أسباب فضيلة العشر والعمل المطلوب فيها
وتأتي فضيلة هذه العشر لأنها: أولاً: في الأشهر الحرم، فذو الحجة من الأشهر الحرم.
ثم هي الأيام المعلومات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28].
ثم فيها حديث الرسول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).
ثم فيها يوم عرفة أفضل يوم، ثم فيها يوم الحج الأكبر، وأنتم على مشارفه، فلنكثر ذكر الله عز وجل.
من كان له حزب من الاستغفار فليكثر منه، كان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم مائة مرة، فمن كان له حزب من الاستغفار فليكثر منه، ومن كان له حزب من التلاوة فليكثر منه، ومن كان له حزب من قيام الليل فليكثر منه.
وهل يصوم الرجل؟ أو لا يصوم؟ تقدمت الإجابة على مثل هذا بما حاصله أن للعلماء قولين، أو أن في الباب حديثين: أحدهما حديث عائشة: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط).
والثاني: حديث هنيدة بن خالد واختلف عليه، فرواه مرة عن امرأته عن بعض أزواج النبي، ومرة عن أمه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة عن حفصة كل رواياته فيها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم التسع الأول من ذي الحجة).
فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، أو أنه عليه الصلاة والسلام كان يصومها سنوات، ولا يصومها سنوات أخرى.
وقول آخر من الأقوال: إنها تندرج -أي صيامها- تحت الأعمال الصالحة في حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام) وكما أسلفنا أن ابن عمر وأبا هريرة ورد عنهما من طريق معلقة عند البخاري كانا يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
كذلك هل يشرع الإكثار من الصدقات في هذه الأيام؟ من رأى تعميم القول في تفسير العمل الصالح قال: ينبغي أن يكثر من التصدق في هذه الأيام، فالصدقة محمودة على كل حال كما ورد ذلك في الكتاب العزيز، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك هل يدخل الإصلاح بين الناس في هذه الأعمال الصالحة؟ قال بذلك كثيرون من أهل العلم.(40/16)
الأسئلة(40/17)
فتاة نصرانية أسلمت وتخاف من بطش أهلها ما تفعل
السؤال
يقول الأخ جزاه الله خيراً: فتاة نصرانية أسلمت وتخشى بطش أهلها إذا أعلنت وأشهرت إسلامها، فماذا تفعل لكي تقيم شعائر الإسلام وفرائضه وسننه، وما واجبنا نحوها حيث إنها تدرس معنا.
الجواب
تصلي خفية، قال عدد من الصحابة حتى أصبح الرجل منا لا يصلي إلا في بيته سراً، وذلك أيام الحجاج، فتصلي سراً، إن لم تستطع الصلاة سراً صلت ولو بالإيماء، إن لم تستطع الصلاة ولو بالإيماء صلت وهي نائمة، فتومئ إيماءً وهي نائمة، فتتقي الله ما استطاعت إذا أرادت أن تصلي.(40/18)
فضل الحج
فضل الله سبحانه بعض الأيام على بعض، وللأشهر الحرم زيادة فضل ومزية، فقد فرض الحج في شهر ذي الحجة الحرام، والحج هو الركن العظيم الذي افترضه الله على عباده، وشرع لهم مناسكه، وباهى بالحجيج ملائكته، وأشهدهم أنه قد غفر لحجيج بيته الحرام إلى غير ذلك من الفضائل الكثيرة لهذا الركن العظيم.(41/1)
فضل الأشهر الحرم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: معشر الإخوة: لا يخفى عليكم أن الله سبحانه اختص بعض الأيام وبعض الأشهر بفضائل لم يختص بها أياماً وشهوراً أخر، فمن هذه الأيام والشهور التي اختصها الله سبحانه هذه الأشهر التي نحن فيها الآن، وهي الأشهر الحرم، وسميت كذلك ما لها من حرمة، وحرمتها ثابتة في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا ينبغي أن نقترف فيها الآثام، ولا أن نرتكب فيها المعاصي، قال الله جل ذكره: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تحديد هذه الأشهر الحرم: (ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم، ورجب مضر) أي: رجب قبيلة مضر، إذ كانت قبيلة مضر مع كفرها تحافظ على حرمته، ولا تقدم فيه ولا تؤخر، قال: (ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان).
فجدير بكم أن توقروا ما وقره الله وما وقره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قال العلماء: الذنب فيها أعظم من الذنب في غيرها؛ لأن الله نهى عن الظلم فيها نهياً خاصاً بعد النهي العام، فظلم النفس محرم على الدوام على مدار العام، لكن زيادة الاهتمام وزيادة النهي عن الظلم في هذه الشهور تفيد أن لهذه الشهور منقبة وميزة خاصة.(41/2)
فريضة الحج وفضلها
ومن خير ما يفعله المسلم في هذه الأشهر الحج إلى بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً، وهو من خير ما تنفق فيه الأموال، وتضيع فيه الأثمان، ويبذل فيه الجهد، ومن ثم كان فريق من السلف كـ ابن المبارك رحمه الله يحج عاماً ويجاهد في سبيل الله عاماً آخر.
ومن لم يحج وهو في سعة فعليه أن يتذكر أن هذا الترك للفريضة قد يئول به إلى الكفر، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) أي: دين على الناس لربهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (بني الإسلام على خمس -وذكر منها- وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلاً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله! أفي كل عام؟ قال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).
فالشاهد: أن لله عليكم معشر المسلمين والمسلمات فريضة كفريضة الصلاة والصوم يجب أن تؤدى ألا وهي فريضة الحج، وقد ذهب جمهور العلماء: إلى أن هذه الفريضة تجب على الفور لمن استطاعها.
بينما ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها على التراخي، لكن الجمهور وهم الأكثر عدداً قالوا: إن وجوبها على الفور لمن استطاع للآية الكريمة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وفضلاً عما في الحج من تأدية فريضة الله علينا، ففيه كذلك عظيم الأجر وجميل المثوبة، وفيه كذلك عظيم الكفارات لكبائر الإثم ولعظام الفواحش، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج يهدم ما قبله) وقال عليه الصلاة والسلام: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وقال عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وقال عليه الصلاة والسلام: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) وقال صلوات الله وسلامه عليه: (ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل -وفي رواية: كلهم في ضمان من الله عز وجل-: رجل خرج من بيته إلى المسجد كي يصلي، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً) فالذي خرج إلى الحج فهو في ضمان الله، إن مات فهو إلى رحمة الله يبعث يوم القيامة ملبياً، وهنيئاً لمن مات وهو يحج؛ إذ يحشر يوم القيامة قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، ومرحباً بها من موتة، يقوم الشخص لربه يوم بعثه وهو محرم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك فنعمت السعادة للعبد يوم لقاء الله إذ يلاقي ربه بتلك الهيئة.
فيا معشر الأخوة! لا تضنوا بالأموال ولا تبخلوا عن إنفاقها في هذا الباب من أبواب الخير، فالشيطان يأتي يبخلك ويزهدك ويخوفك الفقر، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] وربنا يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] قد تقف بعرفات ترفع يديك إلى مولاك وخالقك وبارئك: يا رب! اصرف عني كل سوء ومكروه، فيصرف الله أوبئة وأمراضاً كانت ستحل بك أو ببنيك فالله لا يخلف الميعاد، ومن أصدق من الله قيلا؟! ومن أحسن من الله حديثا؟! معشر المسلمين! لا تبخلوا على أنفسكم بفريضة من فرائض الله، ولا تحرموا أنفسكم مواقف يتنزل فيها ربكم إلى سماء الدنيا فيباهي بكم ملائكته قائلاً: (انظروا إلى عبادي هؤلاء أتوني شعثاً غبراً أشهدكم أني قد غفرت لهم) فلا تبخل عن نفسك يا من وسع الله عليه! ولا تبخل عن نفسك يا من قدر عليه رزقه، فعليك بدعاء الله؛ فإن العبد إذا أخلص النية كتب له من الأجر ما يعمل وهو غني سوي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم الأجر حبسهم العذر) فإن لم تغنموا الحج فلا يفوتنكم الدعاء بإثبات الأجر فربكم واسع العطاء، كريم جواد، سبحانه وتعالى.
اللهم يا ربنا! يا فاطر السموات والأرض! ويا مبدع السموات والأرض! أقر أعيننا يوم لقائك بالنظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم يا ربنا! أسكنا مع نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم في الفردوس، واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
اللهم يسر لنا الحج عامنا هذا والأعوام القادمة يا رب العالمين! وأثبت الأجر لمن حرم الذهاب يا كريم! يا من لا تنفد خزائنه! يا رب العالمين! اللهم انصر الإسلام وأهله وأذل الشرك والمشركين، وأنزل اللهم رحمتك على أمواتنا وأموات المسلمين، أفسح اللهم لهم في قبورهم، ونور اللهم لهم فيها يا رب العالمين! واجعلها خير منازل، واجعل ممساهم وصباحهم دائماً في جنات النعيم، واشف اللهم أمراضنا وأمراض المسلمين.
وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(41/3)
فقه التعامل بين المسلمين [1]
ما من شك أن كل مسلم لابد له من مخالطة إخوانه المسلمين، والاحتكاك بهم، وعليه فلابد من وجود ضوابط تحكم علاقة المسلم بأخيه المسلم في حدود الشرع يأخذ كل ذي حق حقه، وتسود أخوة الإيمان عموم المؤمنين.(42/1)
فقه التعامل مع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فمحاضرتنا في هذه الليلة إن شاء الله موضوعها: جزء من فقه التعامل بين المسلمين، ولا شك أن كلاً منا يريد أن تكون له وجاهة في الدنيا والآخرة.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بالوجاهة وهو عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال عنه: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45]، ودعا الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84].
فلا شك أن كلاً منا يريد أن تكون له وجاهة في الدنيا بين الناس، ووجاهة في الآخرة يوم يقوم الأشهاد، وهذا وذاك يتأتى باتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه فيهما، فكم من حامل علم وليس بفقيه كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، فنقف وقفات مع بعض الآيات من كتاب الله، الأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقتبس منها بعض الأخلاق التي تصلحنا بإذن الله في تعاملاتنا مع إخواننا.(42/2)
مراقبة الله والإخلاص له
الوقفة الأولى: أن علينا أن نبني تعاملاتنا مع الناس كلهم على أساس أصيل وثابت أُشير إليه في جملة من الآيات والأحاديث ألا وهو: تقوى الله سبحانه.
فإذا أقبلنا نقبل لله، وإذا أدبرنا ندبر لله، وإذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا خاصمنا نخاصم لله، وإذا حاكمنا نحاكم لله.
قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس).
فجدير بنا أن تكون كل تعاملاتنا مبنية على هذا الأصل الأصيل: مراقبة الله وتقواه، والإخلاص، وترك ما سواه، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.(42/3)
الأخوة في الله
الوقفة الثانية: أن نبني تعاملاتنا مع المسلمين على أساس الأخوة في الله.
فالمسلم أخو المسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ منكم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وقد ثبت هذا الأصل بجملة نصوص في كتاب الله: قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، وقال سبحانه: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103]، وقال سبحانه في شأن رجل قتل رجلاً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً لهذا الأصل: (كونوا عباد الله إخواناً، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم عصا أخيه جاداً ولا لاعباً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه).
وقال الله سبحانه: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11] فجُعل المسلمون كلهم كالنفس الواحدة.
أي: ولا يلمز بعضكم بعضاً.
وقال سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي: ليسلم بعضكم على بعض، وقال سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] أي: بإخوانهم.
فكل هذه النصوص تعزز هذا الأصل -الأخوة في الإسلام- فيجب علينا أن نبني تعاملاتنا مع المسلمين على هذا الأصل.
وإخواننا الملتحون جزاهم الله خيراً وعفا عنهم قصروا الأخوة على الملتحين فقط، وهذا خلل في المسيرة التي أطلقوا عليها اسم الصحوة، فيقولون: فلان أخ.
أو ليس بأخ ويجعلون الميزان هو اللحية فقط، أو هذه أخت أو ليست بأخت ويجعلون الميزان هو النقاب والخمار فقط.
صحيح أن إعفاء اللحية واجب، وأن النقاب على رأي كثير من أهل العلم واجب، لكن ليس معنى كون الشخص حلق لحيته وعصا ربه فيها أنه خرج من عداد المسلمين كلا.
فالمسلم أخو المسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود من هذا: أننا عند تعاملاتنا مع المسلمين ينبغي أن نبني تعاملاتنا معهم على هذا الأصل: وأن أهل الإسلام بعضهم من بعض.(42/4)
مستلزمات الأخوة الإيمانية
وللأخوة في الله لوازم عديدة:(42/5)
إنزال الناس منازلهم
هنا أصل لابد من معرفته كي تنجح في التعامل مع الناس، ومع المسلمين على وجه الخصوص وتحقيق الأخوة، وهو معرفة أقدار الناس، ومعرفة من تخاطب، فللأمير طريقة في المخاطبة، وللمأمور طريقة، وللجليل طريقة في الخطاب، وللحقير طريقة، وللعالم طريقة عند مخاطبته والتعامل معه، وللجاهل طريقة عند التعامل معه، والغني له أسلوب في الخطاب، والفقير له أسلوب في الخطاب، فلابد من إنزال الناس منازلهم.
دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على النجاشي لما جاء عمرو بن العاص إلى الحبشة يشكو مهاجرة الحبشة إلى النجاشي فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام.
فانظر إلى هذا الفقه: (إنك ملك لا يصلح عند كثير الكلام).
فالملك له مشاغله وله اهتماماته إذ هو يسوس دولة، ولأفرادها عمومها مشاكل، ولها أعداء، فلا يصلح أن يجلس وقتاً طويلاً مع شخص في جزئيات صغيرة، فقدم جعفر مقدمة ذكية تلم عن فهمه لأحوال الناس، فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام، فوضعنا كذا وكذا وكذا وشرح وضعه رضي الله تعالى عنه.
أي: للملك طريقة في الخطاب.
والجاهل كذلك إذا تكلم معك فعليك أن تعامله بطريقة أخرى.
جاء عيينة بن حصن الفزاري إلى ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر من جلساء عمر وأهل مشورته وهو من حملة القرآن، وكان عمر رضي الله عنه يدني منه حملة القرآن، ويقربهم ويجعلهم أهل الشورى وأهل المجالسة، فإذا نزلت به نازلة استشارهم إذ هو يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة، إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى).
وجدير بكل رجل من أصحاب المسؤوليات والوجهات والأموال أن يجعل بعض مستشاريه من حملة كتاب الله، وحملة سنة رسول الله وحملة العلم، ليستشيرهم في أموره حتى لا يندم بعد ذلك، ولذا كان عمر يدني الحر بن قيس منه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس: يا ابن أخي إن لك وجاهة عند هذا الأمير -يعني: عمر وكان عيينة بن حصن رجل من البدو الأعراب، بل من المؤلفة قلوبهم- فاستأذن لي بالدخول عليه، فجاء الحر بن قيس رضي الله عنه ودخل على أمير المؤمنين عمر وقال: يستأذن عليك عمي عيينة بن حصن.
فأذن عمر له، فلما دخل عيينة على عمر قال: يا ابن الخطاب -هكذا بجلافة الأعراب- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فهمّ به عمر ليبطش به فتدخل الحر وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تخطاها عمر ولا تعداها وسكت رضي الله تعالى عنه.
والحمد لله رب العالمين.(42/6)
التواصل وعدم الهجران
من مستلزمات الأخوة: تحريم الهجران.
فلا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، فمع أن هنا تخاصم وشقاق لكن الأخوة ما زالت باقية (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) (لا يحل) أي: يحرم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهم الذي يبدأ بالسلام).(42/7)
مراعاة الأحوال
منها: مراعاة أحوال الإخوة: فإذا ما وجدت أخي غضبان أتقي ثورته وغضبه، وإذا غضبت أنا الآخر فلا أصدر قراراً في شأن إخواني.
وهذه جزئية هامة لها أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإذا غضبت لا تصدر قراراً أثناء الغضب فإن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وقد أرشد الرسول عليه الصلاة والسلام كما روي عنه من طريق عروة السعدي وإن كان الحديث فيه نوع كلام لكن لمعناه شواهد، (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).
وفي صحيح البخاري من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يستبان، أما أحدهما فقد علا صوته واحمر وجه وأنفه وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أعلم كلمة لو قالها هذا الرجل لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه الذي يجد).
إذاً: الشيطان يحضر عند الغضب ويحملك على أن تصدر قرارات طائشة في وقت الغضب، ومن ثم قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) وذلك لأن الغضب نوع من أنوع الإغلاق التي يغلق على العقل وتجعل الشخص يتصرف في غير ما يريد، ويصدر قرارات لا يصدرها وقت تأنيه وتصبره.
فلذلك إذا أردت أن تصدر قراراً فلا تصدره وأنت متعب مرهق أو وأنت غضبان، وتحضرنا في هذا واقعة رواها البخاري في صحيحه وهي واقعة قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما (قتل الثلاثة رضي الله عنهم في مؤتة فوصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عليه الصلاة والسلام حزيناً يعرف في وجهه الحزن -وفي بعض الروايات-: وعيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل وأم المؤمنين عائشة بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليهن فانههن عن البكاء.
فذهب ورجع وقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين وقد نهيتهن فلم ينتهين، قال: ارجع فانههن عن البكاء.
فذهب ورجع وقال: يا رسول الله قد نهيتهن فلم ينتهين -ثلاث مرات-.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فاحثو في وجوههن التراب.
فحينئذٍ قامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: والله ما أنت بفاعل، ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء حتى قال لك الذي قال) رأت أم المؤمنين وهي الفقيهة العالمة رضي الله عنها أن القرار صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلحاح الرجل عليه، حتى أرهق رسول الله فصدر منه هذا الكلام.
والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مقالة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فما عاتبها ولا زجرها عليه الصلاة والسلام، ولا تعقبها، فدل فعله وإقراره لها على صدق ما قالته، ولو كان ما قالته أم المؤمنين خطأ لتعقبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو لا يسكت على الخطأ ولا يقره، فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فلماذا قال مقالته الأولى: (اذهب فاحث في وجوههن التراب)؟ فالإجابة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل أموراً تعليماً لأمته صلى الله عليه وسلم، كما صنع في قصة عمر مع أبي هريرة حيث قال عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (يا أبا هريرة اخرج فبشر من قال لا إله إلا الله بالجنة.
فخرج أبو هريرة يقول: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فكان أول من التقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسمع مقالة أبي هريرة ونقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.
فضرب أبا هريرة ضربة أسقطته على الأرض على استه وقال: والله لا تحدث بهذا الحديث أحداً، فانطلق أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه عمر، ودخل عمر على إثر أبي هريرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إذاً يتكلوا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عمر على مقالته) فهذا كان من باب التعليم.
والمراد: أنك لا تضغط على شخص حتى يعطيك وعداً من الوعود ويخلف هذا الميعاد، ولا تضغط على شخص حتى يعدك وعداً فلا يفي لك بها، وإلا فأنت المتسبب في عدم الوفاء، بإرهاقك لأخيك المسلم.
فيجدر بالشخص ألا يصدر قراراً في وقت غضب أو تعب، ويجدر بالمسلم كذلك ألا يكره ويحمل أخاه على أن يصدر قراراً في وقت تعبه وإرهاقه ولا يستطيع أن يفي له به، ولا يكثر من الإلحاح على إخوانه يحرجهم ويؤثمهم.
وكذلك إذا كنت في سفر واعتراك التعب والإرهاق وخالطك الهمج والرعاع فلا تصدر قراراً في مثل هذا الوقت؛ لأنه يأتي على غير وجه صحيح.
وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع المسلمين في موسم الحج فسمع قائلاً يقول: لو مات عمر لفعلنا كذا وكذا.
ولأمّرنا فلاناً وفلانا فوالله ما كانت إمره أبي بكر إلا فلتة أو خلسة، على غرة منا، فلما سمع عمر هذه المقالة آذته وآلمته جداً، فقام في الناس يقول قولاً ويلقي خطبة في الناس، فجاءه بعض كبار الصحابة فقالوا: قبل أن يخطب خطبته: يا أمير المؤمنين إنك في موسم الحج، والموسم يجمع العقلاء والرعاع، منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم، ومنهم من يعقل ومنهم من لا يعقل، فنخشى يا أمير المؤمنين إن تكلمت بكلامك في مثل هذا الموقف فهم عنك على غير وجهه، وحمله العالم والجاهل، والقاصي والداني، وأهل الحضر وأهل البادية، ومن في قلبه خير ومن في قلبه غل، فيحرفون كلامك، ولكن يا أمير المؤمنين تريث، لا تتكلم في مثل هذا الموطن، ولكن ارجع إلى المدينة فإن بها أهل العلم وأهل الفقه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فحدثهم حينئذٍ بما تريد ويفهمون عنك الذي تريد، فرأى أمير المؤمنين عمر أن الكلام له وجاهة، فأجل الحديث إلى أن رجع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى لا يفهم كلامه على غير وجهه رضي الله تعالى عنه، فجدير بالمسلم أن ينظر إلى المواطن والمواقف والأشخاص.(42/8)
وجوب النصح لكل مسلم
ومن مستلزمات الأخوة الإيمانية: النصح للمسلم وتوجيهه إلى الخير، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على بعض أصحابه بذلك.
فهذا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وكان من الصحابة الذين آتاهم الله جمالاً، حتى كان بعض السلف يطلق عليه يوسف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول عن نفسه: (ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) هذا الصحابي الجيل قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم).
ومن حق المسلم على أخيه: إذا استنصحه أن ينصح له، هكذا جاء في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا طلب منه العون أعانه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القوم الذين يمنعون الماعون عن إخوانهم بالذم فقال في سورة سماها بسورة الماعون: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون:1] إلى قوله: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:6 - 7] فالذين يمنعون الماعون عن إخوانهم المسلمين ذكروا بالذم في كتاب الله، والماعون: العارية التي تعار كالدلو والقدر ونحو ذلك.
إذاً: للأخوة مستلزمات: هل تحب لسائر المسلمين ما تحبه لأخيه من أمك وأبيك بل ما تحبه لنفسك؟ هذا منطوق حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس مفهومه: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).(42/9)
أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك
منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) فكما أنك تحب أن تربح فتحب لأخيك الربح كذلك، وعليك أن تنصح وتبين له.
قال عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن نصحا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) وكما أنك تحب أن تستر إذا أخطأت فلتحب لإخوانك ذلك أيضاً.
أما إذا أحببت لإخوانك الفضيحة فرب العزة يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: عذاب مؤلم موجع في الدنيا والآخرة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
هذه رموز وإشارات تكتشف بها نفسك يا عبد الله، فلن ينزل عليك وحي من السماء يقول لك: أنت على خير أو أنت محسن أو لست بمحسن، إنما هناك نصوص من كتاب الله طبقها على نفسك، فإن انطبقت عليك كنت من أهل الإيمان وإلا فراجع نفسك، وانظر إلى قلبك: هل أنت تحب لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك، كما قال نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم -أي: لا يكمل إيمان أحدكم- حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
إن حل بك خير فأحببته لإخوانك مثلما تحبه لنفسك فأنت على خير، أما إن كنت تحب لنفسك الخير وتحب لإخوانك المصائب والشرور فأنت بعيد عن طريق أهل الإيمان، وعليك أن تلتمس الطرق التي توصلك إليه، وإذا أحببت لإخوانك الفضيحة وشعرت من قلبك بالسعادة للمصائب التي تحل بهم، كأن تشعر في نفسك بالسعادة لرسوب أخيك المسلم، أو لفشله في عمل من الأعمال، أو لكونه افتضح في الناس، أو لكونه ابتعد عن الخير فأنت على شر عظيم، وتذكر قول ربك: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].(42/10)
فقه التعامل بين المسلمين [2]
ينبغي على المسلم عند تعامله مع إخوانه أن يعلم أن أخاه أحد رجلين: محسن أو مسيء، وأن الله لم يكتب العصمة لأحد من خلقه بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومن أكثر معاتبة الإخوان جاء اليوم الذي لا يبقى له فيه أخ أو صاحب.(43/1)
ضوابط في فن التعامل(43/2)
طيبة النفس في الأخذ والعطاء
ومنها: ألا تأخذ شيئاً من أخيك عن غير طيب نفس منه، فلا يبارك لك فيه: أخرج البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: (أتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله) أي: نطلب منه أن يحملنا للجهاد على إبل الصدقة أو على خيل نجاهد عليها في سبيل الله، وهو في معنى قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].
الشاهد: (أتينا إلى رسول الله نستحمله فقال: والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه، فانطلقنا، فأتي إلى رسول الله بخيل فدعانا وأعطانا خيولاً أو إبلاً نركب عليها للقتال فانصرفنا، فقلنا في طريقنا: استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه) يعني: أخذنا من الرسول الخيل وكان قد أقسم أنه لا يبارك لنا في هذه الخيل فقالوا: (نرجع إلى رسول الله).
الشاهد: أن الصحابة تورعوا عن أن يكونوا قد أخذوا شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على حين غفلة، أو على حين غرة، فكذلك لا تفعل مع إخوانك، فلا تستغفل أخاك حتى تأخذ منه حقاً ليس لك، أو شيئاً بغير طيب نفس منه.
(فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنك أقسمت ألا تحملنا ثم حملتنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: إني والله ما حملتكم والله حملكم، وإني والله لا أحلف يميناً فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير).
فحينئذٍ تأكدوا أنهم لم يستغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا رجاء أن يبارك لهم في هذا العطاء، ولذلك نجد أن من أخذ شيئاً من أخيه بنفس غير طيبة، أو عن شك أو ريبة في طيبة نفسه بذلك الشيء، نجده في قلق دائم، ولا يبارك له في هذا الشيء والمقدر سيكون، ولا يظن أحدنا أن ملازمة الورع تنقص الرزق، فهذا خطأ بين، فلا يحمل أحدنا استبطاء الرزق على أن يستغفل الناس أو أن ينال الزرق بمعصية الله سبحانه.
والحقيقة أيها الأحبة! أن الموضوع طويل ولكن نكتفي بهذا القدر، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(43/3)
الملاطفة وجبر الخاطر
ومنها: الملاطفة في القول وجبر الخاطر: يوجد في شرعنا في تعاملنا مع الناس لكسب قلوبهم ما يسمى بجبر الخاطر، له أدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أدلتها من الكتاب: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فجبر خاطر المطلقة بالمتعة.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [النساء:8] يعني: الفقراء المساكين إذا حضروا تقسيم التركة فلا بأس أن يجبر خاطرهم بشيء من المال.
ومن العلماء من قال: إن خاطر إبراهيم صلى الله عليه وسلم جبر لما لم يؤمن به إلا القليل، فجبر الله خاطره بأن جعل كل الأنبياء الذين جاؤوا من بعده من ذريته عليه السلام، {وَجَعَلَهَا} [الزخرف:28] أي: كلمة التوحيد {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
وجبر خاطر الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما سجن واتهم بأن جعله عزيزاً على مصر، فجاء إخوته يقولون كما قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
فاجبر خاطر الناس ولو بكلمة طيبة، فهي في بعض الأحيان تقوم في مقام جبر الخاطر أفضل من آلاف الجنيهات، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم الغنائم، أعطى قوماً ضعفاء الإيمان وأكرمهم عليه الصلاة والسلام غاية الكرم، ومنهم عيينة بن حصن أعطاه مائة من الإبل الأقرع بن حابس مائة من الإبل غيرهم وغيرهم من المنافقين أو ضعاف الإيمان، وممن أكرمهم: رجل اسمه عمرو بن تغلب كان جالساً ولم يأخذ من الغنيمة إلا الشيء اليسير جداً إن ذكر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله إني أعطي قوماً وغيرهم أحب إلي منهم، أعطي قوماً وأكل قوماً إلى ما في قلوبهم من إيمان منهم عمرو بن تغلب، فكان عمرو يقول: والله هذه الكلمة لي من رسول الله أحب إليّ من حمر النعم) يعني: إذا أعطي عمرو بن تغلب مليون جمل لا تعدل عنده هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالكلمة الطيبة تجبر الخاطر، أفضل من كثير من المال، ومن ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].
وهذه فضيلة باقية لـ عمرو بن تغلب إلى يوم القيامة، ندارسها نحن وحديثها في البخاري ويدارسها من بعدنا إلى يوم القيامة، وهي شهادة من رسول الله لـ عمرو بن تغلب رضي الله تعالى عنه، فالكلمة الطيبة صدقة كما الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤتي أكلها في الناس بإذن الله، ولكن المهتدي إليها من هداه الله، والله يقول: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] فسل الله أن يهديك لهذه الكلمات الطيبة.
يقول الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، تتكلم بكلام طيب وتتبعه بعمل صالح العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25] وإن كان أكثر العلماء على تفسير الكلمة الطيبة بلا إله إلا الله.
تخرج من اللسان، أصلها ثابت في القلب، وفرعها في السماء، تصعد ثمرتها إلى السماء وتتقبل، وتفتح لها أبواب السماء، لكن مع هذا القول بأنها لا إله إلا الله لا مانع من دخول غيرها معها، فقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكلمة الطيبة صدقة) والآية عامة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم:24] فلا إله إلا الله أفضل كلمة، ويلتحق بها عموم الكلم الطيب وإن كان دونها في الفضل.
هذه بعض الملاحظات التي نريد أن ننبه عليها، والباب واسع، ولكن كلل أعمالك برحمة العباد والعفو عن الناس.
وتحضرنا واقعة وإن لم يكن إسنادها صحيح ولكن نأخذ منها العبرة: ذكر عدد من المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] أن رجلاً من التابعين كان عنده أضياف فأتته جاريته بمرق حار فمن ربكتها سقط منها المرق على الأرض فتغيض عليها سيدها، وقام ليلطمها.
فقالت: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] فسكت، فخشيت بعد ذلك أن يضربها فقالت: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] حتى تأخذ منه وعداً أنه لا يضربها فيما بعد، فقال: قد عفوت عنك.
فقالت: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وهكذا كان الناس وقافين عند كتاب الله سبحانه وتعالى.
ومن هذه القصة نأخذ: فضل الفقه الذي كان سبب نجاة وعتق هذه الأمة رضي الله عنها وعن سيدها.
فجدير بنا معشر الإخوة أن نتخلق بخلق رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأن نتبع سنته وأثره.(43/4)
معرفة أنه لا عصمة لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام
ومنها: معرفة أنه لا معصوم بعد النبي عليه الصلاة والسلام: ولتعلم أيضاً أن الناس بشر يعتريهم ما يعتري البشر، أبوهم آدم أكملهم عقلاً كما في الحديث جحد فمن ثَم جحدت ذريته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبوهم آدم أشدهم حلماً نسي فنسيت ذريته).
عصا فعصت ذريته، وهو من أكمل الخلق وأعقل الخلق وأحلم الخلق صلى الله عليه وسلم، فبنوه كذلك تصدر منهم هذه الأخطاء، فأحياناً يصدر منهم حب للنفس، فيغفر لهم في خضم فضائلهم، وفي ذلك قصص أخرجها البخاري وغيره: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهتز العرش لموت سعد بن معاذ) وكان سعد بن معاذ سيداً للأوس وكان سعد بن عبادة سيداً للخزرج، وكان بين الحيين في الجاهلية ضغائن وحروب طاحنة.
قال جابر مع أن جابر من الخزرج وسعد بن معاذ من الأوس، وكان الحيان يفتخران، حتى قال بعضهم: منا من حمته الدبر -يعني: النحل حمته من المشركين أن يقطعوا منه شيئاً- ومنا من اهتز له العرش.
الشاهد: قول جابر وهو من الخزرج: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ.
فقيل لـ جابر: إن البراء يقول: إن الذي اهتز إنما هو السرير، يريد أن يؤول العرش بالسرير؛ لأن العرش يطلق عليه سرير، {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] العرش: هو سرير الملك.
فهم هكذا رضي الله تعالى عنه، وقد يكون سمع الحديث لكن أحياناً كما يقول القائل: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فعندما يكون بينك وبين شخص عداوة فإنك تراه بمنظار آخر، يأتيك أبيض فتحسبه أسود، يأتيك مبتسماً فتقول: جاء يشتم ويسب.
فالشاهد: أن قائلاً قال لـ جابر: إن البراء يقول: اهتز السرير.
فقال جابر: لا قد اهتز العرش إنما كان بين هذين الحيين ضغائن.
أي: كان بين الأوس والخزرج ضغائن ففسر العرش بالسرير.
فالشاهد: أن البراء بشر التبس عليه الأمر، وجاء في الرواية: إن البراء يقول: إن ثبت عنه فهو من البشر يجري عليه ما يجري على البشر.
أيضاً: أمنا عائشة لما رأت مدى حب الرسول صلى الله عليه وسلم لـ خديجة، وقد كان عليه الصلاة والسلام وفياً غاية الوفاء لـ خديجة، وكان يحبها حتى بعد موتها، وإذا جاءت أختها هالة تستأذن ذكرته نبرات صوتها بـ خديجة رضي الله عنها، فيرتاع لها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم هالة)، وكانت عائشة رضي الله عنها تغار من اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه الزوجة، وإن كان قد ماتت، وعائشة لا تعرفها أصلاً بل إن فاطمة بنت الرسول بنت خديجة أكبر من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهن أجمعين، فـ عائشة تسمع رسول الله يقول: (اللهم هالة) قالت: (والله يا رسول الله ما غرت من امرأة قط كما غرت من خديجة، وإن كنت لم أرها)، لكثرة ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يذكرها.
حتى قالت: يا رسول الله! ما تذكر امرأة عجوز، ماتت في غابر الزمان قد أبدلك الله خير منها، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إني رزقت حبها).
عائشة ما رأتها ومع ذلك طعنت فيها بدون أن تراها رضي الله تعالى عنها، فأحياناً يعتري البشر في حب للنفس والانتصار لها ما يعتريهم.
وكما حدث مع الرسول عندما قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة لـ حفصة: قولي له أبو بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك فلم يسمع الناس من البكاء، ولكن مر عمر فقال عليه الصلاة والسلام: (إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس).
والشاهد: أن عائشة تقول عن نفسها: (والله ما كنت أبداً أريد ألا يؤم أبو بكر بالناس إلا لشيء، إني خشيت إذا وقف أبو بكر مكان رسول الله أن يتشاءم الناس بـ أبي بكر لكونه جاء بعد الرسول).
فحاصل كلامها: أردت أن ألحق هذا التشاؤم بـ عمر لا بأبي؛ فأرادت عائشة أن تدفع هذا كله عن أبيها وتلصقه بـ عمر.
وفي حادثة الإفك قال عليه الصلاة والسلام: (من يعذرني من رجل بلغني أنه قال في أهلي، والله ما علمت عن أهلي إلا خيراً فـ سعد بن معاذ قام فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من عندنا من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فقتلناه، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، وإن كان من قبيلتك لم تحب أن يقتل، فيقوم أسيد بن حضير ويقول: والله لنقتلنه، إنك منافق، تجادل عن المنافقين)، فهذه هفوات تغتفر للبشر.
- واقعة أخرى في هذا الصدد: كان هناك رجل يقال له: أبو السنابل بن بعكك صحابي من أصحاب رسول الله، وكان رضي الله عنه قد تقدم لخطبة امرأة يقال لها سبيعة الأسلمية بعد أن مات زوجها، فأبت أن تتزوجه، وكانت سبيعة امرأة تتجمل للخطاب، قد اكتحلت واختضبت وتجملت للخطاب، لما رآها أبو السنابل متجملة وقد ردته قال: (ما لي أراك تجملت للخطاب؟ والله لا تحلين لأحد حتى يبلغ الكتاب أجلَه)، أي: حتى تنقضي أربعة أشهر وعشراً، وهذه عدة المتوفى عنها زوجها، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] وسبيعة عدتها عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل، فقال هذه الكلمة وهو الذي لم يلبث أن خطبها، (فحملت عليها ثيابها وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا السنابل يقول: كذا وكذا يا رسول الله، قال: قد حللت حين وضعت، فاصنعي ما بدا لكِ) أي: بمجرد الوضع قد حللت للخطاب فتزوجي إن شئت.
وهذا الحديث هو عمدة العلماء القائلين: بأن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن، حتى المتوفى عنها زوجها، وليس في المطلقات فحسب؛ لأن سبيعة كانت قد توفي عنها زوجها.
فالحاصل: أنهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر ويغفر لهم ما يغفر للبشر (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم).
أيضاً عليك أن تعلم القاعدة المضطردة في كتاب الله (أن هناك فضل وهناك عدل)، فضل وعدل، تنزيل ذلك أو استنباطه من الآيات {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، فالعدل جزاء السيئة بالسيئة، والإحسان العفو، {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] كله عدل، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] فضل وعفو، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] عدل، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى:40] عفو، {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60] عدل {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] عفو وفضل.
هناك عدل وهناك فضل، فيجوز لك أن تأخذ بالعدل، ويجوز لك أن تأخذ بالفضل، فليس معنى أني جئته في وقت من الأوقات فلم أعف.
وطلبت بحقي أني ظالم.
وفي صحيح البخاري أيضاً (أن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمع عليه أهله في مرضه، فأرادوا أن يضعوا له اللد في فمه -دواء مر، يوضع في الفم رغم الأنف، فيفتح الفم بقوة ويصب فيه الدواء- فأشار إليهم الرسول ألا تفعلوا، فما التفتوا إلى إشارة الرسول بل قالوا: ما من مريض إلا وهو يكره الدواء- فوضعوا للرسول الدواء في فمه رغماً عنه).
الشاهد: أنه لما أفاق قال: (لا يبقين أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر).
يعني: كل واحد في البيت كان يشاهد الموقف لابد أن يوضع اللدود في فمه أمام عيني، عليه الصلاة والسلام.
وقال: (إلا العباس فإنه لم يشهدكم) فالرسول أراد أن يعاقب حتى لا تصبح الأمور دوماً مفتوحة لمن أراد أن يخالف، أو من أراد أن يظلم أو أي شيء من هذا الباب، وهذا تزكية لأمته صلى الله عليه وسلم، فليس معنى كونه أخذ بالعدل أنه ظلم صلى الله عليه وسلم.(43/5)
إقالة ذوي الهيئات عثراتهم
ومنها: إقالة ذوي الهيئات عثراتهم: ومن ذلك ما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه، فقد كان من جلساء رسول الله عليه الصلاة والسلام وممن شهد بدراً، بل ذكر بعض العلماء: أنه كان من مستشاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستشيره الرسول صلى الله عليه وسلم في أموره بل وفي أمور المسلمين، فخطط الرسول يوماً لغزو مكة، وأطلع حاطباً على هذا السر، فأرسل حاطب رسالة سرية مع امرأة من المشركين إلى مشركي قريش خلاصتها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يريد غزوكم فخذوا حذركم -رسالة بهذه الصورة من حاطب إلى هؤلاء المشركين، والرسول صلى الله عليه وسلم يستأمنه على هذا السر- فأطلع الله نبيه على هذه الرسالة، وأعلمه إياها، فجاء الرسول واستدعى ثلاثة: علياً والمقداد والزبير وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا مكاناً يقال له: روضة خاخ، وستجدون هناك ضعينة -مسافرة- معها رسالة من حاطب إلى المشركين، فأتوني بالرسالة.
قال علي: (فانطلقنا تعادى بنا خيولنا، حتى التقينا بالمرأة فقلنا لها: أخرجي الكتاب الذي معك.
قالت: ما عندي كتاب.
ففتشوها ودققوا التفتيش فما وجدوا شيئاً، فهموا بالانصراف، فقال علي: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردن الثياب.
فلما رأت المرأة الجدّ في قول علي أهوت إلى حجيزتها فاستخرجت الرسالة وسلمتها لـ علي، فانطلقوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بها: من حاطب إلى فلان وفلان من المشركين وقرئت الرسالة على رسول الله عليه الصلاة والسلام وكان عمر جالساً بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأى أن هذا الأمر جريمة كبرى، بل خيانة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وخيانة لأهل الإسلام، وكشفاً لسر من أسرار المسلمين للكفار، فأرسل الرسول إلى حاطب فجيء به، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه رجل خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين).
ولكن رسول الله -الرسول الأسوة- جاء يخاطب -المتهم- يسمع منه.
وقد قال بعض العلماء في تفسير قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] عقب قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:21 - 22] ثم بدأ أحدهم في بث الشكوى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي} [ص:23] أي: غلبني {فِي الْخِطَابِ} [ص:23] اشتكى {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] فأصدر داود الحكم مباشرة وقال: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24].
قال العلماء في تفسيرها وهو أولى الأقوال والله أعلم: إن داود استغفر ربه وخر راكعاً وأناب؛ لأنه لم يسمع قول الخصم الآخر بل حكم للخصم الأول دون سماع ما عند الخصم الآخر.
الشاهد: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ حاطب: (يا حاطب!! ما حملك على ما صنعت؟ قال حاطب رضي الله عنه: والله يا رسول الله!! ما كفرت بالله، بل أنا رجل مؤمن أحب الله وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني يا رسول الله!! نظرت إلى نفسي وإلى أصحابك، فرأيت أصحابك يا رسول الله كل منهم له قريب في مكة، يدفع الله بهذا القريب عن أهله وماله الذي تركه بمكة، وأنا ليس لي أقارب في مكة يا رسول الله، فأردت أن أصنع معروفاً وجميلاً في المشركين حتى يحافظوا على أهلي وأموالي بمكة.
وهذا من إيمانه رضوان الله عليه: فقد وكل الأمر إلى الله فقال: يدفع الله بها عن أهلي ومالي يا رسول الله، فكل أصحابك له أهل يدفع الله بهم عنه.
فانفعل عمر أيضاً وقال: دعني أضرب عنق هذا الرجل يا رسول الله، منافق خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه قد صدقكم، فلا تقولوا له إلا خيراً، وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: يا أهل بدر اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم)، وكان عمر رضي الله عنه يعرف قدر نفسه فبكى عمر ودمعت عيناه وقال: الله ورسوله أعلم.
إذاً: الرجل زلت قدمه زلة خطيرة لكن له سابقة خير، فقد شهد بدر فلا تذهب السيئة بعموم الحسنات، فلابد من تذكر أفعال البر التي عملها من وقع في خطأ، فلا تدفع أفعال البر نتيجة سيئة واحدة اقترفت وإن كانت كبيرة من الكبائر، فهي لا تنزع عن المسلم لباس الأخوة الإيمانية.
ومثلاً: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات كبيرة من أكبر الكبائر: أن تأتي إلى امرأة غافلة مؤمنة محصنة عفيفة، فتقول: فلانة زنت.
كبيرة من أكبر الكبائر، فكيف إذا تعدت هذه الكبيرة إلى قذف امرأة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول القائل: عائشة فعلت كذا وكذا وكذا مع فلان، فهي كبيرة ضم إلى كونها كبيرة أنها طعن في عرض رسول الله عليه الصلاة والسلام.
ومع هذا كله نزل تكذيب هذا القائل ليس من عندي ولا من عندك بل تكذيبه من الله، ومع ذلك كله أيضاً يقول الله لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] فعند وزن الناس بأعمالهم عليك أن تزن بميزان عدل وميزان قسط، فلا تزن بميزان جور وميزان هوى والعياذ بالله.
عليك أن تدرك هذه المفاهيم جيداً ولا تكن أبداً يوماً عوناً للشيطان على إخوانك، فإن غلب الشيطان أخاك ثم جاء تائباً فافتح له صدرك لتقبل منه العذر.
ما حديث شارب الخمر بخفي عنكم: رجل يجلد لشرب الخمر ثم يذهب ويؤتى به ويجلد مراراً، حتى قال بعض الصحابة: (لعنك الله ما أكثر ما يؤتى بك، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم، إنه والله ما علمته إلا يحب الله ورسوله).
إذاً: قد يذنب الشخص، لكن هذا الذنب لا ينزع عنه حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء أخوك معتذراً فلا تسد أبواب الاعتذار أمامه بل افتح له الباب، وقل له: يا أخي كلنا نذنب.
غفر الله لي ولك، ستر الله عليّ وستر الله عليك، ووفقني الله وإياك، واستر عليه وساعده، واقبل منه الاعتذار حتى يصلح حاله، أما أن تغلق في وجهه الأبواب فما عساه أن يجني من وراء موقفك هذا، إلا أن يشرد عنك بل ويشرد عن الدين.
إذاً: إذا وجدت في مسلم من المسلمين خطأ وفيه مناقب فعليك أن تثني عليه بما تعلم من المناقب التي فيه، ثم تذكِّره عرضاً بالخطأ، وهذه طريقة مضطردة في كتاب الله، الله سبحانه وتعالى، فقد ذكّر نبيه داود صلى الله عليه وسلم فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78 - 79] يعني: الولد وحتى يحفظ عرض داود أيضاً قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] يعني: داود عنده فهم أيضاً فلا تظن غير ذلك.
لذلك قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79].
وقال الله سبحانه أيضاً في شأن يعقوب لما قال لبنيه: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67] إلى قوله: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:68] ولكنه بين السبب فقال: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف:68] وحتى لا يأتي شخص ويقول يعقوب لا يفهم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68].
فإذا أردت أن تنتقد فانتقد وأظهر المحاسن التي في أخيك المسلم، كأن تقول لمن بدرت منه بادرة سيئة: أنت مخك نظيف وعقلك ناضج، لكن هذه فلتة فلتت منك فارجع إلى نظافة العقل، وآرائك السديدة التي نسمعها منك دائماً.
إذاً: لا تجعل الخطأ يأتي على كل المحاسن، فهذا نوع من أنواع الظلم -والعياذ بالله- بل افتح للناس باب التوبة وباب الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى وسهله عليهم، وعرّف الناس بربهم وخالقهم وعلمهم أن الله رحيم حليم يغفر الذنوب جميعاً.(43/6)
مراعاة مراتب الناس وأحوالهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد: فإن التعامل بين المسلمين فن من الفنون التي ينبغي أن يعتنى بها.
وهناك لوازم وضوابط لنجاح التعامل بين الناس: منها: مراعاة مراتبهم وأحوالهم، فمراعاة أحوال الناس ومراتبهم من أسباب النجاح في التعاملات مع الناس، فكم من شخص يتحمل منك الكلمات الشديدة، وثم أشخاص لا يتحملون منك نظرة غضب فقط فضلاً عن الكلمات النابية الشديدة، فمن ثم كان لزاماً عليك أن تتعامل مع الناس بحسب أحوالهم.
ونذكر في ذلك واقعتين واقعتان حدثتا لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما الواقعة الأولى فحدثت لـ أبي بكر مع عمر، وعمر وهو رجل من فضلاء الصحابة رضي الله عنه، له قبيلته وقدره في قريش.
وأما الثانية فحدثت لـ أبي بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء الذين ليست لهم قبائل في مكة ولا في المدينة.
ولتنظر كيف تعامل أبو بكر مع هذا؟ وكيف تعامل مع هؤلاء؟ ولتنظر ما هو تعقيب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه التصرفات؟ أولاً: كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شيء فقال أبو بكر عن نفسه: وكنت أنا أظلم.
يعني: أنا الذي كنت مخطأ في حق عمر رضي الله عنهم، وكل الناس تخطئ.
قال: (أخطأت في حق عمر فذهبت إلى عمر رضي الله عنه أعتذر إليه من خطئي، فلم يقبل عمر العذر، فذهب أبو بكر حزيناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! قد كان بيني وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيء، وأنا والله يا رسول الله كنت أظلم، فذهبت فاعتذرت إليه فلم يقبل عذري.
فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً.
ثم إن عمر أيضاً أحس بخطئه فكيف يأتي أبو بكر يعتذر إليه ولا يقبل عذره؟ فانطلق مسرعاً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا له: إن أبا بكر ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق مسرعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول جالس مع أصحابه وأبو بكر بجواره، فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم عمر، قام مغضباً في وجهه غاية الغضب، وقال: هل أنت تارك لي صاحبي يا ابن الخطاب؟ صدقني إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني، فوالله لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل.
لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر؛ واستمر عليه الصلاة والسلام في لوم عمر رضي الله عنه وتأنيبه)، وأبو بكر يقول: (أنا أظلم يا رسول الله).
ورد في بعض الروايات خارج الصحيح (استغفر لي يا رسول الله، وإذا لم تستغفر لي من يستغفر لي يا رسول الله).
ثانياً: أبو بكر مع بلال وسلمان وصهيب وهم من الفقراء: (مر أبو سفيان على سلمان وصهيب وبلال فقال سلمان وصهيب وبلال: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها عام الفتح) أي: كان ينبغي أن يقتل هذا الرجل المؤذي الذي كان يؤذي رسول الله، (فقال أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! صدر من سلمان وبلال وصهيب كذا وكذا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر -الذي كان ينتصر له في موقفه مع عمر لكن مع هؤلاء الضعفاء ماذا قال؟ - قال: أأغضبتهم يا أبا بكر؟ لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك عز وجل.
فانطلق أبو بكر سريعاً إلى إخوته وقال: أغضبتكم يا إخوتاه؟ قالوا: غفر الله لك يا أخانا).
إذاً: أحوال الناس تختلف، الضعيف والمسكين خاطره يكسر بكلمة، بل بنظرة، لكن الآخر الصلب يتحمل إذ هو يستطيع الدفاع عن نفسه، ولذلك كان التعامل مع الأيتام يحتاج إلى دقة ورقة، والتعامل مع الكبار البالغون، غير التعامل مع الصغار والأيتام.
فلابد أن تفهم هذه الطرق في التعامل مع الناس، من الذي أمامك؟ ما هو قدر تحمله لك، هل هو كبير السن يحتاج إلى توقير؟ أو شاب مثلك يحتاج إلى أن تتعامل معه معاملة الند للند؟ أم هو أصغر منك فيحتاج إلى أن ترحمه؟ أو هو امرأة ضعيفة العقل تحتاج إلى تطييب الخاطر؟ أو هو سفيه يحتاج إلى المداراة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً مقبلاً فقال: (بئس أخو العشيرة)، فلما قدم ألان له صلى الله عليه وسلم القول، مع أن الرجل سيء وبذيء الأخلاق.
وقد ألان له الرسول صلى الله عليه وسلم القول، ليس عن جبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رياء أبداً، بل دفعاً لسفهه وطيشه، في نفس الوقت الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام فيه: (بئس أخو العشيرة).
فتراه صلى الله عليه وسلم يشتد على الأفاضل من أصحابه، كالثلاثة الذين خلفوا، جاءوا واعتذروا إلى الرسول وقالوا: (تخلفنا يا رسول الله وليس لنا عذر)، ومنهم هلال بن أمية وهو بدري -شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك هجرهم الرسول عليه الصلاة والسلام خمسين ليلة.
فأحياناً يعتذر إليك شخص وتشدد في قبول اعتذاره، ويعتذر شخص آخر اعتذاراً واحداً وتقبل منه العذر.(43/7)
فقه تربية الأولاد [1]
خير ما يربى عليه الأبناء كتاب ربهم عز وجل، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويتحمل المسئولية في ذلك الآباء، فلو أنهم ساروا على هذا النهج، واختاروا المرأة الصالحة، واعتنوا بتربية أولادهم التربية الروحية اعتناءهم بتربيتهم الجسدية؛ لما فسدت المجتمعات، ولعاش أفراد الأسراة وفق منهج إسلامي قويم.(44/1)
التربية على ضوء الكتاب والسنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فحديثنا هو عن فقه تربية الأولاد على ضوء ما ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا على ضوء ما ورد في كتب علم النفس والفلسفة، فخير الهدي -دائماً وأبداً- هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقال سبحانه وتعالى عن نفسه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فالذي خلقنا وخلق أطفالنا وأولادنا وبناتنا هو الله سبحانه وتعالى؛ فتشريعه خير تشريع، وهدي نبيه خير هدي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فجدير بنا إذاً أن نتلمس خطى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونتلمس أوامره وآدابه ونطبقها مع أبنائنا حتى يسلم لنا أبناؤنا، لذلك فإن حديثنا عن تربية الأولاد ليس عن تجربة شخصية، فالتجارب الشخصية تختلف من شخص إلى آخر، وليس عن حكاية سُطِّرت فالحكايات ما أكثرها، ولكن من خلال نصوص من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ثم من أقوال أهل العلم من سلفنا الصالح رحمهم الله الذين هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم التابعون، ثم أتباع التابعين، فهؤلاء هم خير القرون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).(44/2)
التضرع إلى الله والدعاء بصلاح الذرية
أيها الأحبة: ابتداءً فليعلم أن الهادي هو الله سبحانه وتعالى، وهذا شيء مقرر ومسلّم به، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، وقال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس:100]، وقال سبحانه: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، فأمر الهداية بالدرجة الأولى موكول إلى الله سبحانه وتعالى، والشقاوة أو السعادة مكتوبة على العبد وهو في بطن أمه، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود وغيره: (إن الملك يأتي فيؤمر بأربع: بكتب أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أو سعيد)، كل ذلك مقدر على العبد وهو في بطن أمه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً)، فيجب أن يعلم أن المهتدي هو من هداه الله سبحانه وتعالى.
ويجب علينا أن نتجه إلى ربنا سبحانه وتعالى نسأله إصلاح الذرية، كما هو حال أهل الإيمان، فهم دائماً يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] وقرة الأعين: ما تستقر به العين فلا تنظر إلى غيره.
مثال ذلك: لو أن عندك زوجة دميمة فإنك كلما رأيت امرأة حسناء اتجه نظرك إليها، بخلاف ما لو كانت زوجتك أحسن النساء ما امتد بصرك إلى غيرها، وكذلك لو كان ولدك أعقل الأولاد وأهدأ الأولاد ما امتد بصرك إلى غيره، ولذلك كان أهل الإيمان يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] أي: ما تستقر به الأعين {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
وذكر الله سبحانه وتعالى حال هذا الرجل الذي بلغ أشده وبلغ أربعين سنة فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] فدعا ربه أن يصلح له ذريته.
وهكذا أيضاً إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]، ويطلب زكريا عليه الصلاة والسلام نحواً من هذا فيقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6]، ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38].
فالصلاح والهدى في الأصل من الله سبحانه وتعالى.
وهذا يوسف صلى الله عليه وسلم تربى في بيوت الملوك من أهل الكفر، ثم أخذ وألقي به في السجن مع طائفة من المجرمين الخمارين، والسرق واللصوص، ومع ذلك كله حفظه الله سبحانه وتعالى، حفظه وهو غلام وسيم أوتي شطر الحسن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتي يوسف صلى الله عليه وسلم شطر الحسن) -أي: نصف جمال الكون- ومع ذلك حفظه الله سبحانه، فلم تمتد إليه يد عابث وتناله بشيء من السوء.
وهذا الغلام صاحب قصة أصحاب الأخدود أبواه كافران، ولم يذكر عنهما الإيمان، وأرسل كي يتعلم السحر، فمن الذي هداه إلى الراهب كي يتعلم منه الإيمان ويكون من أمره ما كان؟! إنه الله سبحانه وتعالى.
فجديرٌ بنا أن نتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، ونبتهل إليه كي يصلح لنا الذريات، فهذا شأن أهل الإيمان، فهم دائماً يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يصلح لهم النية والذرية، فإن المؤمن مهما أوتي من براعة وطاعة لله وفنٍ للدعوة إلى الله فأمر الهداية ليس إليه، فهذا نوح عليه الصلاة والسلام ينادي ولده {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] فيقول الولد الشقي: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] ولم تجد دعوة نوح صلى الله عليه وسلم مع ولده.
فجديرٌ بنا أن نكثر من الدعاء لصلاح الذريات، وبعد ذلك كل ما سيأتي إنما هو من باب الأسباب والمسببات.(44/3)
أهمية الأخذ بالأسباب في تربية الأولاد
لقد جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب دوراً في صلاح الأبناء، فمن سلك أسباب الخير فتحها الله له وزاده هدى، كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة الليل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5] أي: أعطى المال وأنفقه في سبيل الله وفي أوجه الخير {وَاتَّقَى} [الليل:5] أي: اجتنب محارم الله، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:6 - 7] أي: سنهيئه لعمل الخير، فهو قدم خيراً ففتح الله له سائر أبواب من الخير.
وفي المقابل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9] فهذا الذي سلك هذه الأسباب {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10] أي: سنوفقه ونهيئه لعمل أهل الشقاوة -والعياذ بالله- فإذا سلكت أسباب الهداية والتمستها نور الله لك بصيرتك، وفتح لك أبواباً أخر من أبواب الخير، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
وإذا أمعنت النظر في كتاب الله اتضح لك هذا المفهوم وضوحاً جلياً، والله يقول في شأن نبيه موسى صلى الله عليه وسلم: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] فدل على أنه قدم إحساناً ثم آتاه الله الحكم والعلم، وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] فلما قدم إحساناً آتاه الله حكماً وآتاه الله علماً.
وكذلك قال الله في شأن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] فطمع إبراهيم أن تكون كل ذريته أئمة، فقال: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، وفي الآية الأخرى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا} [الصافات:113] أي: إبراهيم وإسحاق {مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113].
وقال تعالى في شأن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فلما قدموا الصبر واليقين جعل الله سبحانه وتعالى منهم هؤلاء.
وقال سبحانه في شأن لوط عليه السلام وقومه الذين آمنوا به: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر:35] فلزاماً أن تلتمس الأسباب المؤدية إلى الخير، فإذا التمست هذه الأسباب فتح الله لك أبواب الخير باباً تلو الباب، أما إذا التمست أسباب الشر فكذلك تُهيأ للشر وأعمال أهل الشر، قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127]، وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وقال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].(44/4)
الأسباب المعينة على صلاح الأولاد(44/5)
غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم
خامساً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: غرس الثقة في نفوسهم ومكافأة النبيه منهم: فيسن أن تغرس الثقة في نفوس الأطفال، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد سلك هذا المسلك وسلكه من بعده أصحابه رضوان الله عليهم.
فعليك أن تكتشف وتختبر مدى فهم هؤلاء الأطفال الذين أمامك، وهل يفهمون أو لا يفهمون، وبعد ذلك ترتب على هذا التعامل مهم.
وقد ورد في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما لطم الجارية وجاء آسفاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أغضب كما يغضب البشر، فكانت لي جارية ترعى غنماً لي، فعدت الذئب على شاة فأخذتها فلطمتها -أي: لطم الجارية على وجهها- فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فسألها: (أين الله؟ قالت: في السماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) فأخذ بعض أهل العلم من هذا: جواز الاختبار لاستكشاف ما عند الشخص، ثم ترتيب العمل بناءً على هذا الذي يصدر منه بعد الاستكشاف.
وينبغي أن يكرم الولد النبيه ويشجع حتى يستمر في نباهته وإقباله على الخير، فـ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً ولكنه كان نبيهاً ذكياً، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين.
قال عبد الله بن عباس: دخل النبي صلى الله عليه الخلاء فأتيته بماء كي يتوضأ به، فوضعته أمام الخلاء، فخرج فقال: من وضع هذا؟ فقالوا: عبد الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم لفهمه.
وفي هذا: جواز خدمة الصغير للكبير، فـ عبد الله بن عباس وضع الوضوء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنس كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى في أول الإسلام قال أنس: (كنت ساقي القوم يوم نزل تحريم الخمر، وكان شرابهم النبيذ وكنت أسقي أبا طلحة وأبي بن كعب فلما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] قال أبو طلحة: يا أنس! قم إلى هذه الدلال فاكسرها، أو فاهرقها).
الشاهد: أنه يسن أو يشرع أن يقوم الصغار بخدمة الكبار، ويتمرنون على ذلك، بل ويتمرنون أيضاً على البيع والشراء، ونحو ذلك.
وقد ورد في ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بيت أسماء بنت عميس كما سبق، فرأى عبد الله بن جعفر وكان صغيراً، فقال: (اللهم بارك لـ عبد الله في صفقة يمينه) فكان عبد الله تاجراً مع أنه كان صغيراً، وكان يربح أرباحاً طائلة رضي الله عنه ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالشاهد: أن الأطفال يستكشفون، ومن وجد منهم فيه نباهة حُمّل من التعليم ما يوازي نباهته وفهمه، ويكرم ويشجع على هذه النباهة، ولذلك كان أمير المؤمنين عمر يدخل عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما مع كبار السن من الصحابة، ويجلسه معهم في المجالس، وفيهم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان علي بن أبي طالب وكان لا يتجاوز عمره العشرين سنة وهو يجلس مع هؤلاء الكبار من أهل الشورى، فقال بعض الصحابة لـ عمر: ما لك تدخل هذا الصبي وتجلسه معنا ولنا أبناء أكبر منه سناً؟ فقال: إنه من حيث علمتم - أي: أنه ابن عم رسول الله وقد دعا له بالفقه في الدين- ثم استدعاه يوماً فقال له أمامهم: يا ابن عباس! ما تقول في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2]؟ فأما الصحابة ففسروها بالظاهر وقالوا: إذا جاء نصر الله ورأينا الناس يسلمون نحمد الله ونستغفره.
فقال عمر: ما تقول أنت يا ابن عباس! في هذه الآية؟ قال: أما أنا فلا أقول مثل مقالتهم يا أمير المؤمنين، قال: إذاً فما تقول؟ قال: أقول: إن الله نعى إلى النبي أجله في هذه الآية، قال عمر: وأنا كذلك لا أعلم منها إلا الذي تعلم.
وكان الأمر كذلك فقد مات الرسول بعد نزول هذه السورة بفترة وجيزة، وهي آخر سورة كاملة نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فـ ابن عباس قاس الأمور، وعلم أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ لأنك إذا نظرت ترى أن المجالس تختم بالاستغفار: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، والصلوات تختم بالاستغفار: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
ونوح لما انتهى من رسالته ختم الرسالة بقوله بعد أن أغرق الله قومه وأهلكهم: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28]، فيطرد أن الاستغفار تختم به الأعمال؛ فلذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله.
فكان عمر يكرم عبد الله بن عباس.
وهكذا فكل من وجدت فيه نباهة ينبغي أن يكرم ويشجع حتى يواصل العطاء، فرب كلمة طيبة يتحول بسببها شخص من الفساد أو الكسل إلى الصلاح والنشاط.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(44/6)
مداعبة الأطفال بما يناسب سنهم
رابعاً: من الأسباب التي تعين على صلاح الأولاد: مداعبتهم وملاطفتهم بما يناسب سنهم: ومع التعويذ تبدأ مسألة الملاطفة مع الأطفال في صغرهم، ولنبينا صلى الله عليه وسلم هديٌ واسع في هذا الجانب، فالولد لا يتحمل التعليم لأول وهلة، إنما تمر عليه فترة يكتشف فيها، ومن ثم يعطى الجرعة المناسبة له من التعليم.
قد كان النبي صلى الله عليه وسلم لطيفاً رقيقاً مع الأطفال عليه الصلاة والسلام، فقد جاءه رجلٌ من بني تميم فرآه يقبل بعض أبنائه، فقال: يا رسول الله! تقبلون أبناؤكم؟! إن لي عشرة من الولد لم أقبل أحداً منهم قط، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أملك لك إن كان الله قد نزع الرحمة من قلبك) فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الأطفال، ويداعبهم عليه الصلاة والسلام.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كان لي أخٌ يقال له: أبو عمير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إليه فيقول: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) كان لـ أبي عمير طائر يربطه ويلعب معه، وكلما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيت ناداه: يا أبا عمير!، وكناه بهذه الكنية؛ ففيه جواز تكنية الصغير، أي: يجوز لك أن تكني ابنك وهو صغير، وهذه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فرآه حزيناً فقال: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ فقالوا: مات النغير يا رسول الله!) فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمازح هذا الطفل ويداعبه؛ إذ سنه وعمره لا يتحمل إلا هذه المداعبة وهذا التلطف، وكناه النبي صلى الله عليه وسلم باسم يحبه، ولذلك يلزمك أن تختار لولدك اسماً طيباً حتى لا تسبب له ألماً بعد ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى عليكم غير اسم عاصية إلى جميلة، فيسن أن تختار للولد اسماً طيباً حتى يشكرك بعد ذلك ولا يتأذى من اسمه أمام الناس، ويسن أيضاً أن تعق عنه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يعق عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة).
فالشاهد: أن الرسول كان يتلطلف مع الصبيان.
قال أنس: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لما تركته).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً عليه الصلاة والسلام.(44/7)
اختيار الأم الصالحة
ثانياً: من الأسباب التي تعين على صلاح الأولاد: اختيار الأم: فعلى الوالد أن يتخير أم الولد ابتداءً، وهذا مطلب شرعي لنفسك ثم لبنيك من بعدك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صفات المرأة التي تختار: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) وبعض هذه الصفات لها انعكاس على الأولاد، فالمرأة الجميلة في الغالب أن أولادها يكون في وجوههم مسحة جمال، ولذلك ورد عن معاوية أنه أتى بجارية بيضاء فزوجها لرجل أسمر وقال له: (بيض بها بنيك).
وكما أن الجمال ينعكس على الأولاد فالذكاء أيضاً ينعكس وكل هذا بإذن الله، والثراء أيضاً، فإذا تزوجت امرأة ثرية فثراؤها يعود على الأبناء كما هو واضح، لكن محل هذا كله إذا كانت المرأة ذات دين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) أما إذا لم تكن ذات دين فهي كما قال تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، وقال: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221]، فعلى الشخص أن يتخير امرأة صالحة لأبنائه تعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخلاق الأم وطباعها ينعكس على البنين والبنات.
والرجل إذا اختار المرأة الصالحة وتزوجها فسيبدأ حياته معها بما يرضي الله ثم يكون هذا الزواج في خدمة الأطفال وهذا هو الذي يهمنا.
إذا اخترتها ودخلت بها فافعل ما قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادماً فليأخذ بناصيته وليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلتها عليه) ثم إذا جاء بعد ذلك يجامعها يقول ما علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أما إن أحدكم لو أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما ولد لم يضره شيطانٌ أبداً) أي: لم يضره شيطان بشرك أو بمعصية كبيرة لا يتوب منها على ما فسره بعض العلماء، أما صغار المعاصي فلزاماً أن يقع فيها العبد، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدركٌ ذلك لا محالة)، وغير ذلك من الأحاديث.(44/8)
تعويذ الأبناء بالأدعية الشرعية
ثالثاً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: إذا جامع الرجل أهله تعوذ من الشيطان ودعا بصلاح الذرية، كما قالت أم مريم عليها السلام، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36] فتبدأ عمليات التعويذ اليومي المستمر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عينٍ لامه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يعوذهما بهذه التعويذات: (إن أباكما إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام).
وإذا لم تكن تحفظ هذا التعويذ فعوذ بالمعوذات، فأفضل ما تعوذ به المتعوذون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، و: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فتبدأ يومياً في مرحلة تعويذ البنين والبنات، حفاظاً عليهم من سهام الأعين والحسد، وسهام إبليس ووسوسته، فكل هذه جنود لا نراها، ولكن لها تأثيرات -بإذن الله- في الصبي، ولا يخفى عليكم أن النبي صلى الله عليه وسلم زار امرأة جعفر بعد قتله فرأى نحافة الأبناء، وقال لها: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة -أي: نحيفة - قالت: يا رسول الله! تسرع إليهم العين، قال: فاسترقي لهم) أي: اطلبي لهم من يرقيهم.
وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على وجه جارية لـ أم سلمة سفعة، والسفعة هي التغير والسواد، فسأل عن ذلك، فقالت: إن بها النظرة يا رسول الله! قال: (فاسترقي لها) فيسن التعويذ بما ورد في سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهي سنن ثابتة.
وأيضاً: يحفظ الأولاد في أول الليل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم واذكروا اسم الله، وأوكئوا القردة، واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله) الحديث، وفي رواية في مسلم (فإن للجن انتشار وخطف) فالشاهد أنه قبيل المغرب يكف الصبيان عن الخروج حتى لا يبطش بهم الجان، ونحن مسلمون نؤمن بالغيب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، وهذا فارق ما بين أهل الإسلام وبين أهل الجحود والكفران.
أيضاً: يمنع الصبيان من الخروج في هذا الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (فإذا ذهبت ساعة من العشاء فحلوهم).(44/9)
استقامة الأباء وصلاح أحوالهم
أولاً: من الأسباب المعينة على صلاح الأولاد: أن تستقيم أنت في نفسك وتعمل الصالحات، فلعمل الصالحات منك انعكاسٌ على أولادك، فتطييبك لمطعمك ومشربك له انعكاس على أولادك، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] فصلاح الآباء اتجه أو عاد على الأبناء بالنفع، وتحمل الخضر وموسى عليهما السلام المشقة لبناء الجدار بدون أجر، قال الله سبحانه: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] هذا كله لصلاح الأب، وأيضاً ورد أن بعض السلف ونسب القول إلى سعيد بن المسيب أنه قال لابنه: (يا بني! لأزيدن في صلاتي من أجلك) يعني: لو كنت أصلي ركعتين فأصلي أربعاً أو ستاً من أجلك؛ لأن الله قال: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] وهذا المعنى يتأيد بقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فقولك السديد يبقى أثره إلى الأولاد، فإذا تكلمت كلاماً سديداً في مجلس فيه حقوق للأيتام ستضيع فهذا القول السديد يبقى لك، ويخلفك الله سبحانه وتعالى في بنيك بسبب هذا القول السديد، {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9] فعموم أعمال الصالحات وأعمال البر من الرجل تنعكس إيجابياً على أبنائه، فهو في نظرهم القدوة والأسوة.(44/10)
فقه تربية الأولاد [2]
جرى السلف في تربية أبنائهم على تعليمهم معالي الأمور لا سفاسفها، وأعلى المعالي توحيد الله تعالى وعبادته منذ الصغر، فما أن يكبر الطفل ويبلغ حتى يصبح رجلاً يعتمد عليه في ميادين الجهاد.
ومما يراعى في التربية أن تكون تربية نظرية بالأقوال والأحاديث والقصص، وعملية بالفعل الحسن والأخلاق الماجدة الرفيعة من كلا الأبوين.(45/1)
غرس التوحيد ومحبة الله ورسوله في قلوب الأبناء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فإن أهم ما نعلمه الأبناء هو ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما جاء في كتاب الله سبحانه وتعال؛ فيجب أن يُعرّفوا بربهم سبحانه وتعالى وبنبيهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتغرس في قلوبهم محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(45/2)
تعليم الأولاد آداب الطعام
ومما ينبغي تربية الأولاد عليه: آداب الطعام: علم ولدك التسمية عند الطعام كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأطفال، تخيل أن الرسول جلس يأكل مع أصحابه فجاءت جارية كأنما تدفع ووضعت يدها في الطعام، فنزع الرسول يدها من الطعام، ورسول الله أرحم الخلق عليه الصلاة والسلام، فينزع يدها من الطعام ويمنعها من الأكل، ويأتي غلام يجري كأنما يدفع فيضع يده في الطعام، فينزع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أرحم الخلق يده من الطعام، ويقول له: (إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه)، وإنه أتى بهذه الجارية وبهذا الغلام كي يستحل بهم الطعام، (والذي نفسي بيده إن يده - أي: يد الشيطان- مع يديهما في يد).
ويقول: (يا غلام! إذا أكلت فسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).
فلا يأخذك الحياء بل علمهم واتق الله فيهم، فكما قال القائل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه فليس من يلقنه أبوه كل يوم كتاب الله وسنة رسول الله كمن يلقنه أبوه الكفر والعربدة.
يقول عكرمة: (لقد رأيتني وإن ابن عباس لموثقي على تعلم القرآن) يقول: أنا أذكر ابن عباس وهو رابطني حتى أتعلم القرآن، وكان ابن عباس قد رأى في عكرمة نباهة زائدة، فربطه حتى يتعلم كتاب الله، ربطه في وقت التعليم، حتى يحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فجدير بالشخص أن يراعي أولاده.(45/3)
تعليم الأولاد آداب الاستئذان
ومما ينبغي أن يربى عليه الأولاد: الاستئذان: علم ولدك الاستئذان كما في قوله تعالى في هذه الآيات الذي فرط الناس في العمل بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58]، فينبغي على الأب يعلم ولده الاستئذان في هذه الأوقات الثلاث، فلو أن الأب والأم في غرفة النوم قبل الفجر، أو في الظهيرة، أو من بعد صلاة العشاء فعليهما أن يعلما الأبناء الاستئذان ولا يفتحان الباب مباشرة، حتى لا ترتسم صورة في ذهن الطفل فيخرج يطبقها مع أخته أو مع أخيه، فأمر الله بالاستئذان في هذه الأوقات حتى تبقى تصورات الأطفال نظيفة وبعيدة عن التشويش والفساد.
وهذا يسوقنا إلى منع الأطفال عن الأفلام التي تعرض في التلفزيونات، وقد امتلأت بالدعارة والرقص والفساد، فالطفل يملأ سمعه وبصره وفؤاده بالمناظر التي يراها من هذا التلفزيون الفاسد، فيخرج يطبقها مع أخته وجارته، وهذا من أهم الأمور التي يجب أن تراعى وهي: إبعاد الأطفال عن التلفزيونات والمسلسلات الخليعة وما ينشر فيها من الفساد، فإن هذا يهدم كثيراً مما تبنيه.
فأنت تعلم الولد: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] فيضيع هذا التعليم أمام التلفاز وما يعرض فيه من الفساد، فيدمر كل ما علمته إياه.
فجديرٌ بكل أب يريد أن يحافظ على أولاده أن يبعد التلفزيون من بيته جملة واحدة؛ فإن النفع الذي فيه لا يشكل أدنى نسبة بالنسبة للشر الذي فيه، فجدير بكل أب غيور وإن كانت هناك بعض الأشياء التي يراها منافع من التلفزيون؛ أن يبعد التلفزيون جملة وتفصيلاً من البيت سداً للذريعة الموصلة إلى الفساد، وهذا من أهم الأمور التي يركز عليها في تربية الأطفال، فينبغي أن يكون مشرب الأطفال مشرباً واحداً ألا وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما إن تعددت المشارب التي يشرب منها الطفل، فالشهوات -والعياذ بالله- لها قبول عند كثير من الناس، فعندما تجد الشهوات القلب فارغاً من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنها تتمكن منه، فجديرٌ بالشخص أن يبعد أولاده تماماً عن هذه التلفزيونات.
وينبغي على الآباء أ، يعلموا أولادهم معالي الأمور، فقد كان أصحاب رسول الله يمرنون أبناءهم على معالي الأمور، بل تخيل أن الصحابي كـ ابن عمر رضي الله عنه يقول: عرضت للجهاد في أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة -يريد أن يمسك سيفاً ويبدأ في قتال الكفار وهو في هذا السن- فردني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عرضت عليه في العام المقبل يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
انظر ابن خمس عشرة سنة يشارك في القتال مباشرة.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كنت جالساً مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي أصحابه سؤالاً فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟)، فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم وأقول: هي النخلة يا رسول الله! فإذا أنا أصغر القوم، فامتنعت عن الكلام، فقال الرسول: (هي النخلة)، فقلت لأبي: يا أبتي! قد وقع في نفسي أنها النخلة، فقال: لو قلتها لكان أحب إلي من حمر النعم.
بمَ يفرح عمر؟ هل يفرح لأن ولده أتى بـ (100%) في الثانوية، أم يفرح لأن الولد أجاب على مسألة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟(45/4)
تعليم الأولاد حسن الخلق
ومما يربى عليه الأبناء: حسنالخلق: فلا تعلم ولدك سباب أمه كما يفعل الجهلة والذين لا يعلمون، فتجد الوالد الغبي يفرح بولده الذي يسب أمه، وتفرح الأم الجاهلة بابنها الذي يسب أباه، ولا يشعران أن هذا إثم عليهما، وفيه شرٌ عليهما.
علم ولدك احترام الكبير، وحقوق الكبير بينها له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يوقر كبيرنا)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة في المنام وأتيت بسواك كي أتسوك به، فناولته لصغير فقيل لي: كبر -يعني: أعطه الأكبر-)، وجاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أحدهما يتكلم وكان هو الأصغر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر) يعني: الكبير هو الذي يتكلم.
فلزاماً أن تعلم ولدك حق الكبير، فعلمه إذا التقى بكبير أن يبدأ الكبيرَ بالسلام -الصغير يسلم على الكبير- كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسلم الصغير على الكبير)، فالصغير هو الذي يبدأ.
وعلمه خدمة الأضياف كما كان أبو بكر يعلم ولده عبد الرحمن، إذ يرسله بالأضياف كي يخدمهم ويقوم عليهم.
أيضاً: أعط ولدك حقه الذي شرع له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ذات يوم وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فأوتي النبي بشراب فاستأذن الغلام، في أن يسقي هؤلاء الذين هم عن يساره؛ فإنه عن اليمين وله حق في ذلك وكان عن اليسار أبو بكر وعمر وأقوام من كبار الصحابة، وعن اليمين غلام، فتخيل سيد ولد آدم يستأذن هذا الطفل الصغير، فيقول الغلام: لا يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً.
أي: أنا أريد أن أشرب بعدك يا رسول الله! شفتاي تأتي في موطن شفتيك يا رسول الله، ويصر الطفل فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلبه ويسقيه.
وقد مرض غلام من اليهود كان يخدم رسول الله، فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فيزوره الرسول يعود غلاماً صغيراً مرض في البيت، تخيل الروح المعنوية التي ترتفع في الطفل لما يرى زميلاً لأبيه جاء يزوره، جاء صديق الأب يزور الولد الصغير في البيت وأتى للطفل بهدية صغيرة، تخيل مدى تأثير هذه الهدية على الطفل، فذهب محمد عليه الصلاة والسلام إلى بيت رجل يهودي.
لماذا يطرق الرسول صلى الله عليه وسلم البيت على هذا اليهودي؟ ماذا تريد يا محمد؟ فيقول: أريد أن أزور ابنك الصغير، فيدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يزور الولد الصغير وهو مريض فيقول له: (قل لا إله إلا الله) أي: أسلم، فينظر الولد إلى أبيه فيقول أبوه له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فيقول الولد: لا إله إلا الله، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
فعلم ولدك حفظ السر، وقل له: لا تنقل كل شيء تراه أو تسمعه.
فهذا أنس يقول: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر فأسر إلي به وأنا صغير، فسألتني أمي - أم سليم - إلى أين تذهب؟ فقلت: ما كنت لأفشي سر رسول الله، فقالت له: إذاً لا تفشي لأحدٍ أبداً هذا السر الذي علمك إياه أو أخبرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينبغي أن تعلمه حفظ الأسرار وعدم نقل أسرار البيت إلى الخارج فكل بيت له عورات، قل له: لا تنقل كل ما تراه أو تسمعه، فهذا خطأ، وأدبه بهذا الأدب الذي كن الصحابيات يؤدبن به أبناءهن.
قل له إذا رفع صوته أمام أمه أو أخته أو أخيه: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] كما قال لقمان صلى الله عليه وسلم لابنه، فلا تترك الولد يعبث بالبيت ويصيح ويجري هنا وهنا ويبطش بهذا وبذاك بل أدبه، فإذا لم يجد معه التأديب بالكلام فانتقل إلى ما هو أشد من الكلام إن احتاج الأمر إلى ذلك.
وقد ورد حديثٌ في هذا الباب صححه بعض أهل العلم (علق السوط حيث يراه أهل البيت)، أي: ضع العصا في مكان حيث يراه أهل البيت من الأطفال، فهناك أطفال نظرة واحدة تكفي لزجرهم، وأطفال آخرون لا يكفي النظر، ولا يكفي الكلام لزجرهم بل يحتاج معهم إلى نوع من التأديب سواءً باليد أو بالضرب ونحو ذلك، فالله لا يحب الفساد، فلا يترك الولد يسرق ويعبث ونقول: نحتاج إلى أدلة خاصة، بل الأدلة العامة تضبط لنا هذه القضية، فمنها: قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].(45/5)
تعويدهم على أعمال الخير والبر
ومن تربية الأبناء أن تجتهد أن ترسم في ذهن ولدك مناظر البر وأعمال الخير، فخذه معك للحج أو للعمرة إذا وسع الله عليك، فقد رفعت امرأة صبياً لها وقالت: (يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) فإذا أخذت ولدك -المميز خاصة- إلى الحرم وحببته في الكعبة وفي الطواف حول الكعبة، ووقفت به على الصفا والمروى، ونزلت به وشربت من زمزم أنت وهو، وارتسمت في ذهنه هذه المناظر؛ كنت أنت مأجور؛ لأنك تعلم ولدك الخير وتملأ قلبه وسمعه وبصره وفؤاده بلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
وهل تستوي أنت مع من أخذ ولده إلى المصيف ورأى العراة والعرايا، أو من أخذه إلى السينما ورأى الفساد العريض، أو إلى المسارح ووجد فيها هذا الفساد المدمر؟ أو هل تستوي أنت مع من أخذ ولده إلى النادي يشجع الكابتن فلان والكابتن فلان؟ لا يستويان {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، إذا سويت بين الرجل الذي يأخذ ولده ويمرنه على صلاة الفرض والنفل والتراويح، ويعوده على صلاة الجنائز في الحرم، والطواف حول البيت العتيق، ويريه مقام إبراهيم وحجر إسماعيل، ويريه الركن اليماني، ويعلمه الدعاء ورمي الجمار، بمن مرن أولاده على شرب الخمر، وأرسل ولده يشتري له السجائر، أو المخدرات فهذا ظلم عظيم.
فخذ ولدك معك لأعمال البر وخذه معك إلى المساجد، وعلمه الورع.
يقول الحسن بن علي وقد كان صغيراً في زمان رسول الله: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم تمرة في فم الحسن بن علي من تمر الصدقة فنزعها من فِيه، وقال: (كِخ كخ، أما علمت إنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) انظر إلى هذا الورع وهو طفل صغير غير مكلف، لكن مع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يقره على أن يدخل في بطنه لقمة لا تحل له، فقال: (كخ كخ، أما علمت إنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) فانظر إلى تصرف رسول الله مع الحسن! ينزل مرة من على المنبر وهو يخطب للناس الجمعة فيحتضن الحسن ويقبله، ثم المرة الثانية يستخرج التمرة من فيه، فالمباح لا بأس بالإقبال عليه وعمله، والمحرم يجب أن يوقف عنده ولا يتمادى معه.(45/6)
تعليم الأولاد الصلاة فرضها ونفلها
ومما يربى عليه الأبناء بعد التوحيد: إقامة الصلاة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة) وتعليمه الصلاة يبدأ من سن السابعة.
ولكن قبل السابعة هل أعلمه الصلاة أم لا؟ المسنون قبل السابعة اصطحاب الصبيان إلى المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه عليه)، وقال لما أمر بالتخفيف في الصلاة: (من أمَّ الناس فليخفف؛ فإن وراءه الكبير والصغير وذا الحاجة) فالصغار كانوا يصطحبون إلى المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل أمامة على كتفه وهو يصلي؛ فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها صلى الله عليه وسلم.
بل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبة فرأى الحسن والحسين مقبلين فنزل من على المنبر واحتضنهما وقال: (صدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، رأيت هذين فلم أصبر عليهما).
الشاهد: أن الشخص يشرع له أن يعلم الأولاد الصلاة وهم أبناء سبع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (علموا أولادكم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) لكن قبل السبع إن علمهم فلا يشدد عليهم في التعليم، فهذا هديه صلى الله عليه وسلم.
وليعلم أن يختلفون فمنهم من يستوعب قبل السبع، ومنهم من لا يستوعب، ولكن التقعيد العام أن الأولاد يبدأ تعليمهم الصلاة وهم أبناء سبع كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعلمون ويمرنون على الفرض مع النفل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الليل واليتيم خلفه والعجوز خلفهما، واليتيم يطلق عليه يتيم؛ لأنه دون البلوغ، فيمرن الأطفال على صلاة الفرض والنفل، وإن كان فيهم كفاءة فلا مانع أبداً أن يقدموا للصلاة، فيقدم ويشجع إذا كان ذكاؤه يسمح بذلك ويتسع له، ويعلم أيضاً الصوم ويدرب عليه، وينبغي للأم أن لا تحملها شفقتهما على أن تمنع ولدها من الصيام، فإذا بكى الولد من الجوع فلا ينبغي للأم أن تأخذها العاطفة، وتطعمه وتفطره من الصيام، والربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (كنا نصوم عاشوراء ونصومه صبياننا، فإذا جاع أحدهم جعلنا له اللعبة من العهن - أي: من الصوف - حتى يأتي وقت المغرب) ليس بمجرد الجوع أو البكاء من الجوع تقدم له الإفطار، بل قالت: إذا بكى أحدهم - أي: من شدة الجوع- جعلنا له اللعبة من العهن؛ لأن كثيراً من الآباء يخاف على ولده من الصوم، ويمنعه منه، وكثير من الأمهات إذا خرج ولدها لصلاة الفجر تمنعه حتى لا يصاب بالبرد، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أولادهم وبناتهم الصيام وعمر يقول لرجلٍ سكران: (ويحك! وصبياننا صيام)، يعني: أنت تفطر يا كبير وعندنا الأطفال الصغار يصومون.
ويسن أيضاً: تعويدهم على صوم الفرض والأطباء يعرفون ما في الصيام من فوائد.(45/7)
توحيد الله أول ما يربى عليه الأبناء
أصل التربية: أن يعرف الأبناء بربهم سبحانه وتعالى وبنبيهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتغرس محبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قلوبهم، فيعلمون الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى كلها، وأن الله يراهم في كل موقف ومقام كما قال لقمان عليه السلام لولده الوصية الجامعة التي جمعت الأصول والفروع معلماً إياه كما قال الله: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فتحذر الولد من الشرك تحذره تحذيراً شديداً، وتخبره أن الشرك يجعل صاحبه خالداً في النار، وتبين له صور الشرك، وتعلمه أن قوله: (لولا الكلب لجاءنا اللصوص) من الشرك في الألفاظ، وتعلمه أن دعاء غير الله لا يجوز، وتعلمه أن كلام الشيعة الذين يقولون: إن السماء تمطر بإذن علي بن أبي طالب أن هذا باطل، وتعلمه المعتقد الصحيح الذي اعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقده أصحابه، {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وهذه الوصية أيضاً وصى بها يعقوب عليه السلام بنيه عند الموت فقال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] جمعهم عند الموت فقال لهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133]، فالذي يبدأ به الإنسان في تعليم، ويعلمه الأطفال؛ التوحيد؛ لأن الله قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
ثم يأتي التحول في الخطاب فيقول الله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] لم يحك هذا على لسان لقمان عليه السلام، فيستفاد من هذا التحوّل في الخطاب: أن الوالد لا يطلب حقه مباشرة من الولد، فلا يقول له: من حقي عليك أن تفعل لي كذا وكذا، وإن كان هذا جائز، لكن يلمح له بطريق آخر، حتى لا يظن الولد أن في تعليم أبيه له مصلحة له، فلذلك تحول السياق وقال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14]، فلم تأت على لسان لقمان بل جاءت في سياق أنها من كلام الله سبحانه وتعالى، فلو كان لك حق على الولد فلا تقل له: حقي عليك كذا وكذا، وتعدد حقوقك على ولدك فيسأمك ويضجر منك، ولكن عرّض له تعريضاً وعلَّمه تعليماً.
والتعليم الذي صدر من لقمان بدأ بالأصول أصلاً أصلاً ثم بدأ بالتدريج.
قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:14 - 15]، والملاحظ أنه ركز على {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}، فيؤخذ من هذا التركيز: أن تعلم ولدك مصادقة أهل الصلاح، وأن يتبع سبيل من أناب ورجع إلى الله، فعلمه مصادقة الصالحين، وقل له: لا تصادق أهل الشر والفساد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً نتنة) {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] قل له: يا بني! اختلط بأهل الصلاح والخير، فهم أصدقاء لك في الدنيا والآخرة، واتل عليه قول الله سبحانه: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
ثم قال في الوصية: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] كل هذا تعريف بالله سبحانه وتعالى.
من هو الله سبحانه وتعالى الذي تعبده؟ هو: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]، هذا هو الله سبحانه وتعالى الذي تعبده.
{إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].(45/8)
ما ينبغي على الآباء مراعاته في تربية الأبناء
علينا أثناء تربية الأولاد أن نعدل بين الأولاد؛ فإن عدم العدل يسبب فساداً في البيت، فلا نقول العدل بين البنين والبنات فإن هذا أصل لابد منه أيضاً، إنما نقول العدل بين الأبناء وبعضهم البعض.
جاء بشير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني نحلت ابني هذا نحلة -يعني: وهبته هبة- وجئت أشهدك يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد غيره؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: وكل ولدك أعطيته مثل هذا؟ قال: لا يا رسول الله! قال: ارجع فإني لا أشهد على جور)، فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، واعلموا أن عدم العدل يسبب فساداً بين الأولاد.
والعدل يكون في كل شيء حتى في المحبة القلبية؛ إذا أبرزتها حدث فساد بين الأولاد، وإن كانت المحبة القلبية لا يملكها شخص لكن يحاول جاهداً أن يضبطها أمام الأولاد، ألا ترى أن إخوة يوسف قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:8 - 9]، ما هو الحامل لهم على قتل يوسف؟ ليس كما قال بعض المفسرين: إن يوسف قص الرؤيا عليهم، الرؤيا التي رآها؛ {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، لذا فخططوا لقتله، فقد تقلد هذا القول بعض المفسرين وهو قولٌ ليس عليه دليل، إنما الدليل الصريح هو ما ذكروه {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] ثم اتجه تخطيطهم للاغتيال: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف:9] لا تكن في البيت يا عبد الله! سيء الأخلاق، تخال أنك إذا سببت زوجتك وابنك وابنتك فإنك ستجني عاقبة ذلك ولو بعد حين، حتى المرأة إذا سبت ابنتها فإن ابنتها سوف تتعلم هذه الأخلاق، ثم ما تلبث أن تتزوج فإذا تزوجت اتبعت مع زوجها الأسلوب الذي اتبعته أمها مع أبيها، لكن الزوج الجديد له خصال أخرى، فلا تلبث إلا يسيراً وتطلق وترجع إلى أمها البذيئة فتجني عاقبة ووبال أمرها.
فلا تجعل في البيت صخباً ولا سباباً ولا إثماً فالأولاد يتعلمون منك، ويلقطون الخصال الطيبة أو السيئة منك، فليكن الأب حتى إن دبت بينه وبين زوجته مشكلة متأنياً متأدباً بآداب الإسلام مراعياً لأولاده، فلا يحطم نفسيات الأم أمام الأطفال، ولا يظهر المشاكل أمامهم، وإذا أراد أن يعاتبها فليأخذ زوجته في مكان بعيداً عن الأطفال وليعاتب بعيداً عنهم، حتى لا تدمر نفسيات الأطفال، فإذا سمع مقالات سيئة من أمهم أو أبيهم فإنهم يتعدون على ذلك.
الشاهد: أن الأخلاق الطيبة في البيت من الأبوين تنعكس على الأولاد والبنات.
وينبغي أن لا تفرق بين البنين والبنات في التعامل كالجهلة الذين يطعمون البنين أولاً ثم يتركون الفتات للبنات، فالله يقول: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء:11] لا تدري هل البنت أنفع لك في دنياك وأخراك، أو الولد أنفع لك في دنياك وفي أخراك؟! وبالجملة فكن ودوداً مع ابنك، واجعله يعرف قدرك، ويعرف أنك أب بأسلوبٍ طيب مهذب، واسمع إلى مشاكله أحياناً وله حدودٌ لا يرتقي فوقها، فلا تمرنه على رفع الصوت على أمه، بل اضبطه وازجره عن رفع الصوت على أمه، وكن دائماً متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(45/9)
ما يقال للزوج في ليلة الزفاف
ليلة الزفاف هي أول ليلة يلتقي فيها الزوجان، وقد يقع بينهما من سوء التفاهم ما يضر بالعلاقة الزوجية، فعلى الزوج أن يعالج ذلك بحكمة، وكذلك قد تتصرف الزوجة تصرفاً غير سليم يحتاج من الزوج إلى صبر، ولا يعالج الخطأ بالخطأ.(46/1)
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فبين يدي كلمتنا نذكّر بشيء من فضل الصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام)، هناك -كما لا يخفى عليكم- ملائكة موكلون برحم المرأة، وملائكة موكلون بقبض الأرواح، وملائكة وقفوا على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول، وملائكة وقفوا على أبوب القرى يسجلون الذين يزورون إخوانهم في الله، وملائكة وكلت بالرعد، وملائكة وكلت بالحفظ والكتابة، وملائكة وظيفتهم حمل الصلاة والسلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم من المصلين عليه، هذه وظيفتهم فقط، فهم يبحثون في الطرقات إن وجدوا أحداً تلفظ بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حملوا ذلك إليه قائلين: فلان بن فلان يسلم ويصلي عليك يا رسول الله، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم عليك مصلياً مسلماً، فإذا غنمت من هذا المجلس خمس صلوات على رسولك محمد، صلى الله عليك بها خمسين صلاة، وكذلك صلى وسلم عليك نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن يُحرص على الاستكثار من الصلاة والسلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ امتثالاً لأمر الله حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، ورغبة في الأجر والثواب.(46/2)
عبرة وعظة من قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً)
موضوعنا في ليلتنا هذه إن شاء الله تعالى، كلمات حول آية من الآيات لعلنا والزوج ننتفع بها، وأنتم تعرفون أن كتاب الله كتاب مبارك كله خير، شهد الله له بذلك، فقال تعالى عن كتابه الكريم: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، وقال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] فكتاب الله كتاب مبارك، كل كلمة منه فيها نفع، يقتبس منها هدي، ويُتأدب منها بأدب، وقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقال ربنا: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] فتعلُمنا آية يرفعنا الله بها درجة، فضلاً عن الاستفادة في الآداب والأخلاق وغير ذلك.
والآية التي تناسب المقام والزوج هي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3].
قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم:3] ما السر الذي أسره النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه؟ ابتداءً: للآية ولما قبلها من الآيات سببان من أسباب النزول كلاهما صحيح، وكما يقول علماؤنا يرحمهم الله: (قد تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة)، فيحصل أمر، ثم يحصل أمر آخر، ثم يحصل أمر ثالث، فتنزل الآية في كل الأسباب التي حدثت، فيأتي صحابي جليل يقول: الآية نزلت في كذا، ويأتي الآخر يقول: الآية نزلت في كذا، وقد نزلت الآية فيهما جميعاً، فأحياناً تتعدد أسباب النزول للآية الواحدة.
فهذه الآية والآيات التي سبقتها تعددت لها أسباب النزول وهي صحيحة، فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، فكان يدخل عند أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، فيطيل المكث عندها فتسقيه عسلاً، فغارت عائشة وحفصة رضي الله عنهما، فتواطأتا فيما بينهم، وقالت واحدة منهما للأخرى: أيتُنا دخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم فلتقل له: ما هذه الريح التي أجدها منك يا رسول الله؟ هل أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب دائماً أن يكون طيب الرائحة، وكان يحث على ذلك ويحذر من رديء الرائحة وخبيثها، وكان يقول: (من عُرض عليه ريحان فلا يرده فإنه طيب الريح خفيف المحمل)، وكان يقول للذي أكل ثوماً أو بصلاً: (من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا وليعتزل مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) فكان الرسول طيب الرائحة، يقول أنس: (ما شممت ريحاً قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فالشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عند زينب وقد شرب عسلاً، فلما دنا من عائشة واقترب منها قالت: ما هذه الريح التي أجدها منك يا رسول الله؟ أأكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير يا رسول الله؟ فشق ذلك على رسول الله وقال: (لا، ولكني شربت عسلاً) فقالت عائشة رضي الله عنها: جرست نحله العرفط، يعني: أنت شربت عسلاً، والنحل الذي أخرج هذا العسل كان يرعى في شجر ليس بطيب الرائحة وهو شجر العرفط، فأخرج عسلاً ليس بطيب الرائحة فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثم ذهب إلى حفصة رضي الله عنها، فلما اقترب من حفصة قالت: يا رسول الله! ما هذه الريح التي أجدها منك؟ هل أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير، قال: (لا، ولكني شربت عسلاً ولن أعود، وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحداً) فنزلت الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2].
الآيات.
وهناك سبب نزول آخر: كما لا يخفى عليكم أن الرجل إذا كان متزوجاً باثنتين لزمه أن يقسم لكل واحدة منهما يوماً وليلة، ولكن إذا كانت عنده أمة من الإماء فلا يجب عليه أن يقسم لها، إنما يأتيها في الوقت المتيسر له من ليل أو نهار، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، وكانت عنده جارية يقال لها: مارية، فكان يقسم للتسع ولا يقسم لـ مارية؛ لأنها أمة من الإماء.
فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية ليلة، فعلمت بذلك حفصة، فقالت: أفي نوبتي وعلى فراشي؟ قال: (لن أعود ولا تخبري بذلك أحداً وقد حلفت)؛ فنزلت {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] فهذان سببان من أسباب النزول.
ويستفاد مما سبق: أن النساء ذوات حيل، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنكُن لأنتنُ صواحب يوسف)، فالنساء ذوات حيل قد تكون في الخير أو تكون في غيره.
وهذه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها جاءها رجل من الفقراء ذات يوم فقال لها: يا أم عبد الله! إني أريد أن أبيع في ظل داركِ، قالت: إن الزبير رجلٌ غيور، وإذا جئت تبيع في ظل داري غار الزبير، فانتظر حتى يأتي الزبير فاسأله واستأذنه، فلما جاء الزبير جاء الرجل الفقير يقول: يا أم عبد الله! إني أريد أن أبيع في ظل داركِ فهل تأذنين لي؟ قالت: الدور كثيرة أما وجدت غير ظل داري فابتعد الرجل، فقال الزبير وقد أخذته الشفقة بالرجل: كيف تمنعين رجلاً فقيراً من البيع في ظل داركِ؟ قالت: تأذن له أنت؟ قال: آذن، قالت: من أجلك أذنت له أن يبيع في ظل داري.
إذاً: قد تكون الحيلة في الخير وقد تكون الحيلة في غير ذلك.
الشاهد: أن النبي أسر إلى بعض أزواجه حديثاً، قيل إنها حفصة، والسر هو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تخبري بذلك أحداً) فالذي أسر بالسر هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وأسره لفاضلة من الفضليات وأم من أمهات المؤمنين، وأكد عليها بقوله: (فلا تخبري بذلك أحداً) فأفشت زوجة رسول الله سر رسول الله، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإخبار، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زوجته أفشت السر، ونزل عليه قول ربه تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].(46/3)
الحث على الرفق بالمرأة والتجاوز عنها
من قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] نتعلم آداباً وأخلاقاً كريمة؛ فقوله: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3] يقول العلماء يرحمهم الله: إن المرأة إذا أخطأت عشرة أخطاء فإن من الظلم لها أن تؤاخذها في الأخطاء العشرة، وإنما تؤاخذها في بعض الأخطاء وتعفو عن البعض الآخر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن النساء: (إنهن ناقصات عقل ودين)، فإذا جئت تعامل ناقص العقل كما تعامل الكبير العاقل ظلمت ناقص العقل؛ فإذا كان هناك طفل، وجئت أُعامله معاملة الكبير وأحاسبه كما أحاسب الكبير، قال الناس عني: مجنون، ولكن هذا الطفل الصغير يُعفى له عن بعض أخطائه ويؤاخذ بالبعض الآخر.
فكذلك المرأة إذا صدر منها أخطاء -لأنهن ناقصات عقل ودين- فلا تؤاخذ المرأة بكل الأخطاء التي تصدر منها، ولكن تؤاخذها في البعض وتعفو لها عن البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما يؤيد ذلك، يقول: (إن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوجاً، فاستوصوا بالنساء خيراً)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبالغ في انتقاصها وازدرائها- فإن كره منها خلقاً رضي منها آخر)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، فالناس عموماً كالإبل المائة، إذا جئت تختار ناقة سريعة المشي، قليلة الأكل، طيبة المركب، هادئة الطبع، فقد تجد ناقة واحدة تتوافر فيها الخصال القوية والجيدة في مائة ناقة.
كذلك الناس، كإبل المائة، تبحث عن رجل صالح وطيب، واصل للرحم، مقيم للصلوات، متبع للجنائز، يحضر مجالس العلم، ينكر المنكر، ويقر المعروف، تجد في المائة واحد، فإذا كان الناس كذلك، فالنساء من باب أولى، فلابد وأن تجد في المرأة عيباً، وإذا ظننت أنك لن تجد عيباً في المرأة فأنت مخطئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسيا ومريم عليهما السلام).
فإذا جئت تبحث عن امرأة جميلة، فقد تجد الجميلة لكن نسبها ليس بطيب، وقد تجد الجميلة ذات النسب الطيب لكنها مبذرة مسرفة، وقد تجدها مقتصدة لكنها فاشلة في عمل البيت لا تعرف الطهي، فيفسد بسببها الطعام يوماً بعد يوم، وقد تجدها جميلة وطيبة وتعرف الطهي ومقتصدة، لكن تفاجأ بأنها عقيم لا تلد، وقد تجدها ولوداً لكن سليطة اللسان، فلزاماً أن تجد خللاً في المرأة؛ لأن النساء ناقصات في الأصل، ويدل على ذلك وصف الرسول لهن بذلك، وقد قال ربنا أيضاً: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] والسفهاء تفسيرها عند أكثر العلماء: النساء والصبيان، وقد قال الله تعالى أيضاً في شأن النساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] أي: ينشأ من الصغر في الحلية والزينة، فالبنت من صغرها تُلبسها أمها ثوباً جميلاً، وعقداً وحلقاً وغير ذلك.
كما قال الشاعر: وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصّرا أما إذا كان الجمال موفراً فحسنكِ لم يحتج إلى أن يزوّرا المرأة أصلاً ناقصة العقل، ولن تستطيع أن تجدها كاملة أبداً، وأسوق لك أمثلة على ذلك من خير القرون، قرن النبي عليه الصلاة والسلام، فمثلاً: أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: إن سألت عن نسبها، فهي ذات نسب، فهي ابنة عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإن سألت عن جمالها فهي في غاية الجمال، تقول عائشة: -مع أن زينب كانت ثيباً- فهي التي كانت تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من ناحية النسب فهي ذات نسب، من ناحية الجمال جميلة جداً، من ناحية الدين فقد كانت في غاية الاجتهاد في العبادة، وكانت تقوم من الليل تصلي، فإذا تعبت علقت حبلاً في السقف تربط به وسطها حتى لا تسقط وهي تصلي، إلى أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحبل فقال: (ما هذا؟ قالوا: حبلٌ لـ زينب إذا قامت تصلي من الليل ففترت تعلقت به، فقال عليه الصلاة والسلام: حلوه، ليصلي أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) فهي رضي الله عنها مصلية كثيرة التطوع.
كذلك إن سألت عن صدقتها رضي الله عنها فقد كانت كثيرة الإحسان والتصدق، تشتغل في بيتها شغلة فتأتي بالجلود وتدلكها تمهيداً لدباغتها، وتأخذ مقابل ذلك نقوداً لا لشيء إلا كي تتصدق بهذه الأموال، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه ذات يوم: (أسرعكن لحاقاً بي -يعني: التي ستموت من بعدي- أطولكن يداً) فكن نساء النبي يقسن الأذرع: من أطولهن ذراعاً؟ فكانت سودة بنت زمعة أطولهن ذراعاً، لكنهن فوجئن بأن التي ماتت بعد الرسول هي زينب بنت جحش، فعلمن أن المراد بطول اليد طول اليد بالصدقة، فقد كانت يدها رضي الله عنها كريمة سخية بالصدقة.
إذاً: من ناحية النسب هي ذات نسب، من ناحية الجمال ذات جمال، من ناحية العبادة ذات عبادة، من ناحية الصدقة متصدقة محسنة.
قبل أن يتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولكنها رضي الله عنها كان في لسانها حِدة تسرع، لكنها تراجع نفسها سريعاً، وقد تصدر منها كلمات شديدة ثم بعد ذلك تعتذر عن هذه الكلمات، فكانت رضي الله عنها مع زيد بن حارثة رضي الله عنه وعنها على هذا المنوال، فيأتي زيد يشكوها للرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: زينب تصنع وتصنع يا رسول الله، وتقول كذا، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم واعظاً له: (أمسك عليك زوجك واتق الله)، ولكن قدر الله وما شاء الله فعل، آل الأمر إلى أن طلقت من زيد بن حارثة، فقال الرسول لـ زيد لما انقضت عدتها: (اذهب فاخطبها لي) فذهب يخطبها للرسول، فقالت لـ زيد: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أستخير ربي عز وجل -أي: لست بموافقة ولا رافضة حتى أستخير الله عز وجل- فذهبت إلى مصلاها تصلي، فزوجها الله من فوق سبع سماوات: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] فدخل عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بدون إذن منها ولا من أوليائها، فقد زوجها الله من فوق سبع سماوات، وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (كلكن زوجكن أهاليكن وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات).
الشاهد من هذا معشر الإخوة: أنها رضي الله عنها مع كل ما فيها من خير وجد فيها شيء وهو حدة لسانها.
تقول عائشة: ما رأيت امرأة أورع ولا أخشى لله، ولا أتقى لله، ولا أتقن للعمل الذي تتقرب به إلى الله من زينب بنت جحش، وهي التي كانت تساميني من نساء النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة عند رسول الله، وهي وإن كانت حادة اللسان إلا أنها كانت تراجع نفسها بعد ذلك.
هذه امرأة مع ما فهيا من خير اعترتها حدة اللسان.
ننتقل إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فهي عالمة، فقيهة، جميلة حسناء، صديقة بنت صديق، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بكراً، خصال الخير مجتمعة فيها، لكن قدر الله أن تكون عقيماً لا تلد للرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فقد كانت شديدة الغيرة، أرسلت امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً للنبي في قصعة وهو عند عائشة، فقامت عائشة رضي الله عنه إلى حجر وضربت القصعة بقوة فكسرت القصعة بما فيها.
فقد كانت رضي الله عنها شديدة الغيرة حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (غارت أمكم غارت أمكم).
وننتقل إلى امرأة أخرى من النسوة الفضليات: إلى ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أسماء ذات النطاقين، كانت تعلف فرس الزبير زوجها وتسوسه، وتجمع النوى وتدقه للفرس، وتخدم الزبير، وفيها خصال خير كثيرة جداً، لكنها كما تقول هي عن نفسها: (لكني كنت لا أحسن الخبيز، فكانت لي جارات صدق كنّ يخبزن لي ويهدينني الخبز).(46/4)
هدي السلف في التعامل مع أخطاء الزوجة
الحاصل من ذلك أيها الأخ الكريم: أنك إذا أردت أن ترى في المرأة كل خصال الخير ستفشل في الحياة معها، وتأكد من هذا، فالنساء ناقصات عقل ودين، وخصال الخير ما اجتمعت في امرأة إلا في امرأتين آسيا ومريم عليهما السلام، فإذا أخطأت زوجتك عشرة أخطاء فتجاوز لها عن خمسة وعاقبها في خمسة.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: والله إني لا أحب أن استنصف جميع حقي على امرأتي -يعني: أنا لا أحب أن آخذ جميع حقوقي من امرأتي- لأن الله يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228].
يعني: لابد أن تكون أنت الأفضل، أما إذا أخطأت المرأة عشرة أخطاء، وجئت تؤاخذها بالأخطاء العشرة فأنت رجل ناقص العقل، قد جعلت نفسك كالمرأة بالضبط سواءً بسواءً، ولكن أهل الفضل يتركون لمن دونهم أخطاءً يخطئون فيها، وأهل العقل الكامل يتركون للمجانين ولأصحاب أنصاف العقول شيئاً من الأخطاء يخطئون فيها؛ وإلا فلو آخذوهم بكل الأخطاء التي تصدر منهم لظلموهم.
فعلى الزوج أن يراعي الزوجة ويعلم أنها ليست كالرجل، فإذا جاء يعاملها كما يعامل الرجال سيفشل، فإذا جاء يطبق المعاملات مع الرجال هي هي سواءً بسواء مع النساء سيفشل، فالرجل مع الرجل قد يتكلم بكلمة شديدة، لكن النسوة لا يتحملن ذلك.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رفقاً بالقوارير) قد تشتد مع الرجل في الكلمة وتشتمه أحياناً، ويتحمل لأنه رجل، كما يقولون: جثته قوية يتحمل، لكن بالنسبة للمرأة فلو تتكلم بكلمة يسيرة جداً ترى الدمع يذرف من عينها، فالنساء رقيقات القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهن خيراً، لما كان الرسول في سفر وكان أنجشة حادياً لرسول الله، يغني للإبل أغاني أو يحدو بكلمات ينشط الإبل على المسير، فكان ينشط الإبل فتسرع الإبل في المسير، والنسوة فوق الإبل، فيقول الرسول: (يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير).
يعني: إذا حدوت كثيراً فالإبل حينئذٍ ستمشي سريعاً، فيخشى على النساء من السقوط، (يا أنجشة رويدك يا أنجشة، رفقاً بالقوارير).
وفي هذا الباب أيها الإخوة -باب المؤاخذة ببعض الشيء والعفو عن الشيء الآخر- أذكرّ بما حدث للنبي عليه الصلاة والسلام مع عائشة رضي الله تعالى عنها، وأذكر موقفين حدثا لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها.
تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يحب خديجة حباً شديداً، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً على فراق خديجة رضي الله تعالى عنها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام حسن العهد لا ينكر المعروف، ولا يجحد الإحسان، فلما ماتت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها، وإذا ذبح ذبيحة يقول لنسائه: (أرسلوا إلى أصدقاء خديجة) وهذا من حسن العهد.
وفي يوم جاءت هالة بنت خويلد، أخت خديجة تستأذن على الرسول عليه الصلاة والسلام، فارتاح النبي صلى الله عليه وسلم بقدومها، فغارت بسبب ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت للرسول: كل يوم تذكر خديجة، خديجة، خديجة، ما تذكر من امرأة عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين -تعني: أن أسنانها سقطت من فمها، وأنها كبيرة في السن، ولم يبق في فمها إلا حمرة الشدقين- قد أبدلك الله خيراً منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني رزقت حبها) ولم يشدد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها لما تكلمت بهذا الكلام، وإنما قال: (إني رزقت حبها).
والشاهد في ذلك أنه لما كان الحامل لـ عائشة على ما قالته هو الغيرة الشديدة لم يشدد النبي صلى الله عليه وسلم في مؤاخذتها رضي الله عنها.
وحصل موقف آخر من عائشة رضي الله عنها، حاصله: أن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله حسبك من صفية كذا وكذا -أي: يكفيك من صفية كذا- وأشارت بيدها إلى أنها قصيرة -يعني: ما الذي عند صفية - فقال عليه الصلاة والسلام حينئذٍ: (يا عائشة! لقد تكلمتِ بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) واشتد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها.
فالشاهد: أن الزوج عليه أحياناً أن يؤاخذ، ولا يترك المجال دائماً للزوجة تتصرف كما تشاء، وعليه أحياناً أن يعفو، وله أحياناً أن يؤاخذ، على حسب ما يقتضيه المقام، فهذا هدي نبيكم محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وكان عليه الصلاة والسلام أحياناً يمازح عائشة رضي الله عنها، بل ويسابقها، وفي الوقت نفسه يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله رجلاً قام من الليل يصلي فأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي فأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء) كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يسابقها فقد خرج مسافراً ذات يوم، فأمر الجيش بالتقدم وعائشة كانت معه فقال: (سابقيني يا عائشة فسابقته عائشة فسبقته) وكانت صغيرة، ثم لما تقدم بها العمر قال: (سابقيني يا عائشة -في واقعة مشابهة- فسبقها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذه بتلك) ومع ذلك فهو صلى الله عليه وسلم لا يقصر في إيقاظها للصلاة، فإذا أراد أن يوتر أيقظها فأوترت رضي الله تعالى عنها.
فرسولنا صلى الله عليه وسلم كان وسطاً في أموره وأذكر على ذلك مثالاً يتعلق بالاحتياط مع حسن الظن بالزوجة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا طال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً يتخونهم يلتمس عثراتهم) يعني: إذا تأخرت في السفر فلا تأت تفاجئ الزوجة بالطرق والفتح السريع تتخونها، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (ولكن أمهلوا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة) أي: حتى تزيل شعر عانتها للفترة التي غاب عنها زوجها.
في ذات يوم رجع أبو بكر رضي الله عنه وكان قد تزوج بـ أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر رضي الله عنه، فوجد في البيت رجالاً، فذهب يشكوها إلى النبي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أبا بكر هل رأيت شيئاً تكرهه؟ قال: ما رأيت إلا خيراً يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام -مدافعاً عن أسماء - إن الله قد برأها من ذلك) أي: برأها مما تظنه بها، ثم قام خطيباً فقال: (ألا لا يدخلن رجل على امرأة مغيبة بعد يومي هذا إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة) فمع أنه كان حسن الظن إلا أنه أيضاً سلك سبيل الاحتياط لأمته، فقال ما قد سمعتموه، وقد قال مع ذلك أيضاً: (إياكم والدخول على النساء، فقام رجل فقال: أرأيت الحمو يا رسول الله -يعني: أخو الزوج- فقال عليه الصلاة والسلام: الحمو الموت) أي: خطره كخطر الموت، فمنع الرسول من دخول ابن العم أو ابن الخال أو قريب الزوج على الزوجة، وبين أن خطره كخطر الموت وقال: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة فإن ثالثهما الشيطان).
وأرجع فأقول موصياً نفسي والزوج وإخواني: إذا أخطأت الزوجة في عشرة أخطاء فلا تؤاخذها في الأخطاء العشرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرف بعضه وأعرض عن بعض، بل آخذها في خمسة وأعفو لها عن خمسة، ولا تظن أيها الزوج أن المرأة كالرجل، فالله يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36] فالرجل جُبل على أمور وهي جُبلت على أمور، جُبلت هي على الضعف، وأنت قواك الله، فلا تستطل ولا تبغِ عليها، قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] أي: الله أكبر منك إن ظننت أنك قوي على زوجتك تظلمها بلا سبب ولا مبرر، فأيقن أن الله أقوى منك وأقدر عليك منك على زوجتك، فكن رحيماً رفيقاً.
يقول نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، وقال في رواية: (خيركم ألطفهم بأهله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، وإذا حرمهم الرفق فقد حرموا الخير) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفقنا الله وإياكم لعمل ما يرضيه، ولحسن التعامل مع القريب والبعيد، ومع الزوجة والولد، والجار الجنب والصاحب بالجنب، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(46/5)
مراعاة الأحاسيس
جاءت تكاليف الشريعة وفق استطاعة المكلف، قال تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، ومن أعظم سمات هذا الدين رفع الحرج عن المكلفين، ومراعاة قدراتهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، وهذا دليل على أن الإسلام دين يسر وسهولة، لا دين مشقة وحرج.(47/1)
مراعاة مشاعر الأحياء بالكف عن موتاهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: فقد جاء الشرع الكريم بالرحمة والرأفة ورفع الحرج، فما جعل علينا في الدين من حرج، وراعى قدرات الخلق وإمكاناتهم وأجاز أموراً ممنوعة للضرورة، قال تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173]، وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، فالشاهد من ذلك: أن قدرات الناس يجب أن تراعى، وكذلك الأحاسيس والمشاعر.
ومن ذلك: مجيء عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات أبوه عبد الله بن أُبي، وكان رأس المنافقين كما هو معلوم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! استغفر لأبي، وألبسه قميصك!) يعني: لعله أن يُرحم بسبب ذلك، وكان هذا قبل أن ينزل قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما طلبه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول منه، فاستخرجه وألبسه قميصه، ونفث فيه من ريقه واستغفر له، ولما جاء عمر وقال: يا رسول الله! تستغفر له وقد قال كذا يوم كذا وكذا؟ فقال: (أخر عني يا ابن الخطاب! إني خُيرت فاخترت) يعني: أن الله قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
فما دام أنه لم يكن هناك نهي وثمّ جبر لخاطر عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول وهو رجل مؤمن؛ فلا مانع من جبر الخاطر وتهدئة المشاعر، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخر عني يا ابن الخطاب!) إلى أن نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد.
ومن مراعاة الأحاسيس أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)، فسب الأموات فيه أذىً للأحياء، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سب الأموات مراعاة لأحاسيس الأحياء، والله تبارك وتعالى أعلم.
اللهم! إلا إن كان هذا الميت قد سن سنة سيئة في المسلمين، فحينئذٍ يُذكر للتحذير منه، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار) يعني: أمعاءه، إذ هو أول من سيب السوائب، فكان يأتي إلى الناقة فيشق أذنها ويقول: هذه سائبة، أي: متروكة للآلهة لا تقرب بسوء ولا ينتفع بها ولا بلبنها، ولا بأصوافها ولا بأوبارها.
فالشاهد من ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمرو بن لحي؛ لكونه سيب السوائب، وذكر أنه رآه يجر قصبه في النار، وقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:1 - 2]، فالشاهد: أن لمسألة سب الأموات فقهاً، وأن الأصل عدم سب الأموات، اللهم إلا إذا دعت ضرورة لسبهم ولبيان أحوالهم؛ لكونهم سنوا في الناس سنناً سيئة، فحينئذٍ يُذكرون بمساويهم؛ حتى يحذرهم الناس، ويحذروا سننهم، والموفَّق هو الله سبحانه وتعالى.
أما إذا لم تكن ثمّ حاجة إلى ذكرهم بسوء، فحينئذٍ يضرب الذكر صفحاً عنهم، قال فرعون لموسى على نبينا وعلى موسى السلام: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51 - 52]، وقد قال عدد من العلماء لما سُئلوا عن الخلافات التي دارت بين الصحابيين الكريمين علي ومعاوية رضي الله عنهما، قالوا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].(47/2)
مراعاة المشاعر والأحاسيس بمراعاة القدرات
من مراعاة المشاعر القدرات: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وجد أمه عليه)، فيخفف النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة؛ بسبب بكاء الصبي شفقةً عليه وعلى أمه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل لما صلى بالناس صلاة العشاء وأطال في الصلاة إذ استفتح بالبقرة، فانفض رجل من خلف معاذ وفارقه وأتم صلاته وحده، فبلغه أن معاذاً نال منه، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكوه إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفتانٌ أنت يا معاذ!؟ أفتانٌ أنت يا معاذ!؟ أفتانٌ أنت يا معاذ!؟ من صلى بالناس فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما يشاء) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(47/3)
مراعاة المشاعر والأحاسيس بدفع الشبه
من مراعاة الأحاسيس والمشاعر أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الشكوك عن شخصين من أصحابه: (على رسلكما إنها صفية)، فقد جاءت صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في معتكفه، فمكثت عنده ساعة، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم يردها إلى بيتها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد، فرآها رجلان من الأنصار فأسرعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية!) فقالا: سبحان الله! وشق ذلك عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً -أو قال: شراً- فتهلكا).(47/4)
مراعاة المشاعر والأحاسيس بتجنب النَّجوى
من مراعاة الأحاسيس والمشاعر أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَ اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس، من أجل أن ذلك يحزنه)، وعلى الإطناب يقول العلماء: إذا كنتم خمسة فلا يتناجَ أربعة دون الخامس، وإذا كنتم عشرة فلا يتناجَ تسعة دون العاشر، كل ذلك لدفع الشكوك عن المسلمين، ولمراعاة مشاعر المسلمين وجبر خواطرهم، لكن إن دعت ضرورة إلى التناجي حينئذٍ يُتناجى بالقدر الذي تدعو إليه الضرورة، وإلا فرب العزة يقول: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة:10]، وقد ناجى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة في حضور أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وعنده سائر أزواجه أيضاً، فخص فاطمة رضي الله تعالى عنها بسر، فسألتها عائشة رضي الله عنها عن سر النبي صلى الله عليه وسلم فلم تبح لها به، ثم لما مات صلى الله عليه سولم أباحت لها به، لدفع الشكوك عن عائشة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.(47/5)
مراعاة المشاعر والأحاسيس بترك بعض المندوبات لتأليف القلوب
من مراعاة المشاعر أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـ عائشة: (يا عائشة! لولا أن قومكِ حديثو عهد بكفر؛ لنقضت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولكن أخشى يا عائشة! أن تنكر قلوبهم).(47/6)
مراعاة المشاعر والأحاسيس بدفع الشكوك عن المسلمين
من أبواب مراعاة المشاعر والأحاسيس: دفع الشكوك عن المسلمين، وفي ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه الخصوم ليقضي بينهما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل) وذلك كالوارد في حديث العسيف لما جاء النبي رجل فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا فزنا بامرأته -أي: كان أجيراً عند هذا فزنا بامرأته- وإنهم قضوا بأن على ابني مائة شاة ووليدة، وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مطيباً الخواطر: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله عز وجل).
وكذا لما جاء بنو مخزوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستشفعون عنده بـ أسامة بن زيد كي يتجاوز عن قطع يد السارقة، قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) كل ذلك لدفع الظنون والشكوك عن هؤلاء القوم.
فهذا باب يجب أن يُراعى، ألا وهو مراعاة الأحاسيس والمشاعر والقدرات، ودوماً الموفق من وفقه الله، وفقنا الله وإياكم لكل خير، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(47/7)
موعظة الحكيم لقمان
لقد احتوى كتاب الله عز وجل الكثير من المواعظ والدروس والعبر، ومن هذه المواعظ: موعظة لقمان لابنه، حيث حذره فيها من الشرك بالله، وأنه ذنب عظيم، وأمره بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك، وحثه على الأخلاق العالية السامية مع الغير.(48/1)
حاجة الناس إلى المواعظ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يذكّر وأن يعظ، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر من ربه، فكان يعظ خير المواعظ، حتى إن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) فذكر الحديث.
وكان الوعظ أيضاً من شأن الأنبياء عموماً، فقد خرج نبي الله موسى عليه السلام ذات يوم إلى بني إسرائيل فوعظهم موعظة بليغة حتى ذرفت الدموع على اللحى، فكان -ولا يزال- الوعظ عملاً مأموراً به أمر الله به في كتابه، وفعله رسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في سنته.
وخير وعظ دوماً وعظ يستقى وتستقى مادته من كتاب ربنا ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الله قال: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45]، وقال تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6].(48/2)
موعظة لقمان الحكيم لابنه
بين أيدينا موظعة لقمان الحكيم لابنه، وبين يدي الموعظة يقدم ربنا سبحانه وتعالى ثناءً على الواعظ حتى تتقبل موعظته، وتبلغ محلها من القلوب، فيقول تعالى مقدماً تلك الموعظة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، يثني ربنا سبحانه وتعالى على الواعظ الحكيم لقمان فيقدم مقدمةً بين يدي تلك الموعظة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12].
فيذكر ربنا أنه آتى لقمان الحكمة؛ فعلى ذلك يستعد لاستقبال ما يعظ به لقمان، فالذي أثنى عليه هو ربه تبارك وتعالى، فمن ثمّ ينبغي أن تستقبل موعظته بآذان صاغية واعية.
أما عن لقمان فلم يرد له ذكرٌ في الكتاب العزيز إلا في هذا الموضع، ولم يرد له ذكرٌ في الثابت الصحيح -فيما علمت- من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حديث ضعيف: (خير السودان ثلاثة: بلال ولقمان ومهجع مولى عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، إلا أن الخبر لا يثبت، فعلى هذا يكتفى بتعريف لقمان من الوارد في هذه الآيات، بيد أن روايات من الموقوفات على الصحابة أو التابعين ومن الإسرائيليات أفادت مطلقةً على ذلك أن لقمان كان عبداً أسود حبشياً قصيراً ذا مشافر -أي: شفاه عظيمة- عظيم القدمين مشقق القدمين، فهذه كلها في الجملة في نظرنا صفات دمامة، إلا أن الحكمة غطت هذا كله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
فهو وإن كان أفطس الأنف أسود الوجه ذا مشافر مشقق القدمين لكن الحديث يقول: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (التقوى هاهنا) -وأشار صلوات ربي وسلامه عليه إلى صدره ثلاث مرار.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12]، فنعم ما أوتي لقمان؛ إذ الله تعالى قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269]، ونبي الله قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
وكل نعمة تحتاج إلى شكرٍ يلائمها ويناسبها، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] أي: حتى تزداد عليك هذه النعم قدم لله شكراً يوازيها، وقدم لله شكراً يكافئها.
فحتى تزداد علينا نعم ربنا يلزمنا أن نقدم لها شكرا، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12]، عائدة شكرك فعائدة عليك، وشكرك عائدٌ أثره الجميل عليك، وإلا فالله غني عن العالمين، قال تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12]، فإن الله غني عنه وعن شكره، حميدٌ للشاكرين.(48/3)
حث لقمان ولده على التواضع
يقول لقمان لولده ناهياً عن الكبر حاثا على التواضع: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] أي: لا تكلم الناس وأنت معرضٌ عنهم بوجهك، بل كلمهم وأنت مقبل بوجهك عليهم.
كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط)، قال: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، بل كلمهم ببشاشة وطلاقة وجهٍِ وإقبالٍ عليهم، فهكذا يعلم لقمان ولده.
قال تعالى عن لقمان: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] أي: لا تمش مختالاً متعالياً، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] قال تعالى عن لقمان: ((
الجواب
=6003487>> وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19]، والمراد: الاعتدال في المشي غير الإسراع الزائد المخل بالتوازن، وغير مشية البطيء المتمارض، وهذا وجهٌ، كما قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فالمشي المتوسط مشي لا تكاد معه تسقط ويختل منك التوازن، ولا مشية المريض المتباطئ، بل التوسط مطلوب.
وهناك وجهٌ آخر أن المعنى: (واقصد في مشيك)، أي: اقتصد في أعمالك فالاقتصاد والسمت الحسن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، فليس من الأدب رفع الصوت.
قال فريق من العلماء: إن الحمار يبدأ بزفيرٍ لا يبدأ بشهيق، فيكون صوته أسوأ الأصوات وأعلاها، ورفع الصوت تشبه عن التشبه بالحمير.
فالوصايا بدأت بعظائم الأمور، فبدأت بالنهي عن الشرك، وانتهت بآداب وأخلاق ومعاملات، وصدق سلمان لما قالت له اليهود: يا سلمان! نرى نبيكم يعلمكم كل شيء، فهل علمكم الخراءة -أي: كيف تقضون الحاجة-؟ قال: أجل علمنا نبينا كل شيء، وعلمنا نبينا كيف نقضي حاجتنا إذا دخلنا الخلاء وذكر طرفا من آداب ذلك ومنه: (ألا نستقبل القبلة ببول أو غائط ولا تستدبر، ولا نستنجى باليمين، وعلمنا الإيتار عند الاستنجاء)، وذكر جملة الآداب رضي الله تعالى عنه.
فهذا وعظٌ مستقى من كتاب ربكم، فاقرءوا كتاب الله قراءة المتدبر الذي يريد أن يعمل، لا قراءة المتصفح المتفكه بما في الكتاب من قصص وحكايات، بل اقرءوا كتاب ربكم قراءة العامل المتدبر، وقراءة قارئٌ يقرأ ليفقه ثم ليعمل، ثم لينجو أمام ربه، وليكون القرآن حجة له لا عليه، أسأله جل وعلا أن يجعل كتابه حجة لنا جميعاً لا حجة علينا.(48/4)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17].
الصلاة هي عمود الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهي أعظم ركنٍ بعد الشهادتين.
قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان:17]، أي: لا تتقاعس يا بني عن الأمر بالمعروف، بل أمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، ولا تترك -يا بني- الفساد يستشري، وذكّر الناس بأمر الله، وحذرهم من معصيته، ولا تكن جباناً خواراً ضعيفاً، ولا تكن ساكتاً عن الحق.
والأمر والنهي يستتبعان في الغالب ابتلاءات، فهنا تأتي الوصية بالصبر: (واصبر على ما أصابك).
أي: يا بني! إن أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر فابتليت -وأنت تلزم الحكمة والموعظة الحسنة- فاصبر على ما أصابك، كقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالتواصي بالحق يستتبع بلاءً، فمن ثم جاء الحض على التواصي بالصبر، فدع الجبن جانبا.
فيا معشر الدعاة دعوا الجبن جانباً، ودعوا الخور جانباً، إن الطيب عند الله هو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمقيم لحدود الله، أما الساكتون عن الحق فهؤلاء شياطين، والذين يرون المنكرات ويقرونها ولا تهتز لهم شعرة وحدود الله تنتهك وأوامر الله تضيع ليس لهم من الأجر نصيب.
إن أمة محمد فضلت على سائر الأمم بقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ولقد حث ربنا على الأمر بالمعروف وذكّر به، قال تعالى في كتابه الكريم.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، ومعنى (أولوا بقية) أي: من صلاح، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ينجيه الله تعالى.
وقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، فلماذا ترضون بالدنية في دينكم وتختارون دوماً حالات أضعف الإيمان؟ ولماذا تؤثرون أضعف الإيمان في كل الحالات وقد علمتم أن الآمر الناهي ناجٍ بإذن الله، قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].(48/5)
تعريف لقمان ابنه بسعة علم الله
يقول لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، فيبين لقمان لولده سعة علم الله سبحانه وتعالى وإحاطته بجميع الأمور، فيقول لولده -وهكذا ينبغي أن نعلم أولادنا، ونعرفهم بربنا-: (يا بني إنها) أي: المعمولة سواءٌ أكانت خطيئة أو حسنة: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ} [لقمان:16] أي: فتكن عملت في صخرة: أي: عملتها وأنت داخل صخرةٍ أحاطت بك من جميع جوانبها (أو في السموات أو في الأرض) أي: عملت في صخرة.
أو في السماوات، أو في أي مكان في السماوات، أو في أي مكان في الأرض (يأت بها الله) أي: توافى بها يوم القيامة، فأي سيئةٍ عملت في قاع البحار، أو وراء أبواب قد أوصدت، وفي غرف قد أغلقت (يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، فهكذا يعرّف لقمان ولده بربه سبحانه، وهكذا ينبغي أن نعرف أولادنا بربهم وخالقهم، وسعة علمه وإحاطته وعظيم فصله وقضائه وقدره، وأن الأمر كله إلى الله، فهو الذي يعز ويذل، وهو الذي يرفع ويخفض، وهو الذي يوفقك -يا بني- في الامتحانات، وهو الذي يخذلك إن عصيته، فهكذا نعرف أبناءنا بربنا وخالقنا.(48/6)
أول وصايا لقمان لابنه
بدأت استهلالات تلك الموعظة، بقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ} [لقمان:13] أي: واذكر أيها الذاكر، واذكر يا رسول الله، واذكر يا من تتلو كتاب الله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، هذه أولى وصايا لقمان عليه السلام وأولى وصايا الأنبياء، وآخر وصاياهم كذلك، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
وفي وصيته أيضاً قال الله تعالى عنه: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، فبدأ لقمان في وصيته محذراً من الشرك الذي يحبط الأعمال جميعها، قائلاً: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14]، ولم يجر هذا على لسان لقمان لحكمة بليغةٍ إذ هو الذي يعظ، فلا يعظ لتعود عليه عائدة من وعظه، حتى لا يُفهم أمره على غير وجهه، فجاءت الوصية بالوالدين من غير لقمان وهو الله تعالى.
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، جاء بالتذكير بالوالدة بعد الوالدين؛ إذ هي أحق الناس بحسن الصحبة -كما قال صلى الله عليه وسلم- وقد سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال ثم من؟ قال: أمك.
قال ثم من؟ قال: أبوك).
والوصايا بالوالدين تكررت كثيراً في كتاب ربكم، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
وفي الحديث: (أي العمل أفضل يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها.
قيل: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله)، فَقُدّم بر الوالدين على الجهاد معشر الكرام، وكذا في أبواب الجرائم، في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قيل: الشرك بالله، قال: ماذا؟ قال: ثم عقوق الوالدين.
وكان متكئاً فجلس.
فقال: ألا وقول الزور.
ألا وقول الزور.
ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته سكت)، فبر الوالدين عملٌ يستشفع به لدفع البلايا والمصائب، وتعلمون أن الثلاثة أصحاب الغار فرّج عنهم بأعمالهم، وكان عمل أحدهم بره بوالديه، وأويس الذي كان به برص دعا الله فشفاه من البرص بسبب بره بوالدته، والنصوص في هذا متظافرة متكاثرة.
قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] أي: ضعفاً على ضعف، قال تعالى: {وَفِصَالُهُ في عامين} [لقمان:14] أي: وفطامه في عامين، وهو آخر أمد من الرضاعة كما قال الجمهور من العلماء، فكل رضاعةٍ بعد الحولين لا تحرم على الصحيح من قول الجماهير.
قال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، فقدم شكراً -أيها المرء- لربك، ثم قدم شكراً لوالديك.
ثم قال تعالى مبيناً أمراً: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فطاعة الله فوق كل طاعة، ثم طاعة رسول الله عليه الصلاة والسلام من طاعة الله، وهي فوق كل طاعة كذلك، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهي قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، فقد أسلم سعد وكان من السابقين رضي الله عنه، وأبت أمه إلا الكفر، فدعته فقالت له: يا سعد: يا بنيّ: ما هذا الدين الذي اعتنقت؟ -وكان بارّاً بأمه- لتراجعن نفسك، ولترجعن عن دينك أو لأمتنعن عن الطعام وعن الشراب حتى أموت فتعيّر ويقال لك: يا قاتل أمه.
فقال لها سعد: يا أمي! لن أرجع عن ديني -إن شاء الله- ما حييت، فامتنعت عن الطعام يوماً وليلة، فأصبحت وقد أجهدت، ثم واصلت الامتناع يوماً آخر وليلة، ويوماً ثالثاً وليلة، حتى كانوا يفتحون فمها بالقوة ويصبون لها الطعام والشراب، ففي بعض الروايات عند الطبراني أنه قال: والله -يا أميّ- لو أن لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفسا ما تركت دين محمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فأكلت.
وفي ذلك نزلت: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، فلا طاعة في معصية الله، ولكن مع ذلك: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، ثم قال تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] أي: اسلك سبيل الصالحين، اقتفِ آثار الصالحين، اعمل كعمل الصالحين، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، وكما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فللمؤمنين سبيلٌ ينبغي أن يُسلك.
يقول تعالى: {ثم إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]، أي: مرجع المطيعين وكذا مرجع العصاة، وإليّ مرجع الآباء وكذا مرجع الأبناء، (فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).(48/7)
حكم الاحتفال بالإسراء والمعراج
إن الإسراء والمعراج، نقول: الإسراء والمعراج حق، ولا شك في هذا ولا مراء، وقد ثبت ذلك بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، فقد أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بورك حوله، ثم عُرج به إلى السماوات، وهنالك فرضت الصلوات، وهذا ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، ثم إن جمهور أهل السنة على أن الإسراء كان بروح الرسول وجسده، وكان ذلك يقظة كذلك، وهذا ما عليه جمهور أهل السنة والجماعة وفقهم الله لكل خير.
وقد أراه الله سبحانه آيات عجائب، وأراه الأنبياء، وكانت هذه الحادثة فتنة للناس، وفتنة لمن في قلبه مرض، أما أهل الإيمان فيعلمون أن الله على كل شيء قدير، ثم كان فيها من وجوه الإعجاز ما كان فيها، فكانت فيها جملةُ وجوه من وجوه الإعجاز.
ومن هذه الوجوه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كذبته قريش وسألته عن المسجد الأقصى، قالت له: تزعم أنك ذهبت إلى المسجد الأقصى وصليت بالأنبياء فيه، فصف لنا هذا المسجد؟ ولم يكن النبي قد أدركه إدراكاً كاملا، فجلّى الله له المسجد الأقصى فرآه رأي عين، فطفق يصفه لهم وصفاً دقيقاً فتعجبوا وقالوا: أما الوصف فقد صدق فيه.
صلى الله عليه وسلم.
فلا شك ولا امتراء أن قضية الإسراء والمعراج حق.
ولكن لم يثبت سندٌ ببيان تاريخ هذه الحادثة، فهل هي في ليلة السابع والعشرين من رجب؟ أم هي في شهر ربيع؟ أم هي في ذي القعدة؟ أم هي في شعبان؟ أم في أوائل رجب؟ فلم يثبت بذلك خبرٌ عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيد أنها وقعت إجماعاً كما بينا، ثم على فرض ثبوت تاريخ هذه الليلة، لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل بها، ولم يرد أن الصحابة من بعد رسول الله احتفلوا بها وجعلوها عيداً كما يصنع الناس الآن، ولم يرد أن التابعين احتفلوا بذلك، ولا أتباع التابعين، ولم يرد أن أصحاب المذاهب الفضلاء الأربعة احتفلوا بها، والغالب على الظن أن الذين أدخلوها هم المنسوبون كذباً على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يقال لهم: (الفاطميون) وهم البرابرة الذين أتوا من المغرب واستوطنوا مصر فأحدثوا فيها، وأدخلوا في الدين ما ليس منه، وأدخلوا في الدين هذه البدع والخرافات والترهات التي تجدونها في الموالد التي يُشرك بها بالله، ويسأل من غير الله المدد، فضلاً عما فيها من البدع.
فمن كان مقتدياً برسوله محمد فليقتد به في سنته، قال تعالى:: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، أما أن تزعم محبة هذا الرسول وأنت تعصي أمره، وتزعم المحبة وأنت تشتري الحلوى وتشارك في البدع والمنكرات فليست تلك بمحبةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست من اتباع السنن بحال من الأحوال.(48/8)
كلمة في الانتخابات الديمقراطية
إن الله سبحانه أخذ العهود والمواثيق على من أوتوا علما أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فقال الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، ولقد قال ربنا -وهي أشد على من أوتي علماً- في كتابه {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
فنظرة إلى ما يجري حولنا من أمور الانتخابات نجد أنه فيها كلٌ يدلي بصوته، فالرجل يدلي بصوته، والمرأةٌ تدلي بصوتها، والمسلمٌ يدلي بصوته، والكافرٌ يدلي بصوته، والفاسق الفاجر يدلي بصوته، وكل هذا لا وجه له في الشريعة الغراء، فليس في الشريعة الغراء لكافر وجه في الإدلاء بصوته، وليس في الشريعة الغراء أن فاسقا فاجراً سكّيرا عربيدا يدلي بصوته، وفي الشريعة الغراء فرق بين الرجل والمرأة، ثم إذا رجعنا إلى عهد سلفنا الصالح لم نر تلك الانتخابات بهذا التوصيف، لا على عهد أبي بكر، ولا عمر ولا عثمان، ولا علي، ولا غير هؤلاء.
والعلماء يقولون: تنعقد الخلافة بأحد أمور أربعة: الأمر الأول: أن يكون هناك نص من الكتاب والسنة على واحد بعينه، فهذا لا محيد عنه.
ولكن هذا لم يعد متحققاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد تمام لدين، وكان هذا في الأمم من قبلنا؛ إذ الله تعالى قال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، وكذلك كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم.
الأمر الثاني: أن تجتمع في الخليفة صفاتٌ تؤهله لذلك سماها نبينا، وبينت في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، ثم يبايع أيضاً من قِبل أهل الحل والعقد من المسلمين.
الأمر الثالث: أن يأتي إلى السلطة بالقوة، فيحكم الناس عنوةً ويقيم الشرع، فهو ما وصل إلى مقامه باستخلاف رشيد، وإنما وصل بالقوة وهو يقيم الشرع، فقال كثير من العلماء -كما نقل عنهم القرطبي: -: يسمع له ويطاع في المعروف حقناً لدماء المسلمين.
الأمر الرابع الذي يتأتى به الاستخلاف -كما قال العلماء-: أن يستخلف خليفة راشد خليفة راشداً آخر، كما استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه.
ومن الجدير بالذكر أن عمر في مرض موته لما طُعن أتاه القوم فقالوا له: استخلف يا أمير المؤمنين.
قال: إن أترك -أي: إن أترك الناس بلا استخلاف- فقد ترك من هو خيرٌ مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول لم ينص صراحة على استخلاف أحد، وإنما استفاد بعض العلماء من الإشارات استخلاف أبي بكر في حديث: (مروا أبا بكر فليصلِ بالناس)، واستفاد بعضهم استخلاف علي لحديث: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)، والحق أنه لم يستخلف؛ لقول عمر: (إن أترك فقد ترك من هو خيرٌ مني، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خيرٌ مني -يعني: أبا بكر -، ثم قال: لكني أترك الأمر شورى في هؤلاء الستة الذين مات الرسول وهو عنهم راض، فسمى عثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فهذه الأمور الأربعة التي ذكرها علماؤنا للوصول إلى الحكم.(48/9)
من لوازم الإمارة أو الرئاسة
من الشروط التي وضعها العلماء في الخليفة أو الرئيس الذي ينبغي أن يكون رئيساً ويجدر بنا أن نرشحه ونبايعه أن يكون ممن يقيم دين الله، وممن يقود الناس بشريعة الله بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى لخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: يا رب! واجعل من ذريتي أئمة، قال الله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] أي: ليس لظالم عندي عهد أن يكون إماماً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش ما أقاموا الدين)، وهذا الشرط الثاني الذي عليه جمهور أهل السنة، فالأئمة من قريش، لكن ذلك مقيد بقوله: (ما أقاموا الدين).
، فالناظر إلى عموم المرشحين يجد أن من برامجهم فصل الدين عن السياسية، وهذا منكرٌ من القول وزور، وهذا مخالفٌ لكتاب الله ولسنة نبي الله، قال تعالى:: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85]، فأي مرشح كائنا من كان يعلن في برنامجه أنه يفصل الدين عن السياسة، لا يستحق ولا يجدر بنا أن ننتخبه إن صحت الانتخابات، وهذا دينٌ ندين ربنا سبحانه وتعالى به، ألم تسمعوا قول خالقكم: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]، ألم تقرأوا قول ربكم: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وفي الآية الأخرى: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي الثالثة: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، ولا أقصد الحكم بكفر شخص، فهناك كفرٌ دون كفر، كما هو مقررٌ عند أهل السنة، إلا إذا استحلوا الحكم بغير ما أنزل الله، فينتقل الأمر إلى الكفر عياذاً بالله.
فمن شروط الإمام المستخلف: أن يقيم الدين، وأن يعلن عن وجهته صريحةً أنه سيقيم دين الله، أما أن يتسابق القوم المرشحون في إرضاء أهل الكفر وأتباع المذاهب الباطلة، فذلك جديرٌ أن يحملنا على هجران كل تلك الترهات.
فديننا لا يقر بحزب سوى حزب الرحمن، وإننا نقر ببطلان كل هذه المبادئ المعلنة، فديننا ليس فيه اشتراكية، ولا ديمقراطية، وليس فيه حزب التكامل ولا التكافل، ولا غير ذلك، إنما ديننا فيه حزب الله، وحزبنا الوحيد حزبٌ يأتمر بأمر الله وأمر رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، ليس لنا دين إلا ذلك، وكفانا ترهات وضلالات، فكل شخص يأتي يفرض مذاهبه ثم من يسبح بحمده.
وكنا في زمن رئيس أسبق ينادى فيه بالاشتراكية، ويؤلف فيه المؤلفون، وينادي الشعراء الماجنون فيقول قائلهم: الاشتراكيون أنت إمامهم.
ويسبون الرسول، ويوصف النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراكية، وآخر يصف النبي بالديمقراطية، عياذاً بالله من هذه الترهات).
وقد ذكر العلماء من لوازم الإمارة ومن لوازم الملك والرئاسة أن يكون المرشح مُلماً بشيءٍ ما من أمر دينه، فيعرف الحلال والحرام، ويعرف أنواع القضاء، ويستدل لذلك بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] فهذه وجوه اصطفاء.
فهذه بعض لوازم الإمارة والرئاسة، ومطالعها لا تنبي عن أنها تتوافق مع أحد من هؤلاء الذين يسعون لإرضاء الأمريكان.
فالحمد الله الذي حفظ علينا عقولنا، ونسأل الله ألا يجعلنا من السفهاء، ونسأل الله ألا يجعلنا نماري ولا نجامل في دينه؛ لأننا سنسأل بين يدي خالقنا عن كل كلمة نتكلم بها، وعن كل شهادة ندلي بها، والله على ما أقول وكيل، والله من وراء القصد وبالقصد، عليمٌ ومحيط سبحانه وتعالى.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسا علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم يا ولي الإسلام وأهله: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك.
اللهم: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم: ثبتنا على الإسلام والإيمان حتى نلقاك، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا، اللهم: ولِّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارانا، اللهم: خيِّر لنا واختر لنا.
اللهم: خير لنا واختر لنا.
اللهم: خير لنا واختر لنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين، ربنا: هذا زاد المقل، وهذا دعاء الداعي، فمنك الإجابة وعليك التكلان، ومنك السداد يا أرحم الراحمين.(48/10)
وقفات مع سورة يوسف
إن الله سبحانه وتعالى قد أورد القصص في كتابه الكريم للتدبر والتفكر والاستفادة، وقصة يوسف هي أحسن القصص في القرآن الكريم، وفيها عبر ودروس لمن كان له قلب، فقد عفا يوسف عن إخوته رغم ما فعلوه به، والمظلوم لابد أن ينصره الله وإن طال الأمد.(49/1)
تفسير قوله تعالى: (وجاء إخوة يوسف)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فهذه آيات من كتاب الله كريمات نتناولها بالبيان والتأويل سائلين الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم بها.
قوله تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58]، بعد طول غياب جاء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام من بلاد كنعان، جاءوا في سنوات شداد حلت فيها مجاعات بالبلاد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بذلك وهو يدعو على المشركين فيقول: (اللهم أعني عليهم بسنين كسنين يوسف).
فجاء إخوة يوسف وقد ضربتهم المجاعة يلتمسون الزاد والطعام من بلاد مصر التي منّ الله عليها آنذاك بأن أصبح يوسف صلى الله عليه وسلم عزيزاً عليها يدبر أمورها بما علّمه الله سبحانه وتعالى.(49/2)
علة إرجاع يوسف لبضاعة إخوته بعد دفع قيمتها
{وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62] أمر يوسف صلى الله عليه وسلم الفتيان أن يجعلوا البضاعة في الرحال لغرضين: الغرض الأول: أن القوم قد لا تكون عندهم أموال يأتون بها إلى مصر مرة ثانية لشراء الطعام، فإذا وجدوا البضاعة ردت إليهم، أسرعوا في المجيء.
الوجه الثاني: الاستهلال بذلك عند أبيهم على كرم يوسف ونبل أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهذا من الحيل المشروعة، والحيل على قسمين: الأول: حيل محرمة مذمومة كتلك التي صنعها الإسرائيليون إذ اعتدوا في السبت كما حكى الله صنيعهم في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163].
والثاني: حيل مشروعة: كتلك التي ذكرها الله سبحانه في شأن نبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44]، ومن الحيل المشروعة كذلك: التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي في عدتها؛ وذلك لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235].
الشاهد: أن يوسف قال عليه السلام: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ} [يوسف:62] (وانقلبوا) معناه: رجعوا، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] لماذا؟: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف:62].(49/3)
طلب يوسف من إخوته المجيء بأخيه الشقيق
قال تعالى: {جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:58 - 59]، يقول أهل العلم من المفسرين: إن هذا الأخ هو (بنيامين)، أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد فيها تسمية لهذا الأخ، إلا أن جمهور المفسرين على أن هذا الأخ هو (بنيامين).
قال يوسف لإخوته: {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف:59] هو شقيق يوسف صلى الله عليه وسلم، {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:59 - 60]، يقول أهل العلم في ذلك: إنه يستحب للقائم على الأمور أن يستعمل الشدة في محلها، وأن يستعمل اللين في محله كذلك، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم بين هذا وذاك في قوله: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59]، ثم عرج على الشدة ولوح بالتهديد في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60]، ونحو ذلك وارد في قول ذي القرنين إذ قال الله له: {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86 - 88]، فاللين وإن كان أفضل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك: (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق)، لكن إن احتيج إلى الشدة اتجه إليها كذلك، وقد قال سليمان عليه السلام: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21]، فأخذ من ذلك: أن اللين له محله والشدة لها محلها كذلك.
قال يوسف صلى الله عليه وسلم: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] أي: أنا خير من أكرم الأضياف، فإكرام الضيف خصلة يمتدح بها الشخص، وقد حث على ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل نزل بقوم فلم يقروه، كان له أن يأخذ منهم بقدر قراه)، وما زال الناس يذمون البخلاء، فيقول شاعرهم: رأيت الفضل متكئاً ينادي الخبز والسمك فزمجر حين أبصرني ونكس رأسه وبكى فلما أن حلفت له بأني صائم ضحك وأحسن من ذلك: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم يا بني عمرو بن جموح؟ قالوا: يا رسول الله! الجد بن قيس على أنّا نبخّله، فقال عليه الصلاة والسلام: وأي داء أدوأ من البخل؟) قال يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف:60 - 61] {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} والمراودة: هي المطالبة برفق.(49/4)
تفسير قوله تعالى: (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا)
{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:63] زهنا لفتة عارضة تستفاد من قولهم: ((يَا أَبَانَا)) أنه ينبغي أن نتخاطب فيما بيننا، وأن نعلم أبناءنا اللغة التي نزل بها كتاب ربنا، فلم يقولوا: يا (بابا) منع من الكيل.
إنما قالوا: ((يَا أَبَانَا)) فلزاماً علينا -إن كنا نحب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- أن نتأسى به وبالكتاب الذي نزل عليه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي) ولم يقل: استأذنت ربي أن أزور قبر (ماما)، كما يفعله المتهوكون الحيارى المتبعون لليهود والنصارى.
{قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} فهل منع الكيل منهم حتى يقولوا منع منا الكيل؟ كلا.
ما منع منهم كيل، بل أخذوا حقهم ونصيبهم غير منقوص، بل وردت بضاعتهم إليهم مرة أخرى، فكيف قالوا: منع منا الكيل؟ يقول أهل العلم: إن هذا إطلاق باعتبار ما هو آت، كالوارد في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36] والخمر في الأصل معصور، ولكن المعنى إني أراني أعصر عنباً فيئول العنب بعد ذلك إلى خمر، وكالوارد في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] أي: ستئول هذه الأموال إلى نار والعياذ بالله! فقولهم: ((مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)) أي: سيمنع منا الكيل.
وقد يطلق اللفظ باعتبار ما قد فات كما في قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] أي: الذين كانوا يتامى، وكما في قوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120] أي: الذين كانوا سحرة، إذ لا سحر مع سجود.
قال الله سبحانه: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:64 - 65].
((قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)) ماذا نطلب وماذا نريد؟ ((هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا)) أي: نجلب لأهلنا الميرة، وهي الطعام {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف:65] * {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف:66] والموثق: هو العهد المؤكد باليمين {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} ومن أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي: إلا أن تهلكوا عن آخركم، ومنه قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42].(49/5)
علة دخول إخوة يوسف من أبواب متفرقة
{وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف:67] ذلك -والله أعلم- خشية العين، فإخوة يوسف كانوا أيضاً على درجة من الجمال والبهاء إذ هم من ذرية إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام قال الله في شأنهم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] أي: الأقوياء العلماء، ثم إن جدتهم أيضاً هي سارة عليها السلام ولم يكن لها مثيل في الجمال في زمانها كما ورد في الصحيح: (إذ دخلت بلاد الجبار فقالوا له: قد دخلت بلادك امرأة لم يُرَ مثلها) فلا جرم أن يأتي أبناؤها وأحفادها على هذا النحو، فيعقوب صلى الله عليه وسلم قال لأبنائه: {يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} قال كثير من أهل العلم: ذلك خشية العين، فالعين حق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن العين لتولج الرجل القبر، وتولج الجمل القدر) وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر بثلاث ليالٍ، ووجدها وقد التف حولها أبناؤها وفيهم نحافة فقال لها: (مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله، قال: فاسترقي لهم) وأيضا: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجه جارية لـ أم سلمة تغير وسواد، فقال: (إن بها النظرة، فاسترقوا لها) وأيضا: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صحابي جليل من صحابته الكرام وهو سهل بن حنيف رضي الله عنه، وكان رجلا وسيماً أبيض، قام سهل بن حنيف يغتسل فرآه عامر بن ربيعة فقال عامر عندما رأى سهلاً ورأى بياض جلده: ما هذه الجلدة البيضاء؟! والله ما رأيت جلداً مثلها! ولا كأنها جلد بكر.
فسقط سهل صريعاً في الحال، فذهب أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أدرك سهلاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (من تتهمون.
قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: على ما يحسد أحدكم أخاه؟ هلا دعوت له بالبركة، ثم أمره أن يتوضأ وأن يغسل ركبتيه وداخل إزاره، ثم أخذ هذا الماء فصب على سهل بن حنيف، فقام كأنما نشط من عقال)، أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك من هذا الحبل رضي الله تعالى عنه.
وقد ورد في كتاب الله ما يثبت ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51] فمن ثَم ولا جرم أن طلب يعقوب من أبنائه أن يدخلوا من أبواب متفرقة كان خوفاً من هذا الأمر.
ووجه آخر عند المفسرين: حتى لا يكيد لهم الكائدون؛ فإذا دخل هؤلاء -وعددهم أحد عشر شخصاً- من مكان كاد لهم الكائدون.(49/6)
تفسير قوله تعالى: (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم)
قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:68].
{مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا} بمعنى: لكن، {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} يؤخذ من ذلك أدب من آداب الخطباء وخلق من خلق التوجيه وهو: أنك إذا بينت أن شخصاً ما عنده خلل في ذاته، فينبغي أن تعقب هذا البيان بثناء حسن على هذا الشخص ولا تضيع حقوقه، هذا إذا سلمنا أنه إنسان مخطئ، ولكن ليس هذا بخطأ من يعقوب صلى الله عليه وسلم، بل قد أثنى الله عليه بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} ولكن المقام مقام رد الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما الذي صنعه يعقوب عليه الصلاة والسلام من باب الأخذ بالأسباب.
فنقول: من أدب التخاطب إذا كنت تريد التنبيه على شيء صدر من شخص، أن تتكلم بهذا التنبيه بطيب الكلام، وبطيب الثناء ومن ذلك: قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] * {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وأثنى الله على داود أيضاً فقال الله سبحانه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] فينبغي أن يثني على الشخص الآخر أيضاً.(49/7)
أخذ يوسف لأخيه
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69].
{آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} أي: ضمه إليه {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وفيه دليل على أن شقيق يوسف لاقى عناء وشدة أيضاً هو الآخر بعد غياب أخيه صلى الله عليه وسلم، ومن ثَم سلاّه وجبر خاطره بقوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف:69].
قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] السقاية: هو صواع الملك، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} أي: نادى منادٍ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} أي: يا أصحاب العير! يا أصحاب الإبل! {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف:70 - 71] {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} أخذ من ذلك: أن المتهم إذا كان بريئاً فإنه يكون جريئاً، فهؤلاء جاءوا ولم يهربوا ولم يشردوا، وحتى العجماوات تفهم ذلك، يقول بعض العلماء: إن القطة إذا كانت بجوارك، وأنت تأكل سمكاً فألقيت إليها سمكة فإنها تأكلها بجوارك آمنة مطمئنة، لكنها إذا سرقت السمكة فإنها تأخذها وتهرب، فكأنه قذف فيها معرفة الحلال من الحرام بما أودعه الله سبحانه فيها.
قال تعالى: {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:71 - 72].
{وَأَنَا بِهِ} يقوله المنادي {زَعِيمٌ} أي: ضمين، وأخذ من هذا حكم يتعلق باللقطة، فإذا وجد شخص لقطة في الطريق عليه -كما هو معلوم- أن يعرّفها إذا كانت من ذوات القيمة، فإن نادى منادٍ فقال: يا أيها الناس! فقد مني كذا وكذا، ولمن يأتني به كذا وكذا فلا جناح على الذي وجده أن يقبله؛ لأن الآية فيها: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} لكن ليس لمن وجدها أن يشترط ذلك، لكن إن أعطي شيئاً فله أن يقبل للآية الكريمة: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72].
قال الله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:73].
{قَالُوا تَاللَّهِ} أي: والله، فأحرف القسمة ثلاثة: الواو والباء والتاء، تقول: والله، وبالله، وتالله، {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:73 - 75] أي: من يوجد هذا الصواع في رحله يؤخذ كعبد مسترق لصاحب الصواع، وقد كان هذا في شريعة يعقوب عليه السلام، فنحن في شريعتنا شريعة محمد عليه الصلاة والسلام أن السارق تقطع يده، أما في شريعة يعقوب فكان السارق يؤخذ كعبد مسترق مقابل السرقة، بمعنى: أن يأخذه صاحب المتاع المسروق كعبد مسترق مقابل السرقة، وفي الروايات الإسرائيلية على ما سيأتي عند قوله تعالى: ((إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)) أن عمة يوسف كانت قد أحبته في صغره حباً شديداً فطلبته من أبيه يعقوب فأبى عليها يعقوب ذلك، فدست له شيئاً أي: يوسف واتهمته به حتى تضمه وتؤيه إليها، وهذا من الإسرائيليات التي لا ينبغي أن تصدق ولا تكذب، ولكنها تفيد في بعض البيان والله تعالى أعلم.
قال تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] أي: في شريعة يعقوب، فشرائع الأنبياء تتنوع لكن أصل الدين وهو التوحيد ثابت، قال الله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] لكن الأصل واحد لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
قال الله: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
{قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} لنفي التهمة، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} فالذي دبر هذا ويسره ليوسف هو الله، فالمعلَّم من علمه الله؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق كل صانع وصنعته).
{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فليدرك كل عالم ذلك {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77] قالوا وأبانوا عما في صدورهم تجاه أخيهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعرضون بيوسف عليه الصلاة والسلام.(49/8)
ازدياد حزن يعقوب بعد فقد ابنه الآخر
قال تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:83].
قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: زينته وحسنته، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} صبرٌ لا تبث معه الشكوى إلا لله.
قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84].
قوله: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي: أعرض عنهم، {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} فلم يذكر (بنيامين) فالمصائب يرقق بعضها بعضاً، وحب يوسف وفقده أنساه سائر أبنائه، {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ غماً وهماً.
قيل للحسن البصري رحمه الله وقد بكى على بعض أبنائه إذ مات: أتبكي يا حسن؟! قال: سبحان الله، ما أنساك ليعقوب عليه السلام إذ قال الله في شأنه: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} أي: ممتلئ هما وغماً.(49/9)
كظم يوسف عليه السلام لغيظه
قال الله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}.
يقول أهل العلم: ينبغي أن يتسم المدير أو القائم أو المسئول بضبط النفس وكظم الغيظ ولا يكون طائشاً متهوراً، فيوسف عليه السلام لم ينفعل بل كان كما قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} فلنستق أخلاقنا من كتاب ربنا ومن سير أنبيائنا عليهم الصلاة والسلام كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
قال تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78] ((قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ)) فيه: جواز إطلاق لفظ (العزيز) على بعض البشر.
{إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} فتوسلوا إلى يوسف بشيخوخة أبيهم، وبكبر سن والدهم، فللكبير حق معروف عند المتقدمين والمتأخرين، وإلى هذا الأدب مع الكبار أرشدنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منّا من لم يوقر كبيرنا) وقال عليه الصلاة والسلام (رأيتني الليلة أتسوك، فأتاني رجلان فدفعت السواك للأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) وجاء حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب أصغرهما يتكلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (كبر كبر) فالكبير له حق، ويجب أن يعطى حقه، فكم سجد هذا الكبير من سجدة! وكم ركع من ركعة! وكمن ابتلي فصبر! فله حق ينبغي أن يؤدى إليه، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام من المقدمين في الإمامة عند تساوي الحفظ الأكبر سناً حيث قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً) هكذا للكبير حق ينبغي أن يؤدى إليه ولا يضيع.
وهذا عبد الله بن عمر يعلمنا أدباً لزمه مع الكبار عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن أخبروني ما هي؟) قال عبد الله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فجئت أتكلم فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي النخلة) الشاهد من ذلك: أدب ابن عمر مع كبار السن، {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:78] فعلامات الإحسان على يوسف بادية وظاهرة، وهكذا كما قال تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].
قال الله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79] وهكذا الأمور فلا تزر وازرة وزر أخرى وهذا مما كان في الصحف الأولى {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:36 - 38] وقال تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164].
قال يوسف: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} فإن فعلنا ذلك {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79].
قال الله: {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} كان بعض الأعراب يعجب غاية العجب من هذا الأسلوب في كتاب الله، وذكر بعض السلف رحمهم الله أن هذا اللفظ: ((خَلَصُوا نَجِيًّا)) حمل البعض على الإسلام، انظر إلى دقة التعبير، فقد كانوا يتذوقون القرآن ويفهمونه، وعلى قدر بصيرتك وتقواك وإيمانك تفهم كتاب الله.
وعرضاً أذكر أثراً -وإن لم يسعفني الوقت لتحقيقه- فقد كان ابن عباس يفهم كتاب الله، والأثر فيه: أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان إذا صلى الفجر دخل مجلسه ودخل معه حملة القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدخل معهم عبد الله بن عباس، فيتدارسون القرآن ويتلوه تالٍ، ويؤله مؤول، ويفسره مفسر، فدخل ابن عباس مع أمير المؤمنين عمر ومعه رجال من الصحابة رضي الله عنهم، فبدأ التالي يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] وابن عباس ينصت تمام الإنصات {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] وابن عباس ينصت، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] وابن عباس ينصت وينتبه، ثم قرأ القارئ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] فضرب ابن عباس وبشدة رجل جليسه، وصاح: (اقتتلا والله اقتتلا والله، قال عمر متعجباً: ماذا قلت يا ابن عباس؟! فاستحيا أن يتكلم، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟! فاستحيا ابن عباس، فأعاد عليه عمر: ماذا قلت يا ابن عباس؟! قال: يا أمير المؤمنين! قلت: اقتتلا والله، اقتتلا والله.
فقال عمر: من هما يا ابن عباس؟! قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إن الله ذكر في كتابه رجلاً مجرماً أصبح والياً أو أميراً، فلما تولى {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} يقتل هذا، ويضرب هذا، ويسمم بهائم هذا، ويحرق ثمر هذا، فقام له قوم يذكرونه ويقولون له: اتق الله، فما يزيده التذكير إلا فساداً، وتأخذه العزة بالإثم، فقام رجل مؤمن محتسب شرى نفسه ابتغاء مرضات الله لوقف زحف هذا العدو الصائل فحصلت المعركة بينهما.
انظر كيف كان ابن عباس يسير مع الآيات ويفهمها رضي الله عنه.
قال تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:80 - 81].
فقوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} أي: هذا الذي رأيناه، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82].
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: اسأل أهل القرية.
ومن العلماء من قال: القرية على ظاهرها، فإن الأنبياء لهم ما ليس لغيرهم، إن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إني أعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ إني أعرفه الآن) أخرج ذلك مسلم في صحيحه.
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي: واسال القرية واسأل العير.
وإن المتأمل لهذه الآيات ليرى عظيم الابتلاء الذي حل بيعقوب عليه الصلاة والسلام، فتخيل إذا رجعت القوافل كلها آمنة مطمئنة، ورجعت قافلتك وأحد أبنائك فقد لسرقته، ماذا سيكون؟ فابتلاؤه صلى الله عليه وسلم شديد، إذا يرجع الناس آمنون مطمئنون وابن يعقوب عليه السلام يرجع وقد سرق وأخذ كعبد مسترق مقابل السرقة إنه لبلاء عظيم!!(49/10)
تحريم اليأس والقنوط من رحمة الله
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:85 - 87].
فقوله: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} إذ اليأس من روح الله كبيرة من الكبائر {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} لقد عدّ أهل العلم اليأس من رحمة الله من الكبائر؛ بدليل هذه الآية، وبقوله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فينبغي ألا ييئس أحد أبداً من رحمة الله، فلا ييئس مكروب من الفرج، ولا مبتلىً في بدنه ولا في ولده من الفرج، ولا ينبغي أن تيأس امرأة عقيم من رحمة الله، فهكذا علمنا ربنا سبحانه بقوله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].(49/11)
مصارحة يوسف لإخوته والعفو عنهم
قال الله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] وهذه الآية تبين لنا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرى، وأن الله يرفع المظلوم ويخفض الظالم، {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي: ذل وانكسار والانكسار، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} أي: قليلة لا تصلح لشيء، فنحن فقراء مسنا وأهلنا الضر، وأبونا أصابه العمى، ومسنا نحن الضر في الأبدان والقلة في الزاد.
قال تعالى: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} هكذا يتسول الظالمون أخاهم الذي قد ظلموه {أَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} فحينئذ لا يرضى لهم يوسف أن يصلوا إلى أشد من ذلك فيقول لهم كما قد أخبره الله سبحانه وهو يلقى في غيابه الجب عندما كان يتعلق بصدر هذا فيضربه، ويأتي ويستغيث بذلك فيلطمه، يقول الله جابراً لخاطره آنذاك: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15] فهاهو هذا يتحقق فيقول يوسف: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف:89] فتكون المفاجأة ((قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ)) فيقول بأدب جم: ((قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي)) أنا يوسف لم يقل مقولة المفتخر المتباهي: أنا العزيز يوسف، ولا أنا الملك يوسف، ولا أن الرئيس يوسف، إنما بأدب نتعلمه ((أَنَا يُوسُفُ)) {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ} وكذا سليمان قال: [النمل:30] وكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (من محمد عبد الله ورسوله) وهكذا نتعلم الأدب من كتاب الله.
قال عليه الصلاة والسلام (ثلاث أقسم بالله عليهن: وذكر: ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله).
{قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ثم يذكر بفضل الله أي: فالفضل الذي فيه ليس من كسبي ولا من كدي إنما هو من فضل الله، {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:90 - 92].
قال عليه السلام مقولة تعلمنا الأدب: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} أي: لا تعيير ولا توبيخ مني أبداً عليكم بعد اليوم {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} وهكذا الأدب في العفو {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف:92 - 93] نقول نحن أهل الإسلام: إن الله على كل شيء قدير.
وقد أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء ما يفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام أوتي من جنس هذه المعجزة، فدخل أحد أحفاد أبي قتادة على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال له: من أنت؟ قال: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أجمل الرد فعادت كما كانت لأول وهلة فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد قال الله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] أما قوله تعالى ((فَصَلَتِ)) أي: خرجت وفارقت بلاد مصر، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249].
قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} أي: تفندون قولي وتتهمونني بالتخريف، كيف وجد ريح يوسف صلى الله عليه وسلم؟ نقول نحن أهل الإسلام: إن الله على كل شي قدير، ومن جنس هذه المعجزة معجزات حدثت لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه، ولم يكن ثَم هواتف، والرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أخبر أصحابه بمقتل الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة في اليوم الذي قتلوا فيه، وكذلك بعض أصحاب نبينا حصلت لهم ببركة اتباعهم للنبي محمد عليه الصلاة والسلام كرامات من هذا الجنس، فإن من العلماء من حسن القصة التي فيها أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخطب في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكان قد أرسل رجلاً أميراً على سرية من السراري يقال له: سارية، فخرج سارية مع أصحابه في غزوة من الغزوات في دولة أخرى وعمر في المدينة يخطب الجمعة وسارية يبارز الأعداء ويناجزهم فإذا بـ عمر يتحول في خطبته منادياً وقائلاً: يا سارية! الجبل الجبل يا سارية! الجبل الجبل، وسارية يسمع هذه المقالة من هذا البعد البعيد، فيلتزم الجبل هو وأصحابه فيفتح الله سبحانه وتعالى عليهم وينصرهم، وأصحاب عمر في المسجد يقولون: ما الذي حدث لأمير المؤمنين؟ أين سارية؟ وكيف يتكلم عمر؟ ولكن الله على كل شيء قدير سبحانه، فجاء سارية ومن معه وأخبروا أهل المدينة أنهم سمعوا صوت أمير المؤمنين عمر وكان سبباً في نصرهم.(49/12)
اعتراف إخوة يوسف بذنبهم
قال الله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] أي: ما زلت تخرف هكذا، {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:96 - 97] هكذا قال واعترف الظالم بظلمه، واعترف بخطئه وإن لم يكن ثَم اعتراف في الدنيا فثَم اعترافات يقينية في الآخرة، فيومها وحينها تبلى السرائر، فليطمئن كل مظلوم إلى نصر الله له في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:98] لماذا أخر الاستغفار؟ بعض العلماء يذكرون أنه أخر الاستغفار لساعة هي أرجى في الجواب كالثلث الأخير من الليل، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إذا كان الثلث الأخير من الليل، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ حتى يطلع الفجر).
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ضمهم إليه، {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ} من أهل العلم من أخذ من قوله {ادْخُلُوا مِصْرَ} أنه استقبلهم خارج البلاد ولم يجلس على الكرسي حتى دخلوا عليه، ولكن استقبلهم خارج البلدة مرحباً بهم، لا كما يفعل الجهلة الذين لا يعلمون إذ يتبرءون من أقوامهم إذا تقلدوا مناصب، فَثم شاب أهله ينفقون عليه كبير أموالهم حتى يتخرج ويصبح طبيباً على سبيل المثال، أو يصبح من ذوي المناصب العالية، فإذا بلغ هذا المنصب تنكر لأهله وعشيرته، فإذا جاءه أهله من البادية تنكر لهم، فيأتيه أبوه ليعالجه فيقول: ماذا تريد.
يعامل أباه وكأنه رجل غريب، ويستحي من والده الفقير أمام زملائه الأطباء أو الوزراء، لكن يوسف لم يكن كذلك عليه الصلاة والسلام، بل علّمنا إكرام العشيرة، فللأقارب حق {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26] {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء:36] فذووا القربى لهم حق يجب أن نؤديه.(49/13)
سجود إخوة يوسف ليوسف
إن يوسف عليه السلام لم يضع إخوته بل استقبلهم قائلاً فرحاً بقدومهم: {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف:99] {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} ولم يقنع بهذا بل رفع أبويه على العرش على سرير الملك ولم يجلسهم أدنى منه بل رفع أبويه على العرش {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} سجود تحية، وكان السجود جائز في شرائع من كان قبلنا ثم نسخ في شريعتنا لقوله عليه السلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} أي: قد تتحقق تأويل الرؤيا بعد عشرات السنين، فلا يلزم أن تتحقق في ذات الوقت، بل قد تتحقق بعد عشرات السنين، {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} وكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) والأنبياء رؤياهم وحي عند كثير من أهل العلم.
قال تعالى: {قَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف:100] لماذا لم يقل يوسف عليه السلام: وقد أحسن بي إذا أخرجني من غيابة الجب؟ يقول المفسرون: لأنه وعد إخوته عن قريب.
فقال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف:92] أي: لن أعيركم ولن أوبخكم أبداً، ولن أكدر خواطركم بحال من الأحوال، فمن ثم إذا ذكر البئر سيذكرهم بالمآسي التي صنعوها في حقه، فأعرض عن ذكر البئر وما حدث له منه تماماً، بل قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} فالسجن يجمع السكير والعربيد، واللص والقاتل، وأضراب هؤلاء.
قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} ثم حمل الشيطان الجريمة كلها، فالشيطان لها أهل، فلم يقل: من بعد أن ظلمني إخوتي، بل قال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} فكل شيء عنده بمقدار، فهو الذي يقدر، وهو الذي يعلم النوايا والخفايا {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.(49/14)
لكل شيء إذا ما تم نقصان
لما رأى يوسف عليه السلام أن الدنيا قد اجتمعت له، وأقر الله عينه بالملك وبوالديه وإخوته وبأهله أجمعين، علم يوسف عليه السلام أن أمر الآخرة قد اقترب، فلا يكاد شيء يكتمل إلا وآذن بزواله ورحيله؛ ولذلك فإن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بكى لما نزل على الرسول عليه الصلاة والسلام، قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قد اقترب، ولما نزل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] * {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2] * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] فعلم ابن عباس أن أجل الرسول عليه الصلاة والسلام قد اقترب.
وهكذا فلا تكاد أمور تكتمل إلا ويؤذن بزوالها، فيوسف عليه السلام رأى أن الله أقر عينيه بوالديه وبأهله أجمعين، وأقر عينيه بالملك، فلا جرم أن يؤذن بالرحيل، فطلب من ربه كما أتم النعمة عليه في الدنيا أن يتممها عليه في الآخرة، فقال مقولة الصالحين: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}: {رَبِّ} أي: يا رب.
{قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} فما أنا فيه من الملك من فضلك يا رب {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(49/15)
وقفات مع فريضة الحج [1]
الحج فريضة من فرائض الله، وهو من أركان الإسلام، وقد أمر الله نبيه إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، فأجابه كل من كتب الله له حج بيته الحرام، وفي الحج شعائر شرعها الله لإقامة ذكره، وتعظيمها من تقوى القلوب، وينبغي للحاج قبل سفره أن يتحلل من المظالم، وما أكثر المظالم التي قد يقع فيها المسلم وهو لا يشعر.(50/1)
تفسير آيات الحج في سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:25 - 29].
أذن إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الناس بالحج كما أمره الله، فأتاه الناس من كل فجٍ عميق، أتوه على كل ضامر، ورجالاً كذلك، ممتثلين أمر ربهم سبحانه وتعالى.
مطلع الآيات فيها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25] أي: ويصدون أيضاً عن المسجد الحرام، فثم سعاة إلى بيت الله يطلبون مغفرة الله ورضوانه، وثم مانعون يمنعون الناس من بيت الله، ويصرفونهم عن طاعة الله، وثم قوم رغبوا في مغفرة ربهم، فشدوا رحالهم إلى بيت الله الحرام، كي تسكب عنده العبرات، وثم آخرون وقفوا لهم بكل مرصد، يصدون الناس عن بيت الله الحرام وعن مغفرة الله.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: ويصدون عن المسجد الحرام كذلك، ((الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً)) [الحج:25] أي: يستوي فيه (العاكف) أي: المقيم بمكة، (والباد) أي: الخارج عن مكة، فلكل الناس حق في المسجد الحرام.(50/2)
تعظيم حرمات الله
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} [الحج:30] أي: يوقرها حق توقيرها ولا يعبث بها، بل ينزلها منازلها، ويتقن عمله فيها.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، ومن تعظيم حرمات الله: أن تعظم حرمات الله في بيت الله الحرام، وأن تعظم حرمات الله عند الأضاحي، فلا تأخذ منها الهزيل الذي لا يجزئ، ومن تعظيم حرمات الله أن تؤدي المشاعر كما أمرك ربك، وكما علمك نبيك محمد عليه الصلاة والسلام.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] أي: قول الشرك والافتراء الكاذب.
كذلك: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] كما حدث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (عن روح الكافر إذا مات، تلقتها الملائكة فصعدت بها إلى السماء، فيخرج منها أنتن ريح عُرفت على وجه الأرض، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا وتسأل: ما هذه الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث؟ ما هذه الريح النتنة؟ فيقولون: روح فلان بن فلان، فتصعد بها الملائكة إلى السماء، فتستفتح لها، فلا تفتح لها أبواب السماء، ثم يأمر الله سبحانه أن تُرد هذه الروح إلى الأرض السابعة السفلى، وأن يكتب كتابها في سجين، فتخر من السماء، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]).(50/3)
تعظيم شعائر الله
قال الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32] وشعائر الله: أعلام الدين الظاهرة، فكل ظاهر من ديننا فهو شعيرة من شعائر الله، فالصلاة شعيرة، والذبح شعيرة، والطواف بالبيت شعيرة، والسعي بين الصفا والمروة شعيرة، وإشعار البدن شعيرة، وكل ما هو ظاهر في ديننا ومن أعمال ديننا فهو شعيرة من شعائر الله، فإشعار البدن وتقليدها شعيرة من الشعائر، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:32 - 34] لكل أمة من الأمم جعلنا مكاناً وزماناً للتقرب فيه إلى الله، ولكل أمة جعلنا عيداً تتقرب فيه إلى الله، فالمنسك يطلق على هذا كله، على المكان، وعلى الزمان، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} [الحج:34] أي: عيداً ومكاناً وزماناً للعبادة تتقرب فيه إلى الله.
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] فالمناسك والمواقيت جعلت لتعظيم أوامر الله، وللإكثار من ذكره تعالى، كما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، لإقامة ذكر الله عز وجل)، فهذه العبادات شُرعت فيما شُرعت له، وهذه الأماكن حددت فيما حددت له؛ للإكثار من ذكر الله عز وجل {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:34 - 36] والبدن هنا هي: الإبل.
(صواف) أي: قائمة على ثلاثة أرجل معقولة الرجل الرابعة اليسرى، وهكذا تنحر.
(فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت جنوبها على الأرض.
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37].(50/4)
الركوب في الحج أفضل من المشي
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] أخبرهم بأن الله تعالى افترض عليهم هذه الفريضة، رجالاً: أي: على أرجلهم.
وهنا أورد العلماء سؤالاً: هل الحج على الرجل أفضل أم الركوب أفضل؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الحج راكباً أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مع كمال قوته في الحج حج راكباً عليه الصلاة والسلام، وذلك حتى يتفرغ الحاج لعبادة ربه، للتهليل والتكبير، والدعاء، والحمد والثناء، فكان هدي رسول الله أنه حج راكباً، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه طاف في بعض ليالي منىً بالبيت العتيق وهو راكب على بعيره، كلما أتى الحجر أشار إليه بعصاه، فطاف صلى الله عليه وسلم راكباً، ولم يذكر أنه كان مريضاً، فأُخذ من ذلك أنه ينبغي للعبد أن يقبل على العبادة بنشاط وبجد، فإذا كانت كثرة المشي ستؤثر عليه بهذا الصدد، فحينئذٍ فليحج راكباً وهو الأفضل لفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام ذلك، ثم إن النبي أيضاً قال في شأن رجل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله غني عن تعذيب هذا لنفسه).
أما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أجركِ على قدر نصبكِ) فهذا محله إذا لم تستطع الركوب، فلم يكن ما عندك مال يؤهلك لذلك، أما وقد استطعت الركوب فالركوب أفضل ولا يُتعبد بالمشي، فلو كان التعبد بالمشي حينئذٍ مستحباً لفعله نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.(50/5)
جواز البيع والشراء في الحج
قال الله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] أُخذ من ذلك أن الحاج يجوز له أن يبيع ويشتري ويتعاقد على الأعمال في الحج، وليس في ذلك نقص لحجته.
قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28] أخذ العلماء من ذلك: أنه يستحب الأكل من ذبيحة الأنعام، ومن ثم إذا كان باستطاعتك أن تذبح ذبيحتك بنفسك وتأكل منها فهو أولى ثم أولى، أما توكيل غيرك من الشركات التي تتصرف فيها كيف شاءت، فإنك في الغالب تحرم الأكل من ذبيحتك، وربنا يقول في كتابه الكريم: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، ومما يدل على استحباب الأكل منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مجموع الهدي الذي قدمه في الحج مائة من الإبل، نحر بيده ثلاثاً وستين ناقة، ثم أعطى علياً رضي الله عنه، فنحر ما بقي، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بقطعة من كل ناقة، فوضعت المائة قطعة في قدر، فأكل النبي عليه الصلاة والسلام منها، وشرب من مرقها، فدل ذلك على استحباب الأكل من لحوم الهدي والأضاحي.(50/6)
عقوبة من أراد الإلحاد في الحرم
قال الله: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25].
الإلحاد: الميل، الميل حتى إلى المعصية، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] والإلحاد -كما سمعتم- الميل، والإرادة محلها القلب، فمن ثمّ قال العلماء: إن من فكر في أذىً للعباد في المسجد الحرام، وفي مكة عموماً، بل وفي عموم الحرم الذي يشمل منى بتمامها وجزءاً من مزدلفة، من فكر في أذى الناس هنالك، ومن خاض في الأعراض كذلك، وهم بذلك ونواه؛ يذقه الله من عذاب أليم، ومن العلماء من أفرط فقال: إن كنت في بلدتك -في أي قطر كنت- ورتبت لأذىً في الحرم فيلحقك نفس الوعيد وأنت في بلدك، إذا كنت تخطط لسوءٍ في الحرم، أو تبيت لمنكر في الحرم، فسيحلقك نفس الوعيد.(50/7)
تطهير البيت الحرام
قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] أي: أعلمناه به وأرشدناه إليه، وأنزلناه فيه، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] مم يطهره إبراهيم صلى الله عليه وسلم؟ قال أهل العلم: يطهره أول ما يطهره من الأوثان التي فيه، وكذلك يُطهر كل مسجد من الأوثان التي فيه، ومن ثم جاء النهي عن اتخاذ القبور مساجد، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد) يحذر ما صنعوا، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)، وقال صلى الله عليه وسلم في قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد: (أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة، أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام).
قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] أخذ العلماء من ذلك: فضيلة تطهير المساجد بصفة عامة، حتى من الأذى، فتبخير المساجد، وتطيبها فضيلة.
كانت امرأة سوداء تقم المسجد فماتت، فقبروها ليلاً، ولم يخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أصبح سألهم عنها، فقالوا: ماتت، وكرهنا أن نوقظك فدفناها ليلاً، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها فصف أصحابه وصلى عليها مرة ثانية؛ لأنها كانت تقم المسجد.(50/8)
الحث على اغتنام الأيام المباركة في الطاعات
فيا عباد الله! أنتم على مشارف مواسم مباركة، يتقرب فيها إلى الله بذكره بالنحر له، ويتقرب فيها إلى الله بحج بيته الحرام، وبسائر أعمال البر عموماً، فلا تفوتنكم هذه المواسم الطيبة، ولا تفرطوا فيها، فإن أيامكم مرصودة ومحدودة، ولكم آجال لن تؤخروا عنها يوماً ولن تقدموا عنها ساعة، وغداً ستنظر كل نفس ما قدمت من خير أو شر، وستقول نفس: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
فلا تجعل أخي عاماً ينصرم وقد غبنت فيه، فما هي إلا سنوات يسيرة وتوضع في قبر موحش مظلم، ليس لك أنيس، ولا جليس إلا عملك الصالح، فلا يفوتنك ذكر الله في هذه الأيام، ولا تبخلن بمال تنفقه في حج بيت الله الحرام، وفي التقرب إلى الله بالأضاحي، وإطعام المساكين، ولا تبخلن بمالٍ تزود به حاجاً يهدي لك عند بيت الله الحرام، وهذه سنة افتقدها الناس: ألا وهي إرسالهم الهدي، فإن لم تحج فأرسل الهدي إلى بيت الله الحرام، فإن نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام كان يقلد الهدي وهو بالمدينة، ويرسله مع الحجيج كي ينحر عند البيت الحرام، ويتصدق به على المساكين.
ومسألة: الأخذ من الشعور والأظفار في العشر الأُول من ذي الحجة: مذهب الشافعي أن ذلك على الكراهة وليس على التحريم، وبعض الشافعية يقولون: لا يمنع أصلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل هديه من المدينة إلى مكة ولا يجتنب شيئاً مما يجتنبه المحرم، وستأتي هذه المسألة بتوسع إن شاء الله، فمن لم يستطع منكم الحج وعنده سعة من المال فليرسل مع أي حاج من الحجيج كي ينسك ويهدي له هنالك، فيثاب ويغفر له مع المغفور لهم، إذ من أقرب القربات أن تتقرب إلى الله بإطعام الطعام، فمن كان في سعة فلا يمتنعنَّ من ذلك، وبين الحين والآخر يذبح ذبيحة إن كان موسراً، فيرسل بها هدياً إلى المساكين في الحرم، فيشكر الله منه هذا الصنيع، ويرفعه الله به درجات.
لا تغفلوا عباد الله في مثل هذه الأيام عن عمل الصالحات.(50/9)
أنواع النسك في الحج
ونذكر بأن الحج على ثلاثة أنساك: الإفراد، والقران، والتمتع، وفي كل ذلك لزاماً أن تحرم من الميقات، وميقاتنا أهل مصر إذا مررنا بطريق أهل الشام هو: (الجحفة)، وهي قريبة جداً من (رابغ)، أما إذا نزلنا المدينة أولاً ثم توجهنا إلى مكة، فالميقات حينئذٍ هو: (ذو الحليفة)، فإن كنت مفرداً تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك حجاً، إذا كنت مفرداً تقول: لبيك حجاً، محلي حيث حبستني، وهذا الاشتراط إن خشيت على نفسك أن تنقطع، فعلى سبيل المثال تخشى أن تفقد جواز سفر، أو تخشى من مرض لا تتم معه الحج، فإذا خشيت من أي عائق فلك أن تشترط، فتقول: اللهم محلي حيث حبستني، وذلك لأنك إذا تحللت من إحرامك بعد اشتراطك لا يلزمك دم من الدماء، بل تتحلل ولا شيء عليك، أما إذا لم تشترط فكما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فإذا لم تشترط وقدر أن فقد منك جواز سفرك وأنت محرم، فحينئذٍ لا يحل لك أن تتحلل من إحرامك إلا بذبيحة تذبحها.
وأين تذبحها؟ من أهل العلم من يقول: تذبحها حيث أحصرت، أي: في المكان الذي انقطعت فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما صده المشركون ومنعوه من دخول الحرم، وكان عند حدود مكة، ومشارفها، ومكان يقال له الآن: (الشميسي)، وهو: بوابة مكة.
في الحديبية منع الرسول هنالك وحبس من العمرة، وصده المشركون عن بيت الله الحرام، فأمر أصحابه أن يذبحوا ما معهم من الهدي عند هذا المكان، فكاد بعضهم أن يقتل بعضاً من القهر والحزن؛ لأنهم منعوا عن بيت الله الحرام.
فالشاهد: أن جمهور العلماء يقولون: المحصر يذبح ذبيحته في المكان الذي أحصر فيه، ومن العلماء من يقول: إن المحصر يرسل بهديه إلى البيت العتيق، ولا يتحلل من إحرامه إلا بعد أن يتأكد أن الذبيحة قد ذبحت، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، وقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] أي: ممنوعاً، وهذا مفسر لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196]، فذهب فريق من أهل العلم إلى أن المحرم إذا أحصر لا يتحلل إلا إذا أرسل هدياً وذبح عند المسجد الحرام، والجمهور على أن الذبح يكون في المكان الذي أحصرت فيه، فخشية من الوقوع في هذا الحرج فلتشترط عند إحرامك قائلاً: اللهم محلي حيث حبستني -أي: مكان تحللي في المكان الذي منعت فيه من الحج- ودليل ذلك أن ضباعة بنت الزبير أتت إلى رسول الله فقالت: (يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية -أي: أخشى من المرض، ألا استطيع المواصلة- قال: حجي واشترطي، قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: اللهم محلي حيث حبستني)، فحينئذٍ الإفراد والقران والتمتع يجوز فيها الاشتراط في الحج، ودليله الحديث الذي سمعتم.
وأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام كانت لهم تلبيات أخرى إضافة إلى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من كان يقول: لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل، ومنهم من يقول: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، ومنهم من يقول: لبيك إله الحق، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام لزم تلبيته التي سمعتم قبل، ولم ينكر على من زاد عليها، فكان عدم نكيره بمثابة السنة التقريرية لأصحابه على هذا الصنيع.
وإذا كنت قارناً فينبغي أن تكون قد سقت معك الهدي فتقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة في حجة، فتدخل الحجة مع العمرة وتمضي قائلاً: لبيك اللهم لبيك، بصيغ التلبية المذكورة، فإذا وصلت إلى مكة اعتمرت، فتطوف طواف القدوم، وإن شئت -أيها القارن- أن تسعى سعيت، وإن شئت أن تؤجل السعي مع طواف الإفاضة أجلته، فالقارن والمفرد ليس عليهما إلا سعي واحد، إن قدماه أولاً مع طواف القدوم فلا مانع من ذلك، ولا يلزمهم سعي آخر، وإن أخراه فلهم ذلك، أما المتمتع فيأتي ويطوف ويسعى ثم يتحلل، ثم عليه سعي آخر مع طواف الإفاضة، فالمتمتع عليه سعيان وطوافان، أما القارن والمفرد فليس عليهما إلا سعي واحد.
والسعي والطواف ورمي الجمار كل ذلك شعائر؛ جعلت لإقامة ذكر الله، لكن ثم سنن قد تغفل، فمنها: الإكثار من الدعاء على جبلي الصفا والمروة، فهذه سنة مهجورة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الدعاء على الصفا والمروة إطالة شديدة، وكان عليه الصلاة والسلام يطيل الدعاء أيضاً كثيراً كثيراً بعد رمي الجمرة الصغرى وبعد رمي الجمرة الوسطى في أيام التشريق، فقد كان يطيل الدعاء هنالك إطالة شديدة، أما جمرة العقبة فليس بعدها دعاء.(50/10)
تحلل الحاج من المظالم
ويلزمنا جميعاً حجاجاً وغير حجاج أن نتحلل من المظالم، وهذا يلزم الحجيج بالدرجة الأولى، فيلزم الحجيج أن يتحللوا من المظالم قبل ذهابهم للحج، فإن الله سبحانه يكفر بالحج الذنوب التي في حقه، أما الذنوب التي في حق العباد فلا تغفر إلا بالتحلل منها.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)، وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، ويقول عليه الصلاة والسلام: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلل منه قبل أن لا يكون ديناراً ولا درهماً، إنما هي الحسنات والسيئات)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أُذن لهم بدخول الجنة)، فلن تدخل الجنة وأنت ملوث بالمظالم، لن تدخل الجنة وأنت حامل لظلمات، ولن تدخلها أبداً إلا إذا تطهرت من ذنوبك.
فلزاماً أن تؤدي المظالم إلى أهلها قبل أن تخرج إلى حج بيت الله الحرام.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الظلم ظلمات يوم القيامة)، والله يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
فلزاماً لزاماً أن تؤدي المظالم إلى أهلها، ولا تستقل شيئاً منها، وقد يكون الظلم في أمر لا تتصوره أن يكون فيه ظلم.(50/11)
صور من المظالم
لقد أورد العلماء أبواباً من الظلم لا تكاد تخطر لأحد منكم على بال، فمما أورده العلماء في أبواب المظالم: أن ترفع بيتك طابقاً عن البيت الذي أمامك، فمن ثم يتأذى من بجوارك، وتجرح جارك، فقيد العلماء رفع البيوت بقيود: أن يكون رفع هذه البيوت لا يجرح من حولك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما جُعلت الاستئذان من أجل البصر) لا يكاد أحد منا يتصور أن العلماء يوردون في أبواب المظالم: الشرفة والغرفة المرتفعة، ولا تكاد أن تتصور أن العلماء أوردوا في كتاب المظالم حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) أورد البخاري وهذا الحديث في كتاب المظالم، من حديث أبي هريرة وكان يحدث بالحديث وكأنه يخشى أن ينكر عليه هذا الحديث، فيقول أبو هريرة: والله وإن أبيتم لأرمين بها بين أظهركم، لأرمين بها، أي: لأرمين بالكلمات التي سمعتها من رسول الله بين أظهركم، شئتم ذلك أم أبيتم، لأن قوماً كانوا يستنكرون ذلك، إذ كيف يلزمني أن أسمح لجاري أن يغرز خشبة في جداري؟ فأورد أبو هريرة عليهم هذا الحديث.
وقد أورد البخاري رحمه الله في كتاب المظالم من صحيحه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: ما لنا بد منها يا سول الله! قال: فإن كان ولابد فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: كف الأذى، وغض البصر، ورد السلام) فللطريق حق في الشرع؛ ولأن الكثيرين لا يستطيعون أن يعطوا الطريق حقها سدت الذريعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والجلوس في الطرقات) هذا نهي منه عليه الصلاة والسلام، عن الجلوس في الطرقات.
ومن العلماء من أورد في كتاب المظالم أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي فيها كسر أواني الخمر في الطرقات، وبعضهم علق ترجمة، فقال: هل يجوز لي أن أكسر القدور التي فيها خمر وألقي بها في الشوارع أو لا يجوز ذلك؟ أوردوا في ذلك مباحث فقهية، وحصل أخذ ورد بين العلماء في الجواز من عدمه، والقول بتحريم ذلك حجته أننا سنؤذي المارة، وفي الحديث: (اتقوا اللعانين: الذي يتبول أو يتغوط في طريق الناس أو في مجالسهم) يعني: إذا بلت في طريق الناس أو قضيت حاجتك في طريق الناس لعنك الناس، فكانت هذه من حجة المانعين، وفي إلقاء ذلك في الطرقات أذىً للمارة، والله سبحانه نهى بلفظ عام عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، استدل المجيزون لذلك بأن أصحاب رسول الله لما حرمت عليهم الخمر قاموا إلى الأواني التي فيها الخمر فكسروها في الطرقات، فمن العلماء الأولين من أجاب على ذلك بقوله: إن المصلحة كانت راجحة في هذا الباب، إنما ألقوها في الطرقات للإعلان عن رفضهم للخمر، وللإعلان على أن الخمر قد حرم، ولأن الشوارع كانت متسعة، أما إذا كان المكان ضيقاً فلا يصح لك أن تؤذي المارة، والشاهد من ذلك: أن مثل هذه الأشياء اليسيرة ذكرها العلماء في كتاب المظالم.
ومن منا لا يقع في مثل هذه الأمور وهو لا يشعر؟ وأوردوا أيضاً في كتاب المظالم: حديث النبي: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وقالوا: الذي لا يكرم الضيف قد ظلم الضيف، فمن ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أيما رجل نزل بقوم ولم يقروه بما ينبغي له، كان له أن يأخذ منهم بقدر قراه) وفي تفسير قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] قال فريق كبير من أهل العلم: هذا في الرجل ينزل ضيفاً على قوم فلا يقدمون له ما ينبغي له، فله حينئذٍ أن يتكلم فيهم، وأن يصفهم بالبخل، لكونه حرم حق له، ولكن عفوه أنفع له عند الله، وإن فعل فلا جناح عليه، وهذا قول قوي جداً في تفسير الآية.
فلا تستغرب أن مثل هذه الأمور ذكرها العلماء، فكم من شخص ظلم الآخرين وهو لا يشعر! وكم من شخص آذى العباد وهو لا يشعر! فلا يحملنك الشيطان على الأنفة والكبر فلا تطلب من إخوانك أن يعفوا عنك بين يدي سفرك، وبين يدي مماتك، فما منا أحد يضمن نفسه أن يعيش لغد، فإن الله سبحانه قال في كتابه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].
فيا معشر الإخوة! تتخففوا من الذنوب والأوزار بالأعمال الصالحة والاستغفار، وتخففوا من مظالم العباد بالتحلل ورد المظالم إلى أهلها وطلب العفو منهم.
اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم أعنا على أنفسنا، واجعلنا من المنتصرين عليها ابتغاء وجهك وابتغاء مرضاتك، اللهم مسِّكْنا بالعروة الوثقى حتى نلقاك، اللهم سلم الحجاج والمعتمرين، واكتب للجالسين بنواياهم الطيبة أجر الحاجين والمعتمرين يا رب العالمين! إنك واسع العطاء إنك كريم جواد، يا رب العالمين! اللهم يا ربنا يا سميع الدعاء انصر المستضعفين من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين، وأقل عثراتنا وعثرات المسلمين، وأختم لنا بخير، واجعل مآلنا إلى خير، وأورثنا جناتك جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(50/12)
وقفات مع فريضة الحج [2]
الحج فريضة الله على عباده لمن استطاع إليه سبيلاً، وينعقد الحج بالنية والتلبية، ولشعائر الحج معان عظيمة، إذ إنها شرعت لإقامة ذكر الله، حتى الهدي والأضاحي ما شرعت إلا لذكر الله.(51/1)
الحج فريضة لله على عباده
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
وبعد: فوقفات مع فريضة الحج التي هي لله سبحانه وتعالى على عباده، كما قال الله في كتابه الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، فهذه الآية الكريمة هي التي عول عليها جمهور العلماء في إيجاب الحج، فضلاً عن سائر الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه الآية الكريمة عول عليها كافة أهل العلم في إيجابهم للحج، فلله عليك حق لا بد أن تؤديه إذا استطعت إليه سبيلاً.(51/2)
التلبية
فنقف وقفات مع هذه الفريضة التي هي ركن من أركان الإسلام: تنعقد هذه الفريضة بقول القائل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وبعد ذلك إن شئت أن تضيف إليها بعض الإضافات فلتضف، وإن شئت أن تثبت عليها فاثبت عليها ولازمها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لازمها واستمر عليها من بداية حجه إلى أن رمى جمرة العقبة الكبرى، فلم يؤثر عنه أنه فارق هذه الصيغة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، أما أصحابه فكانوا يزيدون أحياناً، فمنهم من يقول: لبيك إله الحق!، ومنهم من يقول: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، ومنهم من يقول: لبيك ذا الفواضل! لبيك ذا المعارج! ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على أحد منهم.
إنما أنكر صلى الله عليه وسلم على قوم من أهل الشرك زادوا ما لم ينزل الله به سلطاناً، فكان أهل الشرك يقولون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فكانوا إذا بلغوا إلى قولهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، يوقفهم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا أيها الناس حسبكم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) فيعارضونه ويعاندونه ويزيدون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فيبطلون أعمالهم بهذه الصيغة، ويوردون أنفسهم النار -عياذاً بالله- خالدين فيها مخلدين بسبب زيادتهم: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.
فهذا هو الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: تنعقد فريضة الحج بالتلبية، ويبدأ الإهلال بالنية المصحوبة بقوله: لبيك اللهم لبيك، أي: إجابة لك -يا رب- بعد إجابة، وسمعاً لك وطاعة يا ربي! ثم سمعاً لك وطاعة، سمعاً لك وطاعة -يا ربي- وحدك لا شريك لك، فطاعتنا لكل شخص إنما هي منبثقة من طاعتنا لله، فطاعتنا للوالدين؛ لأن الله أمرنا بها، وطاعتنا لأولي الأمر؛ لأن الله أمرنا بها، وطاعة الزوجة لزوجها؛ لأن الله أمرها بها، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
الشاهد من ذلك: أن كل طاعة تصدر منا، وكل توقير يصدر منا لأحد، فهو لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك، فامتثلنا أمره سبحانه، وإن حدث نزاع بيننا وبين شخص فالمرد إلى الله والمرجع إليه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، وطاعتنا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام إنما هي منبثقة من طاعتنا لله عز وجل، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64].(51/3)
معنى التلبية
يحرم الحاج بقوله: لبيك اللهم لبيك أي: إجابة لك -يا رب- بعد إجابة، إذ دعانا خليلك صلى الله عليه وسلم، وإذ أذن فينا بالحج، فأتيناه رجالاً وعلى كل ضامر، أتيناه من كل فج عميق، أتينا يا ربي سامعين لك وملبين لنداء خليلك صلى الله عليه وسلم، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، الناس غير مبتغين وجهاً غير وجهك يا ربنا! لبيك لا شريك لك، كلمة التوحيد: لبيك اللهم لبيك، سمعاً وطاعة لك -يا رب- إذ ناديتنا، ثم بعد ذلك السمع والطاعة لرسول الله إذ الله أمرنا بطاعة رسوله محمد.
لبيك لا شريك لك لبيك، سمعاً وطاعة لك يا ربنا! ثم سمعاً وطاعة لنبيك إبراهيم عليه السلام، ثم سمعاً وطاعة -يا ربنا- لنبيك محمد، لا شريك لك، لا نبي يشاركك، ولا ولي يشاركك في ملكك يا ربنا! أنت وحدك لا شريك لك، لبيك لا شريك لك لبيك، فلذلك لا نقول للسيد البدوي بعد موته: لبيك يا سيد يا بدوي أبداً، ولا نقول أبداً: لبيك يا حسن ويا حسين، بعد موتهم، ولا لأي شخص كائناً من كان بعد أن مات، ولا نهل له بالحج أبداً، حتى الذين يزورون قبور الذين يزعمون أنهم أولياء لله، ويطوفون بها، عند حجهم لا يهلون لهم كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] فالذي يزور السيد البدوي ويتبرك به، في حجه لا يقول أبداً: لبيك يا سيد يا بدوي، لا يقول ذلك أبداً بحال من الأحوال، وقد ورد في حديث في إسناده كلام، أن النبي قال لوالد عمران بن حصين لما جاء يسلم: (كم تعبد من إله يا عمران؟ قال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من الذي تعد لرغبتك ولرهبتك؟ قال: الذي أعده لرغبتي ورهبتي الذي في السماء) فمن هنا ألزمه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم مناسك التوحيد: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ختمت التلبية أيضاً بلا شريك لك؛ لتأكيد التوحيد، وللتأكيد على كلمة التوحيد لأنها معقد الإسلام، وبها ينجو الشخص من الخلود في النار، وبها يحاجج لك رسولك محمد صلى الله عليه وسلم عند ربك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب: (يا عمي! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل) أي: بها تنال شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام لما سُئل من أحق الناس وأولى الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).
فأكثروا من قولها -يا عباد الله- حتى تكون سبباً في نجاتكم يوم القيامة، وتنالون بها رفعة الدرجات، فهي أعلى شعب الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) بين ذلك أعمال وأذكار وطاعات، وأعظم شعب الإيمان كلها قول: لا إله إلا الله، فأكثروا منها، فهي خير ما قاله النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وخير ما قاله النبيون من قبله.(51/4)
فضائل الكعبة
بعد التلبية تشد الرحال إلى بيت الله الحرام الذي قال الله فيه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96] فليس هو بيت المقدس كما زعم الإسرائيليون، إنما كما قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] كي يعبدوا فيه ربهم ويتقربوا إليه، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي مسجد وضع للناس أول يا رسول الله؟ قال: (المسجد الحرام، قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وحيثما أدركتك الصلاة فصل) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96] وجه البركة فيه: ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: (اللهم إن إبراهيم دعا لمكة أن تبارك في مدها وفي صاعها، وأنا أدعوك للمدينة كما دعا إبراهيم لمكة: أن تبارك لنا في صاعنا وفي مدنا وفي ثمرنا، وأن تجعل لنا ضعف ما لمكة من البركة) هذا وجه من البركة.
ووجه آخر: أن الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد.
ووجه ثالث: أن به زمزم، وهي: (طعام طعم وشفاء سقم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه رابع: أن من دخله كان آمناً، فمكة لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد، ولا يُختلى خلاها، ولا يقطع فيها الحشيش الذي ينبت على الأرض، وكل هذا من تحريم الله سبحانه وتعالى لمكة، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96] به تهتدي، {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97]، أي: دلالات واضحات.
ما هذه الدلالات؟ {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97] فيه مقام إبراهيم، ففي هذا المقام تتذكر أئمة الهدى الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، فلكل فريق إمام، سواءً كان كافراً أو مؤمناً، ونحن أهل الإيمان أئمتنا أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فعليهم نصلي ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي، وعلى دربهم ونهجهم ومعتقدهم نسير، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:83 - 90]، هؤلاء الذين أُمرنا بالاقتداء بهم، وهم سلفنا وأئمتنا، وأكبر أئمتنا هذا الرهط الكريم المبارك، ثم خاتمتهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء أئمتنا نصلي عليهم ونسلم، وبهم نتأسى ونقتدي صلوات الله وسلامه عليهم.
فنتذكر هذا الموكب الكريم الذي سبقنا بإحسان وببر وبصلاح، وختم حياته بخير، متجهاً إلى ربه، لقد ماتوا على التوحيد الذي اصطفاه الله لهم واختارهم له، وأوصونا جميعاً به، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، ونتذكر أئمتنا الذين حلوا ونزلوا بهذه المواطن الكريمة، والذين طافوا حول الكعبة، والذين سعوا بين الصفا والمروة، الذين فُجرت لهم زمزم، الذين صلوا في مسجد الخيف، فقد صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً، نتذكر هؤلاء الأئمة، ومن ثم نقتدي بهم ونقتفي أثرهم، سائلين الله أن يجمعنا جميعاً بهم عليهم الصلاة والسلام.
أما أئمة الضلال فأئمتهم: فرعون، وهامان، وقارون، وأُبي بن خلف، وأبو جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة، وقوم تبع، وأصحاب الأيكة، وثمود، وعاد، وإخوان لوط، فهؤلاء هم أئمة أهل الكفر، فهم يتلاعنون فيما بينهم، أما نحن أهل الإيمان فبيننا تراحم، ونترحم على سلفنا، ونصلي على أنبياء الله ونسلم، ويستغفر لنا بعد موتنا من تبعونا بإحسان إلى يوم الدين، قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28] وهذا من محاسن هذا الدين القيم، فمن سبقونا نصلي عليهم ونترحم، ومن يأتون بعدنا يصلون علينا ويترحمون علينا، ثم يوم القيامة نحمد الله على هذا الصنيع، نحمد الله الذي هدانا له وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا إليه، ثم نحمده لإخواننا الذين كانوا سبباً في هدايتنا.
أما أهل الغواية فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وما لهم من ناصرين {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].(51/5)
عبرة وعظة من استسلام إبراهيم عليه السلام لربه
عند توجهنا إلى بيت الله الحرام نتذكر أئمتنا كيف كان استسلامهم لربهم وخالقهم سبحانه؟ وكيف كان استسلام إبراهيم عليه السلام إذ أمر أن يطرح ولده إسماعيل، وهو طفل رضيع لا يجري ولا يسعى، وأمه هاجر امرأة ضعيفة مستضعف، فيلقيهما إبراهيم عليه السلام في أرض موحشة قفر، ليس لهم فيها أنيس ولا جليس، وينصرف عنهم صلى الله عليه وسلم، فتقول هاجر: يا إبراهيم! إلى أين تذهب وتتركنا في هذا المكان؟ ولم يكن ثم بيت لله ظاهر، ولم تكن الكعبة قد بنيت، فمعالم الحرم مندثرة تماماً، فتركهم إبراهيم في جبال مكة عند ماء زمزم الآن، وليس ثم ماء، وليس ثم أنيس، ولا جليس، وتركهم إبراهيم عليه السلام على هذا النحو وعلى هذا المنوال، فنظرت هاجر المرأة الضعيفة إلى إبراهيم وهو ينصرف عنها وعن ولدها الرضيع الصغير فقالت: يا إبراهيم! إلى أين تنصرف؟ ولمن تتركنا؟ قال: أترككم لله، فقالت: آلله أمرك أن تنزلنا هذا المكان وتنصرف؟ قال: نعم، ومضى متجلداً أمامها، ثم لما اختفى عن عينيها رفع يديه إلى السماء: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] فاستجاب الله دعاءه، وعطشت هاجر عطشاً شديداً هي ووليدها، فطفقت تسعى بين الصفا والمروة ذاهبة وعائدة، تبحث عن الماء ولا تجد ماءً، حتى ضرب ولدها الأرض برجله فتفجرت زمزم ينبوعاً.
قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء.
وتفجر الماء المبارك ماء زمزم، فأتاها الناس إذ رأوا الطير تحوم حول الماء، وأنزلوها منزلاً كريماً، وكفاها الله وولدها شر ما أهمها، وأزال الله عنها الحزن بعد أن كادت أن تهلك، فرحمها الله، عليها سلام الله هي وولدها وزوجها.
فانظر إلى امتثال إبراهيم عليه السلام لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد ترك ولده وأم ولده ممتثلاً لأمر الله، ولتلتمس نساؤنا هدياً من هاجر إذ سألت زوجها: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا! فما ضيعها الله بعد أن أحسنت الظن بالله سبحانه.
نمتثل هدياً، نمتثل استسلاماً لله، إذ يؤمر إبراهيم الشيخ الكبير بأن يذبح ولده، وقد رزقه الله إياه بعد زمن طويل، ثم يؤمر بذبح الولد، قائلاً: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم يكن إسماعيل عاقاً أبداً فقد قال: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، هكذا قال إسماعيل، ففداه الله سبحانه بذبح عظيم، فلنحيي سنة الأضاحي امتثالاً لأمر نبينا واتباعاً لسنة إبراهيم عليه السلام، إذ فدى الله ولده بذبح عظيم.(51/6)
مقام إبراهيم عليه السلام
هذه المعالم كلها نستمدها من الذهاب إلى هذه الأماكن المباركة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:96 - 97] أي: واضحات، منها: مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومقام إبراهيم هو: صخرة كان إبراهيم عليه السلام يقف عليها ليبني عالي الكعبة بعد أن ارتفع البناء، فكان يقف عليها ويناوله إسماعيل الحجارة، وكان المقام ملصقاً بالكعبة، وكان فيه أثر قدم إبراهيم، وربنا على كل شيء قدير، فأثرت قدم إبراهيم في الحجر، ثم بقي هذا الأثر إلى زمن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أبو طالب يستشهد به على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ كانت قدم النبي محمد مماثلة تمام التماثل لقدم إبراهيم عليه السلام، فكان أبو طالب يستشهد بذلك على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (ورأيت إبراهيم فإذا أشبه الناس به صاحبكم) يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم.
فلما جاء عمر أخر المقام أمتاراً عن الكعبة، وهي المسافة التي ترونها بين المقام وبين الكعبة الآن، فإذا ذهبنا إلى هذه الأماكن نصلي خلف المقام، ونتذكر نبي الله إبراهيم.
أما أهل الغواية فإلى أين يذهبون؟ يذهبون إلى مقابر الفراعنة، وإلى أهرامات الكفار المتسمون بـ (خوفو وحفرع ومنقرع) هؤلاء أهل كفر وضلال وغواية، فأي ذكرى تنفع من زيارة هؤلاء الكفار الذي ماتوا على الكفر؟ وقد قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في شأن قوم ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم).
إن رؤية أماكن الخير تذكرنا بالخير، وإن رؤية أهل الفضل تذكرنا بالفضل، وإن رؤية أهل القرآن تذكرنا بالقرآن، أما رؤية أهل الكفر فماذا عساها أن تذكر؟ وما عسانا أن نتذكر إذا رأينا صنماً لأبي الهول أو هرماً لخوفو؟ ماذا عسانا إن اللبيب يتذكر أن هؤلاء أئمة ضلال، ماتوا على الكفر إلى غير رحمة الله، فصاروا إلى الجحيم عياذاً بالله منها.(51/7)
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج
نستشغر في هذه المواطن التواضع لله، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة، ويقول بعض أصحابه: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يرمي جمرة العقبة، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
أي: لا توسع له الطرق، ولا يضرب الناس ولا يطردون الناس من أجله صلى الله عليه وسلم، بل كان يمشي عليه الصلاة والسلام متواضعاً مع الماشين، لا يطرد الناس من حوله، ولا يضرب الناس من أجله، إنما يأتي وقوراً متواضعاً لله خاشعاً له، يرمي الجمرة كما يرميها الناس، منه يتعلم الناس وبه يقتدون، ويلتمسون منه التواضع، يلتمسون منه صحيح العبادة والنسك، فيمتثلون أمره، ويقتفون أثره عليه الصلاة والسلام.
فنلتمس من رسولنا التواضع، وعدم الزحام، وعدم أذى العباد، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يطوف بالبيت، فإن استطاع أن يستلم الحجر بيده فعل ولا يزاحم، وإن لم يستطع أشار إليه بمحجنه ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، لا يزاحم الناس ولا يؤذيهم، وعند دفعه صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة كان الناس يتسارعون ويتسابقون فعلمنا صلوات الله وسلامه عليه هدياً في ذلك فقال: (أيها الناس! عليكم هدياً قاصداً، أيها الناس! السكينة السكينة -أي: الزموا السكينة- ليس البر بالإيضاع) أي: ليس البر بالإسراع وإنما الزموا السكينة، (كان يمشي بوقار وإذا وجد فجوة من الفجوات أسرع ونط) أي: قفز عليه الصلاة والسلام، فلم يكن رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يزاحم ولا يلقي بيديه إلى التهلكة.
وقف صلى الله عليه وسلم في عرفات الصخرات وقال: (وقفت ها هنا، وعرفة كلها موقف)، ووقف عند المشعر الحرام بمزدلفة وقال: (وقفت هاهنا، وجمع كلها موقف)، مر عليه الصلاة والسلام في طريقه من مزدلفة إلى منى بوادي محسر فأمر أصحابه بالإسراع وعدم التباطؤ عند هذا الوادي، فلماذا ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن المكث في وادي محسر، ويأمرهم بالإسراع عند المرور به؟ قال علماء السير: إن وادي محسر هو: الوادي الذي عذب عنده أبرهة الحبشي، ومنع من دخول الحرم، وهنالك أرسلت عليه طيراً أبابيل، ترميه وأصحابه بحجارة من سجيل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف في هذا الوادي وهذا الوادي يقع على مشارف منى من ناحية مزدلفة.
ومن ثم ينبغي ألا يمكث الحجيج في هذا الوادي الذي نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن المكث فيه، والإطالة فيه، فعنده أهلك أبرهة، وكان الفيل قد حبس فامتنع من دخول مكة، وكان أبرهة متجهاً إلى مكة من ناحية عرفات، فإنه قدم من اليمن ومر بالطائف، وكان يريد دخول مكة من ناحية عرفات، فامتنع الفيل عن الدخول، وكان الفيل يضرب بالحديد كي ينهض ويدخل مكة فيأبى إباءً شديداً أن يدخل مكة، وهذا من قضاء الله وتدبيره أن تمتنع هذه الدابة من دخول مكة.
ولذلك لما قدم رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يريد دخول مكة، وعلا مشارف مكة امتنعت ناقته القصواء من دخول مكة، فكان الناس يضربون ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تسمى القصواء كي تدخل مكة، والناقة لا تتحرك! فقال المسلمون: خلأت القصواء وليس ذاك لها بخلق، أي: لا ينبغي أن تمتنع القصواء من دخول مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلا والله.
والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله من دخول مكة، ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة عليها، وأمر أن يدخل مكة من طريق معينة، وتذكر عليه الصلاة والسلام وهو داخل مكة مقولة حسان بن ثابت عندما أخرج من مكة، فقال أبياتاً من الشعر يتصبر بها: فقدت بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء أي: فقدت ابنتي -يا معشر المشركين- إن لم تروا خيلنا ترجع إليكم غازية لكم، وتثير الغبار متجهة لكم من كداء، تذكر النبي صلى الله عليه وسلم مقولة حسان تلك فامتثلها ودخل من ناحية كداء فاتحاً مكة، صلوات الله وسلامه عليه.
كل هذه المعاني نتذكرها ونحن داخلون إلى مكة، فهي معان ينبغي أن نتذكرها، ثم نهتدي بها، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97]، نأخذ من الحج الامتثال لأمر الله، فنحن نرمي الجمرات، وما ندري لماذا نرميها؟ وما ندري لماذا نرميها بسبع؟ ورد أثر لذلك، أنه لرمي إبراهيم الشيطان، إلا أن الأثر ليس بمرفوع إلى الرسول عليه السلام، ونرمي الجمرات، ولا ندري لم نرم، ونطوف لا ندري لم نطوف سبعاً ولا نطوف تسعاً، والحكمة الامتثال لأمر الله، والامتثال لهدي رسول الله عليه الصلاة والسلام.(51/8)
الحكمة من تشريع الشرائع
عباد الله: التمسوا من حجكم المتثال والسمع والطاعة لله ثم لرسول الله عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، فإن الأنساك والشعائر إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وكذلك المواسم عند أهل الإسلام إنما شرعت لإقامة ذكر الله، وكذلك الأماكن إنما فضلت لذكر الله فيها، فالأزمنة والأمكنة ما فضلت لكبير شيء؛ إلا لأن الله يذكر فيها.
قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] فالأنساك، والأعياد، والمواسم، والذبائح، والصلوات، والحج، والجهاد، والصيام؛ كل ذلك شرع لإقامة ذكر الله عز وجل، فالصلوات شرعت لإقامة ذكر الله، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: لتذكرني فيها، وقال تعالى في بيان حكمة شرعه للجهاد: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40] فالجهاد إنما شرع لإقامة ذكر الله، وكذلك الذبائح والأضاحي التي نتقرب بها إلى الله، نتقرب بها لذكره، {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، ولذلك قال فريق من أهل العلم في الآية الأخيرة: إذا نذرت أن تذبح كبشاً فلا يجزئ أن تشتري مائة كيلو لحم وتتصدق بها؛ لأن ذبح الكبش فيه ذكر الله.(51/9)
فضيلة عشر ذي الحجة
أيها الأحبة: المواسم والأعياد شرعت لإقامة ذكر الله، وهذه العشر من ذي الحجة يوشك هلالها أن يرى الليلة أو في الغد، فهي عشرة أيام من أشرف أيام السنة كلها، بالنص من سنة رسول الله، أو قول راجح عند جمهور المفسرين في الآية، أما الآية فإن الله أقسم بها: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] يقسم الله بعظائم الأمور في كتابه الكريم، {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشر -يعني: العشر الأول من ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن يخرج أحدكم بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء).
هل هلال هذه العشر أو كاد أن يهل، ونسأل الله أن يهله علينا جميعاً بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما يحب ويرضى من صالح القول وصالح العمل وصالح النوايا، فهي نعمة من الله أن يبلغك مواسم تتقرب ففيها إليه، فيها تغفر الذنوب وتحط الخطايا، وهذه نعمة من الله أن يبلغك هذه العشر، ويفتح لك فيها أبواباً للطاعات، ويضاعف لك الثواب، فإذا كان ثواب التسبيحة في يوم من الأيام بحسنة أو بعشر حسنات، فثواب التسبيحة في هذه العشر أضعاف مضاعفة، وثواب التهليل أضعاف مضاعفة، وثواب التكبير كذلك، ولا يعلم قدر تضاعف للثواب في هذه الأيام إلا الله سبحانه وتعالى.
فلا ينبغي أبداً أن تغبن وتبخس في هذه الأيام، ولا ينبغي أن تغفل عن الذكر فيها، فقد كان أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام يكبرون ويهللون، ويحمدون ويسبحون، فقد أخرج البخاري تعليقاً عن أبي هريرة وابن عمر أنهما كانا في هذه العشر يخرجان إلى الأسواق يكبران ويهللان ويذكران الله سبحانه وتعالى، وهذا معروف عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى الأسواق يذكر الله ويذكر به على مدار السنة، لكنه كان يكثر الخروج في هذه الأيام، وكان يخرج في بعض أوقات السنة إلى الأسواق أحياناً لمجرد إلقاء السلام على الناس، فيغنم الحسنات، ويغنم من رد عليه السلام الحسنات.
فيا عباد الله! كان سلفكم الصالح يكثرون من التحميد والتهليل، والتكبير والتمجيد، والتسبيح، وعموم الذكر في هذه الأيام، وكذلك تلاوة القرآن، فإن كان لك من كتاب الله ورداً تقرأ مثلاً جزءاً، فلتقرأ في هذه العشر جزأين، إن كان لك في يومك مائة تسبيحة فلتجعلها مائتين أو ثلاثمائة، وما تفعل من خير فلن تكفره.
أدب اللسان بعض الشيء في هذه الأيام، قل: كفاك أيها اللسان لغواً، وخوضاً في القيل والقال، كفاك أيها اللسان طول العام خوضاً في الأعراض، فلتكثر أيها اللسان من ذكر الله فإنك مسئول وناطق أمام الله {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
فيا عبد الله! كفاك لغواً، وقيلاً وقال، وكفاك مزاحاً وكثرة كلام طول العام، فهذه الأيام أجمع فيها القلب والعقل والفؤاد على ذكر الله عز وجل، كفاك مزاحاً وجلوساً في الطرقات، فاغتنم هذه الأيام بما تكفر به ذنوبك وتحط به خطاياك، فهذه الأيام ستنصرم، بل ستنصرم الدنيا كلها، فلا تخرج منها وأنت مغبون، فالخاسر من خسر نفسه، والهالك من نسي نفسه، فزك نفسك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] زك نفسك في هذه الأيام، زك لسانك وبصرك، ووزكِ فؤادك وخطاك فإن هذه الأيام سترد ثم ستنصرم غداً.
أما الصيام في هذه العشر فلأهل العلم فيه قولان: ورد عن أمنا عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم أنها قالت: (ما صام النبي صلى الله عليه وسلم العشر قط) فاستدل به على أنه لا يسن صيام العشر، وورد حديث آخر من طريق راو يقال له هنيدة عن بضع أزواج النبي أنها قالت: (ما ترك رسول الله صيام العشر)، ومن ناحية الإسناد فحديث عائشة أصح، ومن العلماء من جمع بين الحديثين وقال: فلتصم أحياناً ولتترك أحياناً، هذا إذا سلمنا بصحة الخبرين معاً، فنقول: إن كل زوجة أخبرت بما علمت، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام أحياناً وترك أحياناً، وهذا جمع ممكن وحسن، والله تبارك وتعالى أعلم.(51/10)
الأضاحي
أيها الأحبة: أنتم على مشارف العشر، وقد قال الله في يوم منها وهو يوم النحر: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، والخطاب وإن كان موجهاً لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن المسلمين أخذوا من ذلك سنة متبعة عامة، وهي سنة الأضاحي: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: وانحر لربك، فإذا كنت موسراً فأنفق في هذه السبل، والقربات فهي خير ما تنفق فيه الأموال، والله لأن تنفق مالاً في أضحية خير من أن تنفقه في بدلة وفي كرفته، ولأن تنفق مالاً في أضحية خيرٌ من أن تنفق مالاً في غير قربة، ولأن تنفق مالاً في حج خير لك من أن تنفقه في سيارة فخمة، وقد تغني عنك سيارة تقوم بالغرض، فلتؤجل شراء السيارة الفخمة، فإنفاقك في الأضاحي -إن كنت موسراً ووسع الله عليك- إحياء لسنة إبراهيم عليه السلام، وإحياء لسنة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي هذه الأضاحي ذكر لله، {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] فغيرك يهل بآلهة أخرى، فليس المراد فقط أنك تقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر، وفي هذا ثواب بلا شك، ولكن الإهلال نفسه لله فيه أجر، ففيه إقرار بالتوحيد، وبالذبح لله وحده، فعندما تقول: باسم الله والله أكبر على الذبيحة فأنت مأجور أجراً أعظم ثم أعظم ثم أعظم من رجل يقول: باسم الله والله أكبر، في موطن آخر، وقد يقول قائل: أنا أقول: (باسم الله والله أكبر) في أي وقت فما الفضل الزائد في كوني أقول: (باسم الله والله أكبر) على الذبيحة؟ نقول: إن هذا إقرار بتوحيدك وإخلاصك لله، فإن أهل الكفر يسمون باسم اللات أو العزى أو مناة الثالثة الأخرى، والنصارى يهلون لغير الله، وكذلك عموم أهل الكفر، أما قولك عند الذبح: باسم الله والله أكبر، فهو دال على توحيدك وإخلاصك لله، فالأجر في ذلك أعظم.
ثم إن الله قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37] أي: الله ليس في حاجة إلى طعامكم ولا إلى شرابكم أبداً سبحانه، فهو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] هذا كلام ربنا، فإذا قست الأمور بالمقاييس المادية خبت وخسرت، فعموم الناس -إلا من رحم الله- يزنون الأمور بميزان المال والدنيا، لكن إذا وقفنا مع ربنا ومع آيات ربنا علمنا أن الميزان هو التقوى، ماذا فعل ابني آدم؟ كلاهما قرب قرباناً، فهذا تقرب إلى الله بقربان، وهذا تقرب إلى الله بقربان، لكن التقي الذي استعظم القربان، وطاب نفساً به، فأخرجه غير شحيح به، بل أخرجه متقرباً به إلى الله محباً لذلك، وُقِي شح نفسه، وأخلص لله في ذلك كله، ورجا بالقربان التقرب إلى الله كما هو مفهوم القربان؛ فتقبل منه، أما الذي قرب وهو شحيح، وذبح وهو شحيح، يمد رجلاً ويؤخر الأخرى، يمد يداً ويؤخر الأخرى، يقول: أنا أولى، زوجتي أولى، ثم قد يمتنع، فهذا الله غني عنه وعن قربانه.
إذا قست الأمور بالمقاييس الشرعية تجد أن الأمم من قبلنا كان إذا غنم نبيها غنيمة يجمع كل الغنائم التي غنمها من الكفار في مكان واحد، فتنزل نار من السماء تلتهم الغنيمة كلها، فماذا يكون حال ذلك النبي حينئذٍ؟ يسعد أيما سعادة هو وأصحابه، ويفرحون أشد الفرح إذا نزلت النار وأكلت هذه الغنائم، فهذا دليل على قبولها، ومن ثم قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] جاءت أنبياء اليهود بهذا ومع ذلك قتلتهم اليهود، فاليهود قوم بهت، وفي بعض الآثار أن اليهود قتلوا ثلاثمائة نبي في صبيحة واحدة، ثم قاموا إلى السوق آخر النهار يبيعون العدس والفول ولم يبالوا بما فعلوا!! الشاهد: أن من قبلنا كان أحدهم يفرح إذا تقرب بقربان وقبل منه، قال نبيكم محمد عليه الصلاة والسلام: (غزا نبي من الأنبياء -وفسر هذا النبي بأنه يوشع بن نون عليه السلام- فأوشكت الشمس على الغروب فقال: يا شمس! إنكِ مأمورة وأنا مأمور، أنتِ مأمورة بالغروب، وأنا مأمور أن افتح البلدة قبل غروبك، اللهم احبسها علينا، فحبست الشمس إلى أن فتح البلدة ثم قال: ائتوني بالغنائم، فأتوه بالغنائم، فجمعها في صعيد ولم تنزل النار لالتهامها وأكلها! فقال لأصحابه: أيها الناس! إن فيكم رجلاً قد غل -أي: سرق من الغنيمة- فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل، فبايعه رجلٌ رجلٌ من كل قبيلة، فلصقت يده بيد رجل منهم، فقال: في قبيلتك الغلول، فلتبايعني قبيلتك رجلاً رجلاً، فبايعوه، فلصقت يده بيد رجل منهم فقال: عندك الغلول؟ قال: نعم يا نبي الله! فذهب وأتى برأس بقرة من ذهب كان قد أخفاها من الغنيمة، فأخذها النبي ووضعها في الغنائم، فنزلت النار والتهمتها).
فالشاهد من ذلك: أننا لا ينبغي أن نقيس الأمور بمقاييس الدنيا أبداً، فالمال مال الله، وما أنفقت من شيء فالله يخلفه، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] قد قال الله: (يا ابن آدم! أنفق أنفق عليك، يا ابن آدم أنفق أنفق عليك).
فإذا كان بوسعك أن تشتري أضحية تستعظم هذه الأضحية وتسمنها ثم تتقرب بها تقرباً جميلاً إلى الله؛ فلا تبخل عن نفسك، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] ولتطعم منها الفقراء، والمحتاجين فكم من رجل لا يكاد يأكل اللحم إلا في هذه المواسم، وكم من رجل ينتظر صدقتك في مثل هذا الموسم؟! كم من رجل ينتظر اللحم الذي ما ذاقه طول العام هو وأولاده وينتظرون قطعة تسوقها إليهم؟ فلا تحرم نفسك الأجر، ولا تحرم الفقراء والمساكين الطعم، وكما تقدم فالله قال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].(51/11)
ما يسن لمن أراد أن يضحي
معشر الإخوان! يسن لمن أراد أن يضحي ألا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً إذا دخلت هذه العشر، على المذهب الصحيح من أقوال العلماء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً)، وهل أهل بيت الرجل يلتحقون به في هذا الحكم؟ بمعنى: إذا كنت -يا رب البيت- تريد أن تضحي فهل أهلك أيضاً يمتنعون من أخذ شيء من الشعور والأظفار في هذه العشر؟ يرى فريق من أهل العلم أنه كما أن الأضحية تجزئ عن الرجل وأهل بيته، فكذلك يلزم الرجل وأهل بيته جميعاً ألا يأخذوا منها شيئاً من باب المقابل والقياس، فقالوا: ينبغي ألا تأخذ من شعرك ولا من أظفارك شيئاً إذا كنت تريد أن تضحي، وأهل بيتك كذلك، هذا قول.
والقول الآخر: أن أهل البيت يستثنون، والأول أحوط وأقرب إلى الأقيسة، والله تبارك وتعالى أعلم.
وهذا الحكم استثني منه الحجيج بلا شك، إذ الرسول عليه الصلاة والسلام وصل إلى مكة الرابع من ذي الحجة، وأمر أصحابه الذين اعتمروا عمرة التمتع أن يتحللوا ويقصروا من شعورهم، فليعلم إخواننا الحجيج المتمتعين أن عمرة التمتع السنة فيها التقصير، وهذا بالنسبة لعمرة التمتع خاصة، لأنه سيأتي عليك الحلق في الحج، وحديث: (غفر الله للمحلقين ثلاثاً) هو في غير عمرة الحج.
هذا، ونسأل الله سبحانه أن يلهمنا وإياكم ذكره وشكره وحسن عبادته في هذه الأيام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أهل علينا هلال ذي الحجة بأمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وتوفيق لما تحب وترضى.
اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، وارفع البأساء عن البائسين من المسلمين يا رب العالمين! اللهم انصر المستضعفين من عبادك المسلمين في كل البقاع، وارحم أموات المسلمين، ونور قبورهم، وافسح لهم فيها يا رب العالمين! وغنمنا حياتنا قبل الممات، وتوفنا مسلمين.
وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد.(51/12)
تفسير سورة الفاتحة [1]
فضائل سورة الفاتحة كثيرة، منها: أنها أعظم سورة في القرآن، وقد احتوت على أنواع التوحيد الثلاثة، ولم ينزل في التوراة ولا الإنجيل مثلها، ولا تجزئ العبد صلاته إلا بقراءتها، ولها فوائد وأحكام ومعان عظيمة جعلتها هي السبع المثاني والقرآن العظيم.(52/1)
مسائل تتعلق بسورة الفاتحة(52/2)
تفاضل بعض السور على بعض
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله) يدل على تفاضل بعض السور على بعض، أو على فضل بعض السور على بعض، وإن كان القرآن كله من عند الله سبحانه إلا أن بعضَ الآيات تفضُل بعضاً، وبعضَ السور تفضُل بعضاً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبُي بن كعب: (يا أبُي! أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر).
فدل هذا على فضل آية الكرسي على غيرها.
ودل حديث أبي سعيد بن المعلَّى على فضل سورة الفاتحة على غيرها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في صحيح مسلم: (احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فاجتمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فقرأ عليهم سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقال: والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن).
فدل هذا على تفاضل بعض السور، وعلى فضل بعض الآيات على بعض، وإن كان الكل من عند الله سبحانه وتعالى.(52/3)
قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية
هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية أم لا تجب؟ هذه المسألة من المسائل التي وردت فيها أقوالٌ لأهل العلم، حاصلها: أن جمهور أهل العلم يقولون: أن قراءة الإمام قراءةٌ لمن خلفه، واستدلوا بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا الحديث في كل طرقه مقال، إلا أن بعض أهل العلم يقويه بمجموع طرقه، والبعض يبقيه على حاله من الضعف، واستؤنس لهذا القول أيضاً بأن أبا بكرة رضي الله عنه قَدِم والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فكان راكعاً فركع خلف الصف ثم دخل في الصف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) قالوا: ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بركعة جديدة.
أما الإمام البخاري رحمه الله تعالى وطائفة من أهل العلم فقد روَوا أنه لا بد من قراءة الفاتحة، مستدلين بالحديث الثابت الصحيح: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
وبحديث: (أيما رجل صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج فهي خداج) أي: فهي ناقصة فهي ناقصة.
وعلى كلٍ فللعلماء القولان المشهوران في هذا الباب، وبأيهما أخذ الشخصٌ وسعه ذلك.(52/4)
نزول سورة الفاتحة
سورة الفاتحة مكية، ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، والسبع المثاني والقرآن العظيم بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم: هي فاتحة الكتاب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
وقوله تعالى في سورة الحجر: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] وسورة الحجر مكية بالإجماع، فدل ذلك على أن سورة الفاتحة مكية أيضاً، ويؤيد القول بأنها مكية أيضاً بأن الصلاة فرضت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
فهذان دليلان يدلان على أن السورة مكية.(52/5)
أسماء سورة الفاتحة
لسورة الفاتحة عدة أسماء: - منها: الفاتحة.
- ومنها: أم الكتاب.
- ومنها: أم القرآن.
- ومنها: الشافية.
- ومنها: الرُّقْية.
- وثَمَّ أسماء أخر لهذه السورة الكريمة.(52/6)
فضائل سورة الفاتحة
لقد ثبت في فضلها جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه، إذ سمع نقيضاً، فقال له جبريل: يا محمد، هذا ملك نزل من السماء لم ينزل قبل اليوم، فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي من الأنبياء قبلك: سورة الفاتحة، وخواتيم سورة البقرة).
وهذا الحديث: أفاد أن ملكاً نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة.
وقد حمل بعض أهل العلم القول بأن الملك هو الذي نزل بالفاتحة وخواتيم البقرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل بهما جبريل.
لكن هذا القول مدفوع، فإن الملك نزل مبشراً بفضل سورة الفاتحة ولم ينزل بأصل سورة الفاتحة، وإلا فالكتاب العزيز كله نزل به الروح الأمين، كما قال الله سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195].
فالفاتحة شأنها شأن غيرها في هذا.
- ومن فضائلها كذلك: ما أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: (كنت أصلي، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلت على صلاتي، ثم انصرفت منها، فأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: ما منعك أن تأتي إذ دعوتك؟ قلت: يا رسول الله! إني كنت في صلاة، قال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله، ثم انصرف ولم يخبرني، فتبعته، فقلت: يا رسول الله! قلت: لتعلمنني أعظم سورة في كتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وهي أعظم سورة في كتاب الله.
- وورد في فضلها كذلك: قول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم: (قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3] قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:6] قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل).
فقوله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي)، المراد بالصلاة هنا: الفاتحة، فأحياناً الصلاة تأتي ويراد بها معناها المعهود الذي هو افتتاحها بالتكبير، وانتهاؤها بالتسليم.
وأحياناً تأتي كلمة (الصلاة) ويراد بها الدعاء، وأحياناً تأتي كلمة الصلاة ويراد بها تلاوة القرآن، كما قال الله سبحانه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء:110] أي: لا تجهر بقراءتك {وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:110]، وهنا أريد بالصلاة الفاتحة.
أعني في قوله سبحانه في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين).
- ومما ورد في فضلها كذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب).
فهذه الأدلة تدل على فضل هذه السورة الكريمة، ومن ثَمَّ افتُتِح بها كتاب الله عزَّ وجلَّ.(52/7)
أحكام تتعلق بالبسملة(52/8)
حكم التسمي بالرحمن
من أهل العلم من قال: إن (الرحمن) اسم خاص بالله سبحانه، لا يشاركه فيه غيره، فثَمَّ أسماء لله سبحانه وتعالى قد تطلق على أشخاص كألقاب أو صفات، فمثلاً: - اسم (العزيز): {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف:51]، وقال الله سبحانه وتعالى عن نفسه: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:23].
- واسم (المؤمن): تَسَمَّى الله به، وسَمَّى عبادَه المؤمنين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مَثَلُها مَثَلُ المؤمن).
- واسم (الأعلى) قال الله سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقال لموسى عليه السلام: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68].
- واسم (العظيم)، قال سبحانه: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46].
لكن اسم (الرحمن) على وجه الخصوص لم يَتَسَمَّ به أحد، ولا يجوز لأحد أن يسمي نفسه بـ (الرحمن)، فهو من أسماء الله سبحانه وتعالى الذي لا يتسمى به إلا هو سبحانه وتعالى، فهو خاص في دلالته وواقع في معناه، فرحمته وسعت كل شيء في الدنيا.(52/9)
معنى (الرحيم)
أما ((الرَّحِيْمِ)): فقد قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وهذا في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وأهل الجنة ثلاثة: رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومؤمن) فـ (الرحيم) أعم في المدلول أخص في المعنى، فإن (الرحيم) -كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43]- فـ (الرحمة) خاصة بأهل الإيمان في الآخرة، وإن أطلقت في الدنيا وعمَّت، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].(52/10)
الاختلاف في تحديد اسم الله الأعظم
قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} من أهل العلم من قال: إن اسم الله الأعظم هو (الله) سبحانه وتعالى، وليس هناك من الكتاب ولا السنة ما يدل على ذلك صراحةً؛ لكن قول القائل: إن لفظ الجلالة (الله) أُتْبِعَت به كل الأسماء، فمثلاً: يقول الله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر:23] فكلها نسبت إلى الله.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24].
كذلك: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً).
فكلها نسبت إلى الله سبحانه؛ ولكن هذا ليس بمستند كافٍ كي يُقَرر أن اسم الله الأعظم هو (الله)، صحيح أن اسم الله سبحانه وتعالى (الله) لا يشاركه فيه غيره، ولا يُثنى ولا يُجمع، فهذه حقائق وثوابت؛ لكنها ليست كافية للقطع بأن اسم الله الأعظم هو (الله)، أما الله سبحانه وتعالى فنسبت إليه كل صفات الكمال سبحانه وتعالى على ما تقدم.(52/11)
معنى البسملة
{بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} أو (باسم الله) أو يطلق عليها (البَسْمَلَة)، وهي لغة مُوَلَّدَة، قال بعض أهل العلم: وهي مما اختُصَّت به لغة العرب، فتقول: (الحَمْدَلَة)، ويراد بها: (الحمد لله)، وتقول: (السَّبْحَلَة)، ويراد بها: (سبحان الله)، وتقول: (الحَسْبَلَة) ويراد بها: (حسبي الله ونعم الوكيل)، ويقولون: (الطَّبْقَلَة)، ويريدون بها: (أطال الله بقاءك)، وهكذا.
فـ (باسم الله) إطلاق (البَسْمَلَة) عليها على أنها لغة مُوَلَّدَة.
(باسم الله) من أهل العلم من قال: معناها: أبتدئ باسم الله، أو ابتدائي باسم الله.
ثم منهم من قال: (اسم) هنا زائدة، وأوَّلَ ذلك تأويلاً، فقال: معناها: أبتدئ مستعيناً بالله، وقد استدل هذا القائل على مقولته ببيت من الشعر فيه: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر واستنكر الطبري رحمه الله تعالى هذا التأويل، ووجه البيت الشعري بتوجيهين.
وبيت الشعر مطلعه ابتداءً: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر فقوما وقولا بالذي قد علمتما ولا تخدشا وجهاً ولا تحلقا شعر إلى أن قال: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر فالرجل يقول لابنتيه: إذا كان ثم بكاء فلتبكياني إلى الحول، أي: إلى سنة، وبعد السنة قال: اسم السلام عليكما فقال المؤوِّل الأول: ثم السلام عليكما.
أما الطبري فقال: ثم اسم السلام عليكما تحتمل احتمالين: - أي: سلام الله عليكما، فلا تبكياني، فقد أديتما الذي عليكما.
- الوجه الآخر: ثم الزما ذكر الله سبحانه وتعالى بعد انقضاء الحول.
الشاهد: أن معنى قوله تعالى: ((بِاسْمِ اللهِ)) أي: أبتدئ باسم الله، أو ابتدائي باسم الله.(52/12)
معنى (الرحمن)
أما ((الرَّحْمَنِ)) فهو اسم من أسماء الله سبحانه، أثبته الله لنفسه، وأثبته له أنبياؤه عليهم الصلاة والسلام.
وكان أهل الشرك يستنكرون هذا الاسم، ومن ثم قال الله سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
ومما يدل على استنكارهم له -أي: استنكار أهل الشرك له-: في صلح الحديبية لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي: (يا علي! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فاعترض سهيل بن عمرو على ذلك، وقال: لا تكتب الرحمن، ولا تكتب الرحيم، فإنا لا ندري ما الرحمن، ولكن اكتب: باسمك اللهم) فكان أهل الجاهلية يستنكرون هذا الاسم، ويقولون: (لا نعرف إلا رحمان اليمامة)، ويعنون بذلك مسيلمة الكذاب، ولقد وُسِم أنه كذاب -كما قال فريق من أهل العلم- لكونه لقب نفسه وسمى نفسه بهذا الاسم: الرحمن، فمع أن هناك من الكذابين الكثير، كـ العنسي صاحب صنعاء، وكـ المختار بن أبي عبيد، وغيره من الكذابين، إلا أن أكثرهم لصوقاً بالكذب هو مسيلمة الكذاب، فلا يقال له إلا: مسيلمة الكذاب، فهذا بالنسبة لاسم الرحمن.
ولذلك قال بعض أهل العلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن)، وقد وردت في هذا الحديث زيادة نوزِع فيها، (وأصدقها: حارث وهمام).(52/13)
حكم الجهر بالبسملة في الصلاة
إذا ثبت أن البسملة آية فهل يُجْهَرُ بها في الصلاة، أم يُسَرُّ بها؟ ورد في ذلك حديث أنس رضي الله تعالى عنه في صحيحي البخاري ومسلم، وفيه: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]) وزاد مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}) فاستدل بهذا من قال: يُسَرُّ بالبسملة ولا يجهر بها.
أما الذين قالوا بالجهر بها، فأجابوا على ذلك: بأن مراد أنس رضي الله عنه: (كانوا يفتتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2])، أي: يفتتحون القراءة بالفاتحة وليس فيه تعرُّضٌ لنفي البسملة أو إثباتها.
أما قول القائل الوارد في صحيح مسلم: (لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}) فهي زيادة مدرجة زادها بعض الرواة، وليست من قول أنس، إنما زادها بعض الرواة توهماً منه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يفتتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] أنه لا يذكر البسملة، قالوا: وقد أخطأ في هذا التوهم.
واستدل القائلون بأن البسملة لا يُجْهَرُ بها: بما أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل عندما سأله ابنه عن الجهر بالبسملة فقال: (يا بني! بدعة)، وهذا الحديث في إسناده رجل مجهول، والظاهر أنه ضعيف كذلك.
أما الذين ذهبوا إلى مشروعية الجهر بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} فمن أدلتهم: أولاً: إذا كانت آيةً فيُجْهَرُ بها كما يُجْهَرُ بسائر الآيات.
ثانياً: (أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه صلى صلاة فكان يكبر فيها عند كل خفض ورفع، وجَهَرَ فيها بـ {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}، ولما انصرف قال: إني أشبهكم صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ إلا أن فريقاً من أهل العلم قال: إن وجه الشبه انصب على التكبير الذي استُنْكر على أبي هريرة، فقد صلى أبو هريرة رضي الله عنه وكان يكبر عند كل خفض ورفع، فقالوا له: (ما هذا التكبير يا أبا هريرة؟ قال: إني أشبهكم صلاةً بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ثالثاً: أن عموم الأعمال تُبْتَدأ وتُفْتَتح بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، فالطعام يُبْدأ بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ودخول البيت يُبْدأ بـ (باسم الله)، وأخذ المضجع يُبْدأ بـ (باسم الله)، وكذلك إتيان الرجل أهله يُبْدأ بـ (باسم الله)، وكذلك إرسال كلبك المعلَّم للصيد ترسله بـ (باسم الله)، وكذلك الرُّقْيَة تُبْدأ بـ (باسم الله): باسم الله أَرْقيك، -ثلاثاً-، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر -سبعاً-، وكذلك الرسائل تُسَطَّر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وبنود المصالحات تُسَطَّر وتُقَدَّم بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقالوا: يُبْدأ بها، وما دمنا نبدأ بها -وقد وجهنا حديث الإسرار بالتوجيه السابق- فعلى ذلك لا مانع من الجهر بها.
والحاصل: أنك إذا جهرت أحياناً وأسررت أحياناً بها فلا غبار عليك ولا جناح، فمثلاً: إذا صليت مع قومٍ ولك قول من القولين ولهم هم القول الآخر، وتحاملوا عليك حتى تبدأ بها، فلك مستندك أيضاً.
فالذي يظهر: أن الأمر في ذلك كله واسع.(52/14)
الخلاف في كون البسملة آية من الفاتحة
قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}: هل هي آية من سورة الفاتحة أم ليست بآية منها؟ أيضاً: نفس الخلاف دب بين العلماء: - فمن أهل العلم من اعتبرها آية من الفاتحة؛ مستدلاً بقول الله جل ذكره: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، وتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للسبع المثاني بأنها الفاتحة، قالوا: ولا تكمل سبعاً إلا إذا اعتبرنا البسملة آيةً منها.
وكذلك استدلوا بأنها أثبتت في المصاحف في أول سورة الفاتحة، وفي أول كل سورة، فدل إثباتها من عهد الصحابة إلى الآن على كونها آيةً من سورة الفاتحة ومن غيرها.
واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه، فقال: (لقد أنزلت عليَّ سورة هي أحب إليَّ من كذا وكذا، ثم قال: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} * {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1])، فأتى على السورة إلى آخرها.
أما الذين قالوا: إنها ليست آية من الفاتحة؛ فقد استدلوا بقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي)، ولم تُذْكر البسملة.
واستدلوا كذلك بقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2])، ولم تُذْكر البسملة في مطلع هذه السورة.
قالوا: فدل ذلك على أنها ليست بآية.
فهذان وجهان لأهل العلم في هذا الباب، والأمر في ذلك قريب، فأيُّ القولين قلدتَ فلا جناح عليك ولا تثريب، فقد شهدت لكل رأي أدلتُه، وعمل به من السلف عددٌ لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وإن كان الظاهر أن الرأي القائل باعتبارها آيةً رأيٌ له قوته؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعَاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] والأدلة الأُخَر ليس فيها نفيٌ صريحٌ لذلك.
والله أعلم.(52/15)
تفسير قوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين)
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: (الحمد لله) كما قال العلماء: كلمة كل شاكر، وهي كلمة رضيها الله سبحانه وتعالى وقبلها من عباده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها).(52/16)
ثناء الله تعالى على نفسه
قال الله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: حمد ربنا سبحانه وتعالى نفسه، وهذا الظاهر المتبادر من الآية.
ومن أهل العلم من قال: إنها آية خبرية تحمل معنى الأمر، أي: قولوا: الحمد لله رب العالمين، قالوا: وهذا كما في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] فمعناه: أمِّنوا أيها الناس مَن دَخَل الحرم.
لكن أكثر أهل العلم على أن ربنا سبحانه وتعالى حمد نفسه؛ ولكن لا يجوز لنا نحن أن نحمد أنفسنا، ولا أن نزكي أنفسنا، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:49].
فنحن ليس لنا أن نزكي أنفسنا، ولا أن نثني عليها إلا في موطن دعت إليه الحاجة والضرورة عند قومٍ يجحدون المعروف وينكرون الإحسان، كما قال عثمان رضي الله عنه لمن حاصره: (أناشدكم الله! ولا أناشد منكم إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! هل سمعتم رسول الله يقول: مَن حفر بئر رومة فله الجنة، فحفرتُها؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أناشدكم الله! هل سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جهَّز جيش العسرة فله الجنة فجهَّزتُه؟ قالوا: اللهم نعم).
فهذه مواطن يجوز للشخص لعلة من العلل أن يثني على نفسه إذا كان هناك مفهوم قد خفي على المخاطَب، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام للأنصار: (ألم أجدكم عالةً؛ فأغناكم الله بي؟ ألم أجدكم متفرقين؛ فألفكم الله بي؟!) إلى غير ذلك.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: كلمة إذا قلتَها أُثِبت عليها وكُتبت لك بها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بكل تحميدة صدقة)، وكذلك رضيها الله سبحانه وتعالى منك، وزادك الله سبحانه وتعالى من فضله، فهي تتضمن معاني الشكر، والله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(52/17)
التفريق بين الحمد والشكر
من أهل العلم من سوى بين الحمد والشكر، فيقولون: الحمد والشكر يأتيان بمعنىً واحد.
ومنهم من فرَّق، فقال: (الحمدُ لله) حمدٌ لله سبحانه على صفاته اللازمة وأفعاله المتعدية إلى خلقه.
وأما الشكر: فلا يكون إلا في الأفعال المتعدية إلى الخلق، ويكون باللسان وبالجنان وبالأركان، كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: إذا قالها العبد، قال الله سبحانه وتعالى كما في الحديث القدسي: (حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي).(52/18)
تكرار الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة
مِن أهل العلم مَن أورد هنا تساؤلاً فحواه: إن {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} صُدِّرَت بها السورة، فلماذا كُرِّر قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]؟ فأجاب بعضهم على ذلك بما حاصلُه: أن ذلك من باب الترغيب والترهيب، فكلمة (رب العالمين) تتضمن ترهيباً وتخويفاً، فبعد هذا الترهيب والتخويف جيء بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] التي تتضمن ترغيباً.
وهذا سائد في كتاب الله ومنه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر:3].
وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98].
فيُمْزَج الترغيب بالترهيب في كتاب الله في عدة مواقف.
وعلى هذا ينبغي للمذكِّر الذي يذكِّر الناس بربهم أن يمزج بين الترغيب فيما عند الله وبين الترهيب مما أعده الله سبحانه وتعالى للعصاة.
هذا وجه ساقه بعض أهل العلم في ذلك.(52/19)
معاني (الرب)
قال تعالى: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الفاتحة:1]: (الرب) لها جملة من معانٍ: - فـ (الرب) تطلق على المالك، ومنه قولهم: رب الدار، أي: صاحب الدار ومالك الدار.
- و (الرب) تطلق على المعبود، ومنه قول الشاعر: أَرَبٌّ يبول الثعلبانُ برأسه فقد خاب من بالت عليه الثعالبُ - و (رب) كذلك تطلق على المربي والمصلح.
- و (رب) كذلك تطلق على السيد الذي عنده أمة أو عنده عبد، كما قال الصدِّيق يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، وكما قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها).
والله سبحانه وتعالى أعلم.(52/20)
معاني (العالمين)
أما ((الْعَالَمِينَ)) فتأتي وتحتمل عدة معانٍ: - فمنها: البشر، ومنه قول لوط عليه السلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] أي: من البشر.
- وتأتي أحياناً كلمة (العالمين) ويراد بها: الإنس والجن، كما في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].
- وتأتي كلمة (العالمين) ويراد بها: السماء والأرض وما بينهما، كما قال فرعون لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:23 - 24].
وعلى ذلك فيؤخذ من المعاني المعنى المناسب للسياق الذي وردت فيه الآية، وكما قدمنا فإن ضلال مَن ضل من الفرق كان بسبب إلباس كلمة معنىً غير معناها، وإن كان معناها يحتمل هذا المعنى؛ لكنها سيقت في موطن لا تتحمل إلَّا معنىً معيناً، فحملها البعض على معنىً آخر من المعاني، فضلُّوا كثيراً وأضلُّوا غيرهم وضلُّوا عن سواء السبيل.
فالكلمة يكون لها عدة معانٍ، فإذا ألبستها في موطن ثوباً ومعنىً غير معناها الذي يليق بالسياق انحرفتَ وابتعدتَ، ككلمة (السيئة) وكلمة (الفسق) وكلمة (الكفر) ونحوها من الكلمات، فكلمة (الفسق) تتعدد معانيها، وكذلك (الكفر)، وكذلك (الظلم)، فإذا ألبستها في موطن معنىً غير معناها ضللتَ وما كنتَ من المهتدين، كما فعل الخوارج -مثلاً- عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وكما فعلوا عند قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وكما فعلوا كذلك عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: النياحة على الميت، والطعن في الأنساب).
فهذا علم يجب أن يُنْتَبَه إليه ويُتَفَطَّن له.
فكلمة (السيئة) -مثلاً-: - تأتي بمعنى الكفر.
- وتأتي بمعنى الكبيرة.
- وتأتي بمعنى الصغيرة.
وكأمثلةٍ لذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27]، فالسيئات هنا بمعنى الكفر لدلالة قوله تعالى: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27].
وتأتي بمعنى الكبيرة أحياناً، كما في قول ربنا سبحانه وتعالى في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:78].
وتأتي بمعنى الصغيرة أحياناً، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31].(52/21)
مواطن الحمد
الحمدلة تقال في الابتداء وعند الانتهاء كذلك.
في الابتداء: الحمد لله رب العالمين، بدئت بها السورة.
وفي ختام المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك.
وعند المنام: الحمد لله الذي كفانا وآوانا.
وعند الاستيقاظ: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور.
وعند الركوب: تذكر كذلك مُضَمَّنَةً في قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13].
وفي شتى المواطن تذكر: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
وكذلك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].(52/22)
تفسير سورة الفاتحة [2]
تضمنت سورة الفاتحة إفراد الله تعالى بالعبادة والاستعانة، فلا يعبد إلا الله، ولا يستعان إلا بالله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذه العبادة الخالصة هي الصراط المستقيم الذي يسأل العبد ربه أن يوفقه ويهديه إلى سلوكه في كل ركعة، والابتعاد عن صراط المغضوب عليهم والضالين.(53/1)
تفسير قوله تعالى: (مالك يوم الدين)
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]: في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قراءتان مشهورتان: إحداهما: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:3]، بدون ألف.
والأخرى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
ومن ناحية الشواهد العامة فـ: (ملك يوم الدين) تشهد لها: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2]، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] تشهد لها: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]، فالقراءتان صحيحتان.
أما {يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فهو يوم الجزاء والحساب، فإن سأل سائل: كيف والله سبحانه وتعالى مالك الدنيا ومالك الآخرة، هو المالك الآن والمالك بالأمس والمالك في الغد، وهو مالك على الدوام وملك على الدوام، فكيف قيل: ملك يوم الدين؟ أجاب فريق من أهل العلم على ذلك بما حاصله: أن الدنيا قد ينازع منازع ويدعي لنفسه الملك، كهذا العتل الجبار الذي قال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، أو كالآخر الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، لكن كل هذا ينتهي يوم القيامة، ويقول الله سبحانه وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، فلا منازع آنذاك ينازع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4 - 5]، كما تقدم أن العبد إذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي.(53/2)
تفسير قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين)
قال تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) [الفاتحة:5] قدم المفعول على الفاعل للاختصاص، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، وكما قال أعرابي لرجل حليم عاقل جلس يسبه ويلعنه، والحليم العاقل هادئ وساكن، فقال له الأعرابي الجاهل: إياك أعني -أي: أنا أقصدك أنت بشخصك، لما وجده لا يرد- قال: وعنك أعرض.
وقوله: (نَعْبُدُ) العبادة كما يقول كثير من أهل العلم: هي اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه.
وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] الاستعانة هي طلب العون على العبادة، فلماذا قدم العبادة على الاستعانة؟ نقول: معنى كلمة: (نستعين) أي: نطلب منك العون يا رب، فدخول السين والتاء على الفعل تعني الطلب، ومنه: (نستهديك) أي: نطلب هدايتك، (نستغفرك): نطلب مغفرتك.
فمن أهل العلم من قال: إنها من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]، فالملائكة عطفوا على جبريل، لكن مع الفارق، هذا عطف عام على خاص، وكما قال تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن:68]، فعطف الرمان الذي هو من الفاكهة على الفاكهة من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] ونوح من النبيين، {وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، وكما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [النساء:163]، فهذا وجه من الوجوه.
قالوا: هذا من باب عطف الخاص على العام؛ لبيان أهمية هذا الخاص.
والقول الآخر: أن الاصطلاحات في كتاب الله سبحانه وتعالى قد تتسع معانيها أحياناً وتضيق أحياناً، فمثلاً: اصطلاح البر والتقوى، واصطلاح الإثم والعدوان.
فالبر إذا أفرد في السياق دخل في معناه التقوى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فحمل البر معنى التقوى.
لكن إذا جاء (البر) مع كلمة (التقوى) في سياق واحد، فالبر يحمل على أفعال الخير التي تقرب الشخص من الله، والتقوى تحمل على اتقاء المعاصي التي يرد بها الشخص النار -والعياذ بالله-، فالتقوى تحمل على الاتقاء، والبر يحمل على فعل المعروف، هذا إذا اشتركا في سياق واحد.
وكذلك الإثم والعدوان، فالإثم يطلق على الآثام التي يرتكبها الشخص في حق نفسه، أما العدوان فهو التعدي على الآخرين.
كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ولكن إذا جاء الإثم مفرداً دخل في معناه العدوان.
وكذلك العبادة والاستعانة، فأحياناً تأتي العبادة ويراد بها معنى أخص، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وأحياناً تأتي ويراد بها معنى أعم.
ومن معاني كلمة (عبد) أي: خضع ودان وذل، وتأتي العبادة ومعها المحبة، فعبد الله خاضع لله، وذليل لله مع حبه لله سبحانه وتعالى: فهنا فرق بين العبادة التي تأتي للشخص عن كره، فشخص مثلاً يعبد شخصاً، أي: يخضع له ويذل له ويدين له مع كراهيته، لكن آخر يخضع لشخص ويدين له ويذل له مع محبته، فيقدم أمره فوق كل أمر، ويجعل نهيه مقدماً على كل نهي.
فالعبادة تتضمن محبته سبحانه وتعالى والخضوع له والانقياد.
إذاً: معنى كلمة عبد: خضع ودان وذل، فقولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: يا رب، نحن نخضع لك، وندين لك، ونتذلل لك، ونقوم بين يديك، ونمتثل أمرك، وننتهي عما نهيتنا عنه، ولا حول لنا عن معاصيك إلا إذا أعنتنا عليها يا رب، فقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: نستعين بك يا رب على عبادتك.
ويتأيد هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فهو خرج من الصلاة لكنه طلب من الله العون على الذكر والشكر وحسن العبادة.
ويدخل في ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88].
ويدخل في هذا أيضاً قول يوسف عليه السلام: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
فالشاهد: أننا أعلنا أننا نعبد الله ولا نعبد غيره، ولكن طلبنا عونه سبحانه وتعالى على عبادته، فهنا اتضح وجه الربط بين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فإذا فهم الشخص هذا المعنى لم يغتر بعبادته لربه، فالذي أعانه على العبادة هو الله سبحانه وتعالى، فكما قال رسولنا: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا.
وكما قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فإذاً كما قال العلماء: إن عبادتنا لربنا نعمة تحتاج إلى شكر منا لمن أسداها إلينا وهو الله سبحانه وتعالى.
فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] كما أسلفنا أن العبادات أحياناً تأتي ومعناها قاصر على أشياء، كما نقول مثلاً: فقه العبادات، ونعني بها فقه الصلاة وفقه الصيام وفقه الزكاة وأبواب الطهارة ونحو ذلك، وأحياناً تأتي عامة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].(53/3)
تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)
بعد هذا التمهيد الذي يؤخذ منه فقه للدعاء، جاء قولنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
فقدمنا الدعاء الذي هو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] بحمد الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
وبالثناء على الله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3].
وبتمجيد الله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
وبسؤال الله العون، ثم بعد ذلك ندعو.(53/4)
معنى الصراط المستقيم
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فسر الصراط المستقيم بأنه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ففسر الصراط المستقيم بالآية التي بعدها.
ومن أهل العلم من قال: إن الصراط المستقيم هو الإسلام، والمعنى كله قريب.
وقد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مستقيماً وخط خطوطاً عن يمينه وعن يساره أو عن شماله، فقال: هذا سبيل الله مستقيماً وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان).(53/5)
أنواع الهداية
قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] (اهدنا) من الهداية ومن الهدية، ومدار النعمة فيها على الإمالة، ومنه أطلق على الهدية هدية؛ لأنها تمال من مال شخص إلى مال شخص آخر، أو تمال من سقف إلى سقف آخر، ومنه: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادى بين رجلين) أي: يتمايل بين رجلين صلى الله عليه وسلم.
فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: مل بقلوبنا إلى الصراط المستقيم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، أي: ملنا بقلوبنا إليك.
والهداية تنقسم إلى قسمين، وكلاهما مراد هاهنا: 1 - هداية دلالة، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
2 - هداية توفيق، ومنها قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: لا توفق من أحببت.
فطلبنا هنا للهداية بقسميها: أن يوجهنا للخير، وأن يميل بقلوبنا إليه، ويوفقنا للعمل به.
وفي الآية الكريمة رد على القدرية الذين يزعمون أن لا قدر وأن الإنسان هو الذي يختار لنفسه ما شاء! فنقول لهم: إذا كان الإنسان يختار لنفسه ما شاء، فلماذا تقولون في كل صلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]؟ ولماذا قال أهل الإيمان: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]؟ ولماذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا؟ فلنسأل الله الهداية.(53/6)
من آداب الدعاء
أخذ العلماء من الآية أدباً من آداب الدعاء، وهو: أنك إذا دعوت ربك سبحانه وتعالى فينبغي أن تقدم بين يدي الدعاء مقدمات، فلا تقل مباشرة: يا رب افعل لي وافعل لي، بل تأدب بآداب الدعاء وإن كان الأخير جائزاً أحياناً، لكن الأكمل أن تقدم آداباً من آداب الدعاء ومقدمات بين يدي الدعاء.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ولم يحمد الله ولم يثنِ عليه، ولم يصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: (إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه).
كذلك في حديث الشفاعة الطويل: (عندما تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة، يبلغ بالناس من الهم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقولون: بمن نستشفع؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم فإنه أبو البشر، خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيأتون إليه، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح) الحديث.
وفي نهايته تنتهي الشفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يشفع: (فأخر لربي ساجداً، فيفتح الله عز وجل عليّ بأنواع المحامد والثناءات لا أحصيها الآن ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه) فسؤاله الشفاعة جاء بعد حمد الله والثناء عليه.
وكذلك في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في دعائه بالليل: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، أو: لا إله غيرك).
فقوله: (اغفر لي ما قدمت وما أخرت) جاء بعد قوله: (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن) إلى آخر الحديث.
وكذلك في صلاة الاستخارة: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب) ثم بعد ذلك يأتي بالدعاء -والركعات حملت حمداً وتسبيحاً وتمجيداً وتهليلاً وتكبيراً-.
فإذا أردت أن تدعو ربك فاحمد الله واثنِ عليه بين يدي الدعاء، ولذلك قال العلماء: إن هناك مناسبة في قول رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير- أن يستجاب لكم)، حيث جاء الدعاء في السجود بعد تعظيم الرب وتمجيده وتسبيحه سبحانه وتعالى في الركوع.
فعلى ذلك عليك أن تنظر إلى كتاب الله وتستخرج منه المقدمات التي تقدم بها دعاءك، وتتوسل بها إلى ربك سبحانه، كما قال زكريا عليه السلام متأدباً بآداب الدعاء: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3] وبدأ يظهر حاله من الانكسار لله: {قَالَ رَبِّ} [مريم:4] أي: يا رب {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم:4] أي: ضعف عظمي، {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] أي: ضعفت قوتي، ونحل جسمي، وشاب شعر رأسي، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] أي: ما أشقيتني أبداً يا رب بالرد والحرمان، فأنت كريم كلما دعوتك أجبت، وكلما سألتك أعطيت، ما تعودت منك المنع، فأنت الكريم.
ثم برر أيضاً مسألته، قائلاً: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} [مريم:5] أي: خفت من أقاربي وبني عمي ألا يقيموا الدين، فليس فيهم فيما أرى رجل من أهل الصلاح يحمل هذا الدين، ويسوس بني إسرائيل: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم:5] وبعد هذه المقدمة كلها يقول: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6].
فجدير بك أن تستنبط آداب الدعاء من كتاب الله ومن سنة رسول الله، وتمهد له تمهيدات، تخرج من بيتك قائلاً: يا رب! خرجت من بيتي ألتمس فضلك ورزقك، تركت أماً عجوزاً كبيرة ووالداً شيخاً كبيراً في حاجة إلى فضلك ورزقك، فيا رب ارزقني برفق هؤلاء الضعفة.
فهذه المقدمات تقربك إلى الله سبحانه، وتحيي قلبك الذي قد علاه الران، هذه المقدمات والاستهلالات بها يستجاب الدعاء بإذن الله، قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ سعد لما رأى لنفسه فضلاً: (ابغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم؟).
فلتظهر حالك من الانكسار لله، كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وكما قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
فقدم مقدمات تثني بها على الله، كما قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ولا تمل من السؤال والدعاء، فالذي يعطي هذا وذاك هو الله سبحانه، لا يشغله كبير عن صغير، ولا جليل عن حقير.(53/7)
تفسير قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم)
قال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] المنعم عليهم فسروا في سورة النساء بقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: بالهداية والتوفيق، وأنعمت عليهم بالهداية كذلك، وأنعمت عليهم بعموم نعمك.
وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] المغضوب عليهم هم اليهود، وقد قال الله سبحانه: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
قال: ((وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة:7] وهم النصارى، وقد فسر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال بعض العلماء: لماذا اختص اليهود بأنهم مغضوب عليهم والنصارى بأنهم ضلال؟ فأجيب على ذلك: أن الغضب جاء على اليهود؛ لكونهم عرفوا الحق وجحدوه، كما اتضح ذلك من مجيئهم إلى رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام برجل وامرأة منهم قد زنيا، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نجد التحميم يا محمد -أي: نصبغ وجه هذا بالسواد ووجه هذه بالسواد- ويركبا على حمار ويطاف بهما في الأسواق، فقال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون هذا الحد في كتابكم؟ قالوا: أما وقد ناشدتنا فإن حد الزنا في كتابنا الرجم).
وفيهم نزل قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وهم اليهود حين جحدوا حكم الله، أي: أنكروه وأظهروا خلافه وأوهموا الناس أن هذا هو حكم الله.
وهنا تفهم الآية من خلال هذا المعنى، وهذا الذي اختاره الطبري رحمه الله تعالى في نهاية بحثه فيمن جحد، فاليهود أظهروا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام أن حد الزنا في كتابهم هو التحميم، وأخفوا عليه أن حد الزنا في كتابهم هو الرجم، فجحدوا حكم الله الذي هو الرجم وأظهروا حكماً آخر وهو التحميم.
فلذلك قال الطبري إنها فيمن جحد وإن الذي حكم بغير ما أنزل الله بلا جحود ولا استحلال فيخرج من هذا الحكم، وله تفصيل سيأتي.
فالشاهد: أن اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم يعرفون الحق ويجحدونه.
وأيضاً قد يطلق عليهم أنهم ضالون كذلك، فهم مغضوب عليهم وضالون، لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الغضب، والنصارى وإن كانوا مغضوباً عليهم لكنهم اختصوا بالنصيب الأكبر من الضلال.
ففسر الرسول عليه الصلاة والسلام المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى.
ومن هنا يظهر ما تقدمت الإشارة إليه في سورة النور: لماذا اختصت المرأة في الملاعنة قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]؟
و
الجواب
لأنها تعرف وتوقن أكثر من زوجها ما الذي حدث؟ هل كانت مفاخذة أو كان هناك إيلاج، فهي أمور تتقنها أكثر من زوجها، فإذا أقسمت فإنها تقسم على علم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد جاء زيد بن عمرو بن نفيل كما في صحيح البخاري لما خرج يبحث عن دين غير دين أهل الشرك الذي يتعبد به أهل مكة، فذهب إلى اليهود، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال: أعوذ بالله من غضب الله، والله لا أحمل من غضب الله شيئاً أبداً، أنا فررت من غضب الله، فهل عندكم شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام؛ فانطلق إلى النصارى، وقال: إني أريد أن أدخل في دينكم، قالوا: لن تدخل في ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: أعوذ بالله من لعنة الله، والله لا أحمل منها شيئاً أبداً، فهل هناك شيء آخر؟ قالوا: لا، إلا أن تكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ملة إبراهيم عليه السلام، فخرج وقال: اللهم إني أشهدك أني على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وقد كان يفتخر الشعراء من أحفاده، فيقولون: وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم يوأد فكان ينقذ الموءودة، ويقول لأهل الجاهلية: أعطوني إياها أنا أكفيكموها، وإذا كبرت فأردتم أن تأخذوها فخذوها.(53/8)
حكم قول: (آمين)
آمين كائنة بعد الفاتحة فليست من الفاتحة إجماعاً.
أما معنى كلمة: آمين، فجمهور المفسرين على أن (آمين) معناها: اللهم استجب، فهي دعاء.(53/9)
الرد على الشيعة في الجهر بآمين
أما قول الشيعة البعداء البغضاء: إن من قال: (آمين) فقد بطلت صلاته، فهذا جهل وتخريف منهم وبعد عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وسندهم في ذلك أن هذا كلام ليس من القرآن، والكلام في الصلاة يبطلها؛ هكذا قالوا وزعموا، وهو قول باطل وزعم أبطل، فإن الدعاء مشروع في الصلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم حث على الدعاء في السجود، وهو عليه الصلاة والسلام دعا في صلاته وقال: (اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين)، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، وحث على ذلك بقوله: (إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين).(53/10)
وقت قول المأموم: آمين
متى يقول المأموم: آمين: هل بعد أن يقولها الإمام، أم يقولها مع الإمام؟ ففريق قال: يقولها إذا انتهى الإمام من مقولته؛ لأن الإمام إنما جعل ليؤتم به؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أمن فأمنوا) وهذا الحديث صحيح، لكن الاستدلال به ليس بصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرواية الأخرى: (إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فقولوا: آمين) فهي ثلاث موافقات كما قال العلماء: موافقة الإمام مع المأمومين مع الملائكة، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) هذا والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(53/11)
الجهر بآمين بعد قراءة الفاتحة
هل نجهر بها أو نسر؟ من العلماء من قال: إن الدعاء في العموم يسر به؛ لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، فرأى هذا الفريق أن (آمين) يسر بها.
ورأى آخرون من أهل العلم: أنه يجهر بها وإن كانت دعاء؛ لأن من صور الدعاء ما يجهر به أحياناً، ومن الأدلة التي استدل بها على الجهر بآمين، قول أبي هريرة: (لا تفتني بآمين)، وصلى ابن الزبير صلاة فجهر فيها هو ومن معه بآمين حتى إن للمسجد ضجة، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على التأمين والسلام) فلا تحسدنا على شيء خاص وسري وإنما تحسدنا على شيء ظاهر.(53/12)