ورغم هذا الزلل العظيم في حياته إلا أن للرجل مناقب عظيمة في الإسلام مناقب عظيمة في الذود عن الإسلام فقد تغنى بأمجاد المسلمين أكثر من مدح النبي صلى الله عليه وسلم نشر الحكمة والخلق العظيم على لسانه رغم أنه لم يكن متقيدا به كما ينبغي كما بينا في حرصه على شرب الخمر المهم في حياته جملة أنه عاش حياة الثراء حتى مات ولو قدر أن أحد يكتب له أنه حصل من الدنيا على مايشتهيه لقلنا إن شوقي واحدا من أولئك بلاريب .
ـ أما حافظ: كان على النقيض فإنه وإن ذاع شعره وكان له صيته في عالم الأدب إلا أنه في عالم الحياة الاجتماعية لم يكن ذلك الثري ولا ذلك الغني وإنما تقلد مناصب ليست بتلك المناصب التي يمكن أن يتقلدها إنسان في شهرة حافظ لكنها مناصب كان يعمل في البريد عمل في وزارة المعارف سلفا من الزمن لكنه لم يكن ذلك الرجل الوجيه اجتماعيا في ثراء كما كان شوقي على النقيض منه ولذلك انعكس هذا على شعره فجاء في شعره تجربة حياة البؤساء وأنة حياة الضعفاء نقول : الناس اليوم يحفظون لشوقي ولحافظ الكثير من الأبيات ....مثلا
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباَ طيب الأعراق
هذا من غرر قول حافظ ، ويحفظون :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** إذ همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
هذا لشوقي ،ويحفظون :
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
هذا لشوقي
ـ مما وفق فيه شوقي ووفق فيه حافظ مايلي :
وفق شوقي في المدائح النبوية في مدحه للنبي صلى الله عليه وسلم أيما توفيق وتوفيقه ناجم من أمرين:(48/68)
1/ أن بعض الشعراء ـ عياذا بالله ـ لم يكن في شعره على كثرته وشهرته مدح للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا كالشاعر العربي الكبير المتنبي ليس في ديوان المتنبي كله بيت شعر واحد يمدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو المحروم الخاسر أما شوقي فقد وفق بأنه نظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كونه عليه السلام جامعا لكثير من الأخلاق الكريمة بل لكل الأخلاق يقول شوقي في مدح النبي:
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ***ولو أن ما ملكت يداك الشاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما ***جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة *** وإذا ابتنيت فدونك الأبناء
وإذا حميت الماء لم يورد ولو *** أن القياصر والملوك ظماء
انصفت أهل الفقر من أهل الغنى*** فالكل في دين الإله سواء
لو إنسانا تخير ملة ***ما اختار إلا دينك الفقراء
فهو نظر إلى الشخصية النبوية على أنها شخصية متكاملة في البيت كزوج كوالد كجد كقائد كسياسي كرحيم كصاحب كمخالط لغيره هذه النظرة قلما أن يبصر إليها أحد فبصر الله جل وعلا شوقي إليها ثم صاغها شوقي شعرا سلساً كما سمعت وله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته البائية :
سلوا قلبي غداة سلا و ثابا***لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب ***فهل ترك الجمال له صوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم ***هما الواهي الذي ثكل الشبابا
وكنت إذا سألت القلب يوما****تولى الدمع عن قلبي الجوابا
أبا الزهراء قد جاوزت قدري *** بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان*** إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدراً ***فلما مدحتك اجتزت السحابا
ـ أين الخلل في شوقي ؟(48/69)
الخلل في شوقي أنه أحيانا يجامل زيادة عن الحد فيقع ـ والعياذ بالله ـ في هفوة شرعية لا تغتفر لا تغتفر ليس المعنى أن الله لا يغفرها لكن معنى أنها عظيمة جدا والمقصود والدليل على ذلك مثلا كان مصطفى كامل زعيم حزب التحرير في مصر خطيبا مفوها ومات وهو في الثالثة والثلاثين تقريبا إن لم أنسى في مرض السرطان فكان معارضا للقصر وكان شوقي له علاقة وطيدة بمصطفى هذا كما كان له علاقة بالقصر لأنه ولد فيه كما بينا ويقول شوقي:
أأخون إسماعيل في أبنائه ** وقد ولدت بدار إسماعيل
أي أنه وفي للقصر ففي الفترة التي كان فيها مصطفى حيا لم يكن شوقي يستطيع أن يواليه في شعره فلما مات مصطفى كامل أراد شوقي أن يعوضه مابخل به من شعره في حياته وهو يعلم أنه مادام قد مات فإن القائمين على القصر لن يغضبوا من شوقي عندما يرثي مصطفى كامل لكنه عندما رثاه تجاوز فيه الحد تجاوز في الحد الشرعي يقول في نونية له يرثي فيها مصطفى كامل أذكر الأبيات التي لا يجوز الاتفاق على صحة معناها يقول :
لو كان في الذكر الحكيم بقية *** لم تأتي بعد رفيت في القرآن
وقد نقول أنه قال لو لكن ختم القصيدة بقوله:
مصر الأسيفه ريفها وصعيدها *** قبر أبر على عظامك حاني
أقسمت أنك في التراب طهارة *** ملك يهاب سؤاله الملكان
وهذا لا يقبل لا من شوقي ولا من غيره وإنما ذكرته لأننا هنا في لقاء علمي نذكر فيه مالرجل وما على الرجل كذلك غلب شوقي في حادثة جنشواي وهي حادثة وقعت في إحدى قرى مصر فأعدم الإنجليز من خلالها بعض إخواننا المصريين فثارت ثورة المصريين الأحرار في كل أنحاء مصر نجم عن ذلك أن الناس كانوا يترقبوا من شوقي أن يقول شعرا ينصربه أهل قرية جنشواي لكن شوقي خذلهم خوفا من القصر ثم بعد عام تذكرهم فقال :
يا جنشوايا على رباك سلام ** ذهبت بأنس ربوعك الأيام
مرت عليهم في اللحود أهلة ** ومضى عليهم في القيود العام(48/70)
فبعد عام كامل تذكرهم في حين أن حافظ كان..... الوطني لديه أقوى فقال قصائد وقت الحادثة مما جعل بعض المصريين يفضلونه على شوقي على الأقل في هذا الجانب .
ـ أما حافظ : فقد قلنا إنه لم يكن يعيش حياة الثراء التي عاشها شوقي نجم عن ذلك أن شعره كان مغلفا بالمأساة وزار مصر وزار سوريا وزار لبنان هو مصري أصلا لكنه لم يلقى من الحفاوة مالقيه شوقي وقلنا إن هذا شيء إن جاء شيء من عند الله وإن كان قد احتظى به بعض الشيء من غرر قصائد حافظ العمرية وهي قصيدة في مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه تتجاوز المائتين بيت وهذه القصيدة أقيم حفل خاص بها في مبنى وزارة المعارف في القاهرة فألقى حافظ قصيدته وكان الذي يغلب به حافظ على شوقي أن شوقي كان خجولا لم ينقل أبدا أنه كان يقرأ شعره بنفسه في حين أن حافظ كان يقول شعره بنفسه في حين أن حافظ كان يقول شعره بنفسه وكان لديه قدرة في الإلقاء لا توجد عند شوقي هذه القصيدة طويلة جدا أولها:
حسب القوافي و حسبي حين ألقيها **** أني إلى ساحة الفاروق أهديها
لاهم هب لي بيانا أستعين به **** على قضاء حقوق نام قاضيها
ـ سنقف عند حادثتين تكلم فيهما حافظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه:
الحادثة الأولى: مايقوله المؤرخون من أن رسول كسرى دخل المدينة يبحث عن عمر ومعه رسالة من كسرى فأخذ يسأل أين أمير المؤمنين؟ أين أمير المؤمنين ؟ وهو يعتقد أن الأمر في المدينة كالأمر في فارس لكن الناس كان يقولون له مر من هنا لقيناه قبل قليل كأني رأيته فأخذ يهول في عيني رسول كسرى هيبة عمر تدريجيا حتى قيل له قد مر خلف هذه الناحية فاتجه فإذا بعمر قد اضطجع تحت ظل شجرة نائما في بردة خرقة فقال الكلمة المشهورة " حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر " وكل واحده معلقه بالثانية من الوازم فلما قالها هذه المقولة قالها رسول كسرى نثرا قال حافظ:(48/71)
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا *** بين الرعية عطلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها *** سورا من الجند والأحراس تحميها
في جبة تحت ظل الدوح مشتملا***بجبة كاد طول العهد يبليها
فهان في عينه ما كان يكبره *** من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلا *** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم *** فنمت نوم قرير العين هانيها
فانظر تلك الكلمات الموجزات التي قالها رسول كسرى كيف أحالها حافظ بفصاحته إلى رونق الشعر
ثم إن المؤرخين كذلك يقولون وكتاب التراجم يقولون إن أمير المؤمنين رضي الله عنه تجول في المدينة ذات يوم ووجد حائطا خلف الحائط فتية من الأنصار يتنابون الراح الراح يعني الخمر يشربونها فتسور السور ودخل عليهم يفاجئهم بصنيعهم قالوا يا أمير المؤمنين هب أننا جئنا بواحدة وهي شرب الخمر لكنك أتيت بثلاث تجسست علينا والله يقول { وَلَا تَجَسَّسُوا } أتيت علينا من أعلى السور والله يقول { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } لم تستأذن والله يقول { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا }أي تستأذنوا { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } أكبرهم عمر أكبر جوابهم لأنه مستند إلى القرآن ورجع، قال حافظ يصور هذا الموقف التاريخي:
وفتية ولعوا بالراح فانتبذوا***لهم مكانا وجدوا في تعاطيها
ظهرت حائطهم لما علمت بهم ***والليل معتكر الأرجاء ساجيها
قالوا مكانك قد جئنا بواحدة***وجئتنا بثلاث لا تباليها
فأت البيوت من الأبواب يا عمر***فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت***بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم ***لما رأيت كتاب الله يمليها
وما أنفت وإن كانوا على حرج ***من أن يحجك بالآيات عاصيها(48/72)
فكما صنع في الأولى حافظ صنع في الثانية في أنه جعل ذلك الموقف التاريخي الذي نقرأه سردا جعله قمة في البيان وروعة في السلسبيل يسمعها الإنسان فيطرب لها ويتغنى بها لأنها تحكي أمجادا إسلامية هي عمرية أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وليس هذا فقط مما يستجاب لحافظ فله أبيات غرر منها الآن الناس عندما يستقطبون أجنبيا غربيا يفضلونه على أبناء جلدته سواء في عالم الثقافة أو في عالم الرياضة أو في أي فن وهذا مايسمى عند الناس اليوم عقدة الأجنبي هذه تنبه لها حافظ من قديم قال يصف هذه الأمة اعتبر أنها عقد عربية:
أمة قد بث في ساعدها *** بغضها الأهل وحب الغرباء
ـ نعود لشوقي والحديث أدبي ذو شجون نقول :
إن شوقي له أبيات في معان جلية فقد رفع شأن المعلم كما رفع الله أهل العلم فقال شوقي رحمه الله في لامية شهيرة عورضت بعد ذلك كما سيأتي قال:
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا .*.*.*. كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
==
أرأيت أعظم أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي .*.*.*. يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
==
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ .*.*.*. عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
==
أرسلت بالتوراة موسى مرشدا.*.*.*.وابن البتول فعلم الإنجيلا
=
وفجرت ينبوع البيان محمدا.*.*.*.فتق الحديث وناول التنزيلا
ومنها بيته الشهير:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليلا
فأصاب في الدنيا الحكيمة منهما*** وبحسن تربية الزمان بديلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له***أماً تخلت أوأباً مشغولا
فهذا من غرر قول شوقي وهذه القصيدة كما هو معلوم عارضها شاعر فلسطيني اسمه إبراهيم طوقان كان قد جرب التعليم أضحى معلما ورأى أن مايقوله شوقي شئ من المثاليات لا يصدق في عالم الواقع فقال:
شوقي يقول – وما درى بمصيبتي *** قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلا *** من كان للنشء الصغار خليلا؟(48/73)
ويكاد يقتلني الأمير بقوله *** كاد المعلم أن يكون رسولا!
حسب المعلم غمة وكآبةً *** مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا
مئة على مئة إذا هي صلحت *** وجد العمى نحو العيون سبيلا
ثم يذكر كيف أنه يقيم الطالب ويشرح له :
وأكاد أبعث سيبويه من الجلا *** وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى ـ وقال كلمة نابية أنزه نفسي وعنكم عنها فأرى كذا فأرى أنزه نفسي وسمعكم عنها يقدح فيه ويقول إنه يرى بعد ذلك من رفع المضاف والمفعولا يقصد أنه خرج عن نطاق النحويين خرج عن نطاق سلامة اللسان من اللحن بعد أن كان قد بين له مااستطاع سبيلا إلى ذلك ثم قال يختم أبياته
اقعد فديتك هل يكون مبجلا *** من كان للنشء الصغار خليلا؟
يا من يريد الانتحار وجدته *** إن المعلم لا يعيش طويلا
المقصود من هذه الجولة الأدبية العلمية معكم معشر الكرام أن نبين أمورا على وجه الإجمال:
الله جل وعلا يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويقبض ويبسط والإنسان العاقل إذا رأى أن الله من على أقرانه بشيء لم يمن به عليه لا يحسدهم على ماآتاهم الله من فضله وإنما يسأل الله من فضله وأن يعلم الإنسان ماكتب له سيأتيه على ضعفه ومالم يكتب له لن يناله ولو بقوته وأحيانا يجعل الله فيما تظنه منفعة يجعله الله مهلكة وما نظنه مهلكة يجعله الله جل وعلا منفعة فالأمور جملة من هذه الحادثة وغيرها تدبر في الملكوت الأعلى ولا تدبر في الملكوت الأرض.
وأختم بقصة بما أننا في عالم الأدب في عالم السياسة:(48/74)
المنتخبات الأمريكية تقوم في بعض جزئياتها على أن المرشحين للرياسة بينهما مناظرة كما هو معروف أول ماوقعت هذه المناظرة وقعت بين نيكسن ومرشح آخر المرشح الآخر اجتهد في أن يرتاح كثيرا قبل المناظرة في حين أن نيكسن كان يبحث عن أعماله يسعى هنا وهناك حتى قبل المناظرة بقليل فقبل المحاضرة بقليل حتى يظهر على الشاشات وكانت تلك أول مرة ينقل فيها انتخابات الرياسة الأمريكية في التلفاز فوضع بعض المساحيق على وجه حتى يبدو في صورة أحسن لكن لأنه لم يصنع ذلك إلا قبل التصوير بقليل وكان نيكسن أفصح من المعارض له من المرشح الآخر كانت الكاميرا تذيب المساحيق التي على وجهه فلما تذيب يظنه الناس أنه مرتبك وأن هذا عرق فانقلب الذي كان يعتقد أنه نفع انقلب إلى مضره والناس الذي كانوا يشاهدون المناظرة أو يستمعون إليها في المذياع اختلفوا اختلافا جذريا فالذين يستمعون في المذياع لا يرون تلك المساحيق التي تذاب على وجه الرئيس الأمريكي وكانوا يسمعون فقط فصاحته وبيانه وعجز خصمه فأسهموا في ترشيحه لكن أكثر الناس كانوا يرونها في التلفاز فنسوا فصاحته مع ما يرونه من تسلط الكاميرا عليه وذوبان ذلك المساحيق على وجه فما فعله قبل أيام ومساحيق حتى ينتصر كان هو سبب خسارته وهذه جزئيه بسيطة تجعلنا نؤمن أن الإنسان يتدبر ما حوله يتفكر فيما يكون عندما يقرأ كتب التراجم في عالم الأدب في عالم الفكر في عالم الشرع في أي عالم كان من حولنا نقرأه ونحن نتدبره أن ثمة رب لا رب غيره ولا إله سواه هو وحده ولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا بلغنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين،،،
القمران " الشمس والقمر "
..................(48/75)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له لارب غيره ولا إله سواه عم الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذا هو اللقاء السابع من برنامجنا مجمع البحرين وموضوع حلقة هذا اليوم" القمران " الشمس والقمر" وهذا الإطلاق من باب التغليب وقد مر معنا ذكر الأبوين على آدم وحواء واليوم يمر تغليب آخر وهو قول العرب القمران الشمس والقمر ذلك أنهم يرون أن الشمس اسم مؤنث والقمر اسم مذكر والذكر خير من الأنثى ولذلك قالوا القمران يقصدون بها الشمس والقمر ومن هذا قول المتنبي في مدح باطنه الهجاء :
عدوك مذموم بكل لسان **** ولو كان من أعدائك القمران
والحديث عن الشمس والقمر حديث عن آيتين من آيات الله جل وعلا وآيات الله تبارك وتعالى في الكون كثيرة لا تعد ولا تحصى بل كل ما في الكون يشهد له جل وعلا بأنه الرب الذي لا رب غيره والإله الذي لا شريك معه :
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** على ورق هي الذهب السبيك
على كثب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك(48/76)
فكل ما في الكون يدل عليه جل وعلا وقد قال ربنا سبحانه {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فهذا تنبيه من رب العالمين وتذكير من إله الأولين وإله الآخرين إلى عباده أجمعين أن ينظروا في آياته لتدلهم على خالقها جل وعلا ولا ريب أن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق والإبداع في الصنعة تدل على عظمة الصانع لا رب غيره ولا شريك معه ولا إله سواه نقول أيها الأخوة القمران الشمس والقمر ذكرا في كتاب الله جل وعلا وسندرسها في هذا اللقاء المبارك عبر التاريخ الإنساني وعبر الكتاب وعبر السنة وعبر تاريخنا الأدبي العربي الثقافي عبر هذه الأربعة سندرس مجتمعين القمران " الشمس والقمر " فنقول وبالله التوفيق الله تبارك وتعالى سمى سورة في القرآن باسم القمر وسمى سورة أخرى باسم الشمس وسورة القمر من حيث عدد الآيات أطول من سورة الشمس كذلك هي الأولى في ترتيب المصحف ولعل هذا يوافق جنوح العرب إلى تفضيل القمر على الشمس من حيث الإطلاق أما إذا شرعنا للتاريخ الإنساني قبل أن نفيء إلى كلام الله لأن كلام الله نزل على نبينا صلى الله عليه وسلم ونحن نريد أن نشرع في ذكر أنباء الأمم السابقة قبل النبوة فالذي يظهر أن كثيرا من الأمم والشعوب والقبائل عبدت الشمس أو عبدت القمر فأما عبادتها للشمس فقد نص الله عليها في قوم سبأ فإن الله جل وعلا ذكر الهدهد وأنه مر على مملكة سبأ وأنه نقل الأمر الذي شاهده إلى سليمان قائلا {إ ِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ *و َجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ } هذا واحد كما أنه جاء في حكاية إبراهيم عليه السلام في معرض ذكره للحجج في عبدة الكواكب ومحاولة إقناعهم بأن الله لا رب(48/77)
غيره ولا شريك معه فإن الله جل وعلا يقول {و َكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ }أظلم واستتر{رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } هذا كله تمهيد وإلا إبراهيم يرى النجوم والكواكب والشمس والقمر دائما لكنه أراد أن يتخذ الأسلوب الأمثل في الدعوة إلى الله قال الله {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * َلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *إ ِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } هذه الآيات وأضرابها في القرآن تدل على أن ثمة أمم عبدت الشمس وعبدت القمر من دون الله تبارك وتعالى إذلالاً منهم ولهذا قال الله جل وعلا { لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } هذه الشمس والقمر في التاريخ الإنساني السابق(48/78)
ـ أما في القرآن الكريم: فقد ذكرنا أن الله جل وعلا سمى سورتين من كتابه باسم الشمس والقمر لكن الأمر أكبر من ذلك أوسع من ذلك في كتاب الله الله يقول { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } فهذا يدل على أن آية الليل وهي القمر ممحوة وآية النهار وهي الشمس مبصرة أي ظاهرة بينه ولذلك القمر جعله الله منازل أما الشمس فلم يجعلها الله في ذلك الشأن أو في ذلك الأمر فإن لها هيئه واحده لا تتغير نعم قد تتغير أبراجها صيفا وشتاء لكنها لا تمر بالمراحل المنازل التي يمر بها القمر وهذا ظاهر في كل من يرى ذلك عيانا قاعدة هنا نقولها قبل الاستطراد وهي أن الشمس في الغالب يستخدم الحساب فيها للمنافع فالزارع مثلا يزرعون وفق الأبراج الشمسية أما القمر كما قال الإمام ابن العربي رحمه الله فإنما هو للمناسك يقول الله { َيسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } فالناس يصومون بناء على رؤية هلال رمضان ويفطرون بناء على رؤية هلال شوال ويحجون ويحددون الموقف في عرفة بناء على رؤية ذي الحجة وهكذا في كل شهر فالقمر جعله الله جل وعلا جعل منازله للمناسك والشمس كما بينا للمنافغ الدنيوية كالزرع والحصاد وأضراب ذلك كذلك يتعلق بالشمس والليل عموما وليس القمر يتعلق بهما قضية الصلوات ربنا يقول {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } هذا وقت الزوال أي صلاة الظهر { إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهذا منتهاه وآخره بعد النصف منه وهو وقت الظهر والعصر والمغرب والعشاء ولأن أوقات الظهر والعصر والمغرب والعشاء أوقات متوالية ليس بينهن فاصل الآخر يستلمها من الأول والأول يسلمها للآخر لكن الفجر جاء منقطعا وأفرده الله قال(48/79)
سبحانه { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } أكثر من ذلك تفصيلا ما قاله الله جل وعلا قال تبارك وتعالى يبين أكثر من ذلك في بيان قضية علاقة الصلوات بالشمس قال سبحانه وتعالى { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } في هذا تندرج الصلوات الخمس كلها أما بيان ذلك فإن الله جل وعلا يقول {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} قبل طلوع الشمس صلاة الفجر وقبل غروبها صلاة العصر{وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } هذه صلاة العشاء { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } للنهار طرفان الطرف الأول وقت الزوال وهو وقت الظهر والطرف الآخر وقت الغروب وقت سقوطها وغيابها فهذا هو وقت المغرب فاندرجت بذلك الصلوات الخمس كلها على هذا نقول إن الله جل وعلا لما ذكر الشمس والقمر هنا ذكرهما كآيتين ثم بين جل وعلا أن هذه الآيات يكون لها بعض الاعتراض الجزئي ثم اعتراض كلي الاعتراض الجزئي ممهد لقيام الساعة والاعتراض الكلي هو قيام الساعة فالاعتراض الجزئي يقول الله جل وعلا عنه {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً } فسر العلماء قول الله جل وعلا {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ } فسروه بطلوع الشمس من مغربها هذه الشمس يقول الله عنها {و َالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فالشمس تجري يراها الناس كل يوم تخرج لهم تطلع عليهم من المشرق ثم تفيء إلى المغرب لكنه سيأتي عليها يوم ممهد لقيام الساعة وليس هو اليوم الذي تقوم فيه الساعة بل ذلك من آياتها الكبرى وهو أن تطلع الشمس من مغربها وبيان ذلك أن الشمس كما جاء في حديث أبي ذر تسجد كل يوم تحت العرش(48/80)
وتستأذن ربها فيأذن لها جل وعلا حتى يأتي ذلك اليوم تستأذن ربها فلا يأذن العلي الكبير لها فتعود من حيث غربت فإذا رآها الناس قد ظهرت من المغرب آمنوا جميعا لكن ذلك الإيمان لا ينفع صاحبه كما بين الله جل وعلا في كتابه هذا اختلال جزئي فيه هناك اختلال أقل منه وهو الكسوف والخسوف والكسوف ارتبط بالشمس والخسوف ارتبط بالقمر في لغة الناس لكن من حيث اللغة يجوز أن يقال خسف القمر وكسف القمر ويجوز أن يقال كسفت الشمس وخسفت الشمس كلا الأمرين يجوز أن يقال على هذا وعلى هذا لكن الذي يعنينا هنا أن خسوف الشمس أو كسوف القمر إنما هو آية يخوف الله جل وعلا بها عباده وفي العصر الحديث توصل كثير من الفلكين إلى معرفة وقت الكسوف وهذا أمر في الغالب لا يمكن إنكاره فهو يحددونه ويقع في الغالب كما قالوا بإذن الله ومشيئته.(48/81)
وقد يقول قائل إن هذا يهون الأمر ولا يجوز أن نوافقهم عليه وليس هذا بحق لأن المؤمن الحق له فيما يراه في مايحدث على الطبيعة له في ذلك نظرتان نظرة شرعية ونظرة قدرية فالنظرة القدرية يرى أن الأمور تجري بقدر الله سواء أطلع الله بعض خلقه عليها أو لم يطلع الله بعض خلقه عليها فمثلا نحن اليوم في يوم الأربعاء غدا إن شاء الله تعالى سيكون خميس فكل مافيه تعرف بعد الأربعاء سيكون خميس وبعد الخميس جمعة هذا أمر قدري في السنن في التتبع عرفه الناس ولا يحتاج إلى تبيين فهم لكن المهم جدا ماهو المناط الشرعي ماهو الأمر الشرعي المتعلق بحدوث الأمر هذا الذي يجنح إليه قلوب المؤمنين الصادقين يكسف القمر فيقول بعض الناس وقع ماقاله الفلكيون فيقول آخرون نعم لكنهم يفرون إلى المساجد امتثالا لأمر الله وشرعه والنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي جعله الله تبارك وتعالى أمنة لهذه الأمة ويقول الله جل وعلا في حقه صلوات الله وسلامه عليه { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } لما كسفت الشمس في أيام حياته عليه السلام ولم تكسف في أيام حياته إلا مرة واحدة خرج عليه الصلاة والسلام يجر رداءه فزعا خائفا وجلا وهو نبي الأمة ورأس الملة فنودي في الناس الصلاة جامعة وصلى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الكسوف جهر بالقراءة لأنها نافلة يجمع لها النافلة إذا كانت يجمع لها يجهر فيها بالقراءة سواء كانت في النهار أو كانت في الليل كصلاة العيدين وصلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف والكسوف الذي يعنينا أنه صلى الله عليه وسلم خطب في الناس آنذاك خطبة عظيمة بليغة ومما قاله فيها صلى الله عليه وسلم:" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " وأكثر ماحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم آنذاك في خطبة حذر من الفواحش وارتكابها فقال صلوات الله وسلامه عليه في تلك الخطبة " إنه لا أحد أغير من(48/82)
الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته" هكذا قال صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا عظيم تخويفه للأمة وبيان للطرائق الشرعية في التعامل مع الأحداث التي تقع من حولنا إن قلت أو كثرت كيف يتعامل معها الإنسان تعاملا شرعيا ويربط قلبه بالرب تبارك وتعالى سليمان بن عبدالملك الخليفة الأموي المعروف خرج في الطائف ذات يوم ومعه عمر بن عبدالعزيز قبل خلافة عمر بالطبع لأن سليمان متقدم عليه في الخلافة ولما خرج سويا إذا برعد الطائف وكلنا يعرفه أي رعد الطائف فيعرف صوته وجلادته فكأن سليمان أصابته رعدة فقال له عمر رحمة الله تعالى يا أمير المؤمنين:" هذا صوت رحمته فكيف إذا بصوت عذابه " فربط الأمر هذه الظاهرة القدرية الكونية ربطها بالرب تبارك وتعالى وهذا هو المنهج الحق في تعاملنا مع الأحداث من حولنا نعود للشمس والقمر في كلام الرب جل وعلا جعل الله جل وعلا الشمس والقمر كذلك آيتين لبعض خلقه فالقمر كان انطلاقه وانشقاقه شاهد على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ *و َإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرّ } كذلك أن القرشيين الأوائل كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن مسعود طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية أن يريهم انشقاق القمر فأشار إلى القمر صلوات الله وسلامه عليه فانفلق القمر فلقتين يراها أهل مكة بأعينهم وقال بعضهم لبعض سحركم محمد لكن أسألوا الركبان الغادين من مواطن بعيدة على اعتبار أنه لن يصل سحر نبينا إليهم إن كان مايقوله سحرا على السراج فلما أقبل السفار أقبل الركبان من كل حدب وصوب أخذوا يسألونهم فأجابوا بأن نعم رأينا انشقاق القمر وهذه آية له صلوات الله وسلامه عليه أما الشمس فقد جعل الله جل وعلا حبسها تأخير غروبها جعله آية لنبيه يوشع بن نون ويوشع بن نون هو نبي ساس بني إسرائيل بعد موسى عليه الصلاة والسلام فيوشع(48/83)
هذا كان مع موسى عليه السلام في رحلته إلى الخضر وهو الذي قال الله عنه {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } فهو فتى موسى فلما كتب الله على بني إسرائيل أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ومات هارون ثم مات موسى وهم في أرض التيه بعد أن قضت الأربعون سنة دخل بهم يوشع بن نون الأرض المقدسة في خلال حربه بقي عن الشمس أن تغرب وقت غير قليل وهو يريد أن ينهي الحرب وكان ذلك في يوم الجمعة وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا فقال يوشع يخاطب الشمس أما وإنك مأمورة أي أن تجري وأنا مأمور أي أن أقاتل أعداء الله اللهم احبسها علي فأخر الله جل وعلا الشمس حبسها تبارك وتعالى أن تغيب فالشمس مهما عظمت والقمر مهما اكتمل مخلوقان من مخلوقات الله جل وعلا وحبست الشمس حتى انتهى يوشع عليه السلام من حربه وانتصر على أعدائه ودخل بقومه الأرض المقدسة ولهذا يقال للشمس أحيانا يا أخت يوشع وهذا عبارة توجد كثيرا عند بعض الشعراء كما نجدها عند شوقي في قصيدة نونية في اعتباره أن الشمس في رأيه مطلعه على أحداث الكون وهي خير شاهد على ماوقع من حوادث التاريخ وأنباء الزمان وأخبار الأولين ونتف العابرين فقال رحمه الله :
قفي يا أخت يوشع خبرينا *** أحاديث القرون الغابرينا
..........................***.............................
إلى غير ذلك من قصيدة رائعة مالم يكن فيها إلا قوله :
فإن لم نوقى النقص حتى ***نطالب بالكمال الأولينا
لكفاه لكن الذي يعنينا أنها أصبحت الشمس تنادى أحيانا في عالم الأدب ياأخت يوشع أما الشمس في تاريخنا الأدبي الثقافي العربي فإنها تضرب مثلا بالشيء العظيم بالشيء الكامل ولذلك تقال للملوك أحيانا كما نجده في شعر النابغة واعتذاراته إلى بعض ملوك المناذرة يقول :
ألم تر أن الله أعطاك صورة *** ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبدوا منهن كوكب(48/84)
فعبر بالشمس عن الملك وهذا من جيد قوله أما القمر فأصبح في الغالب مضرب جمال لكنهم لا يقصدون فقط به جمال المرأة وإنما كل شيء حسن يشبهونه بالقمر يقول جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه "خرجت في ليلة أضحيان ـ أي ليلة القمر فيها مكتمل ـ فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه بردة حمراء فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إليه صلوات الله وسلامه عليه ثم قال جابر فلهو عندي أبهى من القمر" بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم وكما يقال فيه هذا الجمال الرجولي متوقد كجمال نبينا صلى الله عليه وسلم يقال في غيره يقول عمر بن أبي ربيعة من باب الغزل العبسي يمدح نفسه:
قالت الكبرى أتعرف نفسك *** قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها*** قد عرفناه وهل يخفى القمر
ومما ذكروه كذلك في نفس الباب من باب ذكر لمحاسن النساء موسومة بأنها قريبة من جمال القمر عند اكتماله غير عمر بن معد :
لمّا رأيت نساءنا *** يفحصن بالمعزاء شدّا
وبدت لميس كأنّها *** بدر السماء إذا تبدّى
نازلت كبشهم ولم *** أرى من نزال الكبش بدّا
هم ينذرون دمي وأنـ *** ــذر إن لقيت بأن أشدّا
كم من أخ لي صالح *** بوّأته بيديّ لحدا
إلى آخر ماقال والذي يعنينا منها قوله بدر السماء إذا تبدى تشبيها بالمرأة التي يحبها هذان الشمس والقمر في تراثنا الإنساني في تاريخنا العربي في كلام الله جل وعلا وفي كلام رسوله صلوات الله وسلامه عليه .
ـ مالذي يعنينا من هذا كله؟(48/85)
الذي نريد أن نفقهه جدا أن نعلم أن الشمس والقمر مخلوقان مسيران وينبغي للإنسان أن يعلم أن الله جل وعلا في خلقه حكم لا يعقلها إلا العالمون كذلك أن الشيء إذا أفتتن الناس به كثيرا رده الله جل وعلا إلى ضعفه وإلى حقيقته ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم { أحق على الله ماارتفع شيء إلا وضعه } فالشمس والقمر كما أنه مضرب جمال مضرب كمال فإنه يعرض عليهما الكسوف ويعرض عليهما الخسوف حتى يبين للناس أنهما مخلوقان ضعيفان.
ـ أين مآلهما؟
هذا كله يقع في الآخرة وهذا هو الاعتراض الكلي ثم قد قدمنا الاعتراض الجزئي وهو قضية الخسوف والكسوف نأتي الآن إلى الاعتراض الكلي وهو ذهاب نورهما الله يقول { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ويقول{ وَخَسَفَ الْقَمَرُ } وهذا الكون كله بما فيه يضطرب ولهذا بعض العلماء يقول هناك نفخة اسمها نفخة الفزع هذه النفخة سواء إن قلنا بوجود نفخة الفزع أو لم نقل به فإنه قبل أن يحشر العباد قبل أن تقوم الساعة يضطرب الكون فإذا اضطرب ناجت بحاره وخرجت سباعه وكورت شمسه وانتثرت نجومه وخسف قمره تمهيد لأمر عظيم ثم بعد ذلك تقوم الساعة فيحشر العباد ويقوم الأشهاد بين يدي ربهم تبارك وتعالى فلا ينفع نفسا هناك إلا ما كانت قد قدمت من قبل من عمل صالح وبر صادق تقرب به إلى الرب تبارك وتعالى يوم إن امتثلت كلماته وانتفعت بآياته وأسلمت نفسها لطاعته جعلنا الله وإياكم من أهل ذلك كله هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
" موسى وهارون عليهما السلام "
بسم الله الرحمن الرحيم(48/86)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسموات وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنا وذكرا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
فهذا العقد الخامس من برنامجنا مجمع البحرين والعلمان اللذان سندرسهما هذا اليوم أو هذه الليلة في هذا المنتدى أو الملتقى هما نبيا الله " موسى وهارون " صلوات الله وسلامه عليهما .الأنبياء جم غفير يتجاوزن المائة ألف والرسل منهم ثلاثمائة و بضعة عشر رسولا.
والفرق بين النبي والرسول:
أن النبي يسوس الناس على شريعة من قبله من الرسل أما الرسول فإنه يأتي بشرع جديد ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم { إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء } تسوسهم الأنبياء بعد وفاة نبي الله موسى إلى أن أرسل الله وبعث عيسى بن مريم عليه السلام وموسى وهارون أخوان شقيقان لأم وأب واحد هارون بن عمران وموسى بن عمران.
الفرق بينهما من جوانب متعددة:(48/87)
الأول: هارون أكبر من موسى وأسبق موتا منه أي هارون تقدم مولده وتقدمت وفاته ولد هارون في العام الذي كان فرعون لا يقتل فيه وولد موسى في العام الذي فيه قتل ونجاه الله جل وعلا في قصة معروفة لن نقف عندها طويلا لأنها شهيرة وقلنا إن هذا درس علمي محض موسى وهارون الأصل أن الله نبأ موسى وبعثه ثم إن موسى سأل الله تبارك وتعالى أن يجعل من أخيه هارون نبيا فاستجاب الله جل وعلا دعاءه ولهذا نعت الله موسى بقوله { وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } بعثهم الله جل وعلا إلى فرعون وملاءه { اذْهَبَاِ إِلَى فِرْعَوْنَ } وقال جل وعلا { فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِين } هذان موسى وهارون هارون كان أفصح وموسى كان هو الأصل المخاطب به النبوة وهو أشد سكينة وحزما من أخيه وأعلم وأفضل جملة لأن الله جل وعلا فضل النبيين بعضهم على بعض وموسى معدود من ألو العزم من الرسل وكان هارون محببا في قومه أي في بني إسرائيل كانوا يحبونه جدا وقد جاء في رواية الإسراء والمعراج { فوجدت رجلا تكاد تلامس لحيته سرته قلت من هذا ياجبريل؟ قال : هذا المحبب في قومه هارون بن عمران }
نعود إلى خبرهما ولنا معهما وقفات عليهما السلام:(48/88)
الوقفة الأولى : وقفة عقدية ونحن في هذه الوقفات لا نلتزم بالأحداث التاريخية وإنما نلتزم بالوقفات بحسب أهميتها في الغالب فأولى الوقفات وقفة عقدية وهي أن الله جل وعلا وعد موسى ثلاثين ليلة فخرج من بني إسرائيل وقد جعل أخاه هارون عليهم { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } وخرج إلى الميقات الميقات كان زمانيا ومكانيا مكانيا كان عند جبل الطور فواعدناه جانب الطور الأيمن في الوادي المقدس أما زمانيا فكان أول الأمر ثلاثين يوما ثم مالبث أن أضحى أربعين بعد أن زاده الله عشرا وجمهور المفسرين يقولون إن الثلاثين يوما كانت شهر ذي القعدة والعشرة أيام كانت الأوائل من ذي الحجة فيصبح بهذا أن الله كلم موسى الميقات الزماني يكون في يوم النحر يوم الحج الأكبر جاء موسى للميقات المكاني الله جل وعلا يقول : { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ولا ريب أن تكليم الله لموسى فضل عظيم من الله لهذا العبد الصالح وهذا النبي المفضل وقد نص الله على هذا التكليم بقوله : { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } والله يقول هنا : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } فأضحى عليه السلام في معقل منيب ومنزل شريف ودرجة عالية فرغب وطمعت نفسه في مقام أعلى ألا هو مقام الرؤيا {قََالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } فكان الجواب الإلهي الرباني { لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ *قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } هنا نقف الوقفة العقدية قال الله جل وعلا لموسى { لَن تَرَانِي } استمسك بلن هذه النافية في كلام العرب استمسك بها(48/89)
المعتزلة فقالوا إن الله جل وعلا لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة وممن حمل هذا اللواء من المشهورين منهم جار الله الزمخشري في تفسيره الكشاف ونحن نجيب عن هذا الإشكال جوابا لغويا وجوابا شرعيا وكلاهما يدخل في عامة الجواب والرد عليه.
أما الجواب اللغوي: فإن حجتهم قول الله جل وعلا{ لَن تَرَانِي }فقالوا إن لن تعني النفي المؤبد في الدنيا والآخرة وهذا غير صحيح لأن الله جل وعلا ذكر اليهود وقال عنهم إنهم لا يتمنون الموت قال سبحانه { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } ومع ذلك أخبر الله أن أهل النار واليهود قطعا منهم يتمنون الموت يوم القيامة فقال جل وعلا :{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ } وجه الدلالة يستفاد من هذا وجه الدلالة أن ليس كل نفي في الدنيا يشمل النفي في الآخرة هذا الجواب من حيث اللغة.
أما الجواب من حيث الأدلة النقلية: فإن القرآن والسنة كليهما دل على أن الله جل وعلا يراه عباده المؤمنون يوم القيامة بل إن الله جل وعلا لا تطيب الدنيا إلا بذكره ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه ولا تطيب الجنة إلا برؤيته ـ بلغنا الله وإياكم رؤيته في مقام كريم ـ فنقول دل الكتاب والسنة على أن الله جل وعلا يراه عباده المتقون يوم القيامة قال الله في القرآن{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ }من النضرة جمال المحيا وطلاقته وبشاشته ونوره{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}بالظاء أخت الطاء أي تنظر إلى الله.
والفعل نظر إما أن يتعدى بحرف وإما أن لا يتعدى بحرف تفصيل ذلك على التالي:(48/90)
نظر من غير أن تتعدى تصبح بمعنى تهمل ومنه قول الله جل وعلا على لسان المنافقين { انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي تمهلوا علينا هذا من غير تعديها من غير حرف فإذا تعدت بحرف تتعدى بفي وتتعدى بإلى فإذا تعدت بحرف الجر في فتعني التدبر تكلم أخاك في الهاتف تعرض عليه قضية ثم تقول له انظر في هذا الأمر الذي حدثتك فيه فهو لم يرى شيئا ولكن تقصد بقولك انظر في هذا الأمر أي تدبر فيه تفكر حتى أسمع منك جوابا ومنه قول الله جل وعلا { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي أولم يتدبروا في ملكوت السموات والأرض وتتعدى أي نظر بحرف الجر إلى فإذا تعدت بحرف الجر إلى عمت الرؤية البصرية نظرت إلى الشجرة نظرت إلى الدار نظرت أخي ومنه قول الله جل وعلا هنا في سورة القيامة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وهذا جلي واضح ومن السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث صهيب عند مسلم في الصحيح :" إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ألم يجرنا من النار فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى" فالإنسان أحيانا يكون في سفر فيغلب عليه الشوق إلى من يحب أمه أبوه زوجته أبناؤه جيرانه ابنته ابنه الوحيد ابنته الوحيدة هذا يشعر به كل إنسان جبل على الفطرة وعندما يعود فيمتع ناظره بمن يحب كم يجد في نفسه من الفرحة فكيف إذا متع العبد المؤمن برؤية وجه الله تبارك وتعالى العلي الأعلى الذي لا اسم أعظم من اسمه ولا وجه أكرم من وجه ولا عطية أسخى وأحسن وأكمل من عطيته جل وعلا ـ بلغنا الله وإياكم ....(48/91)
ـ فنعود فنقول هذا الوقفة العقدية الأولى وقال عليه الصلاة والسلام كذلك :{ إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون البدر لا تضامون في رؤيته } هذه الوقفة العقدية .
الوقفة الثانية وقفة تربوية: فإن الله جل وعلا كلم موسى أول الأمر قبل هذا التكليم عندما نبئ موسى فموسى عليه السلام خرج من أرض مدين بعد أن مكث فيها عشر سنين ثم أصابه شدة البرد فكان يبحث عن شيء جذوة نار يصطلي منها أهله فرأى من بعيد نورا في شجرة من نار تتوقد خاف على أهله قال { امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } ولفظ قول الله جل وعلا { آنَسْتُ نَاراً } كأن أهله لم يأنسوا تلك النار كأنه شيء مخصوص به موسى { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } ثم قدم إلى تلك النار عندها كلمه الله جل وعلا موسى دخل الوادي المقدس وهو لا يدري أنه واد مقدس ولا يدري أن تلك النور ليكلم الله جل وعلا عندها.
فكيف ربى الله جل وعلا هذا النبي الكريم؟
هناك توحيدان توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية توحيد الربوبية عندما نعرفه نعرفه بأننا نؤمن أن الله هو الخالق الرازق أوجدنا من العدم ربانا بالنعم هكذا نعرف الله توحيد الألوهية نعرفه بأن الله لا يعبد غيره لا يجوز أن نعبد أحدا غير الله فالله تبارك وتعالى عندما قدم موسى عليه خاطبه بلفظ الربوبية ليشعره بالأمان والاطمئنان والسكينة وأنه في رعاية رب العالمين جل جلاله قال ياموسى
{(48/92)
إ نِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } فمهد الله جل وعلا قبل التكليف وضع السكينة في قلب موسى عليه السلام وكذلك يجب علينا ونحن ندعوا الناس أن نرزقهم أول الأمر الأمن والأمان قبل أن ندعوهم لا ندعوهم بالرصاص مباشرة وإنما يدعى الناس بأن يوقرون بأن يوقر ويرزقون الإطمئنان حتى يكونون على استعداد لأن يسمعوا كلام الله الله جل وعلا يقول لنبيه { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } أعطيه الأمان { حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } لأن الله يسمع كلام الله وهو خائف لن يتقبله لن يجد له مردودا في نفسه { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ }فنقول إن الله جل وعلا ربي موسى قال : { إ نِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } فلما شعر موسى بالإطمئنان أوحى الله إليه بقوله { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } كلمه الله {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } لأن جاء دور التكليف {إ ِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وهل خلق الثقلان إلا ليعبدا الرحمن وحده دون سواه {إ ِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ثم رزقه الترغيب والترهيب {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } هذا نوع من تربية الله لأولياءه ثم مهد الله له كيف سيواجه فرعون كيف سيواجه موسى فرعون حتى لا يفاجئ موسى بالآيات بين يدي فرعون سأله الله جل وعلا {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } والله يعلم أنها عصا وموسى يعرف عصاه جيدا فليست شيئا خارجا عنه غريبا لتوه آتاه { قَالَ هِيَ عَصَايَ } ووجد لذة خطاب رب العالمين {(48/93)
أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } ولو استطاع أن يزيد لفعل أمره الله أن يلقيها ثم أمره أن يأخذها بعد أن طمأنه وأخبره ثم أمره أن يضع يده ثم أخرجها لتكون بيضاء من غير سوء كل ذلك تمهيد حتى يقف موسى بين يدي فرعون آمنا مطمئنا وكان موسى عظيم الأدب مع الله كان فيه لتغة في لسانه عقدة تجعله غير فصيح ولذلك فرعون يسخر منه ويقول { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } فقال{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } فانظر إلى أدب الأنبياء هو لايريد أن يفخر على الناس بفصاحته وبلاغته يريد تنفكك العقدة ولو فكة واحدة حلة واحدة حتى يستطيع أن يبلغ بها رسالة الله لايريد أن يوسم بأنه خطيب العصر وبليغ الدنيا وإنما أراد القدر الذي يبلغ رسالة الله يقول العلماء إن الأنبياء لا يسألون ربهم إلا على قدر الحاجة نقول موسى عليه السلام هنا تشفع موسى لهارون {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } أي في أمر النبوة والرسالة { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } انظر للعبد الصالح هو يطلب الوزير لا ليستعين به على أمور الدنيا المحضة وإنما حتى يستعين به على ذكر الله { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } فلما قال موسى ماقال جاء الجواب الرباني والرحمة الإلهية لهذا العبد الصالح ولأخيه قال الله { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } فليست هذه بأول منن الله جل وعلا على نبي الله موسى وأخيه هارون.
نعود في الحديث بوقفة أخرى وهي وقفة إيمانية:(48/94)
الوقفة الإيمانية: تقول إن الإنسان ينبغي عليه أن يحسن الظن برب العالمين جل جلاله فإذا أحسن الظن برب العالمين جل جلاله بلغ مراده إذا كتب الله جل وعلا له ذلك وموسى عليه السلام خرج من أرض مصر أول الأمر طريدا شريدا ليس له شيء إلا حسن ظنه بربه { قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ } فهداه أي هداية ودله أي دلالة وأعطاه أي عطية مكث عشر سنين في أرض مدين أجيرا على عفة فرجه وإشباع بطنه ثم نبئ وأرسل جاء للنار كل همه جذوة من النار يقول لأهله{ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } فيصطلون بها من برد الشتاء فيعود وهو كليم الله الواحد القهار يعود وقد نبئ وأرسل يعود وقد أضحى واحدا من أولوا العزم من الرسل صلوات الله وسلامه عليه فانظر حسن الظن بالله جل وعلا ماذا يورث لكن أين الذين يحسنون الظن بربهم جل وعلا ـ جعلنا الله وإياكم منهم ـ كذلك لما خرج موسى من أرض مصر مع قومه ووصل إلى البحر قال له قومه قال الله { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فإذا به على عدد فرق بني إسرائيل { فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } قال الله { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وأزلفنا ثم الآخرين * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } فنجاه الله جل وعلا البحر له علاقة عجيبة بموسى عليه السلام فأم موسى تأمر أن تلقي ابنها في البحر وهو مظنة هلاك فيجعل الله جل وعلا هذا البحر الذي هو مظنة هلاك يجعله لموسى منفعة وموصلا إلى الرحمة والبحر في خروجه من أرض مصر الذي هو مظنة ضياع وشتات وغرق يجعله الله جل وعلا يبسا ممهدا لعبده موسى أن يمر عليه هو والملأ من بني إسرائيل.(48/95)
نقف كذلك في قضيه موسى وهارون مع قضيه سياسيه: وهي أن موسى عليه السلام قلنا إن الله واعده ثلاثين يوما فأخبر موسى بني إسرائيل بهذا وجعل عليهم أخاه هارون ثم زاده الله جل علا عشرا هذه العشر زاده الله جل وعلا إياها من غير أن يعلم بنو إسرائيل فجاء السامري فأشاع في بني إسرائيل أن موسى ضل الطريق إلى ربه فاتخذ لهم عجلا جسدا له خوار وأمرهم بأن يعبدوه وقال عياذا بالله ـــ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ــ { فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } هذه الفترة تشعبت بنو إسرائيل مابين مصدق ومكذب ومؤمن بالسامري وباق على إيمانه فحلف هارون عليه السلام غاية الحلف على أن يجمع الناس على أن لا تشتت كلمتهم على أن لا يفرق جمعهم على أن يكونوا صفا واحدا فلما جاء موسى عليه السلام غاضبا من أخيه قال هارون يعتذر لأخيه { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } فمن أعظم دلائل سعي الإنسان في الإصلاح أن يحرص على جمع الكلمة ولم الشتات وتآلف القلوب وتوحد الرأي لأن الأمة لا يمكن أن يدخل عليها أعدائها من طريق هو أعظم من شتاتها وفرقتها واختلاف كلمتها وضياع أمرها ـ عياذا بالله جل وعلا من ذلك كله.(48/96)
تبقى قضايا أخر في قضية موسى وهارون قد لا تصل إلى هذه الأربع لكن نأخذها كأطراف حديث منها: أن موسى عليه السلام في تلك الفترة خطب في بني إسرائيل فكأنه وجلت القلوب وذرفت العيون من قوله فوقع فيما يقع في النفس أحيانا في بعض الأنفس أحيانا ولو عارضا فتبعه رجل من بني إسرائيل فقال له يانبي الله أفي الأرض أحد أعلم منك فنسي موسى أن يرد العلم إلى الله قال لا فعاتبه ربه أنه لم يرد العلم إليه وأخبره الله أن ثمة عبدا لي هو أعلم منك قال ياربي وأين لي به فأوحى الله جل وعلا إليه أمره أن يأخذ حوتا في.... فحيث مافقد الحوت فثم هو أي ثم العبد الصالح فأخذ موسى مكتلا وحوتا وغلاما يخدمه وفي هذا رد لبعض الصوفية الذين يقولون يجب أن تهمل الأسباب هذا نبي الله وأحد أولي العزم من الرسل يرحل في سفر يأخذ غداه ويأخذ أمارة من الحوت المكتل ويأخذ فتى يخدمه وصل إلى مجمع البحرين هناك فقد موسى الحوت في نومه ونسي الغلام الفتى أن يخبر نبي الله ثم مضيا لما مضيا أصاب موسى الجوع فطلب من فتاه الطعام لكن الفتى تذكر عند طلب الطعام تذكر الحوت الذي فقد وليس الحوت هو الطعام قال{ آتِنَا غَدَاءنَا }؟
{(48/97)
َقالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } أي نسيت أن أخبرك بأمر الحوت ولم ينسى الغداء { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} فهنا تفطن موسى{ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } وبأسلوب رحيم لم يعتب على فتاه ولم يوبخه ولم يلومه قال الله { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } وجد رجلا ....(48/98)
فوقف موسى عليه يسأله قال السلام عليك فقال الخضر وأنا بأرضك السلام من أنت قال أنا موسى قال موسى بن عمران قال نعم موسى بن عمران ثم مضى الأمر المعروف من صحبة موسى عليه السلام للخضر في رحلة عجيبة غريبة أرجوا أن أوفق في أن نخصص لها حلقة لعل يكون عنوانها " موسى والخضر " الذي يعنينا في هذا المقام كيف أن نبي الله دعا بأن يطلب العلم عندما علم أن ثمة عبد هو أعلم منه كما وقع لموسى عليه السلام في أرض التيه أنه قتل أحد بني إسرائيل رجلا ولم يعترف فكانوا أمروا بقتل البقرة ورأوا عند خروجهم من البحر قوما يعبدون شجرة فطلبوا من موسى آلهة مثل تلك الآلهة هذه أحداث التي جاءت في القرآن كلها جاءت في الأربعين سنة التي قضاها بنوا إسرائيل في أرض التيه عندما رفضوا أن يدخلوا المدينة التي كتب الله لكم وهي الآن مسماة بأريحا قال الله جل وعلا {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} لكنهم أبوا رغم أنه لم يكن بينهم وبينها إلا كثيب أحمر لكنهم قوم ليس فيهم من الخير إلا القليل كما أخبر جل وعلا فامتنعوا عن القتال مع نبيهم وأخيه مما كتب الله عليهم أنهم يتيهون في الأرض أربعين سنة وقالوا لنبيه فلا تأس على القوم الكافرين أو قال {فلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } المقصود أنهم مكثوا أربعين سنة حتى دخل بهم أريحا بعد موسى وهارون نبي الله يوشع بن نون وسيكون لنا لقاء عنوانه الشمس والقمر نتحدث فيه عن نبي الله يوشع بن نون لارتباطه بالشمس صلوات الله وسلامه عليه.
ختاما معشر الأحبة:
هذا ماتهيأ إيراده وتيسر إعداده والله المستعان وعليه البلاغ نفعنا الله وإياكم فيما نقول وعلمنا ماينفعنا وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة وبركاته،،
" الأمين والمأمون "
بسم الله الرحمن الرحيم(48/99)
الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعل سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فهذا بحمد الله سادس لقاءاتنا عبر برنامجنا مجمع البحرين هذا البرنامج الذي يعنى به شخصيات ذوات أعلام معروفة بمعنى أنه نذكر علمين إذا ذكر أحدهما استدعي الآخر والعلمان اللذان سندرس شخصيتهما هذا اللقاء هما " الأمين والمأمون " الخليفتان العباسيان المعروفان بداية نقول الملك بالذات جعل الله جل وعلا له أسباب تختلف عن غيرها ولهذا قال الرب تبارك وتعالى{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والأمة الإسلامية كانت أول أمرها تحت لواء نبينا صلى الله عليه وسلم ثم لما قبض صلوات الله وسلامه عليه اجتمع المسلمون الأعيان منهم الأوس والخزرج وكبار المهاجرين في سقيفة بني ساعده مكان في المدينة معروف إلى اليوم اجتمعوا فيه نجم عن هذا الاجتماع اختيار الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه خليفة للمسلمين فبويع في السقيفة البيعة الأولى ثم بويع رضي الله عنه وأرضاه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة العامة من سائر الناس فكان الصديق أول خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ساس أمرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن يقال لنبي عليه الصلاة والسلام إلا بخطاب النبوة يانبي الله يارسول الله فلم يكن ملكا ولم يقال له ياخليفة لأنه أصلا لا أحد قبله في الملك بالنسبة لهذه الأمة فكان ينادي يانبي الله يارسول الله فلما جاء الصديق أضحى الناس ينادونه ياخليفة رسول الله ثم لما دنا الموت من أبي بكر(48/100)
رضي الله عنه وشعر به كتب كتابا أوصى فيه بالخلافة من بعده لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومما جاء في هذا الكتاب أنه قال:" هذا ماعهد فيه عبدالله أبوبكر بن أبي قحافة إلى المسلمين من بعده فإني قد وليت عليكم عمر فاسمعوا له وأطيعوا ثم ذكر بعض ظنونه في عمر قال في آخر الخطاب فإن بدل أو غير فلا علم لي بالغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" فجاء عمر رضي الله عنه فكأن الناس استثقلوا أن يقولوا ياخليفة خليفة رسول الله فيها مد بعض الشيء فيها طول فجاء رجل ذات يوم من الغزو من الجهاد معه كتاب أو نحو فقال أين أمير المؤمنين أين أمير المؤمنين فأعجب الناس بهذا القول فأضحوا من ذلك الوقت ينادونه بأمير المؤمنين فأضحى كل من يخلف وله الولاية العظمى في المسلمين ينادى بأمير المؤمنين فمضى الأربعة الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين بعد ذلك أسست دولة بني أمية ثم أعقبتها دولة بني العباس ثم هكذا حتى استمرت الخلافة الإسلامية تضعف حينا تقوى أحيانا تكون الخلافة العظمى يجتمع عليها أكثر كلمة المسلمين كلهم أكثر أقطارهم بعضها لكن اسم الخلافة لم يذهب لم ينتهي أصبح مهما كان هناك والي يقال له خليفة حتى ألغاها الزعيم التركي المعروف كمال أتاتورك عام 1924م كان كمال أتاتورك قبل أن يلغي الخلافة بقليل قد انتصر في حرب البلقان قاد الجيش التركي على......فانتصر فرح المسلمون وظن أكثر أهل الأقطار والأمصار أن المسلمين سيعود إليهم شيء من مجدهم الذي كان ضائعا بعض الشيء آنذاك فقال شوقي يمدح كمال أتاتورك على اعتباره أنه قائد مسلم قال :
الله أكبر كم في الفتح من عجب *** ياخالد الترك جدد خالد العرب
لكن أعواما قليلة مرت أو أقل وإذا بكمال هذا المحتفى به ينقلب على الأمة فيلغي الخلافة نشوة الفرح ألغيت الخلافة وذهب اسمها ورسمها ولم يبقى منها شيء قال شوقي:
عادت أغاني العرس رجع نواح*** ونعيت بين معالم الأفراح(48/101)
كفنت في ليل الزفاف بثوبه *** ودفنت عند تبلج الإصباح
حسب أتى طول البيان دونه *** قد طاح بين عشية وصباحي
هذا على وجه الإجمال مايمكن أن يقال في أمر الخلافة من الخلفاء الذين مكن الله لهم في الأرض الأمين والمأمون.
ولماذا نتكلم فقط عن الأمين والمأمون ؟
أولا : لأنها لموافقة فكرة البرنامج أصلا لأنه إذا ذكر الأمين يذكر المأمون وهما كلاهما ابنان لهارون الرشيد الخليفة العباسي المعروف وهارون أبلى بلاء حسنا وإن كانت له هفوات لكن ثمة أمور تقع بأمر الله وأولى الفوائد في سيرة الأمين والمأمون أن أقدار الله جل وعلا غالبة أراد هارون أن لا يفترق أبناؤه من بعده فوضع كتابا عهده فيه قسم فيه الأقاليم إلى ثلاث أقسام جعل الأمين وليا للعهد وأعطاه بعض الأقطار كتب له بعض الأقطار ثم جعل للمأمون ثم جعل لأخيهم الثالث وسماه باسم آخر أظنه المؤتمن الشاهد من ذلك كله بهذا التقسيم خرج هارون رغم وفرة عقله عن إطار العقل في تنظيم الناس مما كان ذلك سببا الخصومة بين أبنائه من بعده وكتب بهذا كتابا وأشهد عليه العلماء وقيل إنه علقه على الكعبة كان من أبناء هارون المعتصم الخليفة العباسي المعروف كان الثاني في الترتيب من أبناء هارون ونشأ غير محب للعلم فهو لا يجيد القراءة ولا الكتابة فلم يكتب له هارون أي أمر أو أي شأن ذا بال في ذلك الكتاب ظنا منه أن الملك لنا يصل إليه وقبل أن نتحدث عن الأمين والمأمون نقول إن الملك وصل للمعتصم بقدر الله بل إنه لم يأتي خليفة عباسي من بعد المعتصم إلا وهو من ذريته فكل من حكموا إلا أن أسقطت الخلافة على أيدي التتار من العباسيين العراقيين إلا وهي من ذرية المعتصم فانظر مالذي أراده أبوه ومالذي أراده الله جل وعلا فبطل أمر الوالد ونفذ أمر الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لارب غيره ولا إله سواه نعود للأمين والمأمون الأمين أمه عربية والمأمون أمه فارسية الأمين أمه زبيده عاشت ترقب ابنها وهو خليفة في حين أن(48/102)
المأمون ماتت أمه وهو صغير في نفاسه وهي مراجل الفارسية زبيدة أثرت في المأمون بكونها عربية في أن يجعل ولاية العهد للأمين رغم أنه حسب ذكر أكثر المؤرخين أصغر من أخيه المأمون وكان المأمون أعظم أهلا للملك من أخيه الأمين وهو أكبر سنا لكن نحاها عنه قليلا هارون رغبة في رضاء بني هاشم العرب وإرضاء أمه أم الأمين وهي زبيدة مكث الأمين يحكم لكنه لم يكن رجلا أهلا للملك الملك هذا شيء من الله ثمة أناس خلقوا للملك إما في وزرائهم أو في حشمهم أو في خدمهم أو في قوادهم بطريقة تفكيرهم وثمة إنسان لا يعبأ بالملك يعبث يلهوا ينشغل عنه كان الأمين من أولئك القوم حتى إنه في اليوم الذي أسقطت فيه خلافته ودخل طاهر الخزاعي قائد المأمون إلى بغداد واحتل قصر الخلافة أين كان الأمين كان الأمين يقولون كان يصيد السمك على نهر دجلة ومعه غلام له يقال له كوثر لا يفارقه فجاءه الرجل أحد حشمه أحد خدمه يخبره تكاد الخلافة تسقط يكاد الأمره تذهب عنك أصل الخلافة اختل ماذا يقول ؟ يقول اسكت عني فإن كوثر صاد سمكتين وأنا لم أصد شيئا هكذا كما تقول العامة اليوم الناس في الناس وعائشة في الغنم هذا أمر هو الخطأ في الأمين هذا المنهج هذه الطريقة الفائدة هنا الذي من أجلها سقنا القضية أن الإنسان ينبغي أن يكون عاقلا حازما في الأمر الذي يتقلده لا يعقل أن إنسان يأخذ أموال من الناس دينا ثم يفتح متجرا كبيرا ثم لا يعبأ به ويسلمه إلى محاسبيه وإلى غيره ولا يراقبهم وليس له حسيب دونهم فيضيع ماله تضيع تجارته ينكسر كذلك من تصدر للعلم وفتوى الناس وأعطى هاتفه لزيد وعمرو ليسأل في دين الله هذا ينبغي عليه أن يتفقد المكتبة الإسلامية عشية وضحاها يقرأ ينهل من العلم حتى يكون أهلا لذلك إنسان صدر للإمامة للخطابة يجب أن يراجع قراءاته يجب أن يراجع إطلاعه يجب أن يراجع فقه حتى يصبح أهلا لتلك المسؤولية:
وهل الممالك راحة ومنام(48/103)
لكن من أين يؤتى الناس يؤتى الناس في هذه القضية إذا تنحى الأكابر وتصدر الأصاغر وسيأتي لهذا في تنحي الأكابر وتصدر الأصاغر مزيد تفصيل في درس قادم لكن نقف هنا عند عبث الأمين رغم أنه كان ابن رجل عظيم وأمه عربية لكن انشغاله باللهو والعبث وأمور خارجة عن أبهة الحكم وآلة السلطان وأدوات الملك هي التي جعلت أخاه يسيطر عليه.
المأمون كان أحكم من أخيه وأشد عزيمة وشكيمة وقوة تسلط على أخيه قائدا من جيوشه يقال له طاهر الخزاعي لكن طاهرا تمادى في الأرض قتل الأمين سلب رأسه طاف به في أحياء بغداد فاغتاظ المأمون على طاهر قائده من فعله لأخيه ونسي طاهر أنه لا يعقل أن الأخوين مهما اختلفا لا يمكن أن يحدث بينهما ماينزع عنهما لباس الأخوة فالنفس تحن فطريا الإنسان يحن فطريا إلى أخيه ابن أبيه أو ابن أمه أو إن كان في مرحلة أقوى إن كان ابن أمه أو أبيه فغضب على طاهر مما دفع طاهر أن يفر ويهرب من بغداد ولذلك عيَّر دعبل الخزاعي شاعر عباسي معروف عيَّر المأمون لمطارته لطاهر قال :
إنا من القوم الذين سيوفهم ***قتلت أخاك وبوأتك بمقعد
يعني الخلافة ماوصلت إليك إلا منا بني خزاعة لأن طاهر خزاعي لكن طاهر لم يجني شيئا من ذلك كله والعاقل لا يكون حطبا لغيره يقولون في أخبار التاريخ إن عبدالملك بن مروان لما نافسه ابن الزبير على الخلافة أحدهما في الشام والآخر في الحجاز استقدم رجلا وأشار عليه أن يقتل ابن الزبير لكن الرجل كان ناصحا قال أيها الأمير هب أني قتلت ابن الزبير مالذي سيحدث سيحدث أنك أنت ستتولى الخلافة وابن الزبير سيموت شهيدا لأنني قتلته وأنا ليس لي من الأمر شيء ثم قال
ولست بقاتل رجلا يصلي *** على سلطان آخر من قريش
لهو سلطانه وعلي إثمي *** معاذ الله من جهل وطيش(48/104)
طاهر لم يفقه هذه، الذي يعنينا وصل الأمر إلى المأمون المأمون ثم إنه كان ذا عزيمة قال مفتخرا لما انفرد بالحكم قال : " كان معاوية بعمره وعبدالملك بحجاجه وأنا بنفسي " أراد بقوله كان معاوية بعمرة أن معاوية كان أعظم نصراءه عمرو بن العاص وقد كانت آراء عمرو بن العاص لها الدور الكبير في تثبيت أركان ملك معاوية رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما كما أن الحجاج بن يوسف الأمير المتجبر الأموي المعروف كان له دور كبير في استقرار ملك عبدالملك حتى إن عبدالملك بن مروان لما حضرته الوفاة أوصى ابنه الوليد الذي من بعده أوصاه بالحجاج خيرا وقال إن الحجاج جلده مابين عبيني وهذا منزع عظيم في الإنسان مكان موطن عظيم في الإنسان يقوله الإنسان إذا أحب أحدا يقول أن فلانا جلدة مابين عيني أي لا أصبر عنه لا أقدر أن أتصرف بدونه فلما استوزر الوليد الحجاج وجعله قائدا كما كان عند أبيه قال إن أبي كان يقول إن الحجاج جلدة مابين عينيه فو الله إن الحجاج لجلدة وجهي كله.
أين الخطأ في كلام المأمون ؟
الخطأ في كلام المأمون أنه نسي أن يعتصم بالله على الأقل في عبارته فقال كان معاوية بعمره وكان عبدالملك بحجاجه وأنا بنفسي وليته قال وأنا بالله لو قالها لوفق أعظم توفيق لكن هذه هداية في القول هداية في العمل الله يقول{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } هذا توفيق من الله والبلاء موكل بالمنطق المأمون كان عظيما في نفسه.
وموضع الشاهد في هذا اللقاء:(48/105)
أن الإنسان إذا كان عظيما في نفسه لا يهمه أن يجد عظمته عند من حوله يقولون إن المأمون هذا ذات يوم نادى غلام له في القصر هو أمير المؤمنين ياغلام ياغلام ياغلام حضر الغلام يشتاظ غضبا فقال الغلام منتهرا الخليفة أمير المؤمنين قال كل شيء ياغلام ياغلام ياغلام أليس في القصر أحد غيري ماذا قال المأمون قال كلمة تكتب بماء الذهب وتوزن بماء العينين قال لكن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه وحشمه وإذا ساءت أخلاقه حسنت أخلاق خدمه وحشمه وبيان هذا تفصيلا في حياتنا العامة اليوم تجد بعض الآباء فيه غلظة على أهل بيته سيء بذئ الكلام يغضب لأي شيء هذا الرجل إذا كان بهذه الطريقة وعرف هذا عنه في بيته بين خدمه وبناته مالذي يحصل ؟ يحصل أن أهل البيت تحسن أخلاقهم لا تحسن حبا فيه وإنما تحسن خوفا منه فعندما لو قدر أن فتاة أو فتى في البيت يسكب ماء أو يحدث منه خطأ البيت كله يرتج الأم الخادمات والحشم خوفا من أن يأتي هذا الأب فيخرج قاموسه البذئ لسانيا فلذلك لأنه ساءت أخلاقه تحسن أحوال أهل بيته لكن لو أن هذا الرجل حليم صبور لا يتكلف في كل شيء ولا يعبأ بما يحصل ولا يعني ذلك أنه مفرط لكن المقصود أنه ليس كل شيء يستدعي أن يخرج مافيه غضبه ويجري الكلام البذئ على لسانه مالذي يحصل تسوء أخلاق أهل البيت لايعبأ أن الابن أن يفعل خطأ أو الغلام أن يحدث خطأ حتى لو أحدث خطأ يقول أبي رجل طيب لا يعاقبني تلك العقوبة وهذا مقصود المأمون والمأمون وصل إلى هذه المرحلة من قناعته بنفسه فالعاقل لا يريد من أحد أن يعظمه أو يبجله زيادة عن الحد وأن يقول فيه ماليس فيه وأمثال ذلك من أضراب المدح المتجاوز للحد وإنما يصنع هذا ـ عياذا بالله ـ من أصلا فيه مركب من نقص وشيء من الشعور بعدم الكمال لكن الإنسان دائما ـ جعلنا الله وإياكم منهم ـ إذا كان عظيما في نفسه لا يضره مايقوله الناس فيه يوسف عليه الصلاة والسلام نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله(48/106)
ابن خليل الله ومع ذلك شروه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين وما ضره وضع في السجن مع المجرمين والسراق وماضره لأنه عظيم في نفسه عظيم عند ربه وقد وصل إلى مبتغاه برحمة الله جل وعلا وفضله المقصود من هذا أن المأمون كان ذا علم ودراية وعزيمة وشكيمة أهلته للحكم .
مالذي وقع فيه المأمون عقديا ؟
الذي وقع فيه المأمون عقديا أنه سن للناس سنة ليست من الدين في شيء ألا وهي القول بخلق القرآن وهو أول من تبنى هذه الفكرة ذلك أن وزراء المأمون العلماء المحيطين به كان أكثرهم من فرقة المعتزلة و المعتزلة كما نعلم فرقة ظهرت في أواخر عهد بني أمية واشتد..... في عهد بني العباس وكانت لهم الحظوة في عهد المأمون وعهد المعتصم بالذات فكان لزعمائهم ورؤسائهم ومتكلميهم اليد الطولى في البلاد صحيح أنه كان لهم جهد وافر في الذود عن الدين لا ينكر هذا منصف لكنهم وقعوا في مسائل منها قولهم بخلق القرآن فأقنعوا المأمون بهذا فتن المأمون الناس في عقائدهم وما في صدورهم والعاقل لا يدخل فيما في قلوب الناس لا يلزم الناس بشئ في قلوبهم يكفيك من الناس ظواهرهم أما أن يمتحن الناس بعقائدهم هذا لا يحسن حتى لو فرضنا أن المأمون وهو كذلك كان يعتقد أن ما يقوله صحيح ويتقرب إلى الله جل وعلا به هذه مسألة ومسألة جبر الناس على أن يعتقدوا مانعتقد هذا أمر محال لأن الناس حتى لو أطاعوك في ظاهرهم قد يكونوا لا يطيعونك في سرائرهم:
وقد أجلك من يعصيك مستترا(48/107)
ولهذا قال الله { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } وقال جل وعلا { فَمَن َ شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } لأن هذه الأمور القلبية لاسبيل لأحد أن يجبر أحد عليها ولا مناص من أن يسلم الإنسان للناس في ظواهرهم قدر الإمكان لكن المأمون عفا الله عنا وعنه غفل عن هذا كله وكتب إلى أمراءه وولاته أن يكتبوا له بكل من يعارض بذلك ثم لما أدركته الوفاة ولم يتم له هذا الأمر كتب بهذا إلى المعتصم فتبنى المعتصم للأسف القضية كلها ومعه وزراءه والعلماء المحيطين به من بني أمية هذا يدفعنا إلى أن نقول يحسن لأهل السنة ـ جعلنا الله وإياكم منهم ـ ومن له علم وفهم ودراية بالناس أن يكونوا قريبي من ذوي السلطان أن يكونوا قريبين من ولاة الأمر لأن أي ولي أمر في بلادنا وفي غيرها لا بد له من حاشية لا بد له من بطانة إما ذات خير أو ذات سوء فإذا كان أهل الفضل والصلاح والمشهود لهم بالسنة والعلم والدراية والقول الحق والإنصاف وهداية الناس كانوا قريبين من أصحاب القرار كان في ذلك نفع عظيم للأمة وللناس ينقلب هذا على حياته وقد يلمزهم من يلمزهم ويهمزهم من يهمزهم لكن لاريب المهم أن يكون العائد من ذلك خيرا على عامة الناس وأفاضلهم خيرا على عامة الناس يجنون ثمار قرب العلماء من ولاة أمرهم إذا قدر هذا كان في ذلك الخير العظيم والفضل الكبير هذا جملة مايمكن أن يقال عن الأمين والمأمون لكننا نقول إضافة إلى ماذكرناه أن الأمين والمأمون وقعت في خبر تولي المأمون رواية قد تصح وقد لاتصح لكن نذكرها من باب الاستفادة من قضية أن الإنسان أحيانا يبحث عن شيء يكون ملح في طلب شيء يكون وباله عليه يقولون إن المأمون لما تولى الأمر بعد أخيه وقتله على يد طاهر كما مر معنا دخل على زبيدة أم الأمين فوجدها تتكلم فألح عليها أن تخبره فاعتذرت منه فما زال تلح تلح فقال كنت أقول ألا لعنة الله على الملاحة قال ولما كنت تقولين ألا لعنة الله على الملاحة ألح مرة(48/108)
أخرى فاضطرت إلى أن تخبره قالت إنني كنت أسابق أباك هارون فغلبني فطلب مني أن أطوف القصر على قدم واحدة ففعلت لأنه غلبها في تلك المسابقة ثم سابقته ذات مرة فغلبته فأخذته إلى موضع الطعام أي مطبخ القصر فوجدت مراجل التي هي من أم المأمون وكانت ذميمة الخلقة فقلت له لم أدعك حتى يكون منك الليلة معها مايكون من الرجل مع جواريه فحاول هارون أن يعتذر فألحت عليه من هذه الجارية مراجل القبيحة المنظر ولد المأمون فكان في ولادته ذهاب ملك ابنها طبعا مالذي كانت تقوله ألا لعنة الله على الملاحة فقال المأمون ألا لعنة الله الملاحة لأنه هو الذي ألح على زبيدة حتى تقول هذا الكلام فينجم عنه أن يسمع هذا الخبر السيء عن أمه ختاما معشر الأخوة هذا بعض ماقتطفناه من سيرة الأمين والمأمون راجين من الله جل وعلا أن ينفع بها وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ،،
"الجن والإنس"
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مظل له ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشداً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافا بفضله وإذعاناً لأمره وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح لهفي برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبياً عن أمته اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره و اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
عادة ما يدرس الناس الجني من خلال دخوله في الإنسي وقد أشبع هذا الموضوع بحثاً عبر قراءات و مطويات وكتب كثيرة ولهذا سنضرب عنه الذكر صفحاً في لقاءنا هذا وإنما سنتكلم عن الإنس والجن من خلال الأمور التالية :(48/109)
أولا : بدء خلقهما :يقول الله تعالى في سورة الحجر " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ " فهذا نص قرآني يدل على أن الجان خلقت قبل أن يخلق الله الإنس على هذا يتحرر على أن الجن خلقوا قبل الإنس .
لكن هل عمروا الأرض أو لا ..؟ هذا سؤال عائم لا نستطيع أن نجيب عليه ، لكن هناك شواهد و قرائن ليست منطوقة لكنها مفهومه في أن الجن عمروا الأرض ، ومنها: قول الله تعالى في سورة البقرة على لسان ملائكته لما أخبرهم سبحانه وتعالى أنه سيخلق بشرا قالوا " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ " وقدكثرت أقوال علماء التفسير حول هذه الآية و ثمة قول لهم : أن ذلك القول من الملائكة ناجم عن أن الجن كانت تفسد في الأرض وتسفك الدماء قبل خلق آدم عليه السلام ،وهذا هو مفهوم الآية لا منطوقها وشتان ما بين الإستدلال بالمنطوق و الإستدلال بالمفهوم .
ثانيا : المادة التي خلق منها الجن والإنس ..؟من ناحية المادة التي خلق منها كل من الجن والإنس ، فمن المعلوم أن الجن كما نص الله تعالى خلقهم من نار ، والإنس خلقهم من طين لأنهما يرجعون إلى أبيهم آدم عليه السلام خلق من طين خلق من تراب وإبليس خلق من نار ، هذا من ناحية الإجمال , قال الله على لسان إبليس في سورة الأعراف " قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ " وفي آية أخرى في سورة الإسراء " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً " .
ثالثا : ما هي الهيئة التي خلق عليها كل من الإنس والجن .؟(48/110)
أما الهيئة التي خلق الله تعالى عليها الإنس فهي جميلة ، يقول الله تعالى في سورة التين " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " فالإنسان مكرم في خلقه وهو داخل في عموم قول الله تعالى في سورة الإسراء " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " .
ولهذا قال بعض العلماء كالشافعية مثلاً أن الإنسان لو كانت امرأته في غاية القبح ، ثم قال لها : أنت طالق إن لم تكوني كالقمر ، فلا تطلق المرأة بهذا القول ، لأن الله تعالى يقول " َلقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ " هذا من ناحية الإنس ، أما الجني فإنا لم نراهم قطعاً كما قال الله تعالى في سورة الأعراف " إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ " لكن الجني مستقر في أذهان البشر جميعا أنه قبيح الخِلقة ، وهذا يؤيده ظاهر القرآن ، قال الله تعالى عن شجرة الزقوم في سورة الصافات " طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ " وهذا من أساليب العرب في كلامها ، فالعرب لم تر الشياطين حتى تُشبَه لهم شجرة الزقوم بأن طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، لكن استقر في الأذهان وفي الطباع و في الأنفس عند الناس جميعا أن الجن والشياطين منهم على وجه الخصوص قبيحي الخلقة ، فعاملهم الله تعالى بنفس أساليب كلامهم ، والقرآن الكريم نزل عربيا ، فالجن في الأظهر أنهم غيرُ حسنِ الخلقة ، وقد يُقال أن هذا منصرفٌ لشياطينهم فقط وهذا قول جيد ، لكن لا نستطيع أن نجزم به .(48/111)
رابعا : القدرة التي منحوا إياها ..! أعطى الله تعالى الجن القدرة على التشكل وهذا لم يعطه الله لبني آدم عليه السلام .هذه الزاوية من الحديث تجعلنا نستدعي الحديث عن الملائكة ، فالملائكة يتفقون مع الجن في قضية ألا وهي أننا لا نراهم ، في حين أن الجن والإنس يتفقان في قضية وهي أن كلاهما مكلف ، كذلك الصورة المأخوذة عن الملائكة التي في أذهان الناس أنهم قوم حِسان ولذلك الناس يقولون فلان ملك من الملائكة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أصحابه وهو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يقول في شأنه : " عليه مسحةُ ملك " ، وهذا دلالة على وسامته وقَسامته ، وكذلك صواحب يوسف عليه السلام النسوة قلن لما رأينه انبهرن بجماله " قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ " لذلك استقرّ في الأذهان أن الملائكة رمز للجمال ، كما أن الجن رمز للقبح ، ولهذا مما استطرف في هذا المجال أن الجاحظ الأديب العباسي المعروف جاءته مرة امرأة وهو في السوق ، فقالت إني أريدك في أمر ما ، قال لها أنا بين يديك , قالت اتبعني ، فتبعها حتى وصلا إلى صائغ يبيع الذهب ، فوقفا أمام الصائغ ، فقالت المرأة للصائغ وهي تشير بيدها إلى الجاحظ :مثلُ هذا ؟ثم انصرفت ، فوقف الجاحظ حائرا لا يدري ما الأمر !! فسأل الصائغ ما الأمر ؟ قال : إن هذه المرأة أتتني قبلك وطلبت مني أن أصنع لها خاتماً فُصُه على هيئة عفريت ، فقلت لها : إنني لم أرى العفريت قط ، فاستدعتك وأخبرتك بما سمعت ، وكان الجاحظ قبيح الخلقة . هذا كله من التراث والقران والسنة شواهد تعيننا على أن نرسم صورة قبيحة للشياطين على أن خالق الإثنين واحد سبحانه جل وعلا .(48/112)
خامسا: أيهما أقوى وأقدر .. الجن أم الإنس ..؟ من حيث القدرة على العمل والصناعة الجن أقوى من الإنس ، فهم يفْضلون الإنس من هذه الناحية ، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في أسلوبه يفرّق إذا تكلم عن الجن والإنس في أي حديث يتحدث عنهما ، يقول الله جل وعلا في سورة الإسراء " قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً " ويقول جل وعلا في سورة الرحمن " يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ "فنرى أن الله تعالى قدم الإنس في سورة الإسراء وقدم الجن في آية الرحمن والسبب في هذا : أن آية الإسراء تتحدث عن القدرة البيانية البلاغية وهي أن يؤتى بمثل هذا القرآن ، فقدم لله تعالى الإنس لأنهم أفصح بيانا من الجن ، في حين أن آية الرحمن تتحدث عن القدرة القوية البدنية وهي النفوذ من سلطان السماوات والأرض فقدم الجن على الإنس لأنهم أقدر على ذلك منهم ، ونظير هذا أيضا في القرآن أن الله تعالى لما ذكر سليمان عليه السلام في سورة النمل قال " وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ " فقدم الجن على الإنس في هذه الآية لأن القدرة العسكرية الحربية القتالية لديهم أقوى من الإنس ، ولهذا العرب استقر في طباعها قبل الإسلام أن الجن أقوياء فكانوا يهابونهم ، ومنه قول الله تعالى في سورة الجن على لسان الجن " وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ " يلجأون إليهم خوفاً لعلمهم بقدرة الجن قال الله إكمالاً للآية " فَزَادُوهُمْ رَهَقاً " ومن لجأ إلى الله جل وعلا أوكل الله إليه فلا يصيبه الخوف ولا الضياع ولا الشتات نعوذ بالله من(48/113)
الحرمان والخذلان .نعود للجن لذلك حتى في التراث العربي تجد أن الفرزدق يقول وهو يفتخر على جرير :
أحلامنا تزن الجبالَ رزانة *** و تخالُنا جناً إذا ما نجهلُ
إنا لنضربُ رأسَ كلِ قبيلةٍ *** وأبوك خلف أتانه يتقمّلُ
فالفرزدق يفتخر على جرير عندما يحاربون ويظلمون أنهم يصبحون كالجن في القوة والشدة والبطش .
سادسا: تسميتهم : يقول ابن عبد البر رحمه الله تعالى : أن العرب يسمون الجن حسب التالي :
أولا : الجني الخالص يقولون له جني .
ثانيا : إذا كان مما يعمرون البيوت يسمونهم : عمار جمع عامر .
ثالثا : إذا كان مما يتعرض للصبيان يسمونه أرواح .
رابعا : إذا خبث وتعرض يسمونه شيطان .
خامسا : إذا تمادى وطغى يسمونه عفريت .(48/114)
ما الفرق بين العفريت والشيطان ..؟ الشيطان دل عليه أكثر القرآن لأنه لا يسمى شيطانا إلا إذا كان خبيثا خبثا معنويا ، وقد يطلق على الإنسي حتى إذا خبث شيطان ، ومنه قول الله تعالى في سورة الأنعام " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " .(48/115)
أما عفريت فإنه يدل على القوة والجبروت ويدل على التمرد ومنه قول الله تعالى على لسان سليمان عليه السلام في سورة النمل " قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ " يريد سليمان عليه السلام أن يقع بين يديه عرش بلقيس من أرض اليمن وهو في فلسطين " قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ " ففرق الله جل وعلا بوصفه عفريت من الجن فـ ( من ) هذه بيانية وعفريت دلالة على القوة والأنفة والشكيمة والقدرة على الغلبة وحصول الأمر وهذا كله بأمر الله جل وعلا فالجن مهما طغوا لا يخرجون عن سلطان الله وأعظم الدلائل على هذا القوة التي منحها الله تعالى لهم إلا أنهم لا يستطيعون أن يتشكلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قال " من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي " فهذا الشيطان العفريت الذي يأتي بعرش من مكان إلى مكان في لحظات محدودة يعجز أن يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قلنا أن لهم قدرة على التشكل وهذا يؤيده حديث أبي السائد رحمه الله تعالى عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم وأخرجه الإمام مالك في الموطأ ، وذلك أن أبا السائد وهو من التابعين دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الصحابي المعروف ، فإذا هو يصلي ، ولما كان أبو السائد ينتظر أبو سعيد يفرغ من صلاته إذ سمع حركة في عراجين البيت ، فنظر فإذا هي حية عظيمة ، فهمَّ أن يقتلها ، فأشار إليه أبو سعيد وهو فصلاته أن مكانك ، فتريث أبو السائد رحمه الله إجابة لتلك الإشارة فلما فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيد أبي السائد وأخرجه من الدار ، وأشار إلى دار أخرى فقال له : أرأيت تلك الدار ..؟(48/116)
فإنها كانت دارا لفتى منا معشر الأنصار ، وكنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالخندق ، وكان الفتى حديث عهد بعرس ، فاستأذن الفتى النبيَ صلى الله عليه وسلم أنصاف النهار أن يأتي أهله ،
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأذن له وذات مرة قال له : " خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك مكر بني يهود " ، فأخذ سلاحه وقدم على داره ، فوجد عروسه على باب الدار ، فأخذته الغيرة وهم أن يطعنها بالرمح ، فقالت له : أكفُف عليك رمحك وادخل الدار ، فلما دخل الدار ، وجد حية عظيمة ملتوية على فراشه ، فطعنها فاضطربت عليه ، فمات الاثنان ، الحية والفتى ، قال أبو سعيد : فلا يُدرى أيهما أسبق موتا ، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن بالمدينة إخوانا لكم من الجن ، فإذا رأيتم مثل هذا فآذنوه ثلاثا ، فإن بدا لكم أن تقتلوه فاقتلوه فإنما هو شيطان " .يتحرر من هذه القصة أن تلك الحية لا تخلوا أن تكون واحدا من ثلاث :
أولا : إما أن تكون حية حقيقة فهذه يجوز قتلها بعد ثلاث .
ثانيا : وإما أن يكون شيطانا فيقتل لأنه شيطان .
ثالثا : وإما أن يكون جنيا فسيخرج بعد الثلاث . فإذا خرج فبها ونعمت وإذا لم يخرج في هذه الحالة شرع لك أن تقتله وستبقى الحالة محصورة في اثنين :
إما حية حقيقة فيجوز قتلها لأنها من الفواسق وذوات الضرر ، وإما شيطانا فكذلك يجوز قتله . هذا عالم الجن أما الحديث عن عالم الإنس فلا يحتاج إلى استفاضة لأننا معشر الإنس أدرى بأنفسنا من غيرنا لكن الله جل وعلا أعطى الجن قدرة على أن يرونا ولم يعطنا القدرة على أن نراهم .
ثامنا : التكليف للجميع ...(48/117)
كلا من الإنس والجن مكلف كما في سورة الذاريات " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ " وبهذا التكليف ينفك الجن عن عالم الملائكة ، لأن عالم الملائكة غير مكلفين كما في سورة التحريم " لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " أما الإنس والجن فكلاهما مكلف ، فمن آمن منهم واهتدى كان مآله الجنة ، ومن تكبر منهم وعصى وطغى ورد على الله كلامه ، كان مآله النار ، ولهذا قال الله تعالى عن الحور العين في سورة الرحمن " لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ " وهذا فيه دلالة على أن الإنسي والجني سيدخل الجنة إذا أطاع الله .(48/118)
تاسعا : مؤمني الجن ...النبي صلى الله عليه وسلم أكرمه الله تعالى بأن ختم الله به الرسالات وأتم به النبوات ، وأنزل عليه آخر الكتب السماوية الذي هو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والجن كما مرّ معنا أنهم مخلوقون من نار ، ومع ذلك لما رزق بعضهم الإيمان رزق التأثرَ بالقرآن ومن هنا ينبغي لكل أحد أن يعلم أن القلوب لا ينبغي أن تخشع كما ينتابها من الخشوع عند سماعها كلام الله جل وعلا , المؤمن الذي بقي على فطرته وأدرك العلم الحق إنما يناله الخشوع ويصيبه أعظم ما يصيبه عند سماع كلام الرب جل وعلا . ولما ذهب نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فرده أهلها فرجع حزينا مكلوماً عليه الصلاة والسلام ، رجع من الطائف متجها إلى مكة حتى وصل إلى واد نخلة فوقف عليه الصلاة والسلام يصلي يناجي ربه تبارك وتعالى ويدعوه " اللهم أنت ربي ورب المستضعفين . . .(48/119)
الخ الحديث " يشكوا إلى الله في الحديث المعروف فأخذ يصلي ويقرأ القرآن عليه الصلاة والسلام ، فاجتمعت الجن الطائفة التي كانت متوجهة في وادي نخلة ، تنظر لماذا أغلقت في وجهها أبوابَ السماء قال الله حكاية عنهم في سورة الجن " وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً " فوقفوا يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكالب بعضهم على بعض ، يقول الله تعالى مصورا لذلك المشهد العظيم " وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً " فالداعي هنا هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، والذين كادوا يكونون عليه لبدا هم الجن ، فاستمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يشعر بوجودهم عليه الصلاة والسلام ، فلما انصرفوا أخبر الله تعالى نبيه بالذي كان ، قال الله تعالى " قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً " ولهذا سميت السورة باسهم ، ثم ذكر الله تعالى الأمر تفصيلا في سورة الأحقاف فقال جل شأنه " وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ " وهذا فيه إشارة إلى أن أولئك الجن كانوا من اليهود ، وأنهم قالوا " أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى " ولم يذكروا عيسى عليه الصلاة والسلام ، وموسى إنما بعث لليهود .(48/120)
غاية الأمر أن المؤمن ينبغي له أن يتأثر أعظم التأثر بالقران قال الله جل وعلا في سورة الأنفال " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون " .وأثنى الله جل وعلا على أهل العلم بقوله لما ذكر القران واختلاف الناس فيه قال جل شأنه وتبارك اسمه في سورة الإسراء " قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً " بلغنا الله وإياكم تلك المنازل .
عاشرا : مدح الله للجن ... مدح الله تعالى الجن لأنهم كانوا ذوي أدب مع كلام الله تعالى ، وهذا دل عليه القرآن الكريم في موضعين :
الأول : روى الترمذي بسند حسن من حديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على مؤمني الجن سورة الرحمن وفيها يتكرر قول الله جل وعلا " فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان " فلما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة قال لهم : ألا تجيبوني كما أجابني إخوانكم من الجن ..؟ قالوا ماذا أجابوا يا رسول الله ؟ قال كانوا يقولون: ولا بأيٍ من آلاء ربنا نكذب "
الموضع الثاني : لما ذكروا الخير والشر في قضية إرسال الرسل ، نسبوا الخير والرشد والفلاح إلى الله ، ونسبوا الشر إلى ما لم يُسمى فاعله ، وذلك أدبا مع الله تعالى ،(48/121)
قال الله تعالى في سورة الجن " وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ [ فنسبوا الشر هنا إلى مجهول ] أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً " فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله تعالى ، والأدب مع الله تعالى من دلائل الإيمان وقرائن العلم وبيان الحكمة ، وهذا الأدب دليل على حسن كلامهم وخطابهم ، والعاقل المؤمن ينبغي أن يكون ذوو أدب مع من يتحدث معه ، وأعظم الأدب وجوبا مع الرب جل وعلا ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الخلق أدبا مع الله تعالى ، عن أنس رضي الله عنه قال : أصاب أهل المدينة في عهده قحط فبينما هو يخطب بنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا ، قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله تهدمت البيوت فادع الله أن يحبسه فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا وقال " اللهم حوالينا ولا علينا " ولم يقل عليه الصلاة والسلام اللهم أمسك رحمتك علينا وهذا من عظيم أدبه مع الله تعالى ، يقول أنس : فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل [ رواه أبو داود ] ولابد للمؤمن أن يتأدب مع نبينا صلى الله عليه وسلم ومع صحابته ومع والديه ومع سائر الناس .
الحادي عشر : الجن وقصة الذئب ...
العرب في تاريخها تزعم أن الجن تخشى الذئاب فيقولون عن الذئب مدحا :
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي *** صروفَ المنايا فهو يقضانُ نائم(48/122)
وقد قصدوا من هذا أن الذئب متوثِّبٌ دائما ، ويزعمون أن الجن تهاب الذئب ، ولهذا نسمع أن بعض القراء في عصرنا يضعون رأس الذئب أو جلده عند باب منازلهم ، يوهمون بهذا وهم يقرؤون على الشخص الذي به مس أن الجني يهرب لما يرى من جلد أو رأس الذئب ، وهذا أمر خطير وخطره في العقيدة ولا يجوز شرعا ، لأنه لا بد أن يعتقد أن الله هو الذي يحي ويميت وينفع ويضر ، وأنه يجب أن تأخذ الرقية الشرعية مجراها الشرعي ، وقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستعن بمثل هذه الأمور .
هذا أيها الأحبة ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده عن عالم الإنس والجن ، ولا ريب أنه يمكن لغيرنا أن يدرس الأمر أكثر من ذلك وإنما هي إشارات وإضاءات في الطريق .
علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا ، وجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
" جبريل و ميكال "
الحمد لله و إن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين . و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين و إله الآخرين . و أشهد أن سيدنا و نبينا محمد عبده و رسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا و أرفعهم و أجلهم يوم القيامة شأناً و ذكرا . صلى الله عليه وعلى آله و أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره و اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد .معنا في هذه الليلة علمان جليلان هما : جبريل و ميكال عليهما الصلاة والسلام ، ومعلوم قطعا أيها الأحبة لكل أحد أن جبريل و ميكال من ملائكة الرحمن المقربين ، وهذا يدفعنا قبل الحديث عن هذين العلمين أن نتحدث قليلا عن عالم الملائكة المكرمين كالتمهيد اليسير .
أولا : خصائص الملائكة :(48/123)
الله جل وعلا خلق الخلق أجمعين وهو غني عنهم كل الغنى لا تنفعه طاعة طائع ولا تضره معصية من عصى لحكم كثيرة ظهر لنا بعضها وخفي عنا أكثرها والله جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . نزع الله تعالى من الملائكة غوائل الشر قال الله عنهم في سورة التحريم : " لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " ، وقال الله تعالى في سورة الأنبياء : " وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ " فنعتهم ربهم جل وعلا وهو خالقهم بأنهم عباد مكرمون ، وهؤلاء الملائكة لا يأكلون لا يشربون لا يتناكحون ، ولذلك لما جاؤوا إلى إبراهيم عليه السلام كما سيأتي تفصيلا وقدم لهم الأكل لم يستطيعوا أن يأكلوا شيئاً قال الله تعالى عن إبراهيم في سورة هود : " فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً " ذلك لأنهم لم يفطروا أصلاً لأن يطعموا طعاماً أو شراباً .هؤلاء الملائكة طُبع في أذهان الناس وفطرهم عبر التاريخ كله أنهم حسان الخلق ، وأنهم ذوو قدرة عظيمة وهيئة حسنة وهذا لا جدال فيه كما سيأتي .
ثانيا : وظائفهم :
جعل الله تعالى لهم وظائف ومهام ، قال الله تعالى حكاية عنهم في سورة الصافات : " وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ " أي مهمة منزلة مكانة أداء يؤديه لا يتأخر عنه ولا يستقدم ، كل ذلك يجري بقدر من الله تعالى وعلم ، ولله تبارك وتعالى الأمر من قبل ومن بعد .
ثالثا : عددهم :
هؤلاء الملائكة جم غفير لا يعلم عددهم إلا الله ، قال الله تعالى في سورة المدثر :
" وَمَايَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ "
رابعا : مكانهم :(48/124)
هؤلاء الملائكة مواطنهم السماء ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم " أطت السماء وحق لها أن تئط ، والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى " فهؤلاء هم ملائكة الرحمن صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
خامسا : من جبريل و ميكال في هذا العالم ..؟
يدل ظاهر القرآن والسنة على أنهما أحد رؤساء الملائكة الأربعة ، فالعلماء يقولون : دل القرآن والسنة على أن رؤساء الملائكة أربعة : جبريل و إسرافيل وملك الموت و ميكال .أما إسرافيل فقد أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور ، قال الله في سورة الزمر : " وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ " فالذي ينفخ إسرافيل , وأوكل الله تعالى إليه أن يتقدم إسرافيلُ بعد النفخةِ الثانية الخلق أجمعين وهم يُحشرون إلى أرض المحشر يقول الله تعالى في سورة طه " يَوْمَئِذٍ [ أي في يوم المحشر ] يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ " فالداعي هو إسرافيل والخلقُ يتبعونه ولا يحيدون لا ميمنة ولا ميسرة عن مسيره ، و الله يقول في سورة القارعة : " يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ " والفراش من وصفه أنه يموج بعضه في بعض يتخبط ، في حين أن الجراد يمشي على هيئة واحدة ليس كالفراش كما قال الله في سورة القمر " كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ " وذلك أن الناس أول ما يبعثون قبل أن يسمعوا إسرافيل لا يدرون أين يذهبون ، ثم عندما يسمعون نداء إسرافيل يجتمعون كالجراد المنتشر و يسيرون خلفه يتبعونه كما قال الله إلى أرض المحشر وهي أرض بيضاء نقية لم يُعص الله تعالى فيها قط .(48/125)
أما ملك الموت فلم يرد نص صريح في اسمه ، لكن الله أوكل إليه قبض الأرواح ، ثمة ملك ينفخ في أجسادنا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا ، وملك آخر هو ملك الموت أرفع قدرا يقبضها قال الله تعالى في سورة السجدة : " قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ " .
بقينا في جبريل و ميكال لماذا اخترناهما دون الملائكة ودون هؤلاء الأربعة :(48/126)
لأن الله جل وعلا قرن بينهما في عطف خاص بعد أمر هام في سورة البقرة قال الله جل وعلا : " قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ{97} مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَ مِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ " فذكر الله تعالى الملائكة في الأول وهذا عام ، ثم ذكر الرسل ثم قال و جبريل و ميكال وهذا خاص و يقصد به التميز الشرف لهما عليهما الصلاة والسلام .ونرجع إلى سبب نزول هذه الآية : العلماء يقولون أن جمعاً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم : إنا سائلوك عن مسائل لا يعلمها إلا نبي فسألوه فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا بقيت واحدة ، إن أجبتنا إليها اتبعناك , واليهود عليهم لعائن الله قوم بهت ، فأخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم العهد والمواثيق إن أجابهم اتبعوه ، فأعطوه ، فقالوا: من وليك من الملائكة ..؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " ولي من الملائكة جبريل " ، ولم يكن عليه الصلاة والسلام يقصد أن يتبرأ من سائر الملائكة ، لكن الله تعالى أوكل مهام الأنبياء ـ الوحي ـ إلى جبريل عليه الصلاة والسلام ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حدث بالواقع ، فقال : " ولي من الملائكة جبريل " ، فقال اليهود : هذا الذي ينزل بالحرب والقتال ، لو كان وليك من الملائكة ميكال هذا الذي ينزل بالقطر والرحمة والغيث لاتبعناك ، فأنزل الله تعالى الآيتين السابقتين اللتين ذكرناهما من قبل .
سابعا : ما هي المهام الموكل بها جبريل و ميكال ..؟(48/127)
نقف هنا عند المهام لكل واحد مهما : ميكال أوكل الله إليه الغيث الرحمة القطر ما فيه حياة الناس المعيشية فهو الذي ينزل بالقطر ، ولهذا ينبغي أن يعرف أن القطر الذي ينزل في كل عام هو واحد ، ما كان في العام الأول والعام هذا والذي سيليه ، منذ أن خلق الله الكون و المطر الذي ينزل من حيث الكمية واحد , يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما عام بأمطرَ من عام " فأوكل الله تعالى بإذنه إلى ميكال أن يصرف هذا القطر ، فتارة يزداد وتارة يقل في أرض دون أرض .
وقد تجد بلادا ذات رقعة واسعة يموت بعض أهلها من جدب الديار ويموت بعض أهلها من كثرة الأمطار غرقاً و رب الاثنين واحد لا رب غيره ولا إله سواه ، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يتفكر في خلق الله ، يقول الله جل وعلا عن ذاته العلية " وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً{48} لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً " ثم قال الله جل شأنه " وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ( أي الماء ) لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً " فهذه مهمة ميكال عليه السلام . وقد ورود ذكره في أحاديث كثيرة منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يلجئ إلى رب جبريل و إٍسرافيل و ميكائيل فيأتي بالثلاثة في سياق واحد فيقول " اللهم رب جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون * ........الخ " .
أما جبريل عليه الصلاة والسلام فقد دل ظاهر القرآن والسنة أنه أعظم الملائكة قدرا ، وقد دل على ذلك أمور منها :(48/128)
أن الله تعالى أوكل إليه مهمة الوحي ، فإذا كان ميكال مهمته ما فيه حياة الناس المعيشية ، فإن جبريل مهمته ما فيه حياة الناس الحقيقية القلبية وهي حياة الإيمان , قال الله تعالى في سورة الأنعام : " أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ " ، فهو الذي ينزل بالوحي عليه الصلاة والسلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ بالوحي أول مرة ورجع إلى داره خائفا وجلا أخذته زوجته خديجة رضي الله عنها وأراضها إلى بن عمها , فلما قص النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمها ورقة بن نوفل قصته ما رأى قال له وقد كان عنده حظ من علم أهل الكتاب قال : ( هذا الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى عليه السلام ) ، فورقة يعلم أن الذي أتى بالوحي إلى موسى من قبل هو جبريل ، وقد صرح الله تعالى بنزول جبريل بالوحي في مواطن كثيرة ، ومنها قول الله جل وعلا في سورة الشعراء : " وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ{194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ " .وجبريل عليه الصلاة والسلام لم تقتصر مهمته مع النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الوحي فقط ، بل تعداه إلى أمور كثيرة ، فهو الذي كان يُرقي النبي صلى الله عليه وسلم إذا مرض ، يقول عليه الصلاة والسلام وقد اشتكى مرة جاءه جبريل فقال : " يا محمد اشتكيت ؟ قال : نعم ، قال : بسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من شر كل نفس أو عين ، أو حاسد الله يشفيك ، بسم الله أرقيك " , وهذا من عناية جبريل و ولايته للنبي صلى الله عليه وسلم .(48/129)
وفي معركة بدر خرج النبي صلى الله عليه وسلم في بضعةِ عشر رجلا مع ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار ، وكانت راية بدر أعظم راية عبر التاريخ الإنساني كله ، فكان تحت تلك الراية سادة المهاجرين والأنصار مع أعظم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان جبريل عليه الصلاة والسلام تحت تلك الراية مع خواص الملائكة و ساداتهم . يقول كعب بن مالك رضي الله عنه مفتخرا :
وفي يوم بدر حينَ تُمحى ووجههم *** جبريل تحت لوائنا ومحمد
وهذا من حيث الصدق الواقعي أفخر بيت قالته العرب لأنه لا فخر بعد ذلك الفخر أن يكون تحت راية واحدة سيد الملائكة جبريل وسيد البشر نبينا صلى الله عليه وسلم وسادة الناس بعد الأنبياء المهاجرين والأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .
كما أن جبريل عليه السلام كان يجيب على الإشكالات العلمية التي تأتي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فعبد الله بن سلام رضي الله عنه لما أراد أن يؤمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسئلة قال لا يعلمها إلا نبي , سأله عن زيادة كبد الحوت عن تحفة أهل الجنة وسأله كيف ينجع الرجل إلى أبيه و إلى أمه , فأخبره النبي صلى الله عليه مسلم كما في الصحيح وغيره ثم لما فرغ عليه الصلاة والسلام من الإجابة قال : " والله ما كنت أعلمها أخبرني بها جبريل لساعته " . فكان النبي عليه الصلاة والسلام يسأل جبريل عما أشكل عليه ، فسأل عليه الصلاة والسلام عن أحب الأماكن إلى الله ،(48/130)
فقال : " المساجد " ، فسأل عن أبغضها فلم يعلم ، فسأل جبريل عليه الصلاة والسلام ، فأخبره أنها " الأسواق " . والمقصود من هذا أن جبريل كان له دور المعلم ، وأحيانا يحرص جبريل على أن تكون ولايته عامة ، والملائكة أولياء للمؤمنين قطعاً وجبريل منهم ، فيأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول عمر بن الخطاب : " بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب ــ وهذا يدل على أنه رجل يُعنى بنفسه ــ ، قال عمر : ولا يعرفه منا أحد ــ وقد جرت العادة أن الذي يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد حلقته لا يخلوا أن يكون أحد رجلين : إما أن يكون من أهل المدينة مهاجرا أو أنصاريا ، فيكون يظهر عليه حسنُ الاعتناء بنفسه ، وإما أن يكون أعرابيا قادما من سفر فيظهر عليه أن يكون أشعث أغبر يظهر عليه أثر السفر لكن عمر يقول عن هذا الرجل : لا يعرفه منا أحد أي ليس من المهاجرين والأنصار ولا يرى عليه أثر السفر كما يرى أثر السفر على الأعراب ــ وأخذ يسأل ــ وهذا يسميه بعض العلماء أحيانا سؤالات جبريل أي يسأل الإنسان أسئلة يعلم إجابتها و إنما يريد بسؤاله أن يعلم من حوله ــ فجبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرني عن الإسلام أخبرني عن الإيمان أخبرني عن الإحسان ــ ومن الذي علم النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان والإسلام والإحسان إنه جبريل فالله جل وعلا أمره أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام هذا , فجبريل يسأل سؤال من يعلم لكنه أراد أن يعلم من حوله ــ قال أخبرني عن الساعة ؟ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " ــ أي في هذه علم وعلمك سواء والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن الذي يسأله هو جبريل ــ فلما فرغ من أسئلته وخرج من عند الصحابة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر أو لغيره : أتدرون من السائل ..؟(48/131)
قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم " .
و أحياناً تكون في جلسة علمية فلا يكون من هو حاضر عند الشيخ لديه قدرة على الأسئلة فينبري أحد الفضلاء يسأل أسئلة الشيخ يعلم أن السائل يعلمها لكنه أراد أن يمن على الجميع على الحاضرين بعلم الشيخ و إكرام العلم سؤله بلا شك . هذا ما يتعلق بولاية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم .
الذي يعنينا في هذا أمر مهم جداً وهو أن السلف عليهم رحمة الله تعالى يقولون : ( أن العبد كلما كان بالله أعلم و أعرف كان من الله أخوف ) وهذا يتحقق كثيراً إذا تأملنا ما ذكر في القرآن والسنة من خبر جبريل عليه الصلاة والسلام ، يقول عليه الصلاة والسلام : " مررت ليلة أسري بي و جبريل كالحلس البالي من خشية الله تبارك تعالى " .و الحلس البالي هو : الفراش الذي أهلك من كثرة الجلوس عليه من كثرة ما يستخدم وقد ذهب رونقه , فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه خشوع و خشية جبريل عليه السلام وخضوعه بالحلس البالي ، ووجه الشبه هنا : هو ما انتابه من الخوف والهلع مع أن جبريل رواح غدّاء بين السماوات والأرض وله منزلة عظيمة عند ربه جل وعلا ، لكن هذا العلم من جبريل بالله تعالى هو الذي جعله شديد الوجل والخوف .
والله تعالى له صفات جلال وصفات جمال :(48/132)
فصفات الجمال : تجعل الإنسان يرجوا الله تعالى أعظم . وصفات الجلال : تجعل العبد يخاف من ربه أعظم . فإذا رزق العبد أن يعرف صفات الجمال والجلال لله تعالى رُزق أن يرجوا الله تعالى ويخافه في آنٍ واحد ، فإذا جمع إلى ذلك المحبة اكتمل إيمان العبد وتمت أركان توحيده بالرب تعالى قال الله تعالى : " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( وهذه صفات جمال وإنعام تقتضي المحبة ) * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ( وهذه صفات جمال تقتضي الرجاء ) * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ( صفات جلال تقتضي الخوف ) " وهذه الثلاث هي جامع التوحيد كله ، وهذه كلها قد حازها جبريل عليه الصلاة والسلام بلا شك . ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفةٌ شديدة ، فإذا سمعوا بذلك أهل السموات صُعقوا وخروا سجدا ، فيكون أولُ من يرفع رأسه جبريل ، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بما شاء من الأمر ، ثم يمضي جبريل على كل سماء ، كلما مر على سماء سأله ملائكتها ، ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول ، " قال الحق وهو العلي الكبير " قال الله تعالى في سورة سبأ " وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " .وينبغي أن نعلم أمرا مهماً وهو : أنه لن نعرف عن الله أكثر من أن نقرأ كتابه ، لأنه لا يوجد أحد يحيط بالله تعالى علما ، قال الله جل و علا عن ذاته العلية في سورة طه : " وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً " , وقال تبارك وتعالى في سورة الشورى : " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ " لكن الرب جل وعلا عرف بنفسه في كتابه العظيم , وكل ما في القرآن عظيم , إلا أن ما في القرآن ينقسم إلى قسمين :(48/133)
أعظمه كلام الله عن الله . فذكر الله جل وعلا ذاته العلية في كتابه أعظم ما في القرآن ومن مواطنه في كتاب الله آية الكرسي فإن فيها من صفات الرب جل وعلا الشيء الكثير قال الله جل وعلا " اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ . . . . الخ الآية " , وقال الله جل وعلا في سورة الأعراف وهي من مظان كلام الله عن الله : " إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " , وقال جل وعلا في خواتيم سورة حشر : " هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " , وكذلك نعت الله جل وعلا ذاته العلية في مقدمة سورة الحديد , إلى غير ذلك مما لا يجهله أحد ذكرنا بعض مواطنه التي فيهن كلام الله عن ذاته العلية .(48/134)
إذا تبصر المؤمن بقلب واعٍ وأذن صاغية إن كان يسمع أو إن كان يقرأ كلام الرب جل وعلا عن ذاته العلية رزق الخضوع والخوف و الخشية والرجاء في الرب تبارك وتعالى , و إنك لن تستطيع أن تحجم عن المعاصي وتقرب من الطاعات حتى تكون عظيم العلم بالرب تبارك و تعالى و عظمة العلم هذه ينجم عنها إذا رحمك الله عظيم الإيمان . فالناس في زماننا أحوج ما يكونوا إلى أن يعلموا عن ربهم اسمائه و صفاته وكمال جماله ونعوت جلاله جل وعلا .
ذات مرة عندنا في مدينة رسولنا صلى الله عليه وسلم كان عالم يقال له الشيخ عطية محمد سالم رحمه الله كان يدرس في المسجد النبوي . ذات مرة وهذا الكلام قديم قبل ثلاثين عاماً تقريباً قال في الحلقة : إن الغنم تعرف الحلال من الحرام ـ وهو في سياق الحديث عن الإيمان ـ فتعجب الحاضرون , فقالوا : يا شيخ كيف الغنم تعرف الحلال من الحرام ـ وكان في ذلك الوقت الناس في المدينة لا يكاد يخلوا دار أو بيت من أغنام عندهم لها أمكنة حول البيوت تغدوا وتروح على أهلها و أنا أدركت شيء من هذا في أواخر الثمانينات الهجرية ـ فقال رحمه الله : قال ائت بطعام تأكله الأغنام و ضعه بين يديها ـ أي لغنمك ـ تأتي غنم الجيران لتأكل معهم ثم وهما يأكلان غنمك وغنم جيرانك من هذا الطعام الذي وضعته لهما ائت وقل كلمة تنهر بها الأغنام , قال : إن أغنام الجيران تفر تهرب تعرف أنه ليس لها أما غنمك فتبقى كما هي تأكل . وهذا واقع حق في الناس أترى الناس الذين يذهبون إلى بارات الشرق وحانات الغرب يجهلون أن الخمر أو الزنا أو تلك الفواحش حرام تالله وبالله لا يجهلون لكنهم يفقدون الدافع الإيماني العلم بالرب تبارك وتعالى الذي ينهاهم عن المعاصي ويحجم بهم عن اقتراف الذنوب , يفتقدون ما يدفعهم إلى فعل الطاعة إلى التقرب يفتقدون الإيمان بالرب واليقين والعلم بذات الله جل وعلا وما له تبارك وتعالى من نعوت الجمال وصفات الكمال كما بينا .(48/135)
هذا الذي ينبغي أن يعلم أول الأمر ونحن ندرس سيرة ملكين كريمين هما جبريل و ميكال عليهما السلام .
بلغنا الله و إياكم من العلم أنفعه وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
هذا ما تهيأ إيراده وتيسر إعداده والله المستعان وعليه البلاغ و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(48/136)
إن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، لا رب غيره ولا إله سواه ، خلق فسوى، وقدر فهدى ، وأخرج المرعى فجعله غثاءا أحوى ،خلق خلقه أطوارا ، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارا ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ،وصفيه وأمينه على وحيه ، أكرم به عبدا وسيدا ، وأعظم به حبيبا مؤيدا ، فما أزكاه أصلا و محتدى ، وما أطهره مضجعا ومولدا ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة خالدا وسلاما مؤبدا ، أما بعد ..
أيها المؤمنون : فإن من المحاضرات ما يحتاج قائلوها إلى انتقاء في الألفاظ ، وصياغة في العبارات ، وبحث في المعاجم ، حتى يسدوا به خللا في المعاني ، وقصورا في الغايات ، وما يصاحب ذلك من المطالب التي تفقدها تلك المحاضرات ، إلا أن الحديث ، عن محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حديثا تزهو به العبارات ، وتجمل به الصياغة ، فإذا كان قد ثبت أن النياق وهن نياق تسابقن إلى يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم أيهن يبدأ بها لتُنحر ، فإن الكلمات تتسابق أيضا إلى أفواه قائليها ، إذا كان الحديث حديث عن محمد ابن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ..
سلوا قلبي غداةَ سلى وثاب ... لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب ... فهل ترك الجمال له صوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم ... هما الوادي الذي كفل الشباب
وكل بساط عيش سوف يطوى ... وإن طال الزمان به وطاب
فمن يغتر بالدنيا فإني ... لبثت بها فأبليت الثياب
لها ضحك القِيان إلى غبي ... ولي ضحك اللبيب إذا تغابا
جنيت بروضها وردا وشوكا ... وذقت بكأسها شهدا وصابا
فلم أرى مثل حكم الله حكما ... ولم أرى دون باب الله بابا
أبا الزهراء قد جاوزت قدري ... بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان ... إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزد قدرا ... فلما مدحتك اجتزت السحاب
صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه .(49/1)
أيها المؤمنون : إن نبيكم أشار إلى القمر فانفلق ليكون شاهد على نبوته ، وأشار إلى الغمام فتفرق بأمر الله جل وعلا إكراما لإشارته ، وصعد أحد فارتجف فرحا به وبأصحابه ، وترك الجذع حينا فحن الجذع إليه ، وإلى كلماته وعظات ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإذا كان هذا حال غيرنا معه فما الذي ينبغي علي المؤمنين من أمته به، لاريب أن المؤمنين به صلوات الله وسلامه عليه أولى بمحبته ، وأجدر بطاعته ، وأحق باتباعه ، وما أكرمه من حديث مصطفى ، وعبد مجتبى ورسول مرتضى، منّ الله جل وعلا عليه بأن جعله إلينا من الخلق أحب حبيب ، وأكمل قريب ، أرسله الله جل وعلا رحمة للخلائق، فقال سبحانه وتعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) وهدى به لأمثل الطرائق فقال سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الشورى).
ومحبته صلى الله عليه وسلم حق من حقوقه على أممته دل عليها العقل والنقل وجاءت بها الأخبار والآثار ، وتلبث بها السابقون الأولون من المؤمنين الأخيار فقاموا بها حق قيام ، وأدوها على نحو أتم ووجه أكمل .
يقسم العلماء دوما المحبة :
·?محبة ينتابها الإشفاق ، كمحبة الوالد لولده .
·?ومحبة ينتابها الإجلال : كمحبة الولد لوالده .
·?ومحبة يعتريها المشاكلة والاستحسان ، كمحبة الناس بعضهم لبعض ، ممن يكمل في عينيك ويرتفع قدره عندك
·?أما محبة المؤمنين لنبيهم صلى الله عليه وسلم فإنها في مجملها محبة شرعية أوجبها الله جل وعلا علينا له(49/2)
صلوات الله وسلامه عليه ، دل عليها الكتاب ، ودلت عليها أقواله صلوات الله وسلامه عليه : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) فجعل الله جل وعلا أنه لا ينبغي لأحد أن يقدم شيئا من متاع الدنيا ولا حتى النفس على محبة الله ، ثم على محبة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد تبين لكل أحد مما نص عليه العلماء كما نص عليه القرطبي وغيره : "أنه ما من أحد يؤمن بالله تبارك وتعالى وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا وفي قلبه محبة راجحة لنبينا عليه الصلاة والسلام ، لكن هذه المحبة يختلف الناس فيها ويتفاوتون فيما بينهم في تحقيقها ، فمنهم من ينال منها النصيب الأوفى ومنهم والعياذ بالله من يرضى بالحظ الأدنى ، وكلما طغت الغفلة والشهوات نأى الإنسان بمحبته لرسول الله صلى عليه وسلم عنه ، وكلما عظم ذكر الله والاتباع والطاعة -كما سيأتي- علت تلك المحبة في النفوس وسمت في الأفئدة وارتقت في القلوب ، من يقارب بعد ذلك إلى ربنا علام الغيوب ".(49/3)
وإذا كان المؤمن ذا إنصاف فإن أول ما ينبغي عليه أن يتأسى بالأخيار،ولا جيل أمثل ولا رعيل أكمل من أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه ، ثم التابعون لهم بإحسان من أهل القرون المفضلة ، وقد ضرب ألئك الأخيار المثل العليا ، في محبتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم ، محبتهم له حال حياته ومحبتهم له بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه ، ولا يمكن لأحد أن يستشهد لأحد قبل سيد المسلمين أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه فلقد كان لأبي بكر النصيب الأعلى والحظ الأوفر في كل خير في الأمة ، لأن إيمانه كما نص الشرع عليه يعدل إيمان الأمة كلها ، قدم ماله ، ونفسه في الجهاد ، وما ملكته يداه ، وجاهه إجلالا لله ومحبة في رسوله صلى الله عليه وسلم .
فتأتي حادثة الهجرة وينال أبوبكر شرف الصحبة ، فيمضي مع نبينا عليه الصلاة والسلام ، في الطريق فيرى منه النبي عجبا ، فتارة يتقدم وتارة يتأخر، وتارة يأتي عن اليمين ، وأخرى عن الشمال ، فيقول له صلى الله عليه وسلم : "ما هذا يا أبا بكر ؟". فيقول " يا نبي الله أذكر الرفث فأمشي أمامك ، وأخاف عليك الطلب فأمشي خلفك ، وأتوجس من الكمين فأكون تارة عن يمينك وتارة عن شمالك ".
ثم يدخل صلى الله عليه وسلم المدينة ليضرب أهلها مثلا أعلى أخر في حبهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم فيخرجون زرافات ووحدانة رجالا ونساء شيبا وشبانا ويكبرون ويقول بعضهم لبعض " الله أكبر جاء محمد ، جاء محمد " وترتقي على أسطح المنازل بنات وولائد من بني النجار ويضربن على الدف ويقلن :
يا حبذا محمد من جار ** نحن بنات من بني النجاري
يا حبذا محمد من جار ******
وورد أنه صلى الله عليه وسلم التفت إليهن وقال: " أتحببنني ؟ " قلن : نعم يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم "وأنا كذلك أحبكم" .
ثم يتتابع حال القوم من محبتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، والمحبة: شيء في القلوب لكنه يعبر الإنسان عنه بما يقتضيه الحال وما يمليه المقام .(49/4)
ففي ساحات الحروب كانوا يحيطون به ، دفاعا عنه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك ما تمليه المحبة وقتها ، فإذا كان بين أظهرهم وجلسوا معه في مجلسه ، حَفُّوا به وغضوا أبصارهم عنه وهابوا أن يتكلموا بين يديه ، واستحيوا أن يتقدموا بين يدي الله ورسوله ، فإذا أصابهم الأذى وعرضت عليهم الدنيا ، لم يقبلوها رجاء أن يرضى الله عنهم ورسوله صلى الله عليهم ورسول الله .
يقدم خبيب رضي الله عنه ليصلب وليقتل فيقول له قاتلوه من مشركي قريش آن ذاك : "أيسرك أنك في بيتك معافا وأن محمدا مقامك ؟؟ " فيقول رضي الله عنه وأرضاه: " لا والله ما يسرني ذلك، ولا أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة .
وهم مع ذلك رضي الله عنهم يعلمون أنه صلوات الله وسلامه عليه بشر أكرمه الله بالنبوة ، وختم به الرسالة ، فيأخذون عنه الدين ، ويأخذون عنه العلم ويتعلمون منه ما يقربهم إلى الله جل وعلا زلفى .
فلما توفي صلوات الله وسلامه عليه تذكر من كان حيا بعده أيامه صلوات الله وسلامه عليه ، جاء أبوبكر إلى المنبر وكان أبوبكر يعلم أن هذا المنبر طالما جلس وقام عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستحيى أن يجلس في المكان الذي كان يجلس فيه صلى الله عليه وسلم يجلس فيه ، ونزل درجة على المنبر ، ثم خطب في الناس قائلا : ( أما إنكم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قام مقامي هذا فقال – فغلبته عيناه ، ولم يستطع أن يكمل ثم أعاد العبارة ، فغلبته عيناه فلم يستطع أن يكمل ، ثم أعادها ثالثا فغلبته عيناه فقال : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال " إن الله ما أعطى أحدا شيء أعظم من العفو والعافية ، فاسلوها الله عزوجل "، ثم أتم حديثه رضي الله عنه وأرضاه .
فإذا قدر لأحدهم أن تدنوا ساعة رحيله فطاف به حوله أقربوه في ساعة الاحتضار ، كان كثيرا منهم رضي الله عنهم وأرضاهم يقول: " غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه " صلوات الله وسلامه عليه .(49/5)
فيقدم بلال بين الحين والآخر من الشام إلى المدينة فإذا قدر له أن يرفع الآذان ومر على قوله :"أشهد أن محمدا رسول الله " ارتجت المدينة بالبكاء لأن أذان بلال ذكرهم بالحبيب صلوات الله وسلامه عليه .
وما كان لهؤلاء القوم من عظيم المحبة لنبينهم صلى الله عليه وسلم حفظهم الله ، أو قل حفظ بعضا منهم لمحبته لنبيه عليه الصلاة والسلام ، كان سفينة مولى لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ولقب بسفينة واسمه " مهران " وكنيته " أبو عبد الرحمن " لأنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر ، فثقل على القوم متاعهم فبسط كسائه فحمل متاع القوم فيه ، فورد أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له : " أنت سفينة " ، كان سفينة موالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له ، فلما جاءت ساعات الجهاد وأذن بالفتوحات وانتقل كثير من الصحابة من المدينة إلى غيرها طمعا في أجر الشهادة ، قدر لسفينة أن يأتي بلاد الروم مجاهدا ، فظل الطريق ، وانتهى به الأمر إلى غابة كثيرة الكثبان ، فداهمه فيها أسد ، فلما قرب الأسد منه ، وكنية الأسد عند العرب "أبا الحارث " قال سفينة للأسد : " يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم " فطأطأ الأسد رأسه ، وقرب من سفينة وأخذ يمشي معه حتى أخرجه من الغابة ، قال محمد ابن المنكد – رحمه الله رواية عن سفينة – قال سفينة : "فلما أصلني إلى غايتي طأطأ رأسه وهمهم بكلام كأنه يودعني" ، انظر إلى هذا السبع الكاسر والوحش النادر كيف أصابه من الرقة والشفقة لما علم أن خصمه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم .(49/6)
وما حضي به الصحابة من محبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ورثه عنهم تابعون من هذه الأمة قال مالك رحمه الله – وهو إمام دار الهجرة في عصره – قال : "ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب السختياني أفضل ذكرى ". ثم ذكر مالك السبب الذي جعله يُجل أيوب ويأخذ عنه ، فقال – رحمه الله - : " لقد صحبته وقد حج أيوب حجتين ، ورمقته من بعيد ولم أسمع منه ، فكنت أرى أيوب إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى يقوم عنه أصحابه شفقة ورحمة به ، فلما رأيت محبته و أجلال للنبي صلى الله عليه وسلم أخذت عنه وكتبت عنه الحديث" .
ثم إن مالكا نفسه أخذ يبكي كلما أكثر من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعجب منه أصحابه ، فقال رحمه الله لتلاميذه :" ولو رأيتم ما رأيت لما تعجبتم ، لقد أدركت محمد ابن المنكدر- وهو شيخ مالك- ، لقد أدركته ما يحدث بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ويبكي إجلالا لنبي صلى الله عليه وسلم ، فنقوم عنه رحمة به وشفقة عليه "، ثم قال:" وأدركت عبد الرحمن ابن القاسم ابن محمد ابن أبي بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، قال:" أدركته إذا حدث وذكر النبي صلى الله عليه وسلم جف لسانه في فمه ، وكاد دمه أن ينزف ، محبة وإجلالا لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه .
فهذه صور مشرقة وصفحات مضيئة من حياة سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في محبتهم لنبينا صلوات الله وسلامه عليه .
فإذا أدرك المؤمن هذا ، عرف أن الله جل وعلا لم يكتب لنا أن نسعد بصحبته ولم تكتحل أعيننا برؤيته لكن الله جل وعلا لم يحرمنا من الإيمان به واتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، واعلموا أنه صلى الله وسلم صح عنه أنه قال : " إن من أشد أمتي لي حبا قوم يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله " اللهم برحمتك وسلطانك اجعلنا منهم(49/7)
هؤلاء المحبين لنبينا صلى الله عليه وسلم أدركوا أن محبته صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات ، وأجل القربات ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " وفي البخاري من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :" والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ، ووالده والناس أجمعين " فقال عمر يا رسول الله : "إلا من نفسي " فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" حتى من نفسك ، يا عمر " فقال عمر : "الآن يا رسول الله أنت أحب إلي من نفسي " فقال صلى الله عليه وسلم "الآن يا عمر " أي الآن يا عمر كمل إيمانك يا عمر . فلن يكمل إيمان عبد حتى يكون محبا لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، وهذه المحبة لا حاجة لأن يطنب الإنسان و يتحدث في أسبابها وموجباتها لأن ذلك لا يمكن أن يخفى على أحد ، فنحن نحبه صلى الله عليه وسلم :
·?اندراجا في محبتنا لربنا جل وعلا ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه ، حبيب الله وخليله وصفيه ونبيه ونجيه فكان بدهيا أن نحب من أحبه الله جل وعلا .
·? وبه هدانا الله جل وعلا إلى صراطه المستقيم ، فهو عليه الصلاة والسلام حظنا من النبيين ، ونحن حظه من الأمم ، كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه .
·? نحب لما كان في قلبه صلوات الله وسلامه عليه من شفقة ورحمة بالأمة ، كما نعته الله في كتابه : (لَقَدْ جَاءكُمْ
رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) إذا كان في يوم عيده وصلى الله عليه وسلم يضحي بكبشين أملحين أقرنين فيسمي الله ويكبر في أحدهما ويقول : "اللهم هذا عن محمد وآل محمد" ، ثم يضحي بالأخر ويقول : " اللهم وهذا عن من لم يضحي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ".
يستعجل الأنبياء قبله دعواتهم .
وهلك قومه في الأرض نوح ... بدعة لا تذر أحد فأفنى(49/8)
ودعوة أحمد رب اهد قومي ... فإنهم لا يعلمون كما علمنا
فيدخر صلى الله عليه وسلم ما أفاء الله به عليه ، من دعوة مستجابة يدخرها ليوم يقوم فيه الأشهاد ، ويحشر فيه العباد ، إكراما لأمته ، وأتباعه صلوات الله وسلامه عليه . وفي ذلك المقام العظيم ، يناجي ربه ويناديه ويسأله قائلا : "ربي أمتي ، أمتي " فهذا وأمثاله كله حري بأن تنصرف محبتنا بعد محبتنا لربنا عزوجل إليه صلوات الله وسلامه عليه .
ونحن في حديثنا اليوم إنما نذكر دلالات المحبة ، وأحوال المحبين، وكل امرئ بعد ذلك يحاسب نفه على ما يسمع
أعظم أحوال محبي محمد صلى الله عليه وسلم وأجل الدلالات على حبه صلوات الله وسلامه عليه :
·?توحيد الله وإجلال الله ومحبة الله ، وبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما أرسل وما أنزل عليه الكتاب إلا
ليدعو الناس إلى توحيد الله جل وعلا ، فقد قضى عمره الطاهر الشريف كله يذكر بالله ، ويحبب فيه ، ويدعو إليه ، ويطلب من العباد أن يوحد ربهم ويعظموه ويجلوه ، فإذا حاد الإنسان عن طريق التوحيد فقد حاد عن المنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس هذا من دلالة حبه صلوات الله وسلامه عليه ، إن محبة الله جل وعلا هي المنزلة التي يشمر إليها العاملون ويتنافس فيها المتنافسون ، وهي الحياة التي من فقدها فهو من جملة الأموات وهي النور التي من حرمه فهو في بحار الظلمات ، ولا يعدل توحيد الله وإجلاله ومحبته شيء ، تبارك وتعالى ، فالله جل وعلا خالق وما سواه مخلوق، والله رب وما سواه مربوب ، والله رازق وما سواه مرزوق ، وما محمد إلا عبد لله ورسول من لدنه ، عَرّف بربه ودعا إليه ، وقضى حياته كلها موحدا له سبحانه وتعالى ، فأعظم دلائل محبته ، الأخذ بما جاء به ، فإن سك الإنسان مسالك أهل التوحيد، وعظم الله جل وعلا ووحده ، فذلك أعظم القرائن ، وأصدق أحوال من يحب محمدا صلى الله عليه وسلم.(49/9)
·?ثم يعقب ذلك ، وليس ببعيد عنه ولا منفك منه ، إتباع هديه واقتفاء أثره صلوات الله وسلامه عليه ، وقد
جرت الأعراف العقلية والنقلية ، أن المحب لمن يحب مطيع ، ومحمد صلى الله عليه وسلم أمر بأمر ونهى عن نهي ، وكان له هدي يعلمه كل من اطلع على سيرته وسنته ، فدلالة محبته إتباع هديه ، واقتفاء أثره بالإيمان والعمل الصالح والجهاد من أجل تحقيق تلك الغايات .
كان ذو البجادين رضي الله عنه وأرضاه نشأ يتيما ، فكفله عم له في ديار على مقربة من المدينة ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انتظر ذو البجادين أن يسلم عمه، فمرت سنين دون أن يتغير حال عمه ، فلما أخبر ذو البجادين عمه بالأمر قال له عمه – وكان قد أغدق عليه وجعله ذا يسر بعد أن كان ذا فقر- قال له :
" إن اتبعت محمدا سلبت منك كل ما أعطيتك حتى ثوبيك " فقال : "لا أقبل باتباع محمد صلى الله عليه وسلم شيء " فسلبه عمه كل ما أعطاه ، فَقَدِم على أمه ، فأعطته بجادا فشطره شطرين ، فأتزر بأحدهما ، وارتدى الآخر وقد أتى المدينة ليلا فاضطجع في المسجد فلما كان صلاة الصبح وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وتفرس في وجوه الناس فرأى ذو البجادين ولم يكن قد عرفه ، فقال له من أنت . فتسمى له وانتسب ، فقال له : "بل أنت عبد الله ذو البجادين ، ولكن كن قريبا مني حتى أكرمك مع أضيافي " فمكث رضي الله عنه وأرضاه يحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويحفظ القرآن ، حتى كانت غزوة تبوك ، فلما كانت غزوة تبوك ، خرج مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنفسه وماله ، فأدركه المرض فمات والمسلمون في معسكره في تبوك ، فحفر له قبر في الليل ، فنزل صلى الله عليه وسلم فيه ، وطلب من أبي بكر وعمر قائلا أدليا إلي أخاكما " ووضعه صلى الله عليه وسلم في قبره ، لما فرغ من دفنه ، قال عليه الصلاة والسلام:
((49/10)
اللهم إنني أمسيت راضيا عنه فارض عنه ) هذا الحال عن هذا الصحابي نموذج فذ لاجتماع المحبة والعمل والتباع والاقتفاء ، في شخصية واحدة هي شخصية عبد الله ذي البجادين ، رضي الله عنه وأرضاه ، وهذا حال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعا لأنه صلوات الله وسلامه عليه كانت له تأصيلا سنتان :
·?سنة يفعلها على سبيل التقرب والتعبد لله جل وعلا ، فهذا لا يسع أحد من الأمة أن يتركها، وقوامها قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه " .
·?وسنة يفعلها صلى الله عليه وسلم على سبيل الجبلة ، على سبيل الجلة، على سبيل ما فطره الله جل وعلا من
ذاته وحاله وشخصيته وبيئته ، صلوات الله وسلامه عليه .
فأما الأول: أن الأمة جميعا مأمورة بها.
وأما الآخر: فهي منازل يتسابق فيها الأخيار ويتنافس فيها الأبرار ، وهي تدل في معظمها على محبته صلوات الله وسلامه عليه ، هذا الصنف الآخر من اتباع هديه صلوات الله وسلامه عليه وهو في الأمور الجبلي كان الصحابة قد تجاوزوا مرحلة ن يأتمروا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ينتهوا عند نهيه ، فلا تجد أحد منهم مقيما على المعاصي ، مصرا على الخطايا ، وإن كان لا يخلوا أحد من معصية وخطيئة ، لكن أنفسهم سمت حتى للجانب الآخر ، فكانوا يرون ما الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم جبليا فيصنعوه .(49/11)
قدم رهط مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم قرة المزني – رضي الله عنه وأرضاه – فلما قدم وجد النبي عليه الصلاة والسلام مطلق الأزرار ، أي أنه لم يزر قميصه صلى الله عليه وسلم ، فتأمله قُرَة ثم قرب منه ثم أدخل يده في قميص النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى استطاع أن يلمس خاتم النبوة من الخلف ، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم للقميص مطلقا أمر قد لا يعرف فقهه ، لكن الثابت سندا وصحة أن قرة وابنه معاوية رضي الله عنهما لم يشاهدا في لا صيف ولا في شتاء وقد أغلقا أزرارهما ، فيمضيان دهرهما كله إلى أن ماتا وقبرا وهما مطلقا الأزرار تأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم .
مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها ، ولم يدعو إليها ، لكن النفوس إذا أرادت أن تربي نفسها على المعالي لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال ولا يتعرض السنة عموما من قدح آن ذاك ، في مجتمعهم وبيئتهم ، تأسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم به .
فالمقصود من هذا كله : أن اتباعه عليه الصلاة والسلام فرقان في دلال كمال المحبة على أنه ينبغي أن يعلم أنه قد يكون الرجل ُمصِرًا على المعاصي ، ومحبا للنبي عليه الصلاة والسلام فإن المعصية لا تنزع المحبة بالكلية ، لكن لا يمكن أن يجتمع كمال المحبة مع عدم إتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، فالعاقل من يكون قلبه مليئا بالمحبة لرسول الهدى ونبي الرحمة ، وفي حياته اليومية يتأسى به ويعمل بوصاياه ، ويأتي أمره ، ويجتنب نهيه صلوات الله وسلامه عليه .
ومن تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه ودلالة محبته : تعظيم سننه عليه الصلاة والسلام ، والسنة باب مشهور يعلم الناس منه أشياء ، ويخفى عليهم أشياء ، لكننا إذا أردنا أن نحيي سنن الميتة ، فمن أشهرها :(49/12)
أنه صلى الله عليه وسلم لما سئلت عائشة من رهط من التابعين عن وتره صلوات الله وسلامه عليه ، أجابت بأن وتره صلى الله عليه وسلم انتهى في آخر عمره إلى أنه كان يصلي ثمان ركعات سردا من غير جلوس ، ثم يجلس في الثامنة ، فيتشهد ويدعوا ، ثم يقوم ويأتي بركعة تاسعة ثم يجلس فيتشهد ويسلم صلوات الله وسلامه عليه ،
قالت: " فلما كبر وأسن وحمل اللحم عليه الصلاة والسلام نقص عن ذلك ركعتين فكان يصلي ست متعاقبات يجلس في السادسة ، ثم يقوم يأتي بالسابعة فيتشهد ويدعوا الله كثيرا ثم يسلم ، ثم إذا فرغ من صلاته صلى ركعتين وهو جالس صلوات الله وسلامه عليه ، والسنة فيهما أن يجلس الإنسان حال القيام متربعا ، وحال التشهد كجلسته المعتادة بين السجدتين ، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين وهو جالس بعد وتره ، ويسلم تسليما يسمع به أهله ، وهذه سنة قد تكون غير معلومة ، أو تكون معلومة مهجورة ، لكن من أراد أن يحي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فعليه بها ففيها من الأجل العظيم والثواب الكريم لأنها مندرجة عموما في قيام ليله صلوات الله وسلامه عليه .(49/13)
ومنها ما تراه أن أحاد الناس والمطلع على حقيقة سنته صلوات الله وسلامه عليه، المحب له الذي يريد أن يحيى كما كان صلى الله عليه وسلم يحيى ، إذا دخل ضيفا على أحد ، وقُدم له تمر يتمنى أن صاحب البيت لم يأتي بإناء يوضع فيه التمر، وذلك أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله ابن مسلم رضي الله عنه أنه قال : " نزل النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا على أبي فقد له طعاما ، ثم قدم له تمرا ، قال : فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل التمر ويضع النواة بين أصبعيه لبين السبابة والوسطى ، ثم يلقيها صلوات الله وسلامه عليه ". فكره صلوات الله وسلامه عليه أن يرد النواة في موطن التمر ، فوضع النواة بين أصبعيه ، بين السبابة والوسطى، ونحن نعلم يقينا أن هذه المسألة مسألة جبلية هي إلى البيئة أقرب ولا يترتب على تركها إثم ، لكن المُحب للنبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغ في حبه أن يتأسى بكل أفعاله ، وأقواله صلوات الله وسلامه عليه ،فإن ذلك برهان على المحبة ، ودليل على صدقها لأن كمال المحبة ، يلزم منه كمال الطاعة وكمال الاتباع واقتفاء الأثر وهديه صلوات الله وسلامه عليه ,
ومن أحوال المحبين ودلالات حبه صلوات الله وسلامه عليه محبة ما يحبه ، فإن الإنسان إذا أحب شيئا أحب ما يتعلق به ، وهذه المسألة يندرج فيها مسائل :(49/14)
أما تأكيدها فإن النبي كما رواه البخاري من حديث أنس دعاه خياط لطعام صنعه فقرب إليه ثريدا ومرقا فيه من خبز من شعير ، مرقا فيه دباء قال أنس :" فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، يتتبع أثر الدباء في القصعة" ، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه- : "فما زلت أحب الدباء منذ ذلك اليوم ، لني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحبه" ، وفي صحيح مسلم عنه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يقول : فما قدر لي أن يصنع لي أهلي طعاما واستطعت أن أجعل معه دباءا إلا فعلته "، وورد عن الترمذي بسند فيه ضعف ولكنه يجبر في فضائل الأعمال : أن أنس كان إذا مر على شجرة اليقطين يمسكها ويقول : "يا لك من شجرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبك ، فأنا حبك لمحبة النبي صلى الله عليه وسيلم لك " فمن أحب شيئا أحب ما يحبه ، أحب ما يتعلق به ، وهذا ظاهر لكل من قرأ الأحاديث والأخبار الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم .
أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها قدم عليها أوبها أبو سفيان قبل أن يسلم فلما هم أن يجلس على الفراش ، طوت الفارش عنه ، فقال لها أبوها متعجبا : "يا بني والله لا أدري أترغبين بي عنه ، أم ترغبين بي عن الفراش" ، فقالت له رضي الله عنها وأرضاها : "إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت مشرك نجس ، فما أحببت أن تجلس عليه ".
وهذا أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه يحظى بسيف النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد ، ويختال به بين الصفوف فلما حانت المعركة ، ودنت ساعة القتال والتحم الجيشان وأخذ أبو دجانة يضرب بسيف رسول الله ميمنة وميسرة ، هم بأن يضرب به شخصا ، فلما ولولت عرف أنها امرأة فقال :" فرفعت السف عنها ، إكراما لسف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة ".
فمحبة ما يحبه النبي صلى الله عليه وسلم دين وذلة وقربة .(49/15)
ومن محبة ما يحبه صلى الله عليه وسلم ، محبة آل بيته ، وتعظيم حالهم ، اقتفاء بأثره و إكراما له صلوات الله وسلامه عليه ،فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو رأس المسلمين وسيدهم بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، كما روى البخاري ثابتا عنه أنه رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان يقول :" والله لأن أصل قربة النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أصل قرابتي" ، ويقول رضي الله عنه في البخاري أيضا ،" ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته "، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، كما في الصحيح من حديث زيد ابن الأرقم رضي الله عنه ، أنه لما سؤل عن أيامه مع النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن نبي الله قام فينا خطيبا في غدير يقال له
، بين مكة والمدينة ، فقال أيها الناس إنما أنا بشر الله يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وإنني تركت فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور ، فاستمسكوا به واستعصموا" ، ثم قال :" وأذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " فقال أصحاب زيد لزيد : يا زيد أنساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ؟ قال : "نعم ولكن آل بيته من حرم الصدقة بعده " فقال له من حوله: " من حرم الصدقة بعده يا زيد ؟ . قال : "آل جعفر ، وآل عباس ، وآل علي ، وآل عقيل ".(49/16)
ولقد فقه سلف الأمة زرافات ووحدانا أن إكرام آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إكرام لشخصه صلوات الله وسلامه عليه ، لقد ذكر رواة الأدب ومصنفوها التاريخ " أن هشام ابن عبد الملك حجة في خلافة أبيه عبد الله ابن مروان ، فلما هم أن يطوف بالبيت ، وأنم يقبل الحجر عجز أن يصل إليه لازدحام الناس للحجر ، فتنحى جانبا وأتي له بكرسي جلس عليه ، فلما قدم زين العابدين " علي ابن الحسين ابن علي" رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لما قدم ليقبل الحجر ، عرف الناس زين العابدين ، ومنزلته في العباد وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنحوا عن الحجر فاستلمه زيد دون أن يزاحمه الناس عليه ، فأراد هشام أن يصرف وجوه الناس عن زيد فقال متهكما لمن حوله : من هذا ؟ قبل أن يسأله أهل الشان ، فقال له الفرزدق وكان شاعرا حاضرا قال :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... و البيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
وليس قولك مَن هذا بضائره ... العُرب تعرف من أنكرت والعجم
كلتا يديه غياث عم نفعهما ... تستوكفان ولا يعروهما عدم
هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله ... بجده أنبياء الله قد ختموا
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد لكانت لاؤه نعم
والقصيدة طويلة ، وما قيل منها من شواهد يكفي .
والمقصود: أن من إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم إكرام أهل بيته ، فلا يدفعن أحد حقد ولا حسد ولا غير ذلك إلى بغضهم وصلى الله على نبيه وعلى آله ومن تبعهم بإحسان .
ولقد شكى العباس- رضي الله عنه - قوم من قريش يجفون بني هاشم لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : "والله لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ولقرابتي " . فالمحبة في الله يشترك فيها جميع المؤمنين ، أما لمحبة في قرابته صلى الله عليه وسلم فهي خاصة بأهل بيته صلوات الله وسلامه عليه .(49/17)
ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة أصاحبة رضي الله عنهم وأرضاهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما بعثه ربه من أعز قبيل فإن الله ابتعثه في أشرف جيل وأكرم رعيل رضي الله عنهم وأرضاه ، أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إحاطة محبة ، إحاطة السوار بالمعصم ، فدوه بالمهج وبالأموال وبالبنين وبالآباء والأبناء رضي الله عنهم وأرضاهم ، وشهد الله جل وعلا لهم ، بالعدل والصدق: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ولقد ذهب العلامة ابن حزم رحمه الله إلى :"أن الصحابة جميعا في الجنة ، وقال : هذا ما يقتضيه ظاهر الكتاب ، ظاهر السنة " وذهب أكثر العلماء:" إلى أن الشهادة بالجنة محصورة في مجملها على من شهد بيعة الرضوان ، ومن سمى النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه " وأيا كان الأمر فمحبتهم رضي الله عنهم وأرضاهم ، ونشر مناقبهم وذكر فضائلهم والتحدث بأيامهم ، وغض الطرف عما كان بينهم ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، ديدن أهل السنة ومسلك أهل الجماعة وهو من محبتنا لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه .(49/18)
أيها المؤمنون : ومن الدلائل ما نحن ما نكون حاجة إليه ألا وهو الاشتياق إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم ، فلئن اكتحلت أعين أصحابه رؤيته صلوات اله وسلامه عليه ، فإن الأمر كما أسلفت وقدمت ، قد حرمنا منه بقدر الله ، لكن الله جل وعلا أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم : "أن المرء مع من أحب" ، فإن رجلا قدم عليه الصلاة واللام فقال يا رسول الله : "متى الساعة ؟ " قال :" وما أعددت لها ؟" قال : "ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله " ، فقال صلى الله عليه وسلم :"أنت مع من أحببت " والمحبون بصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم والمقتفون لأثره على علم وبينة وهدى سيكون معه بإذن الله ، صلوات الله وسلامه عليه في جنات النعيم ، ولقد كان هذا الهم ، قد شغل الصحابة من قبل رغم أنهم رأوه في الدنيا رضوان الله عنهم وأرضاهم ، فقد كان ثوبان مولى لنبينا صلى الله عليه وسلم فرأى النبي صلوات الله عليه الصلاة السلام يوما صفرة وتغيرا فيه، فقال :" ما بك يا ثوبان ؟ أبك من مرض" .(49/19)
قال : لا يا رسول الله ، ولكنني إذ مر علي يوم لم أرك فيه ، بحثت عنك في بيوتاتك وبين أصحابك ، وفي مجلسك ، فأجدك وألقاك ، فتذكرت الآخرة ، فعرفت أنني إن دخلت النار ، فلن أراك أبدا ، وإن دخلت الجنة فإن منازل النبيين ليست كمنازل عامة المؤمنين ، فسكت عنه صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله جل وعلا قوله : (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) وأنتم سلك الله بنا وبكم سبيل الهدى منّ الله علينا وعليكم بأن جعلنا جيرانا له في داره صلوات الله وسلامه عليه ، وإنها لفأل حسن، ويمنٌ مقدم أن يجعلها الله جل وعلا مقدمة خير لنا ، أن نكون له جيران له صلوات الله وسلامه عليه في جنات النعيم ، وقبل ذلك أن نرد حوضه ، فإن الناس يخرجون من قبورهم أشد ما يكونون إلى ظل يأويهم ، وإلى ماء يرويهم ، ولا ظل يومئذ إلا ظل عرش الرحمن ، ولا ماء يومئذ في ساحات العرض أعذب من حوض نبينا صلى الله عليه وسلم مع أنه لكل نبي حوضا ، ولكن حوضه صلى الله عليه وسلم أعذب مورد ، وأكمل نقاءا وصفاءا ، أوردنا الله وإياكم حوض نبينه صلى الله عليه وسلم .
والاشتياق إلى رؤيته عليه الصلاة والسلام أمر قلبي يتذكر المؤمن ما فاه فيتحسر على أنه لم يرى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يحظى بالكلام معه ، ولم ينصره في معركة ، ولم يكن ذات يوم يتلقى العلم عنه ، فلم يحف به في مجلس ، ولم يزره في بيته فإذا غلبه الشوق وغلب عليه الحنين ، لجأ إلى أقواله وأفعال ، وأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فيتأسى بها وملأ قلبه محبة لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى يكون يوم غد قريب من جواره لوات الله وسلامه عليه في جنات النعيم .(49/20)
ومن دلائل محبته صلى الله عليه وسلم عدم التقدم بين يديه ، فالدين أيها المؤمنون كامل ، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) فمن أحب محمدا صلى الله عليه وسلم فليقتدي أثره وليتبع منهجه ، ولْيَسعْه ما وسع محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فليسعه ما وسع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، ووالله لن يأتي أحد لعده بعمل أزكى ولا أفضل ولا أجل من أعماله في دلائل محبتهم
لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، ومثل هذا طريق قد تزل فيه أقدام ، وقد تحتار فيه أفهام ، لكن العاقل البصير يعلم أن الله جل وعلا نهى على أن يتقدم أحد بين يدي الله ورسوله ، فيقف عند ما أوقفه النبي صلى الله عليه وسلم ويكتفي بهدي أصحابه صلى الله عليه وسلم ، بالتعبير عن محبتهم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه .
هذه أيها المؤمنون على وجه الإجمال دلالات المحبين وأحوالهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم .
بقي أن نعلم ما ثمار هذه المحبة وما الذي نجنيه من محبتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم ؟؟
·?أعظم ما يجنيه العبد من محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، محبة الله جل وعلا له ، لأن الله جل وعلا إذا
أحب عبدا أحب جبرائيل لمحبة الله جل وعلا له ، فإن نحن أحببنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أحبنا الله جل وعلا لأن الله هو الذي أختاره واصطفاه هو الذي قربه وناجاه ، وهو الذي شرح له صدره ورفع له ذكره ، ووضع عنه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، وهو الذي بعثه بين يدي الساعة هاديا ومبشرا ونذيرا ، وهو الذي أرسله رحمة للخلائق، وهداية للطرائق ، فمحبته صلى الله عليه وسلم يظفر الإنسان من خلالها لمحبة الله جل وعلا ، بل إن الأصل أننا نحب نبينا عليه الصلاة والسلام ، لأن الله جل وعلا أمرنا بحبه ، صلوات الله وسلامه عليه .(49/21)
ثم إن الإنسان إذا اجتمعت فيه هاتان المحبتان ولا انفكاك بينهما أبدا محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد في نفسه لذة الإيمان ، ومن المؤسف أن هذه الصحوة الإسلامية المباركة في شرق العالم وغربه وشماله وجنوبه ، كان التيار الفقهي فيها أعلى من التيار الإيماني ، وهذا لا ريب أنه خلل في المُرتقى ، وغير سليم في الوصول إلى طاعة الله جل وعلا لأنه يجب أن يقترن العمل بمحبة الله ومحبة رسول صلى الله عليه وسلم ، فكثير من الناس يؤدي الصلوات والزكوات ويصوم رمضان ويحج البيت لكنه يجد في نفسه جفاءً في المهج وقسوة في القلوب ، وعدم لذة في الطاعة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ) وجعل في أولها ومقدمها ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) فمحبة الله ورسوله ، تورث في النفوس غرسة الإيمان وتشعر المؤمن بالقرب من الرب جل وعلا والعمل الصاح إذا اقترن بمحبة الله جل وعلا واستحضار ثوابه وتقديم الإنكسار بين يدي الله جل وعلا فيه ، أورث ذلك كله قبولا عند الله جل وعلا .
·?كما أن ما يجنيه العبد من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم معيته صلوات الله وسلامه عليه في الجنان ،(49/22)
ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر على أعرابي فأكرمه في عزوة له، فقال له عليه الصلاة والسلام : " إذا قدمت المدينة فأتنا " فلما قدم المدينة عليه الصلاة والسلام جاءه أعرابي ذات مرة فقال له عليه الصلاة والسلام : " سلني حاجتك " فقال : "يا رسول الله أسألك ناقة وأعنزا يحلبها أهلي " فقال عليه الصلاة والسلام :" عجز هذا الأعرابي أن يكون كعجوز بني إسرائيل " قالوا : " يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل ؟ ، قال : إن موسى عليه الصلاة والسلام لما هم بأن يفارق أرض مصر ، أخبره علماء بنو إسرائيل أن يوسف أخذ عليهم عهدا أن لا يرحلوا من مصر إلا ويأخذوه معهم ، فقال : من يدلني على قبر يوسف ، فقالوا لا يعرفه إلا عجوزا في بني إسرائيل ، فلما قدم موسى بين يديها ، قالت : "لا أدلك حتى تأتيني سؤلي وحاجتي" ، قال : وما حاجتك ؟ قالت : "أن أكون رفيقتك في الجنة " .
فالأنفس العلية والقلوب المتعلقة بالله جل وعلا إنما ترقب المنازل العلا ، ولا ريب أن من أعطو المنازل ، مرافقة الأنبياء في جنات النعيم .
وقد كان ربيعة ابن كعب الأسلمي – رضي الله عنه – يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فلما همّ بتقديم الوضوء لرسول الله كما عند مسلم في الصحيح ، قال له : يا ربيعة سلني حاجتك ، قال : يا رسول الله أسألك مرفقتك في الجنة ، قال : أو غير ذلك يا ربيعة ؟ ، قال :هو ذاك ، قال :" يا ربيعة فأعني على نفسك بكثرة السجود " أي بكثرة الصلاة لله تبارك وتعالى .
وقصار الأمر ونهايته:أن في محبة الله جل وعلا ومحبه صلى الله عليه وسلم تطمئن القلوب وترتوي القلوب ، ويختصر المؤمن الطريق ، ويحظى بالتوفيق ، فيكون قريبا من الله قريب من رسوله صلى الله عليه وسلم .(49/23)
وما بيناه من منهج ظاهر اختصر من كتاب الله وسنة نبيه صلى اله عليه وسلم حري بالمؤمن أن يعض عليه بالنواجذ لا لقائله وإنما لمصدره لأنه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، واعلموا أن المرء أحوج ما يكون إلى ثلاثة أمور :
·?معرفة الهدى والحق والرشاد .
·?ثم العزيمة والتوفيق لأدائها .
·?ثم الثبات عليها .
فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة وفق الإنسان في الحياتين ، وسعد في الدارين ، وقد يعرف الإنسان مواطن الحق وأماكن الرشاد لكنه تقصر به الهمة على تحقيقه ، وقد يحققها لكنه يخالفه التوفيق في أن يبقى ثابتا عليها .
كان ميمون ابن قيس الملقب بالأعشى شاعرا جاهليا مرموقا حتى كان يعرف بصناجة العرب لأنه كان بشعره يرفع الخامل ويضع النبيه ، لما شاعر ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب قدم الأعشى من ديار قومه يريد أن يقدم على المدينة حتى يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام ، لأن الحق تبين له أمره ، فتعرض له القرشيون في الطريق ، وقالوا: له ما وراءك فأخبرهم بغايته ، وأنه أعد قصيدة يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : بعضهم لبعض لئن آمن الأعشى ومدح النبي عليه الصلاة والسلام فإن أمر محمد سيشيع وليدخلن الدين كل بيت ، فردوه ، فأخذوا يغرونه بالمال ، حتى اتفقوا معه على أن يعود من عامه هذا وقد أعطوه من النوق ما أعطوه ، فرجع والعياذ بالله فوق من ناقته وهو في طريقه ، فدق عنقه فمات على كفره وضلاله أعاذنا الله وإياكم .
وكان قد أعد شعرا وآمن في قلبه لكن حرم التوفيق بقضاء الله جل وعلا وقدره ، كان من ما قاله :
ألم تغتمض عيناك ليلت أرمد ... وبت كما بات الكريم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خُلّك مهددا
فأرثيت لا أرثي لها من كلالة ... ولا منحة حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم ... تُراحيْ وتلقي من فضائله ندى
نبي يرى ما لا يرون وذكره ... أغار في البلاد وأنجدا(49/24)
ختام الأمر أيها المؤمنون قبل أن ندعو إن نبيكم صلى الله عليه وسلم كان شفيقا رحيما رفيقا بكل من حوله ، حتى إنه ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام لها فقالوا : يا رسول الله هذه جنازة يهودي ،
فقال:" سبحان الله أليست نفسا منفوسا " ...فأين ما يسطره دعاة حقوق من إنسانية مما تركه نبينا صلى الله عليه وسلم من قيم عدل ؟ .
والمقصود من هذه الالتفاتة: كونوا رحماء بعضكم إلى بعض ، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم جامع لأن تأتلف عليه القلوب ، لا أن نتناحر ونتخاصم ، فيكفر بعضنا بعضا ، أو يفسق بعضنا بعضا ، أو يرمي بعضنا بعضا في بدع والزيغ عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، إن هذه الأمة أمة مرحومة وكلما كان قول الإنسان وكلامه يجمع بين الناس أكثر مما يفرق ، كان أقرب هديا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عضوا عن الزلل، غاضوا عن العورات ، لا يكون أحدنا يشغل همه وحديثه في أعراض المؤمنين ، من سلطان أو علماء أو دعاة أو عباد أو زهاد المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، يقول أحد الصحابة لنبينا صلى الله عليه وسلم إني أهم بأن أذبح الشاة فأرحمها فيقول صلى الله عليه وسلم مقرا لهم : " والشاة إن رحمتها يرحمك الله " فكونوا محبين لله محبين لرسوله صلى الله عليه وسلم ، رحماء كما وصف الله أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك أكمل الهدي وأفضل الطريق وأقومه .(49/25)
اللهم أنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القوم الذي لم يلد ولم يولد ، وبأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواسع العليم ، أسألك اللهم بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك ، وبقدرتك التي قدرت بها على الخلق ، وبرحمتك التي وسعت كل شيء ، أنت تصلي على محمد وعلى آل محمد ، وأن تبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد وأن تزقنا اللهم في هذه الحياة الدنيا الحياة على سنته ، والوفاة على ملته ، وأن تقبضنا اللهم على هديه واتباعه واقتفاء أثره ، اللهم أوردنا في عرصات يوم القيامة حوضه ، اللهم ارزقنا من شفاعته ، وأوردنا اللهم حوضه ، واحشرنا تحت زمرته ، اللهم ارزقنا جواره في جنات النعيم ، على الوجه الذي يرضيك عنا ، إنك أنت الله لا إله إلا أنت الرحمن الرحيم ، اللهم إن من إخواننا من أصابهم من المرض والبلاء ما أنت به عليم ، فاللهم جنبهم ما يخافون ، وأمنهم من ما يحذرون ، اللهم ارفع عنهم الضر والبأس يا حي يا قيوم ، اللهم اجعلنا مؤمنين بك ، مصدقين لرسولك صلى الله عليه وسلم ، محبين له مقيمين بسنته ، متبعين لهديه وطاعته وأثره يا رب العالمين ، اللهم أحينا حياة من تحب بقاءه ، وتوفنا وفات من تحب لقاءه ، اللهم أكرمنا وأهلينا وأزواجنا و ذرياتنا ، بدخول جنتك وسكنى ديار رحمتك يا حي يا قيوم ، اللهم أنانسألك نحبك وحب من يحبك ، وحب كل عمل يقرب إلى حبك ، اللهم إنا نعوذ بك من الضلالة بعد الهدى ، ومن الزيغ بعد الرشاد ونعوذ بك ربنا من الحور بعد الكور ونعوذ بك اللهم من كل عمل لا يراد به وجهك ، ولا يتقى به سخطك ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(49/26)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشه أن سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ......
فإن مما صح خبره من السيرة العطرة الأيام النظرة ، ممن طابت حياته ومماته صلوات الله وسلامه عليه ، حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال :" إن زاهرا كان رجلا من البادية ، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البادية هدية ، وكان النبي يعطيه قبل أن يذهب إلى البادية ويقول: "إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه " وكان زاهرا رجلا ذميما وكان صلى الله عليه وسلم يحبه ، فأتاه ذات يوم وزاهر يبيع متاعه في السوق ، فجاء صلى الله عليه وسلم إلى زاهر من خلفه ، وأخذ يضمه ويلصق ظهر زاهر بصدره صلوات الله وسلامه عليه ، وزاهر يقول : من هذا أرسلني أرسلني ، فالتفت فإذا نبي الأمة فعرفه صلوات الله وسلامه عليه ، فجعل زاهر لا يألو أن يلصق ظهره بصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : " من يشتري مني هذا ؟؟" فقال زاهر : يا نبي الله ستجدني كاسدا " -أي لا يشتريني أحد- ، فقال صلى الله عليه وسلم : "بل لست بكاسد أنت عند الله غال".
أيها المؤمنون : هذه منزلة رجل من بادية أمة محمد فكيف بمنزلة محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه ؟؟(50/1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) جعلني الله وإياكم ممن يقتدي بهديهم .
أيها المؤمنون: هذه قبسات وجوانب مضيئة وكل حياته صلوات الله وسلامه عليه مضيئة ، لكن من عظمة سيرته صلوات الله وسلامه عليه أنه يمكن أن تتناول بمختلف الطرق :
? يمكن أن تلقى كأخبار وقصص.
? ويمكن أن تدرس كاستنباط لما في طيات السنن من عظيم الآثار .
? ويمكن أن تتناول وتدرس بغير ذلك ، وهذا كله يدل على عظيم تلك الحياة ، التي عاشها نبينا صلى الله
عليه وسلم ، وخير ما يقدمه طالب العلم للناس أن يقدم إليهم محاولة جديدة في فهم سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم على غير ما يألفوه ، وإن كان لا يستطيع أن يحلق بعيدا عن ما ذكره الأخيار وسطره الأبرار من العلماء والمشايخ من طلبة العلم في الماضي والحاضر نفعني الله بنا وبهم الإسلام المسلمين .(50/2)
أيها المؤمنون : أولى القبسات: أن القلوب هي الأوعية التي يحب فيها الله ويعظم ويجل ومن عظيم محبة الله جل وعلا: ومن خلال جليل محبة الله في قلوب أي عبد ينجم عنها العمل والقرب إلى الله بالطاعات والازدلاف إلى الله بالحسنات وينجم عن ذلك البعد عن الحسنات ، والفرار من الذنوب والإحجام عن الموبقات ، ونبيكم صلى الله عليه وسلم جعل الله جل وعلا قلبه له تبارك وتعالى ، فولد عليه الصلاة والسلام دون أن تكتحل عيناه برؤية أبيه فنشأ يتيم الأب منذ ولادته ، فتعلق بقلب أمه وشفقتها وحنانها ورقتها عليه ، فما أن أتم ست سنوات إلا وحجبت عنه رحمة الأم بأن ماتت أمه ، فأخذ ذلك الصبي صلوات الله وسلم عليه يوم ذاك يدب نحو جده ويتشبث به فما هي إلا سنتان ويموت ذلك الجد ، فيصبح ذلك النبي المنتظر الذي يختم الله به النبوات ، ويتم به الرسالات لا أب ولا أم ولا جد له ، لأن الله جل وعلا وحده تكفل به (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) ولما بعث صلوات الله وسلامه عليه جعل الله له نصيرين: عمه أبا طالب ، وزوجته خديجة ، فلما تفاقمت عليه مصائب أعدائه ورموه عن قوس واحدة توفي العم وتوفيت الزوجة في أوقات متقاربة ، بل في شهر واحد حتى يطمئن صلى الله عليه وسلم أن الله وحده هو الذي سينجيه ويظهره ويعلي شأنه صلوات الله وسلامه عليه .
يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وكان قد مات ولداه القاسم وعبد الله قبل أن ينبأ ، فما بقي له إلا البنات فتعلق بهن صلوات الله وسلامه عليه مثله مثل أي أب.
ثم ما إن تعلق بعائشة رضي الله عنها وأرضاها وأحبها حتى رميت في عرضها رضي الله عنها وأرضاها .
ثم بشر صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر قال : " والله لا أدري بأيهما أسر ، بفتح خيبر م بقدوم جعفر " فما هي أعوام أو شهور معدودات ويموت جعفر ويبقى صلى الله عليه وسلم مع غير حبيبه جعفر .(50/3)
ثم يملي الله وحشته بأن يرزق صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم فما أن يظهر الود في قلبه عليه الصلاة والسلام ويتردد إلى عوالي المدينة كي يرى إبراهيم كل يوم ويقبله ويرفعه ويشمه ثمانية عشر شهر فقط ويموت إبراهيم ، حتى لا يبقى في قلبه صلى الله عليه ولم أحد إلا الله ، ولهذا ما قضى صلى الله عليه وسلم عمره إلا في ما قضاه الأنبياء من قلبه إلا وهو التعريف بربهم جل وعلا .
وإن أعظم نصرة له صلوات الله وسلامه عليه:
أن يؤخذ عنه الدين أو أن يأخذ عنه في المقام الأول عظيم توحيده لربه تبارك وتعالى ، فإن القلوب لا يستحق أن يملأ على عرشها أحد تحبه وتوالي وتبغض فيه إلا الرب تبارك وتعالى ، ولهذا كانت أعظم آيات القرآن تترى في أمكنة متعددة ، وأزمنة متباينة كلها تبين هذا المنهج العظيم الذي بعث من أجله الرسل وأنزل الله جل وعلا من أجله الكتب .
جاءه العاص ابن وائل وهو بمكة صلوات الله وسلامه عليه وفي يد العاص عظام قد أرمت فنفخ فيها ، وقال : " يا محمد أتزعم أن ربك يحي هذه بعد موتها ." فأنزل الله قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) الخُضرة لا تكون إلا من ماء ، والماء لا يتفق مع النار ، إذ هما خصمان ومع ذلك فإن الله جل وعلا يجعل من الشجر الأخضر نارا ولا يقدر على هذا إلا الله .
والمقصود: أن قلبه صلى الله عليه وسلم ملأ محبة وتوحيدا وإجلالا لله فنشأت دعوته كلها على هذا المبدأ العظيم الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب ، وهذا أعظم ما يمكن أن ينصر به العبد نبيه صلى الله عليه وسلم .(50/4)
من القبسات المضيئة في سيرته العظيمة صلوات الله وسلامه عليه:
عظيم شفقته ، ورحمته بأمته ، ولهذا حق على كل مسلم أن يعرف لهذا النبي قدره، وعظيم حقه لعظيم ما كان صلى الله عليه وسلم يحمله من المحبة والشفقة والرأفة بأمته ، في رحلة الإسراء والمعراج ، فرض الله عليه في السموات السبع الصلوات الخمس، خمسون صلاة في اليوم والليلة ،فلما عاد صلى الله عليه وسلم لقي أخاه موسى فقال له موسى ارجع إلى ربك فسأله التخفيف فإني قد بلوت الناس قبلك ، وإن أمتك لن تطيق ذلك .
ومن هنا أخذ العلماء إلى أن العلم ينقسم إل قسمين :
? علم عار عن التجربة .
? وعلم مقرون بالتجربة .
والعلم المقرون بالتجربة مقدم على العلم العاري منها ، فإن موسى عليه السلام ليس بأفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم ، لكن التجربة علمته أن الأمم لا تطيق مثل هذا فرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه يسأله التخفيف ، وما زال يتردد صلوات الله وسلامه عليه بين ربه حتى عاد إلى موسى وأخبره ، أن الله جعلها خمس صلوات ، فقال له موسى كذلك : ارجع إلى ر بك ، فسأله التخفيف ، فقال صلى الله عليه وسلم يعذر إلى موسى إنني استحييت من كثرت مراجعتي إلى ربي . فلما حفظ صلى الله عليه وسلم مقام الله ، حفظ الله له جل وعلا مقام أمته التي أوكل إليه أن ينافح عنها فسمع مناديا يقول : "أن قد أمضيت فريضتي وأبقيت أجري" ، وأبقاها الله جل وعلا خمس صلوات بأجر خمسين صلاة ، في اليوم والليلة .
ومن هنا أخذ العلماء فائدة : أن من قدم حق الله على حق الغير أكرمه الله وأكرم الغير .
فإن نبينا صلى الله عليه وسلم في المرة الأخيرة ازدحم عنده أمران :
? حق أمته .
? وحق الله .(50/5)
أدبه مع ربه ، وحق أمته بأن ينفح عنها ويخفف عنها كما طلب منه كليم الله موسى فاختار إلى أن يعتذر إلى موسى ويبقي حق الله تأدبا مع ربه ، فلما تأدب مع ربه صلوات الله وسلامه عليه أكرمه الله بأن جعلها خمس صلوات وجعل تجري على هذه الأمة أجر خمسين صلاة ، الحسنة بعشرة أمثلها ، وهذا من مقامه الرفيع صلوات الله وسلامه عليه ، في أدبه مع ربه تبارك وتعالى .
والمقصود منه : إخبار ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أدب تام ، وحرص عظيم على الشقة والرحمة بأمته في آن واحد .
من شفقته بأمته صلى الله عليه وسلم في الدنيا : أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين وسمى الله وكبر ، وقال في الأول "اللهم عن محمد وآل محمد" ، ثم قال في الآخر : "اللهم وهذا عمن لم يضحي من أمة محمد " شفقة بمن يأتي بعده صلوات الله وسلامه عليه .
ومن شفقته بأمته ، أمة إجابة عليه الصلاة والسلام أنه زار المقبرة فقال :" وددت لو أني رأيت إخواني ، قالوا :
يا رسول الله ألسنا إخوانك؟؟ قال: " بل أنتم أصحابي ، ولكن إخواني لم يأتوا بعد وأنا سابقهم إلى الحوض" ،
قالوا : يا رسول الله وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟، قال :" أريتم لو أن لأحدكم خيل غرا محجلة في خيل دهم بهم ، أفكان يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : "فإن إخواني يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " جعلني الله وإياكم منهم .
هذا كله نماذج من شفقته وحدبه صلوات الله وسلامه على أمته .(50/6)
كان يقوم الليل وهو عليه الصلاة والسلام ما قام الليل أحد أكرم على الله منه ، فلما تأسى به الناس ، وصلوا بصلاته في رمضان ، وهي قربة وفضيلة إلى الله ، ورفع درجات وتكفير خطايا لغيره ، اعتزلها وتركها وقال: " لقد علمت الذي صنعتم لكن خشيت أن تفرض عليكم"، فخوفه على الأمة أن يفرض عليها ما لا تطيق له حملا جعله صلى الله عليه وسلم يمتنع عن القيام جهرة في تلك الليالي ، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام من عظيم قرباته وجليل مناقبه عند ربه عظم قيامه لليل بين يدي الله جل وعلا .
ومن أعظم أسباب التوفيق وأجل العطايا ، وأعظم المنح ، أن يختار الله عبدا من عباده يقف بين يديه ، في ظلمات الأسحار يسأل الله ويرجوه ، ويدعوه ويناجيه .
لما أتتك قم الليل استجبت لها ... تنام عينك أما القلب لم ينمِ
الليل تسهره بالوحي تعمره ... وشيبتك بهود آية استقم
صلوات الله وسلامه عليه .
تفقده عائشة ، تقول ظننته ذهب لبعض نسائه ، ووجدت في المسجد قد انتصبت قدماه، يقول في سجوده : " الهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك "
هذه الثلاث النماذج من دلائل شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته في الدنيا .(50/7)
من شفقته على أمته في الآخرة : أن النار يحشرون عراه أحوج ما يكونون إلى الكسوة ، ويحشرون عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء ، ويحشرون ترجمهم الشمس أحوج ما يكونون إلى الظل وهناك يموج الخلق بعضهم في بعض يأتون أباهم آدم فيعتذر ، ويقول: " نفسي إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله ولا بعده مثله "، ثم يأتون إلى نوح يثنون عليه ، رجاء أن يستجيب لهم ، أنت أفضل رسل الله إلى أهل الأرض سماك الله في القرآن عبد شكورا ، فيقول : "نفسي نفسي" ويحيلهم إلى إبراهيم ، ويثنون على إبراهيم فيقول نفسي نفسي ، ثم يأتون موسى ، يثنون عليه يقول:" نفسي نفسي" ، يأتون عيسى ولا يذكرون ذنبا ، ولا يذكر ذنبا ، فيقول:" نفسي نفسي" فإذا أتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه ، ماذا يقول ؟ والأنبياء كلهم يقولون:" نفسي نفسي "، هو يقول صلوات الله وسلامه عليه : "أمتي أمتي" ، جعلنا الله من من ينتفع بشفاعته يوم العرض الأكبر .
هذه نماذج من حدبه صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته ، أليس نبيا هذه صفاته ومحبته لنا وشفقته علينا ورحمته بنا جديرا بأن يحب وأن نتقرب إلى الله جل وعلا بحبه واتباع هديه ، واتباع أثره ، صلوات الله وسلامه عليه .
من الجوانب العطر والنضرة في سيرته صلى الله عليه وسلم:
ما أكرمه الله جل وعلا به من الدعوة إلى الله جل وعلا بالأسلوب الأمثل ، وكمال الحسن والرفق في الخطاب ، حتى يبين دين الله جل وعلا على الوجه الأمثل والطريق الأقوم ، ولا تبقى لأحد حجة على الله بعد بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه .
وضع على ظهره سلى الجزور ، على كتفيه ، وهو يوم ذاك وإلى الآن ومازال صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق كرامة عند الله ، والاستنباط في القضية- والدرس علمي في المقام الأول-:(50/8)
أن تعلم أن مقام العبد لا يعرف بوضعه عند الناس ، الناس لا يرون منك إلا الظاهر ، لكن الأمر العظيم مقامك عند ربك جل وعلا ، فهذا ساجد عند الكعبة ، وسلا الجزور على كتفيه ، وزعماء قريش ينظرون ، يسخرون ويتضاحكون ، وهو صلى الله عليه وسلم عند ربه في أعلا المقامات وأرفع الدرجات ، والدنيا لم يجعلها الله جل وعلا دار مكافئة ، ومن أعظم ما يدلك على حقارة الدنيا أن الله جل وعلا أذن قدرا أن يعصى فيها ،مما يدل على حقارة الدنيا أن الله جل وعلا أذن قدرا أن يعصى فيها ، وإلا لو كانت للدنيا كرامة عند الله لما أذن الله قدرا لأحد أن يعصيه فيها ، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة ، ومقامه عند ربه في أرفع الدرجات وأعلى المنازل وأرفع المقامات صلوات الله وسلامه عليه .
وهذا أمر ينبغي لكل من يحيى في هذه الحياة الدنيا أن يستصحبها في مكل شأن ، لأن الإنسان إذا كان ينتظر من الناس مدحا أو ثناءا أو رفيع قدر ، فسيتعب تعبا كبيرا ، لكن أول طرائق العظمة:
أن تبدأ بنفسك ، ولن تكون عظيما حتى تكون عظيم العبودية لله جل وعلا .
واعلم يا أخي:
? أن لله جل وعلا صفات وكلما ازددت عنها بعدا كنت من الله أقرب .
? ولله جل وعلا صفات كلما اتصفت بها كنت من الله أقرب .
وهذه الصفات لا تعرف برابط أو قاعدة وإنما تعرف بحيثيات الشرع ، فلا يوجد وضع يضعه ابن آدم فيه ذلة له أعظم من أن يضع جبهته على الأرض ، فهذا موضع ذلة بلا شك ولما كان هذا أعظم موضع ذلة يفعله ابن آدم ، وجب أن لا يصرف هذا الموضع إلا للرب تبارك وتعالى ، قال الله لنيه : (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) فلما سجد صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله ، كان أقرب إلى ربه جل وعلا ، فكلما ازددت عبودية للرب تبارك وتعالى وانكسارا بين يديه ، كنت إلى الله جل وعلا أقرب ، فإن العظمة من شأنه وحده جل وعلا ، لا ينازعه فيها .(50/9)
والأمر الآخر: الكِْبر، فإن العظمة والكبرياء رداءان من راء الحق تبارك وتعالى ، فكلما تلبس الإنسان عياذا بالله من رداء الكبر كان من الله جل وعلا أبعد ، لأنه ينازع الرب تبارك وتعالى فيما هو من صفاته وخصائصه التي لا ينبغي أن ينازعه فيها أحد جل جلاله .
على العكس من ذلك فإن صفات الله جل وعلا الرحمة ، فمن كان رحيما بالخلق طمعا في أن يرحمه الله كان قريبا من رحمة الله جل وعلا قال الله جل وعلا : (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) وقال صلوات الله وسلامه عليه ، ( والشاة إن رحمتها يرحمك الله ) يقول لأحد أصحابه : ( والشاة إن رحمتها يرحمك الله ) ويقول : ( من لا يَرحم لا يُرحم ) وكلما كان الإنسان عفوا غفورا عمن حوله ممن يخطؤن عليه كان أدنى من عفو الله جل وعلا ورحمته وغفرانه ، وهذا الذي ينبغي أن تفهم فيه آيات الكتاب المبين ، وأخبار سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .(50/10)
وعظيم القدر هذا كلما جحده الناس بينه الله جل وعلا بجلاء من حيث لا تشعر ، فنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية جرى الصلح بينه وبين القرشيين فأخذت الوفود تتفاوت بينه وبين قريش ، كل مرة تبعث قريش رجل منها حتى بعثت سهيل ابن عمرو فقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد سهل أمركم ، لقد أراد القوم صلحا منذ أن بعثوا هذا الرجل ) فلما وضع الكتاب ليكتب واتفق الطرفان على الصلح وكان علي رضي الله عنه كاتب نبيا صلى الله عليه وسلم ، قال له صلى الله عليه وسلم : "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فاعترض سهيل وقال : " لا نعرف الرحمن ، ولا الرحيم ) اكتب كما نكتب باسمك اللهم ، صلى الله عليه وسلم ، وكتب باسمك اللهم ، ثم قال لعلي : " اكتب هذا ما قضى عليه محمد رسول الله سهيل ابن عمرو " فقال له سهيل : "لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، لكن اكتب اسمك واسم أبيك "، فرض علي رضي الله عنه أن يمحو ما قد كتب ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أين موضع الكتابة ، أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة وعلم الله به الجن والإنس ، فبين له علي موضعها فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده ، ثم أمر عليا أن يكتب هذا ما قاضى عليه محمد ابن عبد الله سهيل ابن عمرو ، من الذي جحد الرسالة هنا ؟ سهيل ابن عمرو فأنزل الله جل وعلا خاتمة سورة الفتح : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) ثم قال : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) ولهذا حذاق القراء من يريد أن يربط ما بين تدبر القرآن والآيات فليقرأ(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) لوحدها ، ثم يأتي بالواو استأنافية ، (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ) لأن في قول الله جل وعلا: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) رد على من أنكر رسالته ، بعثته صلوات الله وسلامه عليه .(50/11)
وفي الثانية: إخبار بأنصاره في الرسالة ، والمؤمنين الذين آووه ونصروه ، وجاهدوا معه وهاجروا ، من المهاجرين والأنصار ، وثناء الله جل وعلا عليهم من قبل في التوراة والإنجيل ، والغاية من هذا كله أن تعلم : أن الله جل وعلا لا يضيع عنده عمل عامل كائنا من كان ، وأن العبارة بمقامك عند الله جل وعلا وأنت ترى في طيات حياة نبيك صلى الله عليه وسلم ما يدلك على أن العبرة التامة برفيع مقامك عند الله ، ألا ترى أن الخضر وموسى عليهما السلام استطعما أهل قرية فقال الله : (فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا) فامتنع أهل القرية اللئام عن إطعام عبدين صالحين من عباد الله، لكن هذين العبدين لم يغير من ذلك من منزلتهما شيء عند ربهم جل وعلا ، وكيف تعرف قربك من ربك وعلو منزتك عنده ؟؟ هذا اعرض نفسك على كتاب الله يقول الله " (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وكل امرئ حسيب نفسه .(50/12)
من القبسات المضيئة في حياته صلى الله عليه وسلم : ما أجمله الصديق رضي الله عنه في خبر الوفاة ، فإن الأمة لن تفجع بأعظم من فجيعتها بوفاتها بنبيها صلوات الله وسلامه عليه ، وكان أبوبكر في السُنَح وهو عوالي المدينة ، والذي دفع أبا بكر أن يخرج إلى السنح رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد المرض ، أن النبي عليه الصلاة والسلام طل عليهم في ذلك اليوم ، لما أطل عليهم استبشر الناس خيرا ، فعمد أبو بكر إلى أن يذهب إلى أهله في السنح ، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وشاع ذلك في الناس ما بين مصدق ومكذب قدم أبوبكرمن بيته في السنح دخل على بيت عائشة بوصفها ابنته لا يحتاج إلى إذن ، فلما دخل على حجرة عائشة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مسجا على فراشة ، فلما كشف الفراش ، عرف أنه مت ، فقبله بين عينيه واغرورقت عيناه بالدموع رضي الله عنه وأرضاه وقال كلمة تختصر الكثير من العبارات ، قال " طبت حيا ومتا يا رسول الله " فهو عليه الصلاة والسلام طابت حياته وطابت مماته ، لأنه حياته وصلاته ونسكه ومماته كان لله رب العالمين ، كما أمره الله جل وعلا في آية الأنعام : (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) صلوات الله وسلامه عليه .(50/13)
أما طيب حياته صلى الله عليه وسلم فقد طاب خُلُقَاً ، وطابا خَلْقاً، طاب خَلْقا: بأن الله جعله في أتم هيئة في خلقه وقد كررنا مرارا وصفه الخَلقي ، فهو عليه الصلاة والسلام : كان سبط الشعر ، لا بالمسترسل ولا بالملتوي ، في جبهته عرق يدره الغضب إذا غضب في ذات الله ، أزج الحواجب أي دقيق الحواجب في قرن أي غير مقترنين ، أشم الأنف ، طويل أشفار العينين ، أبيض مشربا بحمرة ، كث اللحية ، الشيب فيه ندرة متفرق ، شيب في صدغه الأيمن ، شيب في صدغه الأيسر ،و شيب في شعره ، وأكثر شيبه أسفل علفقته السفلى ، وجملة ما فيه من الشيب لا يكاد يتجاوز عشرين شعرة ، كأن عنقه إبريق فضة ، من لبته الثغرة التي في النحر إلى أسفل سرته خيط ممتد شعر ممتد على هيئة خيط دقيق، عبر عنه الرواة بأنه دقيق المشربه ، ما بين كتفيه من الخلف شعيرات سود ، اجتمع بعضهن إلى بعض ناتئة عن الجسد قليلا كأنها بيضة حمامة ، عريض ما بين المنكبين ، سواء الصدر والبطن ، إذا أشار أشار بيده كله ، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال:" سبحان الله "، وعند البخاري في الأدب المفرد أنه إذا تعجب من شيء عض على شفتيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، إذا مشى مشى يتكفأ تكفأ كأنما ينحدر من مكان عال ، من رآه من بعيد أهابه ، ومن رآه من قريب أحبه ، يقول جابر ابن سمرة : صليت مع الني صلى الله عليه مسلم صلاته الأولى -أي صلاة الظهر- ، فطفق ولدان المدينة يسلمون عليه ، فصافحته فوجدت لكفه بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤمة عطار " صلوات الله وسلامه عليه ، وقال محمد ابن عمار لرُبَيِّع ابن معوذ : يا أماه صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: يا بني لو رأيت لرأيت الشمس طالعا ، فقال جابر ابن سمرة خرجت في ليلة ادحيان-أي الليلة البدر فيها مكتمل- فرأيت القمر ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء ، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فله عندي أجمل(50/14)
من القمر صلوات الله وسلامه عليه وطيبه صلوات الله وسلامه عليه .
وطيبه الخَلقي كان مقرونا بطيبه الخُلقي فلم يكن لعانا ولم يكن فحاشا ولا متفحشا ولا سبابا ، قال الله جل وعلا يزكي لسانه : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وزكى الله بصره (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) وزكى الله جل وعلا قلبه (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) وزكاه الله جل وعلا جملة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) منّ الله جل وعلا عليه بأن جعله خاتم الأنبياء ، وسيد المرسلين ، وأخذ الله جل وعلا العهد والميثاق على الأنبياء من قبله أنه إذا بعث فيهم وهم حياء أن يتبعوه (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) وكما طابت حياته وطابت خَلقه وطاب خُلُقه طابت مماته صلوات الله وسلامه عليه ، فكان آخر عهد بالدنيا أن استاك ، حتى طيب فاه قبل أن يلقاه ربه جل وعلا ، وبقدر الله يدخل عبد الرحمن ابن أبي بكر إلى بيت عائشة ، وبقدر الله ينظر صلى الله عليه وسلم إلى السواك ، ولا يستطيع وهو نبي الأمة ورسول الملة وسيد الفصحاء أن يقول أعطوني المسواك، ثم تأخذ عائشة السواك من أخيها فتقضمه وتطيبه فيتطيب عليه الصلاة والسلام ، ثم يجري عليه ما يجري على الأنبياء قبله، وجميع الأنبياء تجري عليهم أحكام خمس :
1. أنهم يرعون الغنم.
2. وأنهم يخيرون عند الموت .
3. وأنهم يدفنون في الموضع الذي مات فيه.
4. وأن الأرض لا تأكل أجسادهم .
5. وأنه تنام أعيونهم ولا تنام قلوبهم .
،(50/15)
فجرى عليه الثالثة من هذه الأمور وهو أن الملك أخذ يخيره ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة ، وما بين لقاء الله ثم الجنة ،و قلب كقلب محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتاق إلى شيء أعظم من شوقه إلى لقاء الله فلما خيره الملك ، سمعته عائشة وهو يقول : "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن ألئك رفيقا، اللهم اغفر لي ، بل الرفيق الأعلى" قالها ثلاثا ، فمالت يده وفاضت روحه صلى الله عليه وسلم إلى أعلا عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى .(50/16)
متى دفن ؟ توفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين ، ودفن ليلة الأربعاء ، بعد مغرب يوم الثلاثاء ومع ذلك لم يزدد بعد موته صلى الله وسلم بعد موته إلا طيبا ، عليه الصلاة والسلام ، ينظر إلى أصحابه قبيل وفاته في يوم مرضه يقولون تهلل وجهه كأنه ورقة مصحف وهذا ما عناه أبو بكر:" طبت حيا وميتا يا رسول الله " ، يغسلونه مراعاة لحرمته عليه الصلاة والسلام ، لا يحسرون عنه ثيابه ولا تكشف له عورة وإنما يباشر الغسل من فوق الثياب عليه الصلاة والسلام ،ثم من عظيم حرمته عند الله ولطيب مماته عليه الصلاة والسلام ، يلهم الله ألئك الأخيار أن لا يقدمون إماما يصلي بهم على نبيهم ، إنما حتى تصل صلاة كل أحد إليه مباشرة يشعر كل فرد أنه مباشرة الصلاة إلي النبي صلى الله عليه وسلم ، صلوا عليه أرسالا، فلا يقول أحدهم : صليت خلف أبا بكر على رسول الله ، وإنما يقول : صليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ثم يكرمه الله بأن يدفن وهذا من خصائص الأنبياء في الموضع الذي مات فيه ، فدفن عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة في الجهة الجنوبية الغربية من الحجرة مكان فراشه ، صلوات الله وسلامه عليه ، في تلك الحجرة كان يناجي ربه ، في تلك الحجرة كان يقوم الليل ، في تلك الحجرة كان يتنزل عليه الوحي ، في تلك لحجرة كان جيب السائلين ، في تلك الحجرة كان يطعم الأضياف ، وفي تلك الروح أسلم الروح وفي تلك الحجرة دفن ، ومن تلك الحجرة يبعث ، صلوات الله وسلامه عليه ، وبقدر الله ترى عائشة قبل مماته أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها ، فتذهب إلى أبيها وهو من المعبرين تخبره بالرؤيا لكن ذهبت إلى الصديق أعلم الناس بنبينا صلى الله عليه وسلم وأكملهم أدبا فاستحيى أن يعبرها حتى لا يخبرها بقرب موت نبينا صلى الله عليه وسلم ، مع أن الموت حق ، فلما وقع ما وقع ومات رسول الله ودفن في الحجرة ، جاء الصديق رضي الله عنه إلى ابنته وقال : ( يا بنية هذا أول أقمارك(50/17)
) والاثنان الآخران كان الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وأرضاه ، وعمر رضي الله عنه وأرضاه في يوم موته كانت عائشة رضي الله عنها أحق الناس بالحجرة ، لأنها حجرتها ، وكان الناس يعلمون أنه لم يبقى إلا موطن قبر واحد ، فلما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يهمه إلا أمران : قال لابن عباس : " اذهب فانظر من طعنني ؟؟ فذهب ابن عباس أو ابنه عبد الله ، فعرف أن الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي ، فقال : "يا أمير المؤمنين أبشر بالذي يسرك الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي" ، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه " الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على رجل ممن سجد لله سجدة" .(50/18)
إن المؤمن الذي يخشى الله حقا لا يحب أن يأثم أحد بسببه ، ولو كان ذلك الآثم فعلها عدوانا وظلما ، كما فعل عثمان رضي الله عنه ، لما منع الناس أن يحموه حتى لا يراق دم بسببه ، فعمر رضي الله عنه استبشر خيرا أن الذي طعنه لم يكن مؤمنا ، ثم قال لابنه عبد الله : اذهب إلى عائشة وقل لها : "أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه" . فذهب عبد الله واستأذن على عائشة فقالت وهي تبكي : " والله لقد كنت أدخره لنفسي -أي المكان- ولأثرن اليوم على نفسي " فذهب عبد الله فدخل على أبيه قائلا : يا أبتاه ابشر بالذي يسرك ، فخاف عمر أن تكون عائشة قد فعلت ذلك حياءًا لأنه حي ، فأوصى ابنه قائلا : يا بني إذا أنا مت وغسلتني وكفنتني فاحملني وقل عمر ابن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ولا تقل أمير المؤمنين ، يستأذن أن يدفن مع صاحبيه فإني يوم ذاك لست بأمير ، وحتى إذا أرادت عائشة أن تعتذر تعتذر حتى يكون فعلها عن طيب نفس منها ، فحُمل بعد غسله ودفنه ، على أعناق الرجال ثم نودي أن عمر ابن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فأذنت ودفن ، ويقول بعض الرواة والعلم عند الله : أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها بعد أن دفن عمر في حجرتها بنت جدارا ، بينها وبين القبور ، حياءًا من عمر وهو ميت ، قالت : في الأول لم يكن إلا زوجي ووالدي ، أما الآن فزوجي ووالدي ورجل آخر ، تقصد عمر رضي الله عنه وأرضاه ، فإن صحت هذه الرواية وليست ببعيدة أن تصح وأيا كان الأمر فإن المرأة لا ترزق شيئا أعظم من أن ترزق الحياء مع غيرها من الرجال ، لا يمكن أن ترزق المرأة بخصيصة أعظم من خصيصة الحياء مع الرجال ، قال الله جل وعلا عن احدي ابنتي العبد الصالح : (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) .(50/19)
والمقصود أيها المؤمنون في هذه الأخبار كلها رغم تشتت الحديث بيان كيف مات مماته صلوات الله وسلامه عليه ، ومن هذه الحجرة يخرج صلى الله عليه وسلم وهو أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، فيجد أخاه موسى آخذ بقوائم العرش فيجد أخاه موسى آخذا بقوائم العرش وانظر لعظيم تمسكه صلى الله عليه وسلم بالقرآن يقول له :
(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فيطبقها عمليا فيقول : "إذا بموسى آخذ بقوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وبدين الله وبالأخبار الشرعية كلها ،ويقول لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ، صلوات الله وسلامه عليه .
مما يمكن أن يدرس في سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه :
أنه بيّن لأمته بلسان حاله ومقاله على أن يكون التراحم بينهم، وهذا قرره القرآن في الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا : (رحماء بينهم )، التراحم بين المؤمنين من أعظم الغايات ، وأجل المطالب والمقاصد الشرعية التي جاء بها الدين ونزل بها القرآن ونطق بها رسول الله عليه وسلم ، وهذا المبدأ العظيم كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يغرسه في أمته بطرائق متعدد :
يدخل عليّ رضي الله عنه وأرضاه في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجلس ممتلئ بمن فيه ، فيتنحى الصديق قليلا وينادي علي ويقول:" هاهنا يا أبا الحسن" ، ويجلسه بجواره ، فيقول عليه الصلاة والسلام ليقرر مبدأ التراحم ومعرفة قدر الناس بينهم يقول : " إنما يعرف الفضل لألي الفضل ولوا الفضل " وهو ثناء على الصديق وثناء على علي ، وتعليم للأمة صلوات الله وسلامه عليه .
وهذه الرحمة تكون فيك أيها المحب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن علمت قواعد شرعية :
? أعظمها أن الله جل وعلا يحب من عباده الرحماء .(50/20)
? والأمر الثاني أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأنبياء قبله ، ثم قال : " وإني لأرجوا الله أن أكون
أكثرهم تابعا " فهو عليه الصلاة والسلام يجب أن يكثر سواد أمته ، وحتى يكثر سواد أمته ينبغي أن نحرص
على الدعوة في سبيل دينه صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا من أعظم أسسه وأجل مقومات أن نتراحم فيما بيننا ، إن الإنسان إذا كان شفيقا رحيما بزوجته ، وأولاده وأبويه في المقام الأول ، وسائر المؤمنين ، كان قريبا من الله محققا لما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته ولما نشر فيها من الفضائل ، ولما دعاهم إليه صلوات الله وسلامه عليه ، من كريم الطباع وجميل الأخلاق أن يتراحم الناس بينهم ، فيما بعضهم البعض .
من الجوانب التي نحاول أن تأملها في هذا اللقاء المبارك : أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أن يبين لأمته عظيم الموقف بين يدي الله جل وعلا، ومن أعظم ما يعين على الطاعة أن يستحضر العبد وقوفه بين يدي الله قال الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).
ذكر صلى الله عليه وسلم ذات يوم الميزان وأنه لا يغادر مثقال حبة من خردل إلا توزن فجاءه رجل فقال : " يا نبي الله إن لي أجراء يظلمونني وأظلمهم " فقال صلى الله عليه وسلم بين له أن الأمر يوم القيامة قصاص ، يؤخذ ما عليك وتعطى ما لك ، فقال الرجل بعد أن قرر أن يتخلص من هؤلاء الأجراء تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) بين صلوات الله وسلامه عليه أن الأمر يوم القيامة عظيم جليل الخطب ، يحتاج كل امرئ أن يتقي الله جل وعلا فيه .(50/21)
هذا أيها الإخوة المؤمنون ما تيسر إيراده وتهيئ إعداده، وإن جاء على عجالة نسأل الله لنا ولكم من فضله العظيم .(50/22)
رقم الحلقة ... العنوان ... رقم الصفحة
1. ... سورة الرحمن آية 1-4 ... 3
2. ... سورةالطلاق 5 ... 5
3. ... سورة التكوير 8-9 ... 8
4. ... سورة الكهف 97 ... 11
5. ... سورة الضحى ... 14
6. ... سورة أسباب التقديم والتأخير لذكر الجن والأنس ... 17
7. ... سورة القصص44 ... 20
8. ... سورة الأحزاب37 ... 23
9. ... { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ... 26
10. ... { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } ... 29
11. ... { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ... 32
12. ... سورة الأنعام 151 ... 35
13. ... سورة البقرة96 ... 38
14. ... سورة الكهف 18 ... 41
15. ... سورة الأنعام 83 ... 44
16. ... سورة النساء 11 ... 47
17. ... سورة النحل 67 ... 50
18. ... سورة النور16 ... 53
19. ... سورة القمر 7القارعة 4 ... 56
20. ... سورة النجم 1-2 ... 59
21. ... سورة القصص7 ... 62
22. ... سورة التحريم11 ... 65
23. ... سورة الروم54 ... 69
24. ... سورة الإسراء85 ... 72
25. ... سورة لفظ ( كلا) ... 76
26. ... سورة الأنفال 1 ... 80
27. ... سورة لقمان34 ... 84
28. ... سورة الأنفال64 ... 88
29. ... سورة يوسف100 ... 92
30. ... سورة الرحمن 46-47 ... 95
-1-
الحمد الله الخالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله.. أما بعد..
فهذه حلقة من حلقات برنامجكم (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة(، وهذا البرنامج المبارك يعني بآيات الكتاب المبين من حيث دلالاتها البيانية والبلاغية تمهيداً ببيان مراد الله جلا وعلى منها.(51/1)
وأول الآيات التي سنشرح في بيان معانيها بياناً وبلاغياً هو قول الله جلا وعلى:( الرَّحمَنُ، عَلَّمَ القُرءَانَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ) أيّه المستمع الكريم نعلم جميعاً أن الرب تبارك وتعالى له الأسماء الحسنى وصفات عُلى، ومن أسماءه الحسنى (الرحمن) وهذا الاسم المبارك استفتح الله جلا وعلى به هذه السورة المباركة، ثم أتبع ذلك جلّ ذكره بذكر نعمتين عظيمتين أنعم بهما على خلقه: نعمت الخلق والإيجاد، ونعمت الهداية والإرشاد، ومعلوم قطعاً بداهة أن نعمة الخلق والإيجاد مقدمةً زمناً على نعمة الهداية والإرشاد، كما أن نعمة الخلق والإيجاد يشترك فيها جميع المخلوقين جميع الموجودين فالذي خلقهم وأوجدهم من العدم ورباهم بالنعم هو الرب تبارك وتعالى، لكن الله جلا وعلى هنا قال: ( الرَّحمَنُ، عَلَّمَ القُرءَانَ) فذكر تعليم القرآن مقدماً على الخلق والإيجاد، وهذا هو السر الذي البياني الذي سنقف عنده في هذه الحلقة المباركة.
فنقول لما كانت نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد قدمها الله وإن كانت متأخرة زمناً، إلا أن الله جلا وعلى قدمها لعظيم نفعها وجلالة أثرها، ولأن نعمة الهداية والإرشاد لا ينالها إلا المؤمنون لا ينالها إلا المطيعون المخبتون المتقون، لكن نعمة الخلق والإيجاد هي مشتركة بين الخلق ينالها كل أحد فكل مخلوق من براً أوفاجر من مؤمناً أو كافر من بني آدم من الجن من الملائكة من البهائم من الطير كلهم يجتمعون يتساوون في أنهم مخلوقون لرب تبارك وتعالى، فهذا السر البياني الذي من أجله قدم الله جلا وعلى نعمة الهداية والإرشاد لأنها خاصة أعطها الله جلا وعلى لبعض خلقه ومنحها تبارك وتعالى لبعض عباده جعلنا الله وإياكم ممن أفاء الله جلا وعلى هذه النعمة..(51/2)
ثم إننا نقول معرجين على ما في هذه الآية أن (الرحمن) اسمُ من أسماء الله الحسنى، وكذلك (الرحيم) اسمُ من أسماء الله الحسنى، وبينهما خصوص وعموم، وجملة ما يمكن أن نفيد به في هذا اللقاء أن نقول إن اسم(الرحيم) يطلق على الرب تبارك وتعالى ويوصف به غيره قال الله جلا وعلى في نعت نبيه صلى الله عليه وسلم :( بالمؤمنين رؤوف رحيم)، وتقول في كلامك إن فلاناً رجلٌ رحيم، وإن زيدٌ رجلٌ ذو شفقة ورحمة ورحيم بمن حوله، لكن اسم (الرحمن) لا يطلق إلا على الرب تبارك وتعالى ولا يصح شرعاً ولا يجوز أبداً إطلاقه على غير الرب جلا وعلى.
نعود إلى قوله سبحانه: (عَلَّمَ القُرءَانَ، خَلَقَ الإِنسَانَ) من المتفق عليه عند النحاة أن (عَلَّمَ) تنصب مفعولين، فما المفعولان اللذان نصبتهما الفعل (عَلَّمَ) هنا؟ أما الأول: فظاهر وهو القرآن لكن هل نقول إن لفظ القرآن هنا هو المفعول الأول أو هو المفعول الثاني؟ الذي يترجح أن القرآن هنا هو المفعول الثاني، فيبقى علينا تقدير المفعول الأول، وتقديره اختلف أهل التفسير والتأويل فيه رحمة الله تعالى عليهم أحياءاً وأمواتاً، لكن الأرجح أن يقال إن التقدير أن يكون نبيه فيصبح المعنى (الرحمن، علّم نبيه القرآن) وفي اعتمادنا لاختيار المفعول الأول أن يكون لفظ نبيه هو أن في ذلك ردٌ على زعم قريشاً وافتراءها أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن من عنده وليس القرآن من عند الله في زعمهم وهذا باطلُ وهذه إحدى الردود التي رد الله جلا وعلى بها على زعم أولئك الكفار ومعلومُ أن قريش قالت فيما قالته( قال الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) وهناك طرائق عده تتبعها القرآن في الرد على قريش وزعمهم وهذا واحد منها في أن الله جلا وعلى أخبر بنص صريح واضح جليل بيّن أن هو تبارك وتعالى الذي علّم نبيه هذا القرآن وأنزله عليه وأرسله به صلوات الله وسلامه عليه.(51/3)
قال شوقي: جاء النبيون بالآيات فنصرمت وجأتنا بحكيم غير منصرمي
آياته كلما طال المدى مِددٌ تزينهن جلال العتقِ والقدمي
وقال صلى الله عليه وسلم: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضِلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي) من هنا يتضح أيها الأخ المبارك والأخت المباركة ممن يستمع إلى برنامجنا هذا أن التقديم والتأخير هنا كان لغرض بلاغي هو إظهار شأن القرآن وبيان نعمت رحمة الله جلا وعلى بعباده المؤمنين أن هداهم للإيمان والتقوى، وأن هذا مقدمُ حساً ومعنى ولفظاً ومبنى على نعمة الخلق والإيجاد التي يشترك فيها الخلائق أجمعين فليس لخلق أحداَ بخصيصة على خلقِ أحداً غيره.
هذا ما تيسر إرادة وتهيئ إعداده وأعان الله جلا وعلى على قوله في هذه الحلقة التي عنينا بها ببيان التقديم والتأخير في كلام العليُّ الكبير حول قول ربنا جلا وعلى :( الرَّحمَنُ، عَلَّمَ القُرءَانَ، خَلَقَ الإِنسَانَ، عَلَّمَهُ البَيَانَ) وصلى الله على محمداً وآله والحمد الله رب العالمين
-2-
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً قيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن الرحمة المهداه والنعمة المسداه سيدنا ونبينا محمداً ابن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..(51/4)
أيه الأخ المستمع المبارك والأخت المستمعة المباركة ، الآية التي نحن بصدد الحديث عنها وبيان ما فيها من معالم بيانية في هذا البرنامج المسمى ( مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة) في قول الله جل وعلا :( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أن يُبدِلَهُ أَزوَاجاً خَيراً مِّنكُنَّ مُسلِمَاتٍ مُّؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَآئِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَآئِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) فنقول أيه المؤمن أيتها المؤمنة المباركة إن الرب تبارك وتعالى هنا يخبر عن ما وقع في بيت نبينا صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤي إلى حجرات قريبات من مسجده صلوات الله وسلامه عليه وفي تلك الحجرات كان يقضي حياته الزوجية كأحسن ما يكون عليه الصلاة والسلام، يمثل في ذلك النموذج الأمكن والطريقة الأتم في قضية كيف يتعامل الإنسان مع زوجاته عليه الصلاة والسلام، يقع في بيته ما يقع في بيوت سائر الناس، لأنه عليه السلام بشر من سائر ممن خلق الله، إلا أن الله جل وعلا أكرمه بأن ختم به النبوات وأتم به الرسالات، مما وقع له عليه الصلاة والسلام أن بعض نساءه تظاهر عليه وإن اختلف العلماء في سبب ذلك التظاهر فبعضهم رده إلى ما وقع من أنه عليه السلام وقع على مملوكته ماريه القبطية في بيت حفصة، وقال آخرون بغير هذا، ويري علينا أن الله جل وعلا خاطب الصالحات من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وكلهنّ صالحات بقوله ): إن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَد صَغَت قُلُوبُكُمَا وَ إن تَظَاهَرَا عَلَيهِ (أي على نبينا) فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَولَاهُ وَجِبرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلَآئِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) ثم أردف وأتبع جل وعلا الآية هذه بقول الله ( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ) هذه الحلقة تبحث في أن الله جل وعلا ذكر ثمانية صفات هاهنا وهي قوله :( مُسلِمَاتٍ مُّؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَآئِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَآئِحَاتٍ(51/5)
ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) ونلاحظ أن حرف (الواو) لم يأتي إلا بين قوله (ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) أما ما سلف من الصفات وما ذكر من النعوت سابقة فلم يفصل ربنا جل وعلا بينهن في كتابه بفاصل، ذهب بعض العلماء إلى أن هذه (الواو) تسمى (واو الثمانية) ومن حججهم على إثباتها أن صفات الأول سبع وصفة أبكار ثامنة ، وقالوا إن هذه الواو كثيراً ما تقترن في العدد الثامن، ومن أدلتهم على ذلك قول الله جل وعلا في سورة الزمر:( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُم إلىَ الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَت أَبوَابُهَا) قالوا هذه(الواو) التي في قوله سبحانه (وَفُتِحَت أَبوَابُهَا) هي الواو التي في قوله جلّ ذكره (ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) ، ومن أدلتهم كذلك أن الله جل وعلا ذكرا عدد أصحاب الكهف فقال سبحانه) : سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُم كَلبُهًم وَيَقُولُونَ خَمسَةٌ سَادِسُهُم كَلبُهُم رَجمَاً بِالغَيبِ وَيَقُولُونَ سَبعَةٌ وَثَامِنُهُم كَلبُهُم) فذكر الله هنا فقال إن الله ذكر الواو هنا لأنها دلت على الثمانية، والحق أننا لا نجد في ذلك قوة من حيث الدليل، أما آية الكهف فإن الله تبارك وتعالى لم يغير صفة الإسناد فعلى هذا لا يمكن أن يحتج بأن هذه الواو (واو الثمانية)، وأما في آية الزمر فإن الراجح أنها واو الحال وأن ثمت شأناً سيحدث وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم يكون شفيعاً لأهل الموقف من المؤمنين في أن يدخلوا الجنة، أما النار فإن أهلها يدخلونها ابتدءاً كما قال الله :( حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَت أَبوَابُهَا)، أما الجنة فقد دل الحديث الشريف على أن النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح باب الجنة بعد أن يكون الناس قد ذهبوا إلى آدم فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم.(51/6)
بقي التعليل وتوضيح الآية التي نحن بصدد ذكرها في هذا المقام، فنقول هذه الواو (واو عطف) والعطف يقتضي المغايرة في الأصل وإنما جيء بها هنا لبيان أن المرأة قد تكون مؤمنة و مسلمة من قبل وقانتة وتائبة وعابدة وسائحة في وقت واحد فلا تعارض أن تجمع المرأة بين هذه الصفات، ولهذا لم تقع واو العطف بينهنّ، أما (الثيبات والأبكار) فإنه محال عقلا أن تكون المرأة ثيب وبكر في وقت واحد محال عقلا وواقعا أن تكون المرأة ثيباً وبكرا في وقت واحد ولهذا فصل بينهما بالواو فهذه الواو (واو عطف) ولا علاقة لها بواو الثمانية؟ فلو فرضنا جدلاً في غير القرآن أن الله جل وعلا ذكر خمسة صفات لهؤلاء المؤمنات ، فإن قوله جل وعلا (ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) كان لابد معه أن يفرق بين هاتين الصفتين بالواو بصرف النظر عن عدد الصفات التي قبلها لأن المرأة كما قلنا لا يجتمع أن تكون ثيباً وبكرا في آنٍ واحد، هذا البيان الحقيقي للمسألة و إظهار المعلم البياني لها، بقي كذلك أن يقال لماذا قدم الله جل وعلا الثيب على البكر؟ نقول هنا والعلم عند الله أن النبي صلى الله عليه وسلم خُوطب بهذه الآية وقد جاوز الخمسين وهو عليه الصلاة والسلام لديه من النساء الكثير مما أباحه الله جل وعلا إليه سُنة الله في الذين خلو من قبل، والنبي صلى الله عليه وسلم تعلقه بالنساء في قوله عليه الصلاة والسلام :( حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب) ليس التعلق الشهواني المحض الذي يوجد عند بعض الرجال لكنه عليه الصلاة والسلام كانت هناك مصالح جمّه نجمت عن تعدد أزواجه بيّنها العلماء في موضعه، لكنه هنا قدمت الثيب لبيان أن القضية قضية ليست حرص على مسألة شهوة محضة هو عليه الصلاة والسلام راجح العقل، تزدحم حياته بالكثير من المسؤليات هو أحوج إلى امرأة مجربة رصينة عاقلة أحوج منه إلى امرأة بكر، وإن كانت عائشة رضي الله عنها كانت بكراً لكن ليست الكثيرات من النساء في مثل درجة عائشة رضي(51/7)
الله عنها وأرضاها من الفضل والكرامة والعقل التي أعطاها الله جل وعلا إيّاها فكانت رضي الله عنها وعن أبويها نعم السند لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، هذا بهذا الأمر ينجلي الحديث عن قول الله جل وعلا (ثَيِّبَاتٍ وَأَبكَاراً) ويتضح أن الواو هنا هي (واو العطف)جيء بها للمغايرة وليس كما ذهب إليه بعض أهل الفضل من أهل العلم في أنها واو الثمانية، وهذه الآية الكريمة كما هو معلوم هي الآية الخامسة في سورة التحريم التي صدرها الله جل وعلا بقوله:( يَآأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبتَغِى مَرضَاتَ أَزوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، قَد فَرَضَ اللَّهُ لَكُم تَحِلَّةَ أَيمَانِكُم وَاللَّهُ مَولَاكُم وَهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ) والذي يعنينا هنا كما بينا إظهار ضعف قول من قال إن الواو هنا واو الثمانية، وأوضحنا جلّياً أن المقصود من هاذكم المغايرة وأن ثمت أسباب معنوية وعلمية تدفعنا إلى القول بأنه لابد من التفريق ما بين الثيب والبكر لعدم اجتماعهما، بخلاف ما سلف من صفات وما ذكر من نعوت فإنه يمكن الجمع بينهن كما بيناه في حينه.
وفي الآية كذلك التي قبلها دليل على منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه إذا أن قول الله جلا وعلى ( وَإن تَظَاهَرَا عَلَيهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَولَاهُ وَجِبرِيلُ وَصَالِحُ المُؤمِنِينَ وَالمَلَآئِكَةُ بَعدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) إظهارٌ جلّيُ وبيان واضح بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه، هذا أيها الأخ المبارك والأخت المباركة ما تيسر إراده وتهيئ قوله سألين الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لكل خير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
-3-(51/8)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد...
فهذه حلقة من حلقات برنامجكم المبارك (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آيات قُرآنِيَّة) والآيات التي سنشرع في بيان بعض معالمها البيانية في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا في الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة التكوير) : وَإِذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت)، بدايةً نبين أن (المَوءُودَةُ) هي الفتاة التي دفنت حيّة، وهذا كان تفعله العرب في جاهليتها، وأهل التاريخ يقولون: إن سبب ذلك أن رجلاً منهم في أول الأمر غزاه أعداء الله فأسروا أهله وبناته وكان منهن في الأسر ابنة له، هذه الفتاة ما لم تطاع أبوها أن يصطلح مع أعداءه خيّرت ما بين أبيها وما بين أسِرِها الذي قيل إنه تزوجها فلما تزوجها هذا الرجل وخيرت ما بينه وهو أسر لها في الأصل ما بين أبيها أختارت زوجها الأسر، فأعقب ذلك حنقاً في قلب أبيها فأقسم أن لا تلد له ابنة إلا ذبحها وهي حيّة، هذا في ما يزعمون، أصل (الوأد) في العرب فتبعته العرب على ذلك، وله سبب آخر هو الفقر(الإملاق) وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله في حلقة آخرى.(51/9)
لكن سنقف هنا عند السبب الذي يتعلق بخوفهم من العار والشنار قال جل وعلا عنهم:( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهَم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ القَومِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَآءَ مَا يَحكُمُونَ) هذا التعميم الذكر الكامل للقضية عندهم في جاهيليتهم وذكر أخبارهم أردفه الله جل وعلا وأعقبه في سورة التكوير بقولة:( وَإِذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) ما السر الذي يحاول كشف المثال عنه في هذا اللقاء، هو لماذا وجه السؤال للموءدة؟ فنحن نعلم أنه لا ذنب لها، لما لم يوجه السؤال لمن قام بالوأد؟ هذا الذي يتبادر أول الأمر وبادي الرأي لمن يقرأ الآية فمعلوم أن القرآن عظيم منزل من رب كريم فما عجزنا عن فهمه فنتهم أفهامنا، وإلا القرآن هو الأصدق في أخباره والأسمى في بيانه والأشد وعظاً في عباراته، فنقول قال العلماء في هذا من أجمل الأجوبة في هذا أن يقال: إن أولئك الذين يقومون بالوأد لا يقيم الله جل وعلا لهم يوم القيامة وزنا، ولا يحفل الله جل وعلا بهم، وليس لهم عند الله أدنى كرامة في يوم العرض الأكبر، ومن دلائل هوانهم على الله وأنهم ليس لهم وزنٌ في ذلك المقام العظيم أن الأسئلة لا توجه لهم فلا يحفل بهم ولا يعتبر وجودهم ولا يخاطبون فهم أقل من أن يخاطبوا وأدنى من أن يوجه السؤال لهم ولهذا قال الله جل وعلا:( وَإِذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت) فتسأل (بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) فيكون في جوابها سوف تقول لا ذنب ليّ ، فيكون في جوابها إهانة لذلك الذي قام بالوأد، وهذا هو المقصود الأسمى من الآية أن يبين ما أعده الله جل وعلا من ذليل المكانة لأولئك القوم الذين تنكبوا هذا الطريق وقاموا بهذا العمل لأن الله جل وعلا وصفهم كما وصفهم في سورة النحل بقوله): أَلَا سَآءَ مَا يَحكُمُونَ) فقول ربنا جل وعلا (وَإِذَا المَوءُودَةُ(51/10)
سُئِلَت، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) ظهر لنا الآن المقصد والمراد منه من أنه توبيخ وإقامة سخرية واستهزاء وبيانٌ لمهانة لأولئك القوم الذين لم يحفلوا بنعمة الله جل وعلا أن أنعم عليهم بالبنات فعمدوا إلى قتلهم أحياء خوفاً من العار، وفي هذا بيان ظاهر إلى أن الإنسان يكون عاقلاً، نعم قد ينجم من الفتاة عاراً إذا كبرت لا يختلف على هذا اثنان أنه قابل أن يقع وإن كان قليلاً، لكن العاقل لا يدفع مصلحة حالةً من أجل مفسدة لم تقع بعد، فلا يقدم درء مفسدة يظن يتوهم وقوعها على من؟ على مصلحة راجحة بينة، فنعمة الفتاة نعمة البنت، نعمة عظيمة من الله.
قد عنيى الإسلام بها أعظم عناية قال صلى الله عليه وسلم:( من عال جاريتين حتى تبلغا دخلت أنا وهو الجنة كهاتين وأشار إلى أصبعيه السبابة والوسطى..) نقول بعد هذا عني الإسلام بها أيّما عناية، وجاءت الأحاديث تظافرت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم تدعوا الرجل وولي الأمر والأب إلى العناية بالبنات وأنهن طريق إلى الجنة إلى غير ذلك مما هو مذكور مشكول في موقعه في السنة.(51/11)
نعود فنقول الله جل وعلا هنا يقول مخبر إجمالاً عما سيقع يوم القيامة من أهوال ومن نقم تقع على أهل الكفر، وإدلال في ذلك الموقف من الله جل وعلا لهم ومن ذلك أن بعضهم لا يقيم الله له وزن ، ومن هنا يمكن جمع هذه الآية مع بعض ما ذكره الله جل وعلا من أخبار العصاة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم يوم القيامة ولا ينظر إليهم، وأخبر جل وعلا أن لهم عذاباً أليماً، فهناك بين الموقف بأن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين :( وَإِذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) وقال بعض العلماء: في الجواب عن هذا (وَإِذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) أي قتلت بلا ذنب، وهذا معلوم لكن يبقى بقول الله جل وعلا :( بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) على أنه استفهام يجري على مجراه الحقيقي ويكون الجواب منها في عرصات يوم القيامة، لأن السؤال متوجهٌ إليها، فيكون في جوابها بيانٌ وتوبيخ لذلك الذي قام بوأدها، نسأل الله جل وعلا العافية.
ويستنبط المسلم من هذا أن الإنسان إذا اتبع أحداً يكون على بينه من أمره وعلى رشدٍ في قوله وفعله، فلم يكون أولئك الجاهيليون صائيبين ومتتبعين لطريق الحق في إتباعهم لذلك الذي سنّ لهم وأد البنات فيما قبل، لأن الله جل وعلا نهت ذلك بقوله(أَلَا سَآءَ مَا يَحكُمُونَ) هذا ما تيسر إراده وتهيئ قوله وأعان الله جل وعلا على ذكره حول قول ربنا تبارك وتعالى (وَإِذَا المَوءُودَةُ سُئِلَت، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت) الآيتان الثامنة والتاسعة من سورة التكوير، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
-4-
الحمد لله رب العالمين خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وقدوة للعاملين وحجة على المعاندين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.... أما بعد..(51/12)
أيها الأخوة المستمعون والأخوات المستمعات هذه حلقة جديدة من برنامجكم (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة) ، والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء هي قول الله جل وعلا في الآية السابعة والتسعين من سورة الكهف) : فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقباً) والمخبر عنه هنا هو ذلكم الردم الذي بناه ذو القرنين وقبل بيان ما نحن عازمين على بيانه هو أن نبين أن الله جل وعلا جعل لهذا الملك ذي القرنين سلطاناً عظيماَ وحجج باهرة وقدرة قال الله عنها:( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرضِ وَءَاتَينَاهُ مِن كُلِّ شَيءٍ سَبَباً( طاف ذو القرنين الآفاق وجال المشارق والمغارب حتى وصل كما قال الله جل وعلا) : حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَينَ السَّدَّينِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوماً لَّا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَولاً) طرحوا عليه قضيتهم (قَالُوا يَاذَا القَرنَينِ إِنَّ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ _ قبيلتان من سيادة ابن نوح على نوح السلام _ (مُفسِدُونَ فِي الأَرضِ فَهَل نَجعَلُ لَكَ خَرجاً عَلَى أَن تَجعَلَ بَينَنَا وَبَينَهُم سَدّاً( فأجابهم هذا الملك الصالح ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجعَل بَينَكُم وَبَينَهُم رَدماً، ءَاتُونِي زُبًرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَينَ الصَّدَفَينِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ ءَاتُونِي أُفرِغ عَلَيهِ قِطراً) فبنى ذو القرنين هذا الردم بين السدين ليكفى شر يأجوج ومأجوج عن أولئك القوم الذين نعتهم الله جل وعلا بقوله:(لَّا يَكَادُونَ يَفقَهُونَ قَولاً) ثم قال الله جل وعلا :( فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقباً) ما نريد أن نوضحه هاهنا لماذا ذكرت )اسطَاعُوا) بالتخفيف وذكرت (استَطَاعُوا) بالتثقيل ؟ (فالتاء) زيدت في الفعل الثاني وتركت وخُلّي عنها الفعل الأول، والعرب تقول: إن(51/13)
الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، ونجيب على ذلك كما أجاب أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم من قبل مما يلي.
هذا الردم الذي بناه ذو القرنين ليسد ويكفى شر يأجوج ومأجوج حاولت تلك القبائل (يأجوج ومأجوج) أن تتجاوزه إلى ما تريد، ولا سبيل لهم إلى تجاوزه إلا بإحدى طريقين:
الطريقة الأولى: أن يظهروا على السد بمعنى أن يصعدوا عليه أن يرتقوا عليه ثم يصلون إلى مرادهم.
والحالة الأخرى: أن يحدثوا فيه نقبا فإذا أحدثوا فيه نقبا سهل لهم بعد ذلك أن يخرجوا إلى غيرهم من خلال هذا النقب ، هذا هو المتعين لهم والذي يلومونه.
ومعلوم أنهم إذا اختاروا إحدى الطريقتين، فإذا اختاروا الارتقاء والعلو والظهور كما حكاه الله فإنه بلا شك أسهل من قضية أنهم يسعون في النقب ذلك الردم، ومعلوم لكل ذي عقل أن ارتقاء الشيء والعلو عليه ارتقاء الجبل مثلاً والعلو عليه أيسر بكثير من نقبه وخرقه، ولهذا جعل الله جل وعلا ذلك الظهور قرنه بالفعل (اسطَاعُوا) مخففاً ( فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ ) حتى تدخر (التاء) لما هو أشد وهو النقب فيصبح هناك توازن ما بين المعنيين المراد ذكرهما، وما بين الفعلين اللذين سبق بهما ذلك المعنى.
فقال ربنا ( فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ ) ثم قال (وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقباً) فلما كان النقب أشد من الظهور جعل الله جل وعلا (التاء) مزيده في(استَطَاعُوا) وجعلها مخففه في (اسطَاعُوا) وجعلها مزيده في (استَطَاعُوا) فقال ربنا :( فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقباً) ولا ريب أن هذا يبين لنا بجلاء عظمة هذا القرآن وأنه منزل من لدن حكيم خبير لا رب غيره ولا إله سواه.(51/14)
والمؤمن الذي يكثر من تلاوة القرآن ويقف عند هذه المعالم البيانية فيه لابد أن تؤثرا على للسانه فبصبح أكثر سليقة وأقرب إلى الفصاحة والبيان والعلم بالبلاغة واللغة من غيره لأن القرآن في أصله كما قال الله (قرآنا عربيا غير ذي عوج) ، وإن استطردنا في الحديث عن ذي القرنين فإننا نقول زيادة في الإيضاح إن هذا الرجل أحد من ذكرهم الله جل وعلا بثناء، لكن اختلفت كلمة أهل العلم فيه هل هو معدود في الأنبياء أم لا؟ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال)لا أدري أكان ذي القرنين نبياً أم لا) وما أجمل تلك العبارة التي قالها بعض العلماء فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لا أدري فكيف لنا أن نقتحم الجزم في ذي القرنين هل هو نبيٌ أو لا؟ فنقول كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم لا ندري أكان ذو القرنين نبياً أم لا لكنه كان ملكاً صالحاً قطعاً لأن الله جل وعلا أخبر عن علو شأنه وعن قوله تبارك وتعالى :( فَأَتبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغرِبَ الشَّمسِ وَجَدَهَا تَغرُبُ فِي عَينٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوماً قُلنَا يَا ذَا القَرنَينِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فَِيهِم حُسناً) وجه الدلالة على صلاحه قول الله جل وعلا عنه: (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إُلَى رَبِّهِ فّيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكراً، وَأَمَّا مَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الحُسنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِن أَمرِنَا يُسراً) نقول أيها الأخ المبارك والأخت المباركة في هذا التوافق في المعنى ما بين الفعلين وهذا عودٌ على بدء يبين لنا عظمة القرآن وسمو أسلوبه وجمال عبارته وأن الرب تبارك وتعالى كما عني جل وعلا بما تضمنه هذا القرآن من معاني عني جل وعلا بما كان في هذا القرآن من فصاحةٍ وبيان ولا ريب أنه أنزل كذلك على رسولٍ ببيان وبلاغة هو رسولنا صلوات الله وسلامه عليه قال الله جل(51/15)
وعلا:( فَإِنَّمَا يَسَّرنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوماً لُّدّاً(
هذا ما تيسر إراده وأعان الله جل وعلا على قوله حول قوله تبارك وتعالى في الآية السابعة والتسعين من سورة الكهف:( فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظهَرُوهُ وَمَا استَطَاعُوا لَهُ نَقباً) نرجو الله أن يكون قد حل بهذا البيان الكثير من الإشكال حول هذه الآية المباركة في سورة الكهف والله تعالى أعز وأعلى وأعلم وصلى الله على محمدٍِ وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
- 5-
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد....(51/16)
أيها الأخوة المستمعون والأخوات المستمعات هذه حلقة من برنامجكم (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة) والآيات التي نحنُ بصددِ الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك من هذا البرنامج هو ذلكم التناسق في سورة الضحى قال الله جل وعلا ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) ثم قال ((فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ))هذه الثلاث الآيات التي ختم الله جل وعلا بهنّ هذه السورة الكريمة تتناسب كل واحده منهنّ مع ما قبلها فبعض الناس يزدلف إليه بادي الرأي أن قول الله جل وعلا ((وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ)) إنما هو موافق لقول الله تبارك وتعالى((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) فيظنها أنها مناسبة لقوله ((وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) بدايةً نوضح المعاني العامة للآيات ثم نزدلف إلى ما نريد إماطة اللثام عنه من سر الآية بيانياً الله هنا يمتن على نبيه وما أعظم منِن الله على هذا النبي الكريم الذي هو خير الخلق وأفضلهم يقول له ربه((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى)) واليتيم وذلكم المنقطع في اللغة عمّا يلتصقُ به الذي أنفرد عنه وهو في العرف الشرعي كل من فقد أباه قبل بلوغه فإذا بلغ خرج عن كونهِ يتيماً نبينا صلى الله عليه وسلم ولدته أمه وقد توفي أبوه وهو حمل عليه الصلاة والسلام فأخبر الله جل وعلا بأمر واقع ومشهود ولذلك قريش كانت تسمي النبي عليه الصلاة والسلام يتيم أبي طالب لأنه نشئ في كنف عمهِ أبي طالب قال شوقي:
ذكرتُ باليتمِ في القرآنِ تكرمتاً وقيمة اللؤلؤ المكنونِ في اليتمِ(51/17)
هذا الأمر أعقبه الله جل وعلا بقوله ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى)) يناسبه ويتناسق معه قول الله ((فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ)) وانَظر إلى تعليم الله لنبيه فالنبي عليه الصلاة والسلام عرف اليتم وذاق مرارته فلهذا كان عليه الصلاة والسلام أحن على يتيمٍ من غيره لأنه عليه الصلاة والسلام بعث رحمة في الأصل فكيف وقد بعث رحمة مع كونه صلى الله عليه وسلم يعرف معنى اليتمِ الذي جربه صلوات الله وسلامه عليه وتلك حكمة بالغة وإن كان في ظننا أن المقصود الأسمى من وفاة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم في صغره أن ذلك المراد الأسمى منه فيما نعلم أن لا يكون لأحد على النبي صلى الله عليه وسلم مِنه من الخلق أياً كان الأمر فقول الله جل وعلا ((فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ)) إنما هو موافق مناسب متناسق مع قوله ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى)) أما قول الله جل الله وعلا((وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى)) فإن الضلالة في القرآن وردت بمعانٍ ثلاثة المقصود بها هنا هو التوقف ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى)) كان النبي صلى الله عليه وسلم متوقفاً في أمر قومه فلم يكن يعلم عليه السلام أين الهدى ((مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ )) وفي نفس الوقت كان على يقين من أن قومه على الباطل والدليل أنه كان على يقين من أن قومه على الباطل أنه عليه الصلاة و السلام لم يتبعهم فيما هم فيه ولم يسجد لصنم قط وإنما كان يفر عن أنديتهم ومجتمعاتهم ويأتي الجبل و يتحنت الليالي ذوات العدد كل ذلك فراراً مما عليه قومه مما يدل على أنه عليه السلام لم يكن مقتنعاً أبداً طرفة عين ولا أقل من ذلك مما عليه قومه من الضلالة لكنه في نفس الوقت لم يكن يعلم أين الهدى فهداه الله وهذا معنى قول الله جل وعلا ((وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى)) ما الذي يناسبها في خاتمة السورة يناسبها قول الله جل وعلا ((وَأَمَّا(51/18)
السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ)) إذاً إلاما تنصرف كلمة السائل هنا؟ تنصرف إلى المسترشد المستخبر عن أمر دينه في المقام الأول ولا يمنع حسب قواعد التفسير أن تنصرف كذلك إلى السائل المسكين لكن في المقام الأول تنصرف إلى المسترشد ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجبُ من يسأله في أمر الدين على أي حال كانت ونحن نعلم أنه كان يقف في موقف في عرفه وفي غير عرفه في أيام الحج فيسأله الناس ويجيب وقد قال العلماء من أجل هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر من غزوة أو ما شبهها يبدأ بالمسجد حتى يعرف الناس بقدومه فإذا عرفوا بقدومه قدموا إليه ليسألوه ويأخذوا عنه دينهم صلوات الله وسلامه عليه فهذا هو المعنى الحقيقي الأول في قول الله جل و علا ((وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ)) ثم قال الله لهُ كما قال في الأول ((وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) أي وجدك فقيراً ذا حاجة ومسكنه فأغنى وليس المقصود بالغنى هنا البطِر والكبر والتعالي والخوض في غمرات الدنيا محال فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تمر أيام وليالي وشهور كما تُنبأ عائشة ولا يوقد في بيته نار لكن لا يعني ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش الفقر التام طول حياته لكنه كان أحياناً يجد وأحياناً لا يجد لا يتكلف مفقودا ولا يرد موجودا صلوات الله وسلامه عليه يعيش حياة العبودية الحقه الذي يعنينا قول الله جل وعلا ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) متناسبة لقوله تبارك وتعالى(( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)) والتحدث بنعمة الله يكون وفق سياقه الشرعي إذا قصد به إظهار عظمة الله وفضله وإحسانه ولم يقصد به التعالي على الخلق ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )) ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتعالى على أحدٍ غيره طرفة عين صلوات الله وسلامه عليه بل(51/19)
كان النموذج الأكمل في التمام والكمال الخلقي الذي أتاه الله جل وعلا إياه بل إذا ذكرنا هنا جل الصفات أفائها الله جل وعلا على نبيه وأخبر عنها لأنها هي موئل الحديث اليوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم جمع خلال الخير كلها وصفات الفضل بأكملها قال شوقي رحمه الله وما أجمل ما قال:
فإذا خطبت فللمنابر عزةٌ تعرُ النبي وللقلوبِ بكاءُ
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميل عهدك ذمةٌ ووفاءُ
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماءِ قضاءُ
وإذا بنيت فخير زوج عشرتاً وإذا ابتنيت فدونك الأبناءُ
وإذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا حملت الماء لم يرد ولو أن القواصر والملوك ضماءُ
صلوات الله وسلامه عليه يتحرر من هذا أيها الأخُ المبارك والأخت المباركة أنّ ما ختم الله جل وعلا به سورة الضحى تلك السورة المكية هو متناسب متناسق مع ما سلف بيانه من ثلاث صفات أخبر الله جل وعلا عنها عن نبيه كان عليها فمتنّ الله عليه جل وعلا بأفضل منها فأواه بعد أن كان يتيماً وهداه بعد أن كان ضالاً متوقفاً وأغناه بعد أن كان فقيراً عائلا صلوات الله وسلامه عليه هذا ما تيسر إرادة وأعان العلي الكبير على قوله حول سورة الضحى وما ختم الله جل وعلا بها من آيات تبين جليل القدر وعظيم المكانة لسيد الخلق وأشرفه صلى الله عليه وسلم عند ربه راجين الله أن يكون فيما قلناه بركتاً ونفعاً لمن يسمعه ويستمعُ إليه وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
-6-(51/20)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعارُ ودثارُ ولواءُ أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها الأخوة المستمعون والأخوات المستمعات هذه حلقة جديدة من برنامجكم معالم بيانية في آيات قرآنية ونحنُ إذ نحدد بعضاً من البيان الذي نشرعُ في إيضاحه في هذه الحلقات نعمدُ كذلك إلى إثراء المعارف وتزويد المعلومات محاولة قدر الإمكان للوصول إلى المستمع والمستمعة الكريمة إلى الغايات المثلى والطرائق الجُلى في فهم كلام رب العزة جل جلاله ذكر الله جل وعلا الجنَّ والإنس في كتابه وفي هذه الحلقة سنشرعُ إن شاء الله تعالى في بيان بعض أسباب التقديم والتأخير لِذكر الجنَّ والإنس في كلام الله جل وعلا قال الله جل وعلا
{(51/21)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } فقدم الله جل وعلا هنا خلق الجنَّ وذِكر الجنَّ وقال سبحانه { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } فقدم ذِكر الجنَّ وقال جل وعلا في الإسراء {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } سنناقش في هذا اللقاء لماذا قُدم الجنُّ أحيانا ؟ ولماذا أُخروا ؟ ولماذا قُدم الإنس أحياناَ ؟ ولماذا أُخروا ؟ الجنُّ دل ظاهر القرآن على أنهم أقوى من الإنس ولهذا أعان الله جل وعلا بهم عبده ونبيه سليمان عليه الصلاة والسلام , كما أن الجنَّ من حيث بدأ الخلقة أقدمُ وأولُ خلقاً من الإنس فإن الله جل وعلا خلق الجنَّ قبل أن يخلق الإنس قال الله جل وعلا { وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ } الجنُّ ينسبون إلى إبليس وأما الإنس فينسبون إلى أبيهم آدم عليه السلام قال الله جل وعلا في حق الجن { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } وقال في حق بني آدم يخاطبهم وينسبوهم إلى أبيهم { يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } وكذلك تعددت آيات يخاطب الله جل وعلا فيها الإنس وقد نسبهم إلى أبيهم آدم , إذاً اتضحت بعض المعالم الآن لما ذكر الله جل وعلا المطالبة بالعبادة التي من أجلها خلق الله الثقلين قدم جل وعلا الجنَّ لأنهم أسبقُ خلقاَ فقال سبحانه { وما خلقت الجنَّ والأنسَّ إلا ليعبدون } فخلق الجن مقدمٌ زمناً على خلق الإنس فلهذا خاطبهم الله جل وعلا ابتداء, وقدمهم على الوجه الآخر ذكر الرب تبارك وتعالى أولئك الجنود الذين حشرهم لسليمان وأن سليمان أُتيٍَ مُلكاً عظيما فقال جل وعلا { وحشر لسليمان جنوده من(51/22)
الجنِّ والأنس والطير } فأنت تلحظ أن الله جل وعلا قدم الجن ثم ذكر الإنس ثم ذكر الطير فهذا الترتيب باعتبار القوة لكن آية الإسراء { قل لئن اجتمعت الإنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } الإنس أشهر بالبيان أعرفُ بالبيان هم أفصحُ لساناً ولهذا لما كان الله جل وعلا يتحداهم جميعاً والمخاطب في المقام الأول مشركوا قريش يتحداهم في أن يأتوا بمثل هذا القرآن قدم الله جل وعلا الإنس لأن الأنس أهل بيان بخلاف الجنَّ وإن كان يحصل بينهما التحادث والتخاطب قطعا إلا أنهم مشهورونَ بالقوة أكثر من كونهم مشهورينَ بأنهم ذوي بيان, من هنا تتضح بعض المعالم في تقديم الجنَّ والإنس في كلام الله إذا عدنا إلى خلق هذين الثقلين فإننا نقول: إن الرب تبارك وتعالى لم يذكر بالتفصيل في كلامه العزيز مسألة خلق الجنَّ وإنما أرشدَ جل وعلا إلى أنهم من ذرية إبليس ولأنهم مخلقون من نار وأن الجانَّ كما قال ربنا مخلوق من قبل و( قبل ) هنا جاءت في القرآن منقطعة عن الإضافة والمعنى من قبلِ خلق آدم , أما آدم فقد عُنيَ القرآن عناية عظيمة بذكر خلقه صلوات الله وسلامه عليه وأن ذلك مر بمراحل عديدة منها المرحلة الترابية ثم مُزج ذلك الترابُ بالماء فكانت المرحلة الطينية ثم أصبح ذلك الطينُ بعد أن ترك فخار فكانت المرحلة الفخارية.(51/23)
هذه الثلاث هي مراحل خلق آدم عليه السلام وقد أكرمه الله جل وعلا أنه تبارك وتعالى خلقه بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شي ثم بعد ذلك أكرمه بأن أدخله جنته وهذا الذي جعل بعض أهل العلم يقول: إن آدم عليه السلام في الصورة المثلى من الخلق فلما ذكروا خلقَ يوسف عليه الصلاة والسلام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث المعراج قال: ( فرأيت رجلاً قد أُعطيَ شطر الحسن ) فقوله صلى الله عليه وسلم ( شطر الحسن ) الألف واللام هنا إما أن تكون إلى معهود لفظي أو تكون إلى معهود ذهني ولا يوجد معهودٌ لفظيٌ في الحديث فوجب إمراره على المعهود الذهني فالمستقر عند كثيرٌ من العلماء أن شطر الحسن أي أن يوسف عليه السلام على الشطري من جمال أبيه آدم عليهما جميعاً أفضل الصلاة والسلام لأن آدم خلقه الله جل وعلا بيده فلما خلقه الرب تبارك وتعالى بيده لم تعطى هذه المزيه لأحدٍ غيره وقد قلنا مراراً في هذه الحلقات المباركة أنه يجب أن ينتبه ونستصحب أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل تقول العرب < يوجدُ في البئر ما لا يوجد في النهر ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر > فكون آدم عليه السلام أُعطيَ هذه المزيه بأن الله خلقه بيده فهذا لا يعني أبداً أن آدم أفضل الخلق فنبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق جميعاً ومثال هذا في حياة الصحابة عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى عليه وسلم يقول: ( أشد أمتي حياءًا عثمان ) ويقول: ( آلا أستحي من رجُلٍ تستحي منه الملائكة ) وهذا لا يعني أبداَ أن عثمان رضي الله عنه أفضل من الشيخين أبي بكر وعمر وفي كُلٍ فضل.(51/24)
بقي أيها الأخ المبارك أن نبين بعض ما يمكن أن يطلق على الجنَّ , الجنُّ العرب إذا كان الجنُّ خالص أي لا يقصدون إلا وصفه يقولون:جنَّي فإذا سكنَ البيوت سُميَ عامر أي يعمر البيوت على شكل حيايا أو عقارب أو أي هيئةٍ أخرى ويُجمع على عُمار والعرب تقول: إذا تعرضت الجنُّ للصبيان وأفزعهم سمته العرب أرواح فإذا خبث وأخذ يضل سموه شيطان فإذا زادت قوته الشيطانية أسموه عفريت أما كلمة مارد فتأتي وصف إما للعفريت أو للشيطان هذا ما حكاه الإمام ابن عبدالبر رحمة الله تعالى عليه وهو إلى الصواب أقرب, لكن ينبغي أن ينبه أن الجنَّ التي تسكن البيوت والمسماه بالعوامر , جاء في موطأ مالك بسند صحيح أن رجلاً من الصحابة كان حديث عهدٍ بعرس أي حديث عهدٍ بزواج خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في جهة الخندق ثم أخذ يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته ولا يرابط في الخندق لأنه حديث عهدٍ بعرس فستأذن ذات مره وكان النبي صلى الله عليه وسلم غالباً ما يأمره أن يأخذ سلاحا خوفاً عليه من بني قريظة المقصود من هذا أن الرجل لما عاد وجد زوجته خارج الدار ثم ضربها أرادا أن يهوي عليها بالسيف فأشارت إليه إلى داخل البيت فإذا بحية فضربها بالسيف فماتا جميعاً الحية وهو وهذا يعني يدل على وجوب أن يكون الإنسان على مهله في التعامل مع ذوات البيوت خوفاً من أن تكون من العمار وقد أذن لنا في مثل هذه الأحوال أن نحرج عليهم ..
وفقنا الله وإياكم إلى كل خير وجمعنا الله وإياكم في حلقة قادمة وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين..
-7-
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليومٍ لا ريب فيه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداَ عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعدُ......(51/25)
فهذه حلقةٌ جليلةُ مباركه من برنامجكم معالم بيانية في آيات قرآنية الآية التي نحن بصددها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا في سورة القصص ((وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) هذهِ الآية ذكر الله جل وعلا فيها نفياً وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نبينا لم يكن بجانب الغربي من جبل الطور في تلك اللحظات المباركات التي كلم الله جل وعلا فيها موسى وقربه وناجاه وأدناه وأوحى إليه بما شاء من الأمر إذاً هذا الأصل في الآية أما ما نريد أن نميط اللثام عنه فهو كالتالي نستصحب أولاً مسائل مهمة موسى عليه الصلاة والسلام أحد أولي العزم من الرسل الكرام وهذا النبي الكريم اصطفاه الله جل وعلا وكلمه قال الله جل وعلا ممتنا عليه :(( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين)) والطور في اللغة هو الجبل الذي ينبت فيه الشجر وأما الطور المقصود هنا فهو الطور ذلكم الجبل الذي نبت فيه الشجر من أرض سيناء فالطور واحد جبل واحد في أرض سيناء ومعلومُ أن أي شيء موجود واقع ماكث له أربع جهات شمال وجنوب وشرق وغرب ومعلومٌ أن هذه الجهات الأربع لا تحتمل شيئاً من المدح ولا من الذم أي لا يتعلق بأحد هذه الجهات الأربع مدحُ في ذاته من غير ما قرينةٍ أخرى فالجهات لا تفضلُ بعضها على بعض لكونها جهة شمال أو جهة جنوب أو جهة شرق أو جهة غرب هذا يجب تحريره في المسألة قبل أن نشرع فيما نريد أن نبينه لكم.(51/26)
الأمر الثاني اليمين والشمال هذهِ فيها جهة فضل فاليمين قطعا أفضلُ من الشمال ومن دلائل ذلك أن الله جل وعلا أفردها في مقابل الجمع وهو أسلوب قرآنيٌ في بيان الفضل قال الله جل وعلا :(( عن اليمين والشمائل سجداً لله)) على هذا نريد أن نبين التالي موسى عليه الصلاة والسلام أخبر الله جل وعلا في القرآن أنه كلمه عند جانب الطور الأيمن قال الله جل وعلا: (( ونادينه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا)) وقال تبارك وتعالى: (( وواعدناكم جانب الطور الأيمن)) لكن الرب تبارك وتعالى هنا يقول: (( وما كنت بجانب الغربي )) فعدل القرآن هنا عن ذكر اليمين إلى ذكر الغرب لماذا؟(51/27)
إظهاراً لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم محمد ابن عبد الله عند ربه فإن قال قائل ما علاقة محمد صلى الله علية وسلم بهذا الخبر والله جل وعلا هنا يتكلم عن موسى ؟ قلنا التالي لما ذكر الله جل وعلا صفة الإثبات ذكر صفة اليمين مقترنةَ بها ((وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا)) ثم الله جل وعلا يريد أن يحكي لنبيه هذا الأم لبيان شرفه صلوات الله وسلامه عليه عند ربه وذكر الله النفي قال:( وما كنت) أزال الله جل وعلا ذكر كلمة اليمين حتى لا ينفى الفضل عنه صلوات الله وسلامه عليه فذكر عدل القرآن عن ذكر اليمين إلى ذكر الغرب فقال جل وعلا: (( وما كنت بجانب الغربي)) لأنه لو قيل في غير القرآن وما كنت بجانب الأيمن لكان فيها نفيٌ يمني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا محالُ في حقه من جهة إكرام الله له فعدل القرآن عن هذه اللفظة إلى لفظةٍ لا يتعلق بها مدحُ ولا ذم وهي جهة الغرب فقال الله جل وعلا: (( وما كنت بجانب الغربي إذا قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين)) وهذه تالله ووالله من فرائد العلم التي تبين عظيم المنزلة وجليل المكانة لنبينا صلى الله عليه وسلم عند ربه على أنه إذا استطردنا في هذا الموضوع يجب أن نتنبه أن كلمة (كليم) إذا أُطلقت يراد بها كليم الله موسى لكن لا يعني هذا أبدا أن الله جل وعلا حصر مقام التكليم في موسى فقد سُئل صلوات الله وسلامه عليه عن أبيه آدم أنبيٌ هو؟ فقال نبيُن مكلم فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر الصحيح مقام التكليم لنبي الله آدم كما أنه هو صلوات الله وسلامه عليه كلمه ربه كلمة في رحلة المعراج فأضحى الآن بالخبر الصحيح الذين ثبت أن الله كلمهم ثلاثة آدم ثم موسى ثم نبينا صلى الله عليه وسلم ولا يبعد أن يعطى مثل هذا المقام خليل الله جل وعلا إبراهيم والذي عنينا من هذا إماطة اللثام هنا بيان رفيع الدرجة وعلو المنزلة في الخطاب القرآني لنبينا صلى الله عليه وسلم(51/28)
وهذا الخطاب القرآني لنبينا عليه الصلاة والسلام المبين رفيع مقامه له قرائن عديدة لا تحصى منها أن الله خاطب أنبيائه بأسمائهم المجردة (( يا نوح اهبط بسلام منا)) ((يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي )) (( يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا)) (( يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة )) وليس في القرآن كله مخاطبة الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم بالفظ المجرد فليس في القرآن كله يا محمد وإنما في القرآن يأيها النبي ويا أيها الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهذا يبين رفيع المقام وجليل المكانة له عليه الصلاة والسلام عند ربه نحن كمستمعين أو نحن معشر المستمعين يجب علينا في هذا المقام أن نتأسى بأسلوب القرآن فإن القرآن كتاب هداية في حديثنا عن نبينا صلى الله عليه وسلم فنتوخى جميل الألفاظ وأصدق العبارات وأحسن الكلمات التي تنبأ عّما في قلوبنا لنبينا صلوات الله وسلامه عليه وهذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما يأمره النبي عليه السلام أن يبقى مكانه عندما صلى بالناس ثم قدم عليه الصلاة والسلام ثم تأخر أبو بكر فأمره النبي أن يبقى مكانه فرفع يديه يدعُ ثم تأخر ثم تقدم عليه الصلاة والسلام صلى بالناس لما فرغ من صلاته سأله ما منعك أن تثبت إذا أمرتك ما ذا قال الصديق؟ قال ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمل قول الصديق ما كان لابن أبي قحافة ولم يقل ما كان لي أبي بكر هذا بعض من فيض من أدب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معه رزقني الله وإياكم الفقه في الدين والعلم النافع وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
-8-(51/29)
الحمد لله الذي تقدست عن الأشياء ذاته ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد.....(51/30)
فهذه حلقةٌ جديدٌ مباركةٌ بإذن الله من برنامجكم( معالم بيانية في آيات قرآنية) الآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا المقام المبارك هي قول الله جل وعلا: (( وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً)) بدايةً نبين أن ما نريد أن نميط اللثام عنه هو حسن التعليم أو ذكر الحكمة في أن الله جل وعلا اختص زيدٌ رضي الله عنه وأرضاه دون الصحابة أجمعين بأن ذُكر اسمه صريحاً في القرآن فلم يذكر أحد من الصحابة في كلامه كلام ربنا جل وعلا الذي نتعبد الله بتلاوته باسمه الصريح إلا زيد رضي الله عنه وأرضاه بدايةً نقول زيدٌ هذا هو زيدٌ بن الحارثة وأصل الأمر فيه أن خديجة رضي الله عنها وأرضاها طلبت من ابن أخيها حكيم ابن حزام ابن خويلد فهي خديجة بنت خويلد طلبت من ابن أخيها حكيم أن يشتري لها في سفرتٍ لهُ غلاماً ظريفاً فاشترى حكيمٌ زيداً وجده أسيراً من أسروه باعوه على ثمنٍ عربي آن ذاك فاشتراه حكيم وحكيمٌ استلطفه جداً وأعجبه لكنه قد اشتراه بنيةِ عمته فلما أتاه إلى عمته خديجة رضيت به وقد قال لها مخاطبا إن لم يعجبكِ فأنا أولى به لكنا زيداً استقر عند خديجة التي رأت فيه شاباً نافعاً يخدمها, تزوجت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدت زيداً لنبينا عليه الصلاة والسلام على الجانب الأخر كان أهل زيدٍ يبحثون عنه تُنشدُ أمه الأشعار ويطوف والده وأعمامه القفار يبحثون عنه قُدِر لهم أن يعلموا أنه بمكة قدموا مكة فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن قد(51/31)
نُبأ بعد ولم يبعث فطلبوا منهُ ابنهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرضوا عليه غالي الأثمان: أنا أدلكم على خيرٍ من ذلك أخيرهُ بيني وبينكم فقالوا: قد أنصفت فأُوتي بزيد فقال لهُ النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد أتعرف هذا قال: نعم هذا أبي قال: أتعرف هذا قال: نعم هذا عمي قال: أتعرف هذا قال: نعم هذا أخي فخيره النبي صلى الله عليه وسلم فاختار زيدٌ البقاء مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فذهل الوالد والعمُ والإخوة لكنهم لما ذهلوا وحاولوا مع زيدٍ أن يعود معهم ورأوا إصراراً عجيباً من زيد أن يبقى في العبودية لكنه يحضى بشرف البقاء مع محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هنالك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافأه وأن يجعل أباه وأعمامه وإخوته يغدون إلى ديارهم وهم مطمئنون على ابنهم قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً في أندية قريش: أشهدكم أن زيداً ابني يرثني وأرثه فأضحى بعدها لا يدعى زيد إلا بزيد ابن محمد هذا تاج أصبح متلألئاً لما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم سابق زيدٌ إلى الإسلام فأسلم وما زال يُعرف بزيد ابن محمد ينسب إلى نبينا صلوات الله وسلامه عليه بناءاً على ذلك القرار الذي اتخذه عليه الصلاة والسلام في أندية قريش ليطمئن والد زيدٍ عليه بعد غدوه إلى أرضه وإلى أهله أضحى زيدٌ يدعى بزيد ابن محمد فبعد النبوة كان زيدٌ يرى في هذا اللقب تاجاً على رأسه مضت الأيام خلت السنون توالت الأعوام هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأمر على حاله جاء القرآن بعد ذلك في زمن المدينة بشرائع لم تكن موجودة في العهد المكي لأن الدولة استقرت والإسلام اطمئن وعلت شوكته وظهرت أنواره فمما أنزله الله جل وعلا على نبيه في شأن الأدعياء الذين زيد واحدٌ منهم أنزل الله جل وعلا قوله ((ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ)) وأنزل الله جل وعلا(( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن(51/32)
رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) هذه الآيات مع أن الله جل وعلا إضافةً إلى ذلك أراد أن يبطل مسألة أن العرب كانت تأنف من أن يتزوج الرجل زوجة دعيه زوجة من كان ينسب له تزوج زيدٌ زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها وكانت تجد في نفسها شيئاً عليه فكان زيدٌ يقدم على النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه والله جل وعلا أخبر نبيه أن زيداً مطلقُ زوجته وأنه عليه السلام سيتزوجها فأخفى النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه ما أوحاه الله جل وعلا إليه وكان يأمر زيداً إذا استنصحه أن يبقي على زوجته قال الله جل وعلا يجيب ذلك كله ((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ)) أي بالإسلام ((وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ)) أي بالعتق((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) أي استبقها ((وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ)) يا نبينا ((مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)) أي مظهره من كون أنك ستتزوج زينب لا محال فقال الله جل وعلا:((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا)) فكانت زينب تفتخر على أمهات المؤمنين أن أهليهن زوجهن وأن الله جل وعلازوجها من فوق سبع سموات على هذا أبطل الله جل وعلا هذا الأمر لكن الله ذكر زيداً باسمه الصريح وهذا هي الغاية من هذه الحلقة نقول قال العلماء: إن الله جل وعلا لما منع زيداً من ذلك التاج الذي كان يتلألاءُ على رأسه رضي الله عنه وأرضاه من كونه يدعى زيد ابن محمد وكون زيدٍ صبر على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأته وأنها طلقت منه عوضه الله جل وعلا عن هذين بأن ذكر اسمه الصريح في القرآن قال الله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً)) فأضحى اسمه ينادى ويتلى في المحاريب لأنه من جملة القرآن إلى يوم القيامة وهذا شرفٌ لا يباها ومجدٌ عز نظيره وقل مثيله وكذلك ربك إذا سلب عبداً نعمةً فصبر عوضه الله جل وعلا(51/33)
بأحسن منها وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسني الله وإياكم لباسي العافية والتقوى وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
-9-
الحمد لله حمدا ًطيباً مباركاً فيه كما يحب ربُنا ويرضى وأشهد أن لإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد000(51/34)
فهذه حلقةٌ جديدة من برنامجكم _معالم بيانيه في آيات قرآنية_ الآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا المقام المبارك هي قول الله جل وعلا على للسان العبد الصالح والنبي الصالح إسماعيل قال{ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} لما لم يقل إسماعيل أفعل ما تريد,وهو يخاطب أباه خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام هذا ما تُحاول هذه الحلقة المباركة إماطة اللثام عنه نقول خليل الله جل وعلا إبراهيم هو أفضل الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم نسب الله جل وعلا الملة إليه قال سبحانه ( ملة أبيكم إبراهيم) وأمر الله جل وعلا نبينا عليه السلام بإتباع هدي ذلك النبي الكريم ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) كبر إبراهيم في السن تضرع إلى الله جل وعلا أن يرزقه غلاماً صالحاً قال الله جل وعلا عنه : {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} مشى هذا الغلام حتى أصبح قادراً على أن يعين أباه قال الله:{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ }أي القدرة على المعونة {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } يقدر لإبراهيم أن يرى في المنام أنه يذبح إسماعيل و رؤيا الأنبياء حق فانظر ماذا ترى وهذا من باب أن يوطنَ الأبُ ابنه على طاعة الله فلو امتنع إسماعيل وقدر إبراهيم على ذبحه لذبحه لكن أراد أن يشتركا سوياً في الأجر قال الله جل وعلا { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} الأن هذا موضع الحلقة الحقيقي وهو لماذا قال الله جل وعلا { أفعل ما تأمر} ولم يقل أفعل ما تريد إن ثمة فرق كبير جداً ما بين اللفظتين لو قال إسماعيل ( يآأبتي افعل ما تريد) فهو في غاية الأمر أب أبنُ يطيع أباه جندي يطيع قائده مأمور يطيع أمره لكن إسماعيل عليه السلام عدل عنها إلى قول {(51/35)
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ليبين انه عبدٌ يطيع ربه فإسماعيل هنا قبل مسألة الذبح قبلا بأن يذبحهُ أباه لا لأن أباه يرغب في ذبحه محال لكن لأن الأب بذبحه لابنه إنما ينفذ أمر الله فإسماعيل هنا إنما يطيع أباه إبراهيم على أن ينفذ أمر الله { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ولم يقال (إفعل ما تريد) وقطعاً إن إسماعيل عليه السلام ما كان له أن يصل إلى هذه المنزلة في الأدب والتسليم والعبودية لولاء فضل الله جل وعلا ورحمته عليه وهذا الفضلُ من سماته أن الله جل وعلا جعل إسماعيل يربا وينشا في كنف خليل لله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقد اجتمع في قلبيّ هذين النبيّين الكريم الأب و ابنه من التوحيد واستسلام لأمر لله جل وعلا ما جعل الأب يفزع إلى ابنه ويخبره بما أوحى الله جل وعلا إليه وما جعل الابن يطيع أباه ويقول له معيناً له على الطاعة {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ }
هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأدياني
هو دين آدم و الملآئكة قبله هو دين نوحٍ صاحب الطوفاني
هو دين إبراهيم وابنيه معاً و به نجا من لفحت النراني
وبه فدى الله الذبيح من الـ ـبلاء لما فداه بأعظم القرباني
صلوات الله وسلامـ ــه عليهم أجمعين(51/36)
ثم استطرد في الحديث أيها الأخُ المبارك فنقول بعد أن ذكرنا خبر هذين النبيين الكريمين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام كذالك بعملهما هذا يقدمان نموذجاً كاملاً بيناً يقيم الله به الحجة على عباده في كل أحد أن يكون عبداً مستسلماً لأمر الله تبارك وتعالى وقضاءه وفي خبرهما إخبار أن الله جل وعلا يبتلي وأنه لاسبيل إلى رفيع المقامات وعلو الدرجات إلا بعد الابتلاء والتمحيص فلا تمكين إلا بعد اختبار و ابتلاء و كلما عظم الابتلاء و أوغل في الصدر اليقين ارتقى الإنسان إلى معالم وإلى طرائق جليلة في رضا الرب تبارك وتعالى ورحمته ولهذا قال الله جل وعلا بعدها: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وهنا أقف.(51/37)
معك لأقول لك إن إبراهيم عليه السلام أمره الله جل وعلا أن يذبح ابنه إسماعيل، ومراتب الوحي ثلاثة إما أن يكلم الله العبد بغير واسِطة بحجاب كما كلم الله جل وعلا موسى وهذا ارفع مقام الوحي وقد بينّا في حلقات سلفت أن آدم وموسى ومحمد عليهم السلام جميعاً أوتوا هذه المنزلة , الحالة الثانية: أن يبعث الله ملاكاً والغالب أنه جبريل الحالة الثالثة: أن ينفث في روع ذلك النبي ما يرد الله جل وعلا أن يأمره به كل هذه الأحوال الثلاثة إنتفت في ذلك المطلب العظيم فالمطلب عالٍ وهو ذبح الولد لكن الطريقة كانت ليست بتلك القوة فلم يأمر الله جل وعلا إبراهيم بها من غير واسطة ولم يبعث ملاكاً ولم ينفث في روعه إنما كانت طريقة الوحي بالنسبة لطرائق الأخرى ضعيفة جداً كانت مجرد رؤيا فكان الشيطان يأتي إلى إبراهيم ويقول له ياإبراهيم اتقي الله تذبح ولدك من أجل رؤيا رأيتها فالمطلب عظيم لكن السبيل الوسيل الطريقة كانت ضعيفة ومع ذلك قبل إبراهيم بالرؤيا لأنه يعلمُ أن رؤيا الأنبياء حق وهذا قمة الابتلاء فمكن الله جل وعلا إبراهيم من اليقين والإيمان بذلك اليقين والإيمان والتوحيد و الاعتراف والأنس بالله والاستسلام لأمره زلفى الأب إلى ابنه قائلاً {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} وبذالك تلك البيئة الصالحة التي نشأ فيها إسماعيل أجاب أباه بقوله { يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقد بينا ولم يقل ( أفعل ماتريد ) { سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } قال الله { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ َفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}و إلى يومنا هذا يتقرب إلى الله جل وعلا بذبح الأضاحي إحياءً لتلك الشعيرة العظمى التي اخططها النبيان الكريمان(51/38)
إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما هذا ما تيسر إراده وتهيأ قوله والحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
-10-
الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدء خلق الإنسان من طين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ......أما بعد :(51/39)
فهذه حلقةُ جديدةُ مباركُ من برنامجكم (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة( والآية التي نحن بشرف الحديث عنها اليوم إن شاء الله تعالى هي قول الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم :( وإذا مرضت فهو يشفين ) نقول أيها المباركون هذه الآية جاءت ضمن سياق آيات قي قضية إخبار إبراهيم عن ربه تبارك وتعالى مع قومه قال الله جل وعلا عنه أنه قال: (أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) ثم أخذ إبراهيم يعدد صفات ربه تبارك وتعالى ويثني عليه بما هو أهله ويبين مقام الربوبية العظيم الذي لا يشارك الله جل وعلا فيه أحد ولا ينازعوه فيه فقال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) نلحظ هنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في كل تلك الأمور نسبها إلى الرب جل وعلا، أما المرض فنسبه إبراهيم إلى نفسه مع يقننا أن إبراهيم يعلم أن المرض من الله تبارك وتعالى فربنا جل وعلا الخير كله بيديه والشر ليس إليه لكن إبراهيم عليه السلام أراد بهذا التأدب مع رب العزة والجلال وهذا هي الغاية العظمى من إسناده المرض إلى ذاته إلى نفسه قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وهذا الأمر أي الأدب مع الله جل وعلا حلية وأي حلية تحلا بها الأنبياء والصالحون من بعدهم وسيبقى الأمر إلى يوم الدين، فالأدب مع الرب تبارك وتعالى منزلة عالية يوقف لها أهل الطاعات ويرشد إليها أهل الفضائل، وقد كان الأنبياء عليهم السلام يتنافسون في هذه المنزلة ظهر ذالك جلي من خطابهم مع ربهم جل وعلا ،فهذا الخضر عليه السلام وإن كان في نبوته إلا إنه عبدُ صالح(51/40)
قطع فهذا العبد الصالح يقول في حق السفينة: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) فلما ذكر الخير نسبه إلى الرب تبارك وتعالى (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) ثمة أمور من الخير أسندها الخضر إلى الله وما كان فيه في ظاهره النقص والعيب أسنده إلى نفسه تأدباً مع ربه تبارك وتعالى والله جل وعلا خالق الأشياء كلها، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يرق المنبر فيأتيه رجل يشكو إليه جذب الديار وقلة الأمطار ويقول: يا نبي الله أدعوا الله أن يغيثنا، فيقول عليه الصلاة والسلام:" اللهم أغثنا اللهم أغثنا" فتكون سحابه ثم يكون غيث بفضل من الله جل وعلا استجابتاً لدعاء نبيه صلوات الله وسلامه عليه، يمكثُ الناس على هذا أسبوع فينجم عن تكلمُ الأمطار سيول عديدة نجم عنها انقطاع السبل وبعد المشقة في وصول الناس إلى بعضهم البعض فيأتي رجل من نفس الباب ماذا يقول؟ الأول قال: أدعوا الله أن يغثنا، فقال صلى الله عليه وسلم : اللهم أغثنا، أما الآخر فقد قال: أدعوا الله أن يمسكها عنا، ونبينا صلى الله عليه وسلم يعلم أن الغيث رحمة فلم يقل (اللهم أمسكها عنا) ماذا قال صلوات الله وسلامه عليه أدباً مع ربه؟ قال: اللهم حولينا ولا علينا اللهم على الآكام وبطون الشجر وبطون الأودية ومنابت الشجر وأخذ يذكر صلى الله عليه وسلم ما ينتفع به الناس ما لو نزل الغيث عليه ويشير بيده، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه : فما أشار إلى ناحية إلا إتجه السحاب إليها صلوات الله وسلامه عليه .(51/41)
الشاهد من هذا الخبر النبوي الصحيح هو قضية كيف تأدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه في خطابه فقوله عليه السلام: اللهم حولينا ولا علينا لا يمكن أن يقرن أو يقارن بقوله اللهم أمسكها عنا، لأن الغيث رحمة والنبي عليه الصلاة والسلام أكمل أدب من أن يطلب من ربه جل وعلا أن يمسك عنه رحمته، كذلك ذكر الله جل وعلا في كتابه الكريم سليمان عليه الصلاة والسلام فسليمان عبدُ ملكُ يوحى إليه وابن نبي ونبيُ كذالك ومع ذالك يتوسل إلى ربه قائلاً: ( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) فنظر إلى ذالك التوسل أن يشمله الله جل وعلا برحمته وأن يدرجه في عباده الصالحين مع أنه نبي وابن نبي وملك وابن ملك صلوات الله وسلامه عليه .(51/42)
إن فقهنا لهذه المسألة يعطينا منزلة عاليةً عند ربنا إن عملنا بذالك الفقه والمسلم كيسُ فطن يعرف أدب الخطاب فهناك أدبٌ لا يليق إلا مع الله جل وعلا فمثلاً كلمة (سبحان) لا يمكن أن تطلق إلا على الله جل وعلا لا يقال لأحد من الخلق كإنِ من كان سبحانك ولهذا نقل عن بعض الصالحين أنهم كانوا يقولون: فسبحان من لا يقال لغيره سبحانك ، كلمة (تبارك) هذا الفعل جامد لا يتصرف لا يأتي منه مضارع ولا يأتي منه أمر ولا يطلق على غير الرب تبارك وتعالى :( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً) إلا غير ذالك من الآيات فلا يقال لغير الله تبارك أبداً هذا مقام ينصرف إلى الله جل وعلا وحده ، النبي صلى الله عليه وسلم له المنزلة العالية والحضوه الرفيعة عند ربه، ثمة خطاب لا يليق إلا به صلوات الله وسلامه عليه ولا يختص إلا به لرفيع مقامه وجلال مكانته أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان شامة في جبين الأيام وتاجا في مفرق الأعوام فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثمة خطاب يليق بهم نترضى عليهم نذكر محاسنهم لا نقع فيما وقع بينهم ولا نخوض فيما لا علم لنا به كل ذلك تأدباً معهم ، علماء الأمة الذين قدموا للأمة البيان الحقيقي لشرع الله وأفنوا أيامهم وأعمارهم في سبيل إيضاح المنهج الحق لهم خطاب يليق بهم ، ولي الأمر السلطان له خطاب يليق به لمكانته قال صلى الله عليه وسلم : ( من أهان السلطان أهانه الله)، كذالك الوالدان في مقام الأول وهم مقدمون على كل أحد بعد حق الله ورسوله ثمة خطاب لا يليق إلا بهما فحقهما معروف والوصية بهما ثابتة في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمن الحق يعرف بأي خطاب يخاطب والديه (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)(51/43)
كل هذا أيها الأخ المبارك يبين لنا الخطاب الأدبي مهم جداً في تعاملنا مع الغير دون أن يكون في ذالك نقص لأنفسنا ولا إنتقاص لغيرنا وفقنا الله جل وعلا وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى ورزقنا الله وإياكم الأدب معه ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين جميعاً وصلى الله على محمدِ وعلى آله والحمد لله رب العالمين .
-11-
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركُ فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أنا لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار وديثار ولواء أهل التقوى وأشهد أنا سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين... أما بعد:(51/44)
فهذه حلقة مباركة جديدة من برنامجكم (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة) الآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك في قول الله تعالى في فاتحة سورة المسد (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) الذي نريد أن نوضحه هاهنا في هذا المقام أن نقول أولاً إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له احدى عشر عماً، هؤلاء الأعمام لم يدريكوا كلهم نبوته صلى الله عليه وسلم وإنما أدركها أربعة منهم، هؤلاء الأربعة الذين أدركوا بعثة سيدِ الخلق صلوات الله وسلامه عليه إنقسموا إلى فريقين: فريق آمن به وهما حمزة والعباس، وآخرون وهو الفريق الثاني الذي لم يؤمن وهم أبو لهب وأبو طالب، إلا أن أبا لهب وأبا طالب هما أنفسهما اختلفا اختلفا في أين ليس في كتب الإيمان فكلاهما كافر لكن أبا طالب كان يناصر النبي صلى الله عليه وسلم ويعبده وقد كان معه في الشعب عندما حاصرته قريش، أما أبو لهب فكان على النقيض من ذالك فكان يؤدي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال العلماء: أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى قومه يا صباحاه: فاجتمعوا فأخبرهم عليه الصلاة والسلام بأنه سيحدثهم بحديث فهل هم مصدقوه؟ فأخبروه أنه محمد صدق فيهم، فلما دعاهم إلى التوحيد قال له أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تباً لك سائر اليوم، وانفض عنه فكان ذالك سبباً في انفضاض الناس عنه أي عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه ، كما ثبت من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو إلى التوحيد فإذا فرغ من خطابه ودعوته قام عمه أبو لهب يتبعه ويفند ما قال، ويقول: لا تصدقوه إنه صابأ، وكان من المفترض على سنن الجاهليين أن ينصر ابن أخيه من أجل هذا أنزل الله جل وعلا في هذا الرجل (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ما الذي نريد أن نميط اللثام عنه من معلم بيانياً في هذه السورة أو في هذه الآيات، (تبت) أولى فعل يراد به الدعاء أما في أخر الآية (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(51/45)
فليست توكيدا ولا عطفا وإنما هي إخبارٌ بأن ذالك الدعاء وقع فالأولى دعاء، والأخيرة إخبار بأن ذالك الدعاء قد وقع، فأبو لهب كنيته هذه واسمه عبد العزى والأصل في كلام العرب غالباً أن الكنيه يراد بها التشريف لكن الله جل وعلا هنا لم يخاطب أبا لهب باسمه وإنما خاطبه بكنيته، وثابت ومؤكد أن الله جل وعلا لم يرد تشريف أبي لهب، لأن مقتضى السياق مع كثره يأبى ذالك لكن الله جل وعلا أراد أن يقول إن المعني بهذا الكلام هو ذالكم أبو لهب الذي تعظمونه وتكننونه بأبي لهب فلماذا كني أبو لهب بأبي لهب؟ كني بذالك لإحمرار وجنتيه أشبه بالجمرتين وهذا يدل على أنه أعطي حظاً من الجمال لكن جماله لم ينفعه ولم يكن سببا في إسلامه فلما كان جماله لم ينفعه ولم يكن سببا في إسلامه وقسى قلبه واتبع ذالك بعداوته لنبينا صلى الله عليه وسلم أنزل الرب جل وعلا فيه قولا (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) فقلنا إن تب الأولى دعاء، والثانية إخبار بتحقق ذالك الدعاء، تضمنت السورة بوجه كلي أمراً آخر يدل يقينا على أن القرآن منزلٌ من عند الله، السورة (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) ثم قال الله (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ) فهذا اخبار من الرب جل وعلا أنا أبا لهب سيصلى النار ،الآن الله جل وعلا يخبر أن أبا لهب سيصلُ النار لا محالة ما السبب في أنه سيصلُ النار؟ كفره ألم يكن بمقدور أبا لهب ولو كذبا وادعاءاً أن يقول لقريش: أشهد أنا لا إله إلا الله وأشهد أنا محمداً رسول الله حتى لصنيعه هذا يفندُ قول النبي صلى الله عليه وسلم سيقول للناس على الملأ أنا أشهد وأُمن بما جاء به محمد، ومحمد يقول أنني في النار كيف يستقيم هذا أنا مؤمن وهو يقول إنني في النار؟ لكن مع سهولة النطق بهذه الكلمة علم الله أجلاً وأوقع ذالك قدراً أن هذا لن يكون من أبي لهباً البته، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله، فمنع الله لسانه(51/46)
ومنع الله قلبه أن ينطق بالشهادة ولو زوراً ولو كذباً ولو ميلاً ولو نفاقاً و إدعاءً حتى لا يكون إدعائه مبطلاً لكلام الله وحاشا لله أن يكون أحدٌ هناك يبطل كلامه تبارك وتعالى.
إذاً هناك سر عظيم في هذه الآية في هذه السورة لم يعد ظاهرا لم يكن ظاهرا كشفنا وأمطنا اللثام عنه، ثم نعود للفعل الذي تعتبنا تبينا لنا أن الله جل وعلا قال في أوله دعاءًا وقال وفي الآخرة إخبارُ لحلول ذالك الدعاء كيف حل الدعاء؟ هذا ما أجابت عنه الآيات: (أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) إشترك هو وزوجته عياذاً بالله في عذاب النار، ومن هذا كله أيها المبارك تفهم و هذا الاستطراد بعد أن بينا المعلم البياني أن الهداية بيد الله جل وعلا ،فهؤلاء أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أحدى عشر كما بينا في الأول سبعة منهم لا يقدر له أن يدرك حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعثته فالله أعلم بما كانوا عاملين، ويبقى أربعة من حيث النسب يتفقون في شأن واحد أنهم كلهم أبنا عبد المطلب، لكن من حيث الكفر والإيمان يمن الله جل وعلا على حمزة في الأول فيسلم فينال مرتبة سيد الشهداء، ويمن الله جل وعلا على العباس ابن عبد الطلب فيسلم فيكون عم النبي صلى الله عليه وسلم المبجل ويقول في حقه صلوات الله وسلامه عليه: ( أن عم الرجل صنوا أبيه) كما أنه رضي الله عنه وأرضاه أي العباس يشارك في نصر النبي عليه الصلاة والسلام ويكون كما قال المؤخرون: أول من يصلي عليه لأن الصحابة صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أرسالا أي فرادا لم يكن لهم إمام هذانِ ممن أكرمهما الله بالهداية، أما أبو طالب فإنه لم يقدر له أن يؤمن مع يقينه أن محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من ربه:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ********** من خير أديان البرية دينا(51/47)
لولا الملامة أو حذار مصبتٍ*********** لوجدتني سمحاً بذاك يقينا
لكن أبا طالب تلك النصرة التي قدمها لنبينا صلى الله عليه وسلم جعلت النبي عليه السلام يشفع له عند ربه فيكون أهون أهل النار عذابا، أما أبو لهب فهو الشقي حقا لن يؤمن كما آمن العباس وحمزة ولم ينصر كما فعل أبو طالب لكنه آذى النبي صلى الله عليه وسلم فصدق في حقه قول الحق تبارك وتعالى (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) هذا ما تيسر إراده وتهيأ إعداده وأعان الله جل وعلا على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
-12-
الحمد لله خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه وأشهد أن لا له إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه لو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه و على آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلا يوم الدين......... أما بعد:.(51/48)
أيها الإخوة المؤمنين والمؤمنات هذه حلقه جديدة مباركة من برنامجكم معالم بيانية في آيات قرآنية الآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا في سورة الأنعام{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قول الله جل وعلا {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الإملاق) في اللغة/ هو الفقر، وهذه الآية أتينا بها لنقيسها مع نظيرتها في قول الله جل وعلا في الإسراء{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فنلحظ أن الرب تبارك وتعالى ذكر في آية الأنعام تقديم الضمير في الخطاب فقال {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ} بخلاف ما وقع في سورة الإسراء فإن الله جل وعلا قال { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } لماذا فرق الله جل وعلا في الضميري في تلك الحالتين؟ نجب على ذلك بقولنا والعلم عند الله كما حرره العلماء من قبل والفقر الكل يشكو منهُ إذا وقع يقول علي رضي الله عنه (( لو كان الفقر رجلاً لقتلته)) العرب في جاهليتها بالجاهلية التي هي فيها كانت تسيءُ الظن بربها تبارك وتعالى وأصحاب هذا التوجه لا يخلو أحدهم من حالين/ إما أن يكون رجلاً يعيشُ كفافً فإذا عاش حياتاً ذات كفاف لا يريد ولداُ لأنه يخشى أنه لا يجد طعاماً لذلك الولد فينتقل حال الوالدِ من حال الكفاف إلى ما هو دون وهؤلاء هم المخاطبون في سورة الإنعام، أما الفريق الآخر وهو المخاطب في سورة الإسراء فهم فريقٌ أصلاً(51/49)
في فقر لم يصلوا إلى مرحلة الكفاف فهم يقولون نحن على هذا الحال فكيف إذا جاءنا الولد وهم المخاطبون في سورة الإسراء والأول هم المخاطبون في سورة الأنعام قال الله جل وعلا { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ } أي يا أيها الناس لا تقتلوا أولادكم من إملاق أي بسبب فقر تعيشونه {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ } فقدم المخاطبين هنا لماذا؟ لأن الله أراد أن يقول لهم نحنُ نرزقكم نغنبكم وننقلكم من حالة الفقر التي تعيشونها ونرزق أولادكم إذا رُزِقُتُموهم هذه الحال الأول، أما في سورة الإسراء فإن الله يقول {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} شيء ينتظر أن يقع في المستقبل فهؤلاء يعيشون حالة كفاف لكن الرب تبارك وتعالى يقول لهم لا تخشوا إذا رزقتم أولاداً أن تقتلوا أولئك الأولاد فرقاً وخوفاً من الفقر فنحن كما رزقناكم نرزقهم ولهذا قال الله {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً} العرب في جاهليتها مر معنا في حلقة { َإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} أنهم كانُ يقتلون بناتهم خشية العار وأما قتل الأولاد فيشرك فيه البنت والابن و الذكر والأنثى والسبب هنا قضية الخوف من وجود الفقر أو من حصول الفقر بعد ذلكِ عياذاً بالله وهذا كله داخلاً تحت مظلة سوء الظن برب العالمين جل جلاله ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم (( أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك، قيل يا رسول الله: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك )) لأن هذا قريب من الشرك سوء ظن برب العالمين تبارك وتعالى فالله جل وعلا يقول{ وما من دابةٍ إلا على الله رزقها } ويقول{ وكأين من دابةٍٍ لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم } فالرب جل وعلا وحده هو الرزاق يقول سبحانه { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ(51/50)
أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وهذا المنح البياني في هذه الآيتين الكريمين له نظائر في القرآن فمنه قول الله جل وعلا في سورة الضحى{ َأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } اليتم/ من مات أبوه قبل البلوغ، وأما السائل/ فلا حد لسنه وعمره فقد يكون رجلاً ذا قوةٍ في جسده ذا شجاعة في قلبه لكن الفقر أقعده فلهذا جاء الخطاب القرآني يناسب الحالة كلُ فعلٍ متفقٍ معها فمثلاً قال الله جل وعلا{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ }( القهر) يكون بالقول والعمل وهو ممكن ُ أن يقع على اليتيم يعني يمكن لأي رجلٍ لا يعرف الله جل وعلا ولا يخشاه أن يقهر اليتيم بقوله وبفعله في آناً وأحد لأن محل اليتيم قابلٌ لهذا، أم السائل فقد يكونُ السائلُ أشدُ قوتاً ممن يسألهُ ولهذا ذلك الذي يسأل لا يستطيع أن يقهره بأذى القول والعمل في آناً واحده لكن ربما أن يتسلط عليه بقوله كأن ينهره ويبعده عنه ويطلب منه أن لا يسأله شيئاً لكن ليس شرطاً وليس ضرورياً أن يقع منه أذاً بالفعل له فقلنا قد يكون السائل أشد قوتاً في جسمه وبدنه وشجاعة قلبه من ذلك الذي يسأل فيتعرض له بالأذى ولهذا قال الله جل وعلا وهذا من بلاغة القرآن وكل القرآن ذو بلاغة قول الله جل وعلا { َأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ونظيره كذلك في سورة الكهف فإن الله جل وعلا ذكر قصة الخضر مع موسى عليهما السلام موسى عليه الصلاة والسلام كان يرى أمراً عجباً من الخضر ثم انتهى بهما المطاف إلى أن الخضر أخذ يبين لموسى الأمر كله { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } لاحظ أن الفعل تستطع جاء هنا مثقلاً يناسب حالة موسى وهو يصغي سمعه ليأخذ العلم عن الخضر لكن بعد أن أخذ الخضر يعدد تلك المسائل ويفندها ويبين(51/51)
أسباب{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر وأما الغلام فكان أبواهُ مؤمنين وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين} وأخذ يحل العقد واحدة بعد الآخرة فتغيرت نفسية موسى عن الأول لأنه في الأول كان لا يعلم شيء أما الآن فقد أضح الأمر جلياً له صلوات الله وسلام عليه وهو صفي الله وكليمه فقال له الخضر بعد ذلك {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } فأتى بها بالتخفيف لتناسب حال موسى أما الأول أتى بها بالتثقيل لتناسب حال موسى قبل أن يعرف القصة كلها هذا ما تيسرا إرادة وتهيأ إعداده وأعان الله جل وعلا على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين.
-13-
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولي مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.....أما بعد:(51/52)
فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم (مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة) والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول ربنا جل وعلا: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) الآية أيها الأخوة المباركون تتكلم عن اليهود، واليهود قوم بهت كما قال عنهم عبد اله ابن سلّام رضي الله عنه وأرضاه : " كان لهم شأن عجب مع نبي الله جل وعلا موسى وقد جاء القرآن بذكر أخبارهم مع نبي الله جل وعلا موسى تفصيلاً فأقام الحجة عليهم وأظهر عوارهم وبيّن أن ما يصنعونه اليوم مع نبينا صلى الله عليه وسلم إنما هو من جنس ما صنعوه مع كليم الله وصفيه موسى ابن عمران، وهذه الآية في سورة البقرة صدرها الله جل وعلا قبل ذالك بقوله: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ) إذ كان هؤلاء من أهل الكتاب أي اليهود يقولون: إن الجنة محصورة فيهم وأن الآخرة لهم دون غيرهم فأمرهم الله جل وعلا ببرهان على ذالك وطلب منهم إن كانوا صادقين على هذه الدعوة أن يتمنوا الموت قال جل وعلا : (فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) ثم أخبر جل وعلا أنه لن يقع منهم ذالك التمني فقال سبحانه : (وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) ثم ذكر سبحانه هذه الآية التي نحن بشأن الحديث عنها وهي قوله ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ) أي إذا دلوت أخبارهم ستجد هؤلاء القوم أحرص الناس على حياة ، جاءت كلمة (حَيَاةٍ) منكرة هنا وهو لب حلقة هذا اليوم لبيان أنهم يتشبثون لأي حياة كانت سواء كانت حياة محمودة أو حياة مذمومة حياة فقر أو حياة غنى ، حياة عز أو حياة ذل المهم أن(51/53)
يبقوا، وليس هذا صنيع من يرجو شيئاً في الدار الآخرة، ولهذا قال الله جل وعلا: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ) هذه الواو تحتمل معاني عدة لكننا سنبقى على اختيار واحد حتى ينتظما قولاً حول هذه الآية المباركة، المعنى اعلم يا نبينا إن هؤلاء القوم هم أحرص الناس على حياة وليس فقط أحرص الناس على وجه العموم بل هم كذالك أحرص من الذين أشركوا على الحياة، لماذا اختار الله جل وعلا أن يعبر عن أهل الإشراك هنا في المقارنة ما بين حرص أهل اليهود وحرص أهل الإشراك ؟ الذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا أنك إذا تأملت التالي أيها المبارك ستجد الجواب بين عينيك، ما التالي؟ التالي أن يقال إن اليهود بالرغم من كفرهم بالله جل وعلا وعدم تصديقهم لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم في معتقدهم يؤمنون بالدار الآخرة يؤمنون بأن هناك بعث وأن هناك نشور ولذالك قال الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون : (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً) فهم يؤمنون بالبعث والنشور بخلاف أهل الإشراك الذين بعث إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لا يؤمنون ببعث ولا بنشور فمن باب أولى عقلاً ونقلاً ينبغي أن يكون حال أهل الإشراك أشد حرص من حال اليهود، لأن أهل الإشراك يؤمنون أنهم لا يعيشون إلا حياة واحدة لا يؤمنون ببعث ولا نشور فيكون تشبثهم بالحياة بناءاً على هذا المعتقد الضال الذي يؤمنون به له تناسب له معناً ، أما اليهود فلا حاجة لأن يكون هناك تشبث بالحياة إذا كانوا يؤمنون أن هناك آخرة وأنهم سيدخلون الجنة هذا الوضع أو الواقع الطبيعي للأمر لكن الله هنا يقول يبين سرائر أولئك القوم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ _ أي اليهود_ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ) فخصهم بالذكر ليبين(51/54)
لنا أي منتهن وصل إليه حال تشبث أولئك اليهود بالدنيا وهذا إن دل فإنما يدل على ضعف يقينهم بما يزعمون وعلى بطلان برهانهم الذي يدعون أن الجنة لهم وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، وهذا أسلوب قرآنيٌ عظيمٌ في تفنيد أراء المخالف، بقيت بعض الأمور الإيمانية التي يحسن بنا أن نستطرد فيها في مقامنا هذا، فنقول : إن الإنسان كلما كان على يقين بلقاء الله زهد في هذه الدنيا وهذا معنى قول الله جل وعلا لنبيه: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى) وقال الله جل وعلا لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام ) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ) كل هذا يبينه الرب تبارك وتعالى ليدفعنا جل وعلا لئلا نتشبث بالدنيا فالدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة، فإذا نظرنا إلى حال اليهودي هذا وقسناه بحال الأنبياء الذين هم أعرف الخلق بالله وجدنا أن أنبياء الله يخيرون عند الموت يخيرون بين ماذا وماذا؟ يخيرون ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة، فنجدهم عليهم الصلاة والسلام يختارون لقاء الله ثم الجنة، وهذا يدل على عدم تشبثهم وتعلقهم بالدنيا وعدم حرصهم عليها، فهذا سيد الأبرار وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه يخيّره جبريل وعائشة رضي الله عنها كان النبي صلى الله عليه وسلم حينها متكأً على سحرها ونحرها لا تسمع تخييّر جبريل لكنها عرفت تخييّر جبريل من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم قالت رضي الله عنها وعن أبويها: فسمعته يقول:" مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" قالت رضي الله عنها وأرضاها: فعلمت أنه يخير، أي يخيره الملك ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى_ قالها ثلاثا_ ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلا الأعليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه،(51/55)
موضع الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه حرص على الدنيا وهذا الذي ينبغي في شأن أتباعه صلوات الله وسلامه عليه، لكن عدم الحرص على الدنيا لا يعني ترك العمل لا يعني عدم المسارعة في الخيرات لا يعني عدم اصطناع المعروف أبداً لا يمكن أن يأتي الشرع مثل هذا ، هذا فكر ضال نشأ في الأمة مؤخراً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذالك جملة أن ما لم يقع في أيدينا لا تتعلق به أعينينا )وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، فالمرء كلما بعد عن التشبث بالحياة الدنيا بعد عن صفات اليهود، وكلما تعلق بالله واشتاق إلى لقاء الله اقترب من هدي الأنبياء، فإذا جعل من الحياة الدنيا مزرعة لآخره واستثمرها في الطاعات والمسابقة في الخيرات واصطناع المعروف ونفع الأمة وإرضاء المجتمع بما ينفعه كان عبداً موفقا ورجلاً مسددا .
جعلني الله وإياكم من أهل ذالك هذا ما تيسر إراده وتهيأ إعداده أيها المباركون وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين...
-14-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركُ فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنا سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.... أما بعد:(51/56)
فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم(مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة) والآية التي نحن بشأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا عن أهل الكهف : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) والجزء المعني الحديث عنه في هذه الآية هي قوله جل شأنه : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ) أسند الله جل وعلا التقليب هنا إلى ذاته العلية، قال العلماء: فيه فائدتان: الأولى/ تشريف لهم، والثانية/ بيان لطف الله جل وعلا لهم وبهم. الخبير(51/57)
أهل الكهف أيها المباركون هم فتية ضاعوا في أول الدهر هكذا سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، والأصل أنهم فتية آمنوا بربهم أظهروا التوحيد ضد من كان يحكمهم آنذاك اجتمع أمرهم على أن يلجأوا إلى ربهم تبارك وتعالى أواهم العلي الخبير إلى كهف، في طريقهم أخذوا كلباً معهم سواء قلنا إنه كلب راعاً أو كلب غيرهم المهم استقر بهم الأمر في كهفٍ فضرب الله جل وعلا على أذانهم ولم يضرب الله جل وعلا على أعينهم لماذا؟ لأن الضرب على الأذان يعطي فرصة أكبر ومدة أطول في كونهم نائمين قال الله : ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدا) ، وأنت ترى النائم اليوم إذا أردت أن توقيظة إنما تحدث صوتاً عنده هذا أنجع الطرق عند إيقاظ النائمين لكن أن تمرا بجواره هذا لا يدفعه لأن يستيقظ من منامه لأنه مغمض العينيين، فنقول هؤلاء المباركون أهل الكهف الله جل وعلا فيما يظهر أنهم نامون وأعينهم مفتوحة وهذا معنى قول الله جل وعلا : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) وهذا لا يتأتى إلا إذا نظر الإنسان إلى أعينهم لأن هذا إغلاق العين أو فتحها هو الفارق ما بين من ينام أو لم ينم، ولهذا العرب تزعموا في كلامها أو في أخبارها وأشعارها وقصصها أن الذئب ينام بإحدى عينيه ويبقى الأخرى مفتوحة ويقولون فيه:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ********** بإخرى المنايا فهو يقظان نائمُ(51/58)
الذي يعنينا هنا أن الرب جل وعلا أراد لهؤلاء الفتية أن يكونوا آية فحفظهم جل وعلا أيّما حفظ، فضرب على أذانهم فمكثوا في الكهف سنين عددا، أنظر يا أخيه الآن إلى عظيمِ لطفِ الربِ تبارك وتعالى أعدائهم وخصومهم خارج الكهف يبحثون عنهم وربما أنفقوا الأموال في الوصول إليهم وهم لا يحملون أي همِّ يذكر بل هم نائمون في راحة تامة متواصلة، ضرب الله على أذانهم لا يعلمون شيئا مما يقع خارج أسوار الكهف ولا ما يقع داخل داخل الكهف لطف من الله جل وعلا بهم، وهنا تعلم أن من أراد الله جل وعلا حفظه ورعايته فلا سبيل لأحدٍ أن يؤذيه كما حفظ الله أنبياءه وسائر الصالحين غيرهم.(51/59)
نقول قال الله جل وعلا: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) فهمَ البعضُ بادي الرأي أن هذا يدل على طول أظفارهم وأشعارهم و أن ظهرهم قد احذ وذب مع طول السنين ومرور الأيام وأن الشيب قد وخطهم إلى غير ذلك، قالوا هذا السبب في قول الله جل وعلا (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) ونحن نذهب والعلم عند الله إلى أن هذا بعيد، لماذا هو بعيد؟ لأن هذا لا يستقيمُ هذا المعنى لو قلنا به لا يستقيم مع الآية التي بعدها فما الآية التي بعدها؟ الآية التي بعدها يقول الله جل وعلا : (وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ)أي أيقظناهم من رقودهم ليتساءلوا بينهم (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ ) أي من هؤلاء الفتية (كَمْ لَبِثْتُمْ ) هم قطعاً ظنوا أنهم لبثوا لكنهم كانوا يتساءلون (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) الآن فلنرخ المطايا أيها المبارك وأيتها الأخت المباركة هل يعقل من فتية يصفهم الله جل وعلا بأنهم زادهم هدى ينظر بعضهم إلى بعض وقد طالت أشعارهم على هذا القول وطالت أظفارهم واحذ وذب ظهرهم وخطهم الشيب ونالهم ما نالهم من تغيير السنين ومرور الأيام والأعوام ثم يقول بعضهم لبعض (لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) هذا محال لكنهم لم يجدوا في أنفسهم تغيرا وجدوا أنفسهم كالحال التي ناموا عليها، ولهذا كان بديهياً أن يقولوا (لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، وفي هذا إذهاب وتفنيد لذالك التوهم التي قد يأتي لنفس أو يأتي للرأي من قول الله جل وعلا : (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) وهذه يمكن أن نجيب عنها بأن ذالك الفرار وذالك الرعب إنما يقع لما(51/60)
ألقاه الله جل و علا عليهم من الهيبة، ولأن أعينهم كانت مفتوحة عندما ينظر إليهم الرائي وذلك حال نومهم وهذا من لطف الرب تبارك وتعالى بهم.
وقد بينا أن الرب جل وعلا أسند التقليب إلى ذاته العلية تشريفاً لهم وبيانا بلطفه تبارك وتعالى بهم، من هذه القصة على وجه الإجمال وأنا قلت وبالاختصار لأنني المعنيُ بآية واحدة يتبين لنا أن الله جل وعلا خير حافظ وأنه الرب الذي لا رب غيره ولا إله سواه وأن من اعتصم بالله أواه ومن لجأ إلى الله جل وعلا كفاه ومن استغنى بالله جل وعلا أغناه، فالله جل وعلا لم يقص علينا خبر أصحاب الكهف حتى نحدث به الغير ويصبح كالأقصيص والأحاديث والأغاليظ ما عاذا الله هذا كلام رب العزة يجب أن ينزل على أحمد التنزيل على أفضل التنزيل وأعظمه فالله جل وعلا ذكرنا خبرهم ليقيم الحجة علم من سأل نبينا صلى الله عليه وسلم فيكون في جوابه عليه الصلاة والسلام إشعارُ بأنه يتلقى الوحي والغيب من الرب تبارك وتعالى وفي نفس الوقت نظر في خبر أولئك القوم فنعلم أن الرب تبارك وتعالى أراد بهم خير وحفظهم فلم يصل إليهم أيدي الأعداء ولا مكر الماكرين وهذا لا يقع إلا إذا كان بحفظ رب العالمين جل جلاله .
ختاماً أيها المباركون جعلني الله وإياكم مما يستمع القول فيتبع أحسنه، وجعلني الله وإياكم مما يتعظ بهذا القرآن العظيم ، هذا ما تيسر إراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمدٍ والحمد الله رب العالمين.
-15-
الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعارُ وديثارُ ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .... أما بعد:(51/61)
فهذه حلقة جديدة مباركة من برنامجكم "مَعَالِمُ بَيَانِيَّة في آياتٍ قُرآنِيَّة" والآية التي نحن بشرف شأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا في سورة الأنعام )وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ( والذي نريد أن نميط اللثام عنه هنا هو إلى ما يعود الضمير)ها) في قوله سبحانه (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) هل يعود إلى نوح عليه السلام أم يعود إلى خليل الله إبراهيم عليه السلام؟ نقول بداية الأنبياء أيها المباركون شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام الله جل وعلا يقول { الله أعلم حيث يجعل رسالته } والأنبياء المذكورون في القرآن خمسةُ وعشرون نبياً، ذكر الله جل وعلا عنهم في الآيات التي تلونها ذكر الله منهم ثمانية عشر وسبعة جاءوا متفرقين ، قال الناظم:
في تلك حجتنا منهم ثمانيةٌ من بعد عشر********** ويبقى سبعة وهموا
إدريس هود شعيب صالح وكذا *********** ذو كفلي آدم بالمختارِ قد ختموا
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين...(51/62)
هذه الآيات أثنا الله جل وعلا فيها على خليل الله إبراهيم هذه مناسبة لأن الله قال في أولها {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} العلماء رحمة الله تعالى عليهم ذهبوا إلى قولين في عودة ) ها( الضمير في قوله سبحانه {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } قال قائلون: بأن الضمير يعود على نوح، وقال آخرون: إن الضمير يعود على إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، فما حجة كل فريق ؟ إذا قلنا إنه يعود على نوح يؤيده أمران:(51/63)
الأمر الأول/ قواعد اللغة، لماذا قواعد اللغة؟ قواعد اللغة تقول: أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، والأقرب مذكوراً هنا هو نوح عليه الصلاة والسلام، الأمر الثاني الذي يؤيد أن الضمير يعود على نوح هو/ أن المؤرخين متفقون على أن لوط ليس من ذرية إبراهيم فهو ابن أخيه هاران ، فهاران أخو إبراهيم من حيث النسب، فإذن لوط ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه، هذان أمران حجة من يقول أن الضمير يعود على نوح ، أما من قال إن الضمير يعود على إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقد قالوا : إن الآيات أصلاً في مقام الثناء على خليل الله إبراهيم وهذا واضح وأجابوا عن قول الله جل وعلا {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} بأنها جملة اعتراضية أجابوا عن كون إبراهيم عليه الصلاة والسلام عمّاً للوط وليس أباً له، بأن الله سمّى في القرآن العمّ أباً في سورة البقرة قال الله جل وعلا { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } فالقائلون بهذا القول هم من؟ هم أولاد يعقوب، ويعقوب أبوه إسحاق وليس إسماعيل وإنما إسماعيل أخاً لإسحاق، فعلى هذا قالوا إن الله جل وعلا سمّى العمّ والداً، فأجابوا عن الإشكال الحاصل من كون لوط ليس من ذرية إبراهيم لإن الله سمّى العمّ والداً ، على هذا يتبين أن من العلماء من قالوا : أنه يعود على نوح، ومنهم من قال إنه يعود على إبراهيم ، وأيّن كان الأمر فإن في هذه الآيات ثناء عاطر من الله جل وعلا على هؤلاء الصفوة المباركة من رسله الكرام وأنبياءه العظام صلوات الله وسلامه عليهم.(51/64)
واعلم أيها المبارك وأيتها الأخت المباركة أن العلماء يسمون نوحاً شيخ الأنبياء لماذا؟ لأنه أطولهم عمراً، ويسمون إبراهيم أبا الأنبياء لأن الله جل وعلا حصر النبوة والكتاب بعده في ذريته قال الله جل وعلا { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب}، وظاهر السنة يدل على أن إبراهيم عليه السلام أفضل من نوح لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في دعوات ادخرها قال: " وادخرت الثالثة ليوم يرغب لي فيه الخلق حتى إبراهيم " فقوله عليه الصلاة والسلام " حتى إبراهيم " يدل على إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق بعد نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولا يعني ذلك الغظاظة من مكانة نوح عليه السلام فإنه أول رسل الله إلى الأرض وقد سمّاه الله جل وعلا في القرآن ونعته بأنه كان عبداً شكورا,
هؤلاء الصفوة المباركة متفق على نبوتهم ورسالتهم، إذا استطردنا في الحديث فإننا نقول: ثمة رجال صالحون ذكرهم الله جل وعلا في كتابه اختلف في نبوتهم منهم : ذو القرنين ، ومنهم الخضر ، ومنهم لقمان ، ومنهم تبع ، وآخرون.
أما مريم عليها السلام فإنه متفق على أنها ليست بنبيه لأن النبوة لا تكون في الإناث..
وما كانت نبيُ قظ أنثى ********** ولا عبد قبيح في الفعالِ
من هنا نفهم أن الله جل وعلا أعطى أولئك الأخيار منازل عالية ودرجات رفيعة يحسن بنا التأسي بهم، ولهذا ختم الله هذا السياق العظيم في سورة الأنعام بقوله جل وعلا{ ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ثم قال جل وعلا بعدها بآية : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}.(51/65)
جعلني الله وإياكم مما يقتفي هديّ الأنبياء ويسير على نهجهم ويتقرب إلى الله جل وعلا بصالح الأعمال التي تقرب بها وختم الله بهم نبينا صلى الله عليه وسلم فهو آخرهم عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكرا..
هذا ما تيسر إراده وأعان الله جل وعلا على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين..
-16-
الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء اهل التقوى
واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله
صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين .. اما بعد :
فهذه حلقه جديده مباركه بإذن الله من برنامجكم
" معالم بيانيه في آيات قرانيه "
وما سنشرع في ايضاحه اليوم يتعلق بتقديم ما حقه التأخير في كلام ربنا جل وعلا ولماذا قدم الله تبارك وتعالى بعض ما حقه التاخير ؟؟ هذا ما سنشرع فيه .
والايات التى نحن بصدد ذكرها عديده ؛ سنبدا بقول الله جل وعلا
{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}النساء11
نقف عند قول الله جل وعلا
" مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ "(51/66)
ونكرر ان هذا المعنى او هذا اللفظ ورد في ثلاث مواضع في ايات المواريث ورد هاهنا وورد في قوله تبارك تعالى " "فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ" وورد في قوله تعالى" فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ "
من المتفق عليه عند الفقهاء رحمهم الله تعالى :
ان الدين مقدم على الوصيه
والسؤال هنا : لماذا قدم الله جل وعلا الوصيه في هذه الايات وهي ايات المواريث قدمها تبارك وتعالى على الدَين مع ما ذكرنا من اتفاق الفقهاء على ان الدَين امضائه مقدم على امضاء الوصيه ؟
والجواب عن هذا : قال العلماء رحمهم الله في اكثر
الاجوبه : ان الوصية قد لايوجد من لا يبحث عنها لا يدري ان هناك وصيه بخلاف الدَين والمعنى : لو ان رجلا ترك دينا عليه وترك وصيه مكتوبه فربما اكثر من يرثه لا يدري ان هناك وصيه فلا يطالب بها اما الدَين فمهما كانت رقه اصحاب اولئك الدين على الذي توفي كثرتهم او قلتهم تبقي فيهم احيانا من يعلم ان هناك دينا له على المتوفي فيأتي ويطالب به .
اذن جماع الامر ان نقول :
ان الدين غالبا ما يكون ورائه مطالب بخلاف الوصيه قد لا يكون يدرى عنها فلا يكون ورائها مطالبا على هذا قدم الله جل وعلا الوصيه على الدين لان الدين قد يوجد من يكفي الغير امره بخلاف الوصية فربما لا يوجد من لا يعلم عنها شيئا فلا يُطالب بها وإلا فمن حيث إمرار التركه والتصرف في أموال المتوفى يقدم النظر في الدين على نظر في الوصيه بإجماع الفقهاء .
نظير هذا المعنى في كلام ربنا جل وعلا وهو تقديم ما حقه التاخير نذكر الآن ايتين في الاحقاف والشورى : ذكر الله جل وعلا فيهن رسله العِظام اولى العزم من الرسل قال الله تعالى وهو اصدق القائلين في الاحزاب:
{(51/67)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَوَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً }الأحزاب7
نلاحظ هنا ان الله جل وعلا ذكر النبيين اجمالا ثم لمّا فصّل قدم نبينا صلى الله عليه وسلم على نوح والانبياء الذين بعده ، بخلاف ما ورد في سوره الشورىفان الرب جل وعلا يقول :
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }الشورى13
السؤال المطروح هنا ؛ لماذا قدم الله ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم في الاحزاب واخر ذكره بعد نوح في الشورى ؟
الجواب : في الاحزاب كان الله جل وعلا يتكلم عن الانبياء ولهذا قال " وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ " فلما كان الكلام عن الانبياء قدم الله جل وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم وإن كان آخرهم عصرا الا انه صلى الله عليه وسلم افضلهم وارفعهم ذكرا فقدمه ،
اما في سوره الشورى فلم يكن الحديث كما كان في الاحزاب عن الأنبياء من حيث كونهم أنبياء ولكن كان كلاما عن الدين ولا ريب أن نوحا عليه الصلاة والسلام أول رسل الله الى الأرض فلهذا قدمه الله جل وعلا لان الكلام عن الدين لا عن الأنبياء الذين يحملون الدين
قال الله جل وعلا:
" شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ "(51/68)
فانظر يا أُخيّ ويا أختاه إلى عظمه القران وانه لا يُقدم شيء أو يؤخر آخر إلا لحكمة ظاهره بينه يطلع الله جل وعلا عليها بعض خلقه من أصفياء عباده من ركب العلماء
وتغيب عن البعض واياً كان الأمر فان شواهد عظمه القران قائمه علمنا منها ما علمنا وجهلنا منها ما جهلنا.
مثل هذا كذلك من نظائره من كلام ربنا تبارك وتعالى قول الله جل وعلا في ايه امتنان عظيمة على عباده قال
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ }النحل الايه5وَ6
هذه الايه في سياق الامتنان والناظر إلى انعامه وهي التي تغدو إلى المُراح لترعى الى رعيها ليس كنظره اليها وهي في حال أوبتها وعودتها ؛ فإنها اذا عادت تعود عِظاما ضروعها طوالا أسنمتها فمنظرها في العين اجل واعلى وأمتع وهي ايبه وهي عائدة واذا كان منظرها يبقى حسنا وهي ذاهبة إلى المرعى لكن لمّا كانت الأنعام في حال أوبتها تملا العين أكثر والايه مسوقه في سياق الامتنان قدم الله جل وعلا ما حقه التأخير زمنا على الذكر ؛
لماذا؟
حتى يكون الوضع متناسبا مع كون الإنسان يراعي منظر ما يشاهده ويراه من نعم الرب تبارك وتعالى عليه فالأنعام أملاء في العين حال أوبتها من حال ذهابها إلى المرعى ولذلك قدم الله جل وعلا ما حقه التأخير زمنا .
في خضم هذا النظر في هذه الآيات التي ذكرناها في النحل وفي الشورى وفي الأحزاب وقبلها في النساء يتبين لنا عظمه القران وانه منزل من عند الله تبارك وتعالى وهذه بعض الشواهد على ما في القران من عظيم المكانة وجليل البلاغة وروعه البيان التي أسرت العرب قبل ذلك فكانت سببا ممن منّ الله جل وعلا عليهم بالهداية ممن لحقوا بركب محمد صلى الله عليه وسلم.(51/69)
جعلنا الله واياكم ممن يستمع القول فيتبع احسنه .. هذا ما تيسر اعداده وتهيأ ايراده واعان العلي الكبير على قوله وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين
-17-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيراً طيباً مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له اراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء ان يطيعوه جميعا لأطاعوه ، واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله اخر الانبياء في الدنيا عصرا ، وارفعهم واجلهم يوم القيامه شأنا وذكرا
.. اما بعد :
فهذه حلقه جديده مباركه من برنامجكم
" معالم بيانيه في ايات قرانيه "
نسال الله جل وعلا فيها التوفيق والسداد
والايه التى نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي
قول الله جل وعلا في سوره النحل
{وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }النحل67
معشر الاحبه ..
ندرك جميعا ان الخمر حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم
وهي مما اتفقت كلمه اهل الاسلام على تحريمه لكننا نلاحظ في هذه الايه االمباركه التى تلوناها لتوّنا ان الله جل وعلا ذكر قسيمين : الرزق والسٌكُر ،فذكرالسكر اولا دون ان ينعته او يصفه بأي شيء اخر ،ثم ذكر تبارك وتعالى الرزق واردف قائلاً :
"وَرِزْقاً حَسَناً "
فكلمه حسناً كما هو معلوم صفه لرزق ،
فوصف الله جل وعلا الرزق بأنه حسن ؛ ذلك الرزق المتخذ من ثمرات النخيل والاعناب ،
لكن السكوت عن وصف كلمه )سكر) بأنها حسن كان الاشاره الاولى كما يقول الفقهاء الى بدايه تناول الخمر في التشريع ،
وهذا كله من دلاله ما صنعته بلاغه القران في نفوس الناس ؛ ذلك ان الرب تبارك وتعالى درّج عباده كثيرا في قضيه تحريم الخمر ومر تحريمها بأمور عده او بدرجات متعدده(51/70)
http://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/f4e3906e82.gif
وكانت هذه الايه كما يقول الشيخ عطيه محمد سالم رحمه الله : " المؤشر الاول في موضوع الخمر والاشاره الاولى لبدايه تناولها في التشريع "
ولذلك انتبه بعض الاشخاص اليها فتركها لتجرد (السكر) من الوصف الذي وصف به الرزق كونه حسنا وكان مؤثرا فيهم ومثيرا للسؤال عنها ثم جاءت الايه الثانيه وهي قول الله تعالى
"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا" البقره219
قال الشيخ عطيه رحمه الله :ولعل النص الاول هو الذي جعلهم ينتبهون ويفكرون ثم يسألون فيأتيهم الجواب مفصل قال الله جل وعلا في المرحله الثالثه مخاطبا المؤمنين :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ"النساء 43
فكانت ادخلت الموضوع للتصريح بنهيهم عن اقتراب الصلاه وهم سكارى أي تحريمها عليهم لان السكر من لوازم الشرب واذا حرم اللازم حرم الملزوم ولكن لزمن مؤقت ،حتى نزل قول الله جل وعلا"
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ }المائدةالايه 90و 91(51/71)
من هنا يتبين بوضوح منهج التدرج والتصعيد في تناول الموضوع؛ اما التدرج فهو بدايه اخذهم بما يلفت النظر فقط ؛ وهو ان الله جعل الامر قسمين كما بينا جعله سكر وجعله رزقا فنعت رزقا بكلمه حسنا ولم يعقب جل وعلا على كلمه سكر باي نوع من الصفات ، وهذا مما ادرجناه في بيان لفت النظر من حيث الاستحسان والتقبيح في النص الاول في وصفه الرزق من الثمرات الباقيه على اصل خلقتها بأنه حسن والسكوت عن قسيمه الذي هو السكر والذي هو من ضمن اتخاذهم بأيديهم ، وبالتالى فان مفهوم المخالفه للحسن ماهو؟! هو القبيح بلا شك
قال بعض العلماء : وهم - اي العرب- اهل ذوق بلاغي وفطنه وسليقه مما حداهم للتسائل عن الخمر والميسر ؛ فالنص الاول كان بمثابه المؤشر لبدايه تناول هذا الموضوع ؛ اسلمهم وقادهم تفكيرهم الى تقديم السؤال طواعيه من انفسهم فجاء قول الله :"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ"
اذ قد اصبحت الخمر والميسر موضوع تساؤل اخذت شكلا موضوعيا اجتماعيا يتطلب جواب الشرع ورايه فيه، فجاء الجواب مصعدا الموضوع نافذا الى صميمه
" قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ"
وهذا اول تصريح ايجابي في تأثيم الخمر والميسر ثم تقرير الواقع ليفنده
" وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ "
وهم يدركون ذلك ويطلبونه منها ولكنه فنده عليهم وابطل تطلعهم وطلّبهم اياه بقوله
"وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا "
وهذا بمثابه اهدار تلك المنافع واحباط امالهم فيها اذ كيف يطلبون منافع مما اثمه اكبر من نفعه؟َ!
ان التصريح واضح والجواب صريح فكان في هذا النص تدرج في مجرد مفهوم القبيح من وصف الرزق بحسن الى التصريح بوجود الاثم الكبير وهذا لا يحتاج الى اعمال فكر لإستنتاج مدلول مفهوم المخالفه السابق بل يدركه كل من سمعه ويفهمه بداهه ،(51/72)
الذي يعنينا هنا ليست القضيه كنحو فقهي وانما القضيه: ذلك النهج البلاغي الذي رسمه الله جل وعلا بالتدرج في تحريم الخمر وذكره تبارك وتعالى ووصفه للرزق بأنه حسن وسكوته عن القسيم الاخر وهو السكر بأنه (جل وعلا ) كما بينّا لم يصفه
بأي وصف
ان القران في بلاغته هذه ليسمو بالنفوس ويمهد لها الاحكام الشرعيه ويعينها على تقبل كلام الرب تبارك وتعالى ويرسم منهج واضح مقتبس من لغه العرب نفسها التى تعتمد كل الاعتماد على البلاغه
ذلك ان العرب يؤثر فيها البيان ويجعلها تقبل الامر اكثر مما تقبله لو كان خاليا
ومجردا من ذلك البيان ،
هذا ما اردنا التنبيه عليه وليس المقصود التنبيه على مسائل فقهيه واحكام تشريعيه فليس هذا بموضوع الحلقه ولا تنشده ابدا فهذا له مجاله وله فرسانه لكننا نتكلم عن ذلك البيان الوافي في رسم لغه القران
جعلنا الله واياكم ممن يتعظ به ويسمع القول ويتبع احسنه هذا ما تيسر ايراده وتهيأ اعداده واعان العلى الكبير على قوله
وصلى الله على محمد وعلى اله
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-18-
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا
من يهده الله فلا مضلله، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا،
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له
واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد
http://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifفهذه حلقه جديده مباركه بإذن الله من برنامجكم
"معالم بيانيه في ايات قرانيه "
والايه التى نحن بشرف شأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الرب تبارك وتعالى
" وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"(51/73)
بداية ايها المباركون نقول هذه الايه جاءت في معرض عتاب الرب تبارك وتعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو قل لبعضهم الذين خاضوا في حديث الافك وحديث الافك كما هو مقرر في السيره وغيرها الإفك في اللغة هو القلْب ولان هذا الحدث فيه قلْب للحقائق فسماه الله جل وعلا إفكاً
قال تبارك وتعالى
" إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ "
وأصله ان بعضا ممن يدعى الايمان في اصله كعبد الله بن ابي بن سلول رأس المنافقين رمى الصديقة بنت الصديق الطاهرة المطهرة زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والاخرة ورماها بصفوان بن معطل ثم انه قدر لذلك الرجل
– لأمر اراده الله -
قدر له ان ينشر ذلك الحديث في المجتمع النبوي انذاك رغم ان الذين خاضوا فيه عدد ونزر يسير جدا
لكن الرب تبارك وتعالى بعد شهر من انقطاع حسم الامر بقوله:
"إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ"
وليست القضية هنا في معرض حديثنا هي التعريج على ذكر ذلك الخبر تاريخيا
لكننا نقف بيانيا امام قول الله جل وعلا
"وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"
لماذا أمر الله جل وعلا عباده ان يقولوا سبحانك هذا بهتان عظيم ؟!
http://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gif
بداية نقول أصلا سبحانك للتعجب من عظم أمر و معنى التعجب في كلمه التسبيح ان الأصل أن يسبح الله عند رؤيه العجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه او لتنزيه الله من ان تكون زوجه نبيه فاجرة
وانما جاز أن تكون إمرأة نبيه كافرة كإمرأة نوح ولوط(51/74)
ولم يجز ان تكون فاجرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث للكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه والكفر غير منفر عندهم وأما الفحشاء فمن أعظم المنفرات
الذي اراد الله جل وعلا قوله كما قال المفسرون:
هلاّ حين سمعتموه ممن بداء فيه وانتحله او ممن تابعه في القول قلتم تكذيبا له وتهوينا لشأن ما ارتكبه من الحرام لا يحل لنا ان نتكلم بهذا
ولا ينبغي لنا ان نتفوه به سبحان ربي هذا كذبا صراح سبحانك ربنا هذا كذب صُراح يحير السامعين أمره لما فيه من جرأة على بيت كريم شُهر بالعفاف والطهر
ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس بيت النبوة الذي هو بالعلياء من الاجلال والاحترام وعظيم المكانة واذا جاز الخوض فيه على هذه الشاكله
فماذا بقي للمؤمنين بعدهم؟؟!
http://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gif
أليس هاؤلا هم الإسوة الحسنه وينبوع الطهر ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين وشريف الأخلاق وإنا لنبرأ إليك ربنا من أن تلوكه ألسنتنا وان يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا،
كما نبرأ اليك ربنا من كل افاك اثيم سولت له نفسه ان يكون الوسيله لإنتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين قال بعض اهل العلم :
خلا صة هذا ينزه ربنا ان يرضى بظلم هاؤلا القاذفين وان لا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوه وكبير ما اجترحوه من الاثم والفسوق وان تُؤسم زوج نبيه بالفجوروالعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا لان فيه ايذاء للنبي صلى الله عليه وسلم والله يقول
" إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"(51/75)
ولأن فيه اشاعة الفاحشه التى امر الله بسترها ولان فيه اظها محاسن الناس وترك معايبهم تخلق بأخلاق الله والنبي يقول نحو ذلك
المقصود من هذا ايها الاخوة المباركون :
ان يبين ان القران بإستخدامه للفظ
"سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"
فيها ارتقاء بدرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله عاليه من الكمال البشري وهو كذلك صلوات الله وسلامه عليه
http://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gif
وحديث الافك كما هو معلوم خاض فيه عبد الله بن ابي بن سلول وكان قد أُعطي قدرة كبيره على المداراة
فكان يشيعه بالناس دون ان ينسب ذلك إليه ولذلك سلم من الجلد أي من عقوبة القاذفين
وممن ابتلوا بذلك الامر صفوان بن معطل رضي الله عنه وارضاه الذي رميت به زوجته
ويقال ان احدى امهات المؤمنين سألت عائشه رضي الله عنها وارضاها : ماذا قلتِ عندما هممتِ بركوب دابه صفوان بن معطل رضي الله عنه ؟؟
ومعلوم ان صفوان بن معطل أناخ بعيره لأم المؤمنين رضي الله عنها وارضاها ولم يزد على ان استرجع وقال انا لله وان إليه راجعون فما حملها سئلت بعد ذلك بعد ان وضعت الامور نصابها وجاء الحق من رب العالمين وفصل الحق تبارك وتعالى في القضيه وبرّى عائشه وصفوان ؛ سئلت ام المؤمنين ماذا قالت ؟؟
فقالت : قد قلت : "حسبنا الله ونعم الوكيل"(51/76)
فانظر يا أخي وانظري يا اختاه إلى عظيم اثر هذه الكلمة فإن فإن الله جل وعلا حفظ زوجة نبيه بقدرة ومما حفظه الله جل وعلا بها ان ألهمها ان تقول حسبنا الله ونعم الوكيل وهي تركب الدابه كما الهم الله جل وعلا صفوان ان يقول عندما رأى ام المؤمنين رضي الله عنها وارضاها وعلم انه قد ابتلي بها لكونها في الخلاء وحدهما قال : انا لله وانا إليه راجعون فأنزل الله جل وعلا في حقهما رضي الله عنهما كتاب يتلى إلى يوم القيامه ينزل الله جل وعلا فيه برائتهما قال الرب تبارك وتعالى :
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
http://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gifhttp://www.flashfp.net/uploader/modules/up-pic/pic/uploads/8ece7c2ad6.gif
جعلنا الله واياكم ممن يستمع القول فيتبع احسنه وهدانا الله واياكم لهدى انبيائه وسنتهم
هذا ما تيسر ايراده واعان العلي الكبير على قوله وصلى الله على محمد واله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-19-
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارا ، واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه مهاجرين وأنصارا .. أما بعد:
فهذه حلقه مباركه من حلقات برنامجكم (معالم بيانيه في آيات قرانيه)
سنُعرج في هذا اللقاء المبارك على آيتين من كلام ربنا تبارك وتعالى الأولى في سورة القمر والثانية في سورة القارعة(51/77)
أما التي في سورة القمر فهي قول الله جل وعلا يذكر بعث الناس{ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ }القمر7
والآيه الثانية في سوره القارعة هي قول الله تبارك وتعالى {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ }القارعة4
معلوم قطعا أن يوم القيامة يوم مهول يفزع فيه الخلائق ويخرجون من قبورهم ، قال الله جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ{51} قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ{52} سوره يسهاتان الاياتان تصوران خروج الناس من القبور وذهابهم إلى ارض المحشر
كيف يخرجون ؟؟ هذا هو السؤال
قال الله جل وعلا في القارعة {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ }وعاد وقال تبارك وتعالى في سورة القمر{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ }
معلوم أن حركة الفراش غير حركه الجراد ، فحركة الفراش يسومها الاضطراب وعدم التوافق عدم الانتظام بخلاف حركه الجراد فإنه يُصبغ بالانتظام والانضباط مع الكثرة فالكثره موجودة في الطرفين في الفراش والجراد لكن الاضطراب سمة للفراش والانتظام سمة لحركه الجراد
معلوم أن المبعوثين أنفسهم لا يتغيرون هم أنفسهم في حال وصفهم بالفراش وهم أنفسهم حال وصفهم بالجراد فهل يوجد بالآيتين تعارض ؟؟
طبعا محال
إذن ما التخريج ؟؟
التخريج : أن يقال أن الناس أول ما يخرجون من قبورهم يخرجون مضطربين قال الله جل وعلا :
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً }الكهف99فالبعث يكون بالنسبه للناس أول مرة وآخر مره فالناس لم يعرفوا البعث من قبل لم يعرفوا النشور من قبل فلا يدرون أين يذهبون ؟؟ لذلك تضطرب حركتهم ولا تنتظم ، في هذه الاثناء صوّرهم تبارك وتعالى بأنهم فراش ،(51/78)
ثم لا يلبثوا أولئك الناس جميعا أهل المحشر ان بتقدمهم ملك كريم هو اسرافيل قال الله جل وعلا {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ}طه108
الان لاحظ حاله الانتقال ؛ انتقلوا من كون حاله الفراش التي تصبغ وتوسم بأنها حركه اضطراب إلى حركه الجراد التي توسم بأنها حركه منتظمة قال ربنا وهو اصدق القائلين {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ }
فيصبحون منتظمين خلف من؟؟ خلف ملك كريم يقال له اسرافيل بعد أن يكون اسرافيل قد دعاهم إلى ارض المحشر
وقد اخبر الله جل وعلا بتلك الدعوة وأنبأ عنها في خاتمه سوره ق وقال هنا في طه {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً }طه108إذن : نفهم من هذا أن الرب تبارك وتعالى صور حال المبعوثين من القبور صورتين :صورة أوليه وشبهها بالفراش لعدم الانتظام ولوجود الاضطراب وسوره ثانيه وهي: شبههم بالجراد في حال انتظامهم واتباعهم لقائدهم إلى ارض المحشر وهو اسرافيل عليه السلام
وهذه الايه التي شبه فيها الله جل وعلا انتظام الناس هي في سوره القمر.
ندخل - استطرادا – هنا من باب تعميم الفائدة وزيادتها على سورة القمر
سورة القمر سوره مكية تعنى بما تعنى به السور المكية عادة عن الكلام عن أصول العقيدة الثلاث :
* إثبات الالوهيه لله تعالى
* إثبات الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم
* ذكر البعث والنشور
وقوله جل وعلا كأنهم جراد منتشر يندرج تحت الأمر الثالث وهو ذكر البعث والنشور ،
وسميت بهذا الاسم لذكر القمر فيها ؛ والقمر آيه من آيات الله ويقال له مع الشمس القمران من باب -التغريب-(51/79)
وهذه السورة هي إحدى السور التي يقرن النبي صلى الله عليه وسلم بها مع أخرى في بعض المناسبات ومما يقرن النبي عليه الصلاة والسلام واشتهر في الصحيح والسنن ثلاث قرائن :قرن عليه الصلاة والسلام بين سبح والغاشية كان يقراء بها في الجمع والأعياد ، وغالبا ما يقرن في يوم الجمعة فجرا بين (الم تنزيل ..) السجدة وبين سورة الإنسان ، كما كان صلى الله عليه وسلم يقرن في الجمع والأعياد مابين سورة ق وسورة القمر.
هذا ما تيسر حول التعريف بالسورة
فإذا عدنا إلى ما حررناه آنفا من قول الرب تبارك وتعالى {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ }القارعة4
وقول الرب تبارك وتعالى{ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ }القمر7ساقنا هذا وقادنا .. مع أخذنا ذلك البيان الرباني ومعرفتنا لبلاغه القران أن نجعل منه واعظا لقلوبنا والقران واعظ واعظم واعظ وهي سمه لا ينبغي ان تنفك عن كل من يقرأ القران لابد أن يلحظ أن القران أراد الله جل وعلا به في المقام الأول (وعظ القلوب) قال الله جل وعلا عن ثلة من عباده الصالحين
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}المائدة83
ومعرفه القران الحق هي ان الإنسان يفيض دمعه ، يجلُ قلبه ، يقشعر جلده اذا سمع آيات الرب تبارك وتعالى فليست القضية فقط ذكر أحوال الناس على صورتين: كالفراش والجراد ، والوقوف عند هذا والاكتفاء به هذا محال ، إن يكون المقصود الشرعي من كلام الرب تبارك وتعالى لكن الإنسان يفزع يصيبه الهول يصيبه الخوف فإذا خاف وفزع عمل لما يدفع ذلك الفزع والخوف عن نفسه وهذا لا يكون إلا بالإيمان بالله والعمل الصالح والتقرب إلى الرب تبارك وتعالى بما يحبه ويرضاه حتى يأمن الإنسان من أهوال يوم الوعيد ،(51/80)
فالمؤمن إذا تذكر الموت وسكراته وتذكر القبر ووحشته وتذكر النفخ في الصور وفزعته ، وتذكر الصراط وزلته خاف وارتعد فعمل صالحا فإذا خاف في الدنيا لا يجمع الله على عبد خوفين فيؤمنه الرب تبارك وتعالى والله لا يعطي عبدا أمنين فمن أمن الرب تبارك وتعالى في الدنيا أخافه الله جل وعلا يوم القيامه .
رزقني الله واياكم الامن يوم الوعيد والحقنا الله وإياكم بكل بر سعيد
هذا ما تيسر ايراده واعان العلى الكبير على قوله حول التعليق على آيتين مباركتين في سورة القارعه وسورةالقمر
نسال الله ان يجعلنا واياكم ممن يستمع القول فيتبع احسنه
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-20-
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا
وسيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله ،
بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبي عن امته.
صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه حلقه جديده مباركه من برنامجكم
"معالم بيانيه في آيات قرانيه"
والآيات التى نحن بشرف شأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي فاتحه سوره النجم
قال الله تعالى وهو اصدق القائلين :
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى{1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}
وما نريد ان نميط اللثام عنه تحديدا في هذا اللقاء المبارك هي المناسبه مابين القسم بالنجم
وما بين جواب القسم وهو قول الله جل وعلا : {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}
بدايه ايها المباركون نقول : ان سوره النجم سوره مكيه عند اكثر اهل التفسير ،
جرت على عاده السور المكيه في العنايه بأمر العقيده وإثبات الرساله كما فيها بيان وإشاره إلى رحله المعراج(51/81)
اختلف العلماء اولا في المقصود بكلمة)النجم) في هذه السوره وهذا المدخل ضروري حتى نحرر ما نراه صوابا ثم نبني عليه.
ذهب فريقا من العلماء إلى ان النجم هنا نزول القران منجما على قلب محمد صلى الله عليه وسلم
فتعني كلمه النجم عندهم الجمله من القران وقت نزولها ، لأن القران نزل منجما وهذا في ظني
وان قال به بعض الافاضل والاكابر الا انه رأي مرجوح ،
وقال بعض العلماء ان النجم هو النجم المعروف الذي في السماء والنجم في الأرض
وهو نوع من الشجر أي قال قوم ان النجم الذي في السماء
أو النجم الذي في الأرض وهو نوع من الشجر لا ساق له ،
ثم قالوا بعد ذلك في بيان ذلك اختلفوا في تحديد ما هو النجم هذا القول بأن النجم هو النجم
الذي في السماء وهو اول ما يتبادر إلى الذهن عند اطلاقه ،
وهذا الذي ينبغي اعتماده في ظني ؛ لان لغة القران يجب ان تنصرف اولا إلى ماهو شائع ظاهر من كلام العرب ؛
لكن القائلين بأن النجم في الايه في قول الرب تبارك وتعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}
هو النجم الذي في السماء اختلفوا في أي نجم هو ؟؟
فذهبت طائفه إلى ان المراد هو كوكب الزهره
وذهب بعضهم وهم الاكثر إلى انه الثريا وقال اخرون بغير ذلك
القول الثالث الذي نعتمده ونبني عليه ان المقصود بالنجم هو "جنس النجم" في السماء فلا يحدد نجم بعينه
وان الله يُقسم بالنجوم جمله في السماء وهذا القول اختاره العلامه ابن سعدي رحمه الله تعالى عليه
وهو الذي تميل إليه النفس اكثر
هذا ما تحرر من بيان على قول الله تبارك وتعالى : {وَالنَّجْمِ}
قلنا سنميط اللثام عن قول الله جل وعلا :{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}
أي المناسبه ما بين القسم بالنجم وذكر صدق نبوه محمد صلى الله عليه وسلم ؛
الجواب عن هذا ان يقال :
المناسبه ان النجوم يُهتدي بها في الظلمات في البر والبحر
-والوحي في الأرض-
بل ان حاجه الناس للوحي اعظم من حاجتهم إلى النجوم(51/82)
والمعنى ان الوحي في الأرض منزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم
فكما ان الناس يهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر فانما بين ايديهم من الوحي الذي
اعطاه الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم هم احوج إليه من حاجتهم إلى النجم
وكما ان النجوم زينه في السماء فإن كلام الله زينه في القلوب ونور وزينه في الأرض
وزاد عليه بعض العلماء ان قال : ان الله جل وعلا علم من العرب انها تستخدم النجم في الهدايه
وتطمئن إليه في زرعها و في اسفارها
فأقسم الله بالنجم لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
أي كما انكم تطمئنون للنجوم وتعرفون ان النجم لا يخرج عن مساره وما اضل النجم ابدا ولا تغيرت هدايته ؛
فإن الله الذي سخر لكم النجم هو الذي بعث لكم النبي عليه الصلاة والسلام
وهذا تفسير جيد وتبرير وتحرير اكثر من حسن
لان فيه ربط بين ما يراه المؤمن من نور النبوة من نور الوحي الذي اعطاه الله جل وعلا
سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم فيسوقه ذلك الهدى الى مرضات الله جل وعلا
وما بين ما يراه التائهون في ظلمات البر والبحر من اهتدائهم بالنجوم
كما قال الله جل وعلا: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }النحل16
بقي ان نبين ايها المباركون ان هذه السوره كذلك كما ذكرت صدق نبوه محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قال في حقه :{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى }النجم2
الضلالة : عدم العلم بشيء
أما الغواية : فهي ترك العمل بالعلم
فالله تعالى ينفي وينزه نبيه عليه الصلاة والسلام عن الجهاله فأثبت بذلك له العلم بالحق ثم اثبت له الهدايه
ومعنى ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم علم وعمل به ولا ريب انه عليه الصلاة والسلام
مامن صفه كمال الا واعطاه الرب تبارك وتعالى اياها قال شوقي - وما اجمل ما قال ! – :
فإذا رحمت فانت ام او اب ** هاذان في الدنيا هما الرحماءُ
واذا خطبت فللمنابر هِزة ** تعرو النديِّ وللقلوب بكاءُ(51/83)
صلوات الله وسلامه عليه بكرة واصيلا
هذا ما تيسر ايراده وتهيأ تحريره حول قول الرب جل وعلا :
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى{1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}
اسال الله ان ينفعنا واياكم بما قلناه وبما سمعناه
وصلى الله على محمد وعلى اله
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-21-
الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله واصحابه
وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ..أما بعد ...
فهذه حلقه جديده مباركة من برنامجكم"معالم بيانيه في ايات قرانيه "
على غير العادة سنبداء حلقتنا هذه بخبر أدبي نزدلف بعده إلى الايه التي نحن بشرف شأن الحديث عنها
حكى الأصمعي انه سمع جاريه اعرابيه تنشد وتقول :
استغفر الله لذنبي كله *** قبلت انسان بغير حله
مثل الغزال ناعم في دُله *** فإنتصف الليل ولم اصله
قال فقلت لها : قاتلك الله ما افصحك !! قالت أويعد هذا فصاحه مع قول الله جل وعلا::
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }القصص7
اذ جمع الله جل وعلا في آيه واحده بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين ؟؟؟
جلّي ايها الاخ المبارك والاخت المباركة انه ظهر لنا ان الايه
التى نحن بشرف الحديث عنها اليوم هي قول الله جل وعلا في إلايه السابعه من سورة القصص
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ َجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
الحديث هنا عن كليم الله موسى بن عمران ايام الطفوله ؛(51/84)
ولدته امه رضي الله عنها وارضاها فلما وضعته اصابها الخوف عليه ؛
ذلك ان فرعون كان يقتل من يولد من غلمان بني اسرائيل ثم بداء له ان يقتل عاما ويترك عاما
فوُلد هارون في العام الذي لا قتل فيه وولد موسى – بقدر الله – في العام الذي فيه قتل ،
قال الله جل وعلا يذكر الخبر قال :{وَأَوْحَيْنَا}
وهذا فيما يظهر وحي للعام{إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ }
وهذا هو الامر الاول في الايه وارضعته لانه لابد له من الرضاعه
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}
فقول الله جل وعلا{ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} هو الامر الثاني في الآيه وما زلنا في ايه واحده والى الان تضمنت أمرين :
تضمنت اول الامر ان ترضعه ولا تخشى من فطنه
-الدايات- فأن اصابها الخوف ولم يطمئن القلب فعليها ان تلقيه في اليم
ومعلوم ان البحر الذي هو اليم مظنه خوف ،
-مظنه هلاك ، مظنه موت لكن الله جل وعلا كل شىء جند له اذا اراد
فكان البحر جند لله حفظ الله بأمواج البحر كليمه موسى حتى اوصله اليم إلى قصر فرعون.
قال الله جل وعلا بعد ذلك بعد ان ذكر الأمرين ذكر تبارك وتعالى النهيين :
{وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي}
لا تخافي ان يصيبه اذى ، ان يصيبه ضرر ، ان يهلك ، ان تفقديه ولا تحزني لفراقه ، لماذا لا تحزني لفراقه ؟؟
ولا يقدر على ان يقول هذا أحد هذا غير الله{ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
رادوه اليك بالرضاعه مرة اخرى ، وجاعلوه من المرسلين في مستقبل ايامه
وفي تقدم عمره اذا تجاوز الأربعين وبلغ اشده واستوى سيكون نيبا رسولا
فهذا وعد من العلي الكبير لأم موسى ان الله جل وعلا سيرد اليها ابنها وان ابنها هذا سيكون له شأن عظيم اذا كبر ،
وأيُّ شأن اعظم من مقام النبوة والرساله التي اعطاها الله جل وعلا لأولئك الصفوة من الخلق والله يقول {أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}الأنعام124(51/85)
فهذه آيه واحده من كلام الرب تبارك وتعالى تضمنت خبرين وتضمنت أمرين:
)أَنْ أَرْضِعِيهِ – أَلْقِيهِ )
وتضمنت نهيين :( لَا تَخَافِي - َلَا تَحْزَنِي (
وتضمنت بشارتين :{ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
ما يلفت النظرهنا اذا خرجنا عن سياج البلاغه قليلا
نجد ان ام موسى عليه السلام رغم الوعد الرباني لها بأن الله جل وعلا سيرد لها ابنها
إلا انها بعثت اخته لتتحسس خبره{ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ}القصص11
فهم العلماء من هذا ان الانسان لا ينبغي عليه ان يعجزعن طلب مقصده لكنه يطلبه بجوارحه
واما ما في القلب فإنه يطلبه بقلبه مع الرب تبارك وتعالى
يطلبه بجوارحه مع الناس ، ويطلبه بقلبه في تعامله مع ربه تبارك وتعالى
فالتوكل عباده قلبيه يُتعبد بها الرب تبارك وتعالى بين العبد و بين ربه يتعبد بها العبد ربه جل وعلا
نعود لهذه الايه المباركه التي قال الله جل وعلا فيها :
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ..}
وقد صدقها الله وعده وردّ ابنها اليها اذ جعل الله جل وعلا من شفتي موسى جند من جنوده
لا يقبل أثداء المرضعات كلما عُرضت عليه مرضعه اعرض عنها عليه السلام
وهو حين ذلك صغير احوج ما يكون للرضاع لكن الله جل وعلا يقول :
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ}وهذا يا اخي تحريم منع لا تحريم شرع ،
فلما امتنعت شفتا موسى ان تقبل أثداء النساء رده الله جل وعلا إلى امه على انها مرضعه
وليست اماً في نظر فرعون فكان فرعون يعطيها أجر على رضاعتها لموسى
فتأمل ياأخي رحمه الله جل وعلا بموسى وبأمه ترضعه امه وهي امه يجب عليها رضاعه
ومع ذلك تأخذ أجراً ونفقه من فرعون دون ان يدري فرعون انه يعطي الاجر والنفقه لمن ؟(51/86)
لأم موسى .تلك كلها تدل على ان هناك عنايه الاهيه وحفظ ربانيا
اذا اعطاه الله جل وعلا عبدا من عباده او أحدا من خلقه فلينم ذلك العبد وذلك الاحد قرير العين ؛لأن الله جل وعلا خير حافظ وهو ارحم الراحمين.
نعود فنقول هذه بلاغه القران يؤتى بالخبر الموجز والسياق المختصر
ويتضمن معان فريه يجل الخاطر فيها والبيان ايما جوله من عظمه ماذكره الله جل وعلا في آيه موجزه
كما قالت تلك الاعرابيه :وايُ فصاحه تعد هذه مع قول الله جل وعلا
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُمِنَ الْمُرْسَلِينَ }القصص7
هذا ما تيسر ايراده واعان العلي الكبير على قوله حول قول الله جل وعلا في الايه السابعه من سوره القصص
راجين ان نكون قد امطنا اللثام عن ما اردنا بيانه والله المستعان وعليه البلاغ
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-22-
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له
ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له
واشهد ان سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى اله واصحابه
وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد ..
فهذه حلقه مباركه جديدة من برنامجكم
" معالم بيانيه في ايات قرانيه"
وشرف الحديث اليوم حول قول الله تبارك وتعالى في سورة التحريم :
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً
فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }التحريم11
بدايه نقول قال العلماء في تفسير هذه الايه :(51/87)
هذا مثل ضربه الله جل وعلا في عدم تضرر المؤمن بقرابه الكافر
ولو كانت تلك القرابه قرابه زوجيه .. وما اقواها !!
وهذا المثل لأمرأة فرعون الكافر الظالم وهي آسيه بنت مزاحم كانت قد آمنت بموسى مع من آمن
فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم الطاغيه على قتلها قالت في مناجاتها لربها :
{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين َ}
الذي نريد ان نميط اللثام عنه إلى ان هناك تقديم وتأخير في الآيه يقول الله جل وعلا :
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ..}
يحكي الله جل وعلا هنا مناجاتها :{ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}
تلحظ ايها المبارك وايتها المباركه انها اختارت جوار الواحد القهار قبل ان تختار الدار
اختارت هذه المرأة المباركه جوار الواحد القهار جل جلاله قبل ان تختار الدار وهي الجنة
فقالت :
{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}
ولم تقل : رب ابنِ لي بيتا في الجنه عندك ولكنها قالت كما حكى الله :
{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}
هذا التقديم تقديم الظرف هنا له دلالاته الكبيرة وأعظمها :
ان هذه المرأة الصالحه التقيه كانت في شوق عظيم إلى لقاء الرب تبارك وتعالى
وقد مرّ معنا في حلقات قد مضت وسلفت ان الشوق إلى الله تبارك وتعالى
خصيصة من اعظم ما خص الله جل وعلا بها الأنبياء والصالحين ؛
كما سمعت أم المؤمنين عائشه رضي الله عنها وارضاها نبينا صلى الله عليه وسلم
عندما خُير مابين الخلد في الدنيا ثم الجنه وما بين لقاء الله ثم الجنة قالت :سمعته يقول :
مع الذين انعمت عليهم من النيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا
الذي يعنينا ان تقديم الظرف هنا له دلالاته الكبيرة فهذه المرأة مرأة مباركه حتى في منطقها(51/88)
وهذا المنطق تفردت به بعض النساء الاتي جاء الشرع بتزكيتهن مثل :
آسيه بنت مزاحم كما هو ظاهر في هذه الايه
وكما جاء في تزكيه خديجه بنت خويلد رضي الله عنها وارضاها فإن خديجه رضي الله عنها وارضاها
لمّا أقرأها النبي صلى الله عليه وسلم من الله ومن جبريل السلام قالت رضي الله عنها وارضاها :
وعليك وعلى جبريل السلام
ففقهت في منطقها وهي يومئذ حديثه عهد بإسلام بل ان الدين كله حديث عهد به الناس
فقالت :ان الله هو السلام
ففقهت ان الله هو السلام ولا يرد السلام عليه تبارك وتعالى
هذا التقديم جرت سنن العرب انها تلحظه وتجعله فارقا في امور كثرة في لغتها وتخاطبها ومن امثله ذلك :
ان جابر ابن سليم رضي الله عنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
" عليك سلام الله يارسول الله "
الان تلحظ انه قدم الظرف ، قدم الجار والمجرور ، فقال عليك سلام الله
ولم يقل: السلام عليك
ماذا اجابه نبينا صلى الله عليه وسلم ؟؟
قال لا تقل عليك السلام ؛ عليك السلام تحيه الموتى ، قل :السلام عليكم
الموتى يحيون بأحدى تحيتين :
اذا وقفنا على قبورهم وأردنا زيارتهم وأقتربنا ودنونا
من قبورهم نقول : السلام عليكم كما علمنا صلى الله عليه وسلم:
"السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين"
واذا شرفنا بالسلام عليه صلوات الله وسلامه عليه في قبره
والسلام على صاحبيه فإننا نقول :
السلام عليك يارسول الله ،
السلام عليك يا ابا بكر
السلام عليك ياعمر ابن الخطاب ؛هذه حاله
الحالة الأخرى :ان يذكر الميت في الحديث فتعدد مناقبه وتذكر فضائله
في هذه الحاله ان اردنا ان نسلم عليه ، لانقول :السلام عليك ؛
وانما نقدم الجار والمجرور فنقول : عليك سلام الله
وهذا هو الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لجابر ابن سليم :لاتقل عليك سلام الله ؛
فعليك سلام الله تحيه الموتى .
ونجد في شعر العرب ولو عند المتأخرين كما نجده عند ابي تمام عندما(51/89)
رثى الأمير العربي محمد ابن حميد الطوسي
قال ابو تمام في رثائه له :
كأن بني نبهان يوم وفاته****نجوم سماء خر من بينها البدر
إلى ان قال :
عليك سلام الله وقفا فإنني **** رايت الكريم الحر ليس له عمر
فقوله عليك سلام الله هذه تحيه الموتى التى عانيناها في حديثنا .
نؤوب ونعود ايها المباركون للايه هذه المرأه المباركه تقول :
{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
نقول بعد هذا معقبين :ان الدنيا لا تطيب الابذكر الله
وان الاخرة لا تطيب الا بعفو الله
وان الجنه لا تطيب الا برؤيه الله
فمن عمر الدنيا بذكر الله وما والاه غلب على الظن برحمة الله ان يرزق عفو الله في الاخرة
فإذا رزق عفو الله في الاخرة ادخل الجنة
فإذا ادخل الجنه رزق بعد ذلك لذه النظر إلى وجه العلي الاعلى تبارك وتعالى وهو
اعلى نعيم واجل عطيه
قال الرب تبارك وتعالى :
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{23} سوره القيامه
وقال تبارك وتعالى يبين حال أهل الكفر :
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }المطففين15
اذن اراد الله جل وعلا بضرب هذا المثال عن هذه المرأة الصالحه ان يبين رفيع مكانتها
وعلو منزلتها وانهارغم انها تضاجع فرعون على فراشه وتأكل من طعامه وشرابه
الا ان مافي قلبها من ايمان ويقين بلقاء الله جل وعلا لم يجعلها تتأثر بطغيان ولا بكفر
ولا بظلم فرعون مثقال ذرة
فبقيت مسلمة طائعه لربها ، قانته له مؤمنه بلقائه بل وتشتاق كل الشوق إلى لقائه
فلذلك قدمت الجار قبل الدار فقالت :
{ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}
ولم تقل رب أبن لي بيت في الجنة عندك
هذا ما تيسر ايراده وتهيأ قوله واعان الله جل وعلا على ذكره
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد
لله رب العالمين والسلام عليكم
ورحمه الله وبركاته...(51/90)
-23-
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،واشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له
لافوز الا في طاعته ولا عز الا في التذلل لعظمته ولا غنى الا في الافتقار لرحمته ،
واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله ؛ اشار إلى الغمام فتفرق بإذن الله اكراما لإشارته ، واشار إلى القمر فإنفلق ليكون شاهدا على نبوته ، صلى الله عليه وعلى اله وصحبه وعلى سائر من اتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد
فهذه حلقه جديده مباركه من برنامجكم
" معالم بيانية في ايات قرانيه "
والايه التى نحن بشرف شأن الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ }الروم54
تحرير معنى الضعف ومعنى القوة والشيبه في هذه الايه الكريمه هو ما نحن بصدد الحديث عنه .
وإبتداء نقول ان الله تبارك وتعالى خلق خلقه اطوارا وصرفهم جل وعلا كيفما شاء عزه واقتدارا
أما معنى الايات فيجب التنبه إلى مايلي :
يقول الله جل وعلا :{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم }
أي الله الذي يستحق منكم العبادة ، اوجدكم معشر الانسان من ضعف ؛ضعف هنا بمعنى : من أصل ضعيف وهو النطفه او التراب اذا قلنا على تأويل المصدر بأسم فاعل ، والضعف عقلا ونقلا هو خلاف القوة
ثُمَّ : وهي للتراخي في الزمان
جَعَلَ :أي خلق لأنه عُدّي لمفعول واحد
مِن بَعْدِ ضَعْفٍ : هذا موضع ما نريد إماطه اللثام عنه في هذه الحلقه ، وهو ان الضعف هنا غير الضعف الأول الموجود في قوله جل وعلا :
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ}
فليست المسأله مسأله تكرير ؛
هذا الضعف الاخر ليس الضعف الذي قلنا في الاول عنه
بأنه من النطفه والتراب لكنّه الضعف الموجود في الجنين والطفل
يقول الله جل وعلا :{مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً }(51/91)
القوة هي القوة التى تجعل للطفل من التحرك ودفعه الاذى عن نفسه بالبكاء وامثاله ونحوه ،
ثم قال ربنا :
{قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ}
وقوه هنا تختلف عن القوه المذكوره قبل قليل وقد قدمنا :
ثُمّ :َ للتراخي في الزمان
جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أي قوة اخرى هي التي بعد البلوغ وهي قوة الشباب
ضَعْفاً : وهذا الضعف - ايها المبارك - ضعف آخر وهو ضعف الشيخوخة والكبر
ثم قال جل وعلا{وَشَيْبَةً }: أي شيبة الهرم والشيب والمشيب بياض الشعر
ويدل على ان كل واحد من قوله :ضَعْفٍ - وقوله: قُوَّةً
إشاره إلى حاله غير الحاله الاولى ذكره مُنَكَرَا ؛ والمََُنَكر
-ايها المباركون - متى أُعيد ذكره معرفا أًريد به ما تقدم كقولك :
- رأيت رجلا فقال لي الرجل كذا
ومتى اعيد مَُنَكر كما هو سياق القران في هذه الايه أُريد به غير الاول
ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله جل شأنه{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }قال رضي الله عنهما" : لن يغلب عسر يسرين"
هكذا حققه الامام الراغب وتبعه أجلاء المفسرين ، وهو الموافق للقاعده المشهوره عند العلماء
التي نظمها السيوطي رحمه الله في عقود الجمان يقول :
ثم من القواعد المشتهرة *** اذا اتت نكره مكرره
تغايرت وان يعرّف ثاني *** توافقا كذا المعرفان
فهذه القاعدة إجمال لما بينّاه من قبل ولما حررناه آنفا من أن الضعف المكرر في الايه بأنه كرر مع الابقاء على التنكير
فالضعف الاول :هو ضعف التراب والنطفه
والضعف الثاني :هو ضعف الانسان وهو الجنين في بطن امه
والضعف الذي بعد ذلك الذي يعقب القوة هو ضعف الشيبه والكبر
كما ان القوه في الاول هي قوه الطفل وقدرته في المراحل الاولى من حياته على دفع الاذى عن نفسه ،أما في الثانيه فإنها قوه الشباب والبلوغ(51/92)
على هذا يتضح ان تنقل الانسان في اطوار الخلق حال بعد حال من ضعف إلى قوه ثم من قوة إلى ضعف دليل على قدرة الخالق الفعّال لما يشاء الذي لا يعجزه شىء في الأرض ولا في السماء ولا يعجزه ان يعيدكم مرة اخرى
ولهذا ناسب جل وعلا ان يقول بعد ذلك:
" يَخْلُقُ " أي سبحانه وتعالى "مَا يَشَاءُ "أي "يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ "
تبارك وتعالى ولا ملزم عليه من ضعف وقوه وشباب ان يخلق الاشاء كلها التي من جملتها الضعف والقوة والشباب
فليس هذا كله طبعا بل بمشيئة الله سبحانه وتعالى "وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ"
أي انه العليم بتدير خلقه ، القدير على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء اراده
وهو كما يفعل هذا قادر على ان يميت خلقه ويحييهم إذا شاء
من هنا يتضح أيها المباركون
أن الرب تبارك وتعالى كما بينّا خلق خلقه أطوارا وفي علم الانسان بقدره الله جل وعلا وفي رؤيته لنفسه أي ان الانسان اذا رأى نفسه وتقلّب
أحواله وتغير أيامه وما يعتريه من ضعف وقوه وقوة وضعف علم بعد ذلك كله عظيم قدره الله جل وعلا
ولعل هذا يندرج تحت قول الله تعالى :{وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ }الذاريات21
والمقصود من هذا كله بعد تحرير المعانى والألفاظ وإماطة اللثام عما يغلب على الظن انه غير مشهور معروف لدى العامة على الأقل
فإننا نقول ان هذا كله يدل على قدرة الرب تبارك وتعالى وهذه أعظم غايات القرآن ؛أن يعرف بالرب جل وعلا وهل قضى أنبياء الله ورسله أيامهم وأعمار حياتهم الا في التعريف بربهم تبارك وتعالى والارشاد إليه وبيان عظيم قدرته وجليل رحمته وسعه حكمته ، والمؤمن متى عَظُم بالله علمه سهلت عليه الطاعات وأحجم عن المعاصي وقد قال السلف :
" إن العبد كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف "
هذا ما تحرر إيراده وتيسر إعداده وأعان الله جل وعلا على(51/93)
قوله .. سائلين الله تبارك وتعالى ان يجعلنا واياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه هذا وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-24-
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء اهل التقوى واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله
صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين .. اما بعد :
فهذه ايها المباركون حلقه جديده مباركه بإذن الله من برنامجكم" معالم بيانيه في آيات قرانيه "
والايه التي نحن بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء هي قول الله جل وعلا :
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }الإسراء85
الا اننا نبين في مستهل هذه الحلقه ان ثمة الفاظ سنعرج في الحديث عنها وكيفية استعمال القرآن لها وهي الروح – الجسم – الجسد – النفس
حول هذه الاربعة الالفاظ سنعرج ان شاء الله تعالى على معان عديده بإيجاز ، أما قول الله جل وعلا :{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ }
فإن اهل العلم من المفسرين يذكرون في سبب نزولها مما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه انه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فمرّ صلوات الله وسلامه عليه على ملاء من يهود فقال بعضهم لبعض سلوه وقال آخرون :لا تسألوه ،ثم ان اليهود سألوه قالوا :
يا ابا القاسم ما الروح ؟؟
فإتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل قال عبد الله : فعلمت انه يوحى إليه ثم تلا :
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }(51/94)
اختلف العلماء رحمهم الله في بيان معنى المقصود من الروح هنا والاكثرون ولعل هذا هو الاظهر انها الروح المعروفه التي تمتزج بالبدن وتكون منها النفس الانسانيه المكلفه
قلنا ان ثمة الفاظ سنعرج عليها هي : الروح والجسم والجسد والنفس ونقول والله المستعان :
ان الروح اذا خرجت من الجسد تسمى روحا
أما اذا بقيت في الجسد فتسمى نفسا فإذا خرجت تسمى روحا ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قبض عثمان بن مظعون قال ان الروح اذا صعد تبعه البصر
أما ما دامت الروح ممتزجه بالجسد أي ان صاحبها حيّ فهذه تسمى نفس وهي التي خاطبها الله جل وعلا بقوله{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }الشمس7
واسند الله جل وعلا اليها الكثير من الافعال ومنها قوله جل وعلا
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً}
فهذا اسناد من الله جل وعلا وهو اسناد – موجود – إلى النفس كما ان هذه النفس والروح تكون في الاجساد فكما تكلمنا عن الروح والاجساد متى يطلق عليها روح ومتى يطلق عليها نفس ؛ نتكلم عن الجسد والجسم ؛فإن الجسد اذا كان خاليا من الروح فإن التعبير القرآني يطلق عليه جسدا ومنه قول الله جل وعلا {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ }الأنبياء8
وقول الله جل وعلا عن ذلك العجل الذي اتخذه قوم موسى عياذا بالله الها لمّا اضلهم السامرىّ قال الله جل وعلا :{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ}طه88
ومعلوم قطعا ان ذلك العجل الذي أخرجه السامريّ لقومه لم يكن فيه روح البته
فلا قدره للسامريّ ولا لغيره على الخلق .
متى يقول القران ويعبر بالجسم ؟؟
يعبر بالجسم اذا كان ذلك الجسد ممزوجا بالروح أي بمعنى أوضح تدب فيه الحياه
ومنه قول الله جل وعلا عن المنافقين :{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}المنافقون4(51/95)
فقول الرب تبارك وتعالى اجسامهم انما يتكلم عن قوم أحياء
وهم المنافقون الذين كانوا انذاك معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم
والذي يعنينا في الخطاب القراني هنا ان الله جل وعلا لمّا كانوا احياء تمتزج ارواحهم (وتسمى نفسا) هنا بأجسامهم
(وتسمى أجساما هنا) وهي حيه عبّر الله جل وعلا عنها بقوله :{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}
ونظيره كذلك في القران قول الرب تبارك وتعالى عن طالوت لمّا حكى ذلك النبي من الأنبياء الذي أخبر قومه ان الله جل وعلا قد بعث لهم طالوت ملكا قال عنه :
"وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ "
فعبر بكلمه الجسم دون الجسد لأنه يتكلم عن شخص امتزجت روحه بجسده فأصبح الجسد جسما واصبحت الروح نفسا
ولا ريب ان الروح والنفس بمعنى واحد لكن قلنا متى يستخدم لفظ الروح ومتى يستخدم لفظ النفس نعود فنقول : ان الله جل وعلا خلق الارواح قبل الاجساد
لأن الله جل وعلا خلق ابانا ادم ثم كنا في عالم الارواح كما تدل عليه ايات القران في الاعراف وغيرها من حيث العموم.
ثم ان الرب تبارك وتعالى خلق اجسادا بعد ذلك أجنه في بطون امهاتنا
ثم يأتي ذلك الملك الذي أوكل الله جل وعلا إليه ان ينفخ فينا الروح فينفخ فتدب الحياة فينا اذا امتزجت الروح مع الجسد ونحن أجنة في بطون امهاتنا وهذا نوع من الاتصال ثم يكون هناك اتصال اكبر في الحياة الدنيا ثم ينقطع ذلك الاتصال بين الروح والجسد وهو المقصود بالموت
ثم بعد ذلك تعود الارواح إلى الاجساد بعد البعث والنشور وهذا الاتصال إتصال ابديّ كامل تام الذي عبر القران عنه بالخلود .
وجاء في الحديث يؤتى بالموت على صورة كبش فيذبح ما بين الجنة والنار بعد ان يسأل أهل الجنة هل تعرفون هذا ؟؟
فيقولون نعم هذا الموت
و يسأل أهل النار هل تعرفون هذا ؟؟
فيقولون نعم هذا الموت
ثم انه يذبح وينادي منادي ان يا اهل الجنة خلود بلا موت(51/96)
وان يا اهل النار خلود بلا موت وهو المعبر عنه في القرأن بيوم الحسرة
قال الله جل وعلا :
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ *إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} مريم 39-40
تعلق بعض الفلاسفه بمسأله النفس والروح ومنها قول ابن سينا لمّا تكلم عن ان الانسان لم يختر روحه فقال
هبطت اليك من المحل الارفعي * *ورقاءذات تعزز وتمنعي
هبطت على كره اليك وربما * * كرهت فراقك وهي ذات توجعي
والحديث هنا عن النفس الانسانيه وعن – ممازجتها – مخالطتها للجسد وما يكون منها من طلب للعلو وهذه القصيدة التى قالها ابن سينا عارضها شوقي رحمه الله تعالى عليه بقوله:
ضمي قناعك ياسعاد أو ارفعي * * هاذي المحاسن ماخلقن لبرقعي
ويجب التنبه هنا إلى ان شوقي يقصد بسعاد كنايه عن النفس البشريه كنايه عن الروح ولا يقصد إمرأة بعينها
أو فتاة بنفسها
فليست القضية لها علاقه بالحجاب سلبا ولا ايجابا ولا يدعو إلى ذلك في ابياته هذه وانما عني بقوله :ضمي قناعك ياسعادأو ارفعي * * هاذي المحاسن ماخلقن لبرقعي
المقصود منها ان النفس البشريه يجب ان تنطلق في عالم المعالي
وتبحث عما ينفعها ولا ريب انه لا ينفعها شىء مثل الايمان بالرب تبارك وتعالى والعمل الصالح والسعي في فكاكها وزحزحتها عن النار
جعلنا الله واياكم ممن زحزح عن النار وادخل الجنة
هذا ما تيسر ايراده حول هذه الالفاظ الاربعة وهي الروح والجسم والجسد والنفس
تكلمنا عنها وفق السياق القراني وامطنا اللثام عن الطرائق التي يتخذها القران سبيلا في سبيل الحديث عن روح الانسان ونفسه او عن جسده وجسمه ومتى يستخدم هذا ويعرض عن هذا
هذا ما تيسر ايراده وتهيأ اعداده وأعان الرب العزيز الكريم على قوله سائلين الله جل وعلا ان يجعلنا واياكم ممن يستمع القول فيتبع احسنه(51/97)
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-25-
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا،
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له
لا تطيب الدنيا إلا بذكره ولا تطيب الآخرة إلا بعفوه ولا تطيب الجنة إلا برؤيتة
واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله واصحابه
وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد ايها المباركون
فهذه حلقه جديده مباركه بإذن الله من برنامجكم
"معالم بيانيه في ايات قرانيه "
قبل ان نشرع كالعادة في بيان ما نحن فيه نقول ان اللفظ الذي سنشرع فيه -وإماطة- اللفظ البياني عنه
في هذا اللقاء هو لفظ (كلا)
ونستفتح بخبر ادبي قبل ان نشرع في بيان مراد الله جل وعلا من هذه الكلمة او من هذا اللفظ.
يقولون في ما اخبروا عنه في اخبار العرب السابقين ان الحجاج بن يوسف الثقفي القائد الاموي المعروف أسر شابا فجائته أمرأة هي ام ذلك الشاب تحاول ان تقدم نوعا من الشفاعه لإبنها
وهي تخاطب الحجاج اقسمت له ان ابنها برىء
لكن الذي يستوقف هنا هو ذلك القسم الذي استخدمته تلك المرأة فقالت وهي تخاطب الحجاج : والذي حذف كلا من النصف الاعلى
نحن نعلم ان القران ثلاثون جزء ، وان اوسطه سورة الكهف في خبر موسى والخضر ،
واذا اعتبرنا النسبيه يمكن ان نقول ان هناك نصف اعلى ونصف آخر ؛
من الصعب ان نطلق على الخمسه عشر الجزء الاخيرة من القران بأنها نصف أدنى ؛ لكن نقول النصف الاعلى و النصف الاخر.
هذا المرأة تقول في خطابها للحجاج : والذي حذف كلا من النصف الاعلى
أي ان حرف كلا ليس موجود في اول القران من الفاتحه إلى الكهف ثم ورد بعد ذلك في سورة مريم :
{(51/98)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً(77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً(78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً(79)} مريم
فنقول ان الحجاج يقولون انه استعرض القران وهو يريد ان يركب فرسه لما قالت له المرأة هذا الخطاب ثم تبين له صحة قولها فعفى عنها وعفى عن ابنها وقبل شفاعتها
الذي يعنينا هذا مدخل للحرف "كلا"
فما كلا في القران ؟؟
كلا وردت في القران في ثلاثة وثلاثين موضعا كلها كما قدمنا في النصف الآخر من القران
أي ليس من النصف الأعلى منه
وجعل بعض العلماء ان لفظ كلا من الادله والقرائن على ان السورة التى يرد فيها الحرف كلا
هي سورة مكيه فلم ترد غالبا –ولا يمكن ان نقطع - في القران المدني لكن
القطع قد يكون نوعا من الجزم لان أحيانا تحرير المكي و المدني فيه نوع خلاف .
نعود فنقول ماهو الحرف "كلا" ؟؟
" كلا " كما قال ابن هشام في مُغنيه مركبه عند
- فعله- من كاف التشبيه و"لا" النافيه قال وانما شددت لامها لتقويه المعنى ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين ،وهي عند سيبويه والخليل و-المبرد- والزجّاج وأكثر البصريين حرف معناه الردع والزجر لا معنى لها عندهم الا ذلك
حتى انهم يجيزون ابدا الوقف عليها والابتداء بما بعدها وحتى قال جماعه منهم :
متى سمعت كلا في سورة فاحكم بانها مكيه وهذا حررناه انفا ؛
لان فيها معنى التهديد والوعيد وهذه صبغه من صبغ القرآن المكي
ورأى الكسائي وابو حاتم ومن وافقهما ان معنى الردع والزجر ليس مستمرا فيها
فزادوا فيها معنى ثانيا يصح عليه ان يوقف دونها ويبتداء بها ثم إن هاؤلا اختلفوا في تعيين ذلك المعنى
ايها المبارك على ثلاثة أقوال :
احدها للكسائي ومتابعيه قالوا تكون بمعنى حقا أي ان كلا تكون بمعنى حقا
والثاني لابي حاتم ومتابعيه قالوا تكون بمعنى " ألا " الاستفتاحيه(51/99)
والثالث للنضر ابن شميل والفراء ومن وافقهما قالوا تكون حرف جواب بمنزلته و بمنزله نعم
وحملوا عليه قول الله جل وعلا :
{كَلَّا وَالْقَمَرِ }المدثر32
قالوا معناه إي والقمر.
قال ابن هشام في مغنيه : وقول ابو حاتم عندي أولى من قولهما لأنه أكثر اطرادا ؛
فإن قول النضر لا يتأتى في آيتي المؤمنين والشعراء وقول الكسائي لا يتأتى في نحو :
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ }المطففين18
{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ }المطففين7
{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }المطففين15
ووجه العلة في عدم ذلك التأتي عنده لأن :
أن تكسر بعد ألا الاستفتاحيه ولا تكسر بعد حقا ولا بعد ما كان بمعناها
ولان تفسير حرف بحرف اولى من تفسير حرف بأسم وهذا كلام من حيث الصناعه النحويه بليغ جدا وفيه رد ظاهر عليه.
على هذا نبقي نحن ونختار ما اختاره سيبويه والخليل والمبرد والزجاج
واكثر البصريين على ان معناها الردع والزجر وعلى انه ليس لها معنى غيره
نعود لما رد به ابن هشام على اولئك الذين ذهبوا بها إلى معنى آخر فقال : وقد يمتنع كونها من زجر نحو {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ{31} كَلَّا وَالْقَمَرِ{32} سورة المدثر
اذ ليس قبلها ما يصح رده وهذا القول الذي قاله ابن هشام في تضعيف لما اخترناه
ويمكن الاجابه عنه ان الامر في سياق الحال لا في سياق المقال
وقال بعض العلماء ان لها معان غير ذلك فقد قال الطبرى وجماعه انه لما نزل عدد خزنه جهنم:
{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ{30} سورة المدثر
قال بعضهم اكفوني اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر فأنزل "كلا" زجرا لهم
هذا القول من الطبري يوافق ما اخترناه من ان ذلك رأى سيبويه لكن قال ابن هشام عنه انه قول متعسف لان الايه لم تتضمن ذلك
ونحن نقول ان رد ابن هشام هنا هو نفسه فيه شىء من التعسف وإنما كما قلنا
العبرة احيانا يكون على لسان الحال لا على لسان المقال.(51/100)
الذي نريد ان نصل إليه بعد هذا التطوال ايها المباركون بما ذكرناه حول لفظ " كلا "
ان القران عظيم في اسلوبه جليل في عباراته وان هذا الحرف استخدمه القران استخداما بليغا في الردع والزجر ولما كان المجتمع المكي يحتاج إلى نوع من الردع والزجر لانه كانت لهم الفاظهم القاسيه في مخاطبه النبي
صلى الله عليه وسلم ومخاطبه القرآن والرد على الرب تبارك وتعالى قوله كانت لفظ "كلا"
مناسبة في رد ما زعموه من إفك وما افتروه من قول
أما الحياة المدنية المجتمع المدني كان أكثره مسلمين وكان القران يخاطب قلوبهم و يخاطب أحوالهم في التشريع
فلم يكن فيه ردود بالقدر الذي كان موجودا في القران المكي.
وعلى هذا نفهم ان القران المكي أسلوبه كما إن القران المدني له أسلوبه ،
وقد يشتركان في نوع من الأسلوب خاصة في باب العقائد
نسال الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق هذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده وأعان الله العلي الكبير على قوله
.. سائلين الله ان يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع احسنه ..
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-26-
الحمد لله الذي تقدست عن الاشباه ذاته ، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته ،
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك لك اراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه
ولوشاء ان يطيعوه جميعا لأطاعوه
واشهد ان سيدناو نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى اله واصحابه
وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد ..
فهذه حلقه جديده مباركه بإذن الله من برنامجكم "معالم بيانيه في ايات قرانيه "
والايه التى نحن نتوج بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا :
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ(51/101)
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1}
بدايه ايها المباركون نقول النفل في لغة العرب هو الزياده فيقال لولد الولد
وهو الحفيد انه نافلة ومنه قول الله جل وعلا بعد ان ذكر منته على خليله ابراهيم بإسحاق قال :
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}الأنبياء72
وذكر ان يعقوب عليه السلام كان نافله لإبراهيم لانه ابن ابنه
كما ان النفل في الصلوات المكتوبه هو ما زاد على الفريضه
أما النفل في الحروب هي تلك الغنائم التى يكتسبها الجيش ويحصل عليها اذا انتصر
لان المقصود في الحرب اولا هو النصر ثم اذا كانت هناك غنائم فتلك الغنائم يطلق عليها انفال
سورة الانفال سوره مدنيه قد نزلت في اعقاب معركة بدر مالذي وقع بعد معركة بدر ؟
وقع ان المسلمين غنموا اموالا ووجد اسرى تلك الغنائم كانت اول غنيمة يغنمها المسلمون
فلم يكن لهم عهد في كيفيه توزيعها بينهم فحصل بينهم شىء من الامر في قضيه لمن تكون الغنائم ، ففزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ، وابن عباس رضي الله عنهما يقول :
ان هذه الامة هي أقل امه سؤلاً أي من سائر الامم .
وقد ورد في القران :
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ}البقرة189
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ}البقرة215
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}البقرة217
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}البقرة219
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}المائدة4
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}الأعراف187
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}الإسراء85
وهاهنا {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}
كيف جاء الجواب الرباني هذا ما نريد ان نميط اللثام عنه بيانيا في هذه الحلقه يقول الله جل وعلا:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ}
أي ان الصحابه الذين شهدوا معك بدرا يسألونك عن الانفال بماذا تجيبهم ايها النبي الكريم ؟؟
{قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ}(51/102)
أي ان الانفال لله والرسول يحكمان فيها ما شاءَ ويضعانها حيث ارادا
{فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}
فإجتماع كلمتكم وبقاء ألفتكم وتوحد صفوفكم هو الغاية العظمى وهو الامر المطلوب ؛
ليست القضيه قضيه انفال وغنائم لمن تعطى ، فإذا وجدت التقوى وجد التسليم
واذا وجد التسليم رضي المرء بما اتاه الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه
وهذا في الحديث عن المجتمع المدني أما الان فلا نقول اتاه الله ورسوله لان النبي صلى الله عليه وسلم
ميت في قبره لكن نقول هنا
{وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1}
فأنظر ايها المبارك هذا التأديب القراني الالهي لهذه الفئه المباركه التى شهدت بدرا .
متى جاءت الايه المبينه لكيفيه توزيع الغنائم ؟؟
جاءت بعد اربعين ايه فيسألونك عن الانفال هي الايه الاولى من صدر سورة الانفال
أما قول الله جل وعلا :
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الأنفال41
فهذه الايه تبين الكيفيه التى توزع بها الغنائم والطريقه المثلى التي توزع بها الغنائم ،
وانت تلحظ اذا تدبرت القران ان مسأله الاموال كالمواريث والصدقات والغنائم تكفل الله جل وعلا وحده بها ولم يتركها لأحد من خلقه ،
فالله جل وعلا هو الذي وزع المواريث وهو الذي قال {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ }التوبة60وحدد اهلها ،وهو الذي قال :
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ...}الأنفال41(51/103)
فهذا يدل على ان مسأله الاموال لها شأن عظيم والناس تختصم في ماذا ؟؟تختصم في ثلاثه امور :
في اموالها ودمائها واعراضها أي في فروجها غير هذا لايوجد تخاصم
على ذلك تكفل الله جل وعلا ببيانها في المواريث الصدقه والانفال
الذي يعنينا انظر ذلك الادب القراني لتلك الفئه المباركه
فان الرب تبارك وتعالى يقول لؤلئك الاصحاب الذين امتنّ الله تعالى عليهم بأن شهدوا بدرا
وهو اعظم لواء في التاريخ الانساني كله ؛ رايه تحتها محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم
وخير الملائكه جبريل وابو بكر وعمر وعثمان وعلي سادة المهاجرين وساده الانصار سعد ابن معاذ وسعد ابن عباده ،
فئه من الاوس فئه من الخزرج ؛ لا يوجد رايه في التاريخ رايه اعظم من تلك الرايه
الله تعالى يقول لهاؤلا المباركين من اصحاب بدر :
لا ينبغي ان تنشغلوا بالغنائم كيف توزع وان تكون هي جلّ همكم
لكن ينبغي ان تعتنوا كثيرا في قضيه اصلاح ذات البين والمسك والاخذ بزمام التقوى
ثم بعد ان بين الله تعالى لهم ذلك قبلوه رضي الله تعالى عنهم وارضاهم واطمأنت نفوسهم وقبلوا امر الله اليهم
جاء البيان الشافي الكافي الوافي في بيان كيف توزع الغنائم قال الله :
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ }
القرابه هنا هذامن باب الاستطراد هم قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب أما قرابته من بني هاشم فظاهرة كيفيه انهم من اهل لغنائم .
أما بنوا المطلب فإن مطلب هذا هو من بني هاشم لكن يعد من آل البيت لانهم قدّر لهم برحمه الله
انه كان مؤمنهم وكافرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في شعب ابي طالب عندما حاصرتهم قريش في الشعب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في احدى غزواته لمّا سئل عن اعطائه للمطلب(51/104)
دون غيرهم ممن يوافقهم في النسب ويماثلهم في القرابه قال عليه الصلاة والسلام:
" انما بنوا هاشم وبنوا المطلب شىء واحد وشبّك بين اصابعه"
وبهذا اخذ جمهور العلماء في أن لهم حظا من الغنائم
وانه لا تجوز عليهم الصدقه أسوة بآل البيت اذ عدوا من ال البيت
بهذا الخبر النبوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .الذين يعنينا من هذا كله انه تبين لك ايها المبارك في اماطه اللثام
ان الله جل وعلا خاطب المؤمنين اولا بما يصلح حالهم ويقيم شأنهم ثم بعد ان دعاهم إلى الالفه بيّن لهم الطريقه المثلى في توزيع الغنائم
هذا ايها المباركون ما تيسر ايراده واعان الله جل وعلا على قوله حول قول الرب تبارك وتعالى في فاتحه سورة الانفال
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1}
جعلنا الله واياكم ممن يستمع القول فيتبع احسنه وهدانا الله واياكم إلى السبيل الاقوم والطرق الامثل
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-27-
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسموات
واشهد ان سيدنا نبينا محمد عبده ورسوله ختم الله به الرسالات صلى الله وسلم
وبارك وانعم عليه وعلى اله واصحابه أهل الفضل والمروءات وبعد..
فهذه حلقه جديدة مباركه بإذن الله من برنامجكم
" معالم بيانيه في ايات قرانيه"
وشرف ما سنتحدث عنه في هذا اللقاء المبارك ونتوجه هي قول الله جل وعلا في خاتمة سورة لقمان
{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ
غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }لقمان34(51/105)
معلوم ايها المباركون أن العلم من أعظم صفات الرب تبارك وتعالى
وقد قال اهل السنه سلك الله بي وبكم سبيلهم في تعريف علم الله جل وعلا :
ان علم الله جل وعلا لم يسبقه جهل ولا يحلقه نسيان قال الله جل وعلا حكاية عن عبده موسى لمّا سأله فرعون :
{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} قال موسى مجيبا :
{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى{52}سورة طه
ذكر الله جل وعلا ان الغيب علمه كله عنده وقال جل وعلا في آيه مجمله في سورة الانعام
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ}الأنعام59
وفي هذه الايه المباركة من سوره لقمان تفصيل لما أجمله الله جل وعلا في سورة الانعام
فسورة الانعام او -آيه الانعام - لم تحدد تلك المفاتح لكنها في سورة لقمان جاءت ظاهرة بيّنه محصورة في خمس :
{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ..}لقمان34
نقول ابتداء مالذي نريد ان نميط اللثام عنه في هذه الايه المباركه؟؟
هو قول الله جل وعلا :{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدا}
فحلقة اليوم تعنى بلماذا أُختير اللفظ (تكسب) دون غيره من الالفاظ ؟؟
لان البرنامج برنامج بياني وليس برنامج تفسيري في المقام الأول ؛ وإذ كان لا إنفكاك كثير بينهما
نقول:
الله جل وعلا هنا يبين في أسلوب حصر أن مفاتيح الغيب عنده ، عنده علم الساعة وعلم الساعه لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل وقد سأل خير الملائكة جبريل خير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم قال :
أخبرني عن الساعة ؟
قال ما المسوؤل عنها بأعلم من السائل .
أي أن علمي وعلمك فيها سواء
ثم قال الله جلا وعلا {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}(51/106)
الغيث:المطر ويراد به هنا موضع الرحمة ولا ريب ان الناس قد يقولون في زماننا اننا اذا رأينا السحاب غلب على ظننا أن هناك مطر ؛ هذا لا يعد غيبا لان السحابة قد أظلتك ،
وأزف إقتراب نزولها لكن مع ذلك قد ترحل عنك دون ان يكون لك منها نصيب وهذا ظاهر بيّن.
لكن الذي يعنينا ان الغيث ؛ وليس بالسماء قزعة من سحاب لا يمكن ان يجزم احد أو يقول احد
ذو عقل يحمي كلامه - بتعبير العامه- يستطيع ان يقول ان هناك غيث أو عدم غيث هذا أمر لا يعلمه الا الله .
قال الله جلا وعلا :{الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}
الارحام هي ذلك المستقر، ذلك الوعاء الذي جعله الله جل وعلا مستقر للجنين بعد ان مرّ بمرحلة نطفه الله تعالى يقول :
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ }المؤمنون13
{يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ }
كلمة (ما) هنا موصوله يدخل تحتها الكثير مما يعلمه الرب تبارك وتعالى
ذكر كان او انثى شقي كان او سعيدا فقيرا كان او غنيا ، ممدود له في عمره او أقل ، يولد خديجا او يولد كاملا ،امور عده لا يمكن إحصائها تدخل في قول الله جل وعلا :
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}
فإن قال لك قائل واحتج عليك محتج
- ايها المبارك - ان الاشعه الحديثه دلت على كون الطفل أو الجنين وهو في بطن أمه يمكن أن يُعلم أذكر هو او انثى ؟
فالجواب عن هذا ظاهر ؛
وهو ان تلك الاشعه بها انتقلت المسأله من علم غيب إلى علم شهادة
فأن الانسان عندما يقول هذا الجنين ذكر أو هذا الجنين أنثى فإنما هو يرى شيئا عياناً ،
فهو ان رأى آله الذكورية حكم به على انه ذكر وان لم يرى حكم على انها انثى فليش في المسأله ضرب في الغيب
ثم قال الله جل وعلا وهو موضع الشاهد من إتيان هذه الايه في هذا اللقاء المبارك
وهو قول الله جل وعلا :
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً}(51/107)
انت ترى وبما تعمل ايها المبارك بما يسمى جدول أعمالك يكون لك جدول أعمال ، من خلال هذا الجدول تنظم أوقاتك ؛ تضرب موعدا ،تقول الساعة كذا عندي موعد ، الساعة الفلانيه عندي لقاء ،
بعد يومين لدي البرنامج الفلاني ، سأستقبل زيد بعد ثلاثه أيام ...
هذا كله لا يدخل في مسأله علم الغيب ؛لكن تحصيل ذلك ، وقوعه، عمله ، الاتيان به هو الذي لا يعلمه الا الرب تبارك وتعالى
فكم بيّت المرء أعمالا يريد أن ينجزها فحال دون ذلك الأجل أو حال دون ذلك المرض أو حال دون ذلك السهو أو حال دون ذلك النوم أو حال دون ذلك شىء آخر والله يحول بين المرء وقلبه .
فانظر يا اخيّ إلى عظمة تعبير القرآن فإن الله يقول :
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدا }
ولم يقل الله ولا ملزم على الله وما تدري نفس ماذا تريد ان تعمل غدا
فإن الانسان قد يقول اريد ان اعمل غدا كذا كذا كذا وقد يتحقق هذا بإذن الله ومراده
ثم ختم الله جل وعلا خامسه المفاتيح بقوله :
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
ومن جهل المكان فمن باب أولى ان يجهل الزمان والله جل وعلا أخفى حقيقه الموت ووقته
عن كل نفس وربما كان قبل ذلك إشارات كرؤياء او كان قبل ذلك مرض يظهر من اعراضه انه مرض مخيف
ومرض موت وقد يكون يكون بعده نجاة وقد يكون غير ذلك لكن من حيث الجزم والقطع
هذه مسأله لا يعلمها الا الرب تبارك وتعالى فكم من رجل أشرف على الهلاك فنجا وكم من رجل في نجاة هلك
والله وحده بيده مقاليد كل شيء ولا يمكن لنفس ان تموت الا كما قال الله ِ
{إلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً}
ولهذا ختم الله هذه الخمس المباركات بقوله :
{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
وعلم الله كما قلت في أول الأمر وبه انهي علم لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان
اذا علم العبد هذا وهذا بيت القصيد ربما فالقرآن واعظ ،(51/108)
اذا علم ان الله جل وعلا عالم بكل شىء خاف من ربه وإزدلف إليه ورجع إليه خاصه اذا علم وتيقن ان الله عالم الغيب فيتوكل على الله لان الله جل وعلا عالم بالغيب يختار لك ماهو الخير
اذا انت لجئت إليه واستعنت به وسألته جل وعلا من فضله
وما أدري اذا يممت أرضا *** اريد الخير ايهما يليني
أالخير الذي انا ابتغيه ***ام الشر الذي هو يبتغيني
نسال الله جل وعلا ان يوفقنا واياكم لما يحب ويرضى وان يدفع عنا وعنكم
من السوء اكثر مما نخاف ونحذر وان يكتب لنا من الخير اكثر مما نرجو ونؤمل
هذا ما تيسر ايراده وتهيأ اعداده
واعان الله على قوله سائلين الله ان يجعلنا واياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
-28-
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا،
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له
اعترافا بفضله وإذعانا لأمره واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه
وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد ..
ايها الاخوة المؤمنون المباركون من المؤمنين والمؤمنات هذه حلقه جديدة من برنامجكم
" معالم بيانيه في ايات قرانيه "
والايه التي نحن نتوج بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الرب تبارك وتعالى في سورة الانفال :
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }الأنفال64
هذه الايه قبل ان نشرع في بيان ما نريد ان نميط اللثام عنه بيانا نقول :
خاطب الله جل وعلا فيها ونادى خير خلقه وصفوة رسله صلوات الله وسلامه عليه نداء كرامه وهو قوله :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ }
وناداه الله جل وعلا بوصف هو له صلى الله عليه وسلم آتاه الرب اياه(51/109)
والنبي صلى الله عليه وسلم كما مرّ معنا في دروس قد خلت وايام قد سلفت لم ينادى في القران بأسمه الصريح يامحمد ؛
وهذا من دلاله إحتفاء الله بهذا النبي الكريم وبيان علو منزلته ومقامه عند ربه جل وعلا
في هذه الايه يناديه ربه بقوله:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
مالذي نريد أن نبيّنه ؟
توجد واو هنا هي واو عاطفة بالاتفاق بين قوله جل وعلا :
{حَسْبُكَ اللّهُ}
وقوله :
{ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
والواو عاطفة مابعدها على ما قبلها
وانما السؤال : هل معطوف آيه وجمله :
{ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
على لفظ الجلاله ؛
فيصبح المعنى ايها النبي حسبك الله وحسبك اتباعك من المؤمنين ؟أو ان قوله جل وعلا
{وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
معطوف على الكاف في قوله :
{حَسْبُكَ}
فيصبح المعنى بهذا حسبك الله وحسب اتباعك من المؤمنين؟؟
أي ان الله جل جلاله حسب لك ايها النبي وكافي وحسب كذلك لأتباعك من المؤمنين ؛
أي ان الله ناصر لك وناصر لهم ، مؤيد لك ومؤيد لهم .
قبل ان نرجح نقول : ان من طرائق الترجيح ان ننظر في المفردة كيف استعملها القران ؟
من خلال هذه الطريقه نصل إلى قضيه ترجيح مقنع .
فإذا تأملنا كلمة
"حسبك"
وهي بمعنى كافي وجدنا انها في القران لم تضف إلى غير الله جل وعلا فلا تضاف الا لله تبارك وتعالى
بخلاف غيرها من بعض الالفاظ التى تحتمل معنى النصر والتأييد والانعام والإتاء
وجدنا ان الرب تبارك وتعالى يضيفها إليه ويضيفها إلى غيره.
قد يضيفها إلى الرسول وقه يضيفها إلى المؤمنين ونتأمل بعض الايات الداله على صحه ما ذكرناه قال الله جل وعلا في سورة التوبه :
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ}التوبة59
فنلاحظ ان الله جل وعلا أضاف كلمة رسول إلى لفظ الجلاله ، فيصبح المعنى :(51/110)
ولو انهم رضوا ما آتاهم الله وما آتاهم رسوله ؛ فالإتاء أضيف إلى الله وأضيف إلى رسوله
ولكنه قال في نفس الايه بعدها
{قَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }
فتلحظ ايها المبارك ان الله لم يقل انهم قالوا حسبنا الله ورسوله لكنه قال انه كان ينبغي ان يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله
اذن لا غضاضة ولا حرج ان يضاف الإتاء من الفضل إلى الله والى الرسول لكن
هناك غضاضة هناك حرج بل نقول لا يجوز ان تضاف كلمه حسب إلى غير الله ؛ وهذا بإستقرائنا للقرآن .
نأخذ آيه أخرى :قال الله جل وعلا :
{وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}
فكما قلنا في لفظ الإتاء نقول في لفظ الإغناء فيصبح معنى الايه : الا ان اغناهم الله واغناهم رسوله
ونظيره كذلك ما مرّ معنا في قصه زيد بن حارثه رضي الله عنه ان الله جل وعلا قال :
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}
والاسناد هنا ظاهر اكثر منه فيما سبق لانه تكرر اللفظ نفسه أي لفظ الفعل
وهذا كله يؤيد على ان القران استخدم الفاظا لا يمكن اضفتها لغير الله واستخدم الفاظا اضيفت لله واضيفت لغير الله مثل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل المؤمنين
لكن ينبغي التنبه جيدا الا انه وان اسندنا الإتاء لله حينا وللرسول حينا ،
وان اضفنا الانعام لله حينا وللرسول حينا واضفنا الاتاء الاغناء وامثالها مما سلف فإنه ينبغي ان يعلم ان انعام الله غير انعام عبده ، وإتاء الله غير إتاء عبده وإغناء الله غير إغناء عبده وهذا مهم جدا ولنأخذ انموذجا :
قال الله تعالى :
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْه ِ}
انعم الله عليه بالإيمان بالخلق بالإيجاد بالهداية بالإرشاد ،
واما انت ايها النبي عندما اسندنا الانعام اليك فقلنا :
{(51/111)
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}
ما يمكن ان يكون هذا مظاهر الاول لان النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيده خلق وليس بيده هدايه خاصه
وانما هو بشير ونذير صلوات الله وسلامه عليه فيصبح قوله جل وعلا :
{وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}
أي انعمت عليه ايها النبي على هذا الذي هو زيد انعمت عليه رضي الله عنه وارضاه بالعتق
وهو اظهر ما انعم به رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثه رضي الله تعالى عنه وأرضاه .
يتحرر من هذا ان القول من قال من العلماء ان :
{حَسْبُكَ اللّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
ان قوله :
{وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
معطوف على لفظ الجلاله هو رأي مرجوح بعيد عن الصواب لا توافق سياقات القران
في هذه المفرده في آيات أخر على القول بهذا القول ، وعلى نصرته وتأييده
لكنها تسير بنا طوعا ظاهرة بيّنه إلى القول ان قوله :
{وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
معطوف على الكاف في قوله جل وعلا
{حَسْبُكَ }
فيصبح المعنى : ان الله تبارك وتعالى ياايها النبي كافٍ لك وكافٍ للمؤمنين الذين اتبعوك ونصروك .
على انه ينبغي ان يعلم اذ استطردنا كما هو الحال في كثير من هذه الحلقات المباركه نقول :
ان نصرة الله جل وعلا لأنبيائه ورسله أمر ظاهر بيّن لا يحتاج إلى مزيد دليل
فإن الله جل وعلا أيد رسله اجمعين بنصره وأيدهم جل وعلا كذلك بالمؤمنين .
لكننا نلحظ ان القران اذا ذكر تأييد المؤمنين للنبيّه صلى الله عليه وسلم
يأتى بها مفردة ومن ادله ذلك الظاهرة قوله جل وعلا في التى قبلها :
{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ}
ولاحظ هنا وقف ثم قال :
{هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }الأنفال62
ولا ريب ان المهاجرين الاولين والانصار رضي الله عنهم وارضاهم أجمعين
كانوا اعظم من نصر الله جل وعلا به نبيّه فصلى الله وسلم على النبي المختار ،(51/112)
ورضي الله وارضى المهاجرين والانصار ، ولحقنا بهم بإحسان إن ربي عزيز غفار
هذا ما تيسر ايراده وتهيأ اعداده ايها المباركون والمباركات حول قول الله جل وعلا في سورة الانفال :{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }الأنفال64
وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين
-29-
الحمد لله حمدا كثيرا طيبامباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى
واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء اهل التقوى.
واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله
صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين .. اما بعد :
فهذه ايها المباركون حلقه جديده من برنامجكم" معالم بيانيه في آيات قرانيه "
والايه التى نحن نتوج بشرف الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك هي قول الله جل وعلا في سورة يوسف :
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا
رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }يوسف100
تمهيدا نقول ايها المباركون :
ان يوسف عليه الصلاة والسلام نبيّ ورسول ثابتة نبوته ورسالته بالقرآن قال جل وعلا في غافر :
{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم
بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ..}وما دام رسولا فهو قطعا نبيّ .
ماذا نريد أن نميط عنه اللثام في هذه الآيه المباركه ؟؟(51/113)
نريد أن نبين كيف أن الله جل وعلا هنا عندما حكى خبر يوسف عليه الصلاة والسلام بعد ان منّ الله جل وعلا عليه بنجاته من تلك الكربات العظام التي مرّبها في حياته عندما كان بين إخوته عند أبيه ثم ماكان من شأنه مع إمرأة العزيز
ثم قبل ذلك بيعه بدراهم معدودة وزهد من باعه فيه
ثم ما كان من سجنه صلوات الله وسلامه عليه
ثم ما إفائه الله جل وعلا عليه من براءته وعلو شأنه وتوليه بعض مقاليد الأمور
ثم ما منّ الله جل وعلا عليه بتحقق رؤياه ؛من سجود أبيه وأمه واخوته له سجود تحيه وليس سجود عباده
في هذه الأجواء التى نصر الله جل وعلا فيها هذا النبيّ الكريم وأبوه ينظر إليه واخوته
يترقبون ما يفعل قال عليه السلام بعد أن ذكر الله جل وعلا انه قد عفا عنهم أخذ يذكر تلك الايام الخوالي .
لكنه نبي وايُّ نبيّ كان مؤدبا جدا في كلِمه وملاطفته لإخوته .
فهو يريد أن يقول ان الله جل وعلا إمتن عليّ وأنعم عليّ وأظهرني
وأفاء عليّ بفضله رزقني الصبر ايام البلاء ثم رزقني النعمه ثم رزقني الشكر على النعماء
فأراد أن يقول ذلك ،
لكنه اختار عبارات لا تجرح إخوته ؛ لماذا لاتجرح إخوته ؟؟
لأنه قد عفا عنهم فلو عاد وجرحهم
وحرك مشاعرهم بما لا يناسبهم فكأنه لم يعفو عنهم .
فلهذا أراد يوسف أن يختار عبارات تصور الاحداث التي سلفت وتجمل ما وقع من أمور دون
ان يكون في ذلك ايُّ غضاضه على إخوته دون ان يحاول من ذلك ان يستثير غضبهم
أو على الأقل ان يبين نقصهم بالنسبه إليه فماذا قال ؟
قال:
{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}
ومعلوم ان اخوة يوسف هم الذين اعتدوا عليه هم الذين كادوا له
هم الذين تآمروا عليه ام هو صلوات الله وسلامه عليه فلم يقع منه شىء البته نحوهم فلا يوجد مسأله
نزاع بين طرفين كل منهم تحمل كبر الموضوع وانما هم إخوة رأوا الحضوة
والمكانه والمنزله التي كانت ليوسف عند أبيهم فحسدوه فأرادو ان يكيدوا له فكان منهم(51/114)
ما كان من الوقائع التي ذكرها الله جل وعلا في كلامه ولاتخفى على سامعي الكريم
لكن يوسف يريد ان يقول هذا دون ان يجرح تلك المشاعر فقال عليه السلام :
{مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي }
ان هدي الله جعل الله جل وعلا نبراسا لأنبيائه
فأضحى هدي الأنبياء بالنسبه لنا مَعَلَم ونبراسا يجب أن نتأسى به ونتحلى به وعلى هذا الله يقول :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه}الأنعام90
كل ما حولنا ممن عظم حقه كالوالدين او من كان بعدهم كذوي القربى أو من كان أبعد قليلا
وله حق وهم المسلمون الذين يحيطون بنا نتعامل معهم
يجب ان علينا ان نختار اكمل العبارات وأجمل المفردات ونحن نخاطبهم مراعاة لمشاعرهم
وهذا هو هدي قويم وطريق مستقيم علمه الله انبيائه ورسله ورُزق نينا صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتمهم وسيدهم
رُزق الدرجة العاليه فيه صلوات الله وسلامه عليه يثني عليه ربه بقوله :
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ }
آل عمران159
انت الأخ ايها المبارك وايتها الاخت المباركه تزداد رفعة ، تزداد أجرا ، تكبر في عين الناس اذا كنت تحرص جيدا على مشاعرهم
ألا ترى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث عن السبعين الف ثم يقوم له العكاشه بن المحصن رضي الله عنه وأرضاه فيقول يارسول ادعو الله ان يجعلني منهم قال انت منهم
فقام رجل آخر وقال يارسول الله ادعو الله ان يجعلني منهم قال سبقت بها عكاشة والمسأله حرفيا ليست كذلك وانماالمقصود ان يبين الرسول صلى الله عليه وسلم ان يبين له ان الله لم يكتب له أزلا ان يكون مع اولئك السبعين
لكن النبي اختار عبارة ذات لطف ومجامله ومراعاة لمشاعر وخاطر ذلك الرجل الصحابي الجليل فقال له : "سبقك بها عكاشة "(51/115)
فأوصل له المعنى في مفردة مقبوله جميله يظهر من خلالها الادب الجم والخلق الرفيع لنبينا صلوات الله وسلامه عليه .
على هذا نحن كما قلت سلفا نختلط كثيرا بالناس تخرج منا عبارات من المعلم لطالبه ، من الوالد لولده والولد لوالده ومن الجار لجاره ،كلما انتقى الانسان مفرداتهواختار عباراته وتأدب في الخطاب مع الغير حتى وهو يطالب بحقه كان اكمل هديا واقوم طريقه ووصل إلى غايته دون ان يحصد من ذلك اثم ولا سوء وقد قيل :
أأخيّ ان البر شىء هين**وجه طليق ولسان لين
هذا ما تيسر اعداده واعان الله جل وعلا على قوله حول الايه المئه من سورة يوسف:
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }يوسف100وصلى الله على محمد وعلى اله والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-30-
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله ،صلى الله عليه وعلى اله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه ايها المباركون والمباركات حلقه جديدة من برنامجكم
"معالم بيانيه في آيات قرانيه "
والآيه التي نحن بصدد إماطه اللثام عن معناها البياني ونتوج بشرف الحديث عنها هي قول الله جل وعلا في آيتين متتابعتين في سورة الرحمن
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*}(51/116)
ظاهر عندك ان الله جل ووعلا امتن الله على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنه وقد قابلت الجن هذه الايه بالشكر القولي ابلغ من الانس قالوا : "ولا بشىء من الآءك ربنا نكذب فلك الحمد"كما ورد في ذلك الاثر .
ما الذي يدفعنا إلى الحديث عن هذه الايه ؟
نقول ان بعض أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم يذهبون إلى ان الجن
انما ينحصر جزاءهم في أن الله جل وعلا يجيرهم من عذاب النار وانهم لا يدخلون الجنه .
وحججهم في هذا هو قول الله جل وعلا في الأحقاف :
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ...
إلى قوله سبحانه وهو موضوع الشاهد
{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }الأحقاف
لكن بيانيا هل الآيه التى احتجوا بها تصلح للسياق الذي ذهبوا إليه ؟ أم ان هناك ما يعارض هذا المفهوم ؟؟
الذي تبين لهم من كلام الله جل وعلا نقول أجاب عن هذا ابن كثير رحمه الله تعالى عليه وحسبك به قامة علميه في علم القرآن خاصة قال رحمه الله : والحق أن مؤمنهم كمؤمن الانس يدخلون الجنه كما هو مذهب جماعه من السلف
وقد استدل بعضهم لهذا بقوله :
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ }الرحمن
ثم قال : وفي هذا الاستدلال نظر وذكر المعنى الذي ذكرناه في قول الله جل وعلا :
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}
ثم انه قال رحمه الله تعالى عليه في كلام علميّ رصين :
فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم
وايضاً كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل
بطرق الاولى والاحرى
وهذا القول الذي حرره الحافظ ابن كثير انت ترى علامه الظهور والعلو العلمي عليه فأنت تجد نفسك تميل عليه لقولة دليله وهذا الذي ينبغي ان يسوق المرء إلى الحق في إختيار الادله .(51/117)
ثم قال وممن يدل ايضا على ذلك : عموم قوله تعالى :
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً }الكهف
107والذي قصده الحافظ ابن كثير بهذا العموم أن قول الله جل وعلا :
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
فالذين : اسم موصول وهو من الفاظ العموم فيدخل فيه مؤمن الجن ومؤمن الانس على السواء ولا دليل على تخصيص أحدهما دون الآخر .
ثم قال جل وعلا بعد ذلك يبين صحة ما ذهبنا إليه هو قوله تبارك وتعالى :
{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ }الرحمن74
وقد بينّا رأي الحافظ ابن كثير في ذلك
فقول ونعود إلى قوله : وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان ، العلماء الذين لا يرون
انهم يدخلون الجنه ويكتفون بالقول أنهم يجارون من العذاب قال رحمه الله يجيب عليهم :
وما ذكروه هاهنا على الجزاء على الايمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الاليم
هو يستلزم دخول الجنه ؛ لانه ليس في الآخره الا الجنه او النار .
فمن أجير من النار دخل الجنه لا محاله ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع
أن مؤمن الجن لا يدخلون الجنة وإن اجيروا من النار ؛ ثم قال ولو صح لقلنا به والله اعلم
وهذا نوح عليه السلام يقول لقومه :
{َغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} سورة نوح
ولاخلاف ان مؤمني قومه في الجنة فكذلك هاؤلا .
أقول بعد ما سقته من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عليه :
ان الانسان أحيانا يغلب عليه الإقتصار على جزئيه واحده وهذا بلا شك يحدث خللا في(51/118)
التصور العلميّ وينبغي للناظر في القرآن وفي غيره من أمور الشرع ؛ ان تكون نظرته نظره شموليه عامه يستحضر جميع الادله التى تعنى بالقضيه لان النظر بطريقه جزئيه دون استصحاب مقاصد الشرع مع ضرب الذكر صفحا عن الادله الكليه والأشباه والنظائر يجعل من المقوله بعد ذلك لا تستوي علميا ولا ترتقي إلى ان يعتقدها الانسان شرعا ويدين الرب بها تبارك وتعالى .
وعلى هذا كنا نرى في كلام الحافظ ابن كثير قرباً من الصواب أو لنقل ونجزم انه هو الصواب لان الطريقه التى سلكها الحافظ ابن كثير في طرح دليله هي الطريقه العلميه التي ينجم عنها الوصول بفضل الله جل وعلا ورحمته إلى القول السديد في القضيه .
وقلت ان الاولين الذين ذهبوا إلى الرأي الاول وهم علماء فضلاء انما إقتصروا على ايه واحده وليست هذه طريقه صحيحه ولا منهجيه سليمه في الدليل العلميّ.
ولهذا أمثله ونظائر واشباه في كلام الرب جل وعلا فأنت ترى ان العلماء الذين وفق غالبهم إلى الصواب وترى في قولهم متانه العلم وقوة الحكم انما وصلوا إليه بقدرتهم إلى النظرة الشموليه .
على هذا نقول ان عدم التعجل في هو الذي بعد فضل الله جل وعلا ورحمته يهدي إلى الطريق الاقوم .
على انه ينبغي ان يُعلم ان من قال بالقول الاول الذي رأيناه مرجوحا من العلماء
لا يعني ذلك الغضاضه منهم أو التقليل من شأنهم
قال الشاطبي رحمه الله
في بيت شعر جامع مانع كامل يظهر فيه الادب مع العلماء قال :
وواجب عند إختلاف الفهم ***إحساننا الظن بأهل العلمِ
وقد قال ابن رجب رحمه الله في القواعد :
يأبى الله العصمه الا لكتابه والمنصف من إغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه .
أرجو الله جل وعلا ان نكون قد وفقنا فيما حررناه وبيناه وقلناه والله وحده هو المستعان وعليه البلاغ
وهذا ما تيسر ايراده وتهيأ اعداده حول قول الله جل وعلا :
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*}(51/119)
وقبل ان اطوي هذه الحلقه أقول : اننا وان بينّاها من قضيه دليلها العلمي وما أشارت عليه لكنها من ناحيه الوعظ :
هذه الايه تبين أن الخوف من مقام الله منزله وايّ منزلة من أُعطيها فقد أعطي حضا عظيما جليلا من القرب من الرب تبارك وتعالى
يسر الله لي ولكم هذه المنزله ..
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(51/120)
من لقاء الشيخ صالح المغامسي في معكم على الهواء بتاريخ 15 /3 /1428 هـ
فضيلة الشيخ يتواصل الحديث عن هذا القرآن العظيم ولعلّنا ننتقل إلى سورةٍ من سور هذا القرآن الكريم وهي سورة يوسف وتعلمون أنها السورة حوت قصة نبينا يوسف عليهِ السلام بأكملها ولم تأتي مُجزئة في سورٍ عديدة وقد حوت أيضاً على عظات عدة لعلّي أترُك لك الحديث عن هذهِ السورة العظيمة بما فيها من التنبيهات والفوائد العظيمة حفظكُم الله .؟؟؟
تُدرك يا شيخ خالد كما يُدرك الأخوةُ المُستمعُون والأخوات المُستمعات أن الحديث عن سورة يوسف يطول لكنّنا سنقتصر على بعض الفوائد من هذهِ السورة الكريمة .
يوسُف نبيُ الله ابنُ نبي اللهِ ابنُ نبي اللهِ ابنُ خليل اللهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وعلى آبائه هذهِ السورة كما ذكرتُم جاءت كاملةً في سورةٍ واحدة ولم تأتي مُجزئة نظير سورة إبراهيم نظير قصة إبراهيم ، أو نظير قصة موسى فهذهِ جاءت مُتفرقة في عدة سور بخلاف سورة يوسف عليهِ الصلاة والسلام .
لكنّنا نبدأ بالقضية الأولى بالفائدة الأولى التي حوتها تلك السور طبعاً نحنُ لا نُرتب حسب الأهمية لكن حسب وضع البرنامج عموماً فقد تكلّمنا عقدياً في قضية شُعيب فلا حاجة لأن نُعيدها في مسألة يوسف نعم أو نُكّررها ..
فنقول من أعظم ما حوتهُ القضية :
أن الإنسان لا يتعجّل في الوصول إلى الثمرة..
فإنّهُ قد قيل ما بين رُؤيا يوسف وما بين تحقيقها أكثر من أربعين عام الله يقول (( ورفع أبويهِ على العرش وخرّوا لهُ سُجدا وقال يا أبتِ هذا تأويلُ رُؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا )) وقد رآها علية الصلاة والسلام وهو صغير يافع وبين هذهِ الرؤيا وبين تحقيقها أحدث بل حلقات من أحداثٍ داميات وكم حصل فيها من مواطنُ حزن ومواطنُ فرح عاش هذا النبيُ الكريم ثم انتهى بهِ المآل إلى ما انتهى إليهِ ،،،،،(52/1)
من هنُا نأتي لطلبة العلم على وجه الخصوص بما أنّا نتكلم عن القرآن والقرآنُ وعاء العلم الأعظم نقول ينبغي على العاقل أن يتأنّى في الوصول وأن لا تكون الدُنيا همّهُ وأن يعلم أن الذي يمشي على خطوات ثابتة ويتدبّر العلم تدريجياً ويأخُذه مُؤصلاً ويجنح بنفسهِ خطوةً خُطوة لا يستعجلُ ظهوراً ولا يبحثُ عن أضواء سيصلُ بحمد الله جل وعلا ورعايتهِ إلى مقصدهِ ومرادهِ .
ولنضرب مثلاً
نعم(52/2)
تعلم أيُها الأخُ المُبارك عن أبي حنيفةً النُعمان أول الأئمة الأربعة ظهوراً رحمهُ الله كان لأهُ تلميذ يُقال لهُ أبو يُوسف وأبو يُوسف كان يومها غُلاماً صغيراً يتيماً تجنح أُمهُ إلى أن تجعلهُ يعملُ عند حائك حرصاً منها على أن ينال دانقاً يقتاتُ بهِ و الدانقُ أيُها المُستمعُ الكريم آنذاك أقل ما يُمكن أن يُترك كالهلل والقروش وما يُسمّى بالفلس في دول الخليج يعني شي زهيد تماماً لكنّ المرأة كانت تنظُر إلى أن هذا هو البُغية هو الغاية بينما كان أبو حنيفة رحمةُ الله تعالى عليهِ ينظُر إلى يعقوب الذي هو أبو يوسف ينظُرُ إليهِ على أنهُ سيكونُ ذات يومٍ رجُلٌ ذا بال في العلم فكانت هذهِ المرأة تأتي إلى أبي حنيفة في حلقتهِ وتذُمّهُ وتقولُ ما أضاع ابني إلا أنت وما جعل الغُلام يفرُّ عن موطنهِ إلا أنت فيقول خلي منك يا رعناء ــ هذا أبو حنيفة يقول لها ــ [ والله إنّ ابنك ليأكُل الفالوذج بدهُن الفُسق ] هذا الفالوذج نوعٌ من الحلوى لم يكُن يوجد آنذاك إلا في بيوت الأثرياء أما الفالوذج الممزوج بدُهن الفُستُق فهذا لا يُوجد إلا في بيوت الخُلفاء ولا يُوجد إلا على أحيان يعني ليس دائماً ، فلمّا قال أبو حنيفة لأُمي أبي يوسف هذا الكلام قالت إنك شيخٌ كبرت وخرّفت فمضت عنه وأصرّ أبو حنيفة أن يدرُس أبا يوسف عندهُ ثم مضت سنون مات أبو حنيفة ماتت الأم تقلّد أبو يوسف القضاء في العراق حتى أصبح قاضي القُضاة في الدولة فكان يأكلُ على مائدة الرشيد أمير المُؤمنين ماذا يقول أبو يوسف ؟؟(52/3)
يقول أكلتُ يوماً على مائدة الرشيد فقُدّم لهُ طعام فقال لي يا أبا يوسف كُل فهذا قلّما يوجد في قصرنا قُلتُ أصلحك الله ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا فالوذج بدُهن الفُستق فتذكر أبو يوسف الحادثة وضحك فتعجّب الرشيد قال ما الذي يُضحكُك يا أبا يوسف ؟ قال خيراً يا أمير المؤمنين قال أخبرني فأخبرهُ بالقصة فقال عندها هارون الرشيد قال يا أبا يوسف [ إنّ أبا حنيفة كان يرى بعيني عقلهِ ما لا يراهُ غيرهُ بعيني رأسهِ ] أي بعيني بصرهِ.
.يستشرفُ المُستقبل عندما قرأهُ جيداً .
إذاً يوسف علية الصلاةُ والسلام مرّ بحلقات داميةِ ثم آل بهِ الأمر أراد لهُ إخوتهُ أن يضيع في غيابات الجُب فيُخرجهُ اللهُ من غيابات الجُب إلى دهاليز القصُور تتأمرُ عليهِ امرأةُ العزيز فتُودعهُ السجن فيُخرجهُ الله جل وعلا من غياهب السجن إلى أن يُصبح عزيزاً على مصر .
هذهِ الفائدة الأُولى والعُظمى
الفائدة الثانية :
أن الإمامة في الدين لا تُنال إلا بالتقوى والصبر قال الله جل وعلا (( وجعلنا منهُم أئمةً يدعون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون ))
وقال عن يوسف عليه الصلاةُ والسلام لمّا أظهرهُ الله وعفا عن إخواتهِ قال بعد أن قال لهُ أخوتهُ (( أءنّك لأنت يوسُف قال أنا يوسف قال أنا يوسُف وهذا أخي قد منّ اللهُ علينا )) فنسب الفضل إلى بارية وخالقهِ جل جلالهُ ثم قال (( إنّهُ من يتقِ ويصبرِ فإنّ الله لا يُضيعُ أجر المُحسنين ))
فأسند الأمر كلهُ إلى الأسباب التي وضعها الله لرفعةِ والعلو وعلو الشأن ألا وأنّ من أعظمها أمرين :
تقوى الله جل وعلا *** والصبر
فبالتقوى والصبر تُنالُ الإمامة في الدين .
دلت الأحداث أن ّالإنسان إذا ضاق الأمر وبلغ مُنتهاه فآخرُ لحظةٍ في مُنتهى العُسر هي أولُ لحظةٍ في أول اليُسر .
سُبحان الله
فآخرُ لحظةٍ في مُنتهى العُسر هي أولُ لحظةٍ في أول اليُسر .
وراء مضيق الخوف مُتسعُ الأمرِ
وأولُ مفرُحٍ بهِ غايةُ الفجر(52/4)
الم ترى أن الله ملّك يوسفاً
خزائنهُ بعد الخلاص من السجنِ
وصل يوسف إلى مُنتهى أحداث الله أُلقي مع المُجرمين ،، يأكلُ ويطعم ويعبدُ رهبِ في غياهب سجنهِ
وكان داعية
وكان داعية حتى في السجن لكن كما قُلت أيُها المُبارك نحنُ ضربنا عنها الذكر صفحاًَ لأننا تكلّمنا عن قضية شُعيب ،، ثم بعد ذالك انتقل إلى أن أصبح على الكُرسي الذين يتعاملون مع الله بحق رابحون لا محالة .
يجب أن نُحسن الظن بربنا تبارك وتعالى حُسن الظنُ بالله يُرثُ حُسن العاقبة في الدُنيا والآخرة نسأل الله للجميع التوفيق
هذا ما يُمكن أن يُقال أيُها المُبارك حول فوائد سورة يوسف وقد اختصرتُها حتى لا تكون الحلقة كُلّها عن سورة هذا النبي الكريم ..
لكن نتعشم أن يكون الحديث عنها أطول وأطول رغبةً مني ومن أيضاً المُستمعين الكرام حفظكُم الله إذا اخذتُم فائدة أُخرى حفظكُم الله .؟؟؟
نأخُذ فائدة أُخرى ،، من الفوائد التي دلّت عليها هذهِ السورة:
أن الإنسان لا يُضيرهُ أن ينظُر الناس إليهِ نظرة نقص إن كان عظيماً في ذاتهِ فيوسف عليهِ الصلاة والسلام بيعِ بثمنٍ بخس
جميل
والله يقول (( شروه )) أي باعُوه (( بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة )) وقال (( وكانوا فيهِ من الزاهدين ))
نعم
فزهدُوا فيهِ وهو نبيُ الله وأُدخل السجن وهو نبيُ الله فالمؤمنُ الحق عظمتهُ في ذاتهِ ليست في غيرها وقد قُلنا مراراً في دروسٍ سلفت وأيامٍ خلت لنا نأتي بمثال من السُنة يشهد لهذا :(52/5)
النبيُ صلى الله عليه وسلم كما تعلمُ أيُها المُبارك في هجرتهِ مرّ ومعهُ أبو بكرٍ وعامرُ ابنُ فُهيرة وعامرُ ابنُ أُريقط مرّوا على أم معبد امرأةُ جلدةٌ برزةٌ من خُزاعة تُطعم الناس جهة الآن يعني عندنا في بلادنا المُباركة وادي قديد بين طرق الهجرة بين مكة والمدينة لمّا مرّوا عليها وصل بهم الأمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألها عن الشاه فأخبرتهُ أنها شاةٌ عازب يعني لم تذهب مع الغنم لعجزها قال هل تأذنين لي أن أحلبها قالت نعم فلّما ناخ صلى الله عليه وسلم الشاة ومسح على ضرعها وسمّ الله درّت
ما شاء الله
لمّا درّت لأنهُ عظيم صلى الله عليه وسلم لم يقُل لأبي بكر أحلب لنا حتى يُبين لأم معبد أنهُ النبي أو يقول لعامر الخادم أحلب لنا أو يقول لدليل أحلب لنا لو كان غيرهُ لفعل هذا حتى يُميز نفسهُ عن أصحابهِ لكنّه صلى الله عليه وسلم عظيم خلب لهم أو لم يحلب ، شرب أول القوم أو شرب أخرهم حيث ما هو فهو صلى الله عليه وسلم عظمتهُ أعطاهُ اللهُ إياه في ذاتهِ عليهِ الصلاة والسلام فيما أكرمهُ اللهُ بهِ من النبوة والرسالة.
فمثلُ هذا لا يحتاج أن يدعُ أضواءً أن تُسلّط عليهِ أو صحفيين يكتبون عنه أو ما إلى ذالك هو صلى الله عليه وسلم كأخيهِ يوسف عظمتهُم في أنفُسهم فيوسف نبيُ الله ابنُ نبيُ الله ابنُ خليل الله وهو في السجن وهو عند أبيهِ وهو يُباع بثمنٍ بخس وهو على كُرسي العرش وفي كُل الأحوال كريمٌ على الله تبارك وتعالى عظيمُ الشأن عند ربهِ هذا ما يُمكن أن يُقال.
فأنا أُوصي نفسي وغيري بأن يكون اعتزازُ المرء بربهِ وأن يكون غناه في نفسهِ وأن يكون على ثقةٍ بأن الله جل وعلا وحدهُ من يُبت من يشاءُ بفضلهِ ويُقّرُ من يشاء بعدلهِ كما أنهُ تبارك وتعالى لا يسألهُ مخلوقٌ عن علّة فعلهِ ولا يعترضُ عليهِ ذو عقلٍ بعقلهِ . نعم(52/6)
نعم بارك الله فيكم أيضاً بس فائدة أخيرة قبل أن ننتقل إلى محاور أُخرى حفظكُم الله عدم اليأس والقنوط كما حث الله؟؟؟
نعم عدم اليأس والقنوط وهذا قد يكون قُلناهُ في مُدرج ما قُلناهُ من قضية الصبر إلى الوصول لأنهُ لن يكون صبرٌ حتى يكون هناك عدمٌ يأسٍ وقنوط
و لكن تخصيص ذالك
كما قُلت أنت قضية يعقوب تقصد
نعم
أيهِ تنبهت الآن قضية يعقوب الذي يرفع البلوى هو الله .
سُبحانهُ
ويعقوب أُبتلي بيوسف أولاً ثم أُبتلي بفقد بنيامين ثم أُبتلي بفقد الابن الأكبر الذي رفض أن يرجع قٌال (( لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي )) ولهذا قال (( عسى اللهُ أن يأتيني بهم جميعاً )) جميعاً هذي أكثر من واثنين قصد يوسف وبنيامين و رُوئيل على قول من يقول أن أسمهُ رُوئيل هؤلاء الثلاثة كانوا ابنائهُ عليهِ السلام كلُهم فقدهم واحداً بعد الآخر فقد الأبناء لكنّة لم يفقد ثقتهُ وحُسن ظنّهِ بربهِ قد جاء في الأثر " أن يعقوب كلّما ازددتهُ بلاءً ــ حديث قُدسي ــ كلّما ازددتهُ بلاءً ازداد حُسن ظنٍ بي "
وقد قُلنا أن حُسن الظن بالله يُورث حمداً عظيماً أسأل الله أن يجعلني من يُحسن الظن بهِ ويجعل منقلبهُ ومآلهُ إلى خير .(52/7)
][®][^][®][ نعيم الجنة ][®][^][®][
للشيخ صالح المغامسي
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته .. ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته .. وأشهد أن لا آله إلا الله وحده لا شريك له ... في السماء عرشه و في كل مكان رحمته وسلطانه وسع الخلائق خيره و لم يسع الناس غيره ... و أشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله سهد الذئب بنبوته و شهد القمر برسالته وتفرق السحاب إكرام لإشارته بعثه الله جل وعلا على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده حتى آتاه اليقين فصل الله وسلم وبارك وأنعم عليه كما وحد الله وعرف به ودعي إليه .. اللهم وعلى آله و أصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره ومن أتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ..
أم بعد ... أيها المؤمنون :
فإنه ما من معصية أبلغ ولا من أمر أعظم من قول الله (( يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )) .. ثم أعلموا عباد الله أن نبيكم صلى الله عليه وسلم مر على رجل من أصحابة ومع نبيكم معاذ بن جبل رضي الله عنه فأخذوا يتذكرون الدعاء فكان من جملة ما قاله ذلك الصحابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه : { أما و إني لا أحسن دندنك ولا دندنت معاذ ولكنني أسأل الله الجنة واستعيذ به من النار } .. فقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : { حولها ندندٍ } أي ما تسأله الله جل وعلا هو ما نسأله أنا ومعاذ إياه ..(53/1)
أيها المؤمنون .. قد يظن البعض أن الحديث عن الجنة أمر تقليداً مكرراً تكاد تسأمه بعض النفوس ولا ريب أن هذا خلاف الفطرة وخلاف هدي محمد صلى الله عليه وسلم و أصحابة ... وهل أرق الصالحين وأقض مضاجع المتقين إلا أنهم يخافون أن يمنعوا من دخول الجنة .. وهل عاش الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من الأخيار عبر الدهور و العصور إلا وهم يسألون الله جل وعلا أن يدخلهم الجنة وهل خير صلى الله عليه وسلم عند موته حتى يتسنى له البقاء و الخلد بأعظم من ان يقال له الخلد في الدنيا ثم الجنة فختار صلى الله عليه وسلم لقاء ربه ثم الجنة ... وهل وعد الله جل وعلا عباده الأبرار وأتباعه الأخيار ممن آمن به من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة بعطاء هو أعظم أو أجل من الجنة (( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )) وهل عاقب الله جل وعلا أحد ممن عصاه بأعظم من حرمانه من دخول الجنة أعاذنا الله و إياكم من الخذلان والحرمان ..(53/2)
أيها المؤمنون : الجنة خلقها الله جل وعلا في ظاهر أقوال العلماء وظاهر القرآن خلقها جل وعلا بيده وهي الدار التي أعدها الله تبارك وتعالى لأوليائه وأهل طاعته وقد أختلف العلماء في الجنة التي أدخلها الله جل وعلا أبانا آدم يوم خلقه قال الله جل وعلا في سورة البقرة (( وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة )) فقال الكثير منهم إنها جنة المأوى .. جنة الخلد التي وعدها الله جل وعلا عبادة المتقين بعد بعثهم وقال آخرون من أهل العلم من أهل السنة وغيرهم قالوا : إنها ليست جنة الخلد وليست جنة المأوى التي وعدها الله عبادة بعد البعث ولكنها جنة إما في السماء و إما في الأرض ..واستبدلوا على ذلك بأمور منها أن الله أخرج آدم منها وقالوا : الأصل أن الجنة دار خلد فكيف أُخرج آدم منها وقالوا من ضمن أدلتهم أن الله جل وعلا كلف فيها آدم وابتلاه بأن لا يأكل من الشجرة و الجنة الأصل أنه لا تكليف ولا ابتلى فيها وقالوا إن الشيطان دخل إليها فوسوس إلى آدم والأصل أن الشيطان لا يدخل الجنة إلى جملة من الأدلة و البراهين عندهم ... والظاهر والله أعلم أن كل ذلك جرى بقدر الله ولا نجزم به والأظهر الذي دل عليه القرآن أنها جنة الخلد لأن الله قال (( وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة )) والألف والأم فيها للعهد وليس في عهد من يقرأ القرآن وذهنه إلا أنها جنة الخلد إذ لم يذكر القرآن جنة غيرها في كلام الله جل وعلا .. كما أن من جملة الأدلة أن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم في الصحيح أخبر أن أهل الموقف من أهل الجنة يوم القيامة من المؤمنين يأتون أباهم آدم فيقولون : يأبانا أستفتح لنا الجنة فيقول آدم عليه السلام : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ...(53/3)
مظاهر قوله عليه السلام وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم أنها جنة المأوى التي وعدها الله جل وعلا عبادة وأين كان الأمر فإن المسلمين متفقون على أن الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين هي جنة المأوى وجنة الخلد في السماء السابعة وأنها مخلوقة موجودة الآن قدر الله لها أنها لا تبيد ولا تفنى ... أيها المؤمنون :(53/4)
هذه الجنة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها قيعان وأن أعظم غرسها سبحان الله , الحمد لله , لا آله إلا الله , الله أكبر , فقد صح عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : لما عرج بي لقيت خليل الله إبراهيم فأوصاني قائلاً : يا محمد { أقرأ مني أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة قيعان وأن غرسها سبحان الله و الحمد لله و لا آله إلا الله والله أكبر } هذه الجنة أيها المؤمنون عظم شوقها إلى عباد الله الصالحون قال صلى الله عليه وسلم كما في الخبر الصحيح قال : { إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة إلى علي و عمار و سلمان } رضوان الله تعالى عليهم .. ولا يعني ذلك ان الجنة لا تشتاق لغيرهم فإن الحديث في سياق الخبر وليس في سياق الحصر فلا ريب أن الجنة تشتاق لأبي بكر وعمر وغيرهما من عباد الله المؤمنين ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر فقط عن ثلاثة ليبين مال هؤلاء الثلاثة من عظيم القدر و جليل المكانة عند ربنا تبارك وتعالى هذه الجنة يمنع عنها أقوام بالكلية فلا يدخلونها أبداً رغم ما فيها من الفضل و ما جعل الله فيها من الرحمة و ما فيها من نعيم الله الذي لا ينفذ وقرة العين التي لا تنقطع وهؤلاء والعياذ بالله هم أهل الكفر والإشراك قال الله جل وعلا (( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة )) فمن أشرك بالله أو كفر به جل وعلا فإن الجنة عليه حرام ...(53/5)
حراماً تحريماً مؤبداً فإن الله جل و علا أخبر أنه ما بعث الرسل ولا أنزل الكتب ولا خلق الجن والأنس ولا أقيم سوق العرض ولا خلقت السماوات و الأرض إلا ليوحد سبحانه ويعبد دون سواه فمن خالف هذا الأمر الرباني والإلهي الذي أجراه الله على الأمم كلها كان حرام عليه بقدر الله أن يدخل الجنة قال الله جل وعلا عن أهل معصيته بعد أن بين سبب عذابهم والنكال بهم وحرمانهم من نعمة الله قال (( إنهم كانوا إذا قيل لهم لا آله إلا الله يستكبرون )) فمن ذلت عينه وقلبه وخشعت نفسه أمام هذه الكلمة وفق لكل خير ومن منعها ولم يجد لها مكاناًً أو مساقاً في قلبه فالجنة عليه حرام ...
بكلام رب العالمين جل جلاله .. جعلنا الله وإياكم ممن يؤمن به ويعبده وحده دون سواه ... هؤلاء من حرم الله عليهم الجنة تحريماً مؤبداً ومن الناس من ذل لهذه الكلمة لكنه عصى النبي صلى الله عليه وسلم .. عصى الشرع في أمور كثيرة فهؤلاء لا يمكن لهم أن يدخلوا الجنة ابتداءاً ولو ماتوا على التوحيد قال صلى الله عليه وسلم : { لا يدخل الجنة عاق لوالديه } الجنة من أعظم المنازل ولا يدخلها إلا ذو قلب سليم وكيف تجتمع السلامة قلب مع عقوق لوالدة حملتك تسعة أشهر أو عقوق لوالد رباك ورعاك .. عقوق الوالدين من أعظم ما يمنع رحمة الله جل وعلا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : { لا يدخل الجنة عاق لوالديه } ...(53/6)
الخمر أم الخبائث حرمها الله في كتابه وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم هي مظنة كل شر وسبب كل بلاء وقد قال صلى الله عليه وسلم : { لا يدخل الجنة مدمن خمر } ول مات على لا إله إلا الله إلا أن يكون قد تاب قبل وفاته فإن الخمر والعياذ بالله حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببها عشراً من الناس ولم يرد في الشرع كله أن النبي لعن شيء معين عشراً من العباد إلا ما ورد في لعن الخمر وشاربها و بقية العشرة أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله .. قد يكون الإنسان جار ولكن ذلك الجار والعياذ بالله فيه الخلل و الزلل ما يجعلك لا تأمن أنت ولا زوجتك ولا أبنائك ولا بناتك ذلك الجار ... تخاف على أبنائك وبناتك إذا سافرت يؤذيك في كل شيء .. من موقف سيارتك إلى عرضك وأهل بيتك هذا الجار حرم الله على لسان رسوله أن يدخل الجنة قال صلى الله عليه وسلم : { لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه } أعاذنا الله وإياكم من سوء الجار.. كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الجنة أبتداءاً قاطع الرحم والإنسان والعياذ بالله إذا غلبت عليه الأنانية وحب الذات وحرم منه أقرباؤه حرم منه أعمامه وأخواله وعماته و خالاته الفقير البائس والمسكين وذو الحاجة منه حرموا من عطاءه إما بحجج واهية كاشتغال بطلب العلم أو بحضور محاضرات أو تجارة أو بأمثال ذلك من الحجج الواهية .. قال صلى الله عليه وسلم كما الخبر الصحيح : { لا يدخل الجنة قاطع } أي لا يدخل الجنة قاطع رحم لأن الرحم أشتق الله لها جل وعلا أسم من أسمه وقال أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ...(53/7)
فهؤلاء وأمثالهم ممن نص الشرع عليهم حرم الله عليهم دخول الجنة أبتداءاً كما حرم الله دخول الجنة أبتداءاً على من في قلوبهم كبر ومن عرف الله جل وعلا جليل منزلته وما له جل وعلا من رداء الكبرياء والعظمة امتنع أن يتكبر وتواضع للرب تبارك وتعالى وعرف للعباد حقوقهم التي أوجب جل وعلا عليهم قال صلى الله عليه وسلم : { لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر } ... وعلى النقيض من ذلك ثمة أقوال وأعمال صالحة تكون سبباً في دخول الجنة من أعظمها وأولها ما روى بعض الأئمة بسند حسن أن نبينا صلى الله عليه وسلم يكون أول من يقرع باب الجنة وأول من يدخلها فإذا أمرأة تزاحمه صلوات الله وسلامة عليه على دخول الجنة فيقول لها صلى الله عليه وسلم : ومن أنت ؟ { أي مالذي جعلك بهذه المكانة } فتقول له : يارسول الله أنا أمرأة كنت قائمة على أيتام لي .. فهذا لبؤسها و ضعفها وعجزها وتركها لشهوة نفسها رغبة في القيام بشؤون أبناءها من اليتامى جعلها الله جل وعلا تزاحم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة ...(53/8)
الوضوء إسباغه و الصلاة بعد من أعظم أسباب دخول الجنة فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أراه الله الجنة مراراً يدخلها صلوات الله وسلامة عليه [ وكلما دخل الجنة سمع صوت نعلي بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: { أخبرنا بأرجى عمل عملته في الإسلام فإنني ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشفت نعليك بين يدي } فقال : يا نبي الله أما وقد سألت فإني كنت لا أنقض وضوء فأسبغ فيه وضوء إلا صليت الليل جل وعلا في أي ساعة من ليل أو نهار ما كتب الله لي أن أصلي رضي الله عن بلال وألحقنا به في الصالحين .. كما أن الوضوء نفسه من غير صلاة قال صلى الله عليه وسلم : { من أسبغ الوضوء ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله اللهم أجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء } كما أن من أعظم أسباب دخول الجنة وعلو المنازل فيها كفالة اليتيم قال صلى الله عليه وسلم : { من كفل يتيم كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وجمع وفرق صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه السبابة والوسطى .. كل هذا عباد الله بعض مما دل الشرع عليه من أسباب دخول الجنة .. ومما ينبغي أن يعلمه كل عبد أن المؤمن إذا كتب الله جل وعلا له الجنة نسي كل بؤس كان عليه في الدنيا ظمأ الهواجر ... قيام الليل ... إنفاق المال ... عونك لأخيك ... كثرك لتسبيح ... صبرك على البلاء ... كل ذلك ينسى إذا أدخل الجنة .. أدخلنا الله جل وعلا وإياكم الجنة ...(53/9)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (( ثم أورتنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم نفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخير بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب )) جعلنا الله وإياكم ممن يقول هذا يوم القيامة عند دخول الجنة بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فتستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ...
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد ... عباد الله "(53/10)
فإن القرآن لما حث أتباعه على المسارعة في الخيرات والمسابقة في الطاعات طمع في دخول جنات الرحمن ... ما أراد الله بذلك وما أراد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسابق الإنسان إلى الموت وأن يسرع إلى التخلص من حياته فإن الأجل أمر لا يكلف العبد به هذا أمر قدري خارج عن التكليف والله يقول (( فإذا جاء أجلهم لا يستئخرون ساعة ولا يستقدمون )) ولم يرد في الشرع إلى أن يتمنى الموت إلا في حالات يذكر فيها دعاءاً مخصوص أما الأصل في المؤمن أنه يسارع في الخيرات ويسابق في الطاعات ويعمل العمل الصالح هذا الذي كلفنا الله به أخرج الأمام أحمد في المسند من حديث أبي أمامه رضي الله عنه وأرضاه قال :{ وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرققنا [ أي أثر فينا حديثه ] فبكى سعد رضي الله عنه وأرضاه فأكثر من البكاء ثم قال سعد [ أي سعد با أبي وقاص ] قال : ياليتني مت... فقال صلى الله عليه وسلم : يا سعد لا تقل هذا فإنك أن كنت قد خلقت للجنة فمهما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير لك } .. وهذا توصية نبوي كريم منه صلوات الله وسلامه عليه المؤمن مطالب أن يسارع في الخير ويعمل الصالح وليس مطالب بأن ينهي نفسه ويقتلها يظن أن وراء ذلك الجنة .. قال صلى الله عليه وسلم : { بادروا بالأعمال سبعاً فهل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غناً مطفياً أو مرضاً مفسداً أو هدماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشرها ابن نتظرأو الساعة فالساعة أهدى وأمر } فقوله صلى الله عليه وسلم بادروا بالأعمال أي سارعوا في الأعمال الصالحة قبل أن يمنعكم عنها مانع ثم ذكر عليه الصلاة والسلام جملة من الموانع فالفقر ينسي لأن الإنسان إذا كان فقيراً أنشغل بقوته ورزقه ودفع دينه ..(53/11)
ومنعه ذلك بأن يعبد الله على الوجه الأكمل والنحو الأتم بالغالب وإذا كان غنياً طفي عليه غناه فنشغل بوقاراته وتجارته وأسهمه وأرباحه وشغله ذلك عن طاعة الرب تبارك وتعالى على الوجه الأكمل والنحو الأتم وإن كان مريضاً عجز عن الحج والعمرة والصيام وأمثال ذلك من الطاعات لمرضه وإن كان هرماً دخل .. في الخزف فلا يدري الليل من النهار .. فكيف سيصلي ويصوم ... إن كان الموت فهو مجهز قاضي عليه وبه تطوى صحائف الأعمال إلا ماستثناه الشارع منه والدجال لا فتنة أعظم منه والساعة نهاية الأمر وقيام الحساب وكل ذلك لا يحمل فيه فهذا جزء من التوصية النبوي الكريم بالمسارعة للخيرات وقد نقل الأخيار عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل ما يبكيك يا صاحب رسول الله قال : أبكي على ظمأ الهواجر [ أي لا أستطيع أن أصوم بعد اليوم ] أبكي على قيام الليل الشتاء لأنني بعد موتي لا أستطيع أن أقوم بعد اليوم أبكى على مزاحمة العلماء بالركب لأن
حضور مجالس العلماء وحضور مجالس تدارس القرآن كل ذلك مما تغشى به السكينة وتنزل الملائكة ويعظم به الأجر فلم يتأسف معاذ رضي الله عنه على دينار ولا على درهم ولا على زوجة ولا على ولد ولكن تأسف على ما سيفوته من عمل صالح رغم أنه رضي الله عنه وأرضاه من أعظم الصحابة قدراً وأجلهم مكانة وأكثرهم علماً رضي الله عنه وعن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين ...(53/12)
ألا وأعلموا عباد الله أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام (( إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )) اللهم صلي على محمد ماذكر الذاكرون الأبرار وصلى على محمد ما تعاقب الليل والنهار وأرض اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار .. اللهم ورحمنا معهم بمنك وكرمك وعفوك يا عزيز يا غفار اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك ربنا من النار وما قرب إليها من قول
وعمل اللهم كما جمعتنا على هذا الفرش
أجمعنا برحتك في ظلال العرش
ياذا الجلال والإكرام ... اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك اللهم وفقه لهداك وجعل عمله في رضاك ... اللهم ودرأ عن أمة الإسلام غوائل الفتن وطوارق المحن وقها اللهم شر الكفار وكيد الفجار .. ياذا الجلال والإكرام
اللهم احفظ المؤمنين في فلسطين والعراق وفي سائر البلدان يارب العالمين .. اللهم انصر دينك و كتابك و أولياءك وعبادك الصالحين وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك و يهدى فيه أهل معصيتك ... ويأمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر ... ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار... عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان و إيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء و المنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ...
أمل الامة(53/13)
نور التوحيد : للشيخ صالح بن عواد المغامسي
( الواجه الأول )
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا . واشهد ان لاآله الله وحده لاشريك له ..خلق فسوى وقدر فهدى واخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى ..واشهد ان سيدنا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته ، ادى الآمانه وبلغ الرساله ونصح الأمه فجزاه الله بأفضل ماجزا به نبياً عن أمته ..اللهم صلي وسلم وبارك وانعم عليه وعلى آله وصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ...أما بعد ..(54/1)
فسبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا آله إلا انت ماعبدناك حق عبادتك ..سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت ماعرفنا قدرك وماقدرناك حق قدرك ...سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت الحي الذي لايموت والإنس والجن يموتون ...سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت تعلم مثاقيل الجبال ومكايل البحار وأنت الله لا آله إلا انت العزيز الجبار .. سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت الخير كله بيديك والشر ليس إليك ..مصير كل أحدٍ عليك ورزق كل احدٍ عليك ..سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت رددت موسى إلى أمه وأرجعت يوسف إلى أبيه ..ونجيت إبراهيم أغثت ذا النون وجمعت ليعقوب بنيه ..سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت امرتنا فلم نأتمر ونهيتنا فلم ننزجر ولاحول ولاقوة لنا إلا بك ..سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت لا نستطيع ان نأخذ إلا مااعطيتنا ولا ان نتقي إن لم تقينا ..انت خالقنا ورازقنا وربنا ومولانا لا آله إلا انت ...سبحانك اللهم وبحمدك لاعلم لنا إلا ماعلمتنا أنك انت العليم الحكيم خلقتنا ولا قدرة لنا ورزقتنا ولاقوة لنا وهديتنا إلى الإسلام من غير ان نسألك فلا تحرمنا اللهم الجنة ونحنُ نسألك ...سبحانك اللهم وبحمدك لا آله إلا انت حنت إليك قلوبنا واشتقت إلى لقاءك أفئدتنا نسألك اللهم بعز جلالك وكمال جمالك أن تغفر لنا في الدنيا والآخرة .....(54/2)
ايها الاخوة المؤمنون ..السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..أمابعد .. فهذه موعظة قبل أن تكون محاضرة وتذكرة قبل أن تكون بيانا وتقرُباً إلى الله جل وعلا قبل ان يكون درسا ..جعلنا عنوانها ( نور التوحيد ) ولقد تأصل في قلوب العارفين والأئمة المهديين وعقول المنصفين من المؤمنين ..تأصل عند هؤلاء جميعا أنه لاشيئ أعظم من الحديث عن الله تبارك وتعالى وبما أن ربنا جل جلاله وعز شأنه لايعدله شي فإن الحديث عن الله تبارك وتعالى لايعدله شيئ ابدا ..( قل أي شيئ أكبر شهادةً قل الله شهيدٌ بيني وبينكم * وأوحي إلي هذا القرأن لإنذركم به ومن بلغ )...(54/3)
ايها المؤمنون الحديث عن الرب تبارك وتعالى حديث تحبه قلوب المؤمنين فبه البلغه والموعظه والذكرى ، ونور التوحيد ..كما قلنا إنما هي موعظه وبلغه إلى الرب تبارك وتعالى ..نستفتح بالذي هو خير ..قال الإمام يحيى ابن عمار .. احد المحدثين رحمة الله تعالى .. قال ..العلوم خمسة ..علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد ..وعلم هو قوت الدين وهو العظه والذكر..وعلم هو دواء الدين وهو علم الفقه ..وعلم هو داء الدين وهو ذكر أخبار ماوقع بين السلف ..وعلم هوهلاك الدين وهو علم الكلام ....وهذا التأصيل العلمي من هذا المحدث ظاهر الصحة بلا ريب ..فإن علم الكلام يخرج الإنسان مما اراده الله جل وعلا منه ..فيشتغل بأقوال الفلاسفه وتنظير أهل المنطق ويخوض ميمنة وميسره في عالم الفكر المتأرج بعيداً عن هدي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ..وكفى بذلك خيبةً وخسرانا ، وأما الإشتغال بإخبار السلف الصالح وماوقع بينهم رحمة الله تعالى عليهم جميعا ..فإنه يقسي القلب ويجعل من المرء القاسي البعيد زماناً ومكاناً عن اولئك الأخيار يجعله من حيث لايدري حكماً بين أئمة المهديين وصحابةٍ مرضيين واتباعٍ لهم في الدين سابقةٌ لاتُلحق ..ومثل هذا يقسي القلب وحسب المؤمن ان يستمع إلى أقول أمير المؤمنين علي إبن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال ( إني لأرجوا الله أن أكون انا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله جل وعلا فيهم ( ونزعنا مافي صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار) ) أما علم قال عنه دواء الدين وهوعلم الفقه ذلك أن الإنسان احوج مايكون إلى أن يعلم الحلال والحرام حتى يستبين له الحرام والمكروه فيجتنبه ويستبين له المباح فيخير فيه ويستبين له المسنون فيسابق إليه ويستبين له الواجب فيأتيه راضياً بقضاء الله جل وعلا وقدره مستسلماً لإمر الله تبارك وتعالى ونهيه ...ثم قال رحمة الله وعلم هو قوت الدين وهو العظة والذكر ..ذلك أن المؤمن(54/4)
مهما بلغ حاله وصلح عمله في أحوج الأمر إلى ان يذكّر ويوعظ ولذلك قال الله جل وعلا لنبيه ( وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغا ) وقال العرباض ابن ساريه رضي الله عنه ..وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منه القلوب وذرفت منها العيون
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس ان موسى عليه السلام وقف خطيباً يعظ في بني إسرائيل حتى إذا رقت القلوب وذرفت العيون ...إلى نهاية الحديث ....
والمقصود انه مامن مؤمن إلا وهو محتاج إلى الوعظ والتذكير وهذا الذي سماه المحدث يحيى إبن عمار ..سماه قوت القلوب ..وقال في أول الأمر رحمة الله ..وعلم هو حياة الدين الا وهو علم التوحيد ولاريب ان التوحيد هو حياة الدين كله ..لإنه أول شيئ يدخل به المرء المله ، بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى أهل اليمن وقال له فليكن أول ماتدعوهم إليه شهادة أن لا آله إلى الله ،لإنه لا يقبل أن يدخل انرءٌ في الدين فيجري عليه أحكام الشرع ويطالب بإمر وينتهي عن نهي حتى يقيم التوحيد اولاً فجعل الله جل وعلا القول بالتوحيد والنطق به والإعتقاد به المدخل الأعظم لدينه تبارك وتعالى ، كما جعل كما جعل في الخاتمه ان من كان آخر كلامه الإعتقاد بالتوحيد والتلفظ به كان حقاً على الله أن يدخله الجنه ..قال صلوات الله وسلامه عليه من كان آخر كلامه في الدنيا لا آله إلا الله دخل الجنه ..وعلى النقيظ من ذلك ..جعل النبي صلى الله عليه وسلم الشرك بالله جل وعلا وجعل الأنداد أعظم الكبائر وأعظم السيئات ، كما أن توحيد الله جل وعلا أعظم الحسنات بلا ريب ، قال صلى الله عليه وسلم وقد سأله عبدالله إبن مسعود يانبي الله أي الذنب أعظم ؟؟ قال أن تجعل لله نداً وقد خلقك ...(54/5)
ولقد نعى الله على أهل الإشراك من اليهود والنصارى وكفار قريش وسائر الكفرة انهم جعلوا لله ندا ، كل ذلك نعى الله جل وعلا على من صنعه أعظم النعي ،يؤكد هذا أن الله مابعث نبياً ولارسولاً إلا وجعل التوحيد اعظم مايدعوا به اممهم ولهذا كانت الخصومه قائمه مابين الأمم وبين رسلهم في قضية توحيد الله وإفراده تبارك وتعالى بالعباده ، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ ..اتدري ماحق الله على العباد ؟؟قال ..قلت ..الله ورسوله أعلم ، قال حق الله على العباد ان يعبدوه ولايشركوا به شيئا ، ويؤكد هذا أن الله مابعث نبياً ولارسولاً إلا وألزمه هذا ..قال العلماء رحمهم الله عند تفسير قول الله جل وعلا ( وسأل من ارسلنا قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلةً يعبدون ) قالوا يروى عن إبن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لما اسري به إلى المسجد الحرام تقدم جبريل فأذن قم أقام ثم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالنبيين إماماً ، فصلى خلفه النبيون والمرسلون سبعة صفوف ...ثلاثةٌ منهم من صفوف المرسلين واربعة من الأنبياء خلفه مباشرة ..إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وموسى وعيسى عليهم أجمعين صلوات الله جل وعلا وسلامه ..
فلما انفتن صلى الله عليه وسلم من صلاته قال لهم إن الله قد أوحى إلي أن أسألكم ..هل ارسلكم الله جل وعلا أن يعبد أحدٌ غير الله ؟؟ فقال له انبياء الله ورسله وهم شهداءعلى ماوكل الله جل وعلا إليهم قالوا ..إن الله جل وعلا أوحى إلينا أن ندعوا بدعوةٍ واحدة أن لا آله إلا الله ( وأن مايدعون من دونهِ الباطل ) فتفقت كلمة الأنبياء والمرسلين من لدن أدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، على ان دين الخلائق كلهم الذي يقبله الله جل وعلا منهم هو توحيده تبارك وتعالى وإفراده بالعبادة وحده جل وعلا دون سواه ..قال إبن القيم رحمه الله ..
هو دين رب العالمين وشرعهُ *** وهو القديم وسيدُ الأديانِ(54/6)
هو دينُ آدم والملائكِ قبلهُ *** هو دين نوحٍ صاحبِ الطوفانِ
هو دينُ إبراهيم وأبنيهِ معاً *** وبهِ نجا من لفحت النيرانِ
وبهِ فدا الله الذبيح من البلا *** لما فداهُ بأعظم القربانِ
هو دينُ يحيى مع أبيه وأمهِ *** نِعم الصبيُ وحبذا الشيخانِ
وكمال دين الله شرع محمدٍ *** صلى عليهِ مُنزل القرأنِ
فالرسل أجمعون والأنبياء معهم والصالحون والاخيار على هذا الطريق إلى أن يلقوا الله ، لإن الله جل وعلا
لايقبل من أحد صرفاً ولا عدلاً حتى يقيم توحيده تبارك وتعالى ، ولهذا كانت عناية الرسل والأنبياء والصالحين من بعدهم عند الموت أنهم يوصون من بعدهم بإن يفروا من الشرك وأن يلتزموا توحيد الله بالعباده وإفراده جل وعلا بالعباده دون سواه لعلم أولئك الأخيار والمتقين الأبرار أنه لاينفع عند الله جل وعلا عمل مالم يقيم العبد قول ومعنى ولفظ وعقيده توحيد الرب تبارك وتعالى ، قال سبحانه ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ماتعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهً واحداً ونحنُ له مسلمون ) اللهم آمنا بمثل ماآمنوا به ...(54/7)
وماأكد اولئك الأبرار والمتقون الأخيار على هذا الأمر إلا لعلمهم ويقينهم وماعلمهم الله أياه أن أعظم الأمر وأجل السيئات وأكبرها الذي لايغفره الله جل وعلا أن يجعل أحداً من المخلوقين ، مخلوقاً غير الله تبارك وتعالى نداً ، ولهذا اثنى الله جل وعلى على ذاته العليه في كتابه وعرف خلقه تبارك وتعالى بإسماءه وصفاته حتى يعبدوه على بينةٍ من الأمر أخبرهم جل وعلا بكمال قدرته وعظيم صنعته ، وجلال مشيئته وبلغت حكمته حتى لايبقى عذر لمعتذر ولاحجه لمحتج ..في أن الله جل وعلا لم يبين لهم كثيراً من اسماءه وصفاته وإنما بينها الله حتى تقوم الحجه على العباد وينقطع عذر أهل الأعذار ويعلم كل أحدٍ ان الله جل وعلا لارب غيره ولا آله سواه يقول سبحانه منعياً على من اتخذ مع الله جل وعلا نداً ( قل ءأنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له اندادً * ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في أربعة ايام سواءً لسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أأتيا طوعاً أو كرها قالتا اتينا طائعين * فقاضهن سبع سماوات في يومياً وأوحى في كل سماءٍ أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا* ذلك تقدير العزيز العليم )
لا يقدر على هذا إلى الله وهذا من أعظم الأدله والبراهين على كمال صنعته وعظيم وحدانيته وجلال الوهيته لارب غيره ولا آله سواه ولذلك كان التوحيد نور يقذفه الله جل وعلا ويلقيه في قلوب من يشاء ..يقول الله جل وعلا ( الله نور السماوات والأرض مثل نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباح * المصباح في زجاجة الزجاجه كأنها كوكبٌ دري يوقد من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لاشرقيه ولاغربيه يكاد زيتها يضيئ ولم يمسسه نار نورٌ على نور يهدي الله لنورهِ من يشاء ) نسأل الله جل وعلا أن يهدينا وأياكم لنوره ..(54/8)
ايها المؤمنون هذا هو التوحيد على وجه الإجمال ، إفراد الله تبارك وتعالى بالعباده وحده دون سواه وقد بينا انه اول ماطالبت به الرسل اممهم وأعظم ماختم به المتقون وصاياهم ..أن من كان آخر كلامه من الدنيا لا آله إلا الله دخل الجنه وبه يدخل المرء إلى دين الرب تبارك وتعالى وهو الخصومه التي قامت بين الرسل واممهم على رسل الله أفضل الصلاة والسلام ..
على انه ينبغي أن يعلم أن لهذا التوحيد لوازم ولهذا التوحيد نور يقذفه الله في القلوب ومن أعظم لوازم توحيد الرب تبارك وتعالى محبته جل وعلا محبتاً لا يقارن بها محبة غيره كائناً من كان ..قال الله جل وعلا ( ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله )
فبين جل وعلا أن صفاة عباده المتقين وأولياءه المؤمنين عظيم المحبة لربهم تبارك وتعالى ، وليس العجيب أن يحب العبد ربه ولكن المؤمل والفوز والسعادة أن يحب الرب عبده وأن عبداً أحبه الله لن تمسه النار أبدا ..قال الله جل وعلا في كتابه العظيم ( وقالت اليهود والنصارى نحنُ أبناء الله وأحباءه ) قال الله جل وعلا جواباً عليهم ( قل فلما يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق ) قال العلماء في تفسيرها لو كان أحباء الله لماعذبهم ، وقد جاء في الأثر الصحيح ( أن الله لايقلي حبيبه في النار ) وهذا لايقع من افراد الناس وآحاد العوام أنهم يعذبون من يحبون فكيف يقع من رب العالمين الرحمن الرحيم جل شأنه وعز ثناءه ..
والمقصود أن محبة الرب تبارك وتعالى تكون اولاً بمحبة العبد لربه جل وعلا ومحبة العبد لربه المنزله التي شمر إليها العاملون وتنافس فيها اولياء الله المتقون وتسابق فيها على مر الدهور وكر العصور الصارحون السابقون ، فمحبته جل وعلا تنال بإداء الفرائض على أكمل وجه ثم بإتيان النوافل ..وفي الحديث القدسي الصحيح
((54/9)
ومازال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ) وهذه الأربع كلهن كناية عن كمال التوفيق من رب العالمين جل جلاله وإذا احب الله عبداً وفقه في الدنيا والآخرة ..رزقه الشهادة عند الموت ورزقه التوفيق وحسن الأختيار في طرائقه إلى الله جل وعلا ..الهمه الله الصبر على المحذور وبين الله جل وعلا له الحرام فيتقيه والواجب فيأتيه والسنن فيسابق إليها . أضاء الله جل وعلا له طريقه وانار الله جل وعلا له مسلكه وساقه الله جل وعلا إلأيه سوقاً جميلاً ، ومحبة الله قال العلماء أنما تنال بإن يحرص الإنسان على أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وافعاله واخلاقه ( قل إن كنتم تحبون الله فتبعوني يحببكم الله ) فمن أكبر الدلائل وأجل القرائن على أن العبد يحب الله حرصه على إتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم إينما كانت وحيثما نزلت ، يتلبس بها في المنشط والمكره والعسر واليسر ، يسابق في ذلك قرناءه وخلانه ، ومن يراهم من الناس رجاء ماعند الله جل وعلا من الخير لإنه لايعدل الفوز بمحبة الرب تبارك وتعالى شيئ والعبد إذا احب الله جل وعلا كان مهيئاً إلى ان يحبه الرب تبارك وتعالى ، وهذا اعظم لوازم توحيد الله ، فإذا وقر في الإنسان محبة الله جل وعلا وفق ودل ذلك على أنه معظم لله موحد بربه سبحانه وتعالى ، وهذه منزله كلٍ يدعيها وكلنا يطلبها ولكن الحياة ميدان عمل ومركب شامل يتسابق فيه الأخيار ..فتسابقوا أيها المؤمنون والمؤمنات كل مايقربكم من الرب تبارك وتعالى ..ءاتو الفرائض بلا تون ، وتسابقوا في النوافل عل الله جل وعلا أن يحبكم فأن محبة الله جل وعلا منزلة وأي منزلة وهي أعظم مايطلبه الطالبون وأجل مايسعى إليه المؤملون ،لإنها من أعظم نورٍ يقذفه الله الله جل وعلا في قلوب الموحدين من عباده ..(54/10)
ايها المؤمنون ، من لوازم التوحيد أن تعلم أن بالتوحيد ينجوا العبد في الدنيا والآخرة ، فلا منجي أعظم من التوحيد ..توحيد الله جل وعلا في القلوب ..وحسن الظن به تبارك وتعالى وصدق التوكل عليه مع حسن الإعتماد عليه جل وعلا في كل أمر هو من أعظم المنجيات ، الرب تبارك وتعالى له اولياء واعداء واولياءه واعداءه كلهم يقر أن الله جل وعلا هو المفزع عند حلول الكرب ..قال الله جل وعلا ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) وأنما التفرقه بين اولياء الله واعداءه عند عدم حلول الكرب فإن الله سلك الله بنا وبكم سبيلهم يحبون ربهم في كل آن وحين ويلجئون إليه في السراء والضراء يحمدونه على السراء ويلجئون إليه في الضراء ، أما أعداء الله فهم على أقسام عده لكن لايقال عدد إلا لمن كفر بالله اصلا ولم يدخل الدين ولم يؤمن بالله لارب غيره ولا آله سواه ..فهؤلاء رغم صنيعهم هذا إذا وقعوا في الكرب وحلت بهم النازلة وداهمهم الخطب لجئوا إلى الله جل وعلا ..قال الله جل وعلا يصور حالهم
( وإذا مس الإنسان ضرٌ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضرٍ مسه ) أما أولياء الله المتقون فهم يفزعون إلى ربهم جل وعلا في كل آنٍ وحين ..التوحيد مستقر في قلوبهم في البر والبحر في العسر واليسر في المنشط والمكره في السراء والضراء وهم في المساجد وخارجها مابين أهلهم وعند قرائنهم في كل مكان يحلونه وكل زمان يمر عليهم والتوحيد باقٍ في قلوبهم ..يعلمون أنه لا ملجئ من الله جل وعلا إلا إليه ..حققه يونس لفظاً وحالاً ومقالا
((54/11)
فنادى في الظلمات أن لا آله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فستجاب الله دعاءه واحسن الله عاقبته وكشف الله كربته وآمن له قومه ..وقدمه الله جل وعلا أعظم تقديم وذكره في الكتاب الكريم إلي يوم الدين ..قدم توحيد الرب جل وعلا وهو يستغيث بربه صلوات الله وسلامه عليه وهذه سنن الاخيار وطرائق الأبرار
كما أن التوحيد منجي في الدنيا منجي في الآخرة ..يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح وغيره ( أن سيخلص رجل من أمتي على رؤوس الخلائق يُنشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ، فيقول الرب جل وعلا له ياهذا أظلمك كتبتي الحافظون ؟؟فيقول لا يارب ..يقول الله أتنكر مماتراى شيئا ..يقول لا يارب ..يقول الله جل وعلا إن لك عندنا بطاقة ..فيقول يارب وماتغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات ..فيقول الحي الذي لا آله إلا هو في البطاقة أشهد أن لا آله إلا الله وأن محمد رسول الله ..فيقول الرجل يارب وما تغني هذه البطاقة أمام هذه السجلات ..قال صلوات الله وسلامه عليه مخبراً وهو لاينطق عن الهوا فتوضع السجلات في كفه وتوضع البطاقة في كفه فطاشت السجلات ورجحت البطاقة ولا يثقل مع أسم الله شيئ ))
قال العلماء رحمهم الله في شرح هذا الحديث هذا دليل عظيم على أن هذا الرجل إن كان فردا حقق التوحيد في قلبه أعظم تحقيق وآمن حقاً أنه لا آله إلا الله وأنه لا ملجئ من الرب تبارك وتعالى إلا إليه وهذه منازل في القلوب يتفاوت الناس فيها ...(54/12)
ألم يقل صلى الله عليه وسلم ( أن رجل ممن كان قبلكم أوصى بنيه انني إذا مت فحرقوني ثم ذروا ماحرقتموني أيه في الفلات والهواء ..ففعل بنوه مثل الذي اوصى ,,فجمع الله جل وعلا ماتفرق منه ثم أقامه بين يديه فقال له ربه جل وعلا وهو أعلم ياعبدي ماحملك على ماصنعت ,,قال يارب مخافتك وخشيتك فغفر الله جل وعلا له مع أن العمل الذي صنعه باطل بتفاق المسلمين ..لكن صلحت نيته وعظمة خشيته من الرب تبارك وتعالى فحقق بنيته مالم يحققه بعمله والله جل وعلا يقول
((54/13)
يوم تبلى السرائر ) وتوحيد الله جل وعلا مكمنه القلوب تطوى عليه الأفئدة وتكنه الصدور ويوم القيامة يتبين من بكى ممن تباكى ..الم يقل الله جل وعلا ( يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعةً أبصارهم ترهقهم ذلة فقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) يدعى قوم إلى السجود كما أمر الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فيقبل الناس على ثلاثة طوائف ..قوم يرفظون بالبته وهذا والعياذ بالله صنيع أهل الكفر ..وقوم يقبلون تصنع ورياء ..وقوم يقبلون تقرباً إلى الله جل وعلا ..فإذا كان يوم القيامة وكشف الرب جل وعلا عن ساقه خر أهل الموقف سجدا ..على ثلاثة طوائف أما أهل الكفر فلا يسجدون اصلا ..وأما أهل الإيمان جعلنا الله وأياكم منهم فيسجدون ويمكنون من السجود وهذا من دلالة قبول الله لسجودهم في الدنيا ..وآخرون اعاذنا الله وأياكم يهمون أن يسجدوا فيجعل الله جل وعلا أظهرهم طبقاً واحدا فلا يتمكنون من السجود فهؤلاء المنافقون الذين كانوا يسجود لغير الله في الدنيا ..نعوذ بالله من الخذلان والحرمان ..ايها المؤمنون كما أن التوحيد من أعظم المنجيات في الدنيا والأخرة فإنه توحيد الله جل وعلا من أعظم مايحقق به المرء مقصوده في الدنيا والآخرة ..وعقلاً إذا كانت الجنة تنال بالتوحيد فمن باب أولى أن ينال مافي الدنيا من أماني وغايات بتوحيد الرب تبارك وتعالى ,,إذا كانت الجنة تنال بتوحيد الله فإنما أماني الدنيا أهون وأقل شأن من نعيم الجنة فدل ذلك عقلاً ونقلاً على أن كل غايات الدنيا تنال إذا أذن الله جل وعلا بتوحيد الرب تبارك وتعالى ..وللعلماء في قول الله جل وعلا على لسان نبيه يوسف
( قال اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ) للعلماء أوجه عده في تفسير الآية منها ..أن يوسف عليه الصلاة والسلام أستعجل الخروج والفرج فقال للغالم الذي غلب على ظنه أنه سينجو أذكرني عند ربك أي عند الملك ....(54/14)
)) وإن عدتم عدنا((
***************
إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا ، من يهديه الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا ، واشهد ان لاآله إلا الله وحده لاشريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره ، واشهد ان سيدنا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بإفضل ماجزاء بخ نبياً عن امته ، اللهم صلي وسلم وبارك وانعم عليه وعلى آله واصحابه وعلى سائر من اقتفى اثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين 00اما بعد 00
فإن الله تبارك وتعالى انزل هذا القرأن وهو خير كتبه على خير نبي بعثه وارسله نبينا محمد إبن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه ، وإن من العتاق الإول والتلاد القديم الذي انزل على نبي الهدى ورسول الرحمه صلوات الله وسلامه عليه ، سورة الإسراء والكهف ومريم كما جاء هذا التعبير على لسان عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه وقد قال لما ذكر سورة الإسراء والكهف ومريم ( إنهن من العتاق الأول وانهن من التلاد ) يقصد انه اخذها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكه صلوات الله وسلامه عليه ، وسورة الإسراء آية المؤمنون تقوم اعظم غاياتها ومحورها على شخصية نبينا صلوات الله وسلامه عليه ، صورها الله جل وعلا بقوله ( سبحان الذي اسراء بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) وختمها جل ذكره بقوله ( وقل الحمدلله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا )
وقد اشتهر عند العلماء ان هذه الآيه الآخير من سورة الإسراء وتسمى آية العز ، كما ان عند كثيراً منهم بناءً على مانقل ممايمكن من الإسرائيليات انها آخر آيه في التوراه كما ان المشهور عند العلماء ان اول آيه في التوراه قول الله جل وعلا في فاتحة الأنعام ( الحمدلله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور * ثم الذين كفروا بربهم يعدلون )(55/1)
ايها المؤمنون لنا مع هذه السوره المباركه وقفات ، نرجوا الله جل وعلا منه بلاغ للحاضر والباد ونفعاً للعباد وتقريباً إليه ودعوه نحو دينه تبارك وتعالى 00
))الوقفه الأولى ((
اما اولها فقد افتتحها الله جل وعلا بقوله ( سبحان الذي اسراء بعدبه ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير )(55/2)
هذا حدثٌ وقع في ليلة من الليالي عبّر الله جل وعلا عنها بالتنكير فقال سبحانه وتعالى (ليلاً ) قال العلماء وهنا ان التنكير هذا ورد لغرضين بلاغيين ، قال فريق من اهل العلم والصواب جُملةً على المصيبين ، اما الغرض الأول فقد قالوا إن الله جل وعلا نكّر كلمة ليل هنا لتدل على التقليل فيصبح الغايه من ذلك ان هذا الأمر الذي يقع عاده في شهور وليالي وايام وقع في برهه من الليل ولايقدر على هذا إلا العلي الكبير جل جلاله ، وآخرون قالوا إن كلمة ( ليل ) نكره هنا للتعظيم والتفخيم والمراد ليل واي ليل ؟ ليلٌ دنا فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى فقربه إليه وناجاه وادناه وكلمه وفرض عليه الصلوات الخمس ودخل صلى الله عليه وسلم الجنه واطلع على النار صلوت الله وسلامه عليه ، قال الله جل وعلا ( سبحان الذي اسراء ) والمجيئ بالمفعول المطلق سبحان هنا تدل على انه ثمت امر عظيم وقع لايقدر عليه إلا رب العزه ، اسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام اول بيت وضع في الأرض إلى المسجد الأقصى البيت الثاني الذي وضع وبينهما اربعون عاما ، وقال الله جل وعلا ( الأقصى ) إشاره إلى هناك مسجد سيكون بينهما وقد وقع بالفعل بعد الهجره بناءه صلى الله عليه وسلم لمسجده الشريف في مدينته صلوات الله وسلامه عليه ، اسراء الله به ليلاً بعد ان غُسل قلبه غسلاً حقيقياً صلى الله عليه وسلم بماء زمزم ، خرج القلب من الصدر ووضع في طست فيه ماء زمزم ثم غُسل قلبه وملئ إيماناً وحكمةً واعيد القلب إلى مكانه ثم اسري به على دابه يقال لها البراق ، من المسجد الحرام بمكه إلى المسجد الأقصى بيت المقدس فربط صلى الله عليه وسلم البراق في الحلقه الني في باب المسجد التي يربط بها الأنبياء دوابهم صلوات الله وسلامه عليهم ، وببيت المقدس ارض الأنبياء ومع ذلك صلى به إماماً ليقول الله جل وعلا للخلق اجمعين ولنبينا في المقام الأول ان هذا النبي وإن كان آخر(55/3)
الأنبياء مبعثاً ودهراً وظهوراً انه اول الأنبياء واعظمهم قدراً واجلهم ذكرا فصلى بهم صلى الله عليه وسلم في موطنهم في مكانهم في دارهم إماماً بإبي هو وامي صلوت الله وسلامه عليه 0
الفعل سرى لايقال إلا لمن مشى وارتحل ومضى في الليل ولاحاجه لإن يقول الله ليلاً لكن الله قال ليلاً للغرضين البلاغيين الذيني قد منهما قبل قليل في أن المراد به التقليل ، والمقصود ان هذا الأمر لايتم عاده إلا في الليالي والشهور والأيام فتم في برهه من الليل والتفخيم كما بينا به ، دنى محمد صلى الله عليه وسلم من ربه تبارك وتعالى ، ذكر الله جل وعلا في صدر السوره العله فقال جل ذكره ( لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ) هذه سنت الله في العظماء من الأنبياء ، قال الله جل وعلا في الخليل ابراهيم ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين ) إن النبي إذا راى الآيات عياناً واستقرت في قلبه إيماناً كان اقدر على تبليغ رسالة الله ، ويتكلم عن الله وعن آياته على علم بين ممااذن الله جل وعلا له ان يطلع عليه من الغيب ، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم اسري يه إلى المسجد الأقصى ثم عُرج به إلى السماوات السبع الطباق حتى وصل إلى مستوى يسنع فيه صريف الأقلام بعد ان جاوز سدرة المنتهى صلوات الله وسلامه عليه ،(55/4)
وقوله ( لنريه من آياتنا ) من اعظم الحُجج على قول جماهير العلماء من السلف والخلف على ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرى ربه ليلة المعراج لإنه عليه السلام لو كان راء ربه والآيه في مساق الإمتنان والثناء عليه لكان التعبير برؤية الله اعظم من التعبير برؤية آياته جل وعلا ، والله جل وعلا قال وقوله الحق ( لنريه من آياتنا ) وقد راى النبي صلى الله عليه وسلم جم غفير من آيات الله ، راى الجنه اطلع على النار شاهد سدرة المنتهى وراى خلق كثير يعذبون وينعمون كلٌ بحسب عمله ، كان يسأل جبريل بين الفينة والفينه وراى اباه آدم وعن يمينه اسوده وعن يساره اسوده ، وإذا راى جهة اليمين ابتسم وإذا راى جهة الشمال بكى فقال من هذا ياجبريل ؟؟ قال هذا ابوك آدم والأسوده التي عن يمينه وشماله ارواح بنيه فإذا راى جهة اليمين راى اهل الجنه فابتسم وإذا راى جهة الشمال راى اهل النار فبكى على آدم وعلى نبينا السلام ، هذا المسجد الحرام اول بيت وضع في الأرض جعل الله الصلاة فيه بمائة الف صلاه والمسجد الأقصى وضع بعده بإربعين عاماً والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاه لقوله صلى الله عليه وسلم كما سُئل عن المسجد الأقصى قال لنعم المصلى هو ولصلاةٌ في مسجدي هذا بإربع صلوات فيه 00رواه الحاكم بسند صحيح من حديث ابي ذر رضي الله عنه ، هذه رحلة الإسراء على وجه الإجمال ، ذكرناها لإنها اولى الوقفات على هذه السوره ، والذي ينبغي ان تعلمه ايها المؤمن ان هذه الآيه دليل صريح على إسراء الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وقول الله جل وعلى لعبده دلاله على انه صلى الله عليه وسلم اسري به جسداً وروحا ، ولم يكن رؤيا منام ولو كانت رؤيا مناميه كما سيأتي بيانه لما تعجب منها الخلق ولما كان فيها فتنه ولااختبار وابتلاء للناس ، ولكنه إكرام من الله العي الكبير لأخر الأنبياء ، حضنا من النبيين ونحنُ حظه من الأمم صلوات الله وسلامه عليه 00(55/5)
زانتك في الخلق العظيم شمائلٌ
يغرى بهن ويولع الكرماءُ
فإذا رحمة فأنت امٌ او ابٌ
هذان في الدنيا هما الرحماءُ
ياايها المُسراء به شرفاً إلى
مالاتنال الشمسُ والجوزاءُ
يتساءلون وانت اطهر هيكلٍ
بالروح ام بالهيكلِ الإسراءُ ؟؟
بهما سموت مطهرين كلاهما
روحٌ وريحا نيةٌ وبهاءُ
تغشى الغيوب من العوالمِ كلما
طويت سماءٌ قُلدتك سماءُ
انت الذي نظم البرية دينهُ
ماذا يقول وينظُم الشعراءُ
المصلحون اصابعٌ جُمعت يداً
هي انت بل أنت اليدُ البيضاءُ
صلى عليك الله ماصحب الدجى
حادٍ وضنت بالفلا وجناءُ
واستقبل الرضوان في غرفاتهم
بجنات عدنٍ آلك السُمحاءُ
هذه الوقفه الاولى ايها المؤمنون على وجه الإجمال مع مااخبر الله عنه في الإسراء نبينا صلى الله عليه وسلم
)) الوقفه الثانيه ((
مع قول الله جل وعلا)وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً * ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعْدُ الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبّروا ما علو تتبيراً * عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدّتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً((55/6)
ايها المؤمنون الله جل وعلا ليس بينه وبين احد من خلقه نسب والقياده الروحيه للعالم توارثتها امم عبر التاريخ كله وآخر الامم الذين حملوا القياده الروحيه هم بنوا إسرائيل والمله اليهوديه ، ثم الله جل وعلا اورث هذه الأمه أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيادة العالم روحاً أي ديناً وإيماناً ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وجه الإرتباط مابين قوله جل وعلا ( سبحان الذي اسراء بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) وقوله جل وعلا (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّاً كبيرا) إن الله جل وعلا يخبر ان امة اليهود وعلى وجه الخصوص وكل من يقرأ القرأن على وجه العموم ان الله جل وعلا بعث نبي اُمي جعله وجعل امته قاده للعالم ، لإن خليل الله جل وعلا الذي لم يبقى امه إلى وانتسبت إليه ونشرفت به وقال عنه جل وعلا ( ماكان إبراهيم يهودياً ولانصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وماكان من المشركين ) جمع الله له ارضين مباركتين فإبراهيم وفاته في ارض المقدس والكعبه هو الذي بناها واورث الله جل وعلا هذه الأمه ان بعث نبيها من مكه ثم اسراء به إلى المسجد الأقصى ليأخذ إرث إبراهيم في المسجد الأقصى كما اخذ إرث إبراهيم مولداً في مكه وليأخذ مابينهما فكانت هجرته ووفاته صلى الله عليه وسلم في مدينته عليه الصلاة والسلام فحاز عليه الصلاة والسلام المجد كله من جميع اطرافه الثلاث ، إلا ان العلماء اختلفوا إختلافاً كثيراً سلفاً وخلفاً مفسرين وغير مفسرين فيما قاله الله جل وعلا في هذه الآيات ، الله تبارم وتعالى اخبر هنا ان هناك علوين لبني اسرائيل وافسادين نتيجة قهر ودحر مرتنين وقال جل ذكره ( وإن عدتم عدنا ) وسأنقل اقوال العلماء إجمالاً وبعد ذلك نكتفي به لإننا لا نستطيع ان نرجح لإن المسأله ليست بالبيان الصحيح الصريح الواضح ، الذي تقدر ان نرجّح فيه ، لإنه لو كانت واضحه صريحه صحيحه(55/7)
بينه لماامختلف الناس من قبل فيه مع الإتفاق عن هناك إفسادين لليهود ودمروا مرتين قال فريق من العلماء وهذا عليه أكثر من فسر القران من السابقين أن كلا الامرين تم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فعند هؤلاء قول الله جل وعلا ( وإن عدتم عدنا )
أنهم أفسدوا في الاول فسلط الله عليهم ثم علوا وأفسدوا فسلط الله عليهم ثم جعل الله منهم أنبياء كموسى وعيسى ويوشع ابن نون ثم إنهم بعد ذلك عادوا للإفساد فسلط الله جل وعلا عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم واصحابه فأجلاهم النبي من المدينه ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه من أرض تيماء وقالوا أنهم عادوا للإفساد في هذا العصر فسلط الله جل وعلا عليهم النازي المعروف (اودلف هتلر ) النازي الألماني المعروف فحرقهم وأبادهم قالوا هذا مصداقا لقول الله جل وعلا ( وان عدتم عدنا ) أي أن عدتم للإفساد عاد الله جل وعلا لتسليط خلقه عليهم هذا قول للعلماء وقال أخرون ان الافساد الاول ثم في أيام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقهرهم الله على يد ( بختنصر ) والأفساد الثاني هو ماهو حاصل اليوم في ارض المقدس وان هلاكهم حره اخرى سيكون على يد المسلمين ، وسيكون قريباً اوبعيداً عاجل او آجل سيكون على يديهم قهر اليهود وإخراجهم من بيت المقدس كما قال الله جل وعلا ( ليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مره ) ويشكل على هذا التأويل اشكالان ، الإشكال الاول ان الله جل وعلا قال عنهم (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد ) ( بختنصر ) لم يكن مسلماً حتى يقال فيه انه عباد لله بمعنى طائعين ، والإشكال الثاني ان يفسر قول الله جل وعلا ( وإن عدتم عدنا ) لإننا إذا قلنا ان إخراجهم مرتبط بخروج المهدي وقيام الساعه لايصبح هناك أمل ليعودوا للإفساد بعد الإفسادين العظيمين الذين اخبر الله عنهما ، وقال آخرون أن كلا الإفسادين والظهور لبني إسرائيل لم يقع بعد ، وإن هذا الذي نحنُ فيه من إحتلال اليهود اليوم لإرض المقدس هو(55/8)
الإفساد الأول ثم يقدر الله للمؤمنين إخراجهم منها لكنهم لايخرجون إلا من الظفه الغربيه فقط ويعودون إلى تل ابيب ثم يعودون مره آخرى بنصرة الغرب لهم فيفسدون في الأرض ويخرجون المسلمين ثم العلوا مره آخرى للمسلمين فيكون إخراجهم من المسجد الأقصى للمره الآخيره لقوله جل وعلا
( فإذا جاء وعد الآخره بعثنا عليكم عباداً لنا اولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وامددناكم بإموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ) وآخرون قالوا بالتوقف وهذا الذي يظهر لي هو الأظهر ويؤيده ان الله جل وعلا قال في آخر السوره ( وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخره جئنا بكم لفيفا ) كان السابقون من المفسرين يقولون اسكنوا الأرض أي مصر وبلاد الشام ، وهذا عندي بعيد لإن الله قال ( فإذا جاء وعد الآخره جاءنا بكم لفيفا ) ومن تأمل تاريخ اليهود يعلم انهم كانوا قبل ان يجمعوا في اسرائيل اليوم عام( 1948مـ) للميلاد ، كانوا متفرقين في انحاء الأرض فلما اقيمت دولة إسرائيل زحفوا من كل بقاع الدنيا ، حتى انه من اليمن وحدها خرج اربعة آلاف يهودي وخرج من يهود الفلاشا من أرض الحبشه ويهود الدنما من أرض الروس وغير ذلك من اصقاع الأرض ، مصداقاً لقوله تعالى ( فإذا جاء وعد الآخره جاءنا بكم لفيفا ) وقلت ان كل قول يدخل عليه إشكال فنرى التوقف في الآيات لكن عموماً الله جل وعلا مُظهر دينه ومبلغ رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وقد كتب الله لنبيه التمكين وزوا له الأرض وسيبلغ ملك امته مازوا الله جل وعلا لنبينا صلى الله عليه وسلم منها
)) الوقفة الثالثه((
مع قول تبارك وتعالى ( ولاتقربوا الزنا إنه كان فاحشةً وساء سبيلا )(55/9)
هذه ذكرها الله من جملة آداب ، خاطب الله جل وعلا فيها أول الأمر نبيه صلى الله عليه وسلم والله تبارك وتعالى كما بين للمؤمنين علاقتهم مع غيرهم من الأمم بين لهم علاقتهم في المجتمع المسلم على ماينبغي ان يكون عليه المجتمع المسلم العفاف والحياء ، ولقد جاء الدين كله بالعفاف والحياء وبيان عظيم هذا الأمر عند الرب تبارك وتعالى ، نبينا صلى الله عليه وسلم يقول ( لااحد اغير من الله ، وإن غيرة الله ان يزني عبده او تزني امته ) وهذا التحذير للمؤمنين من رب العالمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم ، والله يقول ( إن الذين يحبون ان تشيع الفاحشةُ في الذين آمنوا لُعنوا في الدنيا والآخره ) والنبي صلى الله عليه وسلم يأتي بضد فيقول ( ومن ستر مسلماً ستره الله جل وعلا يوم القيامه ) في الصحيحين من حديث ابن عمر ، هذه كلها إشارتيين على انه ينبغي على المسلم ان يتحلى بالعفاف والحياء وهو صلى الله عليه وسلم يذكر السبعه المقربين تحت ظل العرش فيقول ان منهم رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال اني اخاف الله ، فأعراض المؤمنات من اعظم ماحرمه الرب تبارك وتعالى ، ولقد ساعدت آلة المعاصره على التصوير الفوتغرافي والثابت والمرسل والمبعوث عن طريق اجهزة الجوال وغيرها فيتسلط المسلم على مؤمن او على مؤمنه على غلام او على فتاه او على بيت مستور او على إمرأه في دارها او خارج دارها فيصورها فيجمع السقطاء من اصحابه والسفهاء من اقرانه ثم يعرض عليهم ماراى يفتخر بذلك ويبعثه إلى زيد وعمر وينسى هؤلاء قدرة الرب تبارك وتعالى عليهم وان الله جل وعلا يقول عنهم يوم القيامه ( احصاه الله ونسوه ) ويقول تبارك وتعالى ( فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فماهم من المستعتبين ) وينسى أمثال هؤلاء انه مامن احد إلا ويوسد الترب وتُحل عنه أربطت الكفن وسيسأله الملكان ثم يبعث كما جاء في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه عند البخاري وغيره ( ومامنكم من(55/10)
احد إلا ويكلمه ربه ليس بينه وبينه تُرجمان ، فيلتفت ايمن منه فلا يرى إلا ماقدم ويلتفت اشأم منه فلا يرى إلا ماقدم ، وينظر امامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه ) ومن علم ذلك حفظ على نفسه الدين وخشي الله جل وعلا في اعراض المؤمنات واعراض المؤمنين وعلم ان الرب تبارك وتعالى يقول ( ولاتقربوا الزناء ) مع ان الآيه مكيه لكن الزناء وقتل النفس بغير حق والشرك بالله هذه الثلاث اتفقت جميع الشرائع على تحريمها ، مامن نبي إلا وحرم على امته الشرك بالله وحرم عليها قتل النفس بغير حق وحرم عليها الزناء ، هذه الثلاث مما اتفقت عليه كلمة الأنبياء والمرسلين وإن السلامة من سلمى وجارتها الا تمر على سلمى وواديها ، والمؤمن الحق يتق الله جل وعلا ويعمل بمحكم القرأن ، وبمواعظ نبينا صلى الله عليه وسلم ويحذر ان يتعرض للمؤمنين والمؤمنات ، وليتذكر وقوفه بين يدي الله وقد ينزع الله عنه الستر وينزع الله عنه الحفظ وينزع الله جل وعلا عنه الكلئ فيفضحه الله تبارك وتعالى في الآخره ، يرى في قبره مالوا يتمنى انه لوعاد إلى الدنيا حتى يتحرر من اذئ المؤمنين والمؤمنات والتعرض في اعراضهن والخوض في الحديث عنهن عافانا الله واياكم من ذلك
)) الوقفة الرابعه ((
ومن جملة ماادب الله جل وعلا به نبيه وارشد له خلقه في هذه السورة المباركه قوله جل وعلا
( ولاتقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا)
وإن كون الإنسان يعطى حظ من علم من دلالة توفيق الرب تبارك وتعالى له ، لكن الله يخاطب في هذه الآيه اعلم الخلق بالله نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول ( ولاتقف ماليس لك به علم ) وإن من اعظم الكذب ان يكذب الإنسان ويفتري على الرب تبارك وتعالى ، من اعظم الكذب ان يكذب الإنسان على الله ، ومن رزق العلم الحق رزق الخشيه ومن رزق الخشيه خاف ان يقول على الله ماليس له به علم 00
فبادره وخذ بالجد فيه 00 فإن آتاكه الله انتفعت(55/11)
فإن اوتيت فيه طويل باعٍ 00 وقال الناس انك قد رؤست
فلا تأمن سؤال الله عنه 00 بتوبيخٍ علمت فهل عملت ؟؟
ذكر الناس من قبلنا ان العرب في جاهليتهم كانوا يعمدون إلى رجل يقال له ( عامر إبن الضرب العدواني ) يحتكمون إليه في جاهليتهم إذا اختلفوا ، فجاءه مرةً وفد من إحدى القبائل ، فقالوا ياعامر وجد بيننا شخص له آلتان ـ آلت رجل وآلت انثى ، ونريد ان نورثه فهل نحكم له على انه انثى او نحكم على انه ذكر ، فمكث هذا الرجل المشرك اربعين يوماً لايدري ماذا يصنع بهم ؟؟!! وكانت له جاريه ترعى له الغنم يقال لها سخيله ، فقالت له في اليوم الأربعين ياعامر قد أكل الضيوف غنمك ولم يبقى لك إلا اليسير اخبرني ،، قال مالك ومال هذا إنصرفي لرعي الغنم ، فأصرت عليه فلما اصرت عليه بالسؤال اخبرها وقال مانزل بي مثلها نازله فقالت له تلك الجاريه 00ياعامر اين انت اتبع الحكم المبال ، أي إن كان يبول من آلة الذكر فحكم عليه انه ذكر وإن كان يبول من آلة الأنثى فحكم عليه انه انثى ، فقال فرجتها عني ياسخيله واخبر الناس 00
قال الإمام الأوزاعي رحمه الله معقب على هذه القصه ، قال هذا رجل مشرك لايرجوا جنه ولايخاف من نار ولايعبد الله ويتوقف في السأله اربعين يوم حتى يفتي فيها فكيف بمن يرجوا جنه ويخاف النار كيف ينبغي عليه ان يتحرى إذا صدر للإفتاء وإذا سؤل امراً عن الله جل وعلا ،،(55/12)
ولقد ادركنا شيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عندنا انه جاءه وفد من الكويت ليسألونه مسائل شرعيه ، والرجل في آخر ايام حياته ولو قال قائل انه ليس ليس على وجه الأرض آن ذك احد اعلم منه لما ابتعد عن الصواب ومع ذلك لما سألوه قال لاادري لاادري لاادري ، فلما اكثروا عليه غير هيئة جلسته ثم قال رحمه الله وغفر الله اقول كما قال الله ( ولاتقف ماليس لك به علم ) فلما اكثروا عليه رحمه الله قال ، فلان كذا وقال فلان كذا وقال فلان كذا ، اما انا فلا احمل ذمتي من كلام الناس شيئ لاادري ، هذا وهو هو في منزلته وعلمه 00
والمقصود في هذا موعظه لكل من صدره الله ، لايغتر بكثرة حضور الناس له ، او لايجب عليك ان تُجيب ان كنت لاتعلم ، ولقد قالت الملائكه وهم الملائكه عند ربها ( سبحانك لاعلم لنا إلا ماعلمتنا ) ومن دلائل الخشيه والتقوى ان لايقترب الإنسان هذه الحُجز وان يقف عند مااوقفه الله جل وعلا عليه فلا يقل على عينه مالم ترى ولايقول على سمعه مالم يسمع ولايتحدث على لسانه مالم يقل ( إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤلا )
)) الوقفه الخامسه ((
مماسنقف عنده في هذه الآيات الكريمات قول الرب تبارك وتعالى
( وإذ قلنا لك إن ربك احاط بالناس وماجعلنا الرؤيا التي اريناك إلا فتنه لناس والشجرة الملعونة في القرأن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيرا)
المقصود هنا بالناس عام ، اريد به الخصوص المراد به على الصحيح كفار قريش ، والمقصود ان الله متمكن قادر عليهم ومعلوم ان الله قادر عليهم وعلى غيرهم ولكن المخاطبه بالآيات كفار مكه ثم قال جل وعلا ( وإذقلنا لك إن ربك احاط بالناس وماجعلنا الرؤيا التي اريناك إلا فتنه للناس والشجرة الملعونة في القرأن ) ومعنى الآيه اين الفتنه في الرؤيا واين الفتنه في الشجره الملعونه ؟؟(55/13)
الفتنه في الرؤيا ان كفار قريش يؤمنون بعقولهم ، فالفتنه ان الغدوا والرواح من مكه إلى بيت المقدس يحتاج إلى اربعة اشهر فإذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم انه وقع في برهه من الليل ، هذا بالعقل لايقبل لكنه يقبل بالقلب إذا كان المؤمن مؤمناً ان هذا محمد صلى الله عليه وسلم وانه لايقول عن ربه الكذب، وكفار قريش لم يؤمنوا ففتنوا بهذه الرؤيا ، اما سادة المؤمنين كالصديق رضي اللع عنه وارضاه قال نصدقه بالخبر يأتيه من السماء فكيف لانصدقه بإنه غدا وراح إلى بيت المقدس في برهه من الليل ، وهنا يأتي قضيه مهمه ان المؤمن يعلم ان مااخبر به الله واخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق ، نؤمن بكلام الله على مراد الله ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ذكر الأفذاذ سلك الله بنا وبكم سبيلهم فقال ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا ومايذكر إلا اولو الألباب ) والمؤمن الحق يعلم انه ولو لم يقدر على ان يفقه ذلك بعقله إلا انه مادام عن الله ثابت او عن رسوله صلى الله عليه وسلم ثابت وجب قبوله وترك مايرده عقله وترك العقل بالكليه فالعقل مكتشف للدليل وليس منشئ له ، هذه الفتنه في الرؤيا ، اما الفتنه في الشجره فإن الشجره الملعونه في القرأن هي شجرت الزقوم والفتنه فيها ان العرب وغيرهم من الأمم يعلمون انه لايجتمع خضره مع نار والله يقول عن هذه الشجره ( انها شجره تخرج في اصل الجحيم ) ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول لكفارقريش مااخبره الله عنه ان هذه الشجره تنبت في اصل النار فقال بعضهم لبعض متهكماً مايخبرنا به محمد إلا جنون ، وكيف يكون شجره تنبت في اصل الجحيم ونسي هؤلاء ومن تبعهم ان الله جل وعلا خلق الأسباب ومسبباتها ، النار جعلها الله جل وعلا ذات قدره على الحرب ، الله اعطاها القدره على ان تحرق البشره والجلود وغيرها ، فلما اراد الله إكرام خليله ابراهيم ووضع عرياناً صلوات(55/14)
الله وسلامه عليه في النار ، امر الله النار وهو ربها وخالقها ان تسلب خصيصتها التي اعطاها وهي الحرق فناداها ربها وهو اعلم ( يانار كوني برد وسلاماً على إبراهيم ) فالنار التي جرت السنن على انها تحرق لم تحرق ، لماذا لم تحرق ؟؟ لإن الله جل وعلا سلبها تلك الخصيصه ، والشجره لم يعطها الله في الدنيا ان تحيى في النار هذه الخصيصه يعطيها الله جل وعلا ايها في نار جهنم لشجرت الزقوم فتنبت وهي طعام اهل النار عياذاً بالله ، هذا كله بقدرة الرب تبارك وتعالى ونحنً نسلم ان قدرة الله كذلك اعظم من هذا كله بل إن قدرة الله انه يخلق النقيض ، بل إنه جل وعلا يجمع بين النقيضين في وقت واحد ونأتي بالأدنى ثم بالأعلى قال الله في اصحاب الكهف ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائلٌ منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً او بعض يوم ) لو كانوا هؤلاء الفتيه رأوا على انفسهم تغيراً في الخلقه طالت اشعارهم ونمت اظفارهم وحدودبت ظهورهم وخطاهم الشيب لما قالوا ( يوماً او بعض يوم ) لكن الله جل وعلا هذا الزمان الذي يجري علينا اوقفه الله جل وعلا على اصحاب الكهف فلم تجري عليهم احكام الزمان فلم يحدودب لهم ظهر ولم يطل لهم شعار ولم تنموا لهم اظفار ولم يخطهم الشيب ولم يتغير منهم شيئ ، هذا وقع من غير جمع للنقيضين ، لكن هذا الأمر جمعه الله جل وعلا في قصة الرجل الذي قال عنه ( او كالذي مر على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قال انّ يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عامٍ ثم بعثه * قال كم لبثت قال لبثت يوماً او بعض يوم قال بل لبثت مائةعام فنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه * ونظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً لناس ونظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم ان الله على كل شيئ قدير ) أين الجمع بين النقيضين ؟ الجمع بين النقيضين ان الله في مكان واحد اجرى الزمان على شيئ ولم يجره على شيئ آخر فالحمار اجرى الله عليه احكام الزمان ،(55/15)
فمات وذبل واصبح عظام نخره والطعام لم يجري عليه احكام الزمان فمكث الطعام مائة عام ولم يفسد ولم يتغير منه شيئ ، ثم بعثه الله فشاهد الرجل بعينيه احكام الله تجري على شيئ ولاتجري على شيئ آخر ، احكام الله الزمانيه ، وكله بقدرة الرب تبارك وتعالى والحكمه وراء ذلك كله انه لايقدر على الصنيع هذا إلا الله ، لايمكن لإحد كائن مابلغت قوته وعظمت سطوته وجل سلطانه ان يقدر على ان يصنع هذا الشيئ ابداً ، هذا من خصائص الله التي جعلت ذلك العبد لماراى الآيه بإم عينه طعام له مائة عام لم يفسد وحمار اصبح عظام نخره قال ( اعلم ان الله على كل شيئ قدير ) ومن علم ان الله على كل شيئ قدير إذا ذٌكر بإيات الله يخاف ولذلك قال الله مختتم هذه الآيه ( ومانرسل بالآيات إلا تخويفا ) فالنأخذ خسوف القمر مثلاً ، يخسف القمر فيراه اقوام فيتعجبون ويمضون ويراه اقوام ربما كانوا يلعبون الورق فتاره ينظرون إلى القمر وتاره يكملون ماهم فيه من اللهوا ، ويراه رجل مشغول بالبحوث العلميه فيدون ذلك الخسوف يومه وليله ونهاره وساعته ودخوله وابتدأه ونهايته ، ويراه رجل لايدري ماهوا حتى خسوف القمر يمضي ، ويراه مؤمن جعلنا الله واياكم منهم فيتذكر فيه سطوت الجبار جل جلاله فيخشى الله ويخافه وتتسابق خطواته إلى المسجد يفزع إلى الله جل وعلا ويتذكر قول الله جل وعلا ( ومانرسل بالآيات إلا تخويفا ) وقول الله ( ونخوفهم فمايزيدهم إلا طفيناً كبيرا ) فإذا اردت ان تعرف اين مقامك عند الله فنظر إلى حالك عند آياته فإذا كانت الله التي يجريها في الكون لاتزيدك إلا عبثاُ ولهواً وطغيان وفساد فأنت بعيد عن الله ، وإن كانت آيات الله التي تراها في نفسك او في الكون او تسمع بها او تشاهده او تقرأ عنها لاتزيدك إلا خوافاً وفرقاً ووجلاً من رب العزه والجلال فإنك على حظ عظيم من الدنو إلى الله ، هذا الرسول الخاتم الذي جعله الله جل وعلا امنةً لإمته إذا راى تكائر الغيم اخذ صلى(55/16)
الله عليه وسلم يغدوا ويروح خوفاً من ان يكون عذاباً وسخطاً ولاتتغير اسارير وجهه حتى يكشف عنه ويقول ( ياعائشه ومايدريني انه عذاب ) مع ان الله جل وعلا يقول ( وماكان الله ليعذبهم وانت فيهم ) صلوات الله وسلامه عليه ، والغاية من هذا ايها المؤمنون ان يعلم العبد ان القلوب اصلاً اوعيه ولاتنشغل إلا بماملئت به ، فقلوب مليئه بحب النساء وقلوب مليئه بحب الغناء وقلوب مليئه بحب الغلمان وقلوب مليئه بحب الأسفار وقلوب مليئه بحب الريال وادولار وقلوب مليئه بحب غير ذلك ، وقلوب مؤمنه صادقه مليئه بحب الله جل وعلا كل ماتراه يذكرها بالله جل وعلا فتحبه وتجله وترجوه وتخافه سبحانه وبحمده قال الله ( ومن الناس من يتخذ من دون الله انداداً يحبونهم كحب الله * والذين آمنوا اشد حباً لله ) اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقرب إلى حبك ، اللهم إنا نعوذ بك ان نعدل في حبك احداً كائن من كان ، والمقصود والغايه ان العبد إذا احب الله يفقه كلام الرب جل وعلا فإذا قال الله ( ومانرسل بالآيات إلا تخويفا) وإذا قال الله ( ونخوفهم فمايزيدهم إلاطغياناً كبيرا ) جعل حبه لله يلجأ إلى الله ويخافه ويخشاه ويرجوه ويبتعد عن معاصيه ويستغفر الله دائماً وابداً لأنه لن يخلوا احد من المعاصي ولن يسلم احد من الذنوب ، وإلا لما شرع الله تبارك وتعالى ان يستغفره عباده ويخافوه
)) الوقفه السادسه ((
ثم نقف عند قوله سبحانه ( يوم ندعوا كل اناس بإمامهم * فمن اوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولايضلمون فتيلا )(55/17)
اتفق المفسرون على ان هذه الآيه المقصود بها يوم القيامه لكنهم اختلفوا في معنى قوله جل وعلا ( بإمامهم ) على اقوال ثلاثه مشهوره وقول غير مشهور ، اما الثلاثه المشهوره فإن من العلماء من قال إن معنى الآيه ( يوم يدعوا كل اناس بإمامهم ) أي ينادى بكتابه ، ثم اختلفوا في المقصود بالكتاب فمنهم من قال الكاتب الذي انزل على الامه الذي هو منها فيقال للمسلمين ياأهل القرأن ويقال لليهود ياأهل التوراه ويقال للنصارى ياأهل الإنجيل ، وآخرون قالوا المقصود بالكتاب كتاب كل إنسان بنفسه وحجة هؤلاء ( وكل شيئ احصيناه في إمامٍ مبين ) فسم الله جل وعلا الكتاب إمام وحجة الأولين قول الله جل وعلا ( ومن قبله كتاب موسى إماماًُ ورحمه ) فوصف الله جل وعلا كتاب موسى وهو التوراه بإنه إمام هذا القول الأول ....(55/18)
القول الثاني ان المقصود بإمام هنا العمل ، فقالوا إن المعنى انه ينادى كل إنسان بعمله ، اين الصابرون على المقدور ؟اين الممتنعون من المحذور ؟ اين أهل الصلوات ؟ اين أهل كذا ... وقالت طائفه المقصود بكلمة إمام القدوه ، فيقال اين اتباع موسى اين اتباع عيسى اين اتباع نوح اين اتباع محمد صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين .. وذهب محمد بن كعب القرضي رضي الله عنه ورحمه وهو احد اول التابعين واصله يهودي ، كان ابو كعب ممن لم ينبت يوم قريضه فسلم من القتل ثم اسلم وتزوج وانجب محمد هذا وهو من ائمة التفسير رحمه الله تعالى ، وممايرواى عنه من جميل خصاله انه رزق بمال وفير فقيل له ادخر هذا المال لولدك قال بل ادخر هذا المال لنفسي عندي ربي وادخر ربي لولدي ، قال محمد رحمه الله في تفسير هذه الآيه ( يوم ندعوا كل اناس بإمامهم ) فلايقال فلان إبن فلان ولكن يقال فلان إبن فلانه ، وقالوا إن الحكمه وراى ذلك هو إظهار شرف عيسى إبن مريم والأمر الثاني يستر على اولاد الإثم ، قال القرطبي رحمه الله في هذا القول نظر ، وقال الشنقيطي رحمه الله في اضواء البيان هذا قول باطل واحتج عليه بحديث إبن عمر مرفوعاً انه يقال هذه غدرة فلان إبن فلان ونرى والله اعلم ان القول مقبول ولا يقال في حقه باطل لكن مقبول إلى حد ما والأقوال التي غيره ارجح ، والمفسرون مجمعون على ان المقصود من الآيات هو ذكر اهوال يوم القيامه وإن آخذ الصحائف بالأيمان او بالشمال من اهوال وكرب يوم القيامه ، التي فيها الميزان والصراط والدنو من الحوض او البعد عنه وظلال العرش او النيئ عنه وكل ذلك من اهوال يوم القيامه .. اجارنا الله واياكم منها ....
)) الوقفه السابعه ((
مماسنقف عنده قول الله جل وعلا ( ويسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي ومااتيتم من العلم إلا قليلا )(55/19)
هذه الآيه المشهور عند العلماء انها مكيه مدنيه ، وقد جاء فيها ان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر عليه ملئ من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه لاتسألوه .. ثم سألوه .. قالوا ياابا القاسم ..ماالروح ؟؟؟ فاتكئ صلى الله عليه وسلم على عسيب نحل ..قال إبن مسعود فعلمت انه يوحى إليه ثم تلا ( ويسألونك عن الروح قل الروح من امر ربي ومااتيتم من العلم إلا قليلا ) ولاريب ان العلم الحديث ومآثر اهل الفلسفه ومن تكلم في امور عده وتصدر لعظيم الفنون عجز عن مسألت الروه وحق له ان يعجز وانّ له ان يدرك والله يقول ( قل الروح من امر ربي ) لكننا سنتكلم عنها إجمالاً وفق ماجاء في الكتاب والسنه والروح خلق من خلق الله ، فتنفخ في جسد ابن آدم وهو جنين في بطن أمه فتدب فيه الحياه فهذا أول تعلق بالروح للجسد ثم يكون تعلق آخر وهو الثاني بعد الولاده ثم تعلق ثالث حال حياة البرزخ ثم تعلق رابع وهواكملها واتمها بعد البعث والنشور إذ لافراق بعده(55/20)
هذه انواع التعلق الأربع للروح في الجسد ، لكن الميت وإن فارقت روحه جسده وهذا حقيقه الموت الإنها تتصل به إتصالاً لانعلم كنهه ، لكن دلت السنه عليه قال صلى الله عليه وسلم ( انه يسمع قرع النعال ) وقال ( إن الجنازه تقول لإصحابها حين يحملونها قدموني قدموني او تقول ياويلاه أين يذهبون بي ؟؟) والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب قتلا بدر من أهل الإشراك وقال لعمر والله ماانتم اسمع لما اقول لهم منهم فهذا كله نوع من التعلق لكن الميت وإن كان ميت في قبره ينتفع ببعض الأعمال التي يصنعها من يحبه في له في الدنيا ، واعظمها الدعاء والحج والعمره والصدقه ، هذه الأربع ثابته وبقيت الأمور فيها خلاف بين العلماء ، وقد ذكروا ان رجل كان بينه وبين بيته والمسجد مقبره فإذا مر على طريق مر على طريق المقبره ويقول يدعوا لهم ..اللهم آنس وحشتهم .. وارحم غربتهم .. يصنع هذا كل ليله .. ذات لليله قُدر له ان ينساهم فلما نام رأى في منامه رجال يلبسون ثياب بيض .. قال من انتم يرحمكم الله ؟؟ قالوا نحنُ اصحاب هذه المقبره التي بجوارك كان الله يفرج عنا كل ليله بدعائك .. فلما تركتنا تلك الليله لم يأتنا من فرج الله شيئ ..
ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم لإمته زيارة القبور لغرضين الإتعاظ بحالهم ونفعهم بالدعاء لهم لابلإنتفاع منهم ، فإنهم لايملكون لإنفسهم فضلاً عن غيرهم ...
))الوقفه الأخيره ((
الوقفه الأخيره ايها المؤمنون مع قول الله جل وعلا ( وقرأنٌ فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا )
هذا القرأن معجزه نبينا الكبرى صلوات الله وسلامه عليه ...(55/21)
انزله الله تبارك وتعالى على خير خلقه صلى الله عليه وسلم منجم عبر ثلاثه وعشرين عاما .. واخبر الله انه لو خوطب بهذا القرأن الجبال الصلدا والحجارة الصماء لتشققت من خشيت الرب تبارك وتعالى ، وسنقف هنا مع سورتين قال عنهما صلى الله عليه وسلم (إقراء الزهراوين البقره وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامه كأنهم فرقان من طير صواف او غمامتان اوغايتان يحاجان عن اصحابها ) وقد اختلف العلماء في سبب تسميت هتين السورتين بالزهراوين على ثلاثة اقوال ....
قال بعض العلماء إنما سميت بالزهراوين لما يزهر للمؤمن عند تلاوتهما من معانيهما ونور قراءتهما
وقال آخرون لإنه يرزق الإنسان بهما النور التام يوم القيامه .. قال صلى الله عليه وسلم ( يأتي القرأن يوم القيامه شفيع لإصحابه ، تتقدمه الزهراوين البقره وآل عمران ..)
وقال آخرون إنما سميت بالزهراوين لإنهما اشتملتا على إسم الله الأعظم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما اخرج ابوداوود وابن ماجه من حديث اسماء بنت يزيد ابن السكن بسند حسن .. انه صلى الله عليه وسلم قال ( إسم الله الأعظم في هتين الآيتين ..)
( وإلهكم آله واحد لاإله إلا هو الرحمن الرحيم ) وفي آل عمران ( الم* الله لاآله إلا هو الحي القيوم )
ونقول وفق قواعد التفسير يصح ان يقال إنما سميت بالزهراوين لهذه الأقوال الثلاث كلها لإنها لاتعارض بينها
وقد تظمنت سورة البقره أعظم آيه في كتاب الله وهي آية الكرسي ، وختمت سورة البقره بآيتين قال عنهما صلى الله عليه وسلم ( من قراء الآيتين الأخيرتين من سورة البقره في ليله كفتاه ) وختمت سورة آل عمران بقول الله جل وعلا ( إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب )(55/22)
وقد جاء في الصحيحين من حديث إبن عباس رضي الله عنهما انه نام عند خالته ميمونه ، ميمونه اخت أم الفضل ، فأم الفضل ام ابن عباس وميمونه زوجة النبي صلى الله عليه وسلم خالت إبن عباس ، نام عندها ، فراء النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل فأول مابدأ عليه الصلاة والسلام مسح النوم عن عينيه ثم تلا العشر الأواخر من آل عمران ..
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى" جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )حتى
ختمها صلوات الله وسلامه عليه ثم قام إلى شن معلقه ثم توضئ فصلى وإبن عباس يرقبه رضي الله عنهما ، فهذا ايها المؤمن بعض ليل نبيك صلى الله عليه وسلم ، فالينظر احدنا كيف يقضي ليله ، سترنا الله علينا وعليكم في الدنيا والآخره ، ووفقنا الله واياكم لإتباع سنته ..
وفي سورة آل عمران ذكر الله جل وعلا آيه عظيمه جليله قال فيها (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) وهذا كمثل ذكرناه وإلا القرأن كله يجب قرأته وفيه من الفضل مالايخفى على احد
ولقد قال محمد إبن ابراهيم التيمي رحمه الله من لم يبكه القرأن وقد أوتي علماً فخليقٌ به ان لايكون قد اوتي علماً ، ثم تلا ( إن الذين اتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للإذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للإذقان يبكون ويزيدهم خشوعا )
فهي من اعظم الآيات التي ترقق القلوب وتدل على الرب تبارك وتعالى
وإن من تعظيم القرأن الذي قال فيه ( فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) ان يؤمن الإنسان بمحكمه ومتشابهه ويخضع لإوامره ويجتنب نواهيه ويتذكر قول الله ( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلا لامبدل لكلماته وهو السميع العليم )(55/23)
ايها المؤمنون هذه وقفات منّ الله علينا بإلقائها بين ايديكم حول سورة الإسراء وكتاب الله جل وعلا اعظم واجل من ان يستنبطه فرد او شخص كائن من كان .. وإن مافيه من الغرر والدرر مالم نحط به علما .. وفيه مااحطنا به علما لكن لايتسع الوقت لقوله ، بلغنا الله واياكم من الهدي اكمله ونسأل الله القبول إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وعلى آله واصحابه اجمعين والحمدلله رب العالمين ....(55/24)
~~~ وكن مع الشاكرين ~~~
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الذي لم يلد ولم يولد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وسع الخلائق خبره ولم يسع الناس غيره يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أنتهى إليه بصره من خلقه وأشهد أن محمد عبده المجتبى ونبيه المصطفى ورسوله المرتضى بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب هدى به من الضلاله وعلم به من الجهاله وأغنى به من العيله وكثر به من القله خير مبعوث إلى خير أمة صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك مسلكهم وأقتفى أثرهم وأتبع نهجهم وسلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد .....
أيها المؤمنون والمؤمنات(56/1)
أيها الأحبة .. هذه الليلة الآيه الكريمة التي نتناولها أو ستكون محور درسنا قول الحي القيوم تباركة أسمائه وجل ثناؤه لكليمه موسى ( وكن من الشاكرين ) وهذه الآيه جاءت خاتمة آية في سورة الأعراف بعد أن ذكر الله فيها مجمل نبئ نبيه وكليمة ورسوله ومصطفاة موسى ابن عمران مع فرعون . ثم ألاء الله على هذا النبي الكريم نبي الله موسى أحد أولي العزم من الرسل نشاء في قصر فرعون وفرعون يريد أن يقتله فكانت إرادة الله أن ينشاء في بيته دون أن يعلم عنه شياء ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) ثم ترعرع في شرفات ذلك القصر حتى كان منه قتل ذلك الرجل القبطي ثم كان أن خرج بعد أن علم بالمؤمرة عليه إلى أرض مدين فمكث بجوار ذلك العبد الصالح عشر سنين يرعى الغنم على عفة فرجه وإشباع بطنة ثم علمه الله جل وعلى أول الأمر عند جبل الطور ونباءه وأرسله إلى فرعون وملئه وعضده بأخية هارون عليهما جميعاً الصلاة والسلام ثم أتى موسى إلى فرعون وذكره الله الدار الأخرة وقبل مسألة المجادلة ويوم الزينة وإظهار السحر حتى أظهره الله دينه ووقع الحق وبطل ماكانوا يعملون فخرج موسى بأمر ربه مسرياً بقومه في ظلمات الليل وأتبعهم فرعون وجنوده عدواً وكمداً وبغيا حتى نجاه الله جل وعلى وأغرق فرعون ثم أتاه الله جل وعلى التوراة فيها تفصيل كل شي بين له فيها الحلال والحرام وجعلها موعظة للأنام ثم بعد هذا كله وعده الله جل وعلى ثلاثين ليلة فصامها صلوات الله وسلامه عليه وهي عند أهل العلم على ما يظهر شهر ذي القعده ثم بعد ذلك في أخر ليله لما مسه الجوع أخذ يلوك لحاء الشجر فزادها الله عليه عشر ليالٍ ليتم الميقات الرباني أربعين ليلة وأوصى نبي الله موسى أخاه هارون أن يمكث في قومه نيابةً عنه قال الله جل وعلى ( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي(56/2)
وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ) ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ( مدة ثانية غير الأولى ) وأتاه الله جل وعلى هذا المقام العظيم وهو مقام التكليم والنفوس جبلت على أنها إذا أنزلت موضعاً رفيعاً أن تطلب ماهو أعلى منه طبع عليه الصلاة والسلام ورغب وله الحق أن يرغب طمع في مقام الرؤية ( قال ربِّ أرني أنظر إليك ) فكان الجواب الإلهي له ( قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلَّى ربُّه للجبل جعله دكّاًً وخرَّ موسى صَعِِقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) تبت إليك سبحانك تنزيهن وتعظيماً وإجلالاً لله الحي القيوم تبت إليك أن أسألك تارتاً أخرى أن أراك وأنا أول المؤمنين أي أول المؤمنين بأنه لايراك أحداً في الدنيا وفي الآيه معنى ظاهر على عظمة الجبار جل جلاله و أن الله جل وعلى لاتدركه الأبصار ولا تحيط به الظنون ولا يصفه الواصفون ولاتراه في الدنيا العيون
ولكن المؤمنين يرون ربهم في الجنه كما جاء ذلك مصرحاً به في صريح القرآن وفي صحيح السنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم فلماء أفاء الله على موسى بهذه النعمه العظيمه قال ( ياموسى إني أصطفيتك ) أي أخترتك وأجتبيتك على الناس أي أهل عصرك لأن إبراهيم أفضل من موسى على الصحيح وأصطفاه الله على الناس الذين قبل موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى وأصطفاه الله جل وعلى على من قبل موسى وأثناء موسى وبعد موسى أما موسى عليه الصلاة والسلام فإن الله إصطفاه على أهل عصره قال يا موسى إني أصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فلما بين له نعمه عليه قال له فخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين
وقول ربنا جل وعلى ( وكن من الشاكرين ) وهو محور حديثنا هذه الليله نسأل الله جل وعلى العون والتوفيق والإخلاص و السداد
أيها المؤمنون :ـ(56/3)
إن الشكر نعمة من الله عظيمة لأن الله جل وعلى قسم عبادة قسمين كفورٌ وشكور قال جل ذكره ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا ) فالشكر إذا أطلق أريد به مرادف الإيمان ومرادف العبادة ومرادف ما خلق الله من أجله عبادة لأن الله قال ( لعلكم تشكرون ) فالله جل وعلى جعل الكفر وكره الكفر وأهله وجعل الشكر وأحب تبارك وتعالى الشكر وأهله فلذالك إذا أطلق الشكر على الصحيح إنما أريد به مرادف الإيمان فالعبد إما كافر وإما شاكر مصداقاً لقوله جل وعلى كما بينا ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا ) أمر الله به عباده ( وكن مع الشاكرين ) ونعت الله بالشكر نبيين كريمين من أعظم أولياء الله أصفياءة هما نوح وإبراهيم عليهما من ربهما الصلاة والسلام فقال الله جل وعلا في حق الأول ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكورا ) وقال في حق الأخر ( إن إبراهيم كان إماماً قانتاً لله، حنيفاً ولم يكن من المشركين ، شاكراً لأنعمه ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ) ونبينا صلى الله عليه وسلم جعل من ضمن وصاياه لأصحابه أن يشكروا ربهم جل وعلى يقول لمعاذ يامعاذ والله إني لأحبك تقريباً لما سيقوله له ثم يقول له يامعاذ لاتدعن أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك فهذا من وصايا النبيين لأصحابهم وحواريهم ومن امنوا بهم مما يدلل على عظيم أهمية الشكر وحسبك أن تعلم أن الله أمر به دؤواد وآله قال جل ذكره ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور) قال أهل العلم لما أمرهم الله بقوله أعملوا آل دؤواد شكر ما خلا بيت دؤواد ساعةً من نهار من رجل قائم يصلي لله جل وعلى إذعاناً للأيه والأمر الرباني الذي أمرهم الله جل وعلى به فورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع رجلاً يقول من دعائه اللهم أجعلني من الأقلين فتعجب لها عمر وقال للرجل ما هذا قال يا أمير(56/4)
المؤمنين إني رأيت الله جل وعلا يقول في كتابه ( وما أمن معه إلا قليل ) ويقول في كتابه ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلاٌ ماهم ) وريت الله جل وعلى ( وقليل من عبادي الشكور ) فدعوت الله أن يجعلني من هؤولاء القله
هؤولاء وإن كانوا قله في الناس إلا إنهم عند الله جل وعلى في المنزلة العظيمة والمقام الأرفع يقول ربنا جل وعلى ( وسنجزي الشاكرين ) ثم حسب أن تعلم في قول الله جل وعلى ( وسنجزي الشاكرين ) أن الله كثيراً ما يذكر بعض مننه وفضله ووعدة لعبادة إلا أنه يقيد هذا الفضل وهذا المنه بمشيئته يقول ربنا ( يرزق من يشاء ) ويقول ربنا ( يغفر لمن يشاء ) ويقول ربنا ( فيكشف ما تدعون إليه إن شاء) إلى غير ذلك من ماهو ظاهر في الكتاب إلا الشكر فإن الله جل وعلى قال فيه ( وسنجزي الشاكرين ) فجعل لهم الإنعام المطلق غير المقيد بمشيئه وهذا من أعظم الدلائل على منزلة الشاكرين عند ربهم وأعلموا أيها المؤمنون أن الشكر ضده الكفر اذا اطلق وهناك شكر خاص يسمى شكر النعمه وضده كفر النعمه فأما الشكر الأول فإن ضده الكفر الأكبر المخرج والعياذ بالله من المله أما الثاني وهو كفر النعمه فإنه ليس مستلزماً أن يكون كفر النعمه موجباً لخروج العبد من المله وإننا قبل أن ندخل في الشكر وقواعده و أموره نقول إنه لن يعلم أحد أهمية الشكر ومنزلة الشاكرين ويدرك عظيم أهمية شكره لربه حتى يعلم يقيناً مأل الكافرين الذين كفروا بنعم الله جل وعلى فإن هذان الأمران يعرف أحدهما بالأخر فإنك إذا تأملت أحوال من أنعم الله عليهم وفضلهم في جملة التفضيل فقابلوا نعم الله بالجحود والكفران ورأيت ما ألوا إليه وما حالة به أحوالهم وما أنقلبوا إليه من زهرة زئله ونعمة حائلة عرفت تماماً يا أخي أن الشكر النعمه العظمى التي ينعم بها الله جل وعلى على عباده(56/5)
فمن الباب الأول وهو الكفر البواح النمرود أنعم الله عليه بالملك وأتاه الله جل وعلى السلطان فقابل نعم الله بالجحود والنكران قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )
فرعون أقام موسى عليه الحجة وبين له فضل الله جل وعلى عليه لكنه قابل نعم الله بالكفر الأكبر قال ياموسى اليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلاتبصرون وكان قومه قوماً خفيفي العقول قال جل وعلى ( فاستخف قومه فأطاعوه , إنهم كانوا قوماً فاسقين ) فكان مأله أن أغرقه الله جل وعلى في اليم ونبذه وجنده وكان مأله أن جعله الله عبرة لمن يأتي بعده ويكون آية لمن جاء بعده من الملوك وسائر الناس . كذلك قوم سباء فإن الله جل وعلى أفاض عليهم النعمة وجعلهم في زرع وضرع حتى إن المرأة منهم كانت تضع مكتلها على رأسها وتمشي في الحدئق الغناء من كثر نضج الثمر يسقط مباشرة دون أن تتناوله المرأة بنفسها فكانوا أول أمرهم على التوحيد فلما أعرضوا عن الرسل وكفروا بالله وجحدوا آياته أنقلبت تلك النعم نفماً لأنه لايحول بين سخط الله وبين من يقع عليهم السخط أحد ( قل إنه لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ) يقول جل ذكره مخبراً عن حاله ومذكراً جاعلاً العبرة لغيرهم ( لقد كان لسبإٍ في مسكنهم أيةٌ جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدةٌ طيبةٌ ورب غفورٌ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أُكُلٍ وأثلٍ وشئٍ من سدرٍ قليل ذالك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ) إن العبد إذا عصى الله هان على الله ومتى أطاع العبد ربه أعزه الله جل وعلى
رأى الحسن البصري قوماً يعصون ربهم فقال تلك الكلمه البليغة قال : هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم .(56/6)
فإن الله إذا أحب عبداً عصمة عن السيئة وإذا هان عليه أنسلخ ذلك العبد في المعاصي وأنفرط فيها وأخذ يأتيها ليلاً ونهاراً والعياذ بالله دون أن يعصمه الله جل وعلى لأنه ليست له عند الله منزلة هذا من كفر النعم
ومنه كذلك القرشيون فقد كان لهم رحلة الشتاء والصيف في عزٍ ومنعة يأون إلى البيت وقد أمنهم الله جل وعلى من الجوع وأمنهم من الخوف فلما بعث الله فيهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا بأيات الله قال الله جل وعلى ( وضرب الله مثلا قرية كانت أمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله ) فلما كفرت ليس بين الله وبين أحدٍ من خلقه نسب
هانوا على ( فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) حتى إنهم لما دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه سنيك سني يوسف كان أحدهم من شدة الجوع يرى في السماء كهيئة الدخان وليس في السماء شي من فرط جوعه وخوفه ووجله مما أصابهم لما كفروا بربهم تبارك وتعالى(56/7)
المعتمد ابن عباس أحد ملوك الطوائف في الأندلس كان هذا الرجل أتاه الله جل وعلى الملك في أشبيليا وكان طاغية حتى إن حدئق قصره نصب فيها أعوادة وقتل الملوك والقواد والشجعان الذين كانوا أقرانه في ذلك العصر ثم جعل جماجمهم على تلك الأعواد وجعلها كالأعواد فكان الداخل إلى قصره إذا راى تلك الجماجم غزع قلبه هيبةً وخوفاً من المعتمد حتى إن أحد أبنائه أراد أن يغتاله أو حاول في قضية إغتياله فقتله وسلمه إلى غيره من الشواب وهو ابن له بل بلغ من طغيانه أنه كان يعلم أن رجلاً ضريراً مكفوفاً لايرى عنده مالاً وفير فسلب ماله ونفاه من إشبيليا فتوجه ذلك الرجل إلى مكه وأخذ يدعوا الله على المعتمد فلما علم المعتمد وهو في بلاد الأندلس أن ذلك الرجل يدعو عليه فبعث إليه بدنانير مسمومه وأمر الرجل أن يوصلها إلى ذلك الرجل الضرير فلما أُعطي ذلك الرجل تلك الدنانير تعجب من الموقف وقال سبحان الله يظلمني في الأندلس ويصلني في مكه وكان عادة الأضراء في ذلك العصر أنهم كانوا إذا أعطوا دنانير أن يضعوها في فمهم حتى يتأكدوا أنها ذهباً خالص فهذا المسكين على غفلته كان يمضغ الدينا تلوى الدينار ليتأكد من
كونه ذهباً خالص وهو لايعلم أنه مسموم فلما أصبح توفي من أثر السم .
بل أن المعتمد شكت إليه زوجته ذات يوم وبناته انهن يردن ان يمشين في الطين وهن بنات ملوك لا يعقل ان يخرجن الى الشارع فيمشين في الارض الموحلة الممطره فشرى لهن
(مسك وعنبر وكافور وذهب وفضه)(56/8)
ثم خلطها في حدائق قصره ثم امر نسائه وبناته ان يطأن عليها في يوم العيد حتى يظهر للناس عزه بعد كل هذا سلط الله عليه أحد الملوك يقال له يوسف ابن تاشفين فتسلط عليه وسلبه ملكه وقاده مقيداً في الحديد إلى سجن في بلدةٍ يقال لها أغماس فمكث في السجن لايرى أمامه إلا ظلمات الليل وقيود حديده فدخل بناته عليه في يوم العيد وكان العيد يمر عليه في تلك الأيام وهو في عز ومنعة وبناته في مسك وعنبر وذهب وفضة ودخلن بناته عليه وهن في أطمارٍ باليه قد تكففن الناس يسألهن الحوائج بعد ذلك الدهر الذي عاشوه فلما رأهن قال ...
فيم مضى كنت بالاعياد مسرورا **** فسأك العيد في أغماس كنت مسرورا
افطرت في العيد لا عادت اساءته **** فكان فكرك للأكباد تفطيرا
ترى بناتك في الاطمار جائعة **** يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والاقدام حافيةُ **** كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملكٍ يسر به **** فانما بات في الاحلام مغرورا
وكذلك العباد من عصى الله لم يبقى بينه وبين الله نسب ومن أطاع الله وهو في العز المنيع
الصديق ابو بكر رضي الله تعالى عنه بعث وفداً إلى اليمن فمروا على طريقهم على ماء من مياه العرب وإذا في ذلك الماء عيون تجري ونساء يضربن بالدف ومواشيٍ لاحصر لها وأقوامٌ في لهو ومرح وعبث وجاريةٌ قابضةٌ على دفٍ لها تضرب عليه وتقول :
معشر الحسادِ موتوا كمدا
كما نكونوا ما يقينا أبدا(56/9)
فأستضافهم صاحب الماء وأكرمهم وأعتذر إليهم أنه مشغولٌ في عرس ثم توجهوا إلى اليمن وقضوا شئونهم فلما كانت خلافة أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه بعث وفداً إلى اليمن فكان في الوفد من كان في الوفد الأول في عهد أبي بكر فلما مروا قال أولئك الذين مروا في الوفد الأول فلنمر على أولئك القوم فلما مروا لم يجدوا إلا دياراً خرباً وعظاماً قد هرمت ووجدوا إمرأة عجوزاً قد عميت وحيدة تأوي إلى نقبٍ في تل فلما سألوها عن ذلك الحال أخبرتهم بتغير احوالهم وانهم أنقضوا إلى فناءٍ ووبالاٍ ودمار فسألوها عن ذلك العرس قالت ذلك العرس كان عرس أختي وأنا التي كنت أضرب على الدف فأرادوا أن يأخذوها معهم ليكرموها فقالت إنني يعز علي أن أفارق تلك العظام ثم مالبثت أن نزعة نزعاً شديداً وماتت بين تلك العظام فدفنوها إلى جوارها
جعفر البركمي الكل يعلم عن البرامكة كان لهم الحول والطول في دولة بني العباس في أيام المهدي والسنين الأولى من خلافة هارون الرشيد رضي الله تعالى عنه حتى كانت المسأله التاريخيه المشهورة في نكبة البرامكة
أم جعفر كان في يوم العيد حولها أربع مئة وصيفة يسألنها ماذا تريد يطفن حولها يلبين لها أغراضها وشئونها وحاجاتها وهي مع ذلك كله غاضبةً على إبنها جعفر تضن أنه عاقٌ لها لأن أربع مئة وصيفه لايكفين في نظرها . لما حدث ما حدث من نكبة البرامكة أخذت تلك العجوز تطرق أبواب الناس في عيد الأضحى وتطلب من الناس جلد خروف حتى تستتر به من البرد فأنظروا إلى الحال كيف أنقلبت والسبب وأحد لاغيره الكفر بنعم الله جل وعلى(56/10)
الوليد ابن المغيرة أعطاه الله جل وعلى أربعة عشر ولداً على الأظهر وأتاه الله جل وعلى زروعاً زضروعاً في مكه والحجاز والطائف وغيرهن وأتاه الله جل وعلى من الجاه العريض في قريش فكان يأمر وينهى ويصول ويجول في أنديتها فلما بعث الله خاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه أبى هذا الرجل إلا أن يكفر فكان قول ربنا في حقه ( ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالاً ممدودا ثم يطمع أن أزيد كلا ( لما ) إنه كان بأياتنا عنيدا ) ثم قال الله جل وعلى في أخر الآيه ( سأصليه صقر وما أدراك ما صقر لاتبقي ولاتذر ) قال أهل العلم لاتبقي لحماً ولاتذر عظماً ولا دماً ( سأصليه صقر زما أدراك ما صقر لاتبقي ولاتذر عليها تسعة عشر ) ونعود ونكرر في التبصير والتذكير والسبب عصيان الله جل وعلى وقصة الوليد داخلة في الكفر الأكبر أما قصة المعتمد فإ الأظهر إنها داخله في الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر المخرج من المله
هذه أحوال بعض من عصى الله جل وعلى فكان تبدل حالهم إلى ما ألوا إليه لما عصوا الله جل وعلى وهنا يظهر للعبد قيمة الشكر وأهميته ولما طالب الله جل وعلى العباد به
ثم نقول أيها المؤمنون ...
ان للشكر قواعد خمسة أولهن _ خضوع الشاكر للمشكور أي الخضوع لله جل وعلى وحبه تبارك وتعالى والثناء عليه والتحدث بنعمه وألاتستعمل تلك النعم بما يكره . الخضوع لله وحبه جل وعلى والثناء هليه والتحدث بنعمه والأتستعمل تلك النعم في ما كره وحرم تبارك وتعالى
فهذه القواعد الخمس هي على الأظهر أجمع ماقيل في قواعد الشكر فمن أخل بواحد منهن فقد أخل بقاعدة من قواعد شكر رب العالمين جل جلاله(56/11)
إلا إنه ينبغي أن يعلم أن الشكر منه شكرٌ مستديم وشكر خاص فأما الشكر المستديم فهو ما يكون فيه المؤمنون دئماً وأبداً في شكرهم لله جل وعلى قلبٌ شاكر ولسانٌ ذاكر . عين مهراقه . وقلوبٌ خفاقه . ولذلك لما رأت أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها رسولتا صلى الله عليه وسلم وقد تورمت قدماه من طول قيامه في الليل بين يدي ربه جل وعلى يدعوه ويناجيه ويستغفره ويرجوه قالت له يارسول الله ألم يغفر الله لم ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال إمام الشاكرين صلوات الله وسلامه عليه ياعائشه أفلا أكون عبداً شكورا فهذا داخل في عموم الشكر المستديم الذي الذي ينبغي أن يكون عليه حال كل مؤمن
إذا ما الليل أظلم كابدوه * * * فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا * * * وأهل الأمن في الدنيا هجوع(56/12)
فلا تخلوا يا أخي من ساعة إنا أن تذكر فيها ربك وإما أن تتلوا فيها آياته أو تناجي فيها ربك وتدعوه أو أن تستغفره جل و على من ذنب سابق بك أو أن تقدم فيها شيئاً من الأعمال الصالحة صلاة أو إستغفار أو صدقة أو بر أو صلة رحم أو ما إلى ذلك فالأعمال هذه كلها فرئضها ونفلها واجبها ومندوبها داخل في عموم شكرك لرب العالمين جل جلاله ولذلك إذا تأمات أحوال العباد الذين يعلمون أنهم سيقفون بين يدي ربهم جل وعلى رأيتهم قد أنصرفوا عن الدنيا وزينتها إلة ما يقربهم من الله زلفى من صالح الأعمال إن تحدثت عن الدنيا أعرضوا عنك وإن تحدثت عن الله والأخرة والمعاد أحالوا إليك أبصارهم واصغوا إليك أذانهم علهم أن يضفروا بكلمة يتقربون بها إلى ربهم جل وعلى حتى يكونون يوم القيامة مِن من قال الله فيهم ( إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) وستقال هذه للمؤمنين من عباد الله جل وعلى فهذا الشكر المستديم واجب في حق كل فرد لأنني يا اخي لوتفقدت نفسي أو تفقدت نفسك أو تفقد كل مؤمن نفسه سيجد أنه لن يخلو من أمرين إما خير فيه ولو قل نشره الله جل وعلى بين الناس يعلمونه عنه وإن كان نذراً يسير
والأمر الثاني أن يكون فيك ذنب لايعلمه الناس عنك ومن منا إلا وله ذنوب لايعلم عنها أحد سترها الله جل وعلى عليه فأنت بين نعمتين عظيمتين بين ذنب مستور وبين خير منشور(56/13)
قيل للثوري سفيان رحمه الله تعالى كيف أصبحت قال أصبحت مابين نعمتين عظيمين مابين ذنب مستور وخير منشور وهذان أمران يحتاجان إلى شكر مستديم على الشكر فإنك لن تكافئ الله جل وعلى على فضله وإحسانه وكن سددُ وقارب والإستقامة هذه التسديد والمقاربه وإلا لن يدخل أحد الجنه بعمله ولكن الأمر أولاً وأخيراً رحمة الله جل وعلى لك وقضية أن تشكر الله نعمة تحتاج إلى شكر وقد ورد في الأثر أن داؤود عليه السلام لما أمره الله تعالى أن يشكره قال ربي كيف أشكرك وشكري لك يحتاج إلى شكر فأوحى الله جل وعلى إليه الأن عرفتني يا دؤود بل إنه من أعظم ما يكون به الشكر المستديم أن يكون هذا اللسان رطباً بذكر الله جل وعلى بكرةً وعشيه
جاء في الأثر أنه من شكر دؤود لربه أنه كان يقول الحمد لله كما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله فأوحى الله إليه لقد أتعبت الملائكة الحفظة يا دءود كان يقول الحمد لله كما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله وفي صحيح السنه عن المعصوم صلى الله عليه وسلم من الاذكار المطلقة والأذكار المقيدة ما يغني عن كل ذكرٍ ضعيف أو كل ذكرٍ لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم(56/14)
يقول عليه الصلاة والسلام ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ) فبين صلى الله عليه وسلم أن أفضل الذكر ما أصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده فيقول الله جل وعلى عن ذكر أهل الجنه ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وأخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) فالإكثار من النوافل واللهج بذكر الله جل وعلى والتحدث بنعمة إن البعض غفر الله لنا ولهم قد يبيت ليله نصف ساعة من الليل مسأوماً من ألماً أحل به فلما يصبح ويسأله الناس كيف أنت يقول إن سمحتوا باللهجات العاميه يقول خليها على الله طول الليل ما نمت من يوم ما حتى أذن الفجر وأنا كذا أو كذا أو كذا يذكر ألماً فيه بات يحفظه الله جل وعلى ويكلئه الله ويصبح يشتكي الله جل وعلى على خير
يا أخي إن الذي تشتكي إليه فقير مثلك ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنه ولا تحويلا اولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيله ايهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا) وإن كانت الآيه لأي سبب في هذا ولكن الإستشهاد هنا من باب المشاوره من باب أنه يحرج في أمر فيخبر أنه كان مريض من باب إظهار عذر هذا لابأس به الرجل يحادث زوجته يحادث خليله إما أن يكون دأب الإنسان وهمه أن يمشي في الناس فيخبر بكثرة ديونه وكثرة أسقامه وأنه لم يجد وظيفه فيشتكي إلى زيد وعمر
لاتسألن بني أدم حاجة **** وسل الذي أبوابه لاتحجب
فا الله يغضب إن تركت سأله **** وبني أدم إن سألته يغضب(56/15)
إفزع إلى الله جل وعلى وأعلم أنه من شكر الله جل وعلى أن تدنِ عليه تبار وتعالى بما هو أهله وأن تحسن ذكره بين الناس حتى يحبُ ربهم جل وعلى فإنني إذا أنا أثنيت وأنت أثنيت والأخر أثني على الله بالنعم احب الناس خالقهم ( يا أيها الإنسان ماغرك بربك الكريم ) فكان الله جل وعلى يعدد نعمة الله ( الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورةٍ ماشاء ركبك ) فكذلك المؤمن إذا مشوا بين الناس حدثوا بنعم الله جل وعلى والتحديث بنعمة الله له ضربان الأول أن تتحدث بالنعم على الإطلاق وهذا لاقيد فيه أن تقول مثلاً نحن في هذه البلاد نعيش في رزق وفير أو نحن في هذا الحي يكثر المصلون في المسجد وما إلى ذلك مما لا ينسب إلى شخصك شي إما ما ينسب إلى شخصك فإن له تقيداً على ما ندين الله به تحدث به حتى لايفهم منه الرياء ولاتزكية النفس بالوجه الذي تكون من وراءه مصلحة شرعية فيقول لك بعض الناس والله أنا نفسي أتصدق لكن أخاف إذا أنفقت أن تنتهي أموالي فتخيره تأتي له بالأدله تعارض هذا ثم تخبره أنك تنفق ولله الحمد وأنت في سعة من الرزق فهذا تحدث بنعم الله مقيد بوجود مصلحة هي أنها تجعل غيرك من الناس قادر على الإنفاق وهذا كله داخل في عموم الشكر المستديم أما الشكر الخاص فإن الله جل وعلى له نعم على عباده نعم يستوي فيها الأبرار والفجار فنعمة جمال الخلق وحسن الهيئه وجمال السوية وما سخره الله جل وعلى لعباده في البر والبحر والجو وما إلى ذلك فهذه من النعم العامه ومن النعم الخاصة على أمة الإسلام أن جعلهم الله مسلمين فقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبا لفي ظلالاٍ مبين وهذا من نعمة الله الخاصة على أهل الإسلام وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد يكون في الرجل نعمة ظاهرة على غيره فنعمة المال أو نعمة الجاه أو نعمة السلطان أو نعمة الفراغ أو ما إلى ذلك من(56/16)
النعم التي تكون مميزة للشخص في نفسه فهذه لها شكر خاص في نفسها فمثلاً نعمة المال . المال قرين الروح ولذلك جاء في القرآن كثيراً في أموالهم و أنفسهم يقرن تبارك وتعالى بين المال والنفس لان المال قوام الحياة وعماد حياة الناس وبه تتطلع الأفئدة قال الله جل وعلى ( وإنه لحبِ الخير لشديد ) فزكاة وشكر نعمة المال تكون في إنفاقه على من يستحقه يقول أبو ذر رضي الله تعالى عنه إنتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس تحت ظل الكعبه فلما رأني قال : خابوا وخسروا خابوا وخسروا خابوا وخسروا قلت من بأبي وأمي أنت يارسول الله فقال صلى الله عليه وسلم إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامه إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وأشار بيديه مابين يديه وعن يمينه وعن خلفه فالمقصود أن الإنفاق يكون به شكر ما أفأه الله جل وعلى عليك من المال وحديث السحابه بصحيح مسلم يبين عظيم مأل العبد عند ربه إن شكر لله نعمة المال فإنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بينما رجلٌ يمشي في فلاه إن سمع صوتاً في سحابةٍ يقول إسقي حديقة فلان سمى إسماً معين فتتبع ذلك الرجل السحابه فإذا هي تفرغ ماءها في الحرة تنصب في حديقة رجل واقف بمسحاته يمسح على الماء فقال ذلك الرجل الذي سمع قال للرجل صاحب المسحاه ما إسمك فقال له إسمه فإذا هو موافق للإسم الذي في السحابه فأخبره الرجل قال إنني كنت أمشي فسمعت صوت في السحابه يقول أسقي حديقة فلان بإسم قال أما وقد سألتني فإنني يعني ما ينتج من ثمار تلك الحديقة قال أقسمه بمعنى الحديث أثلاثاً فثلث أتصدق به وثلث أنفقه على أهلي وولدي وثلث أرده على الحديقة يعني أشتري به ما يكون من لوازم تلك الحديقة فأنظر إلى إكرام الله جل وعلى لهذا العبد في الدنيا فإذا كان هذا هذا إكرام الله له في الدنيا أن نودي بإسمه ترى ماسيكون مأله في الأخة ومانعيمه وما جزأه عند ربه ( فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين جزءً بما(56/17)
كانوا يعملون ) بلغنا الله وإياكم تلك المنازل فشكر المال يكون بهذا اللون كما أن من شكر المال ألاتستعمله فيما حرم الله جل وعلى وإنك إن تأملت أثرياء هذا العصر كثيراً منهم غفر الله لنا ولهم وردنا الله وإياهم إليه رداً جميلا وجدت أن لله أفاض عليهم الأموال فأستعملوها فيما حرم الله جل وعلى فمنهم من ينفقها فيما هو تضليل المؤمنين من الأفلام الخليعه والمجلات الذي تصد الشباب عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهم من يستخدمها في اللهو والعبث الذي تضحك منه عقول الصبيان فضلاً عن من أوتي الحلم والعقل من الرجال ومن ينفقه في غير ذلك ولاريب أن هذا أداء عظيم أصيب به أثرياء الأمه وأغنيائها وإن حق الله جل وعلى عليهم في هذا المال الذي هو أصلاً مال الله الذي أستعمله فيه فليتقوى الله جل وعلى فيما بين يديهم في فضول الأموال وأن يتقوى الله في الفقراء والمساكين أقل القليل إن كانوا أشحة مانعين للخير لايعطون الفقراء ألايستعملوه فيما حرم الله جل وعلى فيكون عليهم وبالاً يوم القيامة لن تزول قدم عباً يوم القيامه حتى يسأل عن أربع ومن تلك الأربهع أن يسأل عن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه غفر الله لنا ولهم بأي لسان سيجيبون رب المعاد فشكر المال شكرٌ عظيم يحتاج إلى الإنسان ان يوطن نفسه فيه(56/18)
كذلك من الشكر شكر الله على السلطان الظاهر لاريب أن الملك والأماره والمناصب العالية نعمة من الله وفضل فالله يؤتي ملكه من يشاء وينزع الله جل وعلى ملكه عن من يشاء فحق على من أتاه الله جل وعلى ملكاً أو آمارة أو رئاسةً أو منصباً إدارياً عظيماً أو حقران يستعمله فيما يرضي الله جل وعلى وقبل أن يظلم عباد الله يتذكر قدرة الله جل وعلى عليه فإنما من تذكر قدرة الله عليه أحجم عن ظلم عبادة وأحجم عن البطش بهم أو عن منعهم حقهم أو عن هلاك أموالهم أو عن فساد حياتهم فلذلك حري بالمؤمن الذي أوتي السلطان أن يتقي الله جل وعلى فيما أتاه وليعلم أن ها نعمة من الله يبتليه بها ويختبره فيها فإن كان خيراً فلنفسه وإن كان شراً فمرده على نفسه أيضاً
كذلك من النعم الظاهرة التي ينعم الله جل وعلى بها على عباده نعمة العلم والجاه وهده النعمه تحتاج إلى شكر عظيم أولاً أن لايظن أحد أن ما يقوله من علم وما ينشره بين الناس من فضل وعلم شرعي ان هذا من إجتهاده وتعبه وحرصه بل هو أولاً وأخيراً فضل الله جل وعلى عليه فلو شاء الله أن يسلبه إياه لفعل ( وما بكم من نعمة فمن الله وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها ) والجاه والعلم يقتربان كثير لان الرجل إذا بسط الله له في العلم وصدره في الناس أحبه الخلق فقدموه في أمورهم وصدروه في شئونهم(56/19)
ولذلك دخل عطاء ابن ابي رباح ذلك العالم الرباني الذي عاش في العصر الأموي عاش من العمر مئة عام حج منها رحمة الله عليه سبعين حجة وكان على هيئة دنينتن جداً على هيئته الخلقيه ومع ذلك مات يوم أن مات كان أرضى الناس لله أحب الخلق إلى الناس في ذلك العصر كان عطاء ابن ابي رباح دخل هذا العالم الرباني بجاهه وعلمه على الخليفة الأموي هشام ابن عبدالملك فأكرمه هشام لما يرى من إكرام الناس له وأجلسه على سرير ملكه ثم قال له يا أبامحمد سلني حاجتك قال يا أمير المؤمنين أهل الحرمين تعطيهم حقوقهم فقال هشام ياغلام أكتب لاهل الحرمين حقوقهم قال يا أبا محمد سلني حاجتك قال يا امير المؤمنين أهل الحجاز وأهل نجد مادة العرب وأصل الناس رد عليهم فضول أموالهم فقال يا غلام أكتب لأهل الحجاز وأهل نجد بأن ترد عليهم فضول أموالهم قال يا أبا محمد سلني حاجتك قال يا أمير المؤمنين أهل الثغور إنهم يصدون عنكم أهل الكفر وشرار الناس أعنهم على حياتهم فإن في أهلاكهم هلاك الناس قال يا غلام أكتب لأهل الثغور بأن يعطوا كذا وكذا قال يا أبا محمد سلني حاجتك قال يا أمير المؤمنين أهل الذمة لايكلفون مالايطيقون ولا تخفر فيهم ذمة محمد صلى الله عليه وسلم قال يا غلام أكتب ألايكلف أهل الذمة مالايطيقون فقال يا أبا محمد سلني حاجتك قال يا أمير المؤمنين أتقي الله في نفسك وأعلم أنك تموت وحدك وتبعث وحدك وليس معك مما ترى أحد فأنكب هشام على الأرض يبكي وهو ينكت الأرض بعود كان في يديه ثم خرج عطاء قال أهل العلم والله خرج من عنده وما شرب من قصر الخليفه قطرة ماء فلما وصل إلى خارج القصر تبعه حارس من حرس هشام بصرة فيها دنانير فقال إن أمير المؤمنين أهدى إليك هذا فوضعها في كف الحارس وقال هيهات ( وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين )(56/20)
فهذا عالم رباني يضرب مثلاً لعلماء الأمه ولدعاتها ولأهل الجاه فيها كيف يكون دخولهم على الملوك والأمراء والسلاطين ويبين لهم كيف يشفعون للناس وكيف إذا طلبوا منهم أن يذكروا حوئجهم أن يذكروا يذكروا حوئج المستضعفين من الناس الذين غالباً لايستطيعون أن يصلوا بشؤنهم وأخبارهم وحوئجهم إلى الناس فهذا من شكر الله جل وعلى على نعمة العلم ونعمة الجاه كما أن من شكر نعمة العلم أن يسعى العبد بين الناس يعلمهم ويرشدهم ويدلهم على طريق الحق والصواب يرجون بذلك الله والدار الأخرة
نعمت الصحه والفراغ العباس ابن عبدالمطلب حبيب إلى نبينا صلى الله عليه وسلم فهو عمه فلما قال له يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يسأل الله قال يا عماه سل الله العافيه وإنك يا أخي لن تدرك نعمة العافيه حتى ترى مريضاً قد أقعده المرض هناك تعلم عظم نعمة الله جل وعلى عليك فكم على تلك الأسره من أخوة مقعدين بعضهم لايستطيع أن يقضي حاجته وبعضهم لو سألته عن حاله لما أستطاع أن يجيبك أشار إليك إشارة بل بعضهم والله لايستطيع أن يشيرإليك حتى بيديه والله لقد زرت مستشفى العنايه التأهيليه فرأيت فيه والله مايشيب له الولدان والله رأيت مضغة من اللحم ليس فيها من معالم الخلق شي إلا أنها تتنفس فقط(56/21)
في قسم الأطفال في ذلك المستشفى ورجال وشباب على الأسرة أسألهم عن حالهم والله لايردون جواباً لاترى فيهم إلا النفس يخرج ويدخل بل إنني رأيت فيها طفلة تبلغ من العمر إن لم أنسى قرابة ستة سنوات كأنها كان أثر مافيها من شأن كهربه أو ما شابه ذلك فكل ما فيها ذهب إلا النفس فهي نائمة على الفراش يتعامل معها الممرضون والأطباء كما نتعامل مع الآله يغسلونها ويمسحونها ويتركونها على ماهي عليه لاترى ولاتسمع ولاتتحرك لو أتيت وحركت إليها هكذا لعدت بعد سنين وجدت اليد كما هي ثم تردها أنت بنفسك هكذا فتتجاوب معك ولا ترى منها إلا النفس إلا أن الذي حرمها نعمة الحركه قادر على أن يحرمنا إياها ولكنه فضل الله جل وعلى علينا كما قال نبي الله سليمان
( قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر و من شكر فإنما يشكر لنفسه و من كفر فإن ربي غني كريم )
فحق لأقدام عافاها الله أن تسعى للمساجد بكرةً وعشيةً وحق لجباه عافاها الله أن تعفر وجهها لله ذلاً وإذعاناً تبارك وتعالى وحقاً ليدين عافاها الله أن تسأل الله جل وعلى ببطون أكفها بكرةً وعشيةً ومالها ذلك فإن نعمة العافيه نعمة عظيمه لايفقهها كثير من الناس ومع ذلك تجد الرجل متكئاً في بيته على وسادته ينظر إلى تلفازه ويخبر عن ملله وسأمته وطفشه سبحان الله ألا يقر أولئك بالموت ربنا جل وعلى يقول لنبيه
((56/22)
فإذا فرغت فأنصب ) ماذا ( فإذا فرغت فأنصب ) أنصب بين يديه قائماً بين يدي الله جل وعلى تضرع إليه نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحه والفراغ فإذا كان الله جل وعلى أتاك متسع في الوقت وعافيه في البدن فحري بك أيها الأخ المؤمن وأيتها الأخت المؤمنه أن تجعلوها لله جل وعلى ( قل إنى صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لاشريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )إذ كان أحد السلف يطوف الليل كله يردد أية واحده ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء مايحكمون) فإنه لابد من لقاء الله وهذا كله داخل في عموم شكر العبد لنعمة الصحه ونعمة العافيه(56/23)
كذلك أيها المؤمن من النعم التي ينعم الله جل وعلى بها على عباده أن يأتيه الله جل وعلى كثرة في الولد فينعم عليه بالبنين والبنات ولاريب أن هذه النعمه قد حرمها البعض إبتلاء من الله لهم وأوتيها البعض فشكر هذه النعمه العظيمه يكون بتربية الأبناء والبنات على منهج الله جل وعلى لاتتركهم أمام أمر محرم وتقول كما يقول أهل الضلاله والتفاهه صغار ثم يكبروا جهلاء ثم يرشدوا وما إلى ذلك من العبارات كمن يضع راحلته أو دابته في الطريق فيقول على الله توكلت ولما يعقلها ولم يقم بالأسباب الدنيويه في حقها إنا نعمة الأبناءونعمة البنين من أعظم نعم الله على عباده ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين وأجعلنا للمتقين إماما أمدكم بأموال ) إلى غير ذلك مما يعدد الله فيه عظيم نعمه هذه الآيه فأول الأمران تختار له الإسم الحسن ثاني الأمران تحرص على أن تأدبه بأداب الشرع وهدي محمد صلى الله عليه وسلم وآداب الدين المطهر تجعل حب الله إليه أحب إليه من حب كل أحد وأن تجعله قريباً من ربه خذه معك إلى المساجد قربه من حلقات العلم قربه من الصحبه الصالحه إحرص على أن تبعده مما يكون مخالطتهم بعد عن الله وكفر به ومعصيه له جل جلاله إلى غير ذلك مما لايخفى على أحد مما لايتسع المقام إلى الإستطراد فيه فإني أئمي إيمائاً وأشير إشارة مراعاه للوقت بقي أن نبين أيها المؤمنون أن من شكر الله جل وعلى أن يحرص الإنسان على شكر الله فإن الإنسان إذا أُسدي إليه معروفاً حري به أن يكافئ صاحب ذلك المعروف فقد جأت السنه بهذا من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ولقد كان العرب يميزون الحر من الناس اللئام بمقدار مايكافئون به من صنع إليهم صنيعاً أو معروفاً ونبينا صلى الله عليه وسلم قدوة في كل خير فإنه لما ذهب إلى الطائف يدعو قومها وكان ما كان من رد أهل الطائف له وعاد صلوات الله وسلامه عليه إلى مكه منعته قريش أن يدخل مكه فأرسل إلى الأخمس أبن عري(56/24)
فرفض ثم أرسل إلى سهيل ابن عمرو فأخبره أنه لايجير على كعب ابن لؤي فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم ابن عدي فلما بعث إليه لبى ندئه وإجابته وقال لمن بعثه صلى الله عليه وسلم قل له فليئت فبات صلوات الله وسلامه عليه كما أخبر أهل السير في بيت المطعم ابن عدي تلك الليله فلما أصبح غدى إلى البيت وطاف حوله والمطعم ابن عدي معه بنوه سته أو سبعه قد دفعوا سيوفهم يحيطون بنبينا صلى الله عليه وسلم حتى أتم طوافه وجاء أبو سفيان وكان يوم إذ مشرك فقال للمطعم ابن عدي أمجير أنت أم تابع قال بل مجير قال إذاً لانخطئ ذمتك فهذا معروف أسداه المطعم ابن عدي رغم أنه كان مشرك لرسولنا صلى الله عليه وسلم فلما كان بعد الهجره وأظهر الله دينه وأعز محمداً صلى الله عليه وصحبه في يوم بدر وكان من نتائج تلك المعركه أن وقع الأسرى في يدي المسلمين قال صلى الله عليه وسلم يخبر عن جميل المطعم ابن عدي وكان يوم إذ قد مات قال لو كان المطعم ابن عدي حياً وكلمني في هؤولاء القتلى لتركتهم له . يخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو كان المطعم حي وسأله فك هؤولاء الأسارى أو نحو ذلك للبى له طلبه رداً لصنيعه ومعروفه الذي قدمه له في الأولى ولذلك قالت العرب
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته **** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا(56/25)
فمن صنع إليك المعروف وإن قل فكافئوه وأشكروه له فإن ذلك مندرج إن أنتم أخلصتم النيه في شكر الله جل وعلى وقد قال إن إحداء سادات العرب وكان يسمى كعب ابن سعدي كان سيداً في قومه فحسده أقرانه وذهبوا إلى حطيئه الشاعر فقالوا له أهجوا لنا كعب قال كيف أهجوا رجلاً ليس في بيتي إناءٌ إلا منه فذهبوا إلى رجل أخر وأعطوه مالاً على أن يهجوا لهم كعب فهجاه وتعرض لأم كعب وإسمها سعدى فبعث كعب في طلبه فرسانه من أهل قبيلته فأضحى ذلك الرجل يستجير بأحياء العرب كلما دخل على دار قالوا نجيرك إلا من كعب ابن سعدى فلمى قبض عليه وكانت أم كعب من النساء الاتي كن على فرط عظيم في الزكاة فقال يا أماه إن الذي هجاني وهجاك بين يدينا في أمرتي صلبناه أو فعلنا به ما شئتي قالت يابني إنه لايغسل ذمه إلامدحه فأرسله وأكرمه فأكرمه وأحسن وفادتهثم أرسله أي تركه فحلف ذلك الرجل ألا يمدح أحداً إلا كعب ابن سعدى فقال بيته الشهير
فما وطى الثرى مثل ابن سعدى **** ولا لبس النعال ولا أحتذاها
فحالاً إذا رزق العبد الفطنة الجيده وأنتخب في من يضع معروفه كان حرياً به ألايحرم من الخير
من يفعل الخيرِ لايعدم جوازيهُ **** لايذهب العرف بين الله والناس
ختاماً أيها المؤمنون:ـ(56/26)
إننا في الوقتالذي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم مِن من إذا أبتلي صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا أذنب أستغفر فننبه أن الشكر رغم ما قلناه يحتاج إلى المزيد من القول فإن إبليس عليه لعائن الله لما أيس من رحمة الله أنبئ أنه لا هم له إلا أن يقطع ويحرم المؤمنين من الشكر ( ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) فهمه الأول والأخر ألا يجعل من عباد الله شاكرين لله تبارك وتعالى فلذالك حري بكل مؤمن ان يتقي الله جل وعلى في السر والعلن وأن يكون قلبه لله شاكراً ولسانه لله ذاكراً وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسنا الله وإياكم لباس العافية والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم ...(56/27)
(وما قدرُ الله حق قدره)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً ومًرشدا واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره واشهد أن سيدنا ونبينا محمدً عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
فُسبحانك اللهم ربنا وبحمدك ولك الحمد أنت وحدك من يجبرُ كسرنا ويجمعُ شتات امرنا ويُثبتُنا على طريق ديننا نستغفرُك ربُنا ونتوب إليك ونستعينُ بك ونحنُ نزدلفُ إليك لذكرك في بيتٍ من بيوتك .
أيُها المؤمنون
إن كل مجلسٍ فيه حكمةٌ تُنشر أو سُنةٌ تُحيى أو علمٌ يُذكر فانه مجلسٌ يفدُ إليهِ العُقلاء ويؤُمهُ الفُضلاء ولكن أعظم المجالس أثرا وارفعها درجةً واجلّها بركة المجلسُ الذي يُذكرُ فيه الله ربُ العالمين جل جلاله كما أن الله جل وعلا لا أحد مثله فانه لا مجلس أبداً كمجلسٍ يُعظمُ الله فيه ويُذكر جل وعلا الذكر الحسن ويُثنى بهِ ويُثنى عليه جل وعلا بما هو أهلهُ من المحامد ..
أيُها المؤمنون
لما كان عبدة الأوثان والعاكفون على الأصنام قد جعلوا مع الله جل وعلا شريكاً ولم يعرفوا لربهم قدرا كانت قلُوبهم تشمأزّ وأنفُسهم تنفُر إذا ذُكر غير الله قال الله جل وعلا ( وإذا ذُكر الله وحدهُ اشمأزّت قلُوب الذين لا يُؤمنون بالآخرة وإذا ذُكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )
وقال جل ثنائهُ وتباركت أسمائهُ ( وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا )(57/1)
على هذا يتبين أننا في هذا المجلس المُبارك نتفيأُ ظلال آيةٍ كريمة نعت الله جل وعلا بها مُنكراً أحوال قومٍ ساووا بين الخالق والمخلوق جعلوا الآلهة والأوثان والأصنام التي لا تُسمعُ ولا تُبصرُ ولا تنفعُ ولا تضرُ ولا تملك موتاً ولا حياةً ولا نشورا جعلوها أنداداً مع ربهم تبارك وتعالى .
قال الله جل وعلا وقولهُ الحق : ( ما قدروا الله حق قدرهِ إن الله لقويٌ عزيز ) وعلى هذا يتبين أن من علم حقيقة قدر الله جل وعلا فهو الفائزُ بجنات النعيم .
أيُها المؤمنون
هذا الشأنُِ العظيم والمنزلُ الكريم والمطلبُ الجليل لهُ شواهد تدلُ عليه كما أن هُناك قرائن تدلُ على من نئى عنه وبعُد عنه وقبل ذالك وهذا هُناك طرائق تُرشدُ إليه وتدلُ عليه وهي التي بها نستفتحُ خطابنا هذا ...
أيُها المؤمنون
من أعظم ما يُعين العبد على معرفة قدر ربه تبارك وتعالى أن يتأمل في شواهد وحدانيته ودلائل ربوبيته مُستصحباً الفطرة السليمة التي أودعها الله جل وعلا في قلب كُل أحدٍ في أن يعرف ربه ، قال الهدهد لمّا رأى قوم بلقيس يعبدون الشمس ويأنفون من عبادة خالقها قال ( ألاّ يسجدوا للهِ الذي يُخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تُخفون وما تُعلنون * الله لا إله إلا هو ربُ العرش العظيم )
فبموجب فطرته التي خلقهُ الله تعالى عليها أنكر هذا الطائرُ على بلقيس وعلى قومها أن يسجدوا لغير الرب تبارك وتعالى وإذا استصحب الإنسانُ تلك الفطرة السليمة مع ما أفاء اللهُ جل وعلا عليه من العلم مما أنزلهُ الله في كتابه وسُنة نبيهِ صلى الله عليه وسلم وتأمل في شواهد وحدانيتهِ و دلائل ربُوبيتهِ تبارك وتعالى قادهُ ذالك إلى العلم بالله ،
فالله الذي خلقنا من العدم وربّانا بالنعم وهدانا للإسلام .(57/2)
ذكر الله جل وعلا كثيراً من أخبار خلقهِ في طيات كتابهِ ، أخبر جل وعلا أنهُ حملهُم بفضلهِ في البرّ والبحر ورزقهم جل وعلا من الطيبات وما كان لهُم أن يصلُوا إلى ذالك لولا فضلهِ .
ثم أخبر جل وعلا أنهُ بأكبادهم الغليظة وأنفُسهم السقيمة وعقُولهم التي لا تعي تجدهُم عياذاً بالله إذا ركبوا في البحر فمسّهم ما يمسّوا من الضُر لجأوا إلى الله وحده فلّما أمنوا جعلوا لله وحدهُ أنداداً يعبدونها قال الله جل وعلا ( وإذا مسكُم الضُرّ ضل من تدعون إلا إياها فلّما نجاكُم إلى البر أعرضتُم وكان الإنسانُ كفُورا * أفأمنتُم أن يخسف بكُم جانب البر أو يُرسل عليكم حاصباً ثم لا تجدوا لكُم علينا وكيلاً * أم أمنتُم أن يُعيدكُم فيهِ تارةً أُخرى فيُغرقكُم ويُرسل عليكم قاصفاً من الريح فيُغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكُم علينا بهِ تبيعا )
أخبر جل وعلا انهُ يُنشىء السحاب ثم يُؤلف بينه ثم يجعله رٌُكاما ،،
أخبر جل وعلا أنهُ يحكُمُ ما يشاء ويفعلُ ما يُريد .
ومن أعظم دلائل وحدانيتهِ وشواهد ربُوبيتهِ :
أنه جل وعلا وحده من يخلُق وغيرهُ شاء أم أبى فهو مخلُوق وقد قُلنا مراراً في دروسٍ عدة أن القرآن يقوم على مبدأٍ عظيم كل من يستطيع أن يُثبت أن هناك خالقاً غير الله فليعبُد هذا لكن لا احد يخلُق إلا الله فوجب ألا أحد يُعظم التعظيم الكامل وألاّ يُعبد أحدٌ من دون الله أبدا .
على هذا أُسست دعوةُ الأنبياء صلواتُ الله وسلامهُ عليهما أجمعين
لا خالق إلا الله فبالتالي لا معبُود إلا الرب تبارك وتعالى لأنه لا أحد غيرهُ يخلُق .(57/3)
غابت هذه الحقيقة عن كفار قريش جاء العاص ابن وائل السهمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدهِ عظامٌ قد أرمت ثم نفث فيها في يومٍ رائح ثم قال يا محمد أتزعم أن ربك يُحيى هذهِ بعد ما أرى أي بعد ما أصبحت عظيماً باليا فقال صلى الله علية وسلم وهو البملغُ عن ربه قال نعم يُميتُك الله ثم يُحيك ثم يبعثك ثم يُدخلك النار فأنزل العلي الأعلى قوله : ( أو لم يرى الإنسان أنّأ خلقناهُ من نُطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مٌبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يُحي العظام وهي رميم * قُل يُحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكُل خلقٍ عليم * الذي جعل لكُم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتُم منه توقدون ) إلى أواخر سورة يس التي فيها أجلت البراهين على أن الله جل وعلا وحدهُ يخلُق وبالتالي لا يُعبدُوا ولا يُعظم التعظيم الكامل إلا هو سُبحانه وتعالى .
غايةُ الأمر :
أن يُعلم أن التأمُل في شواهد وحدانيتهِ ودلائل ربوبيته يدلُ على عظمتهِ جل وعلا وبالتالي يستقرُ في القلُوب وفي العقول أن الله جل وعلا عظيمٌ قدرهُ جليلُ الشأن تنزّه عن الصاحبة والولد وتقدّس فلم يلد ولم يُولد .
من الطرائق التي يصلُ بها المرء إلى أن يعظم ربهُ جل وعلا حق التعظيم :
التأمُل في سير الصالحين وأخبار السابقين مّمن ذكر الله جل وعلا أنهُم عرفُوا قدره وعظّمُوه تبارك وتعالى حق التعظيم قال الله تبارك وتعالى : ( إذ قالت امرأة عمران ربي إني نذرتُ لك ما في بطني مُحررا فتقبّل مني إنك أنت السميعُ العليم * فلّما وضعتها قالت ربي أني وضعتُها أُنثى واللهُ أعلمُ بما وضعت وليس الذكرُ كالأُنثى وأني سميتُها مريم وأني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )
أهلُ الله المحبون له المعظمون له يتدرجون في حظوظهم يبدأُن من الحظ المُباح ثم ينتقلون إلى أعلى الفلاح .(57/4)
هذه امرأة كان همُها أن يكون له ولد رأت طيراً يُطعمُ طيراً فحنّت إلى الولد فطرةً فسألت ربها أن تحمل فرزقها الله الولد فلّما اطمأنت على أنها رُزقت حملاً دون أن تدري أيكون ذكراً أم أنثى بدأت تتخلى عن حظها المُباح وتدرّج إلى أعالي الفلاح فنذرت ما في بطنها أن يكون للهِ ( قالت ربي إني نذرتُ لك ما في بطني مُحررا ) والمعنى حظي من الولد من بُهجة النفس والأُنس والخدمة والنُصرة لا أُريدُهُ ولا أحتاجه لكنّني أبتغي من هذا الولد أن يكون خادماً لك في بيتك فانتقلت من حظٍ مُباحٍ إلى أن تجعل من ابنها أن يكون خادماً للهِ جل وعلا في مسجدهِ .
ما يُريدهُ الوالدان من أبنائهم لا تُريدهُ تُريد من ابنها أن يكون خادماً لرب وهذا أمرٌ ليس لزاماً عليها بل قد لا يرقى إليه أحدٌ في زماننا لكن المقصود التنبيه على أن للهِ جل وعلا عباداً فطرهم الله جل وعلا على تعظيمه ومحبتهِ وعلى إيثار ربهم جل وعلا على كُل أحد فقال الله جل وعلا عنها ( قالت ربي إني نذرتُ لك ما في بطني مُحررا ) أي خالصا .
فلّما وضعت إذا بها تُصاب بالدهشة أن المولود أنثى فهو أمرٌ متوقع لكن كان انصراف ذهنها في الأول إلى أن يكون المولود ذكرا فلما كان المولود أُنثى قالت مُعتذرةً إلى ربها ( قالت ربي إني وضعتُها اُنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكرُ كالأُنثى )فلّما فاتها أن يكون ذكراً وليس هذا بيدها لجأت لشيء الذي بيدها وهو التسمية فسمتها مريم بمعنى خادمه عند الرب لمّا فات حظُها من كونهِ ذكراً ما أرادت أن يفوت حظُها من الاسم ( قالت ربي إني وضعتُها أُنثى والله أعلمُ بما وضعت وليس الذكرُ كالأُنثى وأني سمّيتُها مريم وأني أُعيذها بك وذُريتها من الشيطان الرجيم )(57/5)
هذا أنموذج ذكرهُ الله جل وعلا من بيوتٍ صالحات أصحاب أعمالٍ زاكيات كيف أن قلُوبهم فُطرت جُبلت على تعظيم ربها تبارك وتعالى وعلى هذا نقول إن التأمُل في سير الصالحين وأنباء الغابرين وأنباء السابقين ممّن زكى الله أو زكى رسُولهُ صلى الله علية وسلم يُعين على أن يُعظم المرءُ ربهُ تبارك وتعالى ويعي ما للهِ من كمال الجبروت وجلال النعوت وأن الله جل وعلا وحده الحيُ الذي لا يموت .
من الطرائق إلى تعظيم الرب تبارك وتعالى :
التأمُل والتدبُر في أسمائهِ الحُسنى وصفاتهِ العلى فإن الله يقول وقولهُ الحق : ( ولله الأسماء الحُسنى فادعُوهُ بها وذرُوا الذين يُلحدون في أسمائهِ سيُجزون ما كانُوا يعلمون )ربُنا تبارك وتعالى لهُ الاسم الأعظم والوجهُ الأكرم والعطيةُ الجزلا لا يبلغُ مدحتهُ قولُ قائل ولا يجزي بآلائه أحد .قال القُرشيون لنبيُنا صلى الله عليه وسلم يا مُحمد أُنسُب لنا ربك فأنزل الله
( قُل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يُولد )
تدبُر الأسماء الحُسنى يُعظمُ به اللهُ جل وعلا في القلب وهذا من أجل الركائز .
ومن أسمائهِ جل وعلا العُظمى الجليلة أُسم {الله } فهذا الاسم لم يتسمّى بهِ أحد حتى ممّن نازعوا الله في أُلوهيتهِ وربُوبيتهِ كقول فرعون ( أنا ربُكم الأعلى ) أو ما قالهُ النمرُود أو ما قالهُ غيرهُما منعهُم الله أن يُسلطوا على هذا الاسم العظيم الجليل فيتسمّوا بهِ .
قال الله جل وعلا على لسان الملائكة : ( وما نتنزلُ إلا بأمر ربك لهُ ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذالك وما كان ربُك نسياً ربُ السماوات والأرض وما بينهُما فاعبدهُ واصطبر لعبادتهِ )(57/6)
ثم قال جل شأنهُ وهو أصدقُ القائلين ( قال هل تعلم لهُ سميا ) أي لا أحد تسمى بهذا الاسم العظيم الذي تسمّى الله جل وعلا بهِ ولهذا صدّرهُ الله جل وعلا في أعظم آيةٍ في كلام الله ( اللهُ لا إله إلا هو الحيُ القيوم ) بدأت بلفظ الجلاله الذي هو علمُ الأعلام وفي فواتح آل عمران
( ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحيُ القيوم )
ومن هنا ذهب بعضُ العلماء إلى أنهُ اسمُ الله الأعظم وليس المقامُ مقام بسط لكن إخبار بعض أسماء الله الحُسنى وصفاتهِ العُلى .
ألا وإنّ من أسماء الله الحُسنى وصفاتهِ العُلى { الحي القيوم} وهذان الاسمان جاء ذكرهُما سوياً في كلام الله في ثلاثة مواضع في فاتحة آل عمران ومن قبلها في آية الكُرسي ومن بعدهما في سورة طه وأما يُمكن أن يُقال حول معناهُما :. فإن الله جل وعلا حيٌ حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال وأنهُ تبارك وتعالى هو الحيُ حين لا حي وهو الحي يُحي الموتى .
أمّا القيوم فكُلُ أحدٍ غير الله فقيرٌ إلى الله والله جل وعلا غنيٌ عن كُل أحد ربُنا جل جلالهُ مستوٍ على عرشهِ استواءٍ يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ ومع ذالك هو سُبحانهُ مُستغنىٍ عن العرش ومُستغنىٍ عن حملة العرش ومُستغنىً عمّن يطوفون حول العرش ومن يطوفُ حول العرش ومن يحملُ العرش والعرش كُلهُم وغيرهُم فقراء إليهِ تبارك وتعالى كُل الفقر
( يا أيُها الناس أنتُم الفُقراء إلى الله واللهُ هو الغنيُ الحميد ).
من الطرائق أيُها المؤمنون التي يصلُوا بها المؤمنُ إلى تعظيم الله :
أن يعلم الضعف في العباد فإن رُؤياك لنّقص في الخلق يسوقُك لأن ترى الكمال في الخالق .
شُجّ رأسُ نبيُكم صلى الله عليه وسلم يومُ أُحد وسال الدمُ على وجهه حتى يرى الناس وجه نبيهم صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهو يعتريهِ ما يعتري وجوه المخلوقين فيقعُ في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحيُ القيوم .(57/7)
يرى الإنسان النقص حتى في الملائكة يقولُ الله جل وعلا عنهم بلسانٍ مقالهم ( وما منّا إلا ولهُ مقامٌ معلوم ) ويقولُ جبريل ( وما نتنّزلُ إلا بأمر ربك ) فنحنُ وإن كُنّا ملائكةٍ كراما وخلقاً عظاما لما لنا من المنزلة والقوة فإن لنا مقام لا نتعداه وأُمور لا نتجاوزُها ولا نملكُ لأنفُسنا حولاً ولا طولاً ولا قوة حتى في تنزُلنا من السماء إلى الأرض وهي بالنسبة لهم أمرٌ هين كطرائقنا المُعتادة التي نسيرُ عليها إلا أنهُ لا يُمكنُ أن يقع إلا بأمرٍ من الله .
بل إنّ الذين يعصون ربهُم في الأرض لا يعصونهُ إلا بإذنهِ القدري جل جلاله
( ولو شاء ربُك لجمعهُم على الهُدى )
( ولو شاء الله لجعل الناس أُنةً واحدة )
( ولو أنّنا نزّلنا عليهم الملائكة وكلّمهُم الموتى وحشرنا عليهم كُل شيءٍ قُبلاً ما كانوا ليُؤمنوا إلا أن يشاء الله )
فلا الذين أطاعوهُ جل وعلا أطاعوهُ بفضلهِم ولا الذين عصوه جل وعلا عصوه بقُدرتهم ولا الذين أطاعوه زادوا في مُلكهِ ولا الذين عصوه أنقصوا شيئاً من مُلكه .
فهو جل وعلا لا تنفعهُ طاعة طائع ولا تضرهُ معصيةُ عاصٍ لهُ الأسماء الحُسنى والصفاتُ العُلى
والمقصُود أن رؤيا النقص في الخلق يدلُ العبد على كمال خالقهِ تبارك وتعالى .
يُفتن المُسلمون بنبيهم صلى الله عليه وسلم يُنصر بالرُعب مسيرة شهر يُصيبُ الوجل والخوف أعدائهُ ومع ذالك يأتيهِ الموت وهو على فراشهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ ويرى السواك فلا يقدر أن يقول أعطوني السواك يُرينا الله الضعف في نبيهِ حتى نرى كمال القوة في ربنا جل جلاله ، فإذا كان هذا حالُ سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فما بالُك بحال من دونهِ حتى تعلم عظيم قُدرة ربك جل وعلا .(57/8)
ولهذا قال الله ( ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) وقال ناعيً على أهل الكتاب ( وما قدروا الله حق قدرهِ إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء بهِ موسى نوراً وهُدى لناس تجعلونهُ قراطيس تُبدُونها وتُخفون كثيرا وعُلّمتُم ما لم تعلمُوا أنتُم ولا آباءكُم قُل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون )
والمقصُود هذهِ الحقيقة الرابعة في أن الإنسان إذا رأى النقص في غيرهُ من المخلوقين أو في نفسهِ رأى الكمال والعزة والجلال في ربهِ تبارك وتعالى .
ممّا يزيدُ المؤمن يقيناً بعظمة ربهِ :
رُؤياه لأفضال ربهِ على خلقهِ ذالك الفضلُ الخاص إن كُنّا حررنا في الأول الفضل العام بما حمل الله به الناس في البرّ والبحر يرى العبدُ فضل الله جل وعلا الخاص على بعض خلقهِ كيف أنّ الله جل وعلا اصطفاهم واجتباهم وما كان لهُم أبداً أن يصلوا إلى ما وصلوا إليهِ من العطاء ولن ينالوا هذهِ المنح الربانية والعطايا الإلهية إلا بفضل الله جل وعلا .
اختلف الناس في المسيح عيسى ابن مريم شرّقوا فيه وغرّبوا قالت فيه اليهود ما قالت ، وزعمت النصارى فيهِ ما زعمت قال الحقُ تبارك وتعالى عنه
( إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليهِ وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )
فما المسيح إلا عبدٌُ لكنهُ قيد بأن الله جل وعلا انعم عليه فنعمة الله عليه هي التي جعلته آيةً لناس مُحتفىً به في السماوات العُلى وينزلُ في آخر الزمان هذهِ كُلها عطايا ربانية ومنحٍ إلهية والله يقول
( الله أعلم حيثُ يجعلُ رسالته )(57/9)
يرى العبد ما أفاء الله على خليله إبراهيم وكيف كان إبراهيم عبدٍ مُجتبى وحبيباً مُصطفى ونبياً مُرتضى صلواتُ الله وسلامهُ عليه أثنى الله عليه حتى على ألسنة أعدائهِ وخُصومه ( ما كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مُسلما وما كان من المُشركين * إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين أتبعوهُ وهذا النبي والذين أمنوا واللهُ وليُ المؤمنين ) كُلها آيات تدلُ على عظيم قدرهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
قبل أن تُبحر في معرفة فضل إبراهيم وعلو منزلتهِ استبق إلى ذالك بأن تعلم أن الله جل وعلا هو الذي تفضل عليه ونظير هذا أن تنظُر فيمن أتاهُم الله القدرة فإذا رأيت عظيم قُدرتهم تأملت في حق قُدرة ربك جل وعلا .
قال الله جل وعلا على لسان نبيهِ سُليمان ( أيكُم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مُسلمين قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقويٌ أمين قال الذي عندهُ علمٌ من الكتاب ) سواءً كان إنسياً أو جنياً أو سُليمان أو غيرهم ( قال الذي عنهُ علمٌ من الكتاب أنا آتيك بهِ قبل أن يرتد إليك طرفُك فلّما رآهُ ) أي رأى سُليمان العرش (فلّما رآهُ مُستقرٍ عندهُ قال هذا من فضل ربي )
أيُها المُبارك :
إذا كانت قُدرةُ مخلوق أن يأتي بعرش بلقيس من أرض اليمن إلى أرض فلسطين فكيف بقُدرة الله جل جلاله .
هذا ممّا يقود العبد ويسُوقهُ إلى معرفة بعض العلم إلى ربهِ تبارك وتعالى ..(57/10)
وعلى الجناب الآخر والنظير مثله يتأمل العبد لمن أهلكهُم الله من عصوه .من الأُمم الغابرة والأزمنة السابقة من نازعوا الله في ربُوبيتهِ وحاربوا أولياؤهُ وكذبوا رُسلهُ كيف أن الله جل وعلا أذاقهم ما أذاقهم ممّا يُدلّلوا على عظيم جبروتهِ وسُلطانه ( ولا تحسبن الله غافلٍ عمّا يعمل الظالمون إنّما يُؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار ) وليس هلاكُ عادٍ وثمود والمؤتفكات وغيرهم بخافٍ على أحد حتى يُحرّر ويُسطّر لكنّها كُلها تدلُ على عظمة الجليل العظيم الأجل تبارك وتعالى ..
من الطرائق التي يعلمُ بها العبد عظمة ربهِ :
أن يتأمل في كلامهِ جل وعلا ( قُل لأن اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهِم لبعضٍ ظهيراً )
فالقرآنُ تحدى اللهُ بهِ بلاغة البُلغاء وفصاحة الفُصحاء .
قالوا إن أبي العلاء المعري الأديب اللغوي المعروف كان آية في الفهم والذكاء والحفظ يحفظُ أشعار العرب وكثيراً من مُفردات لُغتها وأيامها وتاريخها بدا لهُ لمّ وصل إلى هذهِ المرحلة أن يُنازع القرآن وأن يُنشىء قُرآناً يُباهي كلام الله فكتب أبياتً ختمها بقولهِ:
أن الموت لا يُبطىء والخُلد في الدُنيا لا يجوز ثم تذكر عظمة الله فتلا قول الله جل وعلا :
( إنّ في ذالك لآيةً لمن خاف عذاب الآخرة ذالك يومٌ مجموعٌ لهُ الناسُ وذالك يومٌ مشهود وما نُؤخّرهُ إلا لأجلٍ معدود يوم يأتي لا تكلّمُ نفسٌ إلا بإذنهِ فمنهُم شقيُ وسعيد )
فجثا على رُكبتيهِ وبكاء بُكاءً طويلاً ثم رفع رأسهُ وأخذ يقول : سُبحان من هذا كلامهُ سُبحان من تكلم بهذا في القدم.
وهذهِ شهادةٌ لها اعتبارُها لأنها جاءت من رجُلٍ يعلم حقائق اللُغة ودقائق البيان وأساليب الرعب في سبك كلامها اعترف بالعجز التام أمام كلام ربنا وتعالى وأصدق منهُ خبراً قولُ الله ( قُل لأن اجتمعت الأُنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثلهِ ولو كان بعضهُم لبعضٍ ظهيرا )(57/11)
هذهِ أيُها المباركون جُملة من الطرائق ذكرنا بعضها ولا يتسعُ الوقت لذكر أخر منها ....
ونُعرجُ بعد هذا على الأمارات والعلامات التي يغلبُ على الظن فيما يظهرُ لناس وكلُ أحدٍ مسؤلٌ عن سريرتهِ فيما يغلبُ على الظن أنها تدلُ على أن العبد يعرفُ لله جل وعلا حق قدره أو شيءٍ عظيماً من ذالك كُلهِ .
أعظمُها :::
توحيدهُ تبارك وتعالى فإنّ من وحدّ الله فقد عرف قدره وتوحيدُ الله جل وعلا الحسنةُ التي ليس بعدها حسنة كما أن الشرك السيئةُ التي ليست بعدها سيئة ولا مصلحة بعد التوحيد ولا مفسدةَ بعد الشرك فمن وحد الرب تبارك وتعالى ولم يجعل للهِ نداً في قلبهِ فقد عظّم الله جل وعلا وقد عرف قدرة .
فالمخاطبون بقول الله جل وعلا (ما قدروا الله حق قدرهِ ) هم أُولئك الذي جعلُوا للهِ أنداداً ساووا تلك الأنداد بربهم تبارك وتعالى جعلُوا من لهُ الأمر كُله كمن لا يملكُ من الأمر شيء تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيرا .
ثم تأتي بعد ذالك أُمورٌ لسلوك المرء في الحياة تدلُ على تعظيمه لربهم تبارك وتعالى ومنها على سبيل الإجمال والطريقة السردية لا الترتيب الأبجدي :
الوجل عند ذكر الرب تبارك وتعالى فإنّ وجل القلوب عند ذكر علاّم الغيوب من دلائل معرفة العبد بربهِ تبارك وتعالى وهذا كنهُ ما أثنى الله بهِ على عبادهِ الصالحين وأولياءه المُتقين في كتابهِ .
ذالك أن القلب إذا كان يجد مع محبة لذالك الذكر يفرحُ كُل الفرح ويُحبُ كل المحبة مجلساً يُعظم الله فيه ويُذكرُ الله فيه فإنّ ذكر الله حياةُ الضمائر وأُنسُ السرائر وأقوى الذخائر فالمؤمنُ إذا كان يجدُ في نفسهِ فكلُ امرئٍ حسيبُ نفسهِ يجدُ في نفسهِ حُب المجالس التي يُذكر الله فيها ويُحبُ أن يُعظّم الله ويُبجّل ويُحمد ويُثنى عليه جل وعلا بما هو أهلهُ مع وجلهِ وشوقهِ إلى ربهِ تبارك وتعالى إذا ذُكر الله هذا من القرائن والبراهين على أن ذالك العبد يُعظم الله رب العالمين ..(57/12)
كما أن من قرائن تعظيم اللهِ جل وعلا ومعرفة قدرهِ:
أن يُقدم المرء ما قدّمهُ الله وأن يُعظم المرء ما عظّمهُ الله وأن يتحرّى الإنسانُ العمل فيما وصىّ اللهُ جل وعلا بهِ هذهِ هي القلُوب التي عرفت ربها حقاً فإذا كان الإنسان قد جعل في طريقهِ في مسلك حياتهِ في غدّوهِ ورواحهِ ومُخالطتهِ لناس يُعظّم من عظّم الله ويُبجّل من بجّل الله فيُعظّمُ المُصلين لأنهُ يرى فيهم القُرب من الله بصرف النظر عمّن هم ويأتي بالوصايا الإلهية فلا يُقدّمُ على والديهِ أحدا فإذا عظّم والديهِ لا يُعظّمهُما على أنهُما أبواه وإنّما يُعظّمهُما لأن الله جل وعلا وصى عليهما في كلامهِ لأن الله جل وعلا وصى عليهما في كلامهِ.
ثم يزدلف ويُطبّق عملياً ما وصى الله جل وعلا بهِ فيجعلُ للوالدة ما لا يجعلُ للوالد ولو كانت الوالدة أشدّ قسوةً عليهِ من والدهِ ولو كان والدهُ حفياً بهِ لكنّ أُمهُ لا تصلُ في حنانها عليهِ إلى والدهِ يطرّحوا ذالك جانباً ويُقدّمُ ما قدّم الله وقدّم رسُولهُ صلى الله عليه وسلم .
ثم هذا الأمر يظنّهُ البعضُ خطاباً عارضاً لكنّهُ قرينة خفيه على أنك تُعظّمُ ربك وأنت تصدرُ إليهما تذكر قولُ الله : ( وأخفض لهُما جناح الذُل من الرحمة ) فأنت لا تخفضُ جناحك لأنهُما كبيران وإنّما تخفضُ جناحك امتثالاً لأمر ربك تبارك وتعالى تزدلفُ إليهما وقبل أن تُخاطبهُما بخطابك تتذكر أن ربك الذي خلقك وصاك بهما ولو صنعت هذا الصنيع مع والديك ومع كُل أحد وفق شرع اللهِ وأخذت بوصايا الله فإنك لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تُطيع الله فيهِ إنك لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تُطيع الله فيهِ فإنّ إتباع وصايا الله لا يقودُ إلا للفلاح .
لكن أين يكونُ الخطأ ؟؟(57/13)
يدخلُ الشكُ في المرء في أن هذا الطريق ليس بصحيح فيبحث عن طرائق أُخر يبتدعُها هو قد لا تكون بدعةٌ بمعنى البدعة المحضة ولكنّها فراراٌ عن منهج اللهِ ويُطبقُ منهجه وهو يظنُ أنهُ سيصلُ إلى مقصُودةِ ولن تصل إلى مقصُودك الشرعي إلا بالطريق التي اختصها الله جل وعلا لك وهنا يتميز من هو واثقٌ من منهج اللهِ عمّن هو غيرُ واثقٍ من منهج الله فإذا خاطب الإنسانُ والديهِ مثلاً المرة بعد المرة وخفض لهُما الجناح ولم يتغيرا لجأ إلى طريقٍ آخر يقول هذان والدان لا ينفعُ معهُما مثلُ هذا الخطاب فيبحث عن طرائق أُخر كأنهُ يقولُ ولو لم يُصرّح ودون أن يفعل ذالك عمداً كأنهُ يقول دون أن يشعُر أنني سأخططُ منهجاً أفضل من منهج الله .
يتعاملُ الإنسانُ مع ولاة أمرهِ وقد وصّاهُ الله جل وعلا بطاعتهِم فإذا رأى هنةً هُنا أو هُناك غيّر طريقته و أراد أن يخرُج عن وضع السمع والطاعة بحُجة أنهُ يُريد الإصلاح و لا يُمكنُ أن يكون هناك إصلاحٌ حق على أي مستوٍ إلا بإتباع شرعِ اللهِ جل وعلا وهذا وأمثالهُ منازل يُختبر فيها الناس وليس الأمر مقصُوراً على طاعة ولاة الأمر والوالدين لكن في شتى شؤون حياتك مع خصمك مع عدوك مع رئيسك في العمل مع جارك في الحي مع كُل خلقهِ جعل الله وصايا لكُل أحد فالزم ما وصّى اللهُ جل وعلا بهِ تنل ما وعد اللهُ جل وعلا إياك ما وعدك الله إياه أمّا إذا خرجت عن طريق الله فلا تنتظر ما وعدك الله بهِ وقد خالفت طريقتهُ ومنهجهُ تبارك وتعالى .
قالُو إنّ أمير المؤمنين عُمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مرّ على حائطٍ للأنصار ــ أي بُستان ـ وفيهِ رفاق شباب يشربون الخمر فتسلق السُور ودخل عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين جئنا بواحدة شُرب الخمر وأنت جئت بثلاث :
تجسست والله قد نهى عن ذالك ،،
تسوّرت والله قد نهى عن ذالك ،،
لم تستأذن واللهُ قد نهى عن ذالك ،،
فعاد وهو يعلمُ خطأه لكنّهُ أكبر حُجتهم لأنهُم قارعوه بالقرآن .(57/14)
قال حافظ :
وفتيةٍ أُولعوا بالراح وانتبذُوا
لهم مكانً وجدّوا في تعاطيها
ظهرت حائطهُم لمّا علمت بهم
والليلُ مُعتفرُ الأرجاء ساجيها
قالُوا مكانك قد جئنا بواحدةٍ
وجئتنا بثلاثٍ لا تُباليها
فأت البيوت من الأبواب يا عُمرُ
فقد يُذلُ من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذي الآيُ قد نزلت
بالنهي عنه فلم تذكُر نواهيها
فعُدت عنهُم وقد أكبرت حُجتهم
لمّا رأيت كتاب الله يُتليها
لوما أنفت وإن كانوا على حرجٍ
من أن يحُجك بالآيات عاصيها
إنّنا نُطأطئ رقابنا لأمر الله وأمر رسُولهِ صلى الله عليه وسلم فإن ذلّت رقابُنا لأحد فوالله ما ذلّت إلا لأن الله أمرنا بهذا وإن امتنعنا عن شيء فلأن الله جل وعلا أمرنا أن نمتنع عنه هذا هو العبدُ الحق العبدُ الصالح العبدُ الذي يعرفُ عظمة أمر سيدهِ تبارك وتعالى خالقنا ومولانا لا رب لنا غيرهُ ولا إله سواه ...
من براهين تعظيم الله :
حُسنُ الظن برب العالمين جل جلاله .
جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل ربهُ يا رب إني أراهم يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فعلامّ خُصّ هؤلاء بأن ذُكرُوا معك فأوحى اللهُ جل وعلا إليه يا موسى أمّا إبراهيم فما خُيّر بين اثنين أنا أحدهُما إلا اختارني ،،،،
وأمّا إسحاق فقد جاد لي بنفسهِ وهو بغيرها أجود ،،،،،
وأمّا يعقوب فكُلّما ازددتهُ بلاءً ازداد حُسن طنٍ بي،،،،
ووالله من يعرفُ عظمة الله وسعة رحمتهِ لا يملكُ إلا خياراً أوحدا هو حُسن الظن برب العالمين جل جلالهُ .نحنُ نُذنب وليس لنا إلا الله يغفرُ ذنُوبنا ،،،،،،، نحنُ نُطيعُ الله بتوفيقهِ وليس لنا إلا الله يُثيبُنا على طاعتنا ولنا عيوب تلبّسنا بها وليس لنا إلا الله يسترُها فمن أحسن الظن بربهِ تبارك وتعالى كان الله جل وعلا لهُ كظنّهِ بربهِ تبارك وتعالى ..
والمعنى كما جاء في الحديث "" أنا عند حُسن ظن عبدي بي أو أنا عند ظن عبدي بي فليظُنّ عبدي بي ما شاء ""(57/15)
ومن عرف الله وسعةَ رحمتهِ لا يملكُ إلا أن يُحسن الظن بربهِ .
اجتمع أبناء يعقوب عليهِ شيخٌ كبير شابت لحيتُهُ واحدُودب ظهرهُ وعميت عيناه ومع ذالك يذكرُ يوسف ( فتولى عنهُم وقال يا آسفا على يوسف وابيضت عيناهُ من الحُزن فهو كظيم * قالوا تاالله أنك لفي ظلالك القديم ) تمرُ أقوام وأحداث إلى أن يقول الله جل وعلا عنهم ( قال إنّي لأجد ريح يُوسف لولا أن تُفنّدُون * قالوا تاالله أنك لفي ظلالك القديم * فلّما أن جاء البشير فالقاهُ على وجههِ فارتد بصيرا )ماذا قال لهم ؟؟
ذكرهم بحُسن ظنّهِ بربهِ قال الله ( قال ألم أقُل لكُم إني أعلمُ من الله ما لا تعلمون )
وإنّني أُخاطبُ كُل مُبتلى والله إنّ الله أرحمُ بك من نفسك وأن الله جل وعلا قادرٌ على أن يغيثك وأن ما أنت فيهِ هو خيرةُ الله وخيرةُ الله لك خيرٌ من خيرتك لنفسك خيرةُ الله لك خيرٌ من خيرتك لنفسك ويحتاجُ المرء مع ذالك إلى أن يُكثر من ذكر الله ويُصّبر نفسهُ ويرى سير الأخيار والأبرار الذين صبرُوا على ابتلاء ربهم تبارك وتعالى ...
من القرائن الدّالة على أن العبد يعرف ربهُ ويعرف لهُ حق قدرهِ :
التذلُل وعدمُ التكبُر على الخلق قال الله لنبيهِ
( ولا تمشِ في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلُغ الجبال طولا كُل ذالك كان سيئهُ عند ربك مكروها )
يُحبُ الله من عبادهِ أن يتواضعُوا ولا يعلو أحدٌ على أحد مُتكأًً على نسبٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو حسب وهذه دعاوى كُلاٌ يدعيها حتى إذا اختلط الناس بعضهُم ببعض تميز أُولئك الأخيار الأبرار الذين يعرفون أن ما هُم فيهِ نعمة من الله جل وعلا أنعم بها عليهم .
حتى الضلالة والهُدى ينظرون إلى أهل الضلالة نظرة من يُريد أن يُنقذهُم ممّا هُم فيهِ .
قال أحدُ الصالحين من السلف:
قد كُنتُ أعذرُ في السفاهة أهلها
فأعجب بما تأتي بهِ الأيامُ
فاليوم أعذرهم وأعلمُ أنما
سُبلُ الضلالةُ والهُدى أقسامُ(57/16)
نختمُ أيُها المؤمنون بالشواهد عياذاً بالله على أن العبد لا يعرفُ قدر ربهِ عافانا الله وإياكم من هذا البلاء :
أعظمُ ذالك :
الشركُ بالله فمن أشرك مع الله غيرهُ لم يعرف لههِ جل وعلا قدره البتة ولهذا حكم الله على هؤلاء بأنهُم خالدون في النار لا يُمكن أن يخرجُوا منها حتى إذا استسقُوا إنّما يُسقون ماءً حميما وعلى هذا فالشركُ باللهِ جل وعلا كما بيّنّا آنفا مفسدةٌ لا تعدلُها مفسدة رتب الله جل وعلا عليها أربعة أُمور : ــ اثنان في الدُنيا واثنان في الآخرة ــ
قال الله جل وعلا ( لا تجعل مع الله إلهً آخر فتقعُد مذموماً مخذولا ) هذا في الدُنيا .
وقال بعدها بآيات ( فلا تجعل مع الله إلهٍ آخر فتُلقى في جهنّم ملوماً مدحورا ) .
فهذهِ الأربعة رتبّها الله جل وعلا نكالاً على من أشرك بهِ .
فإذا انتهينا ممّن تلبس بالكُفر يأتي دونهم من عرف قدر الله من حيث الأصل ويأتي عُصاة المؤمنين الذين ما قدروا الله جل وعلا حق قدرهِ لكنّهم لم يخرجوا عن دائرة الإيمان ...
ومن القرائن على هذا نسأل الله لنا ولكم العافية سأقولها سرداً لا يستطيعُ الإنسانُ أن يذكُرها فُراداً :
قسوةُ القلب .
تكبُر على الخلق .
البُعد عن قيام الليل .
بخسُ الناس حقوقهُم .
وظلمُ العباد وهذا تبعٌ للأول ، فبخسُ الناس حقوقهم وظلمهُم من أعظم الدلائل على أن العبد لا يعترف بسُلطان اللهِ جل وعلا عليه .
المُجاهرة بالمعاصي ، يقولُ اللهُ موبخاً من عصاه ( ألم يعلم بأن الله يره )
اليأس من رحمة الرب تبارك وتعالى .
القنوط من روحهِ جل وعلا .
هذهِ و أضرابها قُلت أعتذرُ عن التفصيل فيها تدلُ من حيث الإجمال على أن العبد ما عرف قدر ربهِ تبارك وتعالى ...
خاتمةُ المطاف أيُها المؤمنون :
كُلنا نملكُ أشياء لا يلبث أن تنفذ والله جل وعلا وحدهُ من لا تنفذ خزائنهُ والله جل وعلا وحدهُ من لا تنفذ خزائنهُ وحريٌ بعبدٍ نفذت خزائنهُ أن يسأل رباً لا تنفذ خزائنهُ .(57/17)
الإلحاحُ على الله جل وعلا في الدُعاء وانقطاعُ العلائق إلى الرب الخالق جل جلالهُ وأن يجمع الإنسانُ شتات أمرهِ ويضعها بين يدي اللهِ وأن يفزع الإنسانُ إلى ربهِ في المُلمّات مع شُكرهِ تبارك وتعالى في حال السراء قرائنُ عظيمة على أن العبد يعرفُ ربهُ جل وعلا .
فالجوء إلى الله تبارك وتعالى واستغفارهُ وكثرةُ التوبة تُعين على طاعة الرب جل وعلا .
وهذهِ فائدةُ نختمُ بها :
ذكر القرطبيُ رحمه الله :
أن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم اجتمعوا يتدارسون القرآن فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه لقد قرأتُ القرآن كُله من أولهِ إلى أخرهِ فلم أرى آيةً أرجى من قول الله ( قُل كلٌ يعملُ على شاكلتهِ ) ثم قال الصديق قال فإن شاكلة العبد العصيان ولا يُشاكلُ الرب إلا العُصاه أي أن الله جل وعلا حقيقٌ بهِ أن يغفر كما أن العبد عُرضة لأن يعصي الله جل وعلا ..
فقال عُمر رضي الله تعالى عنه لقد قرأتُ القرآن كلهُ من أولهِ إلى أخرهِ فلم أجد آيةً أرجا من قول الله ( حم * تنزيلُ الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب ) قال إن الله قدّم غُفران الذنوب على قبُول التوبة ...
قال عُثمان رضي الله عنه وأرضاه قرأتُ القرآن كلهُ من أولهِ إلى أخرهِ فلم أجد آيةً أرجا من قول الله تعالى ( نبىءعبادي أني أنا الغفُور الرحيم )وقال عليٌ رضي الله عنه وأرضاه و قرأتُ القرآن كُله فلم أجد آية أرجا من قول الله ( قُل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفُسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً )
قال القرطبيُ رحمه الله بعد أن حكى هذا الخبر والأقوال الأربعة قال : وأنا ــ أي القُرطبي ــ وأرجا آية في كتاب الله قول الله ( الذين أمنوا ولم يلبسُوا إيمانهُم بظلم أُولئك لهم الأمنُ وهو مهتدون )
هذا ما تيسر إيرادُهُ وأعان الله جل وعلا على قولهِ وأعتذرُ إن قصّرت وعفواً إن أطلت فما أردتُ إلا الخير ما استطعت(57/18)
ما بقي من الوقت قبل الآذان وبعدهُ نُجيبُ على أسئلتكُم لأنهُ قد يكون في الأسئلة مطالب لم تفي بها المُحاضرة
سُبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المُرسلين والحمدُ للهِ رب العالمين
****** جزا الله فضيلة الشيخ خير الجزاء ******
أمّا الأسئلة الموجة لفضيلة الشيخ :
فيقول السائل لا حرمكُم الأجر كيف لي أن أُعلّق قلبي بخالق الخلق سُبحانه وأترُكُ الخلق ؟
نحنُ ذكرنا نُتفً منهُ في المُحاضرة والإجابة عنه قد تطول لكن ازدد علماً بالله تجد نفسك لا تزدادُ تعلُقاً إلا بالله ازدد علماً بالله تجد نفسك لا تزدادُ تعلُقاً إلا بالله .
نعم
يقول أنا شابٌ أُذنب وأتوب وفي كل توبةٍ أُعاهد الله على أن لا أعود إلى هذا الذنب مرةً أُخرى ولكن سُرعان ما أعود إليهِ ثم أتوب منه مع العزم على عدم العودة إليهِ ومع ذالك أعود إلى ذنبٍ أول
سؤالي يا شيخ أخشى أن أكون قد أخلفتُ عهد الله فأكون ممّن قال الله فيهم ( فأعقبهُم نفاقاً في قلُوبهم إلى يوم يلقونه ) فماذا علي أن أفعل وهل رجوعي وعودتي إلى نفس الذنب مع مُعاهدتي لله عز وجل على عدم العودة يعني أن الله قد أعطاني فُرص للتوبة وأنا لم أستغلها فكان العقابُ من الله لي بالإمساكُ بهذا الذنب ؟
الجواب فيه تفصيل أما أن تكون ممّن قال الله فيهم ( فأعقبهُم نفاقاً في قلُوبهم إلى يوم يلقونه ) فأرجوا الله أن لا تكون لا نحنُ ولا أنت منهم نسأل الله لنا ولك العافية.
أما قضية الأمر نفسهُ فهذا يُنظر فيه أصلُ المرء إذا أذنب ليس لهُ إلا أن يستغفر قال الله ( والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفُسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ) .(57/19)
والأمر الثاني أن تحاول أن تنسى هذا العمل فقد يتلبس الإنسان بمعصية لا يستطيع الإنفكاك عنها من قريب وثمّة طرائق أُخرى لإقصائها وهو أن يُكثر من العمل الصالح وأن يأتي بأعمال صالحة تُرقق القلب قال الله ( إنّ الحسنات يُذهبن السيئات ) وأن يحرص على برّ الوالدة على وجه الخصوص فهي من أسباب التوفيق هذا وجود انكسار في القلب هذا كلهُ بإذن الله يُعينك ولو بعد حين على التخلُص من تلك المعصية نسأل الله أن يهدينا وإياك سواء السبيل وأن يُثبتنا عليه..
يقول أحسن الله إليكُم أُبتليتُ بأن تعلّقتُ بشابٍ مثلي وفقدتُ بذالك السيطرة على قلبي حتى أني أُشغل بالتفكير فيه حتى في الصلاة وحتى في قراءة القرآن فضيلة الشيخ إني أكتُب هذه الكلمات وبي من الندم والحسرة على خسارة أعظمُ لذةً كُنتُ أحسبُ أني أجدُها لذة الطاعة شيخي هلاّ دللتني وفقك الله على شيءٍ أتشبث به حتى ينجلي هذا الأمر ؟
إنّا لله وإنّا إليه راجعون قُل إنّا لله وإنّا إليه راجعون
لا توجد مُصيبة أعظم من أن يتعلّق قلب العبد بغير الله على هذا من ابتُلي بشيءٍ من هذا فليقُل بقلبٍ صادق إنّا لله وإنّا إليهِ راجعون لأن الله يقول ( والذين إذا أصابتُه مُصيبةٌ قالوا إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون أُولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمه ) وقل اللهم أجرني في مُصبتي وعوضني خيراً منها والله إنّ فقد الأولاد والأموال والزوجة والوالدين لا يعدل فقد الإنسان قلبهُ في أن يتعلّق قلبهُ بغير الرب تبارك وتعالى لكن لا نُريد أن نُقّرعك ونُكثر عليك اللوم فثمّةً طرائق قد لا يحسُنُ نشرُها على الملأ فلو استطعت أن تتصل بنا هاتفياً أو بغيرنا ممّن تظُنّ به الفضل يُرشدوك إلى طرائق لأن هذهِ قضية عين قضية فرديه وقد يكون فيك مكامن قوة في الصلاح والإيمان لو استُغلّت جيداُ يُعينك الله بها على أن لا يتعلّق قلبُك بغير الله جل وعلا .
نعم(57/20)
يقول أحسن الله إليكم شخصٌ يحفظ القرآن كاملاً وكان يرُاجعه ثم إنه لم يُراجعهُ حتى الآن منذُ سبع سنين فماذا تُوصيهِ علماًُ أنه قد نسي ؟
يُراجع القرآن يُحاول أن يجعل لنفسهِ جدولاً ويراجع فيه كلام ربه تبارك وتعالى إنسان يحفظ القرآن ثم يتركهُ لا يُترك أي شيء إلا لشيء أحسن منه فهذا الذي كان يحفظ القرآن ثم تركه لأي شيءٍ ذهب لا يوجد فنسأل الله جل وعلا أن يُعيدهُ إلى صراطه المُستقيم وأن يمُّن عليه بمراجعة القرآن .
أحسن الله إليكم يقول ورد في قول أحد الصحابة أنهُ قال كُنّا نتعلم الإيمان قبل القرآن فماذا يقصد بالإيمان ؟
نعم الإيمان هنا معرفة الله تبارك وتعالى وتعظيمه محبتهُ الخوف منه والرجاء فيه هذا كلهُ من دلائل الإيمان ثم يتعلّمون القرآن المقصُود به هنا الأحكام الشرعية لأن الإنسان إذا كان مُؤمناً حقاً سهُل عليه أن يعمل بتلك الأحكام أمّا إن كان يعلم تُلك الأحكام ويعرفُها ولا يُوجد إيمانٌ ولا علمٌ بالرب تبارك وتعالى فإنهُ لن يجد في نفسهِ باعثاً إلى أن يعمل بتلك الأحكام .
يقول كيف يُنمّي الإنسان في قلبهِ الأعمال القلبية كالتوكل والخشية والإخلاص وغيرها ؟
يختلف بعضُها بسؤال الله جل وعلا وبعضُها بمُدارستها بعضُ آيات القرآن التي فيها أعمال القلوب مع مشايخهِ أو أهل العلم في هذا الشأن وبعضُها بمحاولة التأمُل في الواقع وأحوال الناس وربط ذالك بآيات الكتاب المُبين هذا كُلهُ ممّا يُعينهُ على أن يُخلص قلبهُ النية لربه تبارك وتعالى وتعظم أعمال القلوب في قلبه .
أحسن الله إليكم يقول يستدلُ بعضُ القُبُوريين بأن الولي لهُ القُدرة على الخلق مُستدلاً بقوله ( تبارك الله أحسن الخالقين ) بأنّ الله أثبت عدة خالقين فما هو الرد على هذه الشُبهة ؟(57/21)
لا أحد أبداً يخلقُ إلا الله ( هل من خالقٍ غيرُ الله ) استفهام استنكاري أي لا أحد يخلقُ غير الله هذا أمرٌ أجمع الناسُ عليه حتى عبدة الأوثان وكُفّار قريش لم يكُن يقولوا أن أحداً يخلقُ غير الله.
قال الله تبارك وتعالى عنهم ( أم خُلقُوا من غير شيءٍ أم هُم الخالقون )
أحسن الله إليكم جاءت أسئلة كثيرة كُلها تسأل كيف يجد الإنسان رقة قلبهِ عند قراءة القرآن ؟
الباب الأول : اليقين أنهُ كلام الله من قرأهُ وهو يعلم أنهُ كلام الله حقاً وكُلنا يعلم ذالك لكن كُلّما ازداد الإنسانُ علماً بأن هذا كلامُ الرب تبارك وتعالى كان أقرب إلى أن يرقّ قلبهُ إذا قرأ آيات القرآن .
أحسن الله إليكم يقول امرأةً تُؤخر الصلوات عن وقتها وتُصلي هذي الصلاة في آخر الليل وأيضاً تُؤخر الغُسل لمُدة يومين وقد قمتُ بنُصحها فغضبت وطالبت بالطلاق فما الحل في ذالك مع العلم أنها قد قرأت بعض الكُتب في سوء المعصية إلى آخره ؟
هذهِ قضيةٌ فردية الأصلُ أنها تُطلّق لكن كما قُلت لا أستطيع أن أحكُم دون أن لأنها قضية بين اثنين ومثل هذا لو كان اتصل بمشايخٍ فُضلاء في الرياض الشيخ عبد الله الجبرين ، الشيخ عبد الكريم الخضير وأمثالهُما من أساطير العلم في هذه المدينة المُباركة يجد عندهم جواباً شافياً بس لا يكون في مسجد عام إنّما يذهب إليهما أو إلى أحدهما أو إلى غيرهما من أمثالهما فيجلس معه ويوضح لهُ الأمر بالكُلية وسيجد عندهما من العلم والرأي والمشورة ما ينفعهُ الله جل وعلا به .
جاءت أيضاً أسئلة كثيرة تسأل عن السبيل إلى قيام الليل ؟(57/22)
التخفيف من الأوزار في النهار يُعين على الوقوف بين يدي الواحد القهّار في الليل .كان بعضُ مشايخُنا يمشي في الطريق يذهب إلى الحرم ماشياً فلحقهُ أحدُ طلبة العلم وهذا الشيخ متّع الله به اسمهُ عبد الله عُمر في الستين من عمره وهو ذاهب إلى الحرم سألهُ أحدُ الناس يا شيخ كيف أحفظُ القرآن كيف أكونُ مُجيداً لحفظ القرآن ؟ فقال الشيخ وفقهُ الله قال قُم بهِ في الليل تحفظه أعظم طريق لتدبُر القرآن وحفظهِ وبقاءهِ في الصدر أن يقوم الإنسان به في الليل .
ومّما يُعينُ على قيام الليل مسألة أن الإنسان يتخفف من الذنوب والمعاصي في نهاره بل يترُكها بالكُلية لكن الذنوب ثقل كلّما خفف الإنسانُ منها قدُر على أن يقف بين يدي ربهِ جل وعلا في فلق الأسحار والناس في هذا يتفاوتون تفاوتاً كثيرا والمهم حضور القلب وأن يكون الإنسان يشعُر بذنبهِ ومعصيته وانكسارهِ بين يدي خالقه ويُلّح على ربهِ في الدُعاء ويسأل الله جل وعلا في تلك الساعات من فضلهِ ويتقرّب إليه تبارك وتعالى أن يرحمهُ هذا كلهُ بإذن الله إذا وجد ولو يسيراً منهُ في الليل كان الإنسانُ على خير عظيم وصراطٍ مًستقيم
يقول أحسن اللهُ إليكم أنا شابٌ مُلتزم ومكثتُ أكثر من شهرٍ لا أُصلي الفجر في المسجد وأندم على ذالك أشدُ الندم ثم أرجعُ على ما أنا عليه فما هو الحل ؟
الندم وحدهُ لا يكفي وإن كان مطلوباً لكن كما قُلت هذهِ الأسئلة أكثرُها قضايا فردية لابُد أن هناك خلل ما عقوق والده يحرمك من خيرٍ عظيم مُعاملتك لأجير من يغسلُ لك سيارتك والله تأخير الراتب شهر واحد عشرة أيام ينعكس عليك ينعكس على علاقتك بربك تبارك وتعالى والله تبارك وتعالى حكمٌ عدل وقد وضع طرائق تدلُ إليهِ وتُرشد إليه تبارك وتعالى فالمرء إذا كان يعلمُ قُدرة الله عليهِ خاف فيمن جعلهُم الله جل وعلا بين يديهِ .(57/23)
قُلنا مراراً في تفسيرنا للقرآن الله يقول ( يوم يفر المرء من أخيهِ وأُمهِ ,ابيهِ وصاحبتهِ و بنيهِ لكُل امرئٍ منهُم يوم إذاٍ شأنٌ يُغنيهِ )
تأتي الأسئلة تقول لماذا قدّم الله الأخ لماذا أخّر الله الأُم لماذا قدّم ؟؟؟
هذا ليس سؤالاً في مكانهِ لكن السؤال الذي في مكانهِ؟ لماذا يفر المرء من هؤلاء كلهم يوم القيامة حُكم عدل يوم ميزان يوم يقتصُ لكُل صاحب مظلمة والإنسانُ غالباً يظلمُ من يظلم من يحتك بهم كثيراً زوجتهُ أولادهُ أبويهِ عاملهُ خادمهُ من يعمل عندهُ في الدار الأجير هؤلاء الذي تُخالطهُم وتُعاملهُم ينشأ عنك بينك وبينهم مظلمة ....
مثلاً هذا يزيد يسكُن في الرياض وأنا أسكُن في المدينة لا يوجد معاملة بيني وبينه لأجل هذا إذا رأيتهُ يوم القيامة لا أخشى منه ولا يخشى مني لأني لا أتذكرُ أن هُناك معاملةً بيني وبينهُ أكون قد ظلمتهُ فأفرّ.
لكنّ الإنسان إذا رأى قرابتهُ وأهل بيتهُ ومن يخالطونه يفرّ خوفاً من أن يُطالبهُ بحقوقٍ ضيعُوها فيأتي المرء وقد ظلم أجيرهُ وقد ظلم خادمتهُ وأطلق لسانهُ على جاره أو قال في أحدٍ ما ليس فيهِ أو خصم من رجُلٍ ظلماً أو استغّل وظيفتهُ فرشى أو ارتشى ثم يأتي إلى المسجد فيقول الإمام قرأتهُ لا تجلب الخشوع هذا الإمام يحتاج تغيير هذا هذا المسجد هذا هذا والسرّ والقضية ليست قضية إيمان وليست قضية مسجد مُضاء أو مُكيف القضية قضية قلب القرآن هو القرآن لكنّ لمّا يأتي إنسان لا يعمل بالقرآن لا ينتظر أبداً أن يخشع عند قراءة القرآن لكن من يعمل بالقرآن يُكرمهُ الله جل وعلا ولا مُلزم على الله يُكرمه الله بأن يخشع إذا قرأ القرآن يُعظّم القرآن كتعظيم كما ذكرنا في خبر عمر إن الإنسان يأخذُوا آيات الله فيُعظمُها ويترُك رأيهُ وهواه ويدر رقبتهُ لأوامر الله ورسولهِ صلى الله عليه وسلم .(57/24)
زيدُ ابن حارثة كان متزوج من زينب بنت جحش والإنسان لا يجدُ أحد يخالطهُ ويحتكُ بهِ وتنفعُ بينهم الكلفة بين الزوجة فلما طلقها في القصة المعروفة أمرهُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب ـ أي زيدُ ـ ليخطُب زينب له ـ أي لنبي عليه الصلاة والسلام ـ يقول زيدٌ فذهبتُ إليها فوجدتُها تُخمّرُ عجينتها فلّما رأيتُها استعظمتُها وهي زوجتهُ سبق أن عاشرها و ضاجعها على فراشٍ واحد ومع ذالك وقعت في قلبهِ موقعً عظيمً قال لماذا قال لأنني علمتُ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فأدار لها ظهره وأصبح يُكلمها وهو يُلقّيها ظهره ولم يكتفي بأن تتحجب وتتخمّر وأن تختمر أن سمعت أنه موجود كل ذالك تعظيماً لأمر الله وتعظيماً لأمر رسولهِ صلى الله عليه وسلم .
ثم حاول أيها المُبارك أن تُصاحب عملك استشعاراً للجزاء قبل أن تُعطي من عمل أجيراً عندك وأنت تمشي إليه قبل أن تُخرج المبلغ الذي اتفقتما عليه تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أعطُوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه )
قبل أن تُوقف سيارتك في موقف جارك تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يُؤمن من لا يأمن جارهُ بوائقه "
هذا وأمثالهُ طبّقهُ في حياتك اليومية تدخُل المسجد تقفُ بين يدي الله يرزُقك الله جل وعلا طرائق القُربى من لدُنه لأنك عظّمت أمرهُ في النهار فيرزُقك الله جل وعلا حظاً عظيماً في الوقوف بين يديه في الليل .
يقول السائل أحسن الله إليكم أنا شابٌ في بداية التزام فبماذا تنصحُونني كما أردتُ من فضيلتكُم الدُعاء بالثبات على الهداية ؟
الزم قراءة القرآن وصُحبة الصالحين والترُدد على المساجد نسأل الله أن يُثبتنا وإياك على هذا .
يقول شيخي الفاضل أنا شابٌ مُلتزم ولكن قد لا أستطيعُ السيطرة على نفسي في الخلوات ؟(57/25)
اتقِ الله ما استطعت لكن لو وقعت في خطأ لا يدفعّنك هذا إلى ترك الطاعات ينبغي أن يُراقب الله جل وعلا جلياً جليلاً في الخلوات وهذا أمرٌ عظيم عظّمهُ الله لكن لو وقعت منك خطيئة أو معصية لا تمنعنّك من إتيان الطاعات والبقاء على ما أنت فيه علّ الله جل وعلا أن يدفع بالأثر الناجم عن الطاعة تلك المعصية ويتوب عليك .
أحسن الله إليكم يقول ما الفائدة المرجوّة من التأمُل في أحوال السلف الصالح مع أنّنا قد لا نستطيع القيام بما قاموا بهِ ؟
تشبهُوا إن لم تكونوا مثلهم
إنّ التشبُه بالكرام فلاحُ
هذا الرأي مما تُشحذ به الهمم ينظُر الإنسان في أحوال أهل الخير ولهذا قصّ الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيراً من أخبار الأنبياء والرُسُل قبله وقال جل ذكرهُ وتبارك اسمهُ ( أُولئك الذين هدى الله فبهُداهُم اقتده )
فالتأمُل في سيرة السلف الصالح والأنبياء والمُرسلين في المقام الأول ومن أثنى الله عليهم في كتابه من غير الأنبياء والمُرسلين كل ذالك ينجمُ عنهُ أثرٌ جم وخيرٌ عظيم .
أحسن الله إليكم يقول بالأمس حدث خسوفاً للقمر فهل يدُل حدوث الخسوف على عدم رضا الله عز وجل على عبادهِ ؟
لا يلزم من هذا لكن هذا ابتلاء من الله تبارك وتعالى أن يُسارع الناس للخيرات يُسابق الناس في الطاعات والله يقول وهذا من دلائل معرفة قدر الله جل وعلا وقد فاتنا أن نُنبّه عليها أن الناس يتفاوتون في النظر إلى مثل هذا الخسوف أو الكسُوف إذا وقع لكن من عرف أن هذهِ الأمور مُسيّره بقُدرة الرب تبارك وتعالى الله يقول ( وما منعنا أن نُرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وأتينا ثمود الناقة مُبصرة فظلموا بها وما نُرسلُ بالآيات إلا تخويفا وإذ قُلنا لك إنّ ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرُؤيا التي أريناك إلا فتنةً لناس والشجرة الملعونة في القرآن ونُخوّفهُم فما يزيدهُم إلا طُغيناً كبيرا )(57/26)
يرى العاقل الخسوف ويقرأ قول الله جل وعلا ( ونُخّوفهم فما يزيدهُم إلا طُغياناً كبيرا ) ويأخُذ قول النبي صلى الله عليه وسلم " أنهُما آيتان يُخّوف اللهُ بهما عباده " فيحاول أن يكسر قلبهُ في ذالك الحين فراراً ممّن يكون ممّن قال الله فيهم ( ونُخّوفهم فما يزيدهُم إلا طُغياناً كبيرا ) نسأل الله لنا ولكم العافية .
أحسن الله إليكم يقول أرجوا من فضيلتكُم أن تُبين لنا معنى قولهُ تعالى ( وما أتاكم الرسول فخذُوهُ وما نهاكُم عنهُ فانتهُوا ) فإنّ كثيراً من الناس لا يُطبق السُنة في كثيرٍ من أحوله ؟
الآية هذهِ عامة قال العُلماء جمع اللهُ السُنة كُلها في آيةٍ واحدة ( وما أتاكم الرسول فخذُوهُ وما نهاكُم عنهُ فانتهُوا )
فما نهى الله عنه يُنتهى عنه بالكُلية أمّا ما أمر الله به فيُنظر ما أتانا الرسُول صلى الله عليه وسلم بهِ فيُنظر فبعضهُ فعلهُ على صيغ الوجوب وبعضهُ فعلهُ على صيغ السُنن وبعضهُ دلّت السُنة على أنهُ كراهةً تنزيه فيُعامل كُل حدثٍ بعينهِ أما الآية نفسُها فليس فيها دليلٌ تفصيلي وهذا من الأخطاء في فهم القرآن مُحاكمة الناس على أشياء الأصل فيها عدم فقه القائل بالدليل نسال الله العافية .
أحسن الله إليكم يقول ولله الحمد كما ترى في هذا المسجد وغيرها مُستقيمون كُثر هل من كلمةٍ في رفع الهمّةٍ لدعوةِ إلى الله جل وعلا لإصلاح الناس بعد إصلاح أنفُسهم ؟
من أراد أن يعرف أين مقامهُ عند الله فلينظُر فيما أستعملهُ الله جل وعلا فيهِ .(57/27)
وإنّ من أعظم ما يُمكن أن يدّخرهُ المرءُ لنفسهِ بعد وفاتهِ لحظات يُعرّف العباد فيهم بربهِم تبارك وتعالى إن دخلت مجلساً أو أتيت قوماً أو زُرت أحداً فلا يكُن همُك شيء أعظم من أن تُحبّبهُم في ربهم تبارك وتعالى أن يخرُج الناس بعد أن يخرُج من لقيتهُ بعد أن التقى بك وقد ازداد حُباً وتعظيماً وإجلالاً لله لا أن يقول إنك طليقُ اللسان قوي البيان لديك معلومات تفقهُ في علم كذا هذا كلهُ لا ينبغي أن يكون مقصُوداً ولو جاء تابعاً لا تلتفت إليه لكن المُهم أن يُعظّم الله جل وعلا على لسانك فيُعظّموا الناس ربهُم تبارك وتعالى على يديك والإنسان إذا أدرك هذا المُبتغى سعى في الدعوة إلى الله وكفى بقول الله ( ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنّني من المُسلمين )
أحسن الله إليكم يقول إذا كانت الدعوة إلى الله تستلزم الاختلاط بغير المُلتزمين مما يُؤدي إلى ضعف إيمانهُم فهل أفضل اختلط بهم أم اتركهُم ؟
كلمة الاختلاط تختلف فلا ينبغي مُخالطتهُم أكلاً وشُرباً وغدُواً وروحاً هذا لا يُعقل لكن إذا كان الاختلاط عارض ينجُم فيه الدعوة الكلمة الطيبة مُشاركتهُم أفراحهم الوقوف معهم في أحزانهم هذا أمرٌ محمود ويختلف الناس علاقتهُ بأبويه علاقتهُ بجيرانهِ علاقتهُ بمن يسكُنُ عمارته علاقتهُ بأقربائهِ كلُ فريقٌ من هؤلاء لهُ حقٌ مخصوص ومُحدد شرعاً ينبغي أن يُنظر إلى الأمر بجدية تُرجح المصالح وتُبعد المفاسد .
أحسن الله إليكم يقول ما نصيحتكُم لمن يأتي إلى المُحاضرات مُبكراً حرصاً من القُرب من الشيخ ولكن إذا جاءت الصلوات فرُبما لا يأتي إلا والإمام في التشهُد ؟(57/28)
هو يُحمد على الأول إنهُ أتى مُبكراً الباطل لا يمنع قبول الحق كونهُ يأتي للمُحاضرات مُبكراً هذا أمرٌ محمود وأما إتيانه لصلاة مُتأخراً فلا شك أنهُ غيرُ محمود فنقول لهُ كما أتيت للمُحاضرات مُبكراً فإن القدُوم إلى الصلاة أعظم وأجلّ بلا شك فإن المُنافسة على الصف الأول ممّا رغّب النبي صلى الله عليه وسلم فيه فابقِ على الحظ الأول وازدد إليه الحظ الثاني فإنهُ أولى وأحرى .
أحسن الله إليكم يقول ما هي نصيحتكُم لطالب العلم في اقتناء أفضل التفاسير ؟
هذا يختلف بحسب منزلتهِ الآن أنا لا أدري السائل هل قرأ شيئاً لم يقرأ شيئاً ماذا قرأ ميُولهُ لغوية تاريخية عقدية يختلف لكن عموماً يختارُ الإنسان كل من الكتُب متنوعة الأساليب في التفسير ثم يحاول أن يُكثر من القراءة فيها كثيراً حتى يصل إلى مرحلةٍ ما تُهيأ لهُ بعد ذالك أن يقرأ أكثر فأكثر وقُلت مثل هذهِ الإجابات تصعُب لأننا نتكلمُ عن حالٍ فردية والناس تتفاوت قُدراتهُم تفاوتاً كبيراً ...
أحسن الله إليكم يقول قدّم الله السمع على البصر في كثير من الآيات إن في سورة السجدة حين ذكر نكوس رؤوس المشركين قالوا ( أبصرنا وسمعنا ) ؟
نعم هذهِ مسألة يتدارسها العُلماء وإنني قائلٌ إن الإنسان في مسألة السمع يُمكنُ للإنسان أن يسمع ما لا يرغب أما البصر فالغالب أنهُ لا يرى إلا ما يرغبهُ فأنت تستطيع أن تُحدد بصرك فلا ترى إلا شي تُريده .
تُريد أن تُبصر هذا العمود مثلاً ولا تُريد أن تنظُر إلى هذا هذا أمرٌ مقدورٌ عليه لكن بالنسبة لسمع فأنت كُل ما حولك تسمعهُ ولهذا قالوا قدّم الله جل وعلا السمع وأفردهُ أكثر من البصر .(57/29)
وأما قول ما ذكره الله جل وعلا على لسان أهل الإشراك فإنهُم كانوا يسمعون النقل وهو القرآن ولا يُؤمنوا بهِ وجاء في القرآن ( وكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليوم حديد ) فإذا جاء يوم القيامة ما كانوا يسمعون عنه رأوهُ بماذا رأوهُ بأعيُنهم وهُنا يُقدّمون البصر ( قالوا ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون ).
نعم .
أحسن الله إليكم يقول أو هذا سؤال من النساء تقول ما حُكم لبس البنجابي الفضفاض ؟
أسئلوا غيري إذا كان في البيت لا حرج مع والدتها وأخواتها فلا حرج فيه إن شاء الله أما المجامع العامة فتختلف .
أحسن الله إليكم يقول إذا كان ولدي لا يُصلي إلا الجُمع فماذا أفعل معهُ وهو كبير ؟
هذا ولدُك تُحاول نُصحهُ وإرشادهُ محاولة التأثير عليه تدُل عليه من لهُ كلمة عنده بأن يدعونهُ إلى صراط الله المستقيم .
أسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاتهِ العُلى أن يهدي لك ابنك .
بعضٌ من الشباب الذين ظاهرهم الصلاح نراهم أو نسمع عنهم أنهم من أسوء الناس أخلاقاً مع زوجاتهم ومع أهليهم فما نصيحتكم لهؤلاء ؟(57/30)
إن شاء الله يكون هذا لو وُجد يوجد قليل لكن كما قُلنا تعظيمُ الأمر النبوي " خيركُم خيركُم لأهلهِ " إذا تكلّمنا بلُغة الناس ليس محموداً أن يُظهر الإنسانُ رُجُلتهُ على امرأة ليس منّا يُفرح بهِ ولا يدلُ على قوة شخصية ولا على علو قدر النبي صلى اله علية وسلم تظاهر عليه نساؤه تهابهُ أعدائهُ ويتظاهر عليه نساؤه فقال صلى الله عليه وسلم اعتزل في مشربه شهراً كاملاً قبل أن تأتي آية التخيير ( إن كُنتنُ تُردن الحياة الدُنيا وزينتها ) فلّما أعتزلهم صلى الله عليه وسلم وقد البيت في ختام تسعه وعشرين يوم قابلتهُ عائشة رضي الله عنها وأرضاها المرأة أصلاً تجد في نفسها دلالٌ على زوجها خاصةً إذا كانت تثق بعقلهِ فلّما عاد بدل أن تُظهر فرحتها بهِ قالت باقي يوم يعني أنت جيت بدري فقال صلى الله عليه وسلم إن الشهر يكونُ تسعةً وعشرين ويكونُ ........(57/31)