات، أو المطربين والمطربات، أو الراقصين والراقصات، الأحياء منهم والأموات.
ربما تكون صورة الطاغوت الذي عبده الناس في الأرض من دون الله جل وعلا متمثلةً في صورة من هذه الصور، ولا تظنوا أن العبادة تقتصر على الركوع والسجود كما يفهمها كثير من الناس، ولكن العبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي كمال الحب مع كمال الذل.
وإن هؤلاء الذين ضربت لهم المثل يقدم لهم كثير من الناس من الولاء والحب والذل وفروض الطاعة ما لم يقدموا نصفه لله جل وعلا.
وربما تتمثل صورة الطاغوت الذي عبده الناس في الأرض من دون الله جل وعلا في المال، الذي عبده كثير من الناس وظنوه إلهاً قادراً يقول للشيء: كن؛ فيكون، فقدم كثير من الناس للمال كل ما يملكون من وقت وجهد وقوةٍ حتى وإن كان ذلك على حساب دينهم وقربهم من ربهم جل وعلا.
وربما تكون صورة الطاغوت متمثلةً في قبر من القبور أو ضريح من الأضرحة يذهب الناس ويهرعون إليه، ويقولون بلسان الحال والمقال: (إذا ما تعثرت الأمور فعليكم بأصحاب القبور).
فيذهب الناس إلى هذه القبور ويطلبون من أصحابها ما لا ينبغي أن يطلب إلا من العزيز الغفور.
وهكذا تتعدد صور الشرك والطواغيت التي عبدت في عصرنا من دون الله جل وعلا، بتعدد الأزمان، وتطور الأشكال، واختلاف عقول الناس وفكرهم: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:81 - 82].(30/2)
لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص
أيها الأحبة الكرام: جدير بهؤلاء الذين اتخذوا آلهةً من دون الله جل وعلا يطلب عندها العزة والرفعة والنصرة والغلبة والتأييد والتمكين، جديرٌ بهؤلاء أن يكونوا أولياءً وإخواناً للشياطين، وأن يكونوا أتباعاً وأولياءً للشياطين، وذلك هو ما أخبرنا به رب العالمين في الآيات التي نحن بصدد تفسيرها في هذا اللقاء المبارك، فيخبرنا ربنا جل وعلا عن هؤلاء ويقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84].
أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في وقتنا حتى أنتهي من شرح هاتين الآيتين الموجزتين: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84] والخطاب هنا لحبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول له ربنا: يا محمد! {َألَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] أي: تغريهم الشياطين إغراءً، وتزعجهم إزعاجاً، وتغويهم إغواءً إلى المعاصي والشهوات والشبهات.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] والأز في اللغة: هو التحريك والتهييج، ولذا يقال لغليان الماء في القدر: أزيز، كما ورد في الحديث الذي أخرجه النسائي والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) فالأز: هو التحريك والتهييج؛ لأن الماء يتحرك في القدر عند الغليان، أي: إن الشياطين تأز أهل الشرك والضلال على المعاصي أزاً، وتهيجهم إلى المعاصي تهييجاً، وتحركهم إلى المعاصي تحريكاً، كما تحرك النار الماء في القدر أثناء غليانه وفورانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّا * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:83 - 84].
هكذا -أيها الأحباب- لا سلطان للشياطين إلا على هؤلاء الذين عبدوا مع الله آلهة أخرى؛ لأنه لا سلطان للشياطين على أهل التوحيد والإخلاص، ليس معنى ذلك: أن الشياطين لا يغوون أهل الإيمان ولا يوسوسون لأهل التوحيد والإخلاص، لا.
ليس هذا هو المقصود، وإنما سلطان الإغواء والإغراء والإضلال للشيطان على أوليائه وأتباعه وأحبابه وأشياعه كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا فقال الله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100] أي: وهم بالله جل وعلا مشركون، فليس معنى ما قلت: إنه لا سلطان أو أن الشيطان لا يوسوس لأهل الإيمان والتوحيد، كلا، بل إن الشيطان في صراع معكم يا أهل التوحيد والإيمان! وأهل التوحيد في صراع مع الشيطان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو الذي توعد أهل الإيمان عليه لعنة الله فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] إنه وعيد من الشيطان لنا: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].
إن الشيطان لا يقعد على طريق الخمارات والبارات؛ لأن هؤلاء الذين يذهبون إلى هناك إنما هم أتباعه وأشياعه وجنده، إن الشيطان لا يقعد إلا على طريق الحق والإيمان والمساجد والإسلام والإيمان: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] لا يترك الشيطان طريقاً ولا سبيلاً يقرب العبد من مولاه إلا وقعد هناك كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث صبرة بن أبي الفاكه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها -أي: إن الشيطان قعد لابن آدم في جميع السبل والطرق- قعد الشيطان له على طريق الإسلام، فقال له: أتسلم وتذر دين آبائك وأجدادك؟ فعصاه ابن آدم فأسلم، فقعد له على طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟! فعصاه ابن آدم فهاجر، فقعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد في سبيل الله بنفسك ومالك فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟! فعصاه ابن آدم فجاهد، فقال صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) فمن عصى الشيطان فأسلم فهاجر فجاهد ثم ختم الله له بالشهادة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة.
هكذا -أيها الأحباب- ما ترك الشيطان طريقاً أو سبيلاً إلا وقعد عليه لابن آدم ليصده عن سبيل الله وليبعده عن طاعة الله جل وعلا، وكما يقول أستاذنا الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: إن الإنسان لا يسلك من السبل إلا أربع اتجاهات: إما أن يمشي الإنسان عن يمينه، وإما أن يمشي عن شماله، وإما أن يمشي الإنسان بين يديه، أو من خلفه -عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن بين الأيدي ومن الخلف، هذه اتجاهات أربع لا يمشي الإنسان إلا فيها- يقول الإمام: هذه هي السبل التي يسلكها الإنسان، فإن سلك الإنسان سبيلاً من هذه السبل وكانت نيته طاعة الله جل وعلا وجد الشيطان هناك بالمرصاد ليصده عن طاعة الله تبارك وتعالى ليقطع الشيطان عليه الطريق، أما إن سلكها لمعصية الله جل وعلا وجد الشيطان هناك خادماًَ له وحاملاً ومعيناً له على معصية الله تبارك وتعالى، ثم قال الإمام ابن القيم: حتى لو نزل الإنسان إلى أسفل لوجد الشيطان هناك معيناً له على معصية الله وحائلاً بينه وبين طاعة الله جل وعلا، ما ترك الشيطان طريقاً ولا اتجاهاً إلا وهو لأهل الإيمان بالمرصاد، يصدهم عن طاعة الله جل وعلا ويغريهم بمعصية الله تبارك وتعالى.
أو كما قال سيدنا قتادة عليه رحمة الله قال: يا ابن آدم! ما ترك الشيطان اتجاهاً إلا وقف لك فيه بالمرصاد، إلا اتجاهاً واحداً لم يستطع الشيطان أن يأتيك من خلال هذا الاتجاه، أتدرون ما هو؟ لم يترك الشيطان للإنسان طريقا ولا اتجاهاً إلا وأتى الإنسان منه إلا من فوقه، فإنه لم يستطع أن يحول بينه وبين رحمة الله عز وجل، جاءك الشيطان عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك، حتى لو نزلت وادياً أو هبطت مكاناً جاءك الشيطان هناك، إلا من فوقك لم يستطع الشيطان أن يأتيك؛ لأنه لم يفلح أن يحول بينك وبين رحمة الله عز وجل.
هكذا -أيها الأحباب- لم يترك الشيطان سبيلاً ولا طريقاً إلا وقعد فيه لأهل الإيمان والتوحيد، ولكن أهل الإيمان متمسكون ومتحصنون بحصن التوحيد، ومتمسكون بسنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، فعصمهم الله من شره ونجاهم الله من كيده وحفظهم الله من إغوائه ووساوسه وإغرائه.
وجاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلةً وكانت ليلتها، فدبت الغيرة في صدر عائشة، فعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ليسألها عن سبب غيرتها، فقالت له: ومالي لا يغار مثلي على مثلك يا رسول الله؟! فقال لها صلى الله عليه وسلم: أوَقد جاءك شيطانك يا عائشة؟ فقالت: أوَ معي شيطان يا رسول الله؟ قال لها: نعم، ومع كل إنسان شيطان، فقالت: حتى معك يا رسول الله؟ قال: حتى معي يا عائشة! إلا أن ربي عز وجل أعانني عليه فأسلم) وفي رواية للإمام مسلم أيضاً: (إلا أن ربي عز وجل أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير)، أما الرواية التي رواها البخاري ومسلم من حديث صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيت إلى المسجد لأزور رسول الله ليلاً، فحدثت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمت لأذهب إلى داري قالت: فقام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقلبني -أي: ليوصلني إلى الدار- فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله أسرعا فنادى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: على رسلكما -انتظرا- إنها صفية زوجي فقالا: سبحان الله يا رسول الله!! -أي: هل سنشك فيك يا رسول الله! - فقال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، فخشيت أن يقذف في قلبيكما شراً).
ومن أجمل التعليقات على هذا الحديث ما علق به الإمام الشافعي عليه رحمة الله حيث قال: ما قال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك خوفاً على نفسه، كلا والله، ولكن الرسول ما قال لهم ذلك إلا من خوف الرسول عليهما؛ لأنه لو تسرب الشك إلى قلبيها لكفرا بالله عز وجل، من أجل ذلك نادى عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (على رسلكما إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق فخشيت أن يقذف في قلبيكما شيئاً).
هكذا مع كل إنسان شيطان ويجري منك مجرى الدم؛ إذاً لا بد أن ننتبه إلى هذا العدو اللدود الذي حذرنا الله جل وعلا منه وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتبهوا معي إلى هذا العنصر الثاني من عناصر موضوعنا وهو من أخطر عناصر الموضوع، فإن للشيطان مدا(30/3)
مداخل الشيطان(30/4)
من مداخل الشيطان: الشرك بالله
اعلموا أن للشيطان مداخل خطيرة، وأول مدخل منها: هو مدخل الشرك بالله -والعياذ بالله- أول باب، بل إن غاية أماني الشيطان أن يجعل العبد يشرك بالرحيم الرحمن تبارك وتعالى، وإذا ما أشرك العبد بالله تبرأ الشيطان منه كما أخبر بذلك ربنا جل وعلا فقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
وانتبهوا معي جيداً أيها الموحدون، لقد ذكر الإمام ابن جرير وابن كثير والبغوي وابن الجوزي وابن القيم في تفسير هذه الآية من سورة الحشر قصةً رهيبة، إنها قصة عابد من عباد بني إسرائيل يقال له: برصيصا، هذا العابد كان من أعبد عباد زمانه، وكان هناك في بلدته ثلاثة من الإخوة، وكانت لهم أخت وكانت بكراً، فلما خرج عليهم الغزو وخرجوا للقتال، قالوا: لا نأمن أن نضع أو نترك أختنا إلا عند عابد بني إسرائيل، وذهبوا بأختهم إلى هذا العابد الذي يسمى برصيصا، وألحوا عليه أنه تظل أختهم معه فرفض وأبى في بادئ الأمر -هكذا إنها مداخل الشيطان- فظلوا عليه بإلحاحهم حتى قبل هذا العابد ذلك، وقال: ولكن لا تجعلوها معي، اجعلوا لها خلوةً إلى جوار خلوتي وصومعةً إلى جوار صومعتي، فصنعوا لها ما أراد العابد، وانصرفوا إلى حال سبيلهم، وجاء الشيطان إلى هذا العابد ليلعب معه لعبته القذرة.
انتبهوا جيداً يا شباب الإسلام! انتبهوا إلى مداخل الشيطان يقول لك: حفاظاً على الدعوة وحفاظاً على الإسلام احلق لحيتك، فإنك لو حلقتها استطعت أن تتحرك بين الناس بدعوتك وما وقف أمامك أحد وما عارضك أحد، يذهب إلى المرأة ويقول لها: لا تلبسي الحجاب حتى تتزوجين، وتساعدها الأم على ذلك، وهكذا يذهب إلى صاحب الكرسي والمنصب ويقول له: اعلم أنك بعد قليل راحل سوف تترك هذا الكرسي، وسوف تترك هذا المنصب فهيا اسرق سرقةً وانهب نهباً وانهش نهشاً حتى تستطيع أن تعيش بعد ذلك وهكذا، انتبهوا إلى مداخل إبليس.
ذهب إليه الشيطان يمنيه في الأجر ويعظم له الثواب ويقول له: ما ضرك لو أنك قدمت إليها الطعام إلى باب صومعتها وانتظرها حتى تخرج؛ لأنه ربما مر سبع أو غير ذلك فأكل الطعام.
فقال: لا شيء في ذلك، فأخذ الطعام هذا العابد ووقف على باب صومعتها مرةً لم ينظر وأخرى كذلك وثالثة أيضاً ورابعة نظر إليها.
فذهب إليه الشيطان بعد ذلك وقال: ما ضرك لو أنك قدمت الطعام إلى داخل صومعتها أتخشى على نفسك وأنت التقي العابد الورع؟! فأخذ العابد الطعام وذهب إليها في صومعتها.
وذلك يستمر فترات طويلة جداً لا أقول: إنه يحتاج معه أو يتطلب ذلك من الشيطان وقت قصير، إن الشيطان يصبر على فريسته خاصة وإن كانت قوية الإيمان، فدخل العابد معها إلى صومعتها وخرج.
فقال له بعد ذلك: ما ضرك لو أنك جلست معها فإنها مكثت فترة طويلة لا تسمع ولا تكلم أحداً، فهيا اجلس معها كلمها في الدين والقرآن والحديث لا تكلمها في أمر من أمور الدنيا، ما ضرك في ذلك؟! فجلس معها وكلمها، وبعد ذلك ذهب إليه الشيطان وقال: ما ضرك لو أكلتما معاً، فأكل معها فمست يده يدها، بعد ذلك جاءه الشيطان فأوقعها في قلبه وزينها له، فقبلها -إنها المداخل والسبل والطرق زينها له فقبلها- ثم بعد ذلك والكل يعلم ما بعد ذلك، زنا بها -والعياذ بالله- فظهر الحمل ووضعت ولدها من الزنا، فجاءه الشيطان بعد ذلك وقال: لقد افتضح أمرك، أتترك ولدك من الزنا، فما الذي ستقوله لإخوتها حينما يحضرون، فقال: ماذا أصنع؟ قال: اقتل ولدها حالاً، فقتل ولدها، وبعد فترةٍ ذهب إليه وقال: أتظن أنها لن تخبر عنك ولن تحدث بما صنعت بها وبولدها، قال: إذاً ماذا أصنع؟ قال: اقتلها، فقتلها -زنا بها وقتل ولدها وقتلها- وعاد إخوتها، فترك الشيطان العابد وذهب إلى إخوتها وقال لهم: اعلموا أن العابد زنا بأختكم وقتل ولدها وقتلها، فذهب الثلاثة إلى هذا العابد وقالوا: افتح لنا قبرها فوجدوا أختهم قد قتلت وقد زني بها وذبحت، وهذا ولدها إلى جوارها، فجروه على وجهه وصلبوه على خشبة، وترك الشيطان الإخوة وذهب إلى برصيصا مرةً أخرى قال له: يا هذا ألا تعلم من أنا؟ أنا الشيطان، أنا الذي أوقعت الفتنة في قلبك، وجعلتك تزني بها، ثم جعلتك تقتل ولدها، ثم تقتلها، وأنا الذي أستطيع أن أخلصك مما أنت فيه، قال: خلصني، قال: لا.
إلا بشروط، قال: ما هي شروطك؟ أن تكفر بربك وتسجد لي من دون الله، فقال له العابد الغبي: لو سجدت لك وكفرت بربي -جل وعلا- تخلصني مما أنا فيه؟ قال: نعم أخلصك -يمنيه ويوعده- فكفر العابد بربه وسجد للشيطان، فنظر إليه الشيطان وهو يولي هارباً وينادي ويقول: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
هكذا أيها الأحباب! إنها مداخل الشيطان ومصائبه يزين إليك المعصية على أنها طاعة، يزين إليك الشبهات والشهوات فيجعلك تقول في الدين بالهوى كما سنرى بعد ذلك، يزين إليك الشبهة على أنها حق واضح وضوح الشمس في ضحاها، إن أول باب يدخل الشيطان إلى العبد منه باب الشرك بالله -والعياذ بالله- فإذا عجز الشيطان عن أن يغوي العبد ويضله عن الطريق، دخل إليه من المدخل الثاني وهو مدخل البدعة.(30/5)
من مداخل الشيطان: البدعة
يا إلهي! إن الباب الذي يلي باب الشرك بالله باب البدع، فلا تستهينوا بأمر البدع، فإن البدع أحب إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي، إن البدعة خطرها عظيم، وضررها جسيم.
فيا أصحاب البدع! يا من تحبون البدع! يا أصحاب الخطط الخمسية والسنوية والشهرية! يا من تخططون لأمور الدنيا ولا تبحثون عن أمر الدين! يا من تبحثون عن أعمالكم إذا ما كانت منتسبة أو متصلة بالدين! ابحثوا عنها، هل أنتم متبعون فيها لشرع النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنتم موافقون لهوى الشيطان وشرعه؟ إن البدع أحب إلى الشيطان من الفسوق والمعاصي، لماذا؟ لأن المبتدع مكذب بالقرآن، والبدعة: هي كل شيء مستحدث في الدين، حتى لا يقول البعض متهشماً وساخراً من إخواني الذين كلمونا عن السنن والبدع، قالوا: إذا كان الأمر كذلك فمنبر الرسول لم يكن فيه مروحة، هكذا سخر بعض الناس واستهزأ بعض المسلمين بالسنن، وظنوا أن أمرها هين، أقول: أن البدعة أمر مستحدث في الدين، لم يقل الرسول لنا: لا تركبوا الطائرات ولا السيارات، كلا، وإنما قال الله جل وعلا: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] قال العلماء: إنه سلطان العلم، لا معنى لمن قال: بأن معنى البدعة هو: أن نقف لا نخترع ولا نبتكر، ليس هذا هو المقصود، وليست هذه هي البدعة، إنما البدعة أمرٌ مستحدث في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات إلا بعد أن بين لنا هذا الدين ووضحه لنا، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فإن البدعة أمر مستحدث في الدين لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم.
إذاً: فالمبتدع الذي يأتي بجديد من عند نفسه أو من عند شياطين إنسه وجنه نقول: قال الله قال رسول الله، فيرد علينا أهل البدع ويقولون: قال فلان عالم الأزهر، إنا لله وإنا إليه راجعون! أقول: قال الله قال رسول الله وأنت تقول: قال فلان عالم الأزهر، والله الذي لا إله غيره، لا قول بعد قول الله ولا قول بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما طالت عمامته، والله ولو كانت عمامته بحجم صحن هذا المسجد لا قول له بعد قول الله ولا فتوى له مع فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحمة الله على الإمام ابن القيم حيث قال:
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال الصحابة والألى تبع لهم في القول والأعمال
أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي
صدوا عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال
يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال
حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال
يا أصحاب البدع! يا من تغنون وترقصون للبدع! يا من تبكون وتندبون! يا من تصرخون! يا من تفزعون! اعلموا علم اليقين أن الله جل وعلا لا يقبل التوبة من صاحب بدعةٍ حتى يترك بدعته ويدعها، إن البدعة أحبُ إلى الشيطان من المعصية، وإنها الباب الذي يلي باب الشرك بالله والعياذ بالله! فيا من تهونون البدع! اتقوا الله جل وعلا.
يا من تشنون الحروب والفتن وتعلنون العداوات على أهل وأصحاب السنن! إني أعجب لحالكم أنتم أهل الباطل تصرون على باطلكم! لماذا هذا الإصرار على البدع؟! لم هذا الإصرار على الباطل؟! يا صاحب البدعة اعلم أنك متهم لرسول الله بالنقص! يا صاحب البدعة اعلم أنك مكذب بقول الله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3]! يا صاحب البدعة أنت متهم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لا تظنوا أننا أحرص على الدين من رسول الله، لا تظنوا أننا أحب للدين من صحابة رسول الله، كلا والله وألف كلا، فما لم يكن ديناً على عهد الرسول والصحابة فلن يكون ديناً في هذا الزمان، وفي هذه الأيام التي تجرأنا وتبجحنا فيها على شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاعلموا علم اليقين وأُشهد الله جل وعلا أني قد بلغت، اللهم فاشهد يا رب العالمين! أُشهد الله جل وعلا أني قد حذرت من البدع، وإن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، بل إنها الباب الذي يلي باب الشرك بالله، إذا عجز الشيطان عن أن يشرك العبد بالله دخل إليه من الباب التالي مباشرةً إنه باب البدع.(30/6)
من مداخل الشيطان: الكبائر والصغائر
إن وجد الشيطان العبد متمسكاً بالسنة ومغالياً لأهل البدع والزيغ والضلال دخل إليه من الباب الثالث وهو باب الكبائر والعياذ بالله! فإن عجز الشيطان عن العبد أن يوقعه في كبيرة من الكبائر دخل إليه من الباب الذي وقع فيه كثير منا -وأسأل الله أن يحفظنا- باب صغائر الذنوب، يقول له: هذه ليست مهمة, هذه صغيرة، وهكذا، ماذا تعني اللحية! ماذا يعني كذا، ماذا يعني كذا، يبدأ الشيطان يدخل على القلب فيضيع العبد السنن أو يستهين العبد بصغائر الذنوب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتمعت صغائر الذنوب على العبد أهلكته) من أراد منكم أن يشعل ناراً هل يأتي بكوم رهيب من الحطب في المرة الأولى؟ كلا، وإنما يأتي بحزمة إلى جوار حزمة إلى جوار حزمة حتى يجتمع عنده كوم رهيب من الحطب، كذلك صغائر الذنوب ذنب صغير فذنب صغير، استهانة بالسنة، ثم استهانة بالنوافل، استهانة بصغائر الذنوب، حتى يجتمع كل ذلك على القلب فيتكون على القلب الران، فتحجبه عن رحمة الواحد الديان: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14 - 15].
فإذا عجز الشيطان عن ذلك، زين له بعد ذلك ترك النوافل وفضائل الأعمال.
هكذا الشيطان معك في كل طريق واقف لك بالمرصاد إذا ما كان طريقك في طاعةٍ، صدك عن هذه الطاعة وزين لك المعصية.(30/7)
كيفية التحرز من الشيطان
أيها الأحباب! لقد حذرنا الله من الشيطان وطمأننا بأن كيد هذا الشيطان كان ضعيفاً على من تمسكوا بتوحيدهم لله، وتحصنوا بحصن التوحيد، وبسنة محرر العبيد صلى الله عليه وسلم، فمن لجأ إلى الله كان حقاً على الله أن يحفظه من الشيطان وشره، ومن تمسك بسنة رسول الله كان حقاً على الله أن يحفظه من الشيطان وشركه، من أجل ذلك -على سبيل المثال لا على وجه الإجمال- علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف نحترز من هذا العدو اللدود، فانتبهوا معي إلى هذه الحروز بإيجاز شديد: علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نحترز بالآتي، وأقول: على سبيل المثال لا على وجه الإجمال ما ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الشيطان قال لربنا: (وعزتك وجلالك لأضلنهم ما دامت أرواحهم في أبدانهم، فقال له ربنا: وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ماداموا يستغفرونني).
الحرز الأول: الاستغفار.
الحرز الثاني: الاستعاذة، لقول الله جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200].
الحرز الثالث: المعوذات وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والفلق والناس، فما تعوذ بأفضل من ذلك أحد، كما ورد في صحيح مسلم والحديث مروي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.
الحرز الرابع: قراءة آية الكرسي لقوله صلى الله عليه وسلم: (فما قرأ إنسان آية الكرسي إلا وما زال عليه حافظ ولا يقربنه شيطان حتى يصبح) والحديث في البخاري مروي عن أبي هريرة.
الحرز الخامس: ذكر الله، فما تحصن عبدٌ بحصن أقوى من تحصنه بذكر مولاه جل وعلا، فاذكروا الله تعالى أيها الأحباب، إذا ما أحسستم أن الشيطان يريد أن يلتهم قلوبكم، فاذكروا الله تبارك وتعالى لقول الله جل وعلا: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الإسراء:45] ولقوله جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] ولقوله جل وعلا: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:98 - 100].
الحرز السادس: قراءة أواخر سورة البقرة: (من قرأ الآيتين الأخريين من سورة البقرة كفتاه من ليلته) أي: كفتاه من كل شر وإثم.
الحرز السابع: الحرص على الوضوء، فإن الوضوء سلاح المؤمن.
الحرز الثامن: كثرة الصلاة.
الحرز التاسع: كثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أقول على سبيل المثال لا على وجه الإجمال: هكذا أيها الأحباب! {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لمن تمسك بالله واعتصم به وتمسك بسنة رسول الله، حق على الله لمن اتقاه أن يستره فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض، حق على الله لمن اتقاه أن يتولى رعايته، وأن يحسن بدايته وأن يحسن نهايته.
فيا أيها المسلمون: تحصنوا بالله جل وعلا والجأوا إليه، وتمسكوا بشرع رسوله، ينجيكم من الشيطان وشره وشركه ووساوسه.
أما من شذ عن صراط الله المستقيم، وعن طريق الرحمن الرحيم وجد هناك على كل سبيل وطريق الشياطين تغويه إغواءً، وتؤزه أزاً وتغريه إغراءً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83].
أسأل الله سبحانه أن ينجينا وإياكم من وساوس الشياطين ومن إغوائهم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.(30/8)
وقفة أخيرة: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: أيها الأحباب! يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [مريم:83 - 84] لا يضيق صدرك بهم يا رسول الله، ولا تستعجل لهم العذاب {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف:83] واستمعوا معي إلى هذه الآية التي تحتاج منا إلى خطبة كاملة قال الله سبحانه: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] انظروا إلى هذه الدقة البالغة والحساب المحسوب الدقيق {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] إن الأعمال محسوبة عليهم، بل إن الأنفاس عليهم كما قال ابن عباس عليه رضوان الله، إنما نعد عليهم ذنوبهم، وويل لمن يعد الله عليه ذنوبه، فإن الواحد منا إذا أحس بأن رئيسه في العمل في هذه الأرض يتابع عمله ويتتبع أخطاءه يعيش في قلق وحسبان، فما بالكم بالواحد الديان.
يا من تراقبون رؤساءكم في الأعمال! يا من تخافون من مديريكم في الأعمال وتنسون رب السماوات والأرض! لا تراقبونه في قولٍ ولا في عمل، أحللتم لأنفسكم الغيبة والنميمة والمعاصي، خفتم الناس ولم تخافوا الله، هبتم الناس ولم تهابوا الله.
يا من تسوفون في التوبة! وترجئونها اعلموا أن الأنفاس معدودة: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] إن الأنفاس معدودة ومحسوبة، وفجأة سترون أنفسكم بين يدي الله جل وعلا الذي عد وحسب عليكم كل شيء: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84].
يا من أكلتم الرشاوي والحرام! يا من ضيعتم الصلاة! يا رواد الفجر في رمضان! أين أنتم؟! أين أنتم يا من ملأتم المساجد في رمضان؟! يا من كنتم تعبدون رمضان! أما رمضان فقد مضى فرب رمضان حي لا يموت، فهل أنتم من عباد رمضان؟ أين أنتم من عبادة الحي الذي لا يموت؟ أين رواد الفجر في رمضان؟ أين رواد المساجد في رمضان؟ أين من كانوا يحرصون على الصلاة في رمضان؟ أين هم؟ أيها المغرور! يا من جئت لتحارب اللحى! يا من لا تجرؤ أن تناقش وزيراً أو أميراً، وجئت لتناقش أمر الله ولتحتج على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! هل تجرؤ على أن تناقش وزيراً أو تناقش أميراً لتقول له: لم أصنع ذلك؟ ولماذا أفعل ذلك؟ جئت لتحتج على أمر الله ولتناقش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المغرور! يا من غرك منصبك! ويا من خدعك الكرسي الذي جلست عليه! اتق الله جل وعلا، لو أن الكرسي دام لغيرك ما وصل إليك، والله الذي لا إله غيره! لن نتوانى ولن نتورع عن أن نقف بالمرصاد لكل من يحارب دين الله ولكل من يعتدي على شرع رسول الله مهما كانت النتائج؛ لأن رزقنا وأرواحنا بيد الله، لأن الضار والنافع هو الله، فحذار من حرب الله جل وعلا، احذروا من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84] إن الأنفاس معدودة ومحسوبة، وفجأة سترى نفسك بين يدي الله جل وعلا.
واستمعوا معي بقلوبكم أيها الأحباب الأطهار الموحدون، استمعوا إلى حياتكم لخصها لنا سيدنا زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم جميعاً، لخص لنا سيدنا علي الحياة تلخيصاً بارعاً مرعباً مذهلاً، حيث قال عليه رضوان الله ورحمة الله عز وجل، وأسأل الله تبارك وتعال أن يجزيه عن هذا الكلام خير الجزاء، فإنها بلاغةٌ لا تتوفر لأصحاب رسائل الدكتوراة والماجستير، ولا لأصحاب أدب الحارات والبارات، ماذا قال سيدنا علي عليه رضوان الله ورحمة الله عز وجل قال:
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزنِ
ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلنِ
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطبيب هذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني
وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
فحملوني على الأكتاف أربعةٌ من الرجال وخلفي من يشيعني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليَّ صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيلٍ بلا زاد يبلغني
وأنزلوني إلى قبري على مهلٍ وقدموا واحداً منهم يلحدني
وكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني
وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني
وأقعداني وجدا في مسائلتي مالي سواك إلهي من يخلصني
تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني
فلا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى فعلها في الأهل والوطنِ
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني
يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجازين بعد الموت بالحسن
وامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنك الواحد الرحمن ذو المنن
أيها اللاهي! أيها الساهي! أيها الغافل! إلى متى تبعد عن طريق ربك؟! إلى متى تحارب مولاك؟! إلى متى تتجرأ على شرع رسولك ومصطفاك؟!
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتوه وأنت لاهٍ تلعب
والروح منك وديعةٌ أُودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب
فالليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب
اللهم لا تخزنا يوم العرض عليك، اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، اللهم اختم لنا بالتوحيد والإيمان.(30/9)
الإسلام كل لا يتجزأ
سعى أعداء الإسلام إلى خلخلة الدين الإسلامي من الداخل، بعد أن يئسوا من زعزعته من الخارج.
فجاءوا بمبادئ هدامة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب والخراب، ومما جاءوا به: الدعوة إلى حرية الفكر، وتحرير المرأة.
وقد استطاعوا أن يمرروا هذه الأفكار المبهرجة، والشعارات الزائفة إلى بعض ضعاف الإيمان وقاصري التفكير، وهذا يدعونا إلى أن نرسخ العقيدة الإسلامية في قلوبنا وقلوب الشباب، وأن نعلم يقيناً أن الإسلام كل لا يتجزأ.(31/1)
حقيقة الإسلام
السلام عليكم ورحمة الله.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وعرض الله جل وعلا عليه الدنيا بأسرها فأعرض عنها زاهداً: عرضت عليه الدنيا فأعرض زاهداً يبغي من الأخرى المكان الأرفعا ما جر أثواب الحرير ولا مشى بالتاج من فوق الجبين مرصعا وهو الذي لبس السعادة حلة فضفاضة لبس القميص مرقعا وهو الذي لو شاء نالت كفه كل الذي فوق البسيطة أجمعا يا مصطفى لأنت ساكن مهجتي روحي فداك وكل ما ملكت يدي إني وقفت لنصر دينك همتي وسعادتي ألا بغيرك أقتدي لك معجزات باهرات جمة وأجلها القرآن خير مؤيد ما حرفت أو غيرت كلماته شلت يد الجاني وشاه المعتدي وأنا المحب ومهجتي لا تنثني عن وجدها وغرامها بمحمد قد لامني فيه الكفور ولو درى نعم الإيمان به لكان مساعدي يا رب صل على الحبيب محمد واجعله شافعنا بفضلك في غد أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! مرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، نضر الله وجوهكم، وزكى الله نفوسكم، وشرح الله صدوركم، وثبت الله خطاكم، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وعفا الله عني وعنكم، وغفر الله لنا ولكم، إنه ولي ذلك ومولاه، وشكر الله لأخي وحبيبي في الله الشيخ بدوي، وجزاه الله خيراً على هذه الدعوة المباركة، حتى نلتقي بهذه الوجوه المشرقة بفيض الإيمان، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بكم مع رسولنا في الجنة.
وأبدأ من حيث انتهى إخواننا الذين سبقوني بالحديث، وسوف ألتقط الخيط من أخي وحبيبي الشيخ عمر لأكمل الحديث الذي بناه وبدأه مع حضراتكم.
وسوف يكون حديثنا عن هذه الكلمة الموجزة التي علق عليها أستاذنا الشيخ بدوي، ألا وهي: الإسلام كل لا يتجزأ، ويشهد الله أني كنت قد أعددت موضوعاً آخر، ولكن إن كان هذا هو قدر الله، فأسأل الله أن يجعل ما سأقوله موفقاً مسدداً.
الإسلام كل لا يتجزأ، ما أحلى هذه العبارة، وما أجدر أن يتوقف المسلمون عند أركانها ومبادئها ومعانيها، لذا فإني سوف أضبط الحديث حتى لا ينسي كلامي بعضه بعضاً.
أولاً: فلتعلموا جميعاً أيها الأحباب! أن هذا الإسلام كل لا يتجزأ، والإسلام بهذا المعنى يحارب حرباً لا هوادة فيها، فأعداء الإسلام يخططون للكيد بالإسلام ليل نهار، أعداء الإسلام يريدون للمسلمين أن يصلوا، وأن يحجوا بيت الله الحرام، وأن يصوموا رمضان، ولا يقفون عثرة في طريق المسلمين من دفع الزكاة، كلا، بل يشجعون ذلك، وربما كانوا كرماء! فيفتحون في إذاعة القرآن الكريم برنامجاً خاصاً لترتيل القرآن ليل نهار، وهذا كله لا يحرك لأعدائه إلى ساكناً، لا يحركهم ويقلقهم إلا عندما ننادي بأن الإسلام كل لا يتجزأ.(31/2)
خطة الأعداء في خلخلة الدين الإسلامي
اعلموا -أيها الأحباب- أن أعداء ديننا يعلمون علم اليقين أن هذا الإسلام هو الخطر الماثل أمام الشرق الملحد والغرب الكافر، ويعلمون أن هذا الإسلام هو المارد العملاق، الذي إن هب من مرقده أباد مدنية الشرق الملحدة وحضارة الغرب الكافرة، من أجل ذلك لم يتوان الشرق الملحد أو الغرب الكافر، على أن يتفقا ويتحدا -على الرغم من اختلاف أيديلوجياتهم، واختلاف سياستهم، إلا أنه لا ضرر أن يتفق الشرق الملحد والغرب الكافر- على ضرب هذا الإسلام، ووصلوا في نهاية الأمر إلى حقيقة خطيرة، أتدرون ما هي؟ سجل هذه الحقيقة القائد المهزوم لويس التاسع -حينما أسره المسلمون في مدينة المنصورة- في وثائقه السرية وقال: إنه لا سبيل بعد اليوم إلى غزو المسلمين عن طريق الحرب أو القوة، ولابد من البحث عن سبيل وأسلوب جديد!! فما هي الخطوات واللبنات التي وضعها واتفق عليها الشرق الملحد والغرب الكافر على توهين هذا الإسلام في قلوب المسلمين وفي بيوت المسلمين:(31/3)
الدعوة إلى حرية الفكر
أولاً: دعا أعداء ديننا في أول الأمر إلى حرية الفكر، وقالوا بأن هذا هو الباب الذي سيفتح الطريق على مصراعيه إلى النظريات المضلة والأفكار الهدامة، فنادوا أول ما نادوا إلى تطوير الأزهر، وإن شئتم فقولوا: إلى تدمير الأزهر! قالوا بأن الإسلام دين جامد، دين لا حرية فيه ولا تطور فيه، ولا رقي، إنما هو دين نزل على الأعراب والبدو في أرض الجزيرة، وقد انتهت مهمته، فلم يعد لهذا الإسلام وجود، ولا بد ألا يكون له وجود، وعليه؛ فلا بد إذاً من الانفتاح على الشرق أو على الغرب.
دعوا إلى تطوير الفكر، ونجح في ذلك أعداء ديننا نجاحاً باهراً، وجاء النجاح على أيدي أصحاب الولاء وأصحاب المحبة للشرق والغرب، الذين دعاهم الاستعمار ليحجوا إلى كعبتهم وإلى قبلتهم في الشرق الملحد أو الغرب الكافر، فاستجابوا لدعوته، وعاد هؤلاء الذين مسخهم الاستعمار وزينهم ورفعهم، ليغلغلوا في عقول وقلوب الشباب تلك المعاني السامة.
ومن هؤلاء من يسمى بعميد الأدب العربي -وأنا أسميه بوائد الأدب العربي- الذي ذهب إلى فرنسا، ثم عاد ليحارب الإسلام بمنتهى البجاحة، طه حسين، محرر الجيل! الذي دمر الجيل والأجيال التي تلته، الذي دعا أول ما دعا إلى الاختلاط السافر بين الجنسين، الرجل ابن الصعيد، الذي ذهب إلى باريس بإيماء وباستدعاء من أعداء هذا الإسلام، لأن الخطر الحقيقي أن يحارب الإسلام على أيدي أبنائه من المسلمين، فهذه قمة الخطورة! هذا الذي ذهب إلى هناك وزينه الاستعمار تزييناً، ونفخه نفخاً، هو ابن الصعيد -مع أن أبناء الصعيد تجري الغيرة في عروقهم، وتسري الشهامة والرجولة في قلوبهم، ولكن هذا قد دمر كل هذه المبادئ- عاد وقد تشرب أفكار الاستعمار، وأراد أن يغذي الشباب بها كما عاد رفاعة الطهطاوي ليكتب في كتابه الأسود (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، عاد ليقول بالحرف الواحد: إن الرقص على الطريقة الأوروبية -وأنتم تعلمون كيفية الرقص على الطريقة الأوروبية، فإن أبا الشياطين الذي يسمى بالتلفزيون قد علم الصغير قبل الكبير ما هو الرقص على الطريقة الأوروبية- ليس داعياً من دواعي الفساد، وإن الاختلاط بين الجنسين ليس داعياً من دواعي الفسق والانحلال! ومن هؤلاء: نجيب محفوظ، صاحب رواية: أولاد حارتنا هذا الذي غضب الكثير له حينما تكلمنا عليه، فقالوا: من أنتم لتتكلموا على هؤلاء العمالقة؟! قلنا لهم: نحن -والحمد لله- مسلمون موحدون، وهؤلاء والحمد لله يأبى الله -كما قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله- إلا أن يظهر النفاق على صفحات وجوههم، وفي زلات أقلامهم، ولا يمكن أن يجتمع النفاق والإيمان في قلب واحد، فإما إيمان أو نفاق.
وغير هؤلاء ممن زينهم الاستعمار ورفع شأنهم، فصفقت لهم الجماهير المخدوعة، والجماهير المضللة، وعاد هؤلاء ليغلغلوا في عقول الشباب بخاصة وفي عقول المسلمين بعامة، أن الفكر الأوروبي طود شامخ ولا سبيل إلى نهضة المسلمين وإلى رقيهم وإلى حضارتهم إلا إذا ضيع المسلمون إسلامهم، وعادوا ليعتنقوا هذا الفكر الأوروبي.
فنجحوا أولاً في تحرير الفكر.(31/4)
الدعوة إلى تحرير المرأة
ثانياً: نادوا بعد ذلك إلى القشة التي قصمت ظهر البعير، أتدرون ما هي؟ نادوا إلى تحرير المرأة، ونجح أعداء ديننا في ذلك نجاحاً باهراً، حتى أخرجوا المرأة المسلمة -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من خدر حيائها المهيب، ومن خدر حيائها المصون الكريم، حتى نجحوا في أن تخرج المرأة المسلمة سافرة متبرجة عارية تتحدى الله جل وعلا، وتقول بلسان الحال والمقال: يا رب غير شرعك وبدل دينك! فإنه لم يعد يتفق مع حضارة القرن العشرين.
عز على أعداء ديننا -عليهم لعنات الله المتوالية- أن تجود المرأة المسلمة على أمتها في هذا الزمان بعمر كـ عمر بن الخطاب، أو بخالد كـ خالد بن الوليد، أو بعمر كـ عمر بن عبد العزيز، أو بصلاح كـ صلاح الدين، وهي التي ظلت طيلة القرون الماضية تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها.
ولكنهم نجحوا في أن تخرج المسلمة سافرة مبتذلة عارية، نجحوا في أن يغلغلوا في عقلها أن الإسلام دين الجمود، ولا بد من محاكاة الشرق الملحد والغرب الكافر، لا بد من التطور، لا بد من المدنية، لا بد من التحرر، ونجح أعداء ديننا في ذلك نجاحاً باهراً، وكاد جنونهم أن يدمر الأخضر واليابس يوم أن رأوا صحوتنا المسلمة الراشدة، هذه الصحوة التي هزت الشرق الملحد والغرب الكافر، فلم يهدأ لهم بال، بل ولن يقر لهم قرار إلا إن ينجحوا في أن يضربوا هذه الصحوة من بين صفوفها، عن طريق المسلمين الذين ينتسبون ظلماً وزوراً إلى هذا الإسلام العظيم، وهذا هو ما نحذر منه.(31/5)
أهمية العقيدة في تقويم سلوك المسلم
وها نحن نضع الخطوات العملية لكي يكون الإسلام كلاً لا يتجزأ: ولابد أن نفهم هذه الحقيقة فهماً جيداً؛ لأن كثيراً من المسلمين ينتسب إلى الإسلام بشهادات الميلاد والبطاقات العائلية والشخصية، وهو بعيد كل البعد عن تعاليم وقيم الإسلام، بالله عليكم قولوا لي: ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو يغش الميزان! وصار الكيلو جرام يساوي تسعمائة وخمسين جراماً فقط، سبحان الله! وإذا ذهبت لتاجر وقلت له: أعطني متراً من القماش، أعطاك (950سم)، فالمتر أيضاً صار تسعمائة وخمسين سنتيمتر!! ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو لا يصلي، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو لا يزكي، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وزوجته سافرة عارية متبرجة، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو يغتاب الناس ويمشي بين الناس بالنميمة، ما معنى أن يكون المسلم مسلماً وهو عاق لوالديه، وهو يؤذي الجيران، هل هذا الإسلام الذي تريدون؟ كلا والله! إذاً: لا بد أن نعلم علم اليقين أن العقيدة هي الأساس، وإن صلحت العقيدة صلح البناء كله، وإن فسدت العقيدة فسد البناء كله، من أجل ذلك فإني أنادي على إخواني من الدعاة أن يبدءوا أولاً في هذا العصر وفي هذه الأيام بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في بناء العقيدة، لماذا؟ لأنني أرى كثيراً من الدعاة يركز على جوانب فرعية -كما قال أخي الشيخ عمر - وينسى الأساس، وبالله عليكم: هل يقول عاقل: إنه من الممكن أن نقيم هذا السقف بدون هذا الأساس وهذه الأعمدة؟! يا إخواننا! نريد أن نقف وقفة هامة عند هذه الحقيقة، ألا وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل يدعو إلى العقيدة في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة، وهو الرسول المؤيد بمدد السماء ووحي السماء ظل النبي ثلاثة عشر عاماً كاملة يربي الناس على العقيدة، وعلى معنى لا إله إلا الله، بأوامرها ونواهيها، ومقتضياتها وحدودها، لماذا؟ لأنه لو رسخت العقيدة في القلوب، واطمأنت لها النفوس، وانقادت لها الجوارح، لصلح الأمر؛ لأن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان، ولكن الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان.
لو رسخت معاني لا إله إلا الله في القلوب لأصبح الإنسان بعد ذلك مهيئاً لأن يقيم كل نظام الإسلام، بكل جزئياته وتصوراته، لأجل ذلك ظل النبي يربي الصحابة ثلاث عشرة سنة على العقيدة.
وبعد هذا لما هاجر النبي إلى المدينة ونزلت آيات التشريع وآيات المعاملات، قال الله جل وعلا: الخمر حرام، فقالوا: سمعنا وأطعنا، انتهينا ربنا، وقال: الربا حرام، فقالوا: سمعنا وأطعنا، انتهينا يا ربنا، لماذا؟ لأن العقيدة بنيت، لأن القلب أصبح على أتم الاستعداد للتلقي عن الله، ورسخ فيه معنى الإيمان ومعنى التوحيد، فأصبح هؤلاء العمالقة الصحابة في غاية الاستعداد لتلقي النظام الإسلامي كله، بكل فروعه وتصوراته وجزئياته، نهى الله فانتهوا، وأمر الله فأتمروا، وحد الله حدوداً فوقفوا جميعاً عند حدود الله.(31/6)
الفرق بين المراقبة الدينية والمراقبة القانونية
أي حكومة من الحكومات الوضعية، لو أرادت أن تنهى عن جريمة من الجرائم، كجريمة الاغتصاب، أو جريمة شرب الخمور، أو جريمة الربا، واستخدمت إعلامها وبطشها وظلمها وجبروتها وقوتها ودعاياتها وكل ما تملك، فإنها لن تستطيع أن تقضي على هذه الجريمة إلا على الظاهر منها فقط، بينما المجتمع بأسره يعج بهذه الجريمة حيث لا تراه عين القانون الباصرة.
ولنضرب مثالاً نوضح به ما قلنا: لو أنك جندي في الجيش، ووقفت في طابور الصباح، ووقف أمامك ضابط برتبة مقدم أو عقيد أو عميد، وظل يصدر أوامر وتعليمات: انتبه، قف، لا يتلفت أحد، لا يجلس أحد، لا يتحرك لا لا وظل يصدر الأوامر والتعليمات، بالله عليكم! بمجرد أن يولي للناس ظهره سيحصل؟
الجواب
أن البعض سيقعد، والبعض الآخر سيصلح المنديل، وهكذا تكثر الحركة والفوضى.
ولننظر إلى المقابل الجميل المشرق، لو أن الإمام وقف أمام هذا الجمع الطيب، وأقام المؤذن الصلاة، ووقف الإمام ونظر إلينا بوجهه وقال: اعتدلوا، استقيموا، وأعطانا الإمام ظهره، فهل يجلس منا أحد؟ لا.
لأننا نراقب الله أصلاً، نراقب الله بقلوبنا، ونعلم أن الله لا يغفل ولا ينام هذا هو الفرق بين أن نراقب قانون السماء وقانون الأرض، هذا هو الفرق بين مراقبة القانون السماوي والقانون الوضعي البشري، لا تظنوا أن قانون العبيد كقانون العزيز الحميد، لا والله.
يا إخواني! إننا ننادي على الدعاة -وعليكم أولاً- أن يبدءوا ببناء العقيدة، لأن العقيدة هي الأساس، ابدءوا ببناء العقيدة وإن ادعى المسلمون بأنهم مسلمون؛ لأننا مسلمون ببطاقاتنا الشخصية فقط.
لأن الإسلام قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.(31/7)
التحيل على الربا والمحرمات
ثالثاً: لا بد -أيها الأحباب- أن نعلم أنه لن يفرج الله همنا، ولن يكشف الله غمنا، ولن تحل أزماتنا، ولن تفرج كروبنا، ولن تعود إلينا عزتنا، ولن يعود إلينا مجدنا، ولن تعود إلينا كرامتنا إلا بالصلح مع الله، إننا نحارب الله ليل نهار بالربا الذي حرمه الله وحرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم، (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زينة)، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] والله الذي لا إله غيره لقد أعلن الله الحرب علينا، هل تنتظرون أزمات أفظع وأجشع مما نعيش فيه! أزمات اقتصادية، وأزمات خلقية، وأزمات في المواصلات، وأزمات في رغيف الخبز، في كل شيء، فماذا تنتظرون يا سادة؟ نقول لهم: الربا حرام، ولكنهم يحتالون عليه ليحلوه لأنفسهم، رحمة الله عليك يا ابن القيم حين قلت: إن قلت: قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي إن قلت لهم: القرآن يقول: إن الله حرم علينا لحم الخنزير، قالوا: نعم هذا صحيح، ولكن القرآن حرم الخنازير التي كانت في أرض الجزيرة، لأنها كانت خنازير هزيلة، أما خنازير اليوم فهي سمينة جداً، وليست محرمة!! نقول لهم: الخمر حرام، يقولون: نعم، الخمر التي حرمها ربنا في القرآن حرام، لكننا لا نشرب الخمر، وإنما نشرب شمبانية، ونشرب بيره.
تقول: يا إخواننا! الربا حرام، قالوا: نعم، الربا حرام حرمه ربنا، لكن هذا الذي نأكله اسمه فوائد البنوك، اسمه شهادات الادخار، اسمه شهادات الاستثمار وفيها (أ، ب، ج)، وقالوا: بأن (أ، ب) حرام، و " ج " حلال، وفي الحقيقة كلها حرام حتى مجموعة (ج)، وهي نوع من أنواع المقامرة، والمقامرة محرمة شرعاً في الإسلام، كأن يأخذ مالك وماله ومالي، ثم يضعها على ما يسمى باليانصيب -اليانصيب الشهري، أو النصف شهري، أو السنوي أو النصف سنوي- فالذي يقع السهم على ماله هو الذي يربح كل المال وهذا هو ما يسمى في الإسلام بالمقامرة، والمقامرة محرمة شرعاً.
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والأولى تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي صدوا عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال إذاً إخواني: لا بد وأن نعلم أنه لا عز لنا ولا كرامة إلا إذا اصطلحنا مع الله، وعدنا إلى هذا الإسلام من منطلق: أنه كل لا يتجزأ، الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، ودنيا وآخرة: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85].
وأقول بصدق: أخزانا الله في الحياة الدنيا، على يد أبناء القردة والخنازير، على يد دولة لا تتجاوز الخمسة مليون، وضعت أنوف المسلمين في التراب، وداست على رءوسهم بالأحذية، كتب ربنا عليهم الذلة لكنهم أذلونا، وقد سمعت عبارة من أستاذ لي والله كاد قلبي أن ينخلع لسماعها، قال لي: لقد أذلنا الله في هذه الأيام لمن كتب الله عليه الذلة والمسكنة، فهل رأيت -يا بني- أذل ممن أذله الله للأذل! هل رأيتم أذل ممن أذله الله للأذل؟ لا والله، لا ذلة بعد هذه الذلة، ولا هوان بعد هذا الهوان، تركنا كتاب الله جل وعلا وفيه دواؤنا، وفيه هدايتنا ونجاحنا وفلاحنا، وصرنا نلهث وراء الشرق الملحد ووراء الغرب الكافر، وأبينا إلا أن نتبع خطاهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه وراءهم، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا القرآن الذي جعله الله عزنا، وجعله الله فلاحنا، وجعله الله في قيادتنا، ولكننا أبينا إلا أن نضيع القرآن، أبينا إلا أن نكون كما قال الرسول: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، هذا القرآن الذي أنزله الله على الرسول لسعادة أمته، بل لسعادة البشرية في الدنيا والآخرة، هذا القرآن، إنه النعمة الباقية، إنه العصمة الواقية، إنه الحجة البالغة، إنه الدلالة الدامغة، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ما أنزله الله على الحبيب ليشقى به أبداً، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:5 - 6].
ما أنزل الله عليك القرآن -يا محمد- لتشقى به حين تواجه به الناس، كلا، ما أنزل الله عليك القرآن إلا لتقيم به أمة، وإلا لتنظم به مجتمعاً، وإلا لتربي به العقول والقلوب والضمائر والأخلاق، ما أنزل الله القرآن ليعلق على الجدران، أو ليحلي النساء بالقرآن صدورهن، أو ليقرأ المسلمون القرآن على القبور، كلا، بل: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]؛ هذا القرآن تلك هي وظيفته، وهذه هي مهمته.
يوم أن جعلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن قائداً، حوَّلهم من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم، ولكننا ضيعنا القرآن فضيعنا الله، ضيعنا القرآن فأذلنا الله، ضيعنا القرآن فأشقانا الله، ضيعنا القرآن فأبعدنا الله عن رحمته.
ولا بد أن نعلم أن العودة إلى هذا القرآن ليست اختياراً ولا تطوعاً، كلا، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].
إذاً: لا بد أن نعلم أن هذه البشرية من صنع الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها إلا بالدواء الذي سوف يقدم لها من يد الله عز وجل.
لا بد أن نعود إلى مصدر عزنا، وإلى مصدر كرامتنا، وإلى مصدر رفعتنا.(31/8)
طغيان المادة على قلوب المسلمين
النقطة الرابعة والأخيرة: أن طغيان المادة قد طغى على قلوب كثير من المسلمين في هذه الأيام، فطغيان المادة وشهواتها أنست المسلم ربه وآخرته.
وأنا أذكركم وأذكر نفسي -أيها الأحباب- بأنه لا بد من أن نفكر في يوم سوف نعرض فيه أمام الله جل وعلا، ولابد أن يسأل كل واحد منا نفسه: هل ما أقدمه لإسلامي، وما أقدمه لديني يليق بكمال الله وجلال الله وعظمة هذا الدين؟ سل نفسك أيها الشاب: ما هي الغاية والهدف الذي من أجله جعلك الله في هذه الأرض؟ لقد نسينا الهدف، وظن كثير منا أن هدفه أن يخرج في الصباح الباكر للعمل، وربما ضيع صلاة الفجر، وقضى الوقت في العمل، وعاد بعد ذلك ليتناول وجبة الغداء، وبعدها ينام، ثم يقوم ليجلس أمام المسلسلات أو أمام المباريات، ثم ينام إلى الصباح.
وهكذا دواليك، وكأنه ثور معلق في ساقيه، وعندما تقول له: لماذا لا تصلي؟ يقول لك: الإيمان في القلب! والله لو في قلبه ذرة من الإيمان ما ضيع أركان الواحد الديان، وآخر يقول لك: والله! إن قلبي مثل اللبن، وما دام قلبي نظيف فلا داعي للصلاة، وإذا فتح الله عليه وهدى قلبه، وعقد العزم على الصلاة، أتاه الشيطان بصورة أحد أصحابه، فيقول له: إلى أين؟ يقول: إلى الصلاة، فانتظرني وأنا سأخطف العشاء وآتيك.
جاء رجل للإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله، وقال له: يا إمام! لقد ضاع مني مالي! فقال له الإمام: الجأ إلى الله، انو أن تصلي الليل كله لله عز وجل، فظن الرجل أن هذه وصفة، فقال: والله بسيطة! وذهب الرجل فتوضأ، ونوى أن يقيم الليل كله، لكن بنية أن يتذكر المال، وفي أول ركعتين جاءه إبليس، وقال له: لا تتعب نفسك! فالمال في المكان الفلاني.
صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام أخذ المال ونام، وغدى في الفجر إلى الإمام لكي يبشره، فبكى الإمام عليه رحمة الله، وقال: والله لقد كنت على يقين أن الشيطان لن يدعك تقيم الليل لله عز وجل.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] إنا لله وإنا إليه راجعون! إذاً: لا بد أن تعلم وأن تتذكر -أخي الحبيب- هذه الحقيقة، وهي أن الشيطان عدو مبين للإنسان، حريص على أن يسلخه من دينه، وكثير من المسلمين قد ضيع أركان الدين، فضيع الصلاة، وضيع الزكاة، فلابد من الانتباه والعمل بما يوجبه الله.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(31/9)
قذف المحصنات
لقد حفظ الله عز وجل أعراض المسلمين وصانها؛ فأنزل حدوداً، وشرع شرائع تردع صاحب النفس الخبيثة التي تريد الفتنة، وتتتبع العورات، ومن ذلك: أن على من قذف المسلمين بالزنا أن يأتي بأربعة شهداء أو يجلد ثمانين جلدة؛ فأعراض المسلمين غالية، وأنسابهم شريفة؛ فليس لأي أحد أن يرميها أو يتهمها بسوء، إلا أن يأتي ببرهان واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.(32/1)
معنى قذف المحصنات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، طبتم جميعاً، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! هذا هو لقاؤنا الأخير مع السبع الموبقات، التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
ونحن في هذا اللقاء على موعد مع الكبيرة السابعة، ألا وهي: قوله صلى الله عليه وسلم: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) وسوف ينتظم حديثي عن هذا الموضوع في العناصر التالية: أولاً: المعنى اللغوي.
ثانياً: شروط القذف، وبم يثبت؟ ثالثاً: حكم القذف، وعقوبته في الدنيا والآخرة.
رابعاً: نموذج من القذف البشع.
وأخيراً: صورة مشرقة.
فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان، أسأل الله جل وعلا أن يسدد قلبي وقلوبكم وقولي وقولكم، إنه ولي ذلك ومولاه.
أولاً: المعنى اللغوي.
القذف كما جاء في لسان العرب لـ ابن منظور: هو الرمي والسب، والمعنى هنا: رمي المرأة بالزنا أو ما في معناه.
أما المحصنات جمع محصنة، والمحصنة: هي المرأة المتزوجة، والمحصنة والمحصنة بالكسر كذلك هي المرأة العفيفة الشريفة البعيدة عن الريبة والشك، والغافلات هن البريئات الطوايا، المطمئنات النفس، اللاتي لم يفعلن شيئاً يحذرنه ويخفن منه، هذا هو المعنى اللغوي لكلماتنا التي نحن بصدد شرحها اليوم بإيجاز شديد.(32/2)
شروط إقامة حد القذف وبما يثبت
ما هي شروط القذف؟ وبمَ يثبت؟ لا يصبح القذف جريمة تستحق الجلد إلا بشروط، منها ما يجب توافره في القاذف، ومنها ما يجب توافره في المقذوف، ومنها ما يجب توافره في الشيء المقذوف به.(32/3)
الشروط التي يجب توافرها في المقذوف
ثانياً: الشروط التي يجب توافرها في المقذوف: أولاً: العقل.
ثانياً: البلوغ، أي: أن يكون المقذوف أيضاً بالغاً، قال الإمام مالك: فإذا قذف إنسان صبية صغيرة لم تصل إلى حد البلوغ، لكنها تُشتهى، فإنه يجب أن يقام على قاذفها الحد؛ لأن هذا القذف قد يسيء إلى أهلها وأسرتها، وقد يفسد عليها مستقبلها.
لكن جمهور أهل العلم قالوا: إن قاذف الصبية التي لم تصل إلى حد البلوغ لا يقام عليه حد القذف، وإنما يعزر، ويترك التعزير لولي الأمر أو للقاضي.
ثالثاً: أن يكون مسلماً.
رابعاً: أن يكون ذا عفة، أي: أن يعرف هذا الرجل بالعفة، وبالبراءة والبعد عن هذه الفاحشة التي رمي بها.
خامساً: الحرية، أي: أن يكون المقذوف حراً لا عبداً، وقذف الحر للعبد محرم أيضاً، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وهذا لفظ البخاري في كتاب الحدود أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال) هذه هي الشروط التي يجب أن تتوافر في المقذوف.(32/4)
الشروط التي يجب توافرها في االقذف نفسه
ثالثاً: الشروط التي يجب أن تتوافر في القذف نفسه هي: التصريح بالزنا، أو التعريض الظاهر الذي يفهم منه بدون التصريح بالقذف، والتعريض الظاهر، مثل أن يقول رجل لرجل آخر: أنا لست ولد زنا، أو: إن أمي ما زنت بي، فهذا تعريض ظاهر بأنه يتهم من يحدثه بأنه كذلك، فالتصريح أو التعريض الظاهر من الشروط التي يجب أن تتوافر في القذف نفسه.(32/5)
ما يثبت به حد القذف
بمَ يثبت حد القذف؟! يثبت حد القذف بأمرين، أو بأحدهما: الأمر الأول: إقرار القاذف على نفسه.
والأمر الثاني: شهادة الشهود على أن القاذف قد قذف فلاناً من الناس.(32/6)
الشروط التي يجب توافرها في القاذف
أولاً: الشروط التي يجب توافرها في القاذف هي: العقل، والبلوغ، والاختيار، أي: أن يكون القاذف عاقلاً بالغاً مختاراً غير مكره، وهذه الشروط هي أصول التكليف باتفاق، فإن القاذف إذا كان مجنوناً أو صغيراً أو مكرهاً لا يقام عليه الحد باتفاق أهل العلم؛ وذلك للحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في السنن والترمذي في جامعه والحاكم في المستدرك، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم -وفي لفظ: وعن الصبي حتى يشب- وعن المجنون حتى يفيق) وفي لفظ: (وعن المعتوه حتى يعقل) ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام الطبراني من حديث ثوبان، وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) هذه هي الشروط التي يجب توافرها في القاذف؛ ليقام عليه حد القذف، أي: ليجلد ثمانين جلدة، وهي: أن يكون عاقلاً بالغاً مختاراً لا مكرهاً.(32/7)
حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة
ثالثاً: حكم القذف، وعقوبته في الدنيا والآخرة.
أيها الأحبة الكرام! إن الإسلام منهج حياة متكامل؛ لا يقوم أساساً على العقوبة، ولكنه يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة، والضمانات الوقائية الأمينة، ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة، والضمانات المأمونة؛ ليتمرغ في أوحال المعصية طائعاً مختاراً غير مضطر، ومن ثمَّ يشدد الإسلام في عقوبة القذف هذا التشديد، ويتوعد على القذف بأشد الوعيد؛ لأن ترك الألسنة تلقي التهم جزافاً بدون بينة أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يتهم من شاء، في أي وقت شاء، بتلك التهمة الفظيعة النكراء، ويمضي هذا القاذف آمناً في الجماعة، مطمئناً لا ينكد عيشه، ولا تكدر حياته ولا نفسيته، وإذا بالمجتمعات تصبح وتمسي وأعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة، وكل فرد فيها شاك في أصله، أو شاك في زوجه، أو شاك في بيته، بل وكل بيت فيها مهدد بالانهيار، وهذه حالة من الشك والقلق والريبة لا يمكن أن تطاق بحال من الأحوال، ومن ثمَّ شدد الإسلام هذا التشديد الرهيب على جريمة القذف، وعلى عقوبة القذف، وأوجب على القاذف ثلاثة أحكام.
أولاً: أن يجلد القاذف ثمانين جلدة، إنها عقوبة تقرب من عقوبة الزنا، للزاني البكر ثمانين جلدة، وعقوبة الزنا كما تعلمون لغير المحصن أن يجلد مائة جلدة، أولاً الأحكام التي أوجبها الله على القاذف أن يجلد ثمانين جلدة.
ثانياً: أن ترد شهادته أبداً.
ثالثاً: أن يصبح فاسقاً، أي: ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس، وهذه الشروط متفق عليها بين الفقهاء ما لم يتب القاذف إلى رب الأرض والسماء، ولقد نصت على هذه الأحكام آية محكمة من سورة النور، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ثم يأتي هذا الاستثناء الندي من الرحيم الكريم: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5].
هذه هي الأحكام التي تترتب على القاذف في هذه الحياة الدنيا.(32/8)
عقوبة القذف في الآخرة
تقدم بإيجاز الكلام عن حكم القذف وعقوبته في الدنيا، أما عقوبة القذف في الآخرة فوالله إنها لقاسية، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:23 - 25].(32/9)
وجوب الجلد أو اللعان لمن قذف امرأته
أخرج الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو داود وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت آية سورة النور -أي: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ)) [النور:4] إلى آخر الآية قال سعد بن عبادة: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقال الأنصار: لا تلمه -يا رسول الله- فإنه رجل غيور، والله! ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة قط فاجترأ أحد منا على أن يتزوجها من شدة غيرته، فلا تلمه يا رسول الله! فقال سعد بن عبادة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! والله! إني لأعلم أنها لحق، وأنها من عند الله تعالى، لكني تعجبت! فإذا رأيت لكاعاً -أي امرأته- قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى أنطلق لآتي بأربعة شهداء! والله! ما آتي بهم إلا وقد قضى حاجته يا رسول الله!) وفي لفظ البخاري ومسلم أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: (والله! لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: أتعجبون من غيرة سعد؟! والله! لأنا أغير من سعد، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) فالله يغار، وصفة الغيرة لا ينبغي أن تؤول أو تعطل أو تكيف أو تمثل، فالله جل وعلا يغار، (ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فما لبث ذلك المجتمع الطاهر الكريم إلا يسيراً حتى ابتلي بما خافه سعد بن عبادة، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم بألفاظ مختلفة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فوالله! لم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية - وهذا من الثلاثة الذين تخلفوا، وتاب الله عليهم- من أرضه عشاءً، فدخل على أهله، فوجد رجلاً يفعل الفاحشة بأهله، فرأى بعينيه، وسمع بأذنيه، فلم يهيجه، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني جئت أهلي عشاءً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، واتهم هلال زوجته، وقذفها بالزنا عند رسول الله برجل يقال له: شريك بن سحماء هكذا قذف هلال امرأته بالزنا، فما العمل؟ وما الحل؟ كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به هلال بن أمية، واشتد عليه ذلك، واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: لقد ابتلينا بما قاله سعد بن عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ هلال بن أمية: يا هلال! البينة أو حد في ظهرك؟ فقال هلال بن أمية: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته ينطلق يلتمس البينة؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: البينة أو حد في ظهرك؟ وإذا بـ هلال يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ به ظهري من الحد.
يا إلهي! أي ثقة هذه؟! وأي يقين بالله هذا؟! يقول الرجل: (ولينزلن الله ما يبرئ به ظهري من الحد) يقول ابن عباس: والله! لقد أراد رسول الله أن يقيم الحد على هلال بن أمية، وبينما هو كذلك إذ أنزل الله الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي عرف الصحابة ذلك، فأمسكوا عنه، فلما فرغ الوحي سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أول ما فعل: أن التفت إلى هلال بن أمية وقال: أبشر يا! هلال! أبشر يا هلال! فلقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً، فقال هلال بن أمية: والله! لقد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل).
فنزلت على الحبيب آيات اللعان لتبت الأمر في هذه القضية الخطيرة، وتلا الحبيب صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10] ثم قال الحبيب: (أرسلوا إليها، فجاءت امرأة هلال بن أمية، فتلا النبي عليهما الآيات، وذكرهما بالله عز وجل، وأخبرهما أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم قال هلال: والله! إني لصادق يا رسول الله! فقالت المرأة: إنه لكاذب، فقال النبي: لاعنوا بينهما، فقيل لـ هلال بن أمية: اشهد بالله، فشهد هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، أي: صادق فيما قذف به امرأته من الزنا، ولما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله! فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة؛ وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال هلال: والله! لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، وإني لصادق، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي بالله أربع شهادات أنه من الكاذبين، فشهدت المرأة أربع شهادات إنه لمن الكاذبين، فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله! فإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، وإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فتلكأت المرأة ساعة، وهمت بالاعتراف، ثم قالت: والله! لا أفضح قومي، فشهدت على نفسها في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين).
وهنا فرق النبي بينهما، وقضى بالولد لها، ونهى عن أن ينسب الولد لأب، وأسقط النسب عن هلال بن أمية، وحذر من أن يرمى ولدها، فمن رماه أقيم عليه حد القذف، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انظر! فإن جاءت به -أي: بولدها- أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لـ شريك بن سحماء، فلما وضعت المرأة ولدها كان بمثل ما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحبيب: والله! لولا ما قضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن).
اللعان بمثابة البينة للزوج الذي رأى زوجته على الفاحشة -والعياذ بالله- ولم يستطع أن يأتي بالشهود، فله أن يلاعنها ويترتب على اللعان الأحكام التالية: أولاً: أن يفرق بينه وبين امرأته.
ثانياً: أن تحرم المرأة عليه تحريماً أبدياً.
ثالثاً: أن يسقط عنه النسب؛ فلا ينسب الولد إليه.
رابعاً: أن يسقط عنه حد القذف، فلا يقام عليه حد القذف، ولا يجلد.
الخامسة: أن ترجم المرأة إذا لم تلاعن، فإذا لاعنت هي الأخرى لا يترتب على لعانها إلا حكم واحد، ألا وهو أن يسقط عنها حد الرجم.(32/10)
نموذج من القذف البشع
العنصر الرابع: بإيجاز شديد: نموذج من القذف البشع، وانتبهوا جيداً أيها الأحباب الكرام! إنه نموذج من القذف البشع لأشرف وأطهر وأكرم بيت على ظهر هذه الأرض، لبيت الحبيب المصطفى، لبيت رسول الله، قذف الرسول واتهم في عرضه وشرفه في عائشة التي أحبها من كل قلبه، ولنترك الحديث لـ عائشة رضي الله عنها لتحدثنا عن هذا النموذج الوقح، وعن هذه الفتنة المزلزلة القاسية المدمرة، والحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه -أي: ضرب يبن نسائه قرعة- فأيتهن وقعت القرعة عليها خرجت مع رسول الله، فأقرع رسول الله بيننا في إحدى غزواته -وهي: غزوة بني المصطلق- فوقع سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت آية الحجاب قد نزلت، وكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه -والهودج: هو المحمل على ظهر البعير تركب فيه المرأة ليسترها، أي: يحملون الهودج وهي بداخله، يضعونه وينزلونه- فلما انتهى رسول الله من الغزو وقفل -أي: عاد- ودنونا من المدينة آذن رسول الله ليلة بالرحيل، فانطلقت لقضاء حاجتي بعيداً عن الجيش، فلما قضت حاجتها وفرغت من شأنها عادت إلى رحلها، فالتمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت مرة أخرى لتبحث عن عقدها، وأخرها طلب العقد، وكان الجيش قد رحل، فلما عادت لم تجد في منزل الجيش من داع ولا مجيب، تقول عائشة: فمكثت في منزلي، وظننت أن القوم سيفقدونني، ويرجعون إلي، فبينما أنا كذلك غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه خلف الجيش، فرأى سواد إنسان نائم، فأقبل عليها وعرفها؛ تقول: فعرفني؛ لأنه كان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه -أي: استيقظت من نومي على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فخمرت وجهي بجلبابي -أي: غطيت وجهي بجلبابي- ووالله! ما كلمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، فأناخ راحلته فركبتها، وانطلق بي يقود الراحلة، حتى أتينا الجيش وقد نزل في نحر الظهيرة -أي: في وسط شدة الحر- فهلك في شأني من هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) وفي بعض الروايات: (نظر رأس النفاق الوقح فقال: من هذه؟! لأنها جاءت بغير هودج، جاءت على ظهر بعير صفوان بن المعطل رضي الله عنه، فقالوا: إنها عائشة رضي الله عنها، فقال الخبيث: زوج نبيكم تبيت مع رجل، ويأتي بها في الصباح يقودها! والله! ما نجت منه، ولا نجا منها!) قولة عفنة خبيثة شريرة، وطير المنافق هذه المقولة وهذا القذف الخطير الكبير، وتلقفتها ألسنة المشركين والمنافقين، وما أكثرهم في كل زمان ومكان! الذين يريدون النيل من القادة الأطهار الأشراف الأخيار، ويريدون النيل من الإسلام ذاته متمثلاً في أطهر مثل، وأعظم قدوة، في محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهلك بعض المسلمين، وزلوا وسقطوا في هذا، وماجت المدينة الطاهرة شهراً كاملاً بقولة أهل الإفك؛ بهذا القذف المرير الرهيب الخطير، ولحكمة يعلمها الله عز وجل لم تنزل آية واحدة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتألم، ويطحن قلبه الألم، ويعصر كبده هذا الخبر الفظيع المؤلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهم في عرضه! ويتهم في شرفه! ويتهم في طهارته! وهو الطاهر الذي فاقت طهارته على جميع العالمين، ويتهم في صيانة حرمته! وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته، وفيمن؟! في عائشة التي أحبها من كل قلبه، وها هي الصديقة الطاهرة العفيفة الحصان الرزان رضوان الله عليها تتهم في أعز وأغلى ما تعتز به كل فتاة شريفة، في عرضها وفي شرفها، تتهم عائشة زوج الحبيب رسول الله في عرضها وشرفها، وهي الزهرة التي ترعرعت في بستان الإسلام، وسقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وها هو صديق الأمة الأكبر الرجل الكريم الشهم أبو بكر الذي احتل ذروة سنام الصديقية بلا منازع، يحطم قلبه الألم، وتهدهد هذه الإشاعة كبده، وتكاد أن تفتته، رضي الله عنه وأرضاه، ويحدث ويعبر عن هذا الألم الذي يكاد يعصر قلبه، ويحطم فؤاده وهو يقول: (والله! ما رضينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام؟!) وها هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل يتهم في دينه وعرضه، ويتهم في شرفه، ويتهم بخيانة حبيبه ورسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم، رحماك رحماك يا ألله! أي ابتلاء هذا؟! وأي فتنة هذه؟! والله لا تقوى الجبال الراسيات على تحمل هذه المصيبة الكبيرة والفتنة المدمرة، قال عز وجل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] لكِ الله يا عائشة! فما حالها؟! وكيف يكون شأنها؟! وهي الغافلة التي لا تعلم عن الأمر شيئاً، بل ولم تسمع عن الأمر شيئاً، تقول عائشة: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لم أعلم شيئاً، ولم أسمع من حديث الإفك شيئاً، ولم أستنكر من رسول الله إلا أنه لم يكن يلاطفني بمثل ما كان يلاطفني به إذا اشتكيت، حتى خرجت يوماً لقضاء حاجتي، فالتقيت بأم مسطح، فأخبرتني بخبر أهل الإفك، فقلت: أوقد قال الناس ذلك؟! قالت: بلى، أما سمعت؟!) فعادت عائشة رضي الله عنها الغافلة المحصنة المؤمنة البريئة الطوية التي لا تنتبه لشيء؛ لأنها ما ألمت بشيء تحذر منه أو تخاف منه، عادت إلى بيتها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن تذهب إلى بيت أبويها لتتيقن من الخبر، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول: (فذهبت إلى بيت أبوي، فسألت أمي، فقالت لها أمها: يا بنية! لا تلتفتي إلى هذا، فقلت: سبحان الله! أوقد قال الناس هذا حقاً؟! فبكيت تلك الليلة، وما اكتحلت عيني بنوم، حتى إن أبوي يزعمان أن البكاء فالق كبدي، تقول: ورسول الله يدخل يسلم ولا يقول إلا كلمة واحدة: كيف تيكم؟! ثم ينصرف، تقول: فاستأذنت عليّ ذات يوم امرأة من الأنصار، فأذنت لها، وأنا أبكي، فجلست إلى جواري تبكي، وأبواي جالسان عند رأسي، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى جوار عائشة وتشهد وحمد الله عز وجل ثم قال: يا عائشة! لقد بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله؛ وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب فاعترف بذنبه فتاب إلى الله تاب الله عليه) يا ألله! يقول هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: (فلما سمعت مقالة رسول الله قلص دمعي -جف الدمع في عيني، ونظرت إلى أبيها، وهي لا تعرف بماذا تجيب؟! وماذا تقول؟! - وقالت لأبيها: أجب عني رسول الله، فقال الصديق رضي الله عنه: والله! ما أعلم ماذا أقول لرسول الله، فالتفتت المسكينة إلى أمها فقالت: أجيبي عني رسول الله، فقالت الأم التي حطمها الألم: والله! ما أعلم ماذا أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تقول المسكينة الحصان الرزان: والله! ما أعلم لكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] تقول عائشة: فاضطجعت في فراشي وأعطيت لهم ظهري، ووالله! إني لأعلم أني لبريئة، وأن الله مبرئي ببراءة، ولكني ما كنت أظن أن الله سينزل في حقي وحياً يتلى، فلشأني في نفسي كان أحقر من هذا، تقول: والله! ما غادر رسول الله موضعه وما برح المكان منا أحد وإذ برسول الله ينزل عليه الوحي، وكان إذا تنزل عليه الوحي عرف منه ذلك، حتى أخذته الرحضاء، وتنزلت منه مثل حبات الجمان -أي: كحبات اللؤلؤ- في اليوم الشديد البرودة، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت عليه براءة عائشة من السماء ممن يسمع ويرى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، التفت رسول الله إلى عائشة رضي الله عنها وهو يضحك، وقال لها: أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل، فقالت أمها: قومي يا عائشة فاحمدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة: لا والله! والله! لا أحمده ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي) يا لها من ثقة ويقين عجيبين! وتلا الحبيب صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى آخر الآيات في سورة النور.
وهكذا أيها الأحبة! نرى نموذجاً بشعاً مرعباً من نماذج القذف، وهذه هي خطورته، ومن ثمَّ شدد الإسلام هذا التشديد على هذه الجريمة البشعة التي تفسح المجال لكل أحد أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، وأن يتهم من شاء بتلك التهمة النكراء.
وأخيراً: في مقابل هذه الصورة القاتمة تبقى لنا صورة وضيئة مشرقة، نعيش معها بعد جلسة الاستراحة.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(32/11)
صورة مشرقة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! في مقابل هذه الصورة القاتمة تعالوا بنا لنعيش قليلاً جداً مع هذه الصورة المشرقة، إنها صورة فتى ملأ الإيمان قلبه، وملأ عليه قلبه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه الفتى الصغير الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، عمير بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، عمير بن سعد مات أبوه فتزوجت أمه برجل ثري غني يقال له: الجلاس بن سويد، ولما كان في السنة التاسعة من الهجرة دعا رسول الله المسلمين أن ينفقوا، وأن يبذلوا لغزوة تبوك، فتسابق المسلمون في الإنفاق، وعاد الفتى الصغير عمير بن سعد ليقص على زوج أمه الجلاس بن سويد ما كان من أخبار المؤمنين الصادقين، وما كان من تخلف المنافقين والمرجفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الجلاس بن سويد كلمة خبيثة خطيرة، قال: يا عمير! إن كان محمد صادقاً فيما يقول فنحن شر من الحمير، وهنا حلقت عين الفتى المؤمن في وجه هذا الرجل، وقال له: والله! ما كان أحد على ظهر الأرض أحب إلي بعد رسول الله منك، أما وقد قلت هذه المقالة فلقد قلت مقالة إن قلتها فضحتك، وإن أخفيتها أهلكت نفسي وديني، فكن على حذر من أمرك؛ فإني مخبر رسول الله بما قلت، وانطلق الفتى الصادق الذي وعى ما سمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه ما كان من الجلاس بن سويد، فأجلسه النبي عنده، وأرسل النبي رجلاً ليأتيه بـ الجلاس، للتثبت والتبين قبل الحكم، وجاء الجلاس، فأنكر ما قاله الفتى المؤمن، وقال: والله! يا رسول الله! ما قلت، وإن عميراً قد كذب علي، ولماذا أقول هذا؟! إلى آخر هذه الافتراءات والاتهمات القديمة الحديثة التي يأبى الله إلا أن يظهرها على صفحات وجوه المنافقين وألسنتهم، وفي مداد أقلامهم العفنة.
ونظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الفتى المؤمن وقد احتقن وجهه بالدم واحمر، وانهمرت الدموع على خده وعلى وجنيته، وارتعد وخاف، ماذا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ووالله! لم يلبثوا إلا يسيراً حتى نزل على رسول الله الوحي في مجلسه هذا، ونزل عليه الوحي الذي يبرئ هذا الفتى الذي رفع أكف الضراعة إلى الله وقال: اللهم أنزل على رسول الله تصديق ما قلت، ونزل قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة:74] فصرخ الجلاس بن سويد وقال: صدق عمير يا رسول الله! وأتوب إلى الله يا رسول الله! وهكذا التفت النبي إلى هذا الفتى الصادق الذي بللت وجهه مرة أخرى دموع الفرح بعد دموع الحزن والألم، ومد الحبيب يده إلى أذن عمير بن سعد ففركها بيسر ولين وقال له: (لقد وفّت أذنك ما سمعت، وبرأك ربك يا عمير)!.
إنها صورة مشرقة تعمدت أن أختم بها في مقابل تلك الصورة القاتمة للقذف البشع.
أسأل الله جل وعلا أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، اللهم ارزقنا الصدق في أقوالنا، والإخلاص في أعمالنا وأحوالنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا ولا تفضحنا، اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا، اللهم استر نساءنا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم اقبلنا وتقبل منا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، اللهم اجعل بلاد الحرمين أمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلاد الحرمين أمناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم اجعل بلاد الحرمين سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق حكامنا وعلماءنا إلى كل ما فيه رضاك يا رب العالمين! أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله كما أمرنا الله جل وعلا بذلك فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله! أن أذكركم به وأنساه.(32/12)
أفغانستان جراح وآمال
لقد أبرز الجهاد الأفغاني ضد روسيا حقائق عظيمة، ومصالح عديدة، ظهرت وتجسدت جلية في واقع الأمة الإسلامية، ومن ذلك: أنه انكسر في قلوب المسلمين رهبة الدول العظمى، وتبين لهم تحقق قوله سبحانه: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).(33/1)
جراح المسلمين في أفغانستان
الحمد لله ذي الملك والملكوت، الحمد لله ذي العزة والجبروت، الحمد لله الذي بنصره وبتمام قدرته وكمال عظمته أنهى على أرض أفغانستان آمال الروس القياصرة، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الروس الجبابرة، فنقلهم بالموت من القصور في الكرملن إلى القبور في أرضه وتحت طيات التراب، نقلهم من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والبغايا والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في العذاب والوحل والتراب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القوي العزيز، الفعال لما يشاء إذا شاء كيف يشاء في الوقت الذي يشاء، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، ولا مانع ولا حائل لنصره جل وعلا، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18] سبحانه وتعالى جل عن الشبيه وعن المثيل والنظير، لا كفء له ولا ند له، ولا شبيه له ولا مثيل له: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
(إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وقف في ميدان الوغى وساحة الشرف في ميادين الرجولة والبطولة يوم خرست الألسنة، ونطقت السيوف، وخطبت الرماح على منابر الرقاب، وقف ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول بأبي هو وأمي: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، فهو الذي علم الأمة الكرامة والشهامة، والرجولة، ويوم أن غابت الأمة عن تعاليمه أذلها الله جل وعلا! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، وسار على طريقه، واتبع سنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! لقد كان من المنتظر أن يكون لقاؤنا اليوم هو اللقاء السابع من دروس سورة النور، ولكن يجب علينا أن نكون على مستوى أحداث أمتنا المكلومة المجروحة، فآثرت أن نطير سوياً على جناح السرعة لأمر الله جل وعلا إلى أرض أفغانستان الطاهرة إلى جبال أفغانستان وروابيها التي رويت بدماء الأبرار الأطهار إلى أرض المليون شهيد التي روت بدمائهم جبالها وصحاريها لإعلاء كلمة الله جل وعلا.
أيها الأحباب! لقاؤنا اليوم بعنوان: أفغانستان جراح وآمال.
بأي الجراح أبدأ؟ وعن أي الجراح سأتكلم؟ عن جراح المليون شهيد أم عن جراح المرأة التي غاب عنها زوجها أم عن جراح الأم التي كلم قلبها بموت شهيدها أم عن جراح الطفل الذي رأى أمه تقتل وتذبح ذبح الخراف أمام عينيه وبين يديه فراح يلتقم ثديها وقد فارقت الحياة، عن أي الجراح سأتكلم؟ هل سأتكلم عن جراح أفغانستان أم سأتكلم عن جراح أمة المسلمين التي تعتبر أفغانستان جزءاً مشلولاً من هذا الجسد الكبير الذي نزف وطال نزيفه، ومرض وغاب مرضه، وخدر وغاب تخديره ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؟! عن أي الجراح سأتكلم؟ هل أتكلم عن جراح المسلمين في يوغوسلافيا على أيدي الصرب الفجرة الكفرة الذين انقضوا على المسلمين والمسلمات بالسلاح الأبيض، يقطعون أثدية النساء، ويذبحون الرجال على مرأى ومسمع من الدنيا؟ أين مجلس الأمن؟ وأين هيئة الأمم؟ هل هذا حرام على المسلمين حلال للفجرة الكفرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
لا إله إلا الله! المسلمون يذبحون ذبح الخراف على كل بقعة من أرض الله جل وعلا، في يوغسلافيا في كشمير في الفلبين، حتى في كثير من الدول العربية المسلمة -إنا لله وإنا إليه راجعون- امتلأت السجون والمعتقلات، ولا حول ولا قوة إلا برب الأرض والسماوات.
ما الذي جرى وما الذي حدث؟ أيها الأحباب! عم البلاء، واشتد الابتلاء، واشتد سواد الليل، وهذه بشائر النصر بإذن الله، فإن أشد ساعات الليل سواداً هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، ووالله لن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت على أن تطفئ نور الله جل وعلا فهل يضر السماء نبح الكلاب؟! سقطت ذبابة حقيرة على نخلة تمر عملاقة، وهمت الذبابة بالانصراف، فقالت الذبابة الحقيرة للنخلة العملاقة: أيتها النخلة! تماسكي فإني راحلة عنك، فقالت لها النخلة العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، وهل أحسست بك حينما سقطت علي لأستعد لك وأنت راحلة عني؟! إن جميع الأفواه لن تستطيع إطفاء نور الله ولو اجتمعت: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].(33/2)
الجهاد الأفغاني ميلاد جديد لهذه الأمة
أيها الأحباب! لقد كان الجهاد الأفغاني ميلاداً جديداً لهذه الأمة التي نامت وغطت في نومها لقد كان الجهاد الأفغاني ميلاداً جديداً لهذه الأمة التي مرضت وطال مرضها لقد كان الجهاد الأفغاني ميلاداً جديداً لهذه الأمة التي مسخت وخدرت وغاب تخديرها.
لقد كان صمود المجاهدين الأفغان ثلاثة عشر عاماً أمام هؤلاء الروس شرفاً تاريخياً ضخماً لا شك في ذلك، ولقد كان انهزام الدب الروسي الأحمر الغبي الوقح أمام هؤلاء الأطهار الأبرار حدثاً تاريخياً ضخماً، أضخم وأعظم من سابقه، ولكن -بالله عليكم- هل عرف المسلمون على ظهر الأرض حقيقة هذا الجهاد؟ لا إلا من رحم الله جل وعلا.
كم من المسلمين لا يعرفون عن القضية الأفغانية شيئاً! كم من المسلمين لا يعرف قادة المجاهدين ولا يعرف عنهم شيئاً، في الوقت الذي لا يهدأ للإعلام بال ولا يقر له قرار على أتفه الأسباب، وأحقر الأخطار والمعلومات والأنباء، فيضج الإعلام كله على سباح أو لاعب كرة أو فاسق أو فاسقة، أو داعر أو داعرة، ويصك آذان المؤمنين الصادقين في الليل والنهار بأخبار الفاسقين والفاسقات، والساقطين والساقطات، والداعرين والداعرات، وكأن أحداث أفغانستان على كوكب آخر، وكأنها لا تعني المسلمين في شيء من الأشياء.
ما هذا التساهل؟! ما هذا التجاهل لمن يقولون: لا إله إلا الله؟! لماذا كل هذا؟! هل وصل غياب المسلمين عن دينهم وعن واقعهم إلى هذا الحد؟! أسأل الله جل وعلا أن يبارك في لقاءاتنا هذه حتى تصل إلى المجاهدين في أرض أفغانستان، وقد وعدت بذلك إن شاء الله جل وعلا، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الشفاء، ونسأل الله أن يرزقنا الإخلاص، وأن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.(33/3)
عشق الجهاد في سبيل الله
أيها الأحباب! هؤلاء عشقوا الجهاد بكل قلوبهم، شيوخاً ورجالاً وشباباً ونساءً وأطفالاً، اسمعوا معي: فتاة أفغانية جميلة عشقت الجهاد وأحبته، يتقدم لخطبتها شاب أفغاني مترف غني موسر متنعم، لبس أنعم الثياب وترك الجهاد، وترك إخوانه على قمم الجبال بين القنابل والصواريخ المحرمة دولياً التي استعملها الدب الروسي الوقح لحرب أفغانستان، ولقتل رجالها وشيوخها ونسائها، ولإفساد أرضها وزرعها.
يتقدم إليها هذا الشاب، ويجتمع أهل الأسرتين، وإذا بهم يفاجئون مفاجأة عجيبة، ما هي؟ تخرج هذه الفتاة المؤمنة بكامل حجابها، بنقابها وبغطاء وجهها، تخرج لتصفع الجميع صفعة قوية مؤلمة بهذه العبارة التي يشع من بين ثناياها حب الجهاد في سبيل الله، خرجت لتقول: لقد عاهدت الله ألا أتزوج إلا رجلاً بعضه في جنة الله، قد كسرت ذراعه أو كسرت ساقه في ميدان الجهاد في ميدان الشرف والبطولة والرجولة.
وهذا طفل صغير عشق الجهاد وأحبه وهو في الثالثة من عمره، يأتي قائد روسي بمجموعة من الدبابات ليقتحم قرية من القرى، ويقتل أهل بيت بكامله، وينجي الله طفلاً من هذا البيت، فيرى أمه قد ماتت، ويرى أباه قد مات، ويرى إخوانه قد ماتوا، وينجي الله هذا الطفل صاحب الثلاث سنوات.
أتدرون ماذا صنع هذا الطفل؟ خرج الطفل لا يهاب الموت، وكأنه لا يعرف شيئاً عن الموت، خرج هذا الطفل لينظر إلى هذا الدب الوقح الذي قتل أمه وأباه وإخوانه، ودمر وهدم بيته وعاد مرة أخرى إلى البيت، وأحضر علبة من الكبريت، وأقبل على أول دبابة ليحرقها بهذا الكبريت! ما هذا؟! من الذي علمه ورباه وأودع في قلبه حب الجهاد وحب الانتقام من الكفرة الفجرة؟! إنه الله جل وعلا: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
عباد الله! هذا بإيجاز الحقيقة الأولى، وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.(33/4)
كسر الجهاد الأفغاني لحاجز الخوف والرهبة من القوى العظمى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصابرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المجاهدين، وقائد الغر المحجلين والغر الميامين، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! إن من الحقائق الضخمة التي أبرزها الجهاد الأفغاني: كسر حاجز الخوف والرهبة مما يسمى بالقوى العظمى، فقد كسر حاجز الخوف والرهبة من هاتين الدولتين المسميتين بالقوى العظمى، كسر الجهاد الأفغاني أنف الدب الروسي ووضعه في التراب، ووضع عليه أقدم النعال، لماذا؟ ليتعلم الناس -ويا ليت المسلمين يتعلمون- أن القوي العظيم هو الله جل جلاله.
والله إن هذه القوى من أحقر وأضعف وأهون الخلق على الله، والله جل وعلا وحده هو القوي العزيز، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] أين قوة هؤلاء إلى قوة الله؟! عباد الله! أنسيتم زلزال أرمينيا في أرض الروس؟ في سبع ثوان معدودات جعل الله عاليها سافلها، ودمرها على أهلها، بزلزال! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
إن كل هذه القوى العظمى، وكل هذه الدول العظمى التي تعلقت بها قلوب المسلمين، وتوسدت إليها، ووثقت بها، ولجأت إليها وتوكلت عليها أكثر من توكلها على الله لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
(يا أيها الناس) نداء عام لكل الناس في كل زمان وكل مكان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الحج:73] من أفراد من طواغيت من أمم من مجالس من هيئات من طرق دبلوماسية وغيرها.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74]، إن الله وحده هو القوي! ماذا فعل النمرود بن كنعان؟ ماذا فعل فرعون؟ ماذا فعل أبرهة؟ ماذا فعل أصحاب الأخدود؟ إن الله هو القوي العزيز، لا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، ولا مانع لقضائه، ولا حائل بينه وبين نصره جل وعلا، هو الضار النافع، الخافض الرافع، المعطي المانع، المعز المذل، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ولا ضار لمن نفع، ولا نافع لمن ضر، ولا معز لمن أذل، ولا مذل لمن أعز، فمن نصره الله فهو المنصور، ومن خذله الله فهو المخذول، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] سبحانه وتعالى.
لقد كسر الجهاد الأفغاني هذا الحاجز وهذه الرهبة، في القلوب الحية، وإلا فإن أصحاب القلوب الميتة ما زالوا كُثراً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا عزة إلا بالله، ولا نصر إلا من عند الله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] فينبغي أن يتبرأ المسلمون من كل حول طول إلا من حول الله وطوله، وأن يعودوا إلى الله، وأن يعلنوا الصلح مع الله، وأن يقولوا لله جل وعلا: اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التفويض إلا إليك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الصبر إلا على بابك، ومن الذل إلا في طاعتك، ومن الرجاء إلا لما في يديك الكريمتين، ومن الرهبة إلا لجلالك العظيم!(33/5)
الجهاد الأفغاني نموذج لإحياء روح الجهاد في سبيل الله
أيها الأحباب! لقد أبرز الجهاد الأفغاني مجموعة من الحقائق الضخمة الكبيرة التي كانت في واقع هذه الأمة أفكاراً باهتة باردة لا تتعدى الكتب والصحف، فحولها الجهاد الأفغاني إلى واقع إلى حياة إلى منهج، ومن أعظم هذه الحقائق التي جسدها وأحياها الجهاد الأفغاني: روح الجهاد في سبيل الله.
ماذا يعرف المسلمون اليوم عن الجهاد في سبيل الله الذي أصبحت الدعوة إليه تقابل بشيء من التعجب، بل لا أكون مبالغاً إن قلت: بل أصبحت الدعوة إليه تقابل بشيء من الإنكار الشديد؟ لقد حرص أعداء هذه الأمة على أن يحولوا بينه وبين هذه الأمة، وعلى أن يضعوا في طريقه العقبات والحواجز والسدود.
وعلى ألا يربى جيل المسلمين على مائدة الجهاد، خشية أن يخرج من جديد خالد بن الوليد أو صلاح الدين أو مسلمة بن عبد الملك.
أمر الله جل وعلا بالجهاد بعد الإيمان بالله في آية واحدة، فقال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا) هل قرع النداء قلبك؟، هل قرع النداء سمعك يا من آمنت بالله جل وعلا؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:10] ما نوع هذه التجارة وما ربحها؟ وما راتبها؟ عباد الله! أستحلفكم بالله لو نودي علينا بتجارة نربح فيها الدولار والريال، هل سنتقاعس؟ لا والله.
ما هي التجارة، وما هي نوعية هذه الصفقة التي يعرضها علينا ربنا جل وعلا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10].
تجارة تنجينا من عذاب أليم؟! ما هي يا رب؟ {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11] تجاهدون في سبيل الله لا في سبيل القوميات، ولا الوطنيات، ولا الأرض، ولا كل هذه النعرات الجاهلية، بل لتكون كلمة الله هي العليا، لرفع راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11].
أيها الأحباب! إن الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما في حديث معاذ الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد).
أيها الإخوة! إن مفهوم الجهاد في سبيل الله جل وعلا، لتكون كلمة الله هي العليا! الجهاد بدأ يتضاءل في حس المسلمين يوماً بعد يوم، حتى حولت الدعوة إلى الجهاد إلى كثير من الدعوات الفاجرة الباهتة كالدعوة إلى القومية إلى الوطنية إلى الديمقراطية إلى هيئة الأمم إلى مجلس الأمن إلى الطرق الدبلوماسية إلى المحافل الدولية، وهم يعلمون أن هذا كله يصرف المسلمين عن الحقيقة والوظيفة التي من أجلها أوجدهم الله، وأخرجهم الله جل وعلا، الوظيفة التي جسدها ربعي بن عامر رضي الله عنه رضي الله عنه أمام رستم قائد الفرس يوم أن قال له: من أنتم؟ وما الذي جاء بكم إلى أرضنا وبلادنا؟ فقال ربعي الذي اعتز بإسلامه وبدينه وعرف وظيفته وغايته التي من أجلها ابتعثه الله، فقال: (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)، هذه هي الوظيفة التي من أجلها أخرجت هذه الأمة، قال الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وقال الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وقال جل شأنه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] هذه هي وظيفة الأمة، ولن تنتصر الأمة بالشعارات البراقة، والدعوات بالدبلوماسية، ما فالجهاد هو الدواء الوحيد، هو العلاج الناجح الذي سيعيد للأمة مجدها، وسيضمد جراحها، وسيعيد للأمة ذاتها وكرامتها وهويتها التي مسخت منذ زمن طويل.
إنه الجهاد في سبيل الله وحده، لا في سبيل الطاغوت، ولا في سبيل الأرض، ولا في سبيل النعرات الجاهلية الفاجرة، بل الجهاد في سبيل الله جل وعلا.
وإن الكفار ليعلمون علم اليقين أن الإسلام هو المارد العملاق الذي بدأ يتململ من جديد، ولو هب من مرقده لأباد مدنية الشرق الملحدة الفاجرة، وحضارة الغرب الكافرة.(33/6)
ويمكرون ويمكر الله
عباد الله! لقد سمعنا أن أمريكا مدت المجاهدين بالسلاح وبالمعونات وغيرها، فهل أمدتهم لسواد عيونهم؟ هل أمدتهم لحبها لهم؟ لا والله، ومن فهم ذلك فهو بعيد كل البعد عن واقع الأمة وحياتها، وعن المخططات التي تدبر للأمة في الليل والنهار، وما مدت أمريكا المجاهدين بالسلاح أو بغيره إلا لسببين اثنين: السبب الأول: هو إطالة مدة القتال لإجهاض روسيا التي هي في هذا الوقت القوة الوحيدة المجابهة لقوة هؤلاء الغربيين، فأرادت هذه القوة الغربية، إجهاض روسيا من الناحية العسكرية، ومن الناحية الاقتصادية، وهذا ما أقر به الكافر قبل المسلم من المحللين وغيرهم، والحرب الأفغانية هي السبب الرئيسي لإجهاض روسيا من الناحية الاقتصادية.
السبب الآخر: لتطول مدة الحرب، فيقتل أكبر عدد من المجاهدين, وبذلك تكون أمريكا قد ضربت عصفورين بحجر واحد: إجهاض الروس، وقتل أكبر عدد من المجاهدين لطول زمن الحرب، وهذا هو ما صرحت عليه أمريكا نفسها، حيث أعلن مسئول كبير -نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط- فقال: لقد فوجئنا بانتصار الأفغان، وصدق الله إذا يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا كلام الله جل وعلا كلام العليم الخبير {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] يودون أن نكون معهم على الكفر والإلحاد حتى نكون سواء في بحر الزندقة والكفر والعياذ بالله! ولكن يأبى الله جل وعلا إلا أن يتم نوره، وأن يظهر نوره، قال الله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182]، وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وقال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وقال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] هذه حقيقة كبيرة جسدها الجهاد الأفغاني جسدها هؤلاء الذين عشقوا الجهاد في سبيل الله، وعشقوا الكرامة والسيادة والعزة والأنفة، ما وضعوا أنوفهم في التراب إلا لله جل وعلا، وعظمته وجلاله.
ما هي قوة هؤلاء إلى قوة الدب الروسي الظالم الغاشم؟! نصرهم الله جل وعلا بأقل العدد، وأقل العتاد والعدد؛ لأنهم رفعوا أكف الضراعة إلى الله، واصطلحوا مع الله، ورفعوا لا إله إلا الله، ولا عيب أبداً أن يكون في الصف من اختلت عقيدته، ومن فسد دينه، ومن ابتدع، وهذه موجودة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفي كل بلد من بلاد المسلمين، وهذا لا يمنع أن نحكم على هؤلاء بأنهم رفعوا راية لا إله إلا الله، وجاهدوا لإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، فكان النصر من الله وإن طالت مدته لغربلة الصف، ولتمحيص القلوب، ورأب هذا الصدع، ولإلغاء هذه الخلافات التي تدب من حين لآخر بفعل شياطين الإنس والجن، ولكن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].(33/7)
الحث على الجهاد في سبيل الله
أيها الأحباب! لنا -إن شاء الله جل وعلا- عودة إلى أفغانستان جراح وآمال، وبإذن الله جل وعلا -إن قدر الله لنا البقاء، وإن قدر الله لنا اللقاء- سوف نعيش مع بعض أمجاد المسلمين مع حطين مع اليرموك، مع بعض تلك الأمجاد التي تناساها كثير من المسلمين، وأعتذر لكم أنني سأتوقف طويلاً عن دروس سورة النور، لنكون على مستوى أحداث أمتنا، ورحم الله جل وعلا من قال: يا قوم إن الأمر جد قد مضى زمن المزاح سموا الحقائق باسمها فالقوم أمرهم صراح سقط القناع عن الوجوه وفعلهم بالسر باح أرأيت لبناناً وما يجري به في كل ساح أرأيت شاتلا وصبرا والبراجن والطواح لم يخجلوا من ذبح شيخ لو مشى في الريح طاح أو كصبية كالزهر لم ينبت لها ريش الجناح ذبحوا الصبي وأمه وفتاتها ذات الوشاح عبثوا بأجساد الضحا يا انتشاء وانشراح وعدوا على الأعراض يخشوا قصاصاً أو جناح ما ثم معتصم يغيـ ث من استغاث به وصاح أرأيت كيف يكاد للـ إسلام في وضح الصباح أرأيت أقصانا وما هدم العدو وما استباح أرأيت أرض الأنبياء ما تعاني من جراح أرأيت كيف غدا اليهو د وكيف أحسنا الصياح غصبوا فلسطيناً وقا لوا ما لنا عنها براح لم يعبئوا بقرار أمن دانهم أو باقتراح عادت جيوشهم تهـ دد بالخراب والاجتياح لولا صلابة فتية غر بدينهم شحاح في أرض أفغان العريـ قة في البطولة والكفاح غنموا السلاح من العد ووقاتلوه بذا السلاح بسيوف سياف وحكمـ تيار أبطال للكفاح قد بيضوا وجه الحنيـ فة ليس ذلك بامتداح يا أمة الإسلام هبوا واعملوا فالوقت راح الكفر جمع شمله فلم والتفرق والصراخ فتجمعوا وتجهزوا بالمستطاع وبالمتاح يا ألف مليون وأيـ ن هم إذا دعت الجراح لا بد من صنع الرجا ل ومثله صنع السلاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح من لم يعش لله عا ش وما استراح ولا أراح لا يستوي في منطق الـ إيمان سكران وصاح شعب بغير عقيدة ورق تذريه الرياح من خان حي على الصلا ة يخون حي على الكفاح يا إخوتي صبراً فالليل كاد يسفر عن صباح والليل إن تشتد ظلمـ ته نقول الفجر لاح والفجر إن يبزغ فلا نوم وحي على الفلاح يا ألله! يا ألله! يا ألله! يا أحد يا فرد يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، لا إله لنا سواك فندعوه، ولا رب لنا غيرك فنرجوه، يا منقذ الغرقى، ويا منجي الهلكى، ويا سامع كل نجوى، يا سامع الدعوات، ويا سامع الأصوات، ويا عالماً بما هو آت، ويا عالم الخفيات؛ انصر المجاهدين الأفغان، اللهم انصر المجاهدين الأفغان، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم.
اللهم نجهم من الخلاف والفرقة! اللهم نجهم من الخلاف والفرقة! اللهم نجهم من الخلاف والفرقة! اللهم نجهم من شياطين الإنس والجن يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصرك الذي وعدتنا! اللهم أقر أعيننا بنصرك الذي وعدتنا! اللهم أقر أعيننا بنصرك الذي وعدتنا! اللهم طمئن قلوبنا، واشرح صدورنا بنصرك يا رب العالمين! اللهم إنا قد دعوناك ومنك الإجابة، اللهم إنا قد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر المسلمين في كل مكان، وردهم إلى الإسلام رداً جميلاً، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.(33/8)
قلوب الصالحين
صلاح القلوب واستقامتها على منهج الله من أهم الأمور التي غفل عنها الناس اليوم، فكان ذلك سبباً في شقائهم وبعدهم عن الله؛ ومن أراد صلاح قلبه واستقامته فليتعرف على صفات قلوب الصالحين حتى يكون منهم، وليعزم على إصلاح قلبه ونيته، وسيجد أثر ذلك في حياته كلها.(34/1)
أهمية صلاح القلوب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده رسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم وطاب ممشاكم أيها الإخوة والأخوات، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعني بكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله: "قلوب الصالحين"، هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الكريمة الطيبة، وكعادتي حتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً من تحت أقدامنا، فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في هذا الموضوع الجليل الرقراق في العناصر المحددة التالية: أولاً: أهمية الموضوع وخطورته.
ثانياً: صفات قلوب الصالحين.
وأخيراً: كيف نحقق صلاح القلوب.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا وإياكم الصلاح والتقى والعفاف والغنى، وأن يتقبل منا ومنكم جميعاً صالح الأعمال.
أولاً: أهمية الموضوع وخطورته.
أيها الأحبة: الأحداث متلاحقة، والفتن كقطع الليل المظلم، يرقق بعضها بعضاً، والأمة كلها الآن قد تسربلت بسربال من الدماء والأشلاء، وأخشى ما أخشاه أن ينسى كل مسلم منا نفسه وسط هذه الأحداث المتلاحقة، وألا يفتش في حاله مع ربه تبارك وتعالى، مع أنها الخطوة العملية الأولى على طريق النصر والتمكين، لذا أرى أنه من الواجب على العلماء وطلبة العلم ألا يملوا من طرح هذه الموضوعات التي تجدد الإيمان في القلوب.
وأنا أدين الله تبارك وتعالى بأنه لا مخرج لهذه الأمة من هذه الأزمة الطاحنة إلا بقلوب سليمة تعرف ربها جل وعلا، إذ إن الأمة الآن لا ينقصها المال، ولا ينقصها السلاح، ولا تنقصها العقول والأدمغة التي تفكر وتخطط وتبدع، ولا ينقصها الاقتصاد، ولا ينقصها المناخ، بل ولا ينقصها الموقع الاستراتيجي، لكن ينقصها أن تعرف ربها جل وعلا، وأن تجدد الإيمان به والثقة فيه، والتوكل عليه سبحانه وتعالى.
فأنا أكرر وأقول: الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، لذا فإننا إن طرحنا الليلة موضوع القلوب فما أبعدنا النجعة، وما انحرفنا وانجرفنا وانصرفنا عن واقع الأمة النازف أبداً!(34/2)
صلاح القلوب غاية الأنبياء والمرسلين
ثالثاً: الموضوع مهم لأن الصلاح أمر جليل، فقد يتصور كثير من المسلمين والمسلمات أن صلاح القلب أمر هين، ويقولون: فلان صالح وفلان صلاح مع أن الصلاح أيها الأفاضل أمنية الأنبياء والمرسلين، إي والله إن الصلاح أمنية الأنبياء والمرسلين.
فالصلاح لغة: مصدر صلح يصلح صلاحاً، وهو ضد الفساد.
والصلاح شرعاً واصطلاحاً: سلوك سبيل الهدى.
فالعبد الصالح هو المستقيم على طاعة الله، القائم بما عليه من حقوق لله جل وعلا وحقوق لخلق الله تبارك وتعالى، تدبروا معي هذا الدعاء الودود المشرق للكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، يتضرع إلى الله جل وعلا ويقول: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يرجو ربه جل وعلا أن يلحقه بالصالحين.
وهذا إمام الموحدين، وقدوة المحققين، وأسوة سيد المرسلين خليل الله إبراهيم؛ يتضرع إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] فالصلاح أيها الأفاضل أمنية وغاية الأنبياء والمرسلين، لذا فلا تتصور أن صلاح القلب أمر يسير، بل والله يحتاج إلى جهد شاق، ودرب طويل، فهاهو سائل يذهب يوماً إلي سفيان الثوري ليقول له: يا سفيان! لقد ابتليت بمرض في قلبي فصف لي دواءً، فقال سفيان: عليك بعروق الإخلاص، وورق الصبر، وعصير التواضع، ضع هذا كله في إناء التقوى، وصب عليه ماء الخشية، وأوقد عليه نار الحزن على المعصية، وصفه بمصفاة المراقبة، وتناوله بكف الصدق، واشربه من كأس الاستغفار، وتمضمض بالورع، وابتعد عن الحرص والطمع؛ تشف من مرضك بإذن الله.
هذا منهج لصلاح القلوب، فلا تتصور أن تطبيق هذا المنهج أمر يسير، بل يحتاج إلى صدق مع الله سبحانه وتعالى كما سأبين في المحور الثالث بإذن الله جل وعلا.(34/3)
الفتن تؤثر في القلوب
ثانياً: الموضوع مهم لكثرة الفتن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
والفتن تنقسم إلى قسمين: فتن الشهوات، وفتن الشبهات، وأنا لا أعلم زماناً أيها الأفاضل قد انتشرت فيه فتن الشهوات والشبهات كهذا الزمان.
أما فتن الشهوات ففيها قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمرو بن عوف الأنصاري، وفيه قال: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم).
أما فتن الشبهات فكما في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بألفاظ متقاربة من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة -وفي لفظ: على ثلاث وسبعين ملة- كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
فإذا انحرفنا عن ديننا غرقنا في بحور الشهوات، وإذا انحرفنا عن الفهم الصحيح لديننا سقطنا في شباك الشبهات، والأمر يحتاج إلى إيمان وعلم، وإلى جلوس بين أيدي الربانيين من العلماء، لا سيما ونحن نعيش زمان الفتن كما ذكرت.(34/4)
كثرة تقلب القلب
إننا في أمس الحاجة في هذه الظروف الحالكة إلى أن يفتش كل مسلم ومسلمة في حال قلبه، وفي حاله مع ربه تبارك وتعالى، فالموضوع جليل وخطير، وذلك للأسباب التالية: أولاً: الموضوع متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، فقلبك الآن على حال، وإن خرجت وجلست أمام التلفاز يتغير حال قلبك حتماً عن حاله الذي أنت عليه الآن، لذا كان حبيب القلوب محمد صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وفي مسند أحمد بسند حسن، قالت أم سلمة: (يا رسول الله! أوإن القلوب لتتقلب؟ قال: ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، إن شاء الله أزاغه، وإن شاء الله أقامه) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد.
ثم قال: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك).
والقلوب أربعة، كما في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وهو يصح موقوفاً على حذيفة، ويضعف مرفوعاً، ومدار تضعيف علمائنا لهذا السند على الليث بن أبي سليم، والليث متكلم فيه، وإن كان لا يرد كما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، لكن الراجح أنه يصح موقوفاً على حذيفة رضي الله عنه، قال: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فذلك قلب الكافر، وقلب منكوس عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما)، أي: فإن غلبت مواد الإيمان على قلبك مال إلى الإيمان، وإن غلبت مواد النفاق على قلبك مال إلى النفاق، أسأل الله أن يملأ قلوبنا وإياكم بالإيمان، وأن يجنبنا وإياكم النفاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(34/5)
صفات قلوب الصالحين
ثانيا: صفات قلوب الصالحين؛ وهذا هو المحور الرئيسي في المحاضرة! قلوب الصالحين أيها الأفاضل قلوب مَنَّ الله جل وعلا عليها بصفات جليلة، ووالله الذي لا إله غيره إني لأشعر الآن بخجل شديد وأنا أشرع في الحديث عن قلوب الصالحين، أنه كان من الواجب ألا يتحدث عن صفات قلوب الصالحين إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، أو من رزقه الله جل وعلا صلاحاً، ولكنني والله لا أتحدث اليوم مع حضراتكم عن صفات قلوب الصالحين من منطلق شعوري بالأهلية، وإنما من منطلق الشعور بالمسئولية، وهذا ما تؤصله وتقرره القاعدة الفقهية: من عدم الماء تيمم بالتراب، ويتردد في أذني قول القائل: وغير تقيٍّ يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومَنًّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني(34/6)
قلوب الصالحين مخلصة لله
أيها الأحبة: قلوب الصالحين قلوب متجردة لا تعمل إلا لله تبارك وتعالى، ولا تبتغي الأجر إلا من الله عز وجل، لا تعمل من أجل جماعة، ولا تعمل من أجل زعامة، ولا تعمل من أجل صدارة، وما أحوج الأمة الآن إلى هذا التجرد! وما أحوج العاملين للإسلام إلى هذا التجرد.
لا يهمنا من يرفع الراية من المسلمين، من الصالحين، المهم أن ترفع الراية، ولا يهمنا من يقول قولة الحق من المسلمين، المهم أن تقال قولة الحق، وهاهو سيف الله المسلول خالد بن الوليد يعلم الأمة الآن هذا الدرس الكريم، حينما يعزله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قيادة الجبهة العامة في بلاد الشام، ويولي عمر من جديد أبا عبيدة بن الجراح أمين الأمة وكان قد ولى الصديق خالد بن الوليد، وأرسل رسالة إلى قائد الجيوش العامة في الشام أبي عبيدة وقال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: من أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح! سلام الله عليك وبعد: فإني قد وليت خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام، فاسمع له وأطع، ووالله ما وليته القيادة العامة إلا لأني أظن أن له فطنة في الحرب ليست لك، وأنت عندي يا أبا عبيدة خير منه.
وأرسل الصديق الأمر إلى خالد، فأرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة: من خالد بن الوليد إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله يأمرني بالسير إلى بلاد الشام والقيام بأمرها والتولي لجندها، ووالله ما طلبت ذلك وما أردته، وأنت في موطنك الذي أنت فيه يا أبا عبيدة، أنت سيدنا وسيد المسلمين، لا نستغني عن رأيك ولا عن مشورتك، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
فيتنازل أبو عبيدة بن الجراح عن القيادة لـ خالد؛ ليصبح أبو عبيدة جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً، ويعزل عمر خالد بن الوليد ويولي أبا عبيدة، فيتنازل خالد بن الوليد لـ أبي عبيدة عن القيادة ليتحول هو الآخر وليصبح جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً.
ما أحوجنا إلى هذا التجرد في هذه الأزمة الطاحنة، فلتقدم الأمة الأبناء، ليقف كل واحد في مكانه الذي يناسبه، ليبدع فيه بقدراته وإمكانياته التي آتاه الله سبحانه وتعالى، وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، وإن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).
ما أحوجنا إلى هذا التجرد! إلى هذا الإخلاص! واعلم بأن كل قولة وحركة لا تبتغي بها وجه الله جل وعلا لا قبول لها عند الله، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه).(34/7)
قلوب الصالحين رحيمة
وقلوب الصالحين أيضاً أيها الأحبة قلوب رحيمة كبيرة، لا تعرف الغلظة ولا القسوة، ولا تعرف سبل الانتقام، كلا، بل هي قلوب امتلأت بالحب لكل مسلم على وجه الأرض، وإن وجد صالح من هؤلاء الصالحين أخاً من إخوانه على معصية أو على تقصير اقترب منه برحمة حانية، وبكلمة رقيقة رقراقة، فذكره بالله تبارك وتعالى.
أيها الأفاضل! إن الناس في حاجة إلى قلب كبير رحيم، يتسع لضعفهم ولجهلهم ولبعدهم؛ حتى يسمعهم عن ربنا ونبينا.
إن الصالحين لا يعرفون الانتقام، ولا يعرفون القسوة، ويتذكرون دوماً قول الله لنبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، ويذكرون قول الله لنبيه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
وما أحلى وأرق هذا المشهد، فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أعرابياً يترك الصحراء المترامية الأطراف، ليدخل إلى مسجده فيبول على مقربة من النبي عليه الصلاة والسلام، وبكل أدب ورحمة وتواضع يريد الصحابة أن ينقضوا عليه، فيقول صاحب الخلق الرحمة المهداة: (لا تزرموه، دعوه يكمل بولته)، وذلك في المسجد إلى جواره؟ نعم.
فينتهي الأعرابي من تبوله، وينادي عليه النبي برحمة ليقول له: (إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا، إنما جعلت للصلاة، ولذكر الله، ولقراءة القرآن)، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فأتى بدلو من الماء فصبه عليه، وطهر المكان وأنهى المشكلة تماماً برحمة متناهية، وبأدب عال، وبخلق عظيم.
كلنا يحفظ الحديث، لكننا وبكل أسف إلى الآن لم نحول هذا الحديث وغيره في حياتنا إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، بل ربما إذا رأى أحدنا أخاً من إخوانه على تقصير أو على معصية، وأراد أن يكلمه، يكلمه ولسان حاله يقول: أنا التقي وأنت الشقي! أنا المتبع وأنت المبتدع! أنا الطائع وأنت العاصي! أنا على الحق وأنت على الضلال! لا يا أخي، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] الله الله في الرحمة بعباد الله! تحركوا أيها الأفاضل، يا شباب الأمة، قد يكون الحق معنا، وهنا (قد) للتحقيق، كقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1].
أقول: قد يكون الحق معنا، أسألكم بالله أن تتدبروا هذه الكلمات، قد يكون الحق معنا، ولكننا لا نحسن أن نشهد لهذا الحق على أرض الواقع بأخلاقنا وسلوكنا، ولا نحسن أن نشهد لهذا الحق عرضاً وبلاغاً ودعوة لأهل الأرض بالحكمة البالغة والرحمة المتناهية، والكلمة الرقيقة الرقراقة.
وقد يكون الباطل مع غيرنا لكنه يحسن أن يلبس الباطل ثوب الحق، ويحسن أن يصل بباطله إلى حيث أن ينبغي أن يصل الحق، وحينئذ ينزوي حقنا ويضعف كأنه مغلوب، وينتفخ باطلهم وينتفش كأنه غالب، وهنا يتألم أهل الحق لحقهم الذي ضعف وانزوى، وللباطل الذي انتفخ وانتفش، فنعبر عن ألمنا للحق بصورتين: إما أن نعبر عن ألمنا بصورة سلبية ساكنة فنزداد هزيمة نفسية على هزيمتنا، وعزلة عن المجتمع والعالم، وإما أن نعبر عن ألمنا بصورة صاخبة منفعلة متشنجة دموية، انفلتت من القواعد الشرعية القرآنية والنبوية، وهنا نخسر الحق للمرة الثالثة وللمرة الألف، لأن أهل الأرض سيزدادون بغضاً للحق الذي معنا، وإصراراً على الباطل الذي معهم.
فلنشهد لهذا الحق على أرض الواقع بالأقوال والقلوب والأخلاق والأعمال، ولنشهد لهذا الحق ببلاغه لأهل الأرض بالحكمة البالغة والرحمة، بالكلمة الرقراقة، قال الله لنبيين كريمين موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43 - 44]، فإن خان الكافرون فنحن لا نخون ديننا أبداً، وإن حاد الكافرون عن هذه المواثيق المكذوبة المزعومة فنحن لا نحيد أبداً عن منهج ربنا ومنهج نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يضغط علينا الواقع النازف بدمائه وأشلائه ليخرجنا عن أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(34/8)
قلوب الصالحين خاشعة
رابعاً: قلوب الصالحين قلوب وجلة خاشعة، اللهم ارزق قلوبنا الخشوع وعيوننا الدموع.
قلوب الصالحين قلوب وجلة خائفة خاشعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه)، فالصالح وجل يخشى من مكر الله، ويخشى من سوء الخاتمة، وتراه خاشعاً دائماً بين يدي ربه جل وعلا.
وأصل الخشوع قيام القلب بين يدي الرب بالذل والخضوع، روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] إلا أربع سنين)، استبطأ الله جل وعلا قلوب هؤلاء، فأنزل هذه الآية بعد أربع سنوات من إسلامهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ} [الحديد:16]! أما آن لقلوبنا أن تخشع؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع لذكر الله؟! أما آن لقلوبنا أن تخشع لمناهي الله؟! أما آن لقلوبنا أن تقف عند حدود الله؟! أما آن لعيوننا أن تبكي من خشية الله جل وعلا؟ فوالله والله ما خلا قلب من الخوف والخشية إلا وقاده الشيطان إلى كل فتنة وهوى، وما ملئ قلب بالخوف من الله جل وعلا إلا ودله الخوف على كل خير في الدنيا والآخرة، نعم، قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواماً يخوفوننا بالله جل وعلا حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال الحسن: يا أخي! والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة خير من أن تخالط أقواماً يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة.
فالخوف من الله جل وعلا سمة رئيسية من سمات الصالحين، لا يتخلون عنها أبداً فوق أي أرض وتحت أي سماء أبداً، فالصالح مراقب لربه، فإن خلا بنفسه يقول لنفسه: الله يسمعني، الله يراني! إن أغلق على نفسه حجرته، وأمسك بيده بماوس كنترول ليبحث عن أي شيء مخالف لأمر الله ورسوله، فليتذكر ربه سبحانه وتعالى، ويهتف في قلبه هاتف الخوف من الله جل وعلا: الله يسمعك! الله يراك! ألم تعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع على سرك ونجواك؟! قال جل وعلا: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] جل وعلا، فهو معهم بسمعه معهم ببصره معهم بإرادته تبارك وتعالى وعلمه: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب فالصالح صاحب قلب وجل خائف يخشى الله تبارك وتعالى مع صلاحه، مع صدقه، مع إخلاصه، مع عمله لله تبارك وتعالى، مع امتثاله للأمر، مع اجتنابه للنهي، مع توبته إن زلت قدمه في بؤرة معصية، ومع ذلك فهو يخشى الله جل وعلا.
أيها الأحبة: هاهو نبينا صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري وغيره- لما مات عثمان بن مظعون رضي الله عنه -وعثمان بن مظعون أول من لقب بالسلف الصالح، وأول من دفن بالبقيع، وممن شهدوا بدراً، والرسول يقول: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم-)؛ ثبت في رواية ضعف سندها بعض أهل العلم: أنه لما مات قبّله النبي صلى الله عليه وسلم بين عينيه وبكى، وسالت دموع النبي على خدي عثمان رضي الله عنه.
هذا الرجل المبارك لما مات قالت امرأة من الأنصار يقال لها أم العلاء: (رحمة الله عليك أبا السائب) تقصد عثمان بن مظعون، ثم قالت أم العلاء: (شهادتي عليك أن الله أكرمك، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟! قالت: سبحان الله فمن؟!) تعني: فمن هذا الذي يكرمه الله إن لم يكرم الله عثمان بن مظعون؟ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه الحق وقد جاءه اليقين، ووالله إني لأرجو له الخير، ثم قال -بأبي هو وأمي-: والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم).
وهاهو عمر فاروق الأمة الأواب الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم شهادة لم تتردد في أذن التاريخ بعدها أبداً حين قال: (إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده لو رآك الشيطان سالكاً فجاً لتركه لك، وسلك فجاً غير فجك)، والحديث في الصحيحين، وعندما ينام على فراش الموت وجرحه يتفجر دماً، ويدخل عليه ابن عباس رضي الله عنهما فيقول: (أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فلقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راض، وصحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راض، وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن توفيت اليوم فوالله إنهم عنك لراضون، ثم شهادة في سبيل الله، فبكى عمر وقال: والله إن المغرور من غررتموه! والله إني لأرجو أن أترك الدنيا لا لي ولا علي، ثم بكى وقال: والله لو أن لي طلاع الأرض -أي ملء الأرض- ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه) وهذا معاذ بن جبل مقدام العلماء، وإمام الحكماء، سيد من سادات الصالحين الأتقياء، السمح السري، السهل السخي، حبيب الحبيب النبي، لما ابتلي بالطاعون في بلاد الشام، ونام على فراش الموت، قال لأصحابه: انظروا هل أصبح الصباح؟ فنظر أحدهم وقال: لا.
لما يصبح الصباح بعد! فسكن معاذ، ثم قال مرة أخرى: انظروا هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا بعد! فسأل في الثالثة: هل أصبح الصباح؟ قالوا: لا بعد! فبكى معاذ بن جبل وقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني ما أحببت الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لمكابدة الساعات، وظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في مجالس الذكر)، ثم فاضت روحه إلى الله جل وعلا.
وهذا سفيان الثوري ينام على فراش الموت، فيدخل عليه حماد بن سلمة فيرى سفيان يبكي بكاءً شديداً وهو إمام الزهد والعلم والورع، فيقول رجل في مجلسه: يا إمام! أتخشى ذنوبك؟! فيأخذ سفيان عوداً صغيراً من الأرض ويقول: لا والله لذنوبي أهون عندي من هذا، ثم بكى سفيان الثوري وقال: ولكني والله أخشى أن يسلب إيماني قبل الموت.
وهذا الشافعي الإمام العلم، ينام على فراش الموت، فيدخل عليه المزني فيقول: كيف حالك يا إمام؟ فيقول الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولربي ملاقياً، ولا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها.
هؤلاء هم الصالحون مع صلاحهم يخشون الله، قلوب وجلة، قلوب خاشعة خاضعة لا تغتر بعلم، ولا تغتر بعمل، ولا تغتر بتعبد، ولا تغتر بمكان أو بمكانة أو بجاه.(34/9)
قلوب الصالحين تقية
ثالثاً: قلوب الصالحين قلوب تقية، فأصل التقوى أيها الأفاضل أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية، هذا هو التأصيل اللغوي للتقوى، فالتقوى مصدر مأخوذ من: اتقى يتقي وقاية، والوقاية: أن تجعل بينك وبين ما تخافه وتحذره وقاية.
وأصل التقوى في الاصطلاح أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وسخطه وعذابه وقاية، هذه الوقاية هي فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وقد أصلنا لغة واصطلاحاً أن الصلاح سلوك سبيل الهدى، والعبد الصالح هو المستقيم على طاعة الله، القائم بما عليه من حقوق لله جل وعلا وحقوق لخلق الله، فقلوب الصالحين قلوب تقية نقية.
التقوى ليست كلمة ولا محاضرة، ولكنها منهج متكامل، بل ستعجب أيها الحبيب إذا علمت أن التقوى هي الغاية من العبادة التي خلق الله من أجلها الخلق كله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وبين ربنا أن الغاية من العبادة هي التقوى، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]؛ لذا كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين من خلقه، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
وكانت التقوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لجميع أمته، كما في سنن الترمذي بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب؛ وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مودع! فأوصنا يا رسول الله! فقال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل) الحديث.
وكانت التقوى وصية السلف لبعضهم البعض، أوصى بها الصديق عمر، فقال: (اتق الله يا عمر)، وأوصى بها عمر ولده عبد الله قال: (يا بني! أوصيك بتقوى الله، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده)، وأوصى بها عمر بن عبد العزيز أحد إخوانه فقال: أوصيك بتقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن العاملين بها قليل، وإن الواعظين بها كثير، جعلنا الله وإياكم من المتقين، وأسأل الله أن يجعلنا من الواعظين العاملين بها، إنه على كل شيء قدير.
وأوصى بها ابن السماك أحد إخوانه فقال: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في فريضتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حالك، في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بسلطانه، واعلم أنك لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك، والسلام.
فقلوب الصالحين قلوب تقية، استقامت على الإيمان، واستقامت على الطاعة، واستقامت على السنة، وهذا هو سبيل الصالحين ودربهم، أسأل الله أن يجعلنا من الأتقياء الأنقياء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(34/10)
سلامة قلوب الصالحين من الأمراض
قلوب الصالحين رزقها الله تبارك وتعالى صفات جليلة عظيمة كريمة، وأعظم هذه الصفات أيها الأفاضل أنهم أصحاب قلوب سليمة، ففتش أيها الصالح في سلامة قلبك، فوالله لا نجاة لك في الدنيا والآخرة إلا بقلب سليم، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] ما القلب السليم؟ قال ابن القيم رحمه الله: لا يسلم القلب حتى يسلم من خمسة أشياء: حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، ومن غفلة تناقض الذكر، ومن شهوة تناقض الأمر، ومن هوى يناقض الإخلاص.
فقلوب الصالحين قلوب سليمة، سلمت من الشرك، سلمت من الشك، سلمت من الغل، سلمت من الحقد، سلمت من الحسد، سلمت من البدع، سلمت من الغفلة، سلمت من الشهوة، سلمت من الهوى، ففتش عن هذه الصفات في قلبك أيها الحبيب، وفتشي يا أختاه عن هذه الصفات؛ لنعلم لماذا تأخر النصر؛ ولنعلم لماذا هزمت الأمة، فالله تبارك وتعالى لا يجامل أحداً من خلقه مهما ادعى هذا المخلوق لنفسه من مقومات المجاملة والمحاباة.
لقد غضب المسلمون يوم هزموا في أحد وقالوا: كيف نهزم وعدونا هم المشركون! كيف نهزم وقائدنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان الجواب أيها الأحبة في قول الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فتش في نفسك! فتش في قلبك! فتش في عملك! فتش في حالك! والله ما هزمت الأمة إلا يوم أن انحرفت عن منهج الله، والله ما هزمت الأمة إلا يوم انحرفت عن عقيدة التوحيد بشمولها وكمالها وصفائها وجلائها، إلا يوم أن سلكت درباً بعيداً عن درب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فسلامة القلب أيها الأفاضل هي الخطوة العملية الأولى على الطريق، والله لن تنصر الأمة أبداً بمظاهرات، ولا بحرق أعلام أو ماكتات، ولا بنشاط صحفية ساخنة، ولا بمؤتمرات هنا أو هناك، وإنما ستنصر الأمة إن جددت إيمانها بالله، وإن صححت معتقدها في الله، وإن سارت من جديد على درب سيدنا رسول الله، ورددت مع السابقين الصادقين الأولين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
واسمحوا لي أن أقول: إن عقيدة التوحيد أيها الأفاضل قد ذبحت اليوم في الأمة شر ذبحة، وعقيدة التوحيد هي الخطوة العملية الأولى على طريق النصر، ولا ينبغي أن نترك التوحيد في أي مرحلة من مراحل البناء، لأن التوحيد لا ينتقل منه إلى غيره، بل ينتقل معه إلى غيره في كل خطوة على الطريق، وفي كل مرحلة من مراحل البناء والإعداد والتعمير.
فقلوب الصالحين قلوب سليمة، ولا أريد أن أطيل في كل صفة، وإلا فوالله لو أطلت النفس مع كل صفة لاحتجت إلى محاضرة كاملة، نسأل الله جل وعلا أن نكون منهم بمنه وكرمه.(34/11)
ذوق القلوب الصالحة لطعم الإيمان
ثانياً: قلوب الصالحين قلوب ذاقت طعم الإيمان، قال جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]،والحياة الطيبة أيها الصالحون أيها الصادقون! أيها المؤمنون! هي حياة الإيمان: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد هذه هي الحياة الحقيقية، حياة القلوب، حياة الأرواح، ولا يذوق طعم الإيمان ولا يحيا هذه الحياة الكريمة الطيبة إلا من خرج من ضيق الجهل إلى فضاء العلم، ومن سجن الهوى إلى ساحة الهدى، ومن نجاسة النفس إلى طهارة القدس، فالإيمان ليس كلمة ترددها الألسنة دخاناً في الهواء، كلا كلا! ولكن الإيمان الذي ينقل الأمة الآن بإذن الله من حالة الذل والهوان التي تحياها إلى حال العز والكرامة التي يجب أن تكون فيها، هذا الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان! هذا الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والزلات، هذا الإيمان هو حصن الأمان لهذه الأمة! هذا الإيمان هو سفينة نوح التي يجب على الأمة الآن أن تركبها وسط هذه الرياح الهوجاء، والفتن المتلاطمة! هذا الإيمان هو الذي حول الصحابة من رعاة للإبل والغنم إلى سادة وقادة للدول والأمم! هذا الإيمان هو الذي انتزع حنظلة من بين أحضان عروسه لينال شرف الشهادة في سبيل الله! هذا الإيمان هو الذي جعل طلحة يدافع بين يدي رسول الله ويلتفت إليه ويقول: نحري دون نحرك يا رسول الله، هذا الإيمان هو الذي جعل خبيب بن عدي حين اقترب منه أبو سفيان وقد وضع على خشبة الصلب في التنعيم وقال له أبو سفيان: يا خبيب! أيسرك أن يكون محمد في موضعك الذي أنت فيه الآن لنضرب عنقه، وأنت في أهلك معافى؟! قال خبيب: لا والله، ما يسرني أن تصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعه الذي هو فيه الآن شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى، فقال أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً! هذا الإيمان أيها الأفاضل هو صمام الأمان لهذه الأمة، وهو حصن الأمان، وهو المحرك الحقيقي لها، ولذا إن رأيت أن النصر قد تأخر فاعلم أن القاعدة المؤمنة ما توفرت بعد بنص القرآن، قال جل جلاله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] وقال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] وقال جل وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
فلا بد أن نحقق الإيمان الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وله أركانه، له طعمه، له حلاوته، له نوره؛ ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن جبريل سأل نبينا الجليل: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
والإيمان له طعم، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، والإيمان له حلاوة كما في الصحيحين من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
وهذا الإيمان له نور، ففي الحديث الذي رواه أبو نعيم والديلمي بسند حسن من حديث علي أن الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، فبينا القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم، فإذا جلت عنه أضاء)، فكما أن السحابة تحجب نور القمر عن الأرض، كذلك تحجب سحب المعاصي نور الإيمان في القلب، فإذا انقشعت سحابة السماء عاد نور القمر إلى أهل الأرض، وإذا انقشعت سحابة المعاصي عن القلوب بالتوبة إلى علام الغيوب، عاد الإيمان في القلب إلى إشراقه ونوره مرة أخرى.
وقد ذكرت عن حذيفة في تقسيمه للقلوب قوله: (قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن) فقلوب الصالحين قلوب ذاقت طعم الإيمان، أسأل الله جل وعلا أن يذيقنا وإياكم حلاوة الإيمان، وأن يملأ قلوبنا وإياكم بنور الإيمان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(34/12)
كيف نحقق صلاح القلوب(34/13)
المواظبة على مجالس الذكر والعلم
وأخيراً: المواظبة على مجالس الذكر والعلم: ففي هذه المجالس يزداد إيمانك، وتزداد معرفتك بربك، وتزداد معرفتك بنبيك صلى الله عليه وسلم، واعلم بأنه لا يشقى جليس لهؤلاء الصالحين السعداء الذين حضروا مجلس العلم ليسمعوا عن الله وعن رسول الله، والحديث بطوله في الصحيحين وفي آخره: يسأل الله عز وجل الملائكة عن عباده في مجلس العلم، وأخيراً يقول ملك: يا رب! إن فيهم فلاناً لم يأت لمجلس العلم، إنما جاء لحاجة، أي: من حوائج الدنيا، فيقول الله عز وجل: هم القوم لا يشقى جليسهم.
فاحرص على مجلس علم تتعرف فيه على أصول دينك، وعلى أركان إيمانك، وعلى ربك ونبيك صلى الله عليه وسلم، لا سيما ونحن نعيش زمان الفتن، فمن الواجب على كل مسلم أن يراجع العلماء، وأن يجلس بين أيديهم قبل أن يتكلم وقبل أن يخطو على الطريق خطوة، والله تبارك وتعالى أسأل أن يرزقنا وإياكم الصلاح، وأن يجعلنا من الصالحين.
اللهم ارزقنا الصلاح واجعلنا من الصالحين، اللهم ارزقنا الصلاح واجعلنا من الصالحين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً بيننا إلا زدته وثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين! اللهم اجعل يا سيدي جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً، ولا محروماً.
اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في فلسطين، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في العراق، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في الشيشان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في أفغانستان، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، جوعى فأطعمهم، اللهم لا تخذلهم بذنوبنا وذنوبهم، اللهم لا تخذلهم بذنوبنا وذنوبهم.
اللهم إني أسأل أن تجعل دولة قطر أمنا أماناً سخاءً رخاءً، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين، اللهم استر نساءنا واحفظ بناتنا، واهد أولادنا وأصلح شبابنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويرمى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله.(34/14)
الاجتهاد في الطاعات
ثالثاً: الاجتهاد في الطاعات من أعظم السبل لتحقيق الصلاح: فمن ذلك المحافظة على الصلوات الخمس في جماعة، المحافظة على الورد اليومي للقرآن، المحافظة على أذكار الصباح والمساء، المحافظة على الدعوة إلى الله بحكمة بالغة، المحافظة على الأمر بالمعروف بمعروف، والنهي عن المنكر بغير منكر، المحافظة على الإحسان للفقراء والمساكين، الحرص على زيارة المرضى، الحرص على زيارة المقابر، الحرص على الإحسان لكل من يريد الإحسان، اجتهد في الطاعات ولا تنس أن تقوم بالليل لله عز وجل ركعات، فالليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين.
وإن لله عباداً يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، قاموا فنصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا على الأرض جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه، يقسم ابن القيم ويقول: والله إن أول ما يمنحهم ربهم أن يقذف من نوره في قلوبهم، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم).(34/15)
مصاحبة الصالحين
رابعاً: مصاحبة الصالحين: أكثر من صحبة الصالحين، الأموات منهم والأحياء، اصحب الأموات من الصالحين بمطالعة سيرهم، والوقوف على أخبارهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، ويقول كما في الصحيحين: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير).
أيها الشاب الحبيب! أيها الوالد الكريم! أيتها الأخت الفاضلة! خذوا القرار بقوة ورجولة، واصحبوا الأخيار والصالحين، فإن صحبتهم تذكر بالله جل وعلا، وتذكر بالآخرة، وتحول بين العبد وبين المعصية، فشتان بين من يذكرك بالله وبين من يذكرك بالشيطان! شتان بين من يأخذ بيدك إلى طريق رسول الله وبين من يأخذ بيدك إلى طريق الشيطان! اصحب الصالحين من الأموات بمطالعة سيرهم، قال إمام الجرح والتعديل علي بن المديني رحمه الله تعالى: لقد أعز الله الدين يوم الردة بـ أبي بكر، وأعز الله الدين يوم المحنة بـ أحمد بن حنبل الصالحون فضلهم عظيم والله على هذه الأمة، اصحبهم لتسير على دربهم.
واصحب الصالحين من الأحياء ممن تتوسم فيهم الصلاح، وسترى أن هذا فتح الله عليه في القرآن، وهذا فتح الله عليه في طلب العلم، وهذا فتح الله عليه في الإنفاق، وهذا فتح الله عليه في الخلق، فاضرب مع كل هؤلاء بسهم، وسل الله جل وعلا أن يحشرك مع الصالحين.(34/16)
صدق الاستعانة بالله
أولاً: صدق الاستعانة بالله جل وعلا، فالله تبارك وتعالى هو الذي يحول القلوب، وهو الذي يملك القلوب، قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر:31] وقال سبحانه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فأمر القلوب وأمر الهدى بيد الله، فسل الله جل وعلا أن يهدي قلبك، وأن يرزقك الصلاح، وأن يرزقك الإيمان، وأن يرزقك الاستقامة على طريق الله، وعلى طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(34/17)
مراقبة آفات النفس
ثانياً: مراقبة آفات النفس، والعمل مع رؤية الفضل والنعم: راقب آفات نفسك، قبل أن تتكلم وبعد أن تتكلم، قبل أن تعمل وبعد أن تعمل، وقل لها: لماذا أتكلم؟ لماذا أصمت؟ لماذا أدخل؟ لماذا أخرج؟ لماذا أقوم؟ لماذا أغضب؟ لماذا أفرح؟ لماذا أوالي؟ لماذا أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ سل نفسك، فتش عن آفات النفس، فالنفس أمارة وهي عدو خطير بين جوانبنا لا نفطن إليه، ولن نتمكن ورب الكعبة من رفع السيف أبداً إلا إذا تمكنا من الانتصار على هذه النفس الأمارة بالسوء: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:53].
فانظر إلى عيبك وآفات نفسك لتنظر في الوقت ذاته إلى فضل الله عليك، ونعم الله عليك، مع ما أنت فيه من عيب ونقص وتقصير، لتعلم أن كل نعمة وفضل إنما هي محض فضل الله عليك، ولو عاملك الله تبارك وتعالى بما أنت عليه من عيب وتقصير ما من الله عليك بهذه النعم وهذا الفضل، فانظر إلى عيب النفس، وانظر في الوقت ذاته إلى فضل الله عليك، ونعم الله عليك، وستر الله عليك، لتجدد التوبة بعد كل معصية، ولتعمل صالحاً يرضي الله سبحانه وتعالى.(34/18)
النبي القدوة
لقد جعل الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة لنا، فأدبه الله تعالى وأحسن تأديبه، حتى كان من العظمة والقدوة بالمحل الأعلى، وقد حول تعاليم الإسلام إلى منهج عملي، وتعامل مع الخلق مؤمنين وكفاراً، كباراً وصغاراً وفق ذلك المنهج، فإذا أراد المسلمون أن تعود لهم الكرامة والعزة، فعليهم باتباع نهجه والاقتداء بسلوكه الكريم عليه الصلاة والسلام.(35/1)
عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة فكشف الله به الغمة.
فاللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.(35/2)
أمة محمد أولى الأمم اعتزازاً بماضيها
أحبتي في الله! النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، هذا هو عنوان محاضرتنا مع حضراتكم في هذه الليلة الطيبة، ودعونا ندع اللقاء مفتوحاً دون تقييد أو تحديد؛ لأن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جميل رقيق رقراق طويل لا حد لمنتهاه.
أيها الأحبة! إذا كان الوقوف على الماضي لمجرد البكاء والنحيب والعويل فهذا شأن الفارغين العاطلين، وازدراء الماضي بكل ما فيه من خير ونور شأن الحاقدين الجاهلين، ولقد حاول أعداء الأمة بكل سبيل أن يضعوا بين الأمة وبين هذا الماضي المجيد المشرق الوضيء الطاهر الحواجز والموانع والسدود، حتى لا تستمد الأمة من هذا الماضي نوراً يضيء لها الطريق، ودماء زكية لتتدفق في عروق مستقبلها وأجيالها، مع أن كل أمم الأرض تفخر بماضيها وتفخر برجالها، وتفخر بأبنائها، وأولى أمم الأرض بهذا الاعتزاز والفخار بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار هي أمة نبينا المختار، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، فلا ينبغي أبداً -مع هذا الواقع النازف- أن نجرد الأمة من خيريتها، ولا ينبغي أبداً -مع حالة الضعف التي تعتري الأمة الآن- أن نسلب الأمة مكانتها التي أرادها لها ربها تبارك وتعالى، فشتان بين الإيمان والكفر! وشتان بين الطاعة والمعصية، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
أين الثرى من الثريا؟ وأين الأرض من كواكب الجوزاء؟ وأين الحق من الباطل؟ وأين الليل من النهار؟ لا يلتقيان أبداً.
هذه الأمة هي أولى أمم الأرض بالاعتزاز والفخار، فلقد أنجبت الأمة على طول تاريخها رجالاً سيظل التاريخ يقف أمام سِيرَهِمْ وقفة إعزاز وإجلال وإكبار، وعلى رأس هذه الأمة قدوتنا الأعظم وأسوتنا ومعلمنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين، وهو الأسوة والقدوة والمثل الأعلى، وما أحوج الأمة الآن إلى هذه القدوة وإلى هذا المثل الأعلى لاسيما ونحن نعيش زماناً قَلَّتْ فيه القدوة من ناحية وقدم فيه كثير من التافهين ليكونوا القدوة من ناحية أخرى.(35/3)
النبي صلى الله عليه وسلم يحول الإسلام إلى منهج عملي
إن الأسوة والقدوة لهذه الأمة هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من اليسير جداً -أيها الأحباب! - أن نضع منهجاً نظرياً في التربية، لكن هذا المنهج سيظل حبراً على الورق، وسيظل حبيس الأشرطة والمجلدات ما لم يتحول هذا المنهج في حياتنا إلى منهج حياة وإلى واقع عملي.
لقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول هذا المنهج التربوي الإسلامي إلى منهج حياة، وذلك يوم أن نجح في طبع عشرات الآلاف من النسخ من هذا المنهج، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يطبعها بالحبر على صحائف الأوراق، وإنما طبعها على صحائف قلوب أصحابه بمداد من التقى والهدى والنور، فانطلق هذا الجيل المبارك؛ ليُحَوِّلَ مع هذه القدوة الطيبة والمثل الأعلى؛ هذا المنهج الذي رآه هذا الجيل منهجاً في دنيا الناس يتحرك، فصدقوا أن هذا المنهج ما أنزله الله إلا للتطبيق، إذ لو شاء الله لأنزل بهذا المنهج ملكاً، ولقال الناس ساعتها: هذا ملك من الملائكة، لكن شاء الله وقدر أن يحول الناس هذا المنهج الرباني في دنياهم إلى منهج حياة وإلى واقع عملي.
شاء الله وقدر أن يرسل الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة والمثل الأعلى محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ليحول هذا المنهج الرباني في دنيا الناس إلى منهج عملي، لذا قالت عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن)، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
فالأسوة الحسنة والقدوة الطيبة والمصطفى والمجتبى من بين العالمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شرح الله له صدره، ورفع الله له قدره، وأعلى الله له ذكره، وطهره ورفعه وكرّمه على جميع العالمين، وزكّاه جل وعلا في كل شيء.
زكاه في عقله، فقال سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
زكاه في بصره فقال سبحانه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
زكاه في فؤاده فقال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
زكاه في صدره فقال سبحانه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
زكاه في ذكره، فقال سبحانه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
زكاه في طهره، فقال سبحانه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2].
زكاه في علمه، فقال سبحانه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
زكاه في صدقه، فقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
زكاه في حلمه، فقال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وزكاه كله، فقال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
أغر عليه للنبوة خاتم من الله من نور يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد(35/4)
رسول الله قدوة في شتى مجالات الحياة
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عجيبة من عجائب الكون، وآية من آيات الله، ومعجزة من معجزات الله في هذه الأرض -وتدبروا معي هذا التأصيل الذي لابد منه- فهو رسول يتلقى الوحي من السماء ليربط الأرض بالسماء بأعظم رباط وأشرف صلة، وهو رجل سياسة، يقيم للإسلام دولة من فتات متناثر، وسط صحراء تموج بالكفر موجاً، فإذا هي بناء شامخ لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً على الإطلاق، وهو رجل حرب يضع الخطط ويقود الجيوش بنفسه، بل إذا حمي الوَطِيْسُ واشتدت المعارك وفر الأبطال والشجعان، وقف على ظهر دابته لينادي على الجمع بأعلى صوته ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وهو رب أسرة كبيرة تحتاج إلى كثير من النفقات من نفقات الوقت والفكر والتربية والشعور، فضلاً عن النفقات المادية، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدور على أعلى وأثم وجه شهدته الأرض وعرفه التاريخ.
فهو صلى الله عليه وسلم رجل إنساني من طراز فريد كأنه ما خلق في الأرض إلا ليمسح دموع البائسين، وليضمد جراح المجروحين، وليذهب آلام البائسين المتألمين.
وهو رجل عبادة قام بين يدي الله حتى تورمت قدماه، فلما قيل له: أولم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال قولته الجميلة: (أفلا أكون عبداً شكوراً).
هو رجل دعوة أخذت عرقه ووقته وفكره وروحه، قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، فقام ولم يذق طعم الراحة حتى لقي ربه جل وعلا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تعلقت به قلوب أصحابه إلا لأنه قدوة، ما أمرهم بأمر إلا وكان أول المنفذين له، وما نهاهم عن نهي إلا وكان أول المنتهين عنه، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد.(35/5)
حاجة الناس إلى القدوة
أيها الأحباب! الناس بحاجة إلى قدوة وليسوا بحاجة إلى منظرين ينظرون تنظيراً بارداً، باهتاً لا علاقة له بالصدق ولا بالواقع.
لما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم يحول هذا المنهج الرباني والنبوي في حياتهم إلى منهج عملي تعلقت به القلوب، فالقلوب تتعلق بالجمال كأمر فطري جبلي، فكيف بمن جمع الله له الجمال والكمال خَلقاً وخُلقاً؟(35/6)
افتقاد الناس للقدوة الحسنة
أيها الأحباب! إن مشكلتنا الآن أن كثيراً من أبنائنا وإخواننا قد افتقدوا القدوة في كل ميادين الحياة في الجانب الدعوي وإن كنا نرى المنظرين ونسمع المتحدثين في البيوت فقد افتقدت كثير من البيوت القدوة في كثير من مناحي الحياة، فنحن نحتاج الآن إلى قدوة تشهد لهذا الإسلام بخلقها وسلوكها وقولها وعملها لا إلى منظر سلبي بارد لا يمت تنظيره إلى واقعه أو إلى قوله أو فعله وخلقه بأدنى صلة.
مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده شكل مشيته بنوه فقال: علام تختالون قالوا بدأت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه أنا لا أريد أن أطوف بحضراتكم في بستان النبي الماتع، فهذا الأمر يحتاج إلى سنوات ورب الكعبة، ولكنني فقط أردت بهذا العنوان وسط هذه الفتن الهائجة والأمواج المتلاطمة أن أقف بحضراتكم في هذا البستان الماتع وقفة متأنية في كيفية تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس؛ لأننا قد افتقدنا الآن فن التعامل مع الخلق، وقد قلت لحضراتكم بالأمس: قد يكون الحق معنا -و (قد) هنا للتحقيق- لكننا لا نحسن أن نشهد لهذا الحق على أرض الواقع، ولا نحسن أن نشهد لهذا الحق عرضاً للناس على منهج النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، وقد يكون الباطل مع غيرنا، لكنه يحسن أن يلبس الباطل ثوب الحق، ويحسن أن يوصل بالباطل إلى حيث ينبغي أن يصل الحق، وحينئذ ينزوي حقنا ويضعف -كما هو الواقع- وكأنه مغلوب، وينتفخ الباطل وينتفش كأنه غالب، وهنا نتألم لحقنا الذي ضعف وانزوى، وللباطل الذي انتفخ وانتفش، فنعبر عن هذا الألم بصورتين لا ثالث لهما: إما أن نعبر عن ألمنا تعبيراً ساكناً صامتاً سلبياً، فنزداد هزيمة نفسية على هزيمتنا وانعزالاً عن المجتمع والعالم، وإما أن نعبر عن ألمنا هذا تعبيراً صاخباً متشنجاً منفعلاً دموياً انفلت من القواعد الشرعية القرآنية والنبوية، وهنا تكثر الأخطاء وتكثر التجاوزات، وحينئذ نخسر الحق للمرة الثالثة بل للمرة الألف؛ لأن أهل الأرض في الأرض سيزدادون بغضاً للحق الذي معنا، وإصراراً على الباطل الذي معهم، فنخسر الحق الذي من أجله خلق الله السموات والأرض والجنة والنار، ومن أجله أرسل جميع الأنبياء والمرسلين.(35/7)
تعامل النبي القدوة مع الخلق
إن رسول الله هو أسوتنا وقدوتنا، فلننظر أيها الأفاضل! كيف كان يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الخلق؟ وهذا ما أود أن أركز الحديث فيه مع أحبابنا وإخواننا جميعاً.
لماذا نجح أهل الباطل في جذب قلوب الجماهير إلى باطلهم، مع أنهم لا يملكون على الإطلاق حجة تقنع عقلاً ولا قلباً، ومع ذلك استطاعوا أن يجذبوا جماهير المسلمين -فضلاً عن أهل الأرض- إلى الباطل الذي معهم؟! انظر كيف يدعو غير المسلِم المسلَم، أو غير المسلم وكيف يخاطبه ويحاوره؟ لماذا نخسر قضيتنا مع أنها قضية مضمونة؟! لماذا صار الإسلام في قفص اتهام؟ بكل أسف لا يوجد إلى الآن مجموعة من المدافعين الصادقين المخلصين الذين يدافعون عن هذا، ولا أقول: يدافعون بل يبينون الحق بالحق وبقوة الإيمان، بل نقف أمام كل تهمة يتهم بها ديننا وقفة الضعيف المهزوم المخذول، الذي يود أن لو وضع أنفه ورأسه في الرمال وكأنه لا يملك حجة ليبلغها لأهل الأرض، بل صارت ردودنا سلبية مهزومة، ونسينا قول الله جل وعلا: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
إن مكمن الخطر إلى الآن أننا لم نشهد لهذا الإسلام على أرض الواقع بأخلاقنا وسلوكنا، ولم نبلغ هذا الحق لأهل الأرض كما بلغه أسوتنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، فإنه ما جهة إلا وخاطبها: خاطب الملوك خاطب الرؤساء خاطب العشائر والقبائل، ما ترك مجلساً من مجالس الكفار إلا وغشيهم في أنديتهم؛ ليبلغهم دين الله بأدب جم بحكمة بالغة بموعظة حسنة بكلمة رقيقة رقراقة، ولو تتبعت منهج رسول الله في البلاغ والدعوة إلى الله لرأيت العجب العجاب حتى مع أكفر أهل الأرض.(35/8)
تعامله صلى الله عليه وسلم مع ثمامة سيد اليمامة
أيها الأحبة! تدبروا هذه الرواية كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وربط الصحابة ثمامة في سارية من سواري المسجد النبوي -أي: في عمود- ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فوجد ثمامة بن أثال مربوطاً في السارية، فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه)، فإذا به يرى ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، ثمامة الذي أعلن الحرب بضراوة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه.
(فاقترب النبي صلى الله عليه وسلم منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال ثمامة: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال ما شئت).
قول واضح صريح قوي: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني فاعلم بأن دمي لن يضيع هدراً ولن تفرط قبيلتي في هذا الدم.
(وإن تنعم تنعم على شاكر)، أي: إن أحسنت إلي وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل والمعروف ما حييت، فأنا رجل أصيل لا أنسى إحسان من أحسن إلي.
(وإن كنت تريد المال فسل تعط من المال) أي: أما إن كنت تريد المال والفدية فسل تعط من المال ما شئت.
(فتركه النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي غير رواية الصحيحين: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحسنوا إلى ثمامة).
(ثم دخل عليه في اليوم الثاني واقترب منه وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه في اليوم الثالث، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! قال عندي ما قلت لك يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة) أي: لا نريد مالاً ولا جزاءً ولا شكوراً.
ولاحظ -أخي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبقاه في المسجد، ولم يأمر بإخراجه، فدل هذا على جواز أن يدخل المشرك المسجد ما لم يدخله بقصد الإهانة والإساءة، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى ثمامة في المسجد ليستمع ثمامة القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليرى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يربي الصحابة، وليرى كيف يتعامل الصحابة مع رسول الله، فالمسجد مدرسة تعلم فيها ثمامة في ثلاثة أيام عظمة هذا الدين.
أيها الأحباب! منذ متى ونحن ندخل المساجد؟ منذ كم سنة؟ فهل تعلمنا هذا الدين كما ينبغي في بيوت الله وكما علم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمامة في ثلاثة أيام عظمة وجلال هذا الدين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة إلى حائط فاغتسل) أولم أقل لك إنه تعلم في المسجد؟ ثم عاد إلى المسجد النبوي ووقف بين يدي رسول الله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
اسمع أيها الحبيب اللبيب! إلى قول ثمامة؟ (يا رسول الله! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا أريد العمرة، فبماذا تأمرني؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمره بإتمام العمرة).
قال الحافظ ابن حجر: (فبشره) أي: بالجنة، أو بمغفرة الذنوب، أو بقبول التوبة، وأمره بأن يتم عمرته.
أيها الحبيب! انطلق ثمامة إلى مكة شرفها الله فجهر بالتلبية -كما في غير رواية الصحيحين- وهو القائل: ومنا الذي لبى بمكة محرماً برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم فلما رفع صوته بالتلبية قام المشركون إليه: من هذا الذي يرفع صوته بالتلبية بين أظهرنا؟ فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً حتى أنقذه أبو سفيان من بين أيديهم وقال: إنه ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة وأنتم تحتاجون إلى الحنطة من هذه البلاد، فتركوه، فلما سمع ذلك جلس ثمامة، وقال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله.
خلع رداء الشرك على عتبة الإيمان فوظف كل طاقاته لخدمة دينه، وهذا هو حقيقة الانتماء لهذا الدين.
منذ متى قد شرح الله صدورنا لهذا الدين؛ لكن ماذا فعلنا؟ ماذا بذلنا؟ ماذا قدمنا؟ أنت تخطط لمستقبل أولادك ولتجارتك ما لا تخطط عُشر معشاره لدين الله جل وعلا.
أيها الأحباب! لو خططنا لهذا الدين عشر ما نخططه لأولادنا وبيوتنا ومستقبل تجاراتنا لغيَّر الله هذا الحال، لكنك قد لا تتذكر العمل لدينك إلا في محاضرة كهذه، أو إذا استمعت شريطاً لرجل من أهل العلم الصادقين، يحترق قلبك حينئذ أنك تنتمي إلى دين يجب عليك أن تضحي من أجله وأن تبذل له أغلى ما تملك.
لكن ثمامة رضي الله عنه وظف طاقاته وإمكانياته وعقله وفكره وماله ومكانته لدين الله تبارك وتعالى، وكان ثمامة أول من فرض حصاراً اقتصادياً على الشرك وأهله في مكة، حتى أكلت قريش (العلهز) وهو وبر الإبل مع الجلد، يضعونه على النار ويأكلونه من شدة الجوع، حتى ذهب أبو سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يناشده الله والرحم أن يرسل إلى ثمامة ليخلي بينهم وبين الميرة، فرد عليه معدن الكرم وصاحب الخلق والأسوة الطيبة ورحمة الله للعالمين، وأرسل إلى ثمامة أن خل بينهم وبين الميرة.
والشاهد أيها الأفاضل: انظروا كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأدبه ورحمته وتواضعه البغض في قلب ثمامة إلى حب مشرق وود.
انظروا كيف حول خلق النبي صلى الله عليه وسلم البغض في قلب ثمامة إلى حب مشرق وود! انظروا كيف حول الرفق واللين قلبه! وهذه الأمثلة والأحاديث نحفظها، لكنني لا أدري هل نظن هذه الأحاديث ليست لنا؟ ولسنا مكلفين بأن نحولها في حياتنا جميعاً إلى منهج حياة، وإلى واقع عملي؟(35/9)
تعامله صلى الله عليه وسلم مع شاب جاء يستأذنه في الزنا
أيها الأحبة: لقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح: أن شاباً -تغلي الشهوة في عروقه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وقال: يا رسول الله! أتأذن لي في الزنا؟ -يستأذن رسول الله في الزنا- فقال الصحابة: مه! مه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادن -أي: اقترب، لم يقل: اطردوه، أخرجوه، أخرجوا هذا النجس الفاسد الفاسق، لا- ويقترب الشاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسأله النبي صلى الله عليه وسلم برفق وحب وحنان وخلق: أتحبه لأمك؟ فيقول: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول: أتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه لابنتك؟ أتحبه لخالتك؟ أتحبه لعمتك؟ والشاب يقول: لا والله جعلني الله فداك، فيقول: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم وبناتهم، وأخواتهم، وعماتهم وخالاتهم، ومع كل ذلك يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده المباركة الشريفة ليضعها على صدر هذا الغلام ويدعو الله عز وجل له ويقول: (اللهم اشرح صدره! واغفر ذنبه! وحصن فرجه)، فيخرج الشاب من عند رسول الله ولا يوجد على الأرض شيء أبغض إليه من الزنا.
والله يا إخوة! لقد رأت عيني وسمعت أذني، رأيت أخوين من إخواننا العاديين البسطاء في طريقهم إلى مسجد كهذا، وأمام مكان الوضوء وقفا يتحدثان ويبدو أن أحدهما كان على سفر لأنهما تعانقا، وقفا فتحدثا حتى شرع المؤذن في إقامة الصلاة، وإذ بأحد الإخوة يمر عليهما وأراد أن يأمرهما بالتعجيل إلى الصلاة، فنظر إليهما وقال: (صل يا حمار أنت وهوه)، فاقتربت من الأخ وقلت: لا يا أخي! لن يصلوا يا أخي! قال: كيف يا شيخ! قلت: يا أخي! متى فرض الله الصلاة على الحمير؟ الحمير لا تصلي! هل هذه طريقة بلاغ طريقة دعوة طريقة تعامل مع الخلق؟ إننا لا نتعامل أيها الإخوة مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صَلدةٍ، بل نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام فيها الحلال والحرام فيها الخير والشر فيها الطاعة والمعصية فيها الفجور والتقوى فيها الهدى والضلال، فلابد أن نكون على بصيرة بمفاتيح هذه النفوس البشرية؛ لنتغلغل إلى أعماق أعماقها، هذا إن كنا قد صدقنا الله بالفعل في أننا نريد أن ننقل الناس من البدعة إلى السنة، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن الضلال إلى الهدى، أما إن كنا نعمل من أجل أنفسنا ومن أجل الهوى فذاك شأن آخر، لكن إن كنت تريد بالفعل أن تنقل الناس من الباطل إلى الحق، فبحق، ولن تنقلهم أبداً إلا بحق، قال جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
قال ابن القيم رحمه الله: ولا يكون الرجل من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم على بصيرة.(35/10)
تعامله صلى الله عليه وسلم مع الأطفال
أيها الإخوة! إننا قد نتألم غاية الألم إن رأينا طفلاً من أطفالنا يجري في المسجد أو يبكي أو يلعب، وربما يُنهر هذا الطفل نهراً ويطرد، وربما يفعل ذلك بعض إخواننا من أئمة المساجد وطلبة العلم، ونعجب من هذا غاية العجب! إن لم نفتح قلوبنا قبل أبواب مساجدنا لأطفالنا وأولادنا؛ ليتعلموا في بيوت الله عن الله ورسوله، فمتى وأين سيتعلم أولاد المسلمين؟ والله لقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر حين رأى الحسن يتهادى.
نعم.
رأى طفلاً صغيراً خرج من بيوته صلى الله عليه وسلم يتهادى، وكان على المنبر فنزل وترك الخطبة، وحمل الحسن وارتقى به المنبر وأجلسه على يمينه على المنبر.
بالله ماذا لو صنع إمامٌ هذا الصنيع الآن، ووضعه عن يمينه؟ ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الحسن مرة وإلى الناس مرة، ثم قال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) -يا ألله! - وهذا قبل الفتنة بسنوات؛ لكن الشاهد أن ننظر كيف نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على منبره، وحمل الحسن وهو طفل صغير، وأجلسه عن يمينه على المنبر؟ بل لقد روى مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاستقبله الولدان، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على خدي أحدهم واحداً واحداً) هل فعلنا ذلك مع أولادنا؟ يقول جابر رضي الله عنه الذي لم ينس هذا: (ومسح النبي صلى الله عليه وسلم على خدي، فوجدت ليده برداً وريحاً كأنما أخرجهما من جُونةِ عَطَّار) صلى الله عليه وسلم.(35/11)
واجبنا في تعليم أطفالنا القدوة
أيها الإخوة! لا أنسى ذلك الرجل الحبيب العاقل حين كنت أعمل خطيباً لبيت من بيوت الله في مدينة القصيم، وجاء هذا الوالد الكريم وقال لي: يا شيخ محمد ولدي يحبك، قلت: الحمد لله، قال: وسآتي به لأول مرة لصلاة الجمعة في الجمعة المقبلة إن شاء الله، قلت: أهلاً وسهلاً به.
قال: ولكنني أحضرت هذه الهدية لتضعها في منبرك، فإذا أنهيت الخطبة سآتي به؛ لتسلم عليه، فأرجو منك أن تصافحه، وأن تقبله، وأن تدعو الله له، وأن تعطيه هذه الهدية ليزداد حباً لك ولبيت الله جل وعلا.
فَهم راقٍ انظر كيف يخطط الوالد لولده؟! كيف يغرس الوالد هذا الحب في قلب ولده بأسلوب يتناسب مع طفل.
وهذه المواقف -أيها الأحباب- لا ينساها أطفالنا أبداً، فكافئ ولدك بمكافأة؛ لأنه حفظ جزءاً من كتاب الله، فإنه لا ينسى أبداً هذه المكافأة، بل سيظل يحتفظ بها وهو في غاية السعادة.
اغرس في قلب ولدك حب العقيدة، فهذا خلق أسوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً على حمار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
روى مسلم في صحيحه قال: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب عن كهمس عن وكيع عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: (كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني -يعني كان أول من قال بنفي القدر في البصرة معبد الجهني - قال: فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ قالا: فوقف لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن -ينادي ابن عمر - إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -أي يبحثون عن غوامض العلم وخوافيه ودقائق مسائله- ويزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف -أي: لا يعلم الله الأشياء إلا بعد وقوعها وحدوثها- فقال عبد الله بن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد) وساق الحديث بطوله.
والشاهد: قول عبد الله بن عمر: (حدثني أبي عمر عن رسول الله)، فهل قال ولدك: حدثني أبي عن فلان الصحابي عن رسول الله؟ هل جلست مع ولدك أيها الأخ الحبيب الفاضل؟! أولسنا نحفظ هذه الأحاديث يا إخوة؟! أولسنا نعرف هذا المنهج التربوي؟ أولسنا نقف على هذا الخلق العظيم في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للخلق؟(35/12)
تعامل الرسول القدوة مع الكفار
أيها الإخوة! لقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا الشرف في معاملته مع الأعداء، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن المشركين قد أخذونا وقالوا: أتريدون محمداً؟ قال حذيفة: فقلت: لا.
قال حذيفة: فأخذ المشركون علينا عهد الله وميثاقه أن ننصرف إلى المدينة وألا نشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال المشركون وبما قلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انصرفا -يعني: لا تشهدا معنا المعركة- نفي للمشركين بعهدهم ونستعين الله عليهم)، هذا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحباب! وأختم بهذا الموقف الرقيق، لأنني لو جلست إلى الفجر ما انتهيت؛ لأننا نتحدث عن منهج تربوي كامل، أختم بهذا المشهد الوضيء، ففي سنن النسائي وأبي داود بسند صحيح: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أتى يوم فتح مكة بـ عبد الله بن سعد بن أبي السرح ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه، وأمر الصحابة أن يقتلوه في أي مكان وجدوه ولو كان معلقاً بأستار الكعبة.
فجاء به عثمان بن عفان فنظر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد عثمان وعبد الله بن سعد أمام عينيه وبين يديه، وإذا بـ عثمان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بايعه يا رسول الله! فغض النبي صلى الله عليه وسلم الطرف عن عبد الله بن سعد وسكت ولم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال عثمان ثانية: بايعه يا رسول الله! فلم يمد النبي صلى الله عليه وسلم يده، فقال عثمان ثالثة: بايعه يا رسول الله! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحيي من عثمان؛ لأن عثمان رجل تستحي منه الملائكة، فقال عثمان في الثالثة: بايعه يا رسول الله! فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايع عبد الله بن سعد ثم انصرف والنبي صلى الله عليه وسلم غاضب حزين، فالتفت النبي إلى أصحابه وقال: (أوما كان فيكم رجل رشيد يراني قد كففت يدي عن بيعته؛ فيقوم إليه ليقتله، فقال الصحابة: هلا أومأت إلينا بعينك يا رسول الله! فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين)، يعلمنا الصدق حتى في النظرة، لا في القول والفعل والاعتقاد فحسب، بل حتى في النظرة.(35/13)
حاجتنا إلى الرجوع إلى المنهج النبوي والاقتداء بصاحبه عليه الصلاة والسلام
أيها الأفاضل! ما أحوجنا أن نرجع من جديد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنسير على دربه، فوالله لا سعادة لنا ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا إذا عدنا من جديد إليه وسرنا على نفس الدرب الذي سار عليه، ورددنا مع السابقين الأولين الصادقين قولتهم الخالدة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
فلنفرق بين مقامي الدعوة والجهاد، فمقام الجهاد يحتاج إلى رجولة وغلظة، أما مقام الدعوة فيحتاج إلى رقة وحكمة وتواضع ولين: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أما في مقام الجهاد فقال ربنا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، فالخلط بين مقامي الدعوة والجهاد يوقعنا في حرج بالغ، فلنتحرك الآن بصدق وبهمة عالية وبإخلاص وبرجولة: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام أنت تقدر أن تفعل أي شيء فتحرك لدين الله مر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، واحمل هم هذا الدين، واشهد لدين الله في موقعك الذي أنت فيه، في موقع إنتاجك وموطن عطائك، فهذه أعظم خدمة نقدمها اليوم لدين الله، فلسنا أقل من هؤلاء الذين أبدعوا في الشرق والغرب، بل يجب على هذه الأمة أن تبدع في كل مناحي الحياة بعد أن تحقق إيمانها بالله وإيمانها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً! اللهم وكما آمنا بنبيك ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله، اللهم وأوردنا حوضه الأصفى، اللهم اسقنا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحد منا في هذه الليلة الكريمة المرجوة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في فلسطين، وأنج المسلمين المستضعفين في العراق، وأنج المسلمين المستضعفين في الشيشان، وأنج المسلمين المستضعفين في أفغانستان وفي كل مكان.
اللهم اجعل دولة قطر أمناً أماناً سخاءً رخاءً، وجميع بلاد المسلمين! اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويرمى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(35/14)
أثر الذنوب على الأمة
للذنوب آثار عظيمة على الأمم، فما نزل بلاء ولا كرب ولا شدة إلا بذنب، والذنوب هي سبب هلاك الأمم السالفة، وهي سبب حلول النقم وزوال النعم، وهي سبب في تسلط أعداء الإسلام على الأمة، والواجب علينا هو المبادرة بالتوبة حتى يرفع الله عز وجل ما بنا، والله عز وجل يفرح بتوبة عبده، إذ هو أرحم بالعبد من نفسه.(36/1)
ركاب سفينة واحدة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته.
وصل اللهم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة والأخوات! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً من الجنة منزلاً، وأسأل الله الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته ودار مقامته؛ إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله! أثر الذنوب على الأمة، هذا هو موضوع محاضرتنا هذه، وسوف ينتظم حديثي في هذا الموضوع المهم في العناصر التالية: أولاً: ركّاب سفينة واحدة.
ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي.
ثالثاً: ما المخرج؟ وأخيراً: متى سنتوب؟ فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يغفر لنا الذنوب، وأن يستر علينا العيوب، وأن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال.
أولاً: ركّاب سفينة واحدة: إن الطالحين والصالحين ركاب سفينة واحدة، فإن هلك الطالحون لطلاحهم فسيهلك معهم الصالحون، وإن غرق المفسدون فسيغرق معهم الصالحون، والله تبارك وتعالى يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فلا يتوهمن متوهم -ولو كان صالحاً- أنه سينجو إن نزلت العقوبة الجماعية، نسأل الله أن يرفع عن الأمة البلاء.
ففي صحيح البخاري وغيره من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً حتى لا نؤذي من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا جميعاً).
فكثير من المسلمين الآن يتصور أنه ما دام قد حقق الصلاح وامتثل الأمر واجتنب النهي فقد نجا، وينظر إلى المنكرات وإلى الذنوب والمعاصي التي خيمت سحبها القاتمة المظلمة الكثيفة على سماء الأمة ثم يهز كتفيه ويمضي، وكأن الأمر لا يعنيه ما دام يأكل ملء فمه، وينام ملء عينه، وظن المسكين أنه قد نجا، بل وربما يستدل على نجاته بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105].
وقديماً خشي صديق الأمة رضي الله عنه هذه السلبية القاتلة، وهذا الفهم المغلوط المقلوب للآية، فارتقى المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) وفي لفظ: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صحيح.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، وفي لفظ في الصحيح: قام النبي صلى الله عليه وسلم من نومه عندها يوماً فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم؛ إذا كثر الخبث).
والله الذي لا إله إلا هو لقد كثر الخبث، فلا ينبغي أبداً أيها الأفاضل أن تخيم على سمائنا سلبية قاتلة.
لقد صار كثير من الناس لا يعنيه أمر هذا الدين ما دام آمناً في سربه معافى في بدنه، رزقه الله قوت عمره لا قوت يومه، بل صرنا الآن إلا من رحم ربي ننظر إلى أكفان إخواننا التي تحمل على الأكتاف كل ساعة في أرض فلسطين وكأن الأمر لا يعنينا، حتى المشاعر قتلت في القلوب، وحتى الهم صرنا نبخل به، بل ربما لا يتذكر كثير من الناس الآن الواجب الذي عليه لله جل وعلا إلا إذا ذُكر في محاضرة، أو إلا إذا سمع شريطاً عابراً، فقد يسأل حينئذٍ هذا العالم أو هذا الداعية: ما الذي يجب علي أن أفعله؟ إنه أمر عجب! وكأن المسلم الصادق ما زال ينتظر أن يحدد له عالم ما يجب عليه أن يفعله، صحيح أن هذه ظاهرة صحية لا أقلل من شأنها، بل أحيي كل من يسأل، لكن الذي يدمي القلب -وهذا هو الذي يؤلمني، وهذا هو الشاهد- أن ينتظر المسلم حتى يرزقه الله عز وجل عالماً ليسأله بعد ذلك عما يجب عليه أن يبذله ويقدمه لدين الله، بل من المسلمين الآن من يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضاع الدين! لا حول ولا قوة إلا بالله! دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! بل ومنهم من يقول: دع ما لله لقيصر! وامش إلى جوار الحائط، ورب أولادك، فالفتن كثيرة، والحوائط لها آذان، انتبه لنفسك، لا تنشغل بأمر الدين، ابتعد عن المساجد، ابتعد عن المتطرفين من الملتزمين أصحاب اللحى! لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد إلى آخر هذه الكلمات التي تشل حركة وفكر من يريد أن يخطو على طريق الدين خطوات منضبطة بضوابط الشرع، فالمهزوم نفساً مشلول الفكر والحركة، وربما يُنظِّر لها بالآية الجليلة التي ذكرت، مع أن الفهم للآية مغلوط ومقلوب.
فنحن جميعاً -أيها الأحبة- نركب سفينة واحدة، وعلينا جميعاً أن نعي هذه الحقيقة، ولا أريد أن أطيل مع كل محور من محاور هذا اللقاء المهم.(36/2)
خطر الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع
ثانياً: خطر الذنوب والمعاصي: الذنوب إن انتشرت واستشرت ربما يعم العذاب والعقاب، ويهلك الصالحون مع الطالحين، ثم يبعث بعد ذلك كل واحد على نيته، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، لكن سيهلك الجميع.
فما الذي أخرج آدم من الجنة؟ وما الذي أهلك قوم نوح؟ وما الذي أهلك قوم إبراهيم؟ وما الذي أهلك قوم عاد؟ وما الذي أهلك ثمود؟ وما الذي أهلك قوم لوط؟ وما الذي أهلك فرعون وجنده؟ وما الذي أهلك الظالمين في كل زمان ومكان؟ الجواب في كلمة واحدة: إنها المعصية، إنها الذنوب على تفاوتها، ابتداءً بالشرك وانتهاءً بأقل ذنب أو معصية ترتكب في حق الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، والآيات في هذا الباب كثيرة، فلا ينزل أي بلاء إلا بذنب، ولا يرفع أي بلاء إلا بتوبة.
وتدبروا هذا الحديث الذي رواه البيهقي في السنن، والحاكم في المستدرك بسند صحيح، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، وأنا أقسم بالله أن الفاحشة قد أعلنت، بل إن من المسلمين الآن من يقضي الليل كله لمشاهدة الفاحشة، لقد دخلت صور الفاحشة غرف النوم، وقام كثير من المسلمين الليل بطوله لا بين يدي الله جل وعلا، بل لمشاهدة الأفلام الفاضحة الداعرة.
ثم والله! لقد كنت مع الشيخ محمد صفوت نور الدين -أسأل الله أن يرحمه رحمة واسعة- في أمريكا، وكنا نمشي سوياً بعد صلاة العصر قبيل المغرب إلى مركز إسلامي، فوالله الذي لا إله غيره! لقد رأينا بأعيننا شاباً يزني بفتاة على الطريق، فقلت: سبحان الله! صدق المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى.
وحين كنت في ألمانيا في زيارتي الأخيرة دخلت فتاة ألمانية لتعلن إسلامها، وأنا في كل مرة أحب أن أتعرف على سبب إسلام كل من دخل علينا في إحدى هذه المراكز ليعلن إسلامه، فقلت: يا أختاه! أود أن أتعرف على سبب دخولك في الإسلام، فقصت هذه الفتاة الألمانية التي لم تبلغ الخامسة والعشرين من عمرها قصة عجيبة، قالت: كنت في سفر في هولندا، فرأيت حلقة كبيرة من الناس، وسمعت صراخاً وتصفيقاً إلى غير ذلك، تقول: اقتربت فنظرت وسط هذه الحلقة، فوجدت -والعياذ بالله- رجلاً يزني بامرأة، والناس تصفق له! إنه مشهد بهيمي قذر، وهؤلاء ما زالوا إلى يومنا هذا يعزفون على وتر التقديس والتمجيد للحرية والديمقراطية المشئومة المزعومة، ويدَّعون أنهم أصحاب حضارة، وهي حضارة عفنة نتنة تعفنت روحها، ويفعل فيها الإنسان بالإنسان ما تخجل الوحوش الضارية أن تفعله ببعضها البعض في عالم الغابات.
تقول: فاتصلت على صديقة لي ألمانية مسلمة وقلت لها: هل يمكن أن يزنى رجل بامرأة في الإسلام وتقبل أن يراها الناس؟ قالت: أعوذ بالله! بل يحرم على الرجل أن يجامع امرأته أمام أولاده.
إنه جواب يسير جميل من امرأة ألمانية لا تحسن أن تتكلم بالدليل، ولكن كلامها منضبط، فهذه الفتاة الأولى تقول: فدخل حب الإسلام قلبي، وعلمت أنه دين العفة.
هذه قيمة ربما لا تخطر لنا على بال، نعم؛ إنه دين العفاف، إنه دين الطهارة، إنه دين النقاء، إنه دين حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم)، فقد ظهر الإيدز، وهو مرض نقص المناعة، ظهر بصورة بشعة مروعة، وظهر السيلان، وظهرت الكلاميديا، وكلها أمراض تتعلق بهذا التجاوز الواضح لحدود الله جل وعلا، بل ينفق الشرق والغرب الآن مليارات ضخمة لمحاصرة هذا المرض، لكنهم إلى الآن ما استطاعوا، مع أن النبي الصادق قد حدد المخرج من هذه الأمراض الفتاكة منذ أربعة عشر قرناً، حين دل الأمة على الطهارة، وحرم عليها الزنا.
قال صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المؤنة، وجور السلطان).
لقد وقع تطفيف المكيال والميزان من كثير من الناس، فوقعوا في الضنك والضيق وجور السلاطين، (ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً فأخذ بعض ما في أيديهم)، صلى الله على من لا ينطق عن الهوى، لقد ضاعت الأندلس، والقدس الآن في أيدي اليهود، وكذلك العراق، والشيشان، واحتلت الأرض، وأخذ الأعداء بعض ما في أيدينا، بل تحولت الأمة إلى قصعة مستباحة لأقذر وأنجس وأسفل أمم الأرض، وصدق فيها قول الصادق كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها).
فهل تذكر القصعة؟ وهل تذكر طبق الطعام الذي تقدمه كل صباح لمجموعة من الطيور أو الدواجن في بيتك؟ وهل تتصور وتتذكر هذا المشهد وأنت تقدم الطبق بعد ليل طويل، وترى الطيور تتقاذف وتتطاير من أجل أن يصيب كل طائر حظه من هذه القصعة؟ إنه تشيبه نبوي بليغ لما عليه الأمة الآن: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذٍ كثير -مليار وثلث-، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، ويقذف في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة- ورضيتم بالرزع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
قال صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل بأسهم بينهم) آه! لقد استبدلت الأمة بالعبير بعراً، وبالثريا ثرى، وبالرحيق المختوم حريقاً محرقاً مدمراً، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
قال ابن القيم في كلام نفيس قلما تقف عليه لغيره: تحكيم رسول الله في كل أمر إسلام، وعدم وجود الحرج في الصدر من حكمه مقام إيمان، والرضا بحكمه مقام إحسان.
قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36]، وقال جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52]، وقال في شأن المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60 - 61] فشعار المؤمن: حب الله ورسوله، والسمع بلا تردد، والطاعة بلا انحراف والتواء، وشعار المنافق: السمع والإعراض، والسمع والصد عن دين الله جل وعلا.
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قال الصحابة والألى تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام الغالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان بالأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والزور تلك حكومة الضلال قال جل وعلا: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
هذا هو خطر الذنوب، فوالله ما وقعنا في هذا الذل والمهانة إلا بسبب الذنوب.(36/3)
الذنوب سبب الهزيمة
يا إخوة! لقد هُزم المسلمون في أحد وقائد الميدان رسول الله، فكيف يهزم المسلمون وقائدهم المصطفى وعدوهم المشركون؟! وكيف يهزمون وهم الصحابة؟! أسئلة كثيرة، بل قالوا ذلك، ورد الله جل وعلا عليهم بهذه الآية المحكمة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] يعني: يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] أي: كيف نهزم؟ فاسمع إلى الجواب من الله، قال جل وعلا: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
ونحن دائماً نعلق الأخطاء على مشاجب خارجية، ونقول: الأعداء العلماء الحكام، ولا يفكر واحد منا أبداً في أن يفتش عن خطئه الشخصي، بل أنا أنظر إلى القذاة في عينك وأنسى العود في عيني، وأنت تنظر إلى القذاة في عيني وتنسى العود في عينك، وأنا لا أقلل من خطر العداءات الخارجية على الأمة، وإنما أود أن نعلم علم اليقين أن هذه الأعذار والتبريرات التي نبررها لهزائمنا المتلاحقة المتتالية، ولأخطائنا المتتابعة، إنما هي أعذار واهية، وتبريرات لا قدم لها ولا ساق.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53] والأمة قد غيرت.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] والأمة قد غيرت، ففي جانب العقيدة غيرت، وفي جانب العبادة غيرت، وفي جانب التشريع غيرت، وفي جانب الأخلاق غيرت، وفي جانب المعاملات والسلوك غيرت، وفي الجانب التربوي غيرت، وفي الجانب النفسي تغيرت، وفي الجانب الإعلامي غيرت، وفي الجانب الفكري غيرت، وفي كل الجوانب غيرت.
إن الله سنناً ربانية في الكون لا تتغير ولا تتبدل ولا تجامل تلك السنن أحداً من الخلق بحال، فمهما ادعى الإنسان لنفسه من مقومات المحاباة فالنعم تزول بالذنوب والمعاصي.
روى أبو نعيم في الحلية وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
وقد يسألني كثير من الشباب، ويقول: فما ردك إذاً على هؤلاء الكافرين الذين وقعوا في أبشع المعاصي والذنوب والشرك، ومع ذلك نرى أن الله قد مكن لهم، وقد وسع عليهم أرزاقهم؟ والجواب يسير، ولن أخرج الجواب من كيسي ولا من عند نفسي، إنما هو قول ربنا وقول نبينا، ونحن بفضل الله عز وجل لا نتكلم كلمة إلا بدليل من كتاب الله أو بحديث من أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدبر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه، فاعلم بأنه استدراج له من الله عز وجل، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45])، والحديث رواه أحمد في مسنده وغيره بسند صحيح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
إذاً: القضية محسومة بنص القرآن: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) كان
الجواب
{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45 - 46].(36/4)
الذنوب والمعاصي سبب هلاك الأمم
ثم انظر -يا أخي- إلى الأمم السابقة الظالمة الجائرة المذنبة العاصية ماذا صنع الله بها؛ لأننا دائماً ننسى، فماذا صنع الله بعاد الأولى؟ قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:6 - 7]، والله جل وعلا يسأل حبيبه فيقول: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:8] أي: هل تروا لهؤلاء الظالمين الأولين من باقية؟ قال الله جل وعلا: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] وهذه هي الكلمة الثانية التي ترددها عاد، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] أم لا زال عندك شك فيه؟ والله إن كثيراً من المسلمين عندهم شك في هذه المسألة إلا من رحم ربك، فبالمقارنة إلى قوة الملك تضعف كل القوى، بل تزول، فلنملأ قلوبنا بالثقة به سبحانه.
والله إن ما يعنيني في كل محاضرة هو أن تملأ القلوب بالثقة بالله بإجلال الله بعظمة الله بقدرة الله بهيبة الله بالتعرف على أسمائه الحسنى وصفاته العلا بالتعرف على اسم القوي القهار الجبار القدير العليم الخبير الحكيم، فاملأ قلبك بمعاني هذه الأسماء؛ لتعلم أن كل قوى الأرض ليست شيئاً يذكر أمام قوة رب السماء والأرض، قال عز وجل: {قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].(36/5)
كل الأمور بيد الله عز وجل
اعلم أخي! أنه لا تسود دولة ولا تزول دولة ولا يسود حاكم ولا يزول حاكم إلا بأمر من بيده الملك، فهل تتصور أن قاذفة أو صاروخاً أو قنبلة أو طائرة تسقط على شبر من الأرض بعيداً عن سمع وبصر الملك؟
الجواب
لا، قال عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فلا يوجد جبل في الأرض إلا ويعلم الله ما في وعره، وما من بحر ولا نهر على سطح الأرض إلا ويدري الله ما في قعره، ولا تحمل أنثى ولا تضع على وجه الأرض إلا بعلمه.
جاء حبر من أحبار اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إنا نجد مكتوباً عندنا في التوراة: أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، فضحك النبي حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحق، وقرأ النبي قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67])، فهذه هي مشكلتنا، وهذه هي المصيبة، أي: أننا كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] جل جلاله.
قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15] انظر إلى الجواب وانظر إلى النتيجة: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ * وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:16 - 18] اللهم اجعلنا من المؤمنين المتقين؛ لنكون أهلاً لنجاتك يا أرحم الراحمين!(36/6)
وجوب الثقة بالله جل وعلا
فلا ينبغي أن تهتز ثقتك أيها المسلم في ربك، أو أن يضعف إيمانك بربك سبحانه وتعالى، ثم تدبر قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ} [الفجر:6 - 13] انظر إلى فاء الترتيب والتعقيب التي تضمد الجراح {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:13 - 14].
والله! إننا لفي انتظار خوض العذاب من الملك لهذه الأمم الكافرة الجائرة التي قالت: من أشد منا قوة؟ والتي تنتهك الأعراض، وتدنس المقدسات والأرض.
ثم تدبر -يا أخي- قول ربك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5].
ثم في عصرنا: أين الاتحاد السوفيتي؟! يقول المفكر الشهير اشبنجلر: إن للحضارات دورات فلكية، فهي تغرب هنا لتشرق هنالك، وإن حضارة أوشكت على الشروق في أروع صورة، ألا وهي حضارة الإسلام، فهو الدين الوحيد في الأرض الذي يملك أقوى قوة روحانية نقية.
وأجمل من قوله قول ربي: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فالأيام دول، فلا ينبغي أن ينظر الناظر إلى قوة دولة ظالمة غاشمة متكبرة متجبرة على أنها هي النهاية لهذا التاريخ ولهذا الكون، فالله جل وعلا أخذ الأمم التي انحرفت عن منهجه سبحانه جميعاً، أخذهم الله عز وجل بذنوبهم ومعاصيهم وإعراضهم عن الله تبارك وتعالى.(36/7)
المخرج من حال الأمة الراهن بالأمر بالمعروف وتغيير المنكر
ثالثاً: ما المخرج؟ المخرج أنه لا يكفي صلاحك أبداً، بل يجب أن تكون صالحاً مصلحاً، ولا ينبغي أن تنظر إلى المنكرات وتهز كتفيك وتمضي وكأن الأمر لا يعنيك.
أيها الأفاضل: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في هذا الدين، وهو وظيفة الأنبياء والمرسلين، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الضلالة، وعمت الجهالة، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، فهو شرط من شروط خيرية أمة النبي محمد، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فلا ينبغي أن ترى المنكر دون أن تغيره.(36/8)
ضوابط تغيير المنكر
لكن اعلم يا أخي أن تغيير المنكر له ضوابط، فحماسك وحدك لا يكفي، وإخلاصك وحدك لا يكفي، بل لابد أن يكون حماسك وإخلاصك منضبطين بضوابط الشرع؛ حتى لا تفسد من حيث تريد الإصلاح، وحتى لا تضر من حيث تريد النفع، ففي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فالتغيير باليد له ضوابطه، فمر بالمعروف بمعروف، وانه عن المنكر بغير منكر، وقد اتفق علماء الأمة على ذلك.
قال ابن القيم لله دره: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله -وتدبروا أيها الشباب! - فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر فهو أمر بمنكر، وسعي في معصية الله ورسوله، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.
قد يرد علي شاب من شبابنا المتحمس المخلص ويقول: هذه المرحلة كانت مرحلة استضعاف.
لكن تدبر أيها الحبيب اللبيب! يقول ابن القيم: ولما فتح الله عليه مكة وصارت دار إسلام وعزم على هدم البيت الحرام ورده على قواعد إبراهيم، لم يفعل النبي ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام.
وهذا تفصيل في غاية الأهمية.
فالتغيير إذاً له ضوابط.(36/9)
التغيير بالكلمة الطيبة
ثم إن لم تستطع أن تغير هذا المنكر بيدك فبلسانك، بكلمة حلوة رقيقة عذبة.
جرب يا أخي! إذا رأيت منكراً أن تأمر بالمعروف بمعروف، وأن تنهى عن المنكر بغير منكر، فوالله الذي لا إله غيره لتجدن ثمرة ما خطرت لك على بال.
وفي إحدى الزيارات لألمانيا عرفني الإخوة هناك برجل ألماني من الدعاة، وقالوا: هذا الرجل كان يعمل ملاكماً، وأخذ بطولات في الملاكمة، ودعي هذا الرجل ليكرم في بلاد الحرمين في الرياض، يقول لي: وكان من بين الحضور أخت مسلمة تقدمت إلي بحجابها، وقدمت لي هدية، هذه الهدية عبارة عن ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الألمانية، دفعت له الهدية وخرجت، يقول: ومضى عشرون عاماً على هذه الهدية لم أفتحها، ولم أعرفها، قال: وبعد عشرين سنة جلست أرتب وأعيد كتبي في مكتبتي الخاصة، فوقعت يدي على هذا الكتاب، وتعجبت! وتذكرت السنوات الخالية، قال: وجلست على كرسي المكتب بسرعة ملفتة، وفتحت هذا الكتاب، وقدر الله أن أفتح على ترجمة سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فقرأت السورة، يقول: فارتعد جسدي، وبكت عيني، ثم عدت إلى الكتاب من أوله، فقرأت تفسير سورة الفاتحة، قال: فبكيت وخرجت مباشرة إلى المركز الإسلامي، وقلت لهم: ماذا تصنعون إن أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟ قالوا: اغتسل، فاغتسل، قالوا: انطق الشهادتين، فنطق الشهادتين.
هذا الرجل العجيب الذي دخل الإسلام للتو ما مكث إلا أياماً تعرف فيها على نزر يسير، ثم أخذ المطويات والكتب والمنشورات وأخذ منضدة، وخرج إلى ميدان عام من الميادين العامة في ألمانيا ووقف، وكان الشباب والفتيات إذا رأوا هذا الرجل وهو معروف نزلوا ليوقع لهم على الأوتجراف، فيدعوهم إلى الإسلام، ويمنحهم المطويات والمنشورات والكتب الصغيرة، يقسم الإخوة لي بالله أنه أسلم على يديه في عام واحد أكثر من مائتي رجل وامرأة، وكل هؤلاء في ميزان الأخت الفاضلة التي أهدته هذه الترجمة.
فيا أخي: غير أنت، ودع النتائج إلى الله، قل كلمة جميلة، إن لم تستطع أن تقولها بلسانك فقلها بلسان عالم مخلص أو داعية صادق؛ بشريط أو بكتاب أو بكتيب أو بمطوية أو برسالة أو بهدية أو بكلمة جميلة، فما عليك إلا أن تزرع، ودع الثمرة لله {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25] فشجر الناس منه ما يثمر في الشتاء، ومنه ما يثمر في الصيف، ومنه ما يثمر في الربيع أو الخريف، أما الشجرة الطيبة التي ضربها الله في القرآن مثلاً للكلمة الطيبة فهي لا تتأثر بصيف ولا بشتاء، ولا بربيع أو خريف، بل لا تحطمها المعاول، ولا تعصف بها الرياح الهوجاء والأعاصير الشديدة، لأنها متغلغلة في قلب الصخور، وامتدت إلى عنان السماء، إنها الكلمة الطيبة التي تتخطى الحواجز والعقبات والسدود يقيناً، فما عليك إلا أن تخرج هذه الكلمة الطيبة بأدب على منهج رسول الله، ودع النتائج بعد ذلك لله تعالى.
قال الشاعر: بين الجوانح في الأعماق سكناها فكيف تنسى ومن في الناس ينساها الأذن سامعة والروح خاشعة والعين دامعة والقلب يهواها ولم لا؛ وهي كلمة الله جل وعلا؟ ولم لا وهي كلمة الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنت لا تقول إلا قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، فغير بلسانك، وقل كلمة جميلة رقيقة رقراقة مهذبة مؤدبة، فنحن لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صلبة، إنما نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام، وفيها الطاعة والمعصية، وفيها الخير والشر، وفيها للحلال والحرام، وفيها الفجور والتقوى، وفيها الهدى والضلال، فلنكن على بصيرة بمفاتيح هذه الأنفس، والمفاتيح هي: الرحمة، والحكمة، والرقة، والأدب، والتواضع، فإن امتثلت هذا المنهج سبرت أغوار النفس، وتغلغلت إلى أعماقها، وبلَّغت من تريد ما تريد من قول الله ومن قول رسول الله.(36/10)
شروط تغيير المنكر بالقلب
فإن لم تستطع إنكار المنكر لا بيدك ولا بلسانك فبقلبك، لكن اعلم أن إنكار المنكر في القلب له شرطان: الأول: أن يرى الله من قلبك بغض هذا المنكر الذي لا تستطيع تغييره، أما أن يجلس الرجل -مثلاً- أمام فلم من الأفلام وتعرض في هذا الفلم لقطات راقصة عارية، ثم يجلس المسلم ليشاهد ويحملق بعينيه، ثم يقول وهو يحملق: أستغفر الله، أستغفر الله، فهذا كذاب في استغفاره، فهو لم يغير بيده ولا بلسانه ولا حتى بقلبه، ولا عذر له.
والله لا عذر لواحد منا، لأنك إن لم تستطع أن تغير بيدك فغير بلسانك، فإن لم تستطع أن تغير بلسانك فغير بقلبك، ولا عذر لك البتة إن لم تغير هذا المنكر بقلبك، وذلك بأن يرى الله في قلبك بغضك لهذا المنكر.
الثاني: أن تزول أنت عن مكان المنكر الذي عجزت عن إزالته بيدك وبلسانك إن استطعت، ولابد من هذا القيد من باب الأمانة: (إن استطعت)، بمعنى: قد تكون في باص وأنت على سفر، ويعرض عليك فلم لا تريد أن تنظر إليه، ولا تستطيع أن تغادر الباص، فما عليك إلا أن تغض الطرف، وما عليك إلا أن يرى الله من قلبك بغضك لهذا المنكر، ثم انشغل أنت بصورة من صور الطاعة لله جل وعلا، كالذكر أو التسبيح أو الاستغفار أو الصلاة على النبي المختار صلى الله عليه وسلم، فهذه ضوابط لابد منها أيها الأفاضل! وليتحرك كل واحد منا على قدر استطاعته، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].(36/11)
وجوب تعجيل التوبة
وأخيراً: متى سنتوب؟ وا أسفاه إن دعينا إلى التوبة وما أجبنا بعدما تعرفنا على خطر الذنوب والمعاصي! وا أسفاه إن دعينا إلى التوبة وما أجبنا! وا حسرتاه إن دعينا إلى الأوبة وما أنبنا! يا نادماً على ذنوبك أين أثر ندمك؟ آه! أين أثر ندمك؟ أين بكاؤك على زلة قدمك؟ أين بكاؤك على جرأتك على المعاصي والذنوب؟ أين حياؤك من علام الغيوب؟ قال الشاعر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب لقي الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له الفضيل: يا أخي! كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال الفضيل: إذاً: أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، يوشك أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الفضيل: يا أخي! هل تعرف معناها؟ قال: نعم، أني لله عبد، وأني إليه راجع، قال الفضيل: يا أخي! فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف بين يديه فليعرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول بين يديه فليعد للسؤال جواباً، فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال: ما هي يرحمك الله؟ قال الفضيل: اتق الله فيما بقي من عمرك يغفر الله لك ما قد مضى وما قد بقي من عمرك.
قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
قال الشاعر: أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعب الذنب بالذنب وتحطي الخطأ الجم أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم فكم تسير في السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم وصدق ربي إذ يقول: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30] يفتح سجلك، ويفتح ملفك، ويفتح كتابك، فإذا به: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32].(36/12)
فرح الله بتوبة عبده
فهيا جدد التوبة والأوبة، واعلم بأن الله سيفرح بتوبتك مهما عظم ذنبك، وهو الغني عنك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحتله بأرض فلاة، فانفلتت منه راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع بظلها، فبينما هو كذلك إذ به يرى راحلته قائمة عند رأسه، عليها طعامه وشرابه، فأراد أن يعبر عن فرحته العارمة فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح).
ففرح الله بتوبتك إليه أعظم من فرحة هذا العبد بأوبة راحلته إليه، فلمَ التسويف؟! لم التسويف؟! فما من ليلة تمر علينا إلا وربنا جل جلاله يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله؛ لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول، فيقول: أنا الملك أنا الملك! من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر.
وفي صحيح مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) وأختم بهذا الحديث الرقراق الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم رأى امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فلما نظر النبي إلى هذا المشهد الرقراق الحاني التفت إلى الصحابة وقال: (أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها)، فتدبر هذا البيان النبوي البليغ، ولذا قال أحد الصالحين: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم يا سيدي أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي العذاب، أفترضاه لي وأنت أرحم الراحمين؟!(36/13)
شروط التوبة
الندم ركن التوبة الأعظم، والبعد عن المعاصي والذنوب شرطها الثاني، والعمل الصالح والمداومة عليه، والانتقال من طاعة إلى طاعة، ومن خير إلى خير شرطها الثالث، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تفضحنا بخفي ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا.
اللهم لا تفضحنا بخفي ما اطلعت عليه من أسرارنا، ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك في خلواتنا.
اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لنا الذنوب التي تنزل البلاء.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك.
اللهم أبرم لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم إنا نعترف لك -يا سيدي- بضعفنا فارحم ضعفنا، ونعترف لك -يا سيدي- بذنوبنا فاغفر ذنوبنا، ونعترف لك -يا سيدي- بعيوبنا فاستر عيوبنا.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيبنا، وفرج كربنا، واكشف همنا، وأزل همنا، وتول أمرنا، وفك أسرنا، واختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، اللهم اختم لنا بالصالحات.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، واهد شبابنا، وأصلح أولادنا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً.
اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصر الإسلام وعز الموحدين، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم أنج المسلمين المستضعفين في كل مكان.
اللهم لا تردنا من هذا المكان المبارك إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وتجارة لن تبور، يا من إليه يلجأ الخائفون، وعليه يتوكل المتوكلون، ولعظيم فضله تبسط الأيدي ويسأل السائلون.
يا من اسمه دواء، وذكره شفاء، ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء، اللهم ارحم من رأس ماله الرجاء، وسلاحه البكاء، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم اجعل دولة قطر أمناً وأماناً سخاءً رخاءً وجميع بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة الأمن والأمان، اللهم لا تحرم هذا البلد من نعمة والأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(36/14)
الجهاد سلعة ثمنها الجنة
إن الناظر إلى حال الأمة الإسلامية اليوم يجد أنها تعيش في واقع مؤسف مرير، واقع الذل والمهانة واقع الخزي والعار واقع تسلط الأعداء واقع تشريد الأطفال وترميل النساء ووالله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن على الأمة المكلومة المحزونة، فبالأمس القريب كنا نقود العالم واليوم نقاد بالأمس نغزوا واليوم نغزى بالأمس كنا منارات هدى للحيارى والتائهين، واليوم نتسكع على موائد الفكر الغربي إنها الرزية التي ما بعدها رزية، والذل الذي ليس بعده ذل، ولا مخرج لنا ولا نجاة من هذا الواقع المؤلم إلا بالعودة إلى دين الله والجهاد في سبيله.(37/1)
إنها الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وبعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: سلعة ثمنها الجنة، هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الأغر المبارك، وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: واقع مرير.
ثانياً: شرف الجهاد وفضله.
ثالثاً: صورة مشرقة.
رابعاً: التولي كبيرة.
وأخيراً: لا عز إلا بالجهاد.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا الموضوع في هذه الآونة الحرجة من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يرزقنا الصواب والسداد والتوفيق، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه؛ إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.(37/2)
واقع مرير في حياة الأمة
أيها الأحبة: لن أطيل الحديث في تشخيص الواقع المرير الذي تحياه الأمة في هذه الأيام، فإن هذا الواقع معروف للصغير قبل الكبير، ومعروف للقاصي قبل الداني، فوالله إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لما حل بالأمة لمحزونون.
أيها الأحباب! إن الناظر إلى أمة الإسلام سيبكي دماً بدل الدمع إن كان ممن يتحرق قلبه على أحوال أمته الجريحة المسكينة، فإن الأمة قد ذلت بعد عزة، وضعفت بعد قوة، وجهلت بعد علم، وأصبحت في ذيل القافلة الإنسانية بعد أن كانت تقود القافلة كلها بالأمس القريب بجدارة واقتدار.
أصبحت الأمة اليوم تتأرجح في سيرها، بل ولا تعرف طريقها الذي يجب عليها أن تسلكه وأن تسير فيه بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب الدليل الحاذق الأرب للدروب المتشابكة في الصحراء المهلكة التي لا يهتدي للسير فيها إلا الأدلاء الأذكياء المجربون، وأصبحت الأمة الآن تتقوت على موائد الفكر الغربي بعد أن كانت الأمة بالأمس القريب منارة تهدي الحيارى والتائهين والضالين الذين أحرقهم لفح الهاجرة القاتل، وأرهقهم طول المشي في التيه والظلام.
إن كان الله جل وعلا قد وصف الأمة في القرآن بالوسطية والوسطية هي الاعتدال بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نرى الأمة الآن قد تركت منهج الوسطية وجنحت إلى الشرق الملحد تارة وإلى الغرب الكافر تارة أخرى.
وإذا كان الله جل وعلا قد وصف الأمة في القرآن بالخيرية فقد علل الله خيريتها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله جل وعلا، ولكنك ترى الأمة الآن -إلا من رحم ربك جل وعلا من أبنائها- لا تأمر بالمنكر ولا تنهى عن المعروف، بل ويشرك بالله جل وعلا على مرأى ومسمع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإذا كان الله عز وجل قد وصف الأمة في القرآن بالوحدة إلا أنك ترى الأمة الآن قد تمزق شملها، وتشتت صفها، وتقسمت إلى دول بل إلى دويلات، بل وتفككت الدويلات هي الأخرى إلى أجزاء، بل وتقسمت الأجزاء من الدويلات إلى أجزاء، ووضع الاستعمار بين هذه الدويلات والجزئيات مسماراً عفناً نتناً ألا وهو مسمار الحدود، يطرق عليه الأعداء بعنف وقوة من آن لآخر لتشتعل نار الفتن بين هذه الدويلات الصغيرة التي لا تحرك ساكناً، ولم يعد يلتفت إليها الشرق الملحد أو الغرب الكافر.
لقد تحولت الأمة الآن إلى قصعة مستباحة من أذل وأخس وأحقر أمم الأرض، أصبحت الأمة الآن قصعة مستباحة لإخوان القردة والخنازير للصرب المجرمين للملحدين الشيوعيين لعباد البقر الأنجاس.
لقد أذل الله الأمة الآن لمن كتب الله عليهم الذل والذلة والمهانة! وأنا أتساءل دوماً وكثيراً وأقول: هل رأيتم أذل ممن أذله الله للأذل؟ لا والله، ولا أريد أن أفصل في تشخيص الداء فإنه معلوم، والسؤال الآن: ما الذي أوصل الأمة إلى هذا الحال وإلى هذا الواقع المرير؟ والجواب -أيها الأحبة- في آية واحدة محكمة من كتاب الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
والله لقد غيرت الأمة وبدلت بدلت في جانب العقيدة في جانب العبادة في جانب التشريع، بل تجرأت وتحدت ربها جل وعلا، ونحت شريعة نبيها، وحكمت في الأعراض والأموال والفروج القوانين الوضعية والمناهج الأرضية من صنع المهازيل من البشر من الملحدين والشيوعيين والديمقراطيين والعلمانيين والساقطين بل والتافهين، ممن قال عنهم المصطفى في حديثه الصحيح الذي رواه أحمد وغيره: (يأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) ووالله لقد تكلم التافهون لا في أمر العوام بل في أمر دين الله جل وعلا وشريعة النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الأحبة: لقد غيرت الأمة وبدلت في كل جانب من الجوانب إلا من رحم ربك جل وعلا، وما هذا الواقع المرير الذي أراه إلا عدلاً من الله جل وعلا إذ إن الله لا يحابي أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة.
أيها الأحبة! لقد شخص النبي صلى الله عليه وسلم الداء في كلمات بسيطة، وحدد لهذا الداء الدواء، فلم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الداء والدواء لأي داعية من الدعاة ليحدده على حسب نظرته أو على حسب هواه، بل حدد الداء في حديثه الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان رضي الله عنه: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) هذا هو الداء.
ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم الداء في حديث آخر رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر وصححه الألباني وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة) والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية المحرمة ولا مجال للتفصيل في هذا البيع الآن.
قال: (إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
يوم أن حرفت الأمة الإيمان بالله ونخر الفكر الغربي في جسد الأمة، وشوهت العقيدة الصافية، ودنس صفاؤها وعكر نقاؤها، وانحرفت الأمة عن المعتقد الصحيح، وعن حقيقة الإيمان التي قال عنها علماؤنا: قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، وانطلقت الأمة لتستغيث بغير الله، ولتستعين بالشرق الملحد والغرب الكافر، ولتذبح لغير الله، ولتقدم النذور لغير الله، ولتسأل الأموات من دون الله، بل ولتنحي شريعة الله جل وعلا، ووقعت في شرك مظلم معتم إلا من رحم ربك جل وعلا، وتركت بعد ذلك الجهاد في سبيل الله، وأخلدت إلى الوحل والطين، وعاش المسئولون في هذه الأمة يعبدون العروش والكروش والقروش، وبذلوا كل ما يملكون حتى العقيدة من أجل الحفاظ على هذا الكرسي الزائل والمنصب الفاني، ومن أجل إرضاء السادة والكبراء الذين أجلسوهم على هذه الكراسي، ولعبوا بهم من وراء الكواليس كلعبة العرائس أو الدمى على مسرح يتلهى به الساقطون والسذج والرعاع.
أيها الإخوة! لما أخلدت الأمة إلى الأرض وتركت الجهاد في سبيل الله سلط الله عليها إخوان القردة والخنازير، والصرب الكفرة المجرمين، والشيوعيين الملحدين، وعبدة البقر والفئران المجرمين في كشمير، وهأنتم ترون الصورة بهذا الواقع المرير، وبهذا الظلام، نسأل الله جل وعلا أن يسعد قلوبنا وإياكم بنصرة الإسلام وعز المسلمين، و {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
أيها المسلمون! واقع مرير، ولا خروج من هذا الواقع المرير الذي تحياه الأمة الآن إلا إذا رفعت الأمة من جديد راية ذروة سنام الإسلام، راية الجهاد في سبيل الله، والله لقد تمنيت من كل قلبي أن لو أسمعت هذا الموضوع وهذه الخطبة لكل مسئول في هذه الأمة، لا أقول لمسئولينا في مصرنا -أسأل الله أن يحفظها- وإنما تمنيت أن لو أسمعت هذا لكل مسئولي هذه الأمة الذين يتعرضون الآن للذل والمهانة من قبل أعداء الله جل وعلا، ولو فطنوا إلى أن الشباب الذين أعلنت عليهم الحرب اليوم هم القوة الرادعة لأعداء الله جل وعلا لاحتضنوا هؤلاء الشباب، ولوضعوهم في القلوب، وأطبقوا عليهم العيون، فإنه إذا جد الجد وحمي الوطيس فهم أسوده.
أيها الأخيار! ها نحن نرى اليهود يتلاعبون بالأمة كلها، بل وبالعالم كله، وما أخبار المفاعل النووي في (ديمونة) من أحد ببعيد.
وها نحن نسمع الآن وزير خارجيتنا يصرح بتصريحات جريئة بل وخطيرة، ولو علم الحكام قوة هؤلاء الشباب الذين يتشوقون للجهاد في سبيل الله لوضعوا هؤلاء الشباب في القلوب ولفتحوا الباب على مصراعيه لشباب توضأ لله جل وعلا، وقام الليل يتضرع إلى الله أن يرفع الله علم الجهاد، ليقوم هؤلاء ليسدوا بصدورهم فوهات مدافع أعداء الله جل وعلا.
أيها الأحبة! لا عز لهذه الأمة إلا بالجهاد، وأنا أعلم علم اليقين أن الحديث عن الجهاد أصبح جريمة، ويقابل بتعسف شديد وباستنكار، بل وأصبح الحديث عن الجهاد تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام، لكن تمنيت أن لو فهم الحكام حقيقة الجهاد الذي أنادي به الآن، فأنا ما قصدت به التطرف؛ لأن إعلامنا العميل قد شوه الصورة فهو متخبط في قلب الحقائق وتشويه الصور، فقد شوه الإعلام صورة الجهاد، وطمس الصورة المشرقة للجهاد، وخلط بينما يسميه بالإرهاب والتطرف.
إلى آخر مسمياتهم، بل وخلط الإعلام بين هذه الصورة وبين الصورة المشرقة للجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله من الكافرين والمنافقين.
أيها الأحباب! لا بد أن يعي الحكام حقيقة الجهاد حتى لا يصبح الجهاد بعبعاً يخشونه الحكام في كل بلد من بلاد المسلمين، يخشون من مجرد سيرته أو من مجرد الحديث عنه، لأن القائمين على الإعلام قد قلبوا الحقائق وشوهوا الصور.(37/3)
شرف الجهاد وفضله
أيها الأحبة! عنصرنا الثاني من عناصر هذا اللقاء: شرف الجهاد وفضله.
أحبتي! لقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه، ونادى عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] فقام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقعد ولم ينم حتى لقي ربه جل وعلا، ثم خاطبه بعد هذه المرحلة السرية، بأن يجهر بالدعوة، والسرية والجهرية في الدعوة قائمة إلى يومنا هذا بحسب ما تقتضيه مصلحة الدعوة، وانطلق عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى الله سراً في الظلام وتحت السراديب لماذا؟ لأن للأصنام جيوشاً من الغضب، ولأن عباد الأصنام ينحر بعضهم بعضاً من أجل ناقة، فما ظنك بما سيفعلونه من أجل آلهتهم التي يذبحون لها آلاف النياق؟! وبعد ثلاث سنوات أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فقام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجهر بدعوة الله على رءوس المشركين بمكة، فصدع بأمر الله ودعا إلى الله الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، والأحمر والأسود، فأرغت قريش وأرعدت وأزبدت، ودقت طبول الحرب وأوعدت، وازداد الإيذاء واشتد البلاء، وأصاب هذا البلاء صاحب الدعوة، وابتلي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ووضع التراب على رأسه! يا شباب الصحوة! وضع التراب على رأس الحبيب محمد! ووضعت النجاسة على رأسه، وتقدم إليه مجرم ليخنق أنفاسه.
وابتلي أصحاب الحبيب وأنتم تعلمون ماذا فُعل بـ بلال وماذا فعل بـ عمار وماذا فعل بأم ياسر وماذا فعل بـ خباب وبغيرهم، وعندها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى بلاد الحبشة مرتين.
لماذا الهجرة إلى الحبشة؟ لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، ولما كثرت جراحات أصحاب النبي صلى الله من أثر التعذيب الذي لاقوه على أيدي المشركين والمجرمين في مكة؛ هاجروا إلى الحبشة، ومع ذلك، لم يأذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في القتال.
يا شباب الإسلام! ليس من الحكمة مطلقاً أن تقاتل فئة قليلة أمة طاغية عاتية جندت كل طاقاتها وإمكانياتها للصد عن سبيل الله ولمحاربة دين الله، بل وليس من فقه الدعوة ولا من الدين، إنما قد لا ينسحب هذا الحكم على بعض الأفراد، فإن الذي ندين الله به أنه على طول خط الدعوة رأينا من الأفراد من يبذل روحه لدين الله جل وعلا ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لكنني أتكلم في الجملة وبالمجموع، فليس من الحكمة أن تواجه.
وهأنذا أكرر للمرة الثالثة: ليس من الحكمة أن تواجه فئة في صورة ضعيفة لا يملكون فيها شيئاً أمة طاغية جندت كل الطاقات والإمكانيات للصد عن سبيل الله جل وعلا، وإنما في هذه الحالة تتحرك كما تحرك النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة استضعاف، وهأنذا أقول بملء فمي: نحن نعيش الآن مرحلة استضعاف، بل ومرحلة ذل.
يا إخوة! يا من تحرككم الحماسة والعاطفة فقط اعلموا أننا الآن ندفع الجزية، ولا بد من فقه مراحل الجهاد، ولا بد من النظر إلى الأمر نظرة كاملة، إذ إن العاطفة وحدها لا تكفي، وإذ إن الحماس وحده لا يكفي، وأنا أقول ذلك ووالله لا أبتغي به إلا وجه الله، فإن الحركة الإسلامية الآن في أمس الحاجة إلى هداة ودعاة مخلصين لا يجاملون الحركة على حساب منهج الله جل وعلا، إذ لا بد من فهم النصوص العامة والخاصة للربط بينها وبين المناطات الخاصة والعامة ربطاً صحيحاً حتى لا نضع النصوص في غير موضعها، أو نستشهد بالأدلة في غير محلها.
أيها الأحبة الكرام: في هذه المرحلة من الاستضعاف لم يأذن الله لنبيه ولا لأصحابه بالقتال، بل أمر الله عز وجل نبيه بقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89] تحرك أنت للدعوة جيش الأمة كلها للدعوة لدين الله! أيها الأحبة: جيشوا الأمة كلها للدعوة لدين الله جل وعلا: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:89].
وبعد مرحلة الجهر بالدعوة اشتد البلاء والإيذاء، وبلغ الإيذاء ذروته بتدبير مؤامرة حقيرة لاغتيال صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، فأمر الله نبيه بالهجرة من مكة إلى المدينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالهجرة من مكة إلى المدينة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسس للإسلام دولة بكل ما تحمله معنى كلمة دولة: قائد جيش رجال قوة أرض، وهنا بل وهنا فقط أذن الله للنبي والمسلمين معه بالقتال ولم يفرض القتال عليهم، بل أذن لهم في صد العدوان لتأمين الدعوة، فقال جل وعلا: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39 - 40] ألم أقل لكم هذه هي الجريمة القديمة الحديثة: أن تقول: لا إله إلا الله: {إلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41] أذن الله بصد العدوان بالقتال لتأمين الدعوة وحماية النفس، ولم يفرض الله القتال على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وفي السنة الثانية من الهجرة -وهذه هي المرحلة الرابعة من مراحل التشريع الجهادي- أمر الله النبي والمؤمنين معه بالقتال، وفرض الله القتال عليهم بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] وهنا أصبح القتال فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه والمؤمنين من بعده إلى أن يرث الله الأرض من عليها، ولا تصدقوا الكذابين والأفاكين والمجرمين الذين أرادوا أن يميتوا الجهاد، فإن الجهاد ما مات ولم يمت ولن يموت بإذن الله، وأسأل الله جل وعلا أن يسعدنا وإياكم برفع علم الجهاد؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولقد بين الله شرف الجهاد بعد ذلك، وحث الله المؤمنين على الجهاد فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف:10] هأنذا الآن لو قلت لحضراتكم: أيها الناس هل أدلكم على تجارة يربح فيها صاحب الألف ألفين هل أدلكم على تجارة يربح فيها صاحب المليون مليونين، لحلقت الأعين وأنصتت الآذان.
نعم.
فهذه تجارة مربحة، ولقلتم بصوت واحد: أين دلنا!! هأنذا أدلكم على تجارة أغلى من ذلك وأربح من ذلك، يقول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:10 - 13] اللهم عجل بالفتح يا رب العالمين!: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13] هل تصدقون الله رب العالمين؟! انتبهوا يا شباب الصحوة! فقد أمر الله بالإيمان قبل الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الصف:10] فأثبت لهم عقد الإيمان ابتداءً، ثم قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [الصف:10 - 11].
يا إخوة: والله الذي لا إله غيره لن نرى للإسلام دولة، ولن نرى حاكمية تطبق الشريعة إلا إذا حققنا الإيمان ابتداءً، وربينا الناس على عقيدة التوحيد بصفائها وشمولها وكمالها.
يا إخوة! الإسلام لبنة أساسه العقيدة، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم، فمحال والله أن نرى ما نحلم به إلا بمثل ما بدأ به المصطفى، وقد بدأ بالتربية بالعقيدة.
لا تتعجب أيها الشاب، ولا تقل لي: أنت تريد منا الآن أن نبدأ بالتربية على العقيدة من جديد، والأمة تضرب بالنعال؟! أقول لك بملئ فمي وأعلى صوتي: لن تجني ثمرة على الإطلاق ولو عشت ألف سنة إلا إذا ربيت من جديد على العقيدة بصفائها وشمولها، وأنت لست مسئولاً عن النتيجة، والله لن يسألك عن النتيجة، إنما سيسألك عن العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] لن يسألني الله عن نتيجة الدعوة، ولا عن نتيجة العمل، وما علي الآن إلا أن أدعو، سواءً اهتدى الناس أم لم يهتدوا، فليس هذا من شأني، بل ولا من شأن غيري، إنما هو من شأن العزيز الحميد.
لقد خاطب الله إمام الدعاة وسيد النبيين بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ} [الرعد:7] {يَا أَيُّهَا ا(37/4)
صور مشرقة من حياة الصحابة الكرام في ميادين الجهاد
عباد الله! إن شرف الجهاد عظيم, وإن فضل الجهاد كبير، ولما علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلوا أرواحهم لله جل وعلا، وإن عنصرنا الثالث: صور مشرقة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:(37/5)
أنس بن النضر
فهذا أنس بن النضر -وحديثه في الصحيحين- في غزوة أحد يسمع الخبر: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسري الفتنة والفاجعة بين الجنود كسريان النار في الهشيم، حتى وضع بعض الصحابة السلاح وأرادوا الرجوع إلى المدينة، وقالوا: ماذا نصنع بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر عليهم أنس بن النضر فأخبروه بذلك فصرخ فيهم وقال: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فرأى سعد بن معاذ فقال له: يا سعد! إني لأجد ريح الجنة، وترك أنس بن النضر سعد بن معاذ وانطلق في صفوف القتال ليقاتل محتسباً مقبلاً غير مدبر، فمن الله عليه بالشهادة، فما عرفته إلا أخته ببنانه، وبه بضع وثمانون جرحاً ما بين ضربة بسيف ورمية بسهم وطعنة برمح.(37/6)
عمير بن الحمام
وهذا عمير بن الحمام يقف إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم على أرض المعركة في بدر ليرفع النبي هذا التبليغ الكبير: (أيها الناس قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، الله أكبر! فسمع عمير بن الحمام، هذا الشاب العملاق، سمع هذا النداء من القائد الأعلى بأبي هو وأمي حيث أفاد: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير: بخ بخ! جنة عرضها السماوات والأرض، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم عميراً، فقال: يا عمير ما حملك على أن تقول بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا أني رجوت أن أكون من أهلها، فقال المصطفى: أنت من أهلها).
يا إلهي! هكذا يبشر على الفور بالجنة وهو لا زال على تراب الدنيا، والمبشر له هو المصطفى الصادق المصدوق، يقول له: (أنت من أهلها) فاطمأن عمير، وأخرج تمرات معه ليأكلها ليتقوى بها على القتال، وما أخرج تلك الكلمات إلا ليرفع بها معنوياته، فما أتوا له براقصة داعرة لترفع معنويات الجيش، بل سمع هذه الكلمات فارتفعت معنوياته كلمات الطهر والصدق، وأخرج التمرات ليأكلها ليتقوى على القتال، فأكل تمرة أو أكثر، ثم تفكر في كلام المصطفى وفي حقيقة الأمر، وقال: جنة عرضها السماوات والأرض! كأن ما بيني وبين الجنة إلا أن ألقي بهذه التمرات وأن أنقض في الصفوف لأقاتل فأقتل لأدخل الجنة، والله لئن حييت حتى آكل هذه التمرات إنها إذاً لحياة طويلة!.
أيها الاحباب! تمنيت أن لو سمع ذلك عباد العروش والقروش والكروش يعتقد أن الحياة لأكل بعض التمرات طويلة!(37/7)
حنظلة بن أبي عامر
وهذا شاب آخر في أول أيام عرسه، في ليلة أنس وعرس، يسمع النداء: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، حي على الجهاد، فينزع نفسه من بين أحضان عروسه، أو إن شئت فقل: ينزعه الإيمان من بين أحضان عروسه وينطلق مسرعاً على الفور لينال شرف الصف الأول خلف رسول الله، وتنتهي المعركة، ويرفع التقرير للحبيب محمد، يا رسول الله إننا نرى أثر ماء على أرضنا، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه فرأى أثر الماء على حنظلة، فقال النبي: اسألوا زوجته، اسألوا أهله، فرفعت زوجة حنظلة هذا التقرير العجيب وقالت: إن حنظلة لما سمع المنادي يقول: يا خيل الله اركبي! حي على الجهاد! حي على الجهاد! كان جنباً فلم يمهله الوقت ليرفع عن نفسه الجنابة، فانطلق لينال شرف الصف الأول خلف الحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقط شهيداً في ميدان القتال، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (إن الله جل وعلا قد أرسل ملائكة من السماء بماء من الجنة لتغسل حنظلة، ولترفع عنه الجنابة، ليلقى الله جل وعلا وهو طاهر).
إنهم الأبطال! إنهم الرجال الذين عرفوا حقيقة الدنيا!! اللهم إنا نشهدك أننا نحب الجهاد في سبيلك، اللهم إنا نشهدك أنا نتمنى الجهاد في سبيلك، اللهم إنا نشهدك أن لو نادى المنادي الآن: يا خيل الله اركبي حي على الجهاد لرأيت من هذا الشباب ومن هؤلاء الشيبان من هو كـ حنظلة، ومن هو كـ عمير بن الحمام، ومن هو على شاكلة خالد.
اللهم إنا نشهدك أن من شباب الأمة الآن من يتمنى أن لو سد فوهات المدافع بصدره لتكون كلمتك هي العليا!! اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد برحمتك يا أرحم الراحمين!(37/8)
عظم التولي يوم الزحف
عباد الله! لقد حرم الله جل وعلا التولي من ساحة الجهاد، بل وجعله كبيرة من الكبائر، فقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16] يبوء بغضب الله ومأواه جهنم؛ لأنه فر من ساحة الشرف والبطولة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب من علم هذه الحقيقة بذل نفسه وهو يعلم أنه سيفوز بإحدى الحسنين: الشهادة أو النصر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15 - 16] وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن التولي كبيرة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
أسأل الله أن يجعلني من: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18] وأرجئ الحديث عن العنصر الأخير إلى ما بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(37/9)
لا عزة إلا بالجهاد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة: لا عزة إلا بالجهاد، وأعلم يقيناً أنكم تعلمون ذلك، وتمنيت أن لو أسمع من لا يعلم ذلك، فأسأل الله أن يبارك بهذه الكلمة وأن يوصلها كيف شاء.
أيها المسئولون أيها الحكام؛ ها أنتم تصرحون الآن على ألسنة وزرائكم أن اليهود يتحدون العالم كله، وهأنتم توقعون على نزع السلاح النووي من منطقة القارة الأفريقية وتنادون بنزع السلاح النووي من إسرائيل، بل وحدد بمنتهى الصراحة وزير خارجيتنا وأعلن أنه لن يسمح على الإطلاق بأن تمتلك إسرائيل السلاح النووي، ويحذر من المواجهة المسلحة في المنطقة مرة أخرى، وأنتم تعرفون ما لا نعرفه نحن، فلماذا لا تفتحون صفحة جديدة مع الشباب المسلم؟ والله الذي لا إله غيره إذا جد الجد لن يفر من الميدان إلا من ترفعونهم اليوم على الرءوس وفوق الأعناق.
هل تتوقعون أن يحمل السلاح ضد اليهود وأذناب اليهود وأعداء الأمة الممثلون الساقطون الهابطون؟ هل تتوقعون أن يدافع عن الأرض والعرض والعقيدة المطربون والمطربات، واللاعبون واللاعبات؟ لا والله، فلن يدفع العدو الذي يصول الآن ويجول إلا هذا الشباب الطاهر الذي توضأ لله جل وعلا، وقام بالليل يبكي، وكاد قلبه أن يحترق وهو يرى الأمة من حوله مبعثرة، والدماء من حوله تنزف والأشلاء من حوله تتمزق، ومع ذلك فإن الطواغيت قد وضعوا في وجهه العقبات والعراقيل والسدود، بل واتهموه بأبشع التهم إن اشتاق إلى الجهاد في سبيل الله، يخرج لينصر إخوانه في أفغانستان فيتهم بالتطرف والإرهاب يذهبون إلى البوسنة فيشار إليهم بأصابع الاتهام هؤلاء تدربوا على السلاح! لماذا لا نستغل مثل هذه الطاقات في محاربة أعداء الله؟! {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
نحن لا ننادي بأعمال الفوضى مطلقاً داخل البلاد، فإننا لا نوافق على ذلك على الإطلاق، بل إنني أقول لهؤلاء: والله إننا أحرص على أمن مصر منكم، وأحرص على مصر منكم، فلماذا يتهم هؤلاء على طول الخط؟! لماذا يشار إليهم بأصابع الاتهام في كل المناسبات بل وبدون مناسبات؟ لماذا لا تفتح لهم الصفوف؟ لماذا لا يستمع إلى رأيهم؟ ما توجههم، ما هي أمنيتهم، ما هي هويتهم؟ هويتهم تحكيم الشريعة.
هل هذا إرهاب؟! هل من ينادي بأن يحكم قرآن الله، وأن تحكم شريعة رسول الله إرهابي متطرف؟! قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورموه بالإرهاب لما أبى الخنا ومضى على درب الكرامة والسخا أوكان إرهاباً جهاد نبينا أم كان حقاً بالكتاب مصدقا أتطرف إيماننا بالله في عصر تطرف بالهوى وتزندقا إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به نمدح عفلقا إن التطرف أن نبادل كافر حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه من جعل البوسنة جمراً محرقا شتان بين النهر يعذب ماؤه والبحر بالملح الأجاج تفتقا ما هو التطرف؟ ما هو الإرهاب؟ لماذا لا تفتح الصفوف لشباب الإسلام ليعدوا لمثل هذا اليوم؟ ووالله إنه لقادم، إنه لوعد الله ووعد الصادق رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى.
هذا نداء إلى حكامنا ومسئولينا: إننا لا نريد على الإطلاق فتناً أبداً، ولا نريد على الإطلاق أن تخدش لبنة في جدار من جدران مصر أبداً، إننا نواجه ذلك على طول الخط، إذ إننا نعلم يقيناً أن الدعوة إلى الله لن تثمر إلا في جو هادئ آمن مطمئن.
أيها الأحبة! إن المرحلة التي نحياها الآن تحتاج من كل فرد منا، ومن كل رجل، ومن كل شاب، ومن كل طفل، ومن كل أخت، ومن كل فتاة.
تحتاج من أن نربي أنفسنا على الأقل -وذلك أضعف الإيمان- تربية إيمانية صحيحة بشمولها وكمالها، لا نريد علماً فقط، ولا أريد أن يقعد الإخوة لطلب العلم الشرعي فقط، وإنما أريد أن نحول هذا العلم في حياتنا إلى واقع، وأن نجيش الأمة كلها دعوياً لدين الله جل وعلا؛ لنكون القاعدة الصلبة التي تحمل دين الله وتنطلق بدين الله لتنادي على الجميع بتحقيق دين الله، وحينئذ يفرح المؤمنون بنصر الله! والله أسأل أن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الإسلام وعز الموحدين! اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم ارفع علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم اقمع هل الزيغ والفساد، اللهم أقر أعيينا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين! اللهم إنا نشكو إليك خيانة الخائنين، وإشراك المنافقين، وضعف الموحدين، اللهم إنا نشكو إليك إجرام المجرمين، وخيانة المنافقين، وضعف الموحدين! اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا! اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم استر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، اللهم تول أمرنا! اللهم فك أسرنا، اللهم واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ولا قانطين ولا مضيعين ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم قيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه! اللهم قيض للأمة قائداً ربانياً يحكم الأمة بكتابك وبسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، لينصر دينك لتنصره والأمة يا رب العالمين! اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، اللهم وإن كان الطواغيت قد منعونا من الجهاد فإنا نشهدك أننا نحدث أنفسنا بالصبر والجهاد في سبيلك! اللهم واختم لنا بالشهادة ولا تحرمنا الزيادة، اللهم وأدخلنا الجنة ولا تحرمنا الزيادة! اللهم احفظ شباب الأمة! اللهم أصلح حكامنا، اللهم اهد حكامنا، اللهم اهد حكامنا، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً! اللهم ردهم إلى القرآن رداً جميلاً، اللهم ردهم إلى السنة رداً جميلاً، اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً، اللهم ارزق علماءنا الصدق والإخلاص، اللهم جنب علماءنا الرياء والنفاق، اللهم جنب علماءنا الرياء والنفاق، اللهم ارزق علماءنا الصدق والإخلاص، واجمع كلمتهم يا رب العالمين! اللهم اجمع شمل الأمة، اللهم وحد صفها، اللهم لا تمزق شملها، اللهم اجمع كلمتها يا رب العالمين، اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك! اللهم أكرمنا ولا تهنا وكن لنا ولا تكن علينا! اللهم من أرادنا والإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا والإسلام بسوء فأشغله بنفسه ودمره كما دمرت عاداً وثمود، حسبنا الله ونعم الوكيل من كل ظالم يمكر بنا! اللهم إنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا! اللهم فك أسر إخواننا المأسورين، اللهم فك أسر شيوخنا المسجونين، اللهم فك أسر شيوخنا المسجونين، اللهم فك أسر دعاتنا المأسورين، اللهم فك أسر دعاتنا المأسورين، اللهم اربط على قلوبهم يا أرحم الراحمين، اللهم رب أولادهم يا رب العالمين، اللهم رب أولادهم يا رب العالمين، اللهم رب أولادهم يا رب العالمين، اللهم احفظنا وإياهم بحفظك، واكلأنا وإياهم بعنايتك ورعايتك! اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم اجعل بلدنا مصر واحة للأمن والأمان! اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام! اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين! أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه برآء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى بي في جهنم.
والحمد لله رب العالمين.(37/10)
خطورة الكلمة
للكلمة أثر عظيم في الخير أو الشر، فبالكلمة يرضى الله عز وجل عن العبد، حتى تبلغه من ذي العرش رضواناً وبها يسخط الله عز وجل عليه، فيتهاوى بها في دركات النار، فيجب على المسلم أن يحذر من لسانه، وألا يتكلم إلا بما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة.(38/1)
تأكيد الإسلام على خطورة الكلمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدَاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، الحمد لله الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره، ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى إلا نعبد إلا إياه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدَّى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته وإمامته، وصلِّ اللهم وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقي إليها، وزكَّى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله.
أحبائي يا ملء الفؤاد تحيةً تجوز إليكم كل سفحٍ وعائقِ لقد شدني شوق إليكم مكلل بالحب والتقدير والدعاء المشفقِ وأرَّقني في المُظلِمات عليكمُ تكالب أعداء سعوا بالبوائقِ أردتم رضا الرحمن قلباً وقالباً وما أرادوا إلا حقير المآزقِ فسدد الله على درب الحق خطاكمُ وجنبكم فيه خفي المزالقِ مرحباً بأحبابي! مرحباً بأصحابي أوسمة السنة والشرف! طبتم جميعاً، وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً.
واسمحوا لي أن أخص بالتحية صانعة الأجيال، ومربية الرجال، التي تربعت طيلة القرون الماضية على عرش حيائها، تهز المهد بيمينها، وتزلزل عروش الكفر بشمالها، فمرحباً مرحباً بكِ -يا صاحبة النقاب- عهد غربة الإسلام الثانية! يا درةً حُفظت في الأمس غاليةً واليوم يبغونها للهو واللعب يا قرةً قد أرادوا جَعْلها أمَداً غريبة العقل غريبة النسب هل يستوي مَن رسولُ الله قائدُه دوماً وآخرُ هاديه أبو لهب وأين مَن كانت الزهراء أسوتُها ممن تخطت خطى حمالة الحطب فلا تبالي يا صاحبة النقاب! لا تبالي يا أختاه! فلا تبالي بما يُلقون من شُبَهٍِ وعندك الشرع إن تدعيه يستجب سليه مَن أنا لمننسبي من أهلي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكاني في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يُحجَب ولم يغِب فاستمسكي بعرى الإيمان واعتزي وصابري واصبري لله واحتسبي حياكِ الله يا صاحبة النقاب! وحياكم الله يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! يا أصحاب اللحى! أسأل الله جل وعلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته؛ إنه ولي ذلك ومولاه، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120].
(خطورة الكلمة) هذا هو عنوان محاضرتنا، فأعيروني القلوب والأسماع؛ فإن هذا الموضوع في هذه الأيام بالذات من الأهمية بمكان، لا سيما ونحن نشهد الآن حرب الكلمة بكل أشكالها وصورها، مقروءة ومسموعة ومرئية، بل ومرسومة.
أيها الأحبة! إن ترك الألسنة تُلقي التهم جُزافاً بدون بينة أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقت شاء، ثم يمضي آمناً مطمئناً ليصبح نجماً تلفزيونياً بارعاً تصور صوره، وتترجم كلماته! وبعدها تصبح الجماعة وتمسي وأعراضها مجرَّحة، وسمعتها ملوثة، وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام، وهذه حالة من القلق والشك والريبة لا تطاق.
ومن ثم أكد الإسلام على خطورة الكلمة، فبكلمة -أيها المسلم الحبيب- تدخل دين الله، وبكلمة تخرج من دين الله، وبكلمة تنال رضوان الله، وبكلمة تنال سخط الله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ للبخاري أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم).(38/2)
طعن المنافقين في الصالحين
هناك من يجيد الكلمة، ويجيد التمثيل، بل ربما يجيد العبرة؛ ليقال له على شاشات الشيطان الأكبر الموسوم بالتلفاز: إنك رجل عاطفي رقيق! ولا ينبئك عن هذا الصنف الخبيث مثل خبير، يقول جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق اللَّهَ} [البقرة:204 - 206] فاتق الله، ولا تحارب الله ورسوله! اتق الله ولا تصد عن سبيل الله! فاتق الله ولا تقل: تحت النقاب دعارة! فإن أول من لبست النقاب هن زوجات النبي الطاهرات، اتق الله! ولا تحارب الله ورسوله بحجة أنك تحارب الإرهاب، وأنك تريد أن تقضي على التطرف! فما هو الإرهاب؟ وما هو التطرف؟ قالوا تطرف جيلنا لما سما قدراً وأعطى للطهارة موثقا ورمَوه بالإرهاب حين أبى الخنا ومضى على درب الكرامة وارتقى أوَكان إرهاباً جهادُ نبينا أم كان حقاً بالكتاب مُصَدَّقا أتَطَرُّفٌ إيماننا بالله في عصر تطرف في الهوى وتزندقا؟! إن التطرف أن نذم محمداً والمقتدين به وأن نمدح عفلقا إن التطرف أن نرى من قومنا مَن صانَعَ الكفر اللئيم وأطرقا إن التطرف أن نبادل كافراً حباً ونمنحه الولاء محققا إن التطرف وصمة في وجه مَن حوَّلوا البوسنة رماداً محرقا شتان بين النهر يعذُب ماؤه والبحر في الملح الأجاج تمزقا! اتق الله ولا تعمِّم الأحكام! واتق الله ولا تشوِّه الصورة بكاملها! واتق الله ولا تلطِّخ السمعة بأسرها! اتق الله ولا تجرِّح الكرامة كلها! هل أصبح الدعاة إلى الله والإسلاميون مِن خلفِهم بلا استثناء وبدون تفرقة هم المِشْجَب الذي تُعَلَّق عليه كل الأخطاء؛ من ظلم سياسي، وفساد اجتماعي، وتدهور أخلاقي، وفساد إعلامي وعلمي؟! هل أصبح هؤلاء سر تأخر الأمة، وسبب أزمتها، وسبب تأخرها عن ركب الأمم المتقدمة؟! سبحان ربي العظيم! سبحان رب العظيم! اتق الله -يا عبد الله- ولا تحارب الله ورسوله! اتق الله ولا تضع الحديد والنار أمام دين الله جل وعلا، وأمام المتمسكين بسنة الحبيب رسول الله! اتق الله واعلم بأنك ستُعرض بين يدي الله جل وعلا! ولا تظنن أنك ستقف بين يدي محكمة عسكرية مزوِّرة أو محكمة مدنية تقبل الرشوة، وإنما ستُعرض وستقف بين يدي ملك الملوك جل وعلا.
فتذكر يا من تعبد الكرسي الزائل! ويا من تعبد المنصب الفاني! ويا من تعبد القلم السيال في النفاق! اتق الله واعلم أنك ستقف غداً بين يدي الله جل وعلا! فتذكر يا مسكين! وإياك وأن تغتر! تذكر وقوفك يوم العرض بين يدي الله عز وجل، فأين الجاه؟! وأين الوجاهة؟! وأين المال؟! وأين السلطان؟! وأين الجريدة؟! وأين الصحف؟! وأين الإعلام؟! وأين الوزارة؟! وأين الإمارة؟! وأين كل شيء؟! لقد ضاع كل شيء! قال سبحانه عن الظالم أنه يقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظٍ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا اقرأ كتابك يا من حاربت الله! اقرأ كتابك يا من حاربت الأطهار! اقرأ كتابك يا من حاربت الأشراف! اقرأ كتابك يا من اتهمت الصالحات! اقرأ كتابك يا من اتهمت القانتات! فلما قرأتَ ولم تنكر قراءته وأقررتَ إقرار مَن عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا فتذكر -يا علماني! يا من حاربت الله ورسوله! - أن أمام عينيك وبين يديك باب التوبة وباب الأمل، فإن باب التوبة لا يُغلَق أمام أحد البتة ما دام قد جاء تائباً إلى الله، منيباً إلى مولاه، فاحترم قلمك، واحترم فكرك، واحترم عقلك، واحترم صحيفتك، واحترم مجلتك، واحترم قُرّاءك، واكتب ما يرضي الله وما يرضي رسول الله، وإن كانت لا هذه ولا تلك فاكتب الذي يرضي العقل الحر الأبي، والقلم المنصف الهادئ.
أهذا ما تريدونه؟! وهل هذا حوار أم إشعال للنار؟! قرأتُ على صفحات صفراء الدمن بالحرف الواحد لأحد هؤلاء المرجفين يقول: بعض الملتحين الجدد تذكرك أشكالهم بالصحابة، وبعضهم يذكرونك بكفار قريش!! وقال آخر: أحذركم من الذي يواظب على الصلوات الخمس، وهو يغتسل من جنابة الزنا في حمام المسجد!! هل هذا حوار أم إشعال للنار؟! وهل هذا فكر أم سب وقذف؟! نحن نريد المناقشة، ونريد الحوار الهادئ الذي تنادون به، ونريد العقل والمنطق، فإن أمن البلد لا يهم طائفة من الناس بعينها، إنما يهم كل مسلم ومسلمة؛ لأننا على يقين أنه كلما كان الأمن مستتباً والأمر مستقراً أثمرت الدعوة إلى الله جل وعلا، ولا تظنوا أن البلد يقتصر على طائفة دون طائفة، كلا! والله! قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] أي: إن لم يتب إلى الله، وإن لم يرجع إلى الله جل وعلا.(38/3)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من خطر اللسان
أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل بوصيته الخالدة التي رواها الإمام الترمذي بسند حسن صحيح وفيها: أنه قال لـ معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا.
فقال معاذ: أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!).
فبكلمة تُشْعَل نار الفتن والحروب! وبكلمة خُرِّبت البيوت، وتألمت القلوب، وبكت العيون! بكلمة سُطِّرت في تقريرٍ أسود مِن رجل لا يتقي الله ولا يعبد إلا كرسياً زائلاً ولا يعبد إلا منصباً فانياً خُرِّبت البيوت، وجُرِّحت القلوب، وبكت العيون، وتألمت النفوس! وبكلمة فُرِّق بين زوجين، وبكلمة فُرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الوالد وولده، وبين الولد ووالده! كل ذلك بسبب كلمة أيها الأحباب.
إن الكلمة أمرها خطير في دين الله، إن أمانة الكلمة -يا من حَمَّلك الله أمانة الكلمة- أمر عظيم.
يا أيها المسئول! ويا من حَمَّلك الله أمانة الإعلام! ويا من منَّ الله عليك بقلم تكتب به! اتق الله! ويا من حَمَّلك والله أمانة التربية! اتق الله! واعلم أنك مسئول بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، وأنك مسئول عن كل كلمة سطرها قلمك، وستُسأل هل أردت رضوان الله ورضوان رسول الله أم أردت الدنيا وزينتها ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ فاتق الله واعلم أن كل كلمة تتلفظ بها قد سُطِّرت عليك في كتاب عند ربي {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52].
يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18].
وقال جل وعلا: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً} [الإسراء:13 - 14].
وقال جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً} [الإسراء:36].
فستُسأل بين يدي الله عن كل كلمة.
وإنَّ أخطر ما ينبغي أن أحذر منه أن هؤلاء المرجفين والمنافقين الذين أعلنوا الحرب الضروس على الإسلام والمسلمين، وهم يملكون أحدث أبواق الدعاية؛ إن أخطر ما أحذر منه أن بعض الطيبين قد رددوا هذه الكلمات الخطيرة التي لو مزجت -والله- بماء البحار لمزجتها! فلا ينبغي لهم أن يرددوا هذه الكلمات التي نطق بها أهل الإرجاف.(38/4)
ترويج المنافقين لحادثة الإفك
إذا أردتَ -أيها الحبيب- أن تتعرف على خطورة الكلمة بحق فاعلم أنه بسبب كلمات قليلة كاذبة طيَّرها رأس النفاق، وتلقفتها أبواق الدعاية، بثت هذه الكلمات لتنال من عرض أطهر قائد، وأشرف مُرَبٍّ عَرَفَته الدنيا، لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! وهل اتهم الحبيب في عرضه؟!
الجواب
نعم، بسبب كلمات خبيثة طيَّرها منافق، وتلقفتها أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، تطايرت هذه الكلمات لتنال من أشرف وأطهر عرض، ألا وهو عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن وقع سهمها خرجت معه)، وفي غزوة بني المصطلق ضرب النبي القرعة بين نسائه فوقع السهم على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت عائشة مع الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
تقول عائشة: (وكنت أُحْمَل في هودجي، وأُنْزَل فيه، وكان هذا بعد نزول آية الحجاب).
والهودج هو: محملٌ أو رحلٌ يوضع على ظهر البعير لتركب فيه المرأة؛ ليكون ستراً لها، فكانت عائشة بعد نزول الحجاب تركب في هذا الهودج، ويُنْزَل هذا الهودج وهي فيه.
فلما انتهى رسول الله من غزوِه وقَفَل -أي: عاد-، وقرب من المدينة، وقف الجيش في مكان، وأرادت هذه الزهرة التي نشأت في بستان الحياء أن تقضي حاجتها، فانطلقت عائشة بعيداً عن أعين الجيش لقضاء حاجتها، فلما عادت إلى هودجها ومكانها التمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت لتبحث عن عقدها في موضع قضاء شأنها، فأخرها البحث، فعادت مرة أخرى فلم تجد بموضع الجيش من داعٍ ولا مجيب! فجلست عائشة رضي الله عنها في موضعها، فغلبتها عينها فنامت، وهي تعتقد أن القوم إذا فقدوها سيرجعون إليها مرةً أخرى، وكان من وراء الجيش صفوان بن المعطل السلمي رضوان الله عليه، فاقترب صفوان فرأى سواد إنسان نائم، فعرفها فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ عائشة وقد كان يراها قبل نزول آية الحجاب.
تقول عائشة: (فاستيقظتُ من نومي على استرجاعه -أي: على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ راحلته فركبتُها، ووالله! ما سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، ثم انطلق يقود بي الراحلة، فأدركنا الجيش وقد نزلوا موغلين في نحر الظهيرة -أي: في وقت شدة الحر- فهلك في شأني مَن هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول.
وفي بعض الروايات في غير الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: عائشة.
قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان.
فقال الخبيث المجرم -وما أكثرهم اليوم-: زوج نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقودها؟! والله! ما نجت منه، وما نجا منها! فقال قولة عفنة خبيثة شريرة، وتلقفت هذه الكلمات أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، وانطلق المنافقون والمرجفون يرددون هذه الكلمات؛ لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
رُحماك رحماك يا ألله! رسول الله يُتَّهم في عرضه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين؟! رسول الله يُتَّهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته؟! فيا أيها الدعاة! ويا أيها الشباب! هذا رسولكم يُبتلى هذا رسولكم يُمتحن هذا رسولكم تُصَب الابتلاءات على رأسه يُتَّهم في عرضه يُتَّهم في شرفه يوضع التراب على رأسه يوضع سلى الجزور على ظهره، وبالرغم من ذلك ما قال: يا رب! دعوتُ الناس فلم يستجب لي أحد! وما قال: يا رب! لِمَ تحكم الطواغيت وتمكنهم من رقابنا؟! ولِمَ تحكم الطواغيت وتمكنهم من ظهور الموحدين؟! فإن هذه نغمة أراها تتردد الآن على ألسنة بعض أحبابنا من شبابنا المتحمس الذي اشتد عليه الإيذاء، وكثرت عليه الفتن والمحن، وهذا سوء أدب مع الله يا أخيار! لأن الله جل وعلا يقول عن نفسه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ورب الكعبة! إنه ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله جل وعلا، فلا تتعجلوا النتائج، ولا تسيئوا الأدب مع ربكم جل وعلا، واعلموا أن الحال كما قال عز وجل: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة عظيمة ذات أعباء، قال عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] وليس مثلهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ} [البقرة:214] مَن القائل؟ {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
فرسول الله ابتُلي واتُّهم في عرضه وفي شرفه؛ وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته!! وهاهي عائشة رضوان الله عليها تلكم الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسُقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تُرمى في أشرف وأعز ما تعتز به كل فتاة شريفة تُرمى في عرضها تُرمى في شرفها، والمرأة تُتَّهم في كل شيء إذا اتهمت في عرضها وشرفها.
وهذا هو صديق الأمة الأكبر، ذلكم الرجل الرقيق الوديع الحليم الذي بذل ماله وروحه، بل وبذل أولاده لدين الله؛ يُتَّهم بهذا الاتهام الخطير المريب، وفيمن يتهم؟! يتهم في عائشة في زوج رسوله ونبيه ومصطفاه! وهذا هو صفوان بن المعطل يُتَّهم في عقيدته وفي دينه يوم أن يُرمى بخيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم! إنه الابتلاء أيها الأحباب! وأنا لا أريد أن أتوقف مع لفظ الحديث بطوله، وإنما أريد أن أتوقف مع محل الشاهد فقط: تقول عائشة رضوان الله عليها: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لا أعلم شيئاً عن قول أهل الإفك، إلا أنه يريبني أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنتُ أرى حينما أشتكي، بل كان يدخل رسول الله عليّ ويقول: (كيف تيكم؟! ثم ينصرف) فخرجت ذات يوم لقضاء حاجتها مع أم مسطح، فأخبرتها بقول أهل الإفك، فازدادت مرضاً على مرضها، فعاد إليها الرسول يوماً فقالت: أتأذن لي -يا رسول الله- أن أذهب إلى أبَوَي؟ تقول: وأنا أريد أن أتحقق الخبر من قبلهما، فأذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
الشاهد -أيها الأحباب- أن رسول الله ذهب يوماً لزيارة عائشة، فسلم وجلس إلى جوارها، وكانت امرأةٌ من الأنصار قد جلست إلى جوارها تبكي لبكائها، فتشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم نظر إلى عائشة وقال: (يا عائشة! إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله عزَّ وجل، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه).
لا إله إلا الله! كلمات تهدهد الحجارة، وتفتت الكبد! عائشة تسمع هذا من رسولها ومن حبيبها وزوجها صلى الله عليه وآله وسلم! فلما سمعت عائشة هذه الكلمات جف الدمع في مقلتيها، ونظرت إلى أبيها صديق الأمة الأكبر وهي تريد أن يرد أبوها عنها هذا الاتهام، وهذه الكلمات المزلزلة فقالت: (يا أبت! أجب عني رسول الله، فنظر إليها الصديق -الذي هدهد الألم قلبه، وعصر الإفك فؤاده- نظر إليها نظرة استعطاف وهو يقول: (والله! يا ابنتي! ما أجد ما أقوله لرسول الله) فنظرت البنت المسكينة إلى أمها وقالت: (يا أماه! أجيبي عني رسول الله) فقالت الأم المسكينة -التي عصر الألم كبدها وفؤادها-: (والله! يا بنيتي! ما أجد ما أقول لرسول الله) فبكت عائشة رضي الله عنها، وقالت: والله! ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]) فصبر جميل يا صويحبات النقاب! والله المستعان على ما يصف المرجفون! فصبر جميل يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! والله المستعان على ما يصف المنافقون! تقول عائشة: ({فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18]، واضطجعت في فراشها وهي تقول: والله! إني لَبريئة، وإن الله مبرئي ببراءة؛ ولكني ما ظننتُ أن يُنزل الله في شأني وحياً يُتلى، فلَشأني في نفسي كان أحقر من أن يُنزل الله فيَّ قرآناً يُتلى؛ ولكني كنتُ أرجو أن يرى رسول الله رؤيا في نومه يبرِّئني الله فيها، فوالله! ما رام رسول الله مجلسه؛ وإذا بالوحي يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الوحي إذا نزل عليه عرف الناس منه ذلك من شدة ما يتنزَّل عليه، وصمتت الألسنة، وتوقفت الكلمات، وتعلقت الأبصار برسول الله، وانتهى الوحي، وسُرِّي عن الحبيب، فسُرِّي عنه وهو يضحك، فالتفت إلى عائشة وهو يقول: (يا عائشة! أبشري، فلقد برأك الله من فوق سبع سماوات) فقامت أمها في فرح وسعادة وسرور وقالت لابنتها: (قومي يا عائشة! -أي: قومي إلى رسول الله- فاحمدي، واشكري رسول الله) فقالت عائشة: (لا، والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد رسول الله، بل لا أحمد إلا الله عزَّ وجل الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات) وتلا النبي صلى الله عليه وآله(38/5)
فضل الكلمة الطيبة
في مقابل الكلمة الخطيرة الشريرة هناك الكلمة الطيبة هناك الكلمة المنيرة هناك الكلمة الصالحة التي تخدم دين الله، والتي ترد وتذب عن عرض الطيبين والطيبات، فلِمَ لا تكون -أيها الحبيب- من أصحاب هذه الكلمة الطيبة؟ أيها المسلم! أيها المسئول في الإعلام! أيها الصحفي! أيها السائق للسيارة! أيها المسلم في مصنعه! أيها المسلم في متجره! أيها المسلم في بقالته! أيها المسلم في الشارع أيتها المسلمة في كل مكان! لِمَ لا تكونون من أصحاب الكلمة الطيبة التي تدافع عن دين الله، وتدعو إليه، وتنافح عن أعراض الطيبين والطيبات؟ لماذا لا نتاجر بهذه الكلمة الطيبة مع رب الأرض والسماوات؟ إن الكلمة الطيبة صدقة، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق! فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة؛ وإن الرجل ليصدُق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقاً، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور؛ وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذاباً) والحديث رواه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
الكلمة الطيبة ضرب الله لها مثلاً في قرآنه بالشجرة الطيبة فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25].
أيها الأحباب! إن من شجر الناس ما يثمر في الصيف، ومن شجر الناس ما يثمر في الشتاء؛ ولكن الشجرة الطيبة التي ضربها الله في القرآن مثلاً للكلمة الطيبة شجرة لا تتأثر بالمناخ؛ فلا تتأثر بشتاء أو بصيف، وإنما تؤتي ثمارَها وأُكُلَها كل حين بإذن ربها، فهي شجرة مباركة عميقة الجذور، تتغلغل في أعماق التربة وقلب الصخور، إنها شجرة قائمة باسقة مثمرة؛ لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها الرياح، ولا تحطمها معاول الهدم والبطش والظلم والطغيان، ذلك هو مَثَل الكلمة الطيبة، تلك الكلمة التي لا تمنعها الحواجز، ولا تحجبها السدود، ولا تصدها العوائق والعقبات.(38/6)
أثر الكلمة الطيبة في إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه
أيها الحبيب الكريم! هذا هو الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس رضي الله عنه وأرضاه، يأتي إلى مكة -شرفها الله- ورحى الصراع دائرة على أشُدها بين المشركين وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المشركون والصناديد يحولون بين الناس وبين دعوة الحق، فذهبوا إلى الطفيل وحذروه، وقالوا له: إياك وأن تستمع إلى كلمة من محمد بن عبد الله؛ فإن كلامه كالسحر يفرق بين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوج وزوجه، فنحذرك على مكانتك وشرفك وسيادتك في قومك، فاحذر أن تسمع كلمة واحدة من محمد بن عبد الله، وظلوا يحذرون الطفيل، حتى عزم على ألا يستمع إلى كلمة واحدة من رسول الله، فلما أراد أن يذهب إلى البيت الحرام ملأ أذنيه قطناً؛ لكي لا تصل كلمةٌ إلى الأذن؛ لكن هيهات هيهات! فإن الكلمة الطيبة لا تحجبها السدود، ولا تمنعها الحواجز، ولا تصدها العقبات والعراقيل، يقول الطفيل: (فذهبت إلى الكعبة، فرأيتني قريباً من محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأبى الله إلا أن يُسمعني بعض ما يقول محمد) سبحان الله! أيها الحبيب! لك أن تتخيل القرآن الذي قال الله فيه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] ولك أن تتخيل إذا قرأ هذا القرآنَ رسولُ الله، والله لقد خشي المشركون على أنفسهم من سماعه كما قال عز وجل عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] هذه وصيتهم لبعضهم البعض؛ لأنهم خافوا على أنفسهم من سماع القرآن؛ لأن القرآن يصفع الكِبر في قلوبهم وعقولهم، ويخاطب أعماق فطرتهم، ويمس الوجدان، ويحرك القلب الحي السليم، بل قد تعجبون أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في السنة الخامسة من البعثة في مكة إلى بيت الله الحرام، وقام النبي يصلي ويقرأ القرآن على أسماع المشركين، فصمتت الألسنة، وانتبهت وتيقظت الأسماع، وتعلقت الأبصار، وأنصتوا لقراءة رسول الله، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أسماعهم سورة النجم، وفي أواخر السورة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوارع تطير لها القلوب، قرأ قوله تعالى: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62]، وخر النبي ساجداً لله، وخر المشركون من خلفه سجّداً لله، والحديث رواه البخاري في كتاب التفسير وعنون له بعنوان طيب، ورحم الله من قال: (فقه البخاري في تراجمه) نعم؛ لقد فقه الإمام رحمه الله هذا الحديث، فعنون له بقوله: (باب: سجود المسلمين مع المشركين).
وروى الحديث مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سجد رسول الله بسورة النجم -قرأ السجدة وسجد- فسجد المشركون والمسلمون، والجن والإنس).
أيها الحبيب! أبى الله إلا أن يُسمع الطفيل كلاماً من كلام الحق، فقال لنفسه: ثكلتك أمك يا طفيل! إنك رجل لبيب شاعر، فلماذا لا تسمع من هذا الرجل؟! فسمع الطفيل رسول الله، ثم قال: (اعرض عليَّ أمرك.
فعرض النبي عليه الإسلامَ، فقال الطفيل: امدد يدك لأبايعك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله) كلمة الحق لا تمنعها السدود، أوصلها الله جل وعلا إليه.(38/7)
قصة عمير بن سعد مع الجلاس بن سويد
لنتعلم هذا الدرس العجيب الغريب الكبير من صبي ما جاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً؛ لكن هذا الصبي عرف أمانة الكلمة، وعرف خطورة الكلمة في آن واحد، إنه عمير بن سعد رضي الله عنه وأرضاه، ذلكم الفتى الذي توفي أبوه فتزوجت أمه برجل ثري يقال له: الجلاس بن سويد، وفي السنة التاسعة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يبذلوا وأن ينفقوا لإعداد الجيش، فانطلق المسلمون يصورون أروع صور البذل والإنفاق والعطاء، حتى بكى الكثير؛ لأنه لم يجد ما ينفقه لدين الله وفي سبيل الله جل وعلا، وعاد الفتى الصغير ليقص على أسماع الجلاس ما رأى وما سمع، فقال الجلاس كلمة خطيرة تخرجه من الإسلام من أوسع أبوابه، وتدخله الكفر من أوسع الأبواب، قال الجلاس لـ عمير: إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه فنحن -والله! - أشر من الحمير! فاحتقن الدم في وجه هذا الفتى البار الذي وزن الكلمة بفهم دقيق ووعي عميق، وهو الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، ونظر إلى الجلاس بن سويد وقال: (يا جلاس! والله! ما كان أحد على ظهر الأرض أحب إليَّ بعد رسول الله منك، ولقد قلتَ الآن كلمة إن قلتُها فضحتُك، وإن أخفيتُها خنتُ أمانتي، وأهلكتُ نفسي وديني، فكن على بينة من أمرك، فإني عازم على أن أمضي إلى رسول الله لأخبره بما سمعتُ)، وانطلق الفتى المؤمن البار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليقص عليه ما سمع من الجلاس بن سويد؛ ولكن رسول الله لم يتعجل؛ لأنه هو الذي نزل عليه قول ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6]، فأجلس النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد، وأرسل إلى الجلاس بن سويد، فجاء الجلاس، فحيا رسولَ الله وجلس، فقال له النبي: (ما هذه المقالة التي بلغتنا عنك؟ وأخبره بما قال عمير) فقال: كذب، -والله- يا رسول الله! والله! ما قلتُ هذا، والله! لقد كذب علي عمير، والتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير فرأى الدم قد احتقن في وجهه مرةً أخرى، وانهالت الدموع مدراراً على تلك الوجنتين الرقيقتين، فرفع الفتى رأسه إلى السماء ليناجي ربه جل وعلا وقال: (اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمتُ به) أيُّ يقين؟! وأيُّ ثقة؟! ويستجيب الله جل وعلا له؛ فإن الله يسمع ويرى، يستجيب الله دعوة هذا الفتى البار دعوة هذا الفتى الصادق، فينزل الوحي على رسول الله، وتصمت الكلمات، وتحبس الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسُرِّي عن النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتلو قول الله جل وعلا: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74]؛ فيصرخ الجلاس وهو يستمع إلى هذه الآية الكريمة ويقول: صدق عمير يا رسول الله! وكذبتُ أنا، ويلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمير بن سعد ليفرك أذنيه برقة ولطف وحنان ويقول له: (وفَّتْ أذنُك ما سمعت، وصدَّقك ربُّك يا عمير!).
إنها أمانة الكلمة، والقصة -أيها الأحباب- أوردها الإمام السيوطي في (الدر المنثور) وعزاها إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم.(38/8)
الجهاد بالكلمة
أيها الحبيب الكريم! هذه هي خطورة الكلمة، وهذه هي الكلمة الشريرة، وهذه هي الكلمة الطيبة المنيرة، فتحرك بالكلمة الطيبة من الآن إلى الدعوة إلى الله، وإلى دين الله جل وعلا.
أيها الشباب! إن أهل الباطل الآن قد تحركوا بكل ما يملكون بباطلهم، وما زال أهل الحق متفرقين متناحرين متطاحنين.
فيا شباب الصحوة! ويا أيها الإخوة الأحباب الكرام! انبذوا الفُرقة، وانبذوا العصبية البغيضة للجماعات وللشيوخ وللمناهج، اعرفوا الحق تعرفوا أهله، فإن الحق لا يُعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يُعرفون بالحق.
فهيا أيها الأحباب! إليكم هذه النصائح من أخ يحبكم جميعاً في الله، ويشهد الله على ذلك، أقول: هذه هي خطورة الكلمة الآن في هذا الظرف الحرج، إن الحرب الآن حربٌ كلامية؛ مقروءة، ومسموعة، ومرئية، ومرسومة، فواجب على أهل الحق بعدما تحرك أهل الباطل لباطلهم أن يتحركوا جميعاً لدين الله جل وعلا، فماذا تنتظرون أيها الأحباب؟! ومتى سنتحرك جميعاً لدين الله؟! ومتى سنتحرك للدعوة إلى الله؟! إنني أعلم يقيناً أن هناك الكثير من أحبابنا وإخواننا قد يكونون أكثر منا علماً، وأكثر إخلاصاً، وأكثر فضلاً، وأعظم دعوة، ولكنهم ما زالوا متقوقعين داخل مكاتبهم بحجة طلب العلم! يا حبيبي في الله! إن طلب العلم لا ينتهي حتى تلقى الله، وتذكر قول أحمد: (مع المحبرة إلى المقبرة) إن طلب العلم لا ينتهي، بل لا يزال الأمر الإلهي من الله لسيد الدعاة وإمام النبيين قائماً إلى يوم القيامة، وذلك في قوله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمَاً} [طه:114]، فاطلب العلم واقرأ وتعلم؛ لكن إياك وأن تتقوقع بحجة الطلب وتغفل عن الدعوة إلى الله، وعن التحرك لدين الله جل وعلا، فأنت مأمور بذلك، بل لقد قال علماؤنا: إن الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب قدرته واستطاعته؛ لأننا نعيش زماناً نشط فيه أهل الباطل لباطلهم، وتحرك أهل الإرجاف لإرجافهم: والله! لقد التقيت بالشيخ أحمد ديدات في الرياض، فأخبرني خبراً يؤلم كل مسلم ومسلمة، فاستمعوا وانظروا كيف يتحرك أهل الباطل لباطلهم، ولا زال أهل الحق بهذه الفُرقة، بل وبهذا البرود وبهذا التكاسل من منطلق فهمٍ مقلوبٍ مغلوطٍ لآية في كتاب الله، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] فنقول: لا يا أخي! سيضرك ضلالهم، وإنما لا يضرك ضلالهم إن تحركت إليهم ودعوتهم بدعوة الله، وأقمت عليهم حجة الله بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة، فحينئذٍ تكون قد أعذرت إلى الله جل وعلا، أما أن تجلس متقوقعاً لتقول: دع المُلك للمالك! ودع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله! فإننا لن نغير الكون، ولن نبدل الأمر، إلى آخر هذه الكلمات المريرة المؤلمة، بل أنت مأمور الآن أن تتحرك بالدعوة بقدر ما منَّ الله عليك به من سلاح الخلق العذب، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة، وضع نصب عينيك هذين الأمرين الجليلين من الله لسيد الدعاة: الأول: قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
الثاني: قوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
أيها الأحبة في الله! لقد أبلغني الشيخ ديدات أنه ذهب إلى جنوب إفريقيا فوجد المنصِّرين الموسومين بـ (المبشِّرين) يتحركون هنالك في أدغال الغابات وبين المستنقعات للدعوة لدينهم بأسلوب ذكي، فتأتي الفتاة الجميلة المثقفة لتلتقي بمجموعة من الأطفال الصغار أو الصبيان لتلعب معهم فقط بغير دعوة وبدون توجيه، فإذا ما عضَّ الجوع بطونهم قدمت إليهم الحلوى وهي تقول: هذه حلوى الرب يسوع! وفي اليوم التالي تلتقي مع نفس المجموعة لتلعب معهم فإذا ما عضَّ الجوع بطونهم قدمت إليهم خبزاً عفناً وهي تقول: هذا خبز محمد! فأهل الباطل يتحركون، وأهل الحق ما زالوا متفرقين، فتحرَّك أيها الحبيب! بقدر ما تملك، وعلى قدر استطاعتك، تحرك لدين الله وادع الناس بالكلمة الطيبة.(38/9)
واجب أهل الحق تجاه الدعوة إلى الله عز وجل
أيها المسلم! سأحدد لك الآن الخطة والمنهج، عليك الآتي: أولاً: افهم الإسلام فهماً شاملاً كاملاً بفهم دقيق، ووعي عميق.
ثم بعد أن تفهم الإسلام بشموله وكماله حول هذا الإسلام في حياتك أنت إلى واقع متحرك، ومجتمع مرئي ومسموع ومقروء، فإذا ما جاذبتك أشواك الطريق وزللت في معصية فإياك -أيها الشاب- وأن تتحرج من الدعوة إلى الله، ومن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بحجة أنك تزل في المعاصي! ومَن مِن الناس من لا يزل؟! ومَن مِن البشر ما زل؟! فأنت لست ملَكاً مقرَّباً، ولست نبياً مرسلاً، ولست رسولاً معصوماً، بل أنت بشر تطيع وتعصي، فإن أطعت الله فاحمد الله واستقم، وإن زلت قدمك وجاذبتك أشواك الطريق وعصيت فأتبع هذه المعصية بالحسنة، كما روي في الحديث: (يا معاذ! اتق الله حيثما كنتَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحها) نجد كثيراً من الشباب لا يدعو، وإذا قلت له: لماذا لا تتحرك؟! يقول: لأني من أهل الذنوب والمعاصي، وهذه تجعلني متحرجاً في الدعوة إلى الله وإلى دين الله.
يا أخي الحبيب! مَن مِن البشر لم يخطئ؟! ومَن مِن البشر لم يزل؟! لكن إن زللت فتُب وعُد وارجع إلى الله، وإياك وأن تتمادى في هذه الذنوب وفي هذه المعاصي؛ فإنها تمحق بركة العلم، وبركة الرزق، وبركة الخير والطاعة، بل وتمحق بركة كل شيء.
فافهم الإسلام بشموله وكماله، وحول هذا الإسلام في حياتك إلى واقع، ومما قاله أبو الحسن الندوي: إن أعظم خدمة نقدمها الآن للإسلام هي أن نشهد للإسلام شهادة عملية كما شهدنا له من قبل شهادة قولية.
فإن فهمتَ الإسلام فحوِّل الإسلام في حياتك إلى واقع، ونحن نريد الآن أن يتحول المسلمون جميعاً إلى دعاة، لا إلى دعاة على المنابر، وإنما إلى دعاة إلى دين الله في جميع مواقع الإنتاج ومواطن العطاء، فنريد المسلم الذي يعلن للدنيا بأسرها إسلامه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم بعد ذلك تحرك لتعريف الناس بحقيقة الإسلام، واعمل رأياً عاماً مضاداً لهذا الرأي العام الذي يُشَن في الليل والنهار على الإسلام والمسلمين.
فتحركوا لإيجاد رأي عام مضاد بالكلمة الطيبة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة.(38/10)
البشارة بانتشار الصحوة الإسلامية في كل مكان
وأختم بهذه البشارة التي أسكبها في قلوب الإخوة والأخوات جميعاً فأقول: لا يخافن أحدٌ على الإسلام، بل خَفْ على نفسك أنت؛ لأن الإسلام دين الله، ومَن مِن الخلق يقوى على حرب الله؟! لا أحد، فالإسلام دين الله، ودين الله ظاهر منصور بنا أو بغيرنا، أسأل الله ألا يستبدل بنا غيرنا.
أيها الحبيب! أبشرك أن الصحوة الإسلامية العالمية الآن تَنَزَّلت في كل بقاع الدنيا كتَنَزُّل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى، أو كنسمات ربيع باردة عطَّرَتْها وطيَّبَتْها أنفاسُ الزهور.
وأبشركم وأشهد الله أني حضرتُ عدة مؤتمرات في قلب قلعة الكفر -أمريكا- فرأيت الصحوة هناك أنشط بكثير مما رأيت في بلاد المسلمين، ففي أمريكا حضر مؤتمراً ما يزيد على ستة آلاف موحد وموحدة، واحتلوا قاعة أكبر فندق في مدينة (دترويت)، وصدح المؤذن بكلمة التوحيد والتكبير لله جل وعلا في قلب قلعة الكفر.
وقد احتفلت وزارة الدفاع -البنتاجون- في شهر ديسمبر في العام المنصرم احتفالاً رسمياً بتنصيب أول إمام للجيش الأمريكي؛ ليصلي بالمسلمين الموحدين في الجيش الأمريكي الصلوات في أوقات الدوام الرسمي.
والتقينا بأخت أمريكية مسلمة تسمى: كيليرا محمد، هذه الأخت منَّ الله عليها بالمال، فأنفقت مالها كله لدين الكبير المتعالي، فأنشأت في أمريكا خمسين مدرسة إسلامية.
وفي ولاية (فرجينيا) أنشأت الأخت نفسُها كليةً تُسمى بـ (كلية المعلمين) لتخرِّج المدرسين والمدرسات الذين يدرسون في هذه المدارس.
فهذا وعْدُ مَن؟ إنه وعد الله! الله أكبر! إنه وعد الله جل وعلا، قال الشاعر: صبحٌ تنفس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا وشبيبة الإسلام هذا فيلقٌ في ساحة الأمجاد يتبع فيلقا وقواسم الإيمان تتخذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقا وما أمر هذه الصحوةِ الكبرى سوى وعدٍ من الله الجليل تحققا هي نخلة طاب الثرى فنما لها جذع قوي في التراب وأعذقا هي في رياض قلوبنا زيتونة في جذعها غصن الكرامة أورقا فجرٌ تدفق مَن سيحبس نوره أرني يداً سدت علينا المَشرقا أيها الأحبة! يقول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
وأختم بهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك -وصححه على شرط الشيخين، وتعقَّبه الإمامُ الذهبي فقال: بل هو صحيح على شرط الإمام البخاري - من حديث تميم الداري أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزَّاً يعزُّ الله به الإسلام، وذلَّاً يذل الله به الكفر).
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين يا رب العالمين! وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(38/11)
ميلاد المسيح
انقسم أهل الكتاب قبل الإسلام في عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام إلى طرفين، كلاهما ضل السبيل، وفارق الحجة والدليل، فاليهود زعموا أنه ابن زنا وأنه مفتر كاذب، والنصارى زعموا أنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وعبدوه مع الله جل وعلا! فجاء الإسلام بالحق في قضية عيسى عليه السلام، وكذب كلتا الطائفتين، وبين أن عيسى هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وبرأ مريم عليها السلام، وبين أن ولادتها عيسى من غير أب كانت معجزة، ومثله عند الله كمثل آدم عليه السلام.(39/1)
عيسى بن مريم والميلاد المعجز
الحمد لله القائل: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء، وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء، وطبتم جميعاً وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعني وإياكم في هذا الجمع المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! عيسى بن مريم والميلاد المعجز، خواطر مسلم يغار لعقيدة التوحيد التي تذبح الآن شر ذبحة، في زمان انتفخ فيه الباطل وانتفش كأنه غالب، وضعف فيه الحق وانزوى كأنه مغلوب، أقدم هذه الخواطر في هذه الأيام على وجه الخصوص التي اعتاد فيها العالم الغربي -بل والعالم الإسلام الهزيل المهزوم- على ما يسمونه باحتفالات أعياد الميلاد، وأنا أرى أنه من الواجب على العلماء والدعاة ألا يكونوا بموضوعاتهم وخطبهم في واد وأحوال العالم بصفة عامة وأحوال الأمة بصفة خاصة في واد آخر، من هذا المنطلق أحببت في هذه المناسبة أن أقدم لحضراتكم هذا الموضوع عن (ميلاد المسيح) وسيتم تناوله إن شاء الله من خلال العناصر التالية: أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.
ثانياً: بل رفعه الله إليه.
ثالثاً: نزوله من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة.
فأعرني قلبك وسمعك، والله أسأل أن يجعلني وإياكم ممن وحد الله جل وعلا حق التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(39/2)
براءة عيسى عليه السلام مما ينسب إليه المبطلون
وجميل بنا أن نختم هذا العنصر الآن الذي أطلنا فيه الحديث -لتثبيت المعتقد الصافي في القلوب- بهذا الحوار الرباني الكريم، وإن شئت فقل: بهذه البراءة العظيمة من العلي الأعلى لنبي الله عيسى، اقرأ معي وتدبر في آخر سورة المائدة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117 - 118]، قال الله جل وعلا: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].(39/3)
معجزة عيسى عليه السلام في حديثه لقومه وهو في المهد
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:27] فقابلها القوم بهذه التهم التي نزلت كالسياط: يا مريم ما هذا؟ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:27 - 28]، في العبادة (يَا أُخْتَ هَارُونَ) في الزهد والورع، (يَا أُخْتَ هَارُونَ) في التقى والتبتل والتضرع، ما هذا؟! لقد جئت شيئاً عظيماً منكراً، ما هذه الجرأة؟! ما هذه البجاحة؟! تحملين من الزنا، وتحملين الولد لتقابلينا به مرة أخرى بهذه الجرأة والسفور، (لقد جئت شيئاً فرياً)؛ كيف سمحت لنفسك بهذه الجريمة الشنعاء؟! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28].
فلما انقطع منها المقال أشارت إليه فأنطقه الله في الحال {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:29 - 36].
أعباد المسيح لنا سؤال نريد جوابه ممن وعاه إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فهل هذا إله ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطن قد حواه أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلمات من حيض غذاه وشق الفرج مولود صغيراً ضعيفاً فاغراً للثدي فاه ويأكل ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك هل هذا إله ويقول القائل: فلو كان رباً كان يمنع نفسه فلا خير في رب نأته المطالب برئت من الأصنام في الأرض كلها وآمنت بالله الذي هو غالب {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:30 - 32] ليست بغياً، ليست زانية، بل هي أمي {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ} [مريم:32 - 33]، فهل هناك إله يولد؟! (وَيَوْمَ أَمُوتُ) فهل هناك إله يموت؟! {وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:33 - 34]، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، بل إن خلق آدم أعجز من خلق عيسى؛ لأن عيسى خلق من أم، أما آدم فخلق من غير أب ومن غير أم، فخلق آدم أعجز: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).(39/4)
حوار مريم بنت عمران مع يوسف النجار
وبدأت بوادر الحمل تظهر على بطن مريم، فالتفت إليها يوسف النجار الذي يخدم معها بيت المقدس، واتهم اليهود مريم بالزنا مع يوسف، قال لها: يا مريم، إني سائلك عن شيء وأرجو أن لا تعجلي علي! فقالت له مريم: سل عما شئت يا يوسف وقل قولاً جميلاً، فقال لها يوسف معرضاً في القول: يا مريم هل يكون زرع بغير بذر؟! وهل يكون شجر بغير غيث أو مطر؟! وهل يكون ولد بغير أب؟! فقالت مريم: (نعم يا يوسف)، قال: كيف يا مريم؟! قالت: يا يوسف ألم تعلم أن الله خلق الزرع يوم خلقه من غير بذر، وخلق الشجر يوم خلقه من غير غيث أو مطر، وخلق آدم يوم خلقه من غير أب ومن غير أم؟ قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.(39/5)
مريم بنت عمران وحديث ابنها إليها وهو في المهد
حملت مريم بعيسى {فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} [مريم:22 - 23]، ففاجأها المخاض الذي يهد الأركان للأنثى، وأنا أرجو أن تتصور أنثى بمفردها تضع لأول مرة ليس معها من الناس أحد، وإلا فكفى أن معها الملك.
{فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:22 - 23]، أي: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، فتمسكت بهذا الجذع وهي تتألم، وفي وسط هذه الآلام التي تهد أركان الأنثى هدًّا، من مخاض وميلاد وليس معها أحد من الناس، وهي تتألم وتبكي، وفي وسط هذه الحالة النفسية المتراكبة: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23].
لك الله يا مريم! لك الله أيتها العذراء الطاهرة! {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23] وهنا تفاجأ للمرة الثالثة بهذه المفاجئة الندية الرخية الرقيقة الرقراقة، إنها تسمع صوتاً، تسمع الحجة البالغة، تسمع الكلمات النيرة، يا إلهي، ما هذا؟! إنه المولود الذي نزل من أحشائها، إنه المولود يتكلم!! أنطقه الله الملك الذي هو على كل شيء قدير، ينادي على أمه بهذا النداء الحنون العذب الرقيق: يا أماه {أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم:24]، أي: انظري إلى هذه العين التي قدرها الله لك الآن، وانظري إلى هذه النخلة التي كانت شابة قد أنبت الله فيها الثمرة لك، فهزي بهذا الجذع، خذي بالأسباب وافعلي أي شيء: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:25 - 26].
يا الله يا الله يا الله! إنها الحجة البالغة، المولود ما زال في لفائفه، قدرة الملك، عظمة الملك، قوة الملك، إرادة الملك جل وعلا!! لقنها الغلام الحجة البالغة فاطمأنت نفسها، واستراح قلبها، وسكن فؤادها، وحملت رضيعها وطفلها في صدرها، بل إن شئت فقل: في حنايا قلبها.(39/6)
القدرة الإلهية لا تحدها حدود
أيها الشباب! أيها الأحباب! إن من يكلف عقله أن يصل إلى حدود قدرة الله جل وعلا كمن يكلف نملة أن تنقل جبلاً من مكان إلى آخر، أو كمن يكلف بعيراً ضخماً أن ينفذ من سم الخياط، وهذا مستحيل! إن قدرة الله لا تحدها حدود، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} [مريم:21] وإذا قال ربك فلا حدود لقدرة الملك جل وعلا، لأن أمر الله بين الكاف والنون، يقول للشيء إذا أراده كن فيكون، ما أحوجنا إلى أن نتعبد لله الآن باسم القدير، باسم القوي، باسم الملك! لأن الأمة قد ضعف يقينها، وضعفت عقيدتها، وتخلخل اليقين في قلبها، فيجب علينا أن نتعبد من جديد لله باسم القدير.
إن قدرة الله وقوة الله لا تحدها حدود، فيد من التي خلقت السماء بغير عمد ترونها؟! يد من التي خلقت الأرض وثبتتها بالجبال، وزينتها بالأشجار، وشقت فيها البحار والأنهار؟! يد من التي امتدت إلى حبة القمح فغلفتها بهذه الأغلفة، وجعلت في نهاية كل حبة شوكة طويلة؛ لأنه قد قدر أن تكون حبة القمح غذاء لك أيها الإنسان؟! يد من التي امتدت إلى كوز الذرة فأخرجت هذه الحبات اللؤلؤية بهذا الجمال والإتقان والإبداع؟! يد من التي امتدت إلى رأسك أيها الإنسان فجعلت ماء العين مالحا، وماء الأنف حامضاً، وماء الأذن مرّاً، وماء الفم حلواً وعذباً؟! مع أن أصل هذه المياه واحد، وهو رأسك أيها الإنسان؟! يد من التي نجت الخليل إبراهيم من النيران؟! يد من التي حفظت يوسف من غيابات الجب؟! يد من التي نجت يونس في بطن الحوت؟! يد من التي نجت الحبيب المصطفى ليلة الهجرة! {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22 - 24].
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه من أرداك قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاك قل للصحيح يموت لا من علة من المنايا يا صحيح دهاك قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواك بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاك وسل الجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاك وسل الوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة ما الذي أبكاك وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاك واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاك واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاك بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاك {كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم:21] هو على قدرة الله هين، فقدرة الله لا تحدها حدود، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21].
قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12]، لا تسأل عن كيفية الحمل، والعلم الحديث الآن يبين لنا صوراً عجيبة، فهم يستطيعون بالحيوان المنوي للزوج وبويضة المرأة أن يجمعوهما، فإذا شاء الله عز وجل تخصبت فكان الولد، سبحان الله!، لا تسأل عن كيفية الحمل وأنت على يقين أن الله إذا أراد شيئاً كان.
نفخ جبريل عليه السلام في درعها، والدرع هو أعلى الثوب، فحملت مريم عليها السلام، والراجح من أقوال المفسرين: أن مريم حملت بعيسى حملاً عادياً تسعة أشهر، وإن كنا لا نشك أن الله كان قادراً ولا زال سبحانه على أن تحمل مريم بعيسى وأن تضعه في لحظة واحدة، لكن الراجح من أقوال المحققين من أهل التفسير: أنها حملت به حملاً عادياً تسعة أشهر.(39/7)
مريم بنت عمران العذراء البتول
أولاً: عيسى بن مريم والميلاد المعجز.
أيها الأحبة الكرام! لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل ينسب نبي إلى أمه، إنه عيسى بن مريم عليه السلام، وأمه مريم لها مكانة لم تنلها أنثى في الوجود كله، إنها العذراء التقية النقية التي اصطفاها الله من بين نساء العالمين؛ ليودعها هذا السر الكبير في أعظم ميلاد وأيسر حمل، إنها المرأة التي قد كملت بشهادة المصطفى، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ليعلم الجميع أن مريم عليها السلام ما كرمت في منهج على ظهر الأرض، بل وفي كتاب من الكتب، بقدر ما كرمت في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن هي مريم؟ إنها مريم بنت عمران، أمها: حنى بنت فاخود، كانت عقيمة لا تلد، فسألت الله عز وجل أن يهبها الولد فاستجاب الله لها، وتحرك الحمل في بطنها بعدما كانت عقيمة، فلما تحرك الحمل، أرادت أن تفي بنذرها لله جل وعلا فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:35 - 36] أي: الطاهرة {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:36 - 37].
اختلفوا في بيت المقدس من الذي سيكفل مريم عليها السلام، فقالوا: اضربوا القرعة فيما بينكم، فعلى أي واحد منا وقعت القرعة فليكفل مريم عليها السلام، قالوا: فليأخذ كل واحد منا قلمه ولنخرج جميعاً إلى شاطئ النهر، ولنلقي الأقلام كلها في شاطئ النهر، فأي قلم جرى مع التيار لا يكفل صاحب هذا القلم مريم، أما القلم الذي يسير في عكس اتجاه التيار فهو الذي سيكفل صاحبه مريم عليها السلام.
فرأوا قلماً يسير في عكس التيار، فلما أخرجوه وجدوا أنه قلم نبي الله زكريا، فتكفلها زكريا، وتولى تربيتها ورعايتها.
ففي بيت المقدس في كفالة نبي ترعرعت هذه الزهرة الطيبة في بستان الورع والزهد والتقى، نشئت مريم عليها السلام، حتى وصلت إلى مكانة قريبة من الله، ونادتها الملائكة يوماً وهي تتعبد لله: بهذه البشارة: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43] مكانة عظيمة، بل لقد وصلت إلى مكانة من القرب أنه دخل عليها نبي الله زكريا فوجد عندها فاكهةً في غير زمانها وأوانها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] درجة من اليقين، فما أحوج الأمة الآن إلى اليقين في الرزق ذو القوة المتين.(39/8)
مريم بنت عمران ومفاجأة الملك
وفي يوم من الأيام خلت مريم بنت عمران بنفسها لقضاء شأن من شئون الأنثى الخاصة، وفجأة! تفاجأ بمفاجئة عنيفة تهز فؤادها هزّاً، يا الله ما هذا؟! إنه بشر سوي في خلوة مريم العذراء الطاهرة البتول، ولك أن تتصور امرأة ترعرعت في بستان الحياء تقضي شأناً من شئونها الخاصة، فتفاجأ برجل سوي يقتحم عليها خلوتها -وأرجو أن لا تختلط الصور في ذهنك، في أن تقارن هذه العذراء بنساء هذا الزمان إلا من رحم ربك؛ لتكون المقارنة عادلة منصفة- يهتز فؤادها، إنه بشر سوي، وسرعان ما لجأت إلى الله العلي فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: إن كنت ممن يتقي الله ويخشى الله عز وجل.
وقالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ) لتستجلب الرحمة في قلبه، فتفاجأ البتول الطاهرة بمفاجئة أعلى، حينما يرد عليها هذا البشر السوي ليقول لها: لا تخافي ولا تحزني {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، قالت مريم التي تعلم سبيلاً واحداً للإنجاب والذرية، وهو أن يلتقي الرجل بزوجه {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم:20]، أي: لم أتزوج ولم أعرف سبيل الزنا أو سبيل البغاء، وهنا يأتي الرد الحاسم القاطع على لسان هذا الملك الكريم: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21].(39/9)
بل رفعه الله إليه
ثانياً: بل رفعه الله إليه، لقد زعم اليهود عليهم لعائن الله المتتالية أنهم قتلوا عيسى عبد الله ورسوله!! وزعم النصارى بجهل فاضح أنه صلب ودفن، وفي اليوم الثالث خرج من قبره ثم صعد إلى السماء وجلس عن يمين الرب أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأحياء والأموات.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]؛ فكذب الله هؤلاء وهؤلاء، فقال سبحانه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، آيات صريحة: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ)، والأخرى: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) والثالثة: (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)، رفع نبي الله عيسى إلى السماء لحكمة عظيمة، ألا وهي أن الله جل وعلا قد قدر أن نزوله من السماء بعد ذلك من علامات الساعة الكبرى!(39/10)
كيفية رفعه عليه السلام
ولكن كيف رفع؟ انطلق اليهود وهم يبحثون عن نبي الله عيسى ليقتلوه، فألقى الله عز وجل شبه عيسى على يهوذا الأسخريوطي الذي دل اليهود على مكان نبي الله عيسى، فهذا قول.
القول الثاني: ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم والنسائي من حديث ابن عباس موقوفاً عليه بسند صححه الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة النساء، قال: (لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج عيسى يوماً على أصحابه وهم يجلسون في البيت، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين، فقال لهم نبي الله عيسى: إن منكم من يكفر بي بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة، فقام شاب من أحدثهم سناً قال: أنا يا نبي الله! فقال له عيسى: اجلس -كأنه أشفق عليه لصغر سنه- فجلس الشاب.
ثم قال عيسى قولته مرة ثانية: أيكم يقبل أن يلقى عليه شبهي ليقتل مكاني ليكون معي في درجتي في الجنة، فقام نفس الشاب، فقال له نبي الله عيسى: اجلس، فردد عيسى المقولة للمرة الثالثة، فقام نفس الشاب، فقال له عيسى: هو أنت.
يقول ابن عباس: فجاء الطلب، أي: من اليهود ليأخذوا نبي الله عيسى، فألقى الله شبهه على هذا الشاب، وألقى على عيسى سنة من النوم ثم رفعه إليه، فأخذ اليهود هذا الشاب الذي ألقي عليه الشبه، فقتلوه وصلبوه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء:157] قال ابن عباس: فانقسم الناس فيه إلى ثلاث فرق: الفرقة الأولى قالت: كان فينا الله، أي: في الأرض -عياذاً بالله- ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء هم اليعقوبية.
وقالت الفرقة الثانية: كان فينا ابن الله ثم رفعه أبوه إلى السماء، وهذه هي النسطورية.
ثم قالت الفرقة الثالثة: كان فينا عبد الله ورسوله، ثم رفعه الله إليه، ثم ينزله إلى الأرض إذا شاء، وهؤلاء هم الموحدون المسلمون.
يقول ابن عباس: (فقامت الفرقتان الأولى والثانية على الثالثة فقتلوا أهلها، فظل الإسلام صامتاً حتى بعث الله نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم).
فجاء الحبيب المحبوب فبين لنا كيف أن الله عز وجل قد ألقى الشبه على فلان أو فلان، وكيف أن الله عز وجل قد رفع عيسى إليه، بل وصرح القرآن بذلك، قال الله تعالى: {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55] تدبر معي قول الله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) فهذه دارت حولها الإشكالات، والوفاة في الآية كما قال جمهور المحققين من أهل التفسير: الوفاة في الآية بمعنى النوم، والدليل على ذلك قول الله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] فسمى الله النوم في الليل وفاة.
وكما في كلام الحبيب المحبوب محمد صلى الله عليه وسلم، كان إذا استيقظ من نومه قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، فالنوم وفاة صغرى، والموت وفاة كبرى، فألقى الله على عيسى سنة من النوم، ثم رفعه إليه للحكمة الجليلة التي ذكرت، ولحكم قد لا نعلمها، يعلمها الملك جل جلاله.
أيها الأحبة الكرام: وشاء الله سبحانه أن يكون نزول عيسى عليه السلام علامة كبرى من علامات الساعة وهذا ما سوف نتعرف عليه بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(39/11)
نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام! ثالثاً: نزول عيسى من السماء إلى الأرض بين يدي الساعة، فنحن الآن ننتظر نزول نبي الله عيسى، وقد بيّن القرآن والسنة الصحيحة ذلك، فمثل هذه الأمور الغيبية لا يجوز البتة لأحد أن يتكلم فيها إلا بصريح القرآن أو صحيح السنة، فأنا لم آت بكلمة واحدة من عندي أبداً، بل من القرآن والسنة الصحيحة وأقوال المفسرين المعتبرين من أهل العلم، يقول الله تعالى في سورة الزخرف وهو يخاطب حبيبه المصطفى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] إلى قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]، وفي قراءة ابن عباس: (وإنه لعَلَم للساعة) أي: علامة وأمارة على قرب الساعة، فنزول عيسى عليه السلام من علامات الساعة الكبرى.(39/12)
عيسى بن مريم وأقوام يأجوج ومأجوج
وفي حديث النواس يقول صلى الله عليه وسلم: (فبينما هو كذلك إذ أتى عيسى قوماً قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح عيسى على وجوههم، ويبشرهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هم كذلك إذ أوحى الله إلى نبيه عيسى أني قد بعثت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) -أي: لا قدرة لأحد ولا طاقة بقتالهم- فيبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، ثم يقول الله لنبيه عيسى: (فاحرز عبادي إلى الطور) اجمع عبادي من المؤمنين إلى جبل الطور (فيحصر نبي الله عيسى وأصحابه) من المؤمنين الموحدين من أمة محمد- فيخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمرون على بحيرة طبرية فيشرب أوائل يأجوج ومأجوج البحيرة بكاملها، فإذا ما جاء أواخرهم قالوا: كان بهذه البحيرة مرة ماء) أين ذهب الماء؟ وهم لا يعلمون ولا يدرون أن أوائل يأجوج ومأجوج هم الذي جففوا البحيرة تجفيفاً.
يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله) أي: يتضرعون إلى الله بالدعاء أن يهلك يأجوج ومأجوج- إذ إن الله قد أخبره أنه لا يدان لأحد بقتالهم، فيتضرع إلى الله أن يهلك يأجوج ومأجوج (فيستجيب الله عز وجل فيرسل عليهم النغف) والنغف: هو الدود الصغير، وأرجو أن لا تمر هذه الكلمة على الأذهان مروراً سريعاً، يأجوج ومأجوج الذين يجففون بحيرة، والذين يتجرءون بوقاحة حينما يقولون: لقد قهرنا أهل الأرض فهيا بنا لنقاتل أهل السماء، فيصوبون نشابهم أي: السهام إلى السماء، فيريد الله أن يبتليهم وأن يفتنهم، فتنزل السهام إليهم مرة أخرى وقد لطخت بالدماء، فيقول المجرمون الفجرة: لقد قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء، هؤلاء الفجرة يهلكهم الملك بالدود، فأين الظالمون؟ وأين التابعون لهم في الغي؟ بل أين فرعون وهامان؟ أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلَّد الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فيرسل الله عليهم النغف، وهو الدود الصغير: (فيصبحون؟ فرسى أي: قتلى كموت نفس واحدة) وهم يغطون وجه الأرض، ومع ذلك يصبحون قتلى كموت نفس واحدة (فتمتلأ الأرض بزهمهم) أي: بشحمهم ونتنهم، يقول المصطفى: (ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه، فلا يجدون شبراً من الأرض وإلا وقد ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى مرة ثانية وأصحابه إلى الله جل وعلا -أي: يتضرعون إليه بالدعاء- أن يطهر الأرض من هذا النجس والنتن، فيستجيب الله جل وعلا لهم، فيرسل طيراً كأعناق البخت -أي: كرقاب الإبل- فتأخذ يأجوج ومأجوج فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت ولا وبر، فيغسل هذا المطر الأرض، حتى تصبح الأرض كالزَّلقة، أو كالزُّلقة، أو كالزُّلفة، أو كالزَّلفة) والروايات كلها صحيحة، أي: تصبح الأرض كالمرآة في صفائها ونقائها.
يقول المصطفى: (ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك وردي بركتك، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذ الناس تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن، وروح كل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر -أي: الحمير- وعليهم تقوم الساعة)، ثم يعيش الناس في هذه السعادة والرخاء مع نبي الله عيسى الذي يحكمهم بشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ثم يموت ويصلي عليه الموحدون من أمة سيد النبيين.
أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بنبي الله عيسى، وأن يجمعنا بإمام الأنبياء محمد وبإخوانه من النبيين والمرسلين في جنات النعيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم ارزقنا التوحيد الصحيح يا رب العالمين، اللهم ثبت التوحيد بشموله في قلوبنا، اللهم ثبت العقيدة التي ترضيك في قلوبنا، اللهم توفنا على التوحيد والإيمان، اللهم كما خلقتنا موحدين فثبتنا على التوحيد وتوفنا على التوحيد واحشرنا في زمرة الموحدين تحت لواء سيد النبيين، مع أخيه عيسى الكريم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عن من سواك.
اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل تدبيره في تدميره يا رب العالمين، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكل لنا ولا تكن علينا، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم احمل المسلمين الحفاة واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان، اللهم لا تحرم بلدنا مصر من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع عن مصر الغلاء والوباء والبلاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(39/13)
مكان نزوله عليه السلام وقتله للدجال
يتجه نبي الله عيسى مباشرة إلى بيت المقدس، فلقد حدد النبي موطن نزوله، قال كما في رواية النواس في صحيح مسلم: (فينزل نبي الله عيسى عند المنارة البيضاء شرقي دمشق) هذا كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، حتى المكان الذي سينزل فيه حدده: ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيتجه إلى بيت المقدس، فيدرك نبي الله عيسى المسلمين وهم يصلون صلاة الصبح -وفي رواية: وهم يعدون الصفوف لقتال الدجال- فإذا رأى إمام المسلمين نبي الله عيسى تقهقر ليخلي المكان لنبي الله ليصلي النبي بالأمة، فيدفع عيسى في كتف إمامنا نحن المسلمين ويقول له: تقدم صل أنت فلك الصلاة أقيمت.
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله يقول: (إمامكم منكم؛ تكرمة الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيتقدم إمام المسلمين ليصلي خلفه مأموماً نبي الله عيسى)، انظر إلى كرامة الأمة، نبي الله عيسى يصلي خلف إمام من أئمة المسلمين، وهناك بعض الروايات التي ذكرت: أن هذا الإمام هو المهدي عليه السلام، (فإذا ما أنهى صلاة الصبح أمرهم أن يفتحوا باب بيت المقدس، فيرى الدجال خلفه سبعون ألف يهودي بالسيوف، فإذا نظر نبي الله عيسى إلى الدجال ذاب الدجال كما يذوب الملح في الماء، فيقوم حينئذ نبي الله عيسى حتى يدركه عند باب لُدٍّ فيقتله) و (لُدٌ) مدينة معروفة الآن بفلسطين.(39/14)
نزول عيسى حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً، فيُكسَر الصليب أو فيكسِر الصليب -واللغتان صحيحتان-، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
تدبر كلام الصادق: (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً)، أي: عادلاً، وأول ما يفعله أنه يكسر الصليب المقدس، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية فلا يقبلها من أحد، فإما الإسلام وإما القتال.
ويفيض المال، وتحل البركات حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الضياء المقدسي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة قال المصطفى: (طوبى لعيش بعد المسيح، طوبى لعيش بعد المسيح، تؤمر الأرض أن تخرج بركتها وأن تخرج زرعها، حتى أنك لو زرعت أو بذرت زرعك على الصفا -أي على الحجر- لنبت)، فالبركات تتنزل إلى الأرض، بل ترعى الذئاب مع الغنم، والأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، كما قال الصادق صلى الله عليه وسلم، ويمسك الصبي الحية فلا تؤذيه، يعيش الناس حالة من الأمن والاستقرار والأمان، بصورة لا يستطيع بليغ أن يعبر عنها على الإطلاق.(39/15)
صفة عيسى عليه السلام عند نزوله
روى مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال الصادق: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات وهي: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم، ونزول عيسى بن مريم) آية وعلامة من علامات الساعة الكبرى.
بل لقد حدد الصادق المصدوق شكله ووجهه وهو ينزل من السماء، والحديث رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل فيكم، فإذا رأيتموه تعرفونه، إنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، ينزل بين مهرودتين أو بين ممصرتين -وفي رواية النواس بن سمعان -: ينزل بين مهرودتين) أي: ثوبين مصبوغين، ورواية النواس في صحيح مسلم (ينزل عيسى بين مهرودتين) أي: ثوبين مصبوغين مائلين إلى الصفرة الخفيفة كما قال النووي وغيره، (واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ قطر رأسه، وإذا رفع تحدر منه جمان كحبات اللؤلؤ).(39/16)
أيها العاصي تب إلى ربك
خلقنا الله في هذه الدنيا لعبادته، وسوق النفس إلى ما فيه رضاه وطاعته، إلا أن النفس الأمارة بالسوء لا تفتأ تأمر الإنسان بالمعصية والبطالة، فمن نهاها عن الهوى أفلح، ومن أتبع نفسه هواها خسر الخسران العظيم، فطوبى لمن تاب، ولقي وهو راضٍ عنه العزيز الوهاب.(40/1)
المعصية سبب لكل شقاء وبلاء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وطبتم جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأعزاء! وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في الدنيا على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تب إلى الله أيها العاصي! هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك، ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف أركز الحديث مع حضراتكم في العناصر التالية: أولاً: المعصية سبب لكل شقاء وبلاء.
ثانياً: انتبه فإن الموت يأتي بغتة.
ثالثاً: باب التوبة مفتوح.
رابعاً: قصة تائب.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم التوبة النصوح، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
أولاً: المعصية سبب لكل شقاء وبلاء: إي ورب الكعبة! فما الذي أخرج الأبوين الكريمين من الجنة، من دار اللذة والسرور والنعيم إلى دار الأحزان والمصائب والآلام؟! وما الذي أخرج إبليس وطرده من رحمة الله عز وجل؟! وما الذي أغرق فرعون وجنوده؟! وما الذي دمر قوم عاد؟! وما الذي دمر قوم ثمود؟! وما الذي دمر قوم لوط؟! وما الذي دمر قوم صالح؟! وما الذي دمر قوم شعيب؟! وما الذي دمر وخسف بـ قارون الأرض؟! وما الذي شتت بني إسرائيل في الأرض والتيه والضلال أربعين سنة، وجعل منهم القردة والخنازير؟! وما الذي أذل العالم كله اليوم، فحرم من الأمن والأمان، على الرغم من كثرة وسائله الأمنية، بل وعلى الرغم من كثرة الاختراعات التي شاء الله جل وعلا أن تحول هي ذاتها إلى وسائل للرعب وللموت واستعباد الجنس البشري؟! وما الذي حول العالم كله اليوم إلى غابة وحوش؟! فإننا نرى الإنسان اليوم يفعل بأخيه الإنسان ما تخجل الوحوش أن تفعله في عالم الغابات، وإننا نرى العالم كله اليوم قد حرم من الأمن والاستقرار وهدوء البال وراحة الضمير والاستقرار النفسي، ورأينا الكثير والكثير من أبناء العالم ينتحر بشكل جماعي! إن العالم قد حرم من الأمن والأمان، نرى الواحد منهم قد أحاط نفسه بقوات تلو قوات، وبالرغم من ذلك نراه قد حرم من نعمة الأمن والأمان! إن العالم اليوم أيها الأحبة! محروم من نعمة الأمن، محروم من نعمة الرخاء الاقتصادي، بل محروم من نعمة الاستقرار النفسي وهدوء البال وانشراح الصدر وراحة الضمير.
وما الذي أذل أمة المصطفى صلى الله عليه وسلم لأذل أمم الأرض وأخس وأحقر أمم الأرض؟! والجواب على كل هذه الأسئلة في آية واحدة محكمة من كتاب الله عز وجل، أقرأ معي -أيها الكريم- قول الله سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].
ولكن للأسف ربما يغتر كثير من الناس بما يراه من نعم الله جل وعلا على بعض خلقه وبعض عباده، بل وبعض دول الغرب، إذا نظر الإنسان إلى هؤلاء الذين تسري عليهم النعم بالليل والنهار ربما اغتر بهذه النعمة، ونسي هذا المغرور قول العزيز الغفور جل وعلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].(40/2)
سنن الله الكونية لا تتبدل ولا تتغير
لله سنن كونية في الكون لا تتبدل ولا تتغير أبداً، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، الله أكبر! كان من المفترض أن يقول الله عز وجل تبعاً لهذه المقدمة في هذه الآية: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب العذاب من كل جهة، ومن كل مكان، ولكن انظر إلى قول الله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
فكم من مبتلى بنعم الله عليه وهو لا يدري! وكم من مغرور بستر الله عليه وهو لا يدري! وكم من مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يدري! فإذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم وصنها بطاعة الله فإن الإله سريع النقم إن للطاعة نوراً في الوجه، ونوراً في القلب، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق؛ وإن للمعصية سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.(40/3)
الخمس الخصال الموجبة للبلاء
اسمع لحبيبك المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة في سننه والحاكم في المستدرك والبزار والبيهقي، وصحح الحديث الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم) ما سمعنا أبداً من قبل بمرض نقص المناعة الذي يسمى (الإيدز)، ما سمعنا عنه، وما عرفناه، ولو فتشت ونقبت في الدراسات والأبحاث لعلمت أن الشواذ من أهل الزنا، وممن يفعلون فعل قوم لوط، هم الذين يصابون بهذا المرض الخطير، وآخر الإحصائيات أن من تسعين إلى اثنين وتسعين بالمائة من الشواذ جنسياً هم الذين يصابون بهذا المرض الخطير، مرض نقص المناعة الذي يعرف الآن بالإيدز، بل لقد بلغ عدد المصابين بهذا المرض من هؤلاء الشواذ في قلعة الكفر أمريكا ما يزيد عن عشرين مليوناً! إنه وعد الله، ووعد الصادق الذي لا ينطق عن الهوى: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان)، والله لقد وقع الأمر، نقصت الأمة المكيال والميزان فشدد الله عليها، نرى الأمة الآن تعيش في ضنك، لا يمكن بأي حال أن يعبر أهل اللغة عن هذا الضنك إلا بقول الله: {مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، إنه الضنك في الأرزاق الضنك في الصدور الضنك في النفس الضنك في الأخلاق الضنك في كل شيء.
(ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) الله أكبر! (لولا البهائم لم يمطروا) ومن الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب: (إن سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام خرج مع بني إسرائيل يوماً من الأيام ليصلي بهم صلاة الاستسقاء؛ لينزل الله المطر، ومر سليمان على وادي النمل، فرأى نملة قد رفعت قوائمها تناجي ربها جل وعلا وتقول: يا رب نحن قوم من خلقك، فلا تهلكنا بذنوب بني آدم! فاستجاب الله وأنزل الله المطر! فالتفت سليمان الذي استمع إليها إلى بني إسرائيل قائلاً: يا بني إسرائيل توبوا إلى الله واستغفروه، فوالله إن الله قد أتى بفرجه لكم استجابة منه لدعاء نملة)، الله أكبر! والله لولا البهائم لخسف الله بنا، وصب الله علينا العذاب صباً.
(ولم يمنعوا زكاة أموالهم) من الذي يؤدي زكاة ماله في غاية الحب لله والرضا عن تشريع الله؟! بل إننا نرى الأغنياء الآن يتحايلون من أجل أن يمنعوا زكاة أموالهم، ومن أجل أن يمنعوا حقوق الفقراء التي أوجبها الله عز وجل عليهم في أموالهم.
(ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما كان في أيديهم) وهذا واقع مر، فلقد سلط الله علينا أخس أمم الأرض، وأحقر أمم الأرض، وأذل أمم الأرض، فقد طمع في الأمة الذليل قبل العزيز، والضعيف قبل القوي، والقاصي قبل الداني، وأصبحت الأمة اليوم قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، بل ولعباد البقر من أذل وأحقر أمم الأرض، بل لإخوان القردة والخنازير من أذناب يهود الذين يضربون الأمة على أم رأسها بالنعال في الليل والنهار، لماذا؟ لأن الأمة قد نقضت عهد الله ونقضت عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الحبيب في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: كلا، ولكنكم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل! وليوشكن الله أن ينزع المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
واسمع إلى الخصلة الخامسة أيها الحبيب: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديد) ووالله لقد نحّى الأئمة كتاب الله، بل وسخروا من كتاب الله، بل واستهزءوا بكتاب الله، بل ومن أبناء الأمة من قال بالحرف الواحد: إن الشريعة اليوم لم تعد تتفق مع روح هذا العصر! وإذا أرادت الأمة الحضارة والرقي فيجب عليها أن تنحي شريعة الله! فإنها ما جعلت إلا للمساجد، ويجب عليها أن تنطلق لتأخذ بقوانين الشرق الملحد، وبقوانين الغرب الكافر.
وبهذا خابت الأمة وخسرت، ورضي الله عن فاروقها الملهم إذ يقول: (لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله) وورب الكعبة! لقد ابتغت الأمة العز في غير الإسلام؛ فأذلها الله ذلاً لا يستطيع أهل البلاغة والبيان أن يصفوه على الإطلاق.
إنها المعصية أيها الأحبة! إنه شؤم المعاصي، إنها آثار المعاصي، إنه حصاد المعاصي المر، فالمعصية سبب لكل شقاء، وسبب لكل بلاء.(40/4)
موعظة إبراهيم بن أدهم
اسمع أيها الحبيب! هذه الأجوبة البديعة من أحد علماء السلف لأحد العصاة المذنبين، أذكر بها نفسي وإياكم، فما من أحد على ظهر الأرض إلا وقد عصى الله، ما من أحد على ظهر الأرض إلا وقد ذاق مرارة المعصية وذاق حلاوة الطاعة، أذكر نفسي وإياك أيها الحبيب! فلقد جاء رجل أسرف على نفسه إلى إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن أدهم هو الثقة بإطلاق، وليس كما يظن بعض طلاب العلم، بل هو ثقة بإطلاق كما قال علماء الجرح والتعديل، راجع ترجمته في تهذيب التهذيب لـ ابن حجر، وناهيك بقولة إمام الجرح والتعديل الإمام العلم يحيى بن معين إذ يقول في حق إبراهيم رحم الله الجميع: عدل ثقة، وأهل الحديث يعلمون معنى كلمة ثقة، لاسيما إذا كانت هذه الكلمة من إمامهم الإمام العلم يحيى بن معين.
فقد ذهب إليه رجل وقال: يا إبراهيم! لقد أسرفت على نفسي بالمعاصي والذنوب، فماذا أصنع؟ أريد أن أتوب إلى الله عز وجل، فماذا أصنع؟ وكلنا والله نريد التوبة، كلنا والله نريد الإنابة؛ لأنه والله ما من عبد قد ارتكب معصية -وكان يحمل قلباً سليماً حياً- إلا وأحس أن الأرض بما رحبت قد ضاقت عليه، وأن أنفاسه تختنق، وأن صدره يضيق فيكون كخرم إبرة، إنها الفطرة السوية السليمة، وإن كنت على غير ذلك ففتش عن قلب؛ لأنه ربما تكون لا تحمل قلباً ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأنا لا أقصد القلب الذي يتكون من الأذين والبطين، وإنما أقصد القلب الذي قال عنه الحبيب المصطفى كما في الصحيحين من حديث النعمان: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
ماذا قال إبراهيم بن أدهم لهذا السائل؟ قال له: يا هذا! عليك بخمس خصال لتكون من أهل التوبة، ولتترك المعاصي.
قال: هاتها يرحمك الله.
قال إبراهيم: أما الأولى: إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! أيها العاصي! أذكر بهذا نفسي والله، فأنا أولكم، إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! قال الرجل: سبحان الله! وهل الأرزاق كلها إلا من الله يا إبراهيم؟! فقال له: فهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟! دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب إذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزق الله! قال: كيف ذلك والأرزاق كلها لله؟ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، لا تأكل رزق الله إذا أردت أن تعصي الله، قال: كيف ذلك والأرزاق كلها بيد الله؟! قال: وهل يجدر بك أن تأكل رزقه وتعصيه؟! قال: لا، هات الثانية.
قال إبراهيم: أما الثانية: إن أردت أن تعصي الله فابحث عن أرض ليست لله فاعصه هناك؟! ابحث عن مكان ليس ملكاً لله، فكيف تجرؤ على أن تعصي الله في ملكه؟! كيف تجرؤ على أن تدخل بيت ملك من ملوك الأرض أو بيت حاكم من حكام الدنيا وأنت ستعصيه في هذا البيت؟! والله لن تجرؤ على معصيته، وأتحداك أن تجرؤ، بل أتحداك أن تفعل ذلك في بيت رئيس مجلس الإدارة، أو في بيت مدير عام، أو في بيت مدير إدارة، أو في بيت رئيس قسم، أو في مكتب مسئول صغير، أتحداك أن تعصيه في مكتبه! فإن أردت أن تعصي الله عز وجل ففتش عن أرض ليست ملكاً لله فاعص الله هنالك! فقال الرجل: يا إبراهيم! الأرض كلها لله، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ} [الأعراف:128]، فكيف تقول لي هذا؟! فقال إبراهيم: فهل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله؟! فكر -يا أخي- هل يجدر بك أن تعصي الله في ملك الله جل وعلا؟! قال الرجل: هات الثالثة يرحمك الله.
قال: أما الثالثة: إذا أردت أن تعصي الله جل وعلا فابحث عن مكان أمين لا يراك الله فيه! أمسك أعرابي أعرابية في الصحراء، وأراد أن يفعل بها المعصية، فقالت له هذه المعلمة المربية التي أرادت أن تربيه على مراقبة الله: اذهب وانظر هل يرانا أحد؟ هل نام الناس؟ هل اطمأن الجميع وهجع الجميع في خيامه؟ فانطلق الرجل وعاد إليها فرحاً مسروراً بلذة سيجني ثمارها المرة بعد حين! قال: أبشري لا يرانا أحد، نام الجميع ولا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مكوكبها؟! أين الله؟! إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، معهم أينما كانوا بسمعه، معهم أينما كانوا ببصره، معهم أينما كانوا بعلمه، فإذا أردت أن تعصي الله ففتش عن مكان أمين لا يراك فيه الله عز وجل! أراد أستاذ فطن ذكي أن يربي تلاميذه على المراقبة لله، فدفع لكل تلميذ طائراً وقال: لينطلق كل تلميذ ليذبح طائره في مكان لا يراه فيه أحد، فجاء كل تلميذ بطائره بعدما ذبحه، ودخل على الأستاذ تلميذ نجيب بطائره ولم يذبحه، قال: ما الذي جعلك تأتي بطائرك من غير ذبح؟ قال: يا أستاذي! لقد أمرتنا أن نفتش عن مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان أذهب إليه إلا والله يراني فيه، فعدت به هكذا.
إنها المراقبة لله، إن أردت أن تعصي الله ففتش عن مكان أمين لا يراك الله فيه، فقال الرجل: كيف يا إبراهيم والله عز وجل يقول: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]؟! فقال إبراهيم: فهل يجدر بك أن تعصي الله وأنت على يقين أن الله يراك؟! قال: يرحمك الله هات الرابعة.
قال: أما الرابعة: إذا أردت أن تعصي الله، وجاءك ملك الموت فقل له: أخر قبض روحي حتى أتوب إلى الله! قال: كيف ذلك والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]؟! قال: أنت تعلم ذلك، وكيف تريد النجاة؟! تعلم أن الموت يأتي بغتة، وتعلم أن ملك الموت لا ينتظر أحداً، ولا يترك شاباً ولا شيبة، ولا رجالاً ولا نساءً ولا صغاراً ولا كباراً.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجى منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان إذا جاءك ملك الموت -أيها العاصي، أيها المسرف على نفسك بالذنوب- فلا تستجب! قل: لا.
لن أستجيب لك يا ملك الموت! أو قل: انظرني إلى أجل معدود، لماذا؟ لأعود إلى الله، ولأتوب إلى الله، ولأرجع إلى الله، كلا {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100]، إنها كلمة حقيرة لا وزن لها عند الله، لا يستجيبها الله، لقد أمهلك الله، لقد أنزل الله إليك الكتب، وأرسل الله إليك الرسل، وبعث الله إليك العلماء والدعاة فسخرت منهم، واستهزأت بهم، وصددت عن سبيل الله، ووقفت حجر عثرة في دعوة الله، وفي طريق الدعاة إلى الله.
واليوم لما عاينت الحقائق ورأيت الحق الذي لا خفاء فيه تقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي) هو لا يدري إن كان سيعمل أو لا يعمل، وإنما يقول: (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) فعلم الله كذبه، وعلم الله نفاقه، فقال جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
قال: هات الخامسة يا إبراهيم! قال: أما الخامسة: إذا أردت أن تعصي الله، فإذا جاءتك زبانية جهنم ليسوقوك إلى العذاب فلا تذهب معهم! فبكى الرجل وانطلق وهو يصرخ ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، أستغفر الله وأتوب إليه، اللهم اغفر لنا وراحمنا يا أرحم الراحمين.(40/5)
اغتنم لحظات عمرك فالموت يأتي بغتة
أيها الأحبة الكرام! أيها الإخوة الكرام! كم من أحبابنا وإخواننا اليوم يتمرغ في نعم الله، ويعيش في نعيم الله وهو مع ذلك مصر على معصية الله، لماذا؟ يقول: أنا لازلت شاباً! إن شاء الله تعالى إن كبر سني سأتوب إلى الله، ولن أترك المساجد أبداً! فنقول: إن الموت لا يترك صغيراً ولا كبيراً، والله لا يضمن أحد أن يعيش إلى الغد، قال عبد الله بن عمر: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
إن الموت هو الحق أيها الأحبة! ذكر نفسك بهذه الحقيقة التي سماها الله في القرآن بالحق، قال سبحانه: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، والحق أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.
{ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، أي: ذلك ما كنت منه تهرب.
تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفاً من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفاً من الموت، ولكن ثم ماذا؟! أيها القوي الفتي! يا أيها الحاكم! يا أيها الكبير! يا أيها الصغير! يا أيها الفقير! كل باك فسيبكى، وكل ناع فسينعى، وكل مدخور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من على فالله أعلى.
انظر إليه: هو من هو؟! هو صاحب الجاه والسلطان، والأموال، والوزارة، والملك، نام على فراش الموت! الأطباء من حول رأسه، كل يبذل له الرقية، كل يبذل له العلاج، ولكنهم يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
انظر إليه لقد اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ يحس بزمهرير قارس يزحف إلى يديه وقدميه، يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيحس أن الشفة كالجبل لا تريد أن تتزحزح إلا لمن يسر الله له النطق بلا إله إلا الله، فينظر في لحظة صحوه بين السكرات والكربات، ينظر إلى أهله، وإلى الأطباء من فوق رأسه، وإلى إخوانه، وإلى أحبابه، ويقول بلسان الحال، بل وبلسان المقال: يا أحبابي! يا إخواني! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، افدوني بأعماركم، أنا صاحب الجاه، أنا صاحب السلطان، أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نميت التجارة، فمن منكم يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟ وهنا يعلو صوت الحق: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:83 - 96].
سبحانك يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة! سبحانك يا من نقلت بالموت الأكاسرة والأكابرة والأباطرة من القصور إلى القبور! ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود! ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاساة الهوان والديدان! ومن التنعم بألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في ألوان الوحل والتراب!(40/6)
مواعظ شعرية
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني كأنني بين تلك الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون كأنني وحولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقام من كان احب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني فكشف الثوب عن وجهي لينظرني فأسكب الدمع من عينيه أغرقني وقال هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن بالمنن وأخرجوني من الدنيا فوا أسفاه على رحيل بلا زاد يبلغني يا نفس كفي عن العصيان واغتنمي حسن الثواب من الرحمن بالمنن وقال آخر: يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(40/7)
باب التوبة مفتوح
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه ومن والاه.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! ثالثاً: باب التوبة مفتوح.
هيا يا من رق قلبك، وخشعت جوارحك، ودمعت عينك، تب إلى الله، وعاهد ربك من الآن على التوبة، على ترك المعاصي، على ترك الذنوب، على السير على طريق الحبيب المحبوب محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا -والله- مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة.
هيا تب إلى الله، واعلم بأن الله -وهو الغني عن العالمين- سيفرح بتوبتك، سيفرح بأوبتك، سيفرح بعودتك، اسمع لربك وهو ينادي عليك: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
واسمع إلى الله وهو ينادي عليك في الحديث القدسي الذي رواه مسلم والترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس: (يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
ووالله ما من يوم يمر، وما من ليلة تمر، إلا وربك يتنزل إلى السماء الدنيا تنزلاً يليق بكماله وجلاله كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري: (يتنزل ربك ويقول: أنا الملك، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر).
فعد إليه، ليجدك ربك ساجداً بين يديه، متضرعاً متذللاً على أعتابه، لتناجيه ولترفع إليه أكف الضراعة، فإن الله عز وجل يفرح بأوبتك، ويفرح بتوبتك، وهو الغني عن العالمين، لا تنفعه الطاعة، ولا تضره المعصية، (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) وذلك في يوم القيامة، فتب إلى الله.(40/8)
قصة تائب
أقص عليكم قصة تائب؛ لأن كثيراً من الناس الآن يحول الشيطان بينه وبين التوبة بحجة أنه قد أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب، ويقول لنفسه: كيف تعود إلى الله وقد أسرفت على نفسك بالمعاصي؟! كيف ترجع؟! كيف تتوب؟! وهل يقبل الله منك التوبة؟! نعم يا أخي! الله يقبل منك التوبة إن صحت توبتك، وحققت لها الشروط، فأقلعت عن الذنب، وندمت على ما فعلت، واستغفرت الله، وأكثرت من العمل الصالح، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فعد إليه وأنت على يقين بأن الله سيغفر لك ما دمت قد حققت شروط التوبة النصوح.
إنها قصة شاب من السعودية ما ترك كبيرة من الكبائر إلا وارتكبها، ما من ليلة تمر عليه إلا وهو يترنح بين كئوس الخمر، وأحضان الزواني، ولما رآه أهله هكذا قالوا: نزوجه لعل الله عز وجل أن يمن عليه بالهداية والتوبة، وأن يستقيم على طريق الطاعة، فزوجوه، واختاروا له فتاة جميلة على دين، ولكنه لازال منغمساً في شهواته ونزواته والعياذ بالله، ما من ليلة إلا ويترك زوجته ليذهب ويبحث عن أخرى والعياذ بالله! وظل على هذا الحال إلى أن رزقه الله عز وجل من هذه الزوجة بفتاة صغيرة جميلة، وكبرت هذه الفتاة حتى بلغت الرابعة من عمرها، وكانت تسأل عن أبيها: أين أبي في الليل؟! أين هو؟! وأمها تعلم، ولكنها تخفي عنها الجواب، وفي ليلة من الليالي عاد هذا الشاب بشريط جنسي داعر، ودخل فاطمأن، نظر إلى زوجته فرآها نائمة، ونظر إلى ابنته فرآها نائمة، فدخل إلى غرفته المجاورة بعدما اطمأن إلى أن البيت كله قد هجع ونام، وأدخل هذا الشريط القذر، الذي ابتليت به كثير من بيوت المسلمين في هذه الأيام ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأدخل الشريط في هذا الجهاز الخطير، في جهاز الفيديو، وجلس أمام هذا الشريط بعدما فعل وشرب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واستيقظت الفتاة الصغيرة من نومها، فرأت نوراً في الغرفة إلى جوار غرفة أمها، فتسللت من الفراش كتسلل القطا، ودخلت على أبيها الذي فوجئ بها أمامه، وإذ بهذه الفتاة يلقي الله على لسانها كلمة عجيبة، نظرت إلى أبيها الذي أذهلته المفاجأة، ونظرت إلى التلفاز فرأت مشهداً مروعاً، بكت ثم قالت لأبيها: يا أبتي! أتريد أن تدخلنا جميعاً النار معك؟! وكأن هذه الكلمة كانت بمثابة النور الذي بدد هذا الظلام في هذا القلب المظلم، وقعت الكلمة على وتر حساس، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
إن الهداية بيد الله، وإن الفضل بيد الله؛ لذا أذكر أحبابي الشباب من أهل الطاعة والسنة والالتزام، إياك أن تحتقر عاصياً، وإياك أن تسب أحداً؛ لأنك لا تعلم بأي شيء سيختم لك، وبأي شيء سيختم له، فإن الأمر لله، {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:73]، أسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد.
وقعت هذه الكلمة على قلب الرجل كالماء البارد، أو كحبات الندى على زهرة ظمأى، تفتح القلب، فقام واحتضنها وقبلها بين عينيها، وقال لها: والله لقد آن! والله لقد آن! وسمع المؤذن يؤذن لصلاة الفجر فخرج إلى المسجد المجاور، وشاء الله عز وجل أن يتلو الإمام في صلاة الفجر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، وبكى هذا التائب بكاءً طويلاً، وبكّر بعد الشروق إلى عمله، فعجب إخوانه في العمل لماذا جاء اليوم مبكراً؟! فأخبرهم بقصته، فقال له رئيسه: فلتعد اليوم إلى بيتك، فإني أرى الإرهاق ظاهراً عليك، فعاد الرجل إلى بيته -أيها الأحبة- فسمع بكاءً وعوياً وصراخاً، فلما دخل قال: ما الخبر؟! قالوا: لقد ماتت ابنتك! الله أكبر! لقد ماتت ابنتك، فبكى الرجل بكاءً طويلاً، وأصر على أن يحتضنها في صدره، وأن ينطلق بها ليضعها في قبرها في مثواها الأخير، قالوا: لا تفعل.
قال: أريد أن أودع النور الذي أخرجني من الظلمات إلى النور! وكانت هي التوبة، عاد إلى الله، ووالله إنه الآن ممن يتحرك لدعوة الله ولدين الله عز وجل.
أيها الأحبة الكرام! توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون! واعلموا بأن الله تواب رحيم، واعلموا أن الله غفور كريم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اجعل مصر واحة من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من الأمن والأمان، اللهم لا تحرم مصر من التوحيد والموحدين، الله اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد الإسلام، اللهم رد الأمة إليك رداً جميلاً برحمتك يا أرحم الراحمين! أيها الأحبة! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(40/9)
الوفاء بالعهد
الوفاء بالعهد وصدق الوعد من صفات الأنبياء والصالحين، ولهذا مدح الله عز وجل من كان كذلك، وأمر بهما، وجعل نقض العهد وإخلاف الوعد من صفات المنافقين التي يجب الحذر منها!(41/1)
صدق الوعد خصلة كريمة من خصال الأنبياء عليهم السلام
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: أحبتي في الله! مع اللقاء التاسع والعشرين وما زلنا بحول الله وطوله ومدده نطوف في بستان سورة مريم، ومع قول الحق تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55].
نحن في هذا الدرس على موعد مع نبي ورسول كريم من رسل الله جل وعلا، مع إسماعيل عليه السلام، وإسماعيل هو والد العرب جمعياً، اصطفاه الله عز وجل من ولد إبراهيم، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل).
ولقد أثنى الله جل وعلا على إسماعيل بصدق الوعد، فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54].
وصدق الوعد أيها الأحباب! خصلة كريمة من خصال الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، عز وجوده وندر في هذه الأيام، فكم من وعود معسولة! وكم من عهود مسموعة ومرئية ومنقولة! ولكن أين الوفاء بالعهد؟! وأين صدق الوعد والوعود؟! فإن كثيراً من الناس في هذه الأيام يشبه حاله تماماً بما حكوه عن جحا وساقيته، فلقد زعموا أن جحا صنع ساقية تأخذ الماء من النهر وترد نفس الماء إلى نفس النهر؛ فعجب الناس لـ جحا وقالوا له: عجباً لك يا جحا! ما الذي دعاك إلى ذلك؟! ما الفائدة من ساقية تأخذ الماء من النهر وترد نفس الماء إلى نفس النهر؟! فقال جحا: يكفيني نعيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فكم من الناس من يتكلم؟ وكم من المسئولين من يَعِد؟ وكم من المسئولين من يتعهد لله وللناس؟ ولكن أين صدق الوعود؟! وأين الوفاء بالعهود؟! لذا أثنى الله جل وعلا على إسماعيل بصدق الوعد؛ لخطورة هذه الخصلة وهذا الخلق فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54].
قال أئمة التفسير: إن الله جل وعلا أثنى بهذا على إسماعيل؛ لأنه ما من عهد عاهد به ربه إلا وصدق في عهده ووعده لربه جل وعلا، فهو الذي وعد الخليل صلى الله عليه وسلم أن يجده صابراً إذا ما جاء لينفذ فيه أمر الله بالذبح، كما قال الله عز وجل عنه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، والدليل على أنه وفى بوعده قول ربه جل وعلا: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103]، عاهد ربه فوفى بعهده ووعده لله عز وجل، لذا أثنى الله عليه بقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54].
وصدق الوعد أيها الأحبة! مدح الله جل وعلا به المتقين الصادقين، كما في آية البر الجامعة التي في سورة البقرة، يقول الحق تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
والشاهد في قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة:177] وهذه صفة من صفات المتقين الصادقين، ولذا قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
وكفى أن نعلم بأن إخلاف الوعد وعدم الوفاء بالعهد من خصال المنافقين عياذاً بالله! فمن أخلف وعده وغدر بعهده فقد اتصف بصفة من صفات المنافقين، والعياذ بالله!(41/2)
أنواع النفاق وعلاماته
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً).
فانتبهوا يا عباد الله! واحذروا من هذه الخصال، وتعرف أيها الأخ على نفسك أين أنت؟ وهل أنت من المؤمنين الصادقين، أم أنت -والعياذ بالله- من المنافقين؟ فقد تكون فيك خصلة من خصال النفاق وأنت لا تدري، فإن النفاق هو الداء العضال الذي قد يقع الرجل فيه وهو لا يشعر.
النوع الأول: النفاق الأكبر، وصاحبه مخلد في الدرك الأسفل من النار، وهو: أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، والعياذ بالله! النوع الثاني: نفاق العمل، وهو: أن يظهر الإنسان علانية خيرة -نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية- وأن يبطن الشر والسوء، والعياذ بالله! فالنفاق هو الداء العضال الذي قد يمتلئ منه الرجل وهو لا يدري ولا يشعر، فانتبهوا يا عبد الله! لتتعرف على حالك أين أنت من كتاب الله جل وعلا؟ وهل أنت من المؤمنين الصادقين المتقين؟ أو أنك -والعياذ بالله- من أهل النفاق؟ وانتبه! لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب)، فهل أنت من الصادقين في القول، أم أنت غير ذلك والعياذ بالله؟ هذه الأربع: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر)، هذه هي صفات وخصال أهل النفاق: إذا حدث فهو كاذب، وإذا عاهد فهو من الغادرين، وإذا خاصم فهو من الفاجرين، وإذا اؤتمن لم يؤد الأمانة.
وفي الرواية التي جاءت عن أبي هريرة رضي الله عنه والتي رواها البخاري ومسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي رواية لـ مسلم: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)، أي: فهو منافق.
إذا اختلت ثقة الإنسان في وعود وعهود إخوانه من المسلمين اختل الكيان، وتخلخل بناء الأمة، وضاع فيها الأمن والأمان، فكم من المسلمين من يحدث وهو كاذب؟ وكم من المسلمين من يعد وهو خائن؟ وكم من المسلمين من يعاهد وهو غادر؟ كم أعطى من الوعود والعهود وبعدها غدر بأصحابها؟ وكم من وعود معسولة؟ وكم من عهود مسموعة ومرئية ومنقولة؟ ولكن أين صدق الوعد؟ وأين الوفاء بالعهد؟ لقد ضاعت هذه الخصلة وضاع هذا الخلق بين المسلمين إلا من رحم الله جل وعلا.
فرواية أبي هريرة: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، ورواية عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر) والعياذ بالله! والروايتان في الصحيح.(41/3)
خوف السلف من النفاق
والله لقد مزق الخوف من النفاق قلوب السابقين الأولين، وهم من هم في الصدق والوفاء! مزق الخوف من النفاق قلوبهم، فهذا فاروق الأمة عمر بن الخطاب الذي قال في حقه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لقد أجرى الله الحق على لسان عمر وقلبه)، انظر إلى هذه الشهادة التي شهدها الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عمر! فهو الذي وصفه القرآن من فوق سبع سموات، ونزل القرآن من عند الله موافقاً لرأي عمر في أكثر من موضع، ويوم أن قام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي على رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول جذبه عمر بن الخطاب بثوبه، وقال: لا تصل عليه يا رسول الله! أنسيت ما صنع؟! لقد صنع كذا في يوم كذا، وكذا في يوم كذا، وجاذب عمر ثوب الرسول صلى الله عليه وسلم فجذب رسول الله ثوبه وقال: (دعني يا عمر! فلقد خيرني الله جل وعلا بين أن أستغفر لهم أو لا أستغفر لهم) ثم صلى الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس النفاق، وينزل القرآن على الحبيب صلى الله عليه وسلم موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه، وهو قول الله جل وعلا: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، فنزل القرآن موافقاً لرأي عمر، ويوم أن قال عمر برأيه في أسرى بدر نزل القرآن موافقاً أيضاً لرأي عمر.
ويوم أن نظر عمر إلى المنافقين وهم ينظرون إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب وأخذته الغيرة، وقال لرسول الله: (احجب نساءك يا رسول الله! فإن المنافقين ينظرون إليهن) فنزلت آيات الحجاب، وحجب الرسول نساءه، وكم من الآيات والمواقف التي نزل فيها القرآن موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه؟ فـ عمر هو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وعمر هو الذي يقول في حقه رسول الله: (لو كان نبياً بعدي لكان عمر).
ويوم أن سمع عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر حذيفة بن اليمان -وهو أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأسماء المنافقين ذهب إلى حذيفة رضي الله عنه ويقول له: (نشدتك الله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في أسماء المنافقين؟).
عمر بن الخطاب يخشى ويخاف على نفسه النفاق، فقال: (نشدتك الله يا حذيفة! هل سماني لك رسول الله في المنافقين؟ فيرد عليه حذيفة ويقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً) عمر مزق الخوف من النفاق قلبه وقلوب السابقين الصادقين، حتى أساءوا الظن بأنفسهم، وخشوا أن يكونوا من المنافقين، والعياذ بالله! ولقد ثبت في صحيح مسلم من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه أنه مر عليه الصديق يوماً فوجده يبكي، فسأله الصديق: لماذا تبكي يا حنظلة؟ فرد عليه حنظلة بقوله: نافق حنظلة يا أبا بكر! فقال: ومم ذاك؟ قال حنظلة: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، حتى إذا ما عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والصبية فنسينا كثيراً -أي: إذا عدنا إلى البيوت وتركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نسينا كثيراً من الخشوع والخضوع والبكاء والذل لله جل وعلا- فنظر الصديق رضي الله عنه إلى حنظلة وقال: وأنا أجد مثل ذلك.
فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل الحبيب حنظلة: وقال: (ما يبكيك يا حنظلة؟!)، فقال حنظلة: نافق حنظلة يا رسول الله! فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما ذكره لـ أبي بكر فقال الحبيب عليه الصلاة والسلام: (لو تدومون على الحالة التي تكونون بها عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وعلى الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، أي: لو تدومون على هذا الحال من الخشوع والخضوع والذل والانكسار للكبير المتعال لأصبحتم كالملائكة، وبمعنى أدق: لصافحتكم الملائكة في مجالسكم، وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة.(41/4)
معنى حديث: (ساعة وساعة)
وهنا وقفة؛ لأن كثيراً من المسلمين يأخذون هذه القولة في هذا الحديث المبارك ويقولون: ساعة وساعة، بمعنى: ساعة لشهواتك وملذاتك ومعاصيك، وساعة لربك جل وعلا، فإذا ما ذهبت إليه لتذكره بالله ولتأمره بالمعروف ولتنهاه عن المنكر قال لك: يا أخي! ساعة وساعة، فلا تشدد علينا، وإذا ما قلت له: صل، وإذا ما قلت له: زك، وإذا ما قلت له: لا تسبل الثوب، وإذا ما قلت له: لا تحلق اللحية، نظر إليك وقال: يا أخي! لا تشدد علينا؛ فإن الأمر يسير، ألم يقل رسول الله: (ساعة وساعة)؟! ومثل هذه الفتاوى جاهزة ومعدة.
وإذا ما قلت له: اتق الله! قال لك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وإذا ما قلت له: اتق الله! ولا تشرب الخمر، قال لك: ليست خمراً، ولكنها مشروبات روحية! وإذا ما قلت له: اتق الله ولا تأكل الخنزير لأنه حرام، قال لك: الخنزير المحرم هو الخنزير الذي كان في أرض الجزيرة يوم أن نزل القرآن؛ وكان خنزيراً هزيلاً، أما خنازير اليوم -وما أكثرها! - فهي تربى في المصحات، ويشرف عليها الأطباء، فلمَ لا نأكلها؟!! وأصبح الحال كما قال الشاعر: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والأولو تبع لهم في القول والأعمال أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي صدوك عن وحي الإله ودينه واحتالوا على حرام الله بالإحلال يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الصبيان في الأوحال حاشا رسول الله يحكم بالهوى والجهل تلك حكومة الضلال وإنما المراد بقوله: (ساعة وساعة)، أي: ساعة لمعاشك، وساعة لمعادك، فلا مانع من أن تداعب زوجك وولدك، ولا مانع من أن تمكث مع أولادك ومع زوجتك أو زوجاتك ساعة لتخفف عليهم، أو أن تمكث في الأرض أو تسيح في الأرض لتحصل رزقك من الحلال، وبعدها تتفرغ لعبادة الله جل وعلا، فساعة لدنياك، وساعة لأخراك، ساعة لمعاشك وساعة لمعادك، أما أن تجلس أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة وأنت تقول: قال رسول الله: (ساعة وساعة)، فهذا فهم مقلوب، ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً.(41/5)
مواقف ضرب فيها السلف أروع الأمثلة في صدق الوعد
فصدق الوعد خصلة كريمة وصفة حميدة من صفات الإيمان، وخلق عظيم من أخلاق الإسلام، ولا أنسى وأنا أتحدث في هذا المقام عن صدق الوعود وعن الوفاء بالعهود أن أذكِّر بخيرة الرجال الأبطال، الذين رباهم سيد الناس محمد صلى الله عليه وسلم فضربوا للبشرية إلى يوم القيامة أروع الأمثلة في صدق الوعد والوفاء بالعهد، فهؤلاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الصدق فصدقوا، وعاهدوه على نصرته فنصروه.
وأضرب مثالين اثنين في ذلك:(41/6)
صدق سعد بن الربيع مع الله ورسوله
المثال الأول: ما ذكره ابن سعد في (الطبقات) وابن إسحاق في (السيرة) وابن عبد البر في (الاستيعاب) والإمام مالك وابن حجر في (الإصابة) وغير هؤلاء: أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: (انطلق يا زيد! إلى سعد بن الربيع -وهو الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه- فانظر أهو في الأحياء أم في الأموات؟ وأقرئه مني السلام، قال زيد بن ثابت: فانطلقت فوجدت سعدا في آخر رمق من الحياة، فاقتربت منه وقلت له: يا سعد! لقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ وأن أقرئك منه السلام، فنظر سعد وقال: بل أنا في الأموات يا زيد! وأبلغ رسول الله مني السلام، وقل له: يقول لك: سعد بن الربيع: جزاك الله عنا خير ما جزى الله نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته، ثم قال سعد: يا زيد! وأبلغ القوم مني السلام، وقل لهم: يقول لكم سعد بن الربيع: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف).
أي رجال هؤلاء؟! وأي عظمة هذه؟! يموت سعد وهو يقول: (بلغ رسول الله مني السلامة، وقل له: جزاك الله عنا خير ما جزى الله نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته، وبلغ القوم مني السلام يا زيد! وقل لهم: لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله مكروه وفيكم عين تطرف!(41/7)
صدق عبد الله بن عبد الله بن أبي مع الله ورسوله
المثال الثاني: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن زياد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال له الرسول: (يا عبد الله! أسمعت ما قاله أبوك؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وما قال أبي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إنه قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل!)، فنظر عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (كذب والله أبي يا رسول الله! فأنت الأعز وهو الأذل، ثم قال للحبيب عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! والله لقد أتيت المدينة ولا يوجد بها من هو أبر بأبيه مني، أما وقد قال ما قال فلتسمعن ما يسرك يا رسول الله!).
وصدق مع الحبيب صلى الله عليه وسلم، فخرج عبد الله رضي الله عنه ووقف على باب المدينة، وجاء رأس النفاق أبوه عبد الله بن أبي ابن سلول فوقف أمامه ابنه وولده وقال له: إلى أين؟ فقال أبوه: إلى داري، فنظر إليه ابنه عبد الله وقال: (والله لا يأويك ظلها، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ورسوله!).
إنها العظمة! وأي كلمات نستطيع أن نعبر بها عن هؤلاء العمالقة الأطهار الأبرار الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم؟! فيصرخ أبوه عبد الله: يا للخزرج! يا للخزرج! ابني يمنعني داري! فما الذي حدث؟ وما هذا الذي تحول؟ لقد تحولت العقول والقلوب يوم أن استقر الإيمان فيها، ويوم أن تمكنت العقيدة منها، تغيرت العقول كلية، وتغيرت القلوب كلية، إنها اللمسة الخفيفة التي تحول القلوب العادية المظلمة الكافرة إلى قلوب سكن فيها حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فتنظر بعدها إلى الدنيا على أنها حطام وظل زائل، وعارية مسترجعة، لا قيمة لها ولا وزن بجوار حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها العقيدة التي تحول القلوب، إنه الإيمان الذي يخرج الأطهار والأبرار.
فلما قال له ابنه: (والله لا يأويك ظلها، ولا تبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ومن رسوله) صرخ عبد الله بن أبي ابن سلول قائلاً: يا للخزرج! ابني -وهو من أبر الناس بأبيه، وقد شهد الأنصار كلهم ببره- يمنعني بيتي! فما الذي حدث؟! وما الذي فعله محمد صلى الله عليه وسلم في هذه العقول والقلوب؟! إنه الإيمان والعقيدة إنها (لا إله إلا الله) بمعناها ومقتضاها، ويذهب الناس إلى عبد الله ويقولون له: يا عبد الله! هذا أبوك فكيف تمنعه؟! فيقول: والله لا يأويه ظلها، ولا يبيتن الليلة فيها إلا بأمر من الله ومن رسوله، ليعلم من الأعز ومن الأذل؟! فذهب الناس إلى من زكاه ربه في كل شيء.
إلى من زكاه ربه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
وزكاه في علمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].
وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].
وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4].
وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ذهب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! عبد الله يمنع أباه أن يدخل بيته ومنزله! فيرد صاحب الخلق الكريم ويقول لهم: (اذهبوا إلى عبد الله وأخبروه وقولوا له: يقول لك رسول الله: ائذن له أن يدخل بيته)، وهو الذي قال ما قال! إنه الحلم والعفو عند المقدرة والغضب، بأبي هو وأمي، فيأذن عبد الله -بعد أن أتاه الأمر من رسول الله- لأبيه أن يدخل إلى بيته، وهو يقول له: أما وقد جاء الأمر من رسول الله فلتدخل إلى بيتك، لتعلم من الأعز ومن الأذل؟!(41/8)
ثناء الله عز وجل على نبيه إسماعيل عليه السلام بصدق الوعد
إنه صدق الوعد والوفاء بالعهد، ولو ظللنا نتحدث عن سيرهم وعن قصصهم لوجدنا وسمعنا عجباً! لذا أيها الأحباب! فإن الله أثنى على إسماعيل بصدق الوعد قبل الرسالة والنبوة، وينبغي أن نتوقف عند هذا، يقول عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وبعدها يقول: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54].
إذاً: فصدق الوعد أمر خطير، ومقدمة هامة وضرورية لكل نبي ورسول؛ لأن من صفات الأنبياء والمرسلين صدق الوعد والوفاء بالعهد، وهذه صفات أهل الإيمان، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وجمع الله لإسماعيل بين الرسالة والنبوة، والرسالة أشمل من النبوة، فإن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فشرف الله إسماعيل؛ وجمع له بين النبوة والرسالة فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وانظروا إلى ما يثني الله جل وعلا به على إسماعيل بعد الرسالة والنبوة فيقول: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55].
فكان يأمر أهله أن يصلوا، وكان يأمر أهله أن يزكوا، فكان يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، قال الحسن في قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} [مريم:55] أي: قومه؛ لأن النبي بمنزلة الأب لأبنائه، فكان يأمر قومه بالصلاة والزكاة {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] فأنت مأمور يا عبد الله! أن تأمر أهلك بالصلاة والزكاة، وأن تأمرهم بالمعروف، وأن تنهاهم عن المنكر.(41/9)
قوا أنفسكم وأهليكم النار فإنهم أمانة في أعناكم
فيا من صلى لله وترك بناته في الجامعات كاسيات عاريات! اتق الله واستح من الله، يا من تصلي لله جل وعلا وزوجتك سافرة.
اتق الله عز وجل! واعلم أنهن سيتعلقن برقبتك يوم القيامة، وسيقلن لله جل وعلا: يا رب! ما أمرنا بالمعروف، يا رب! ما نهانا عن المنكر، يا رب! دخل علينا في الليل فوجدنا أمام المسلسلات الفاجرة والأفلام الداعرة فجلس معنا، يا رب! وجدنا لا نصلي فلم يأمرنا، يا رب! وجدنا لا نتقي الله فلم يأمرنا، يا رب! وجدنا كاسيات عاريات فقال: إن البنات إذا بلغن إلى سن معينة فلا ينبغي فيه أن يؤمرن وأن ينهين! فاتق الله واستح من الله يا عبد الله! أما قرأت قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]؟! فبالله عليكم كم من الناس من يصلي وزوجته سافرة؟! وكم من الناس من يصلي وبناته كاسيات عاريات؟! أما تستحي من الله؟! يا من تدخل في الليل فترى بناتك أمام أشرطة الفيديو الداعرة، اتق الله فإنهن سيتعلقن برقبتك أمام الله في يوم قال عز وجل عنه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، ورد في سنن البيهقي وغيره أن الحبيب صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات من سورة التحريم وقال: (اتقوا النار! اتقوا النار! اتقوا النار! فلقد أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة)، وكان عبد الله بن عمر يقول: (اتقوا النار! فإن حرها شديد، وإن قعرها بعيد، وإن مقامعها حديد).
اؤمر أهلك بالصلاة اؤمر أهلك بالزكاة اؤمر بناتك بالحجاب؛ لأنك مسئول عنهن، فمرهن بالحجاب ولا تدعهن يخرجن كاشفات وسافرات وعاريات، اؤمر أهلك بالمعروف وانههم عن المنكر، كما قال الله عن إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] أي: زاكياً قد رضي الله عنه لأعماله وخصاله، فكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن قال فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(41/10)
ثناء الله على نبيه إدريس عليه السلام بصدق الوعد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيا أيها الأحبة! هذا هو قول الله تبارك وتعالى عن نبيه ورسوله إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55].
وبعد أن حدثنا الله جل وعلا عن نبيه إسماعيل حدثنا عن نبيه إدريس عليهما الصلاة والسلام، ففي عجالة سريعة أقول: إن نبي الله إدريس -الذي قال الله في حقه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]- هو من أجداد نوح عليه السلام، ولقد زعم بعض المؤرخين أنه بعد نوح، ورد هذا الزعم الحافظ ابن كثير وغيره من المؤرخين الثقات، وقال: إن إدريس من أجداد نوح عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وهو أول من خط بالقلم، وهو أول من لبس المخيط.
ورفعه الله مكاناً علياً، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لما عرج بي إلى السماء أتيت على نبي الله إدريس في السماء الرابعة)، فقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] أي: في السماء الرابعة، وقد التقى الرسول صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى بآدم عليه السلام، والتقى في السماء الثانية بيحيى وعيسى عليهما السلام، والتقى في السماء الثالثة بيوسف عليه السلام، والتقى في السماء الرابعة بإدريس عليه السلام، والتقى في السماء الخامسة بهارون عليه السلام، والتقى في السماء السادسة بموسى عليه السلام، والتقى في السماء السابعة بإبراهيم عليه السلام.
والحقيقة أيها الأحبة! أن من يطلع على كتب السير والتفاسير يجد من الأساطير والخرافات التي نسجت حول رفع إدريس ما تنوء بحمله الجبال! ولكن أقول: لم يرد في كيفية رفع إدريس خبر صحيح عن الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا فسأكتفي بما ورد عن إدريس في القرآن الكريم وهو قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:56 - 57]، فلا ينبغي أن نلهث وراء هذه الخرافات والأساطير، فما سكت الله عنه وجب أن نسكت عنه، ولو علم الله في ذلك خيراً لذكره لنا، ولو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك خيراً لذكره لنا.
إذاً: إدريس نبي من أنبياء الله جل وعلا، وصفه الله بالصديقية، وتقدم معنى كلمة (صديقاً) عند الكلام على خليل الله إبراهيم.
فإدريس نبي من أنبياء الله، رفعه الله مكاناً علياً، وحدد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المكانة العالية بأنه في السماء الرابعة وكفى.
وبعد الحديث عن هذه الكوكبة المشرقة، وعن هذا الركب المضيء من الأنبياء والمرسلين، الذي بدأناه برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بالخليل ثم بموسى ثم بإسماعيل وبإدريس، يثني الله تبارك وتعالى عليهم جميعاً بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58].
فكانوا إذا تليت عليهم آيات الرحمن اقشعرت الجلود، وارتعدت الأفئدة، ولم تسعفهم الكلمات أن يعبروا عن خوفهم وإجلالهم لربهم جل وعلا، فخروا سجداً وهم يبكون من هيبة الله وعظمته عز وجل.(41/11)
أحكام سجود التلاوة
وهذا السجود ما يسمى عندنا بـ (سجود التلاوة)، وأوجز القول فيه فأقول: إن سجود التلاوة سنة عند أهل العلم، وسجود التلاوة يوجد في خمسة عشر موضعاً في القرآن الكريم، ويرى جماهير أهل العلم أنه سنة، بمعنى: أن من مرت عليه آية من آيات السجود في القرآن الكريم فمن السنة أن يسجد.
واختلف العلماء: هل يشترط لسجود التلاوة أن يكون الساجد متوضئاً؟ فالجمهور على أنه من الأفضل أن يكون الساجد متوضئاً، وقد ورد في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر كان يسجد على غير وضوء.
إذاً: فمن سجد وهو متوضئ فهذا هو الأولى والأفضل، ومن مرت عليه آية سجدة وسجد وهو على غير وضوء فقد سبقه في ذلك من هو أفضل منه، ولا إثم عليه.
فإذا ما مرت عليك آية فيها سجدة فالأفضل أن تكبر وتسجد.
ولا تسليم في سجود التلاوة، ولا تشهد له، وإنما تكبر تكبيرة وتسجد، ثم تدعو الله عز وجل في سجودك.
وقد ورد في فضل هذا السجود ما رواه مسلم وأحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد ابن آدم -إذا مرت عليه آية السجدة فسجد- ولى الشيطان وهو يقول: يا ويلاه أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار).
وأما الدعاء في سجود التلاوة فأصح حديث فيه هو حديث عائشة الذي رواه الحاكم وصححه الترمذي وابن السني أنها رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجود التلاوة: (سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته)، زاد الحاكم: (فتبارك الله أحسن الخالقين)، هذا هو الدعاء الذي يقال في سجود التلاوة، فتسبح الله الأعلى كما تسبحه في صلاتك (سبحان ربي الأعلى) كما قال صحاب (المغني) وغيره، ثم تقول: سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين، وهذه الزيادة جاءت عند الحاكم فقط.
وللترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده -أي: في سجود التلاوة-: (اللهم حط بها عني وزراً، واكتب لي بها عندك أجراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام).
هذا مجمل ما يقال في سجود التلاوة.
يقول الحق تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58].
وورد في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قرأ يوماً في خطبة الجمعة على المنبر سورة النحل، فلما وصل إلى السجدة نزل من على المنبر فسجد وسجد الناس معه، وفي الجمعة الأخرى وقف على المنبر وقرأ نفس الآيات ولم ينزل ولم يسجد، ثم قال: (أيها الناس! إنا لم نؤمر بالسجود، فمن فعله فحسن، ومن لم يفعله فلا إثم عليه) في رواية أخرى قال: إلا من شاء.
إذاً: هو سنة، ويستحب للمسلم أن يسجده، فإن كان متوضئاً فهو الأولى، وإن كان على غير وضوء وسجد سجود التلاوة فلا إثم عليه، والله تعالى أعلم.
وأسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
اللهم يا معلم داود علمنا، اللهم يا معلم داود علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا.
اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا يسرتها يا رب العالمين! والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(41/12)
سوء الخاتمة
الغاية من خلق العباد وإيجادهم في هذه الدنيا هي عبادة الله جل وعلا، ولا يستشعر ذلك إلا من عرف الحقيقة الحتمية التي لا مفر منها، ألا وهي: الموت والقدوم على الله سبحانه وتعالى، والسؤال عن الميثاق والعهد الذي أخذه الله على ابن آدم، وهو: ألا يشرك به شيئاً، كما أن من أكثر من ذكر الموت، واستحضر القدوم على الله كان هذا سبباً في حسن خاتمته.(42/1)