اختر آيات في أول تعودك على قيام الليل أثنى الله بها على ذاته العلية ثم رددها كثيراً وأنت تصلي حتى تستميل قلبك وتذرف عينك تدريجياً ثم مع الأيام يصبح قلبك لا يسكن بشيء أعظم من ذكر الله " ومن استأنس بالله استوحش من خلقه " الله يقول عن ذاته العلية { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} هذه أشياء محسوسة تراه و أنت قبل أن تنام فإذا ربطتها بخالقها عظم اليقين في قلبك { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} ويقول جل وعلا خواتيم الحشر { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أين شعر الشعراء ؟ أين كلام البلغاء؟ أين وصف الفصحاء؟هذا كلام رب العزة في رب العزة جلا جلاله هذا قوت القلوب الحقيقي الذي يعيش به المؤمن ويتعود ألا يشرب إلا منه ولا ينهل إلا من معينه هذا الذي يسوق إلى رضوان(20/24)
الجنات ويوفق به المؤمن للطاعات ويقاد فيه إلى أعلى المنازل .
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت عالم الغيب والشهادة مصير كل أحد إليك ورزق كل أحد إليك أسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العُلى أن تصلي على محمد وعلى آل محمد ، وإن ترزقنا الإخلاص فيما نقول ونسمع وصلي اللهم على محمد وعلى آله .(20/25)
الروضة الندية في تلخيص التأملات القرآنية(المجموعة1)للشيخ صالح المغامسي-حفظه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..وبعد....
الحمد لله على نعمه وآلائه وتوفيقه،فها نحن بعد أن كتبنا لكم في المرة الماضية المجموعة الثانية من أشرطة(التأملات القرآنية) لفضيلة الشيخ:صالح بن عوّاد المغامسي-حفظه الله تعالى ونفع الله بعلمه الإسلام والمسلمين- نكتب ونقدم لكم (الروضة النديّة في تلخيص التأملات القرآنية)المجموعة الأولى من الأشرطة،وهي من جهد أخي الحبيب:بدر بن علي الأسمري-حفظه الله-وهو من طلبة العلم في عنيزة في منطقة القصيم،وهو من المهتمِّين لمتابعة أشرطة الشيخ صالح المغامسي-حفظه الله-وهي من جهده،فحتى لو رجعت للأشرطة فهو لم يكتب كل شيء بل هي خاصة به؛فهي استفادة خاصة به،لكنني آخذها منه للفائدة وإفادة الإخوان في هذا الملتقى المبارك.
أسأل المولى الكريم رب العرش الكريم أن ينفع بها قائلها ومفرّغها وكاتبها وقارئها وجميع المسلمين،وأن ينفع بالشيخ صالح المغامسي
-حفظه الله-الإسلام والمسلمين،فو الله إنني لأحبه في الله،وو الله لو قابلتُه لقبّلت رأسه،ويكفي أن عينه دامعة..وكلامه مؤثر في النفوس
وهنيئا لكم يا أهل المدينة النبوية به،وهو عندكم،فخذوا منه العلم،وخذوا منه خشوعه،وأدبه مع العلماء،وهذا ظاهر في ثنايا كلامه.
نسأل الله لنا وله القبول في الدنيا والآخرة.
كتبه:أبو عباد الشمالي.
القصيم – عنيزة
من سكن ابن عثيمين-رحمه الله-للطلبة
الحلقة (1):(21/1)
نقل الشيخ محمد عطيّة سالم-رحمه الله-عن شيخه الإمام الشنقيطي-رحمه الله-صاحب أضواء البيان،نقل عنه أنه سأل الشيخ عندما كان يفسِّر القرآن في مسجد رسول الله ،قال له:إنك رجل ذو باع عظيم في العلم،فلماذا اخترت التفسير دون سائر العلوم مع قُدرتِك على إتيان كثير من المسائل وشرحها؟! فقال الشيخ-رحمه الله-وهو العارف بكتاب الله قال:"إن العلوم كلّها تفيء إلى القرآن".
إن مما يُعين طالب العلم على طلب العلم بعد الاستعانة بالله أن يجد مادة علميّة يعقد عليها خنصره وبنصره.
قال تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل الأرض فراشاً والسماء بناءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم... المناسبة:أن الله لمّا ذكر أصناف الخلق الثلاثة خاطبهم أجمعين بعبارة(يا أيها الناس)أراد الله من هاتين الآيتين أن يبيّن حقيقة البعث والنشور،وذكر في هذه الآيتين ثلاثة براهين على وجود البعث والنشور:
البرهان الأول:هو الإيجاد والخلق الأول،وهذا بقوله: اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ومعلوم قطعاً أن من قدر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني،وهذا بيّنه الله في غير سورة،قال الله: وضرب لنا مثلاً ونَسِيَ خلقَه وقال الله جلّ وعلا: فسيقولون من يُعيدنا قل الذي فطركم أوّل مرّة فالاتّكاء في الدليل على الإيجاد الأول،هذا أول البراهين على أن هناك بعث ونشور.
الدليل الثاني:ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان،وفائدة الذكر:أن مَن قدر على خلق الأعلى قادر على أن يخلق ما هو دونه،والله-جلّ وعلا-خلق السماوات والأرض،فمن باب أولى قادر على أن يُحيَ الناس بعد موتهم،والدليل في القرآن لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وقال-جلّ وعلا-في يس: أوَليس الله الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلُق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم .(21/2)
البرهان الثالث:القياس،وأن الله-جلّ وعلا-قال: وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فالأرض كونها ميتة،وينزل عليها من السماء، أي من السحاب مطراً،فتُحْيِا من جديد هذا يدلّ على أن من أحياها قادر على أن يكون على يديه البعث والنشور، وهذا يفسّره القرآن قال الله جلّ وعلا: ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليه الماء اهتزّت وربت إن الذي أحياها لمُحي الموتى إنه على كل شيء قدير فبيّن سبحانه أن القادر على أن يُحيَ الأرض بعد موتها قادر بقدرته وعظمتِه وجبروته ورحمته وعزّته وسلطانه على أن يُحيَ الناس ويُعيدهم بعثاً ونشوراً بعد أن كانوا أمواتاً،فاجتمعت في هاتين الآيتين ثلاثة براهين على إثبات حقيقة البعث والنشور،وهذا تفسير مجمل للآيتين.
نكمل إن شاء الله تعالى البقيّة.
الحلقة (2)
نكمل ما تبقّى
قوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون .
هذا تلازم ما بين العبادة والتقوى،فالعبد إذا عَبَدَ الله اتّقاه،وإذا اتّقاه فقد عَبَدَه.
وقوله تعالى: وأنزل لكم من السماء ليس المقصود بها السماوات السبع،والمقصود به السحاب،لأنه بالقرينة الموجودة وهو أن المطر ينزل من أين؟! من السحاب.
فأخرج به الباء هنا سببية،أي فأخرجَ لكم بسبب الماء.
# لما قال الله جلّ وعلا هذه البراهين الثلاثة التي تدلّ على قدرته وعلى ربوبيّته وعلى أن لا ربّ غيره ولا إله سواه قال مطالباً عبادَه بقوله: فلا تجعلوا لله أنداداً الندّ هو الشريك-المثيل،
النظير-ولا يوجد لله شريك ولا ندّ ولا مثيل ولا نظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
قوله: وأنتم تعلمون(21/3)
قبل أن تتلوها لا تفهم أن وأنتم تعلمون هذه متعلقة بـ فلا تجعلوا لله أنداداً لأنك إذا علّقت فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ونسيت أن هناك محذوف يصبح مفهوم الآية في ذهنك:لا تجعل لله أنداداً وأنت تعلم،كأنك تقول:يجوز أن تجعل لله ندّاً وأنت لا تعلم، وقطعاً ليس هذا مقصود القرآن لكن المعنى فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون يقيناً أنه ليس له أنداد.
ويُفهم من هذا أن الشرك-والعياذ بالله-أعظم الكبائر،وهو الذنب الذي لا يُغفَر أبداً،والناس قد لا يكون الشريك الذي اتّخذه صنماً يُعبَد،ولا يعبد عزرائيل ولا المسيح ولا غيرهما مما عبَدَه غيرُه في الجاهلية،لكن قد يعبد المرء هَوَاه،وقد يعبد المرء شيء آخر،ولا حاجة للتفصيل، بحيث يصبح هذا الشيء يتعلّق به القلب حتى يصرفه عن طاعة الله جلّ وعلا،فهذا قد جعل لله ندّاً سواء علِم أو لم يعلم،لكن لا يُقال بكفره كفراًً أكبر؛لأن مسألة التكفير،هذه سيأتي الكلام عنها أمر يحتاج إلى تفصيل وإلى تأنٍ وإلى تبيّن.
نكما البقيّة إن شاء الله في وقت لا حق.
الحلقة(3)
نكمل ما وقفنا عليه:
يقول الشيخ صالح المغامسي-حفظه الله-:
قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعِدّت للكافرين .
هذه الآيات تسمى في لغة القرآن(آية التحدّي)وهي أوّل آيات التحدّي في القرآن حسب ترتيب المصحف،وآيات التحدّي في القرآن خمس،ومعنى آيات التحدّي:أن الله جلّ وعلا تحدّى العرب على فصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بثل هذا القرآن.
آيات التحدّي في القرآن خمس:
الأولى:من سورة البقرة وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ... .(21/4)
الثانية:وقول الله جلّ وعلا في الآية الثامنة والثلاثين من سورة يونس أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ... .
الثالثة:الآية الثالثة عشر من سورة هود،وهي قول الله جلّ وعلا أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ... .
الرابعة:الآية الثامنة والثمانون من سورة الإسراء،قال الله جلّ وعلا قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ .
الخامسة:جاء في الآيتين الثالثة والثلاثين والأربعة والثلاثين في سورة الطور أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ .
اجتمع بهذا خمس آيات حسب ترتيب المصحف توالى بعضها بعضاً في تحدّي كفّار قريش.
اختلف الناس لماذا لم يستطع العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟
ق1)قيل:لإعجازه في ذاته،هذا الذي لا ينبغي أن يقال غيره.
ق2)وقيل:لمفهوم الصِّرفَة،ومفهوم الصِّرفَة مسألة بلاغية قالها رجل معتزلي اسمه:(إبراهيم بن سيّار النظّام)قال:إن العرب قادرين على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لكن الله صَرَفَهُم؛لحكمة أرادها على أن يأتوا بمثله،وهذا قول باطل. حتى مشايخ المعتزلة مثل إبراهيم النظّام خالفوه في مثل هذه المسألة،وإلاّ أجمع المسلمون على أن العرب عَجِزَت على أن تأتي بمثل هذا القرآن لنظْمِه؛لأمور عديدة لا تحصى،ومن أراد أن يرجع لهذه المسألة في كتاب اسمه(النبأ العظيم)لرجل عالم اسمه:(محمد عبد الله دَرَّاز)من أئمة الدنيا،له قُدرة بلاغيّة،لكنه مات قبل أن يُكمِل الكتاب،لكن الكتاب موجود.
* تدلّ هذه الآيات على صدق رسالة نبيّنا ،كما أن في قوله تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا أن مقام العبوديّة أرفعُ مقام وأجلّ منزلة.(21/5)
وكلمة(عبد)تأتي في الشرع واللغة على ثلاثة معانٍ:
الأول:عبدٌ،بمعنى مقهور،وهذا يستوي فيه المؤمن والكافر،كلّ الناس المؤمنون والكافرون عبيدٌ لله،والدليل: إن كلّ مَن في السماوات والأرض إلاّ آتي الرحمن عبداً هذه عبوديّة مطلقة يستوي فيها المؤمن والكافر والملائكة والجنّ والإنس.
الثاني:عبوديّة بالشرع،وهي ضد كلمة(حُرّ)قال الله تعالى: الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد هذا الذي يُسترقّ في الجهاد،ويُؤخذ كأسير،بصرف النظر عن لونه،فيُسمّى عبد في الشرع.
الثالث:عبدٌ بالطاعة والإتباع،وينقسم إلى قسمين:-
أ - طاعة لله،وهذا الذي يتنافس فيه عباد الله الصالحون.
ب - عبد لغير الله-أعاذنا الله-وهذا بابه واسع،ومنه قول النبي :"تعِس عبد الدينار وعبد الدرهم"أي الذي يطيع هواه.يطيع ديناره.يطيع درهمه.
نكمل البقية لاحقاً إن شاء الله
الحلقة(4):
يقول الشيخ صالح المغامسي-حفظه الله-:
قوله: وقودها الناس والحجارة :
وقودها الناس فمعروف،
أما وقودها الحجارة،فللعلماء فيها قولان:
ق1)قوم قالوا:إن الحجارة هنا حجارة من كبريت في النار،هذا عليه الأكثرون،نرى أنه رأي مرجوح.
ق2)قوم قالوا:إن الحجارة هنا هي الأصنام التي كانوا يعبدونها في الجاهلية،فتُقرَن معهم في النار،وهذا هو الراجح-إن شاء الله-ودليلُه من القرآن: إنكم وما تعبدون من دون الله حَصَبُ جهنّم أنتم لها واردون .
قال الله تعالى: فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعِدّت للكافرين
اتقوا النار بماذا؟!
بالإيمان والعمل الصالح،قال العلماء في قول الله جلّ وعلا أن النار أُعِدّت للكافرين:دليلٌ على أنه لا يخلد في النار موحّد،قال العالم السفّاريني وغيره-رحمهم الله جميعاً-:[وتحقيق المقال أن خلود أهل التوحيد في النار محال].(21/6)
قال تعالى: وبشّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار كلّما رُزِقُوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل وأُتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون .
هذه الآية فيها مُبشِّر وفيها مُبَشَّر،وفيها مُبشَّرٌ به وفيها سبب للبشارة.
أما المبشِّر:فهو النبي ومَن يقوم مقامه بعدَه من أمّته في الدعوة إلى الدين.
وأمّا المبشَّر:فهم المؤمنون.
وأما المبشَّر به:فهو الجنّات على ما وصَفَهَا الله جلّ وعلا.
وأما أسباب البشارة:فالإيمان والعمل الصالح.
تفصيل الآيات:
وبشّر:أي يا نبيّنا .
جنّاتٍ:جاءت مجرورة؛لأنها جمع مؤنث سالم منصوب بالكسرة نيابةً عن الفتحة؛لأنه وقع اسماً لحرف الناسخ{أنّ}وأصل الكلام:أنّ جناتٍ لهم.
ثمّ ذكر الله وصف الجنات،فقال في أوّل وصْفِهَا تجري من تحتها الأنهار لم يذكر الله جلّ وعلا هنا ما هي الأنهار؟! وقلنا:إن القرآن يُفَسَّر بالقرآن،لكنه ذكر الأنهار في سورة [محمد]،وهي أنهار من ماء وأنهار من لبن وأنهار من خمر،وأنهار من عسل مصفّى.
قوله: كلّما رُزِقُوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل
للعلماء في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
ق1)فريق يقولون: قالوا هذا الذي رُزِقنا من قبل أي في الدنيا؛لأن(قَبْلُ)جاءت مضمومة منقطعة عن الإضافة،فلم يذكر الله جلّ وعلا المضاف إليه،فوَجَب إحرازه قدر الإمكان.
ق2)أن الثمار إذا أخذوا منها تُبْدَلُ بغيرها،فإذا رأوا الثاني قالوا:هذا مثل الأول الذي قطفناه من قبل؛لتشابه ثمار الجنة،وما بين هذين يدور أكثر المفسّرين.
ق3)لكنّنا نقول-والله أعلم-:إن المعنى أن أهل الجنة إذا قطفوا ثمرة في أول النهار تُبْدَلُ بغيرها تُشبِهُهَا في آخر النهار،فإذا جاؤوا يقطفونها،فإذا أكلوها وجدوها تختلف عن الطعم الأول،وأظنّ الشوكاني-رحمه الله-في فتح القدير مَالَ إلى هذا القول،ولستُ متأكّد من هذا،ولكنه قول مذكور.(21/7)
ولهم فيها أزواج مطهّرة وهم فيها خالدون ولم يقل الله عزّ وجل مطهّرة من ماذا؟!
لفائدة عظيمة وهي:أنها مُطهّرة من كلّ شيء،مُطَهّرون في خَلْقِهِم،ومُطَهّرون في أخلاقِهِم.
ذكرى وتذكير:
الإنسان إذا أراد أن يقوم من الليل،فأضجعته نفسه ودَعَتْهُ نفسه الأمّارة بالسوء إلى أن يخلد إلى الفراش يتذكّر يوم الحشر ويوم الحساب ويوم يُقال لأهل الجنة: كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيّام الخالية يتذكر يوم أن يطرق النبي أبواب الجنة،فينادي الخازن:مَن أنت؟فيقول:أنا محمّد،فيُقال:أُمِرت ألاّ أفتح لأحد قبلك،فيدخلها-عليه أفضل الصلاة والسلام-ثم يدخلها بعده الأخيار المؤمنون الأتقياء الأبرار من أمّتِه.(21/8)
يتذكر المؤمن وهو يرى ما يثبّطه عن العمل الصالح ويدعوه إلى الشهوات،ويدعوه إلى أن يعصي الله جلّ وعلا خروجَ الناس من قبورهم حفاة عُراة غُرلاً بُهْماً،أشدّ ما يكونون إلى ماء يروي ظمأهم،فإذا خرجوا وجدوا النبي على حوض يسمّى الحوض المورود فيُقبِل عليه-صلوات الله وسلامه عليه-المؤمنون الأتقياء من أمته،فيُرِدُون من حوضه،ويشربون من يده شربة لا يعطشون بعدها أبداً،إذا تذكّر الإنسان حال أهل الجنة،وما فيها من نعيم،وتذكّر حال أهل النار-عياذاً بالله-وما فيها من جحيم دعاهُ ذلكَ إلى زيادة الإيمان في قلبه،والمسارعة في الخيرات والإتيان في عمل الصالحات،ولن تلقى الله جلّ وعلا بشيء أعظم مِن سَرِيرَة صالحة وإخلاص في قلب،ومحبّة للمؤمنين وعدم بُغض لهم،لا في قلبك حسد ولا غلّ على مؤمن كائناً مَن كان،ترى مَن ترى من أَفْضَلَ الله جلّ وعلا عليه،فتسأل الله جلّ وعلا من فضله،ولا يخلو إنسان من عثرةٍ ولا من زلَلٍ ولا من خطأ،لكنّ المؤمن إذا آبَ إلى الله كَفّل الله جلّ وعلا به،قال الله جلّ وعلا في نَعْتِ خليلِه إبراهيم : إن إبراهيم لأوّاه حليم وقال الله جلّ وعلا عنه في آية أخرى: إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب أي كثير الرجعة إلى الله،فكثرة التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله مع الإيمان،والعمل الصالح،وهما مندِرَجتان فيه،كل ذلك يهيئ للمؤمن أن يدخل جنات النعيم.رَزَقَنا الله وإيّاكم إيّاها بأمنٍ وعفوٍ وعافيةٍ منه.
الفسق يأتي على معنيين:
الأول: يأتي بمعنى الكفر،ويكون مخرجاً من الملّة،ومنه قول الله جلّ وعلا: أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون .
الثاني: ويأتي بمعنى الكبيرة أو العصيان الذي لا يخرج من الملّة،ومنه قول الله جلّ وعلا: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا فهذا فسقٌ لا يُخرج من الملّة،وأصل الفسق الخروج،فكل من خرج عن طاعة الله فهو فاسق،والناس في هذا بلا شكّ درجات عدّة.(21/9)
نكمل الباقي إن شاء الله تعالى .............نسأل الله الإعانة....نسأل الله تعالى علماً لايُنسَى
الحلقة(5):
يقول الشيخ صالح بن عواد المغامسي-حفظه الله-:
الفرق بين النبي والرسول:
أكثر المصنّفين في كتب العقيدة وغيرها يقول:إن النبي والرسول بينهما فرق،فكلّ رسول نبيّ وليس كل نبي رسول،ويقولون:إن الفرق إن الرسول أوحيَ إليه شرع،وأُمِر بتبليغِه،والنبي مَن أُوحِيَ إليه وحيّ ولم يؤمر بتبليغه،لكنه خلاف الصحيح،ولماذا خلاف الصحيح؟!
إن الله عزّ وجلّ أعزّ وأجلّ من أن يُوحِي إلى عبدٍ علماً،ويكون هذا العبد سريرَ الكتمان في صدر ذلك الرجل يموت بموته،ولا يُؤمَر ببلاغه،
هذا أمر يَتَنَافَى مع الشرع،وإن هذا التعريف غير مستقيم،ولا بدّ من تعريف مستقيم،فنقول:{إن الرسول مَن أُوحيَ إليه شرع جديد،وأمّا النبي فمَن بُعِثَ على تقرير شرع من قبلَه}.
الرسل بشر لكنهم تميّزوا عن البشر بخصائص منها:
أوّلها وأعظمها:الوحي.
وثانيها:أنهم يُخيّرون عند الموت،ويُدفنون حيث يموتون،ولذلك النبي كان يُخيّر،وسمعته عائشة-رضي الله عنها-وهو يقول:"بل الرفيق الأعلى" ودُفِن-عليه الصلاة والسلام- في نفس موطن موته في حجرة عائشة،كما هو ظاهر اليوم.
ثالثها:أن الأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم [قالوا:يا رسول الله كيف نصلي عليك وقد أرِمْت؟!قال:"إن الله أوحى إلى الأرض أن لا تأكل أجساد الأنبياء"].
رابعها:أنهم أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بها،وقد مرّ النبي-عليه الصلاة والسلام- على موسى وهو قائم يصلّي في قبره،كما أخبر-صلوات الله وسلامه عليه-.
قال تعالى: فضّلنا بعضهم على بعض وهذه الآية محكمة صريحة واضحة أن التفضيل قائم بين الأنبياء،لكنّه ثبت عن نبيّنا في الصحيحين من حديث أبي سعيد وغيره أنه قال:"لا تفاضلوا بين الأنبياء"وقال :"لا تخيّروا بين الأنبياء".
إذاً يوجد بما يُسمّى بالنطاق العلمي:إشكال لا بدّ من حلّه،(21/10)
أجاب العلماء –رحمهم الله-عن هذا بأجوبة من أشهرها:
ق1)أن هذا كان قبل أن يعلم-عليه الصلاة والسلام-إنه قال ذلك القول قبل أن يعلم بأن هناك تفاضل،وهذا أضعف الأقوال في حلّ الإشكال.
ق2)قال بعض العلماء::أن التفاضل يكون ممنوعاً في حالة أن يكون معتمداً على عصَبَة وحميّة،أي:يأتي كلّ مسلم يُناصر الرسول الذي من الأمّة التي هو فيها،وهذا القول مَالَ إليه كثير العلماء،وعندما نقول:{كثير}غير كلمة{أكثر}.عندما نقول:{كثير}لا يعني أن الغلبة
لكن قال به عدد غير محدود،أمّا {الأكثر}فإنّنا نوازي بين فريقين:
ق3)وممن أجاب عن هذا من العلماء الشيخ الإمام الشنقيطي في أضواء البيان،قال:إن حلّ هذا الإشكال أن يُقال:إن الأنبياء يتساوون في أصل النبوة،ويكون التفاضل في الأعطيات التي خصّ الله بها بعضهم على بعض.
ق4)قول ابن عطيّة-رحمه الله-كما نقله عنه القرطبي،وهو أصوَب الأراء فيما نعتقد،أنه قال-رحمه الله-:"إن التفاضل يكون ممنوعاً إذا كان مخصوصاً بين نبيّ بعينه ونبيّ آخر" أي مثل:موسى وعيسى،أو محمّد وإبراهيم،أو موسى ونوح،قال هذا ممنوع؛لأن هذا يُورث شيئاً في الصدور،ولكن أن تبيّن فضل الله على نبي بخلاف ما عليه غيره من الأنبياء،هذا الذي أراده الله في قوله: فضلنا بعضهم على بعض وإلى هذا الرأي نَمِيل،والله تعالى أعلم.
نكمل الباقي إن شاء الله تعالى....نسأل الله الإعانة والسداد والتوفيق.....ونسأله تعالى علماً لا يُنسى....
نكمل ما تبقى من كلم الشيخ صالح-حفظه الله-:
يقول الشيخ صالح بن عواد المغامسي-حفظه الله-:
قوله تعالى: منهم من كلّم الله إذا أُطلق التكليم ينصرف إلى موسى-عليه السلام- لأن الله قال: إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي وقال الله: وكلّم الله موسى تكليماً لكن الذين كُلِّموا أكثر من واحد،الثابت منهم ثلاثة:1-(21/11)
1- آدم-عليه الصلاة والسلام-،فقد ثبت عنه بسند صحيح أنه سئِلَ عن آدم:أنبيّ هو؟ قال:"نعم.نبيّ مُكلّم"وهذا نصّ في المسألة نفسها.
2- موسى،بنصّ القرآن.
3-محمد في ليلة الإسراء والمعراج.
أفضل الأنبياء جملة:
أولوا العزم،قال الله تعالى: فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وهم خمسة،وقال أكثر العلماء على أنهم: نوح-وإبراهيم-وموسى-وعيسى-ونبينا محمد .
قال تعالى: وأيّدناه بروح القدس :
ق1)جمهور العلماء:على أن روح القدس المقصود به هنا:جبرائيل،ويؤيّده من السنة:أن النبي قال لحسّان:"أُهجُهُم،وروحُ القدس معك".
ق2)وذهب بعض العلماء كابن سعدي-رحمه الله-في تفسيره إلى أن المقصود بروح القدس:الإيمان واليقين في قلب عيسى ابن مريم.
يقول الشيخ-حفظه الله-:قد يشقى الإنسان في زرعٍ طوال دهره فيحصدُه غيره،وقد يجمع الإنسان المال ليأكله فيموت ويأكلُه غيره.
قال تعالى: يا أيّها الذين آمنوا... يسمّيه بعض العلماء نداء كرامة؛لأن الله تعالى نعتَ فيه عبادَه بوصف،ونعت الإيمان أحبُّ نعت إلى قلوبهم.
قال تعالى: الحيّ القيوم قال أهل العلم:كلّ أسماء الله الحسنى مردّها إلى معنى هذين الاسمين العظيمين.
- ما معنى الحيّ ؟
أن حياة الله حياة لم يسبقها عدم،ولا يلحقها زوال.
أما القيوم :
أنه جلّ وعلا مُستغني عن كلّ أحد،وكل أحد مفتقر إليه.
العلوم أربعة:
1/ علم ماضي. 2/علم حاضر. 3/علم مستقبل. 4/علم لم يكن،لكن كيف يكون لو وقع.
وهذه الأربع كلهنّ يعلمهنّ الربّ-تبارك وتعالى-قال الله في هذه الآية: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وهذا يشمل كلّ شيء،وكلّ علم.
أمّا العلم الرابع الذي قلناه:يعلم مالم يكن لو كان كيف يكون،فيدلّ عليه قوله: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاّ خبالاً هذه في المنافقين أنهم لو خرجوا لم يزيدوا المسلمين إلاّ خبالاً مع أن المنافقين لم يخرجوا،لكن الله أخبر لو كان منهم خروج كيف سيكون منهم الوضع.(21/12)
وقال عن أهل النار: ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهُوا عنه.... ومعلوم لكلّ مسلم أن أهل النار لن يخرجوا من النار،ولن يعودوا إلى الدنيا، لكن الله يخبر حتى لو عادوا على أي حال سيتصرفون.
نكمل الباقي ان شاء الله تعالى لاحقاً(21/13)
السعادة
قال الشيخ صالح المغامسي ...في مخيم جمعية إحياء التراث ..
أما بعد :
فإن المؤمنين متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى أكمل جيل وأمثل رعيل , كانوا شامة في جبين الأيام وتاج في مفرق الأعوام , حتى قال عنهم الشاعر العربي :
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً
وأخطأت دمع العين مجراه
فأصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه بهم نصر الله الدين وأعز الملة , نشئو في مدرسة محمد صلوات الله وسلامه , فهم المطعمون المنفقون الشاكرون في السراء , وهم الثابتون الصابرون في الضراء والبأساء {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً }
أيها المؤمنون أن من ينشد الحياة السعيدة , لن يجدها ظاهرة بينة واضحة كما يجدها في حياة محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين , والحديث عن تلك القمم الشامخة , حديث يطول , لكننا نحاول أن نقف على بعض أجزاء منه , إن تعذر علينا أن نقف عليه كله .
أيها المؤمنون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل , كانت فيهم صفات عدة , ومن عظمة السيرة وما حفلت به أنه يمكن أن يتدارسها الناس من عدة طرائق لأنك لا تدرس شيءً خفياً لتظهره , وإنما هي ظاهرة بينة واضحة كالشمس المشرقة , وإنما ينهل منها الواردون , ويستقي منها الطالبون , وكل يوفقه الله جل وعلا ولو إلى حيز بحسب دوره في المجتمع من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم .
وأنني إن أحمد الله جل وعلا أن أسكنني الله جل وعلا في مدينته صلوات الله وسلامه عليه , ثم قدم بي اليوم إلى هذا الملتقى المبارك الذي تنظمه جمعية إحياء التراث بارك الله جل وعلا في المشايخ النبلاء والرجال الفضلاء القائمين عليها وبارك فيكم جميعاً بدون استثناء .(22/1)
فأنني اسأل الله جل وعلا أن أوفق في أن أنقل شيئاً حسناً عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم , فهم حسنٌ بلا شك , لكن نرجو أن نوفق في الطريقة التي تبين لنا ذلك المجتمع المسلم الذي كان يحيا الحياة السعيدة الحقة التي نظم الأخوة في جمعية إحياء التراث هذا المخيم الربيعي وكان هدفهم الأسمى وغايتهم الجُلى أن نصل جميعاً إلى حياة أسعد , أي إلى حياة كان يحياها نبي الأمة ورأس الملة صلوات الله وسلامه عليه .
الخوف من الله أعظم مقاصد الشرع , وأعظم ما يثيب الله جل وعلا عليه { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }
الخوف من الله تبارك وتعالى سبيل لكل غاية , وإذا أراد الله بعبد خيراً وطن قلبه على أن يخشى ربه جل وعلا ويخاف منه {قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
وكان هابيل أشد قوة من قابيل , فلما هم قابيل بقتل هابيل , ما منع هابيل ضعف في بدنه !
وإنما منع هابيل أن يقتل أخاه خوفه من الله {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
فالخصيصة الجُلى التي كان عليها أنبياء الله من قبل ورسولنا صلى الله عليه وسلم من بعد , وعلمها صلى الله عليه وسلم أصحابه في حياته الخوف من رب العالمين جل جلاله , لأن العبد إذا خاف الله تجنب الذنوب والمعاصي أن يقتحمها .
وأن والعياذ بالله لم يرزق في قلبه خوفاً من الله , تجرأ على المعاصي وتجرأ على الذنوب , ومثل هذا أين يرجأ أن يؤتى كمالاً أو يعطى منالاً من ربه تبارك وتعالى
فأنشأ محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل على الخوف من ربهم تبارك وتعالى , وأورثهم ذلك الخوف والبعد عن المحرمات , والمسارعة والمسابقة في الخيرات , وألا لا يعقل أن أحد يتجرأ على معصية إلا أن قل الخوف فيه من الله , قد لا ينعدم منه بالكلية , لكن يقل .(22/2)
و لا يمكن أن يأتي أحد إلى طاعة إلا وحسُن ظنه بالله أن يثيبه قال الله جل وعلا { ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ليس العلماء من حفظ المتون وأملوا الدروس , كل من خشي الله فهو عالم بمقدار خشيته , وكل من عصى الله فهو جاهل بمقدار معصيته .
قال الحسن البصري رحمة الله تعالى عليه ( إنما العلم الخشية) أي الخوف من الرب تبارك وتعالى
هذه أيها المباركون أعظم ما ربى النبي صلى الله عليه وسلم أمته وهو المفتاح الحق للحياة السعيدة .
الأمر الثاني وليس المقصود الترتيب , وإنما كما قلت أنا أجتذب من السيرة ما أمكن .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الله جل وعلا {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وقال جل وعلا {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } .
الفساد في الأرض أعظم ما نهى الله جل وعلا عنه قال تعالى {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } ولما أثنى الله جل وعلا على رجال قد خلو وأمم قد سبقت قال { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } ولولا هنا بمقام الحض والحذف
والذي يعنينا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظمى , حملها النبي صلى الله عليه وسلم وحملها أصحابه من بعده وفي حياته صلوات الله وسلامه عليه
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يشعب الحديث معنا قليلاً علمياً , توحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة أعظم المعروف .والشرك بالرب تبارك وتعالى أعظم المنكر , قال : أي الذنب أعظم , قال : أن تجعل لله نداً وقد خلقك .(22/3)
وأعظم المعروف كما حررنا سلفاً توحيد الرب تبارك وتعالى , ولهذا بدأ الرسل جميعاً بلا استثناء دعوتهم إلى أممهم , بدعوة الناس إلى عبادة الله وحده وإفراد العبادة له جل وعلا دون سواه , مع التحذير والنهي عن الشرك كما قال الله حكاية عن العبد الصالح : { يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } .
ثم من أعظم المعروف الذي أمر به جل وعلا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وبقية الأركان .
أما المنكرات فأن من أعظمها بعد الشرك اثنان القتل والزنا .
وهذه الثلاث ألا وهي : الشرك بالله والقتل والزنا حرمها الله في جميع الشرائع قال الله جل وعلا في سورة مكية وهي الفرقان { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } هذه الآيات نزلت في العهد المكي , قبل أن تؤصل الشرائع كما وقع في المجتمع المدني
فأما القتل فأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : [ لأن تهدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم ] ذلك أن الكعبة إذا هدمت إنما هي بنيان يأتي الصالحون فيعيدون بناءها , أما المسلم إذا قتل فأزهقت روحه , فلا سبيل أبداً إلى عودة روحه , من هنا كان عظمة قتل معظمة جداً عند ربنا تبارك وتعالى إلا بالحق كما قيد ربنا جل وعلا .
والله جل وعلا ذكر في القرآن خبر قابيل و هابيل , وأن قابيل تجرأ على هابيل فقتله , فلما حار في أخيه كيف يصنع به , وأراد الله أن يعلمه , عامله الله جل وعلا بمثل صنيعه , كل شيء يا أخي مما فيه روح قابل أن يبعثه الله ليعلم قابيل , لكن الله أختار الغراب من أعظم الفواسق , حتى يقول لقابيل هذا من جنسك أنت قال الله جل وعلا { فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ }
ماذا قال ؟(22/4)
قال : { قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } فأعترف أن الغراب أفضل منه , والسبب في ذلك أنه تجرأ على دم حرام لم يبحه الله جل وعلا .
والمسلم الذي يعلم ما هو المعروف , وما هو المنكر , لا يتجرأ على الدماء بيده , ولا يتجرأ على الدماء بلسانه فيريق دم مسلما معصوماً بفتوى أو بغيرها يريد بذلك عرضاً من الدنيا أو يخطئ أو يصيب ,
وإنما دماء المسلمين حرام قبل أن يتكلم المرء فيها يجب أن يتقي الله جل وعلا تقوى عظيمة , وقد مر معكم أن أبا حنيفة رحمة الله تعالى عليه في أيامه كأنه ظهرت في مكان كان يسكنه شوكة الخوارج الذين يرون كفر مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة , فجاءوه ذات يوم وهو في المسجد فرفعا سيفين عليه , وقالا جنازتان في الباب , أي بباب المسجد ,
الأولى لرجل مخمور شرب الخمر فغص بها فمات , ما تقول فيه ؟
هما يريدان أن يقول أنه كافر , فأحتال عليهما و قال ممن هما ؟
يهوديان؟
قالوا لا ,
قالوا والأخرى , الجنازة الأخرى : امرأة حبلى من الزنا ماتت قبل أن تتوب .
فالخوارج يرون أن مرتكب كافر فيستبيحون دمه .
فقال : هل هما يهديان ؟
قالا : لا .
قال : هل هما من النصارى ؟
قالا : لا .
قال : هل هما من المجوس ؟
قالوا : لا .
قال : ممن هما ؟
فقالا من غير أن يشعرا , قالا : هما مسلمان .
قال : أنتم حكمتم أنهما مسلمان , أنا لم أقل شيئاً .
فقالوا : دعنا من ألاعيبك , قل لنا هما في الجنة أم في النار ؟
فقال : رحمة الله تعالى عليه وهنا يظهر دور العلم ,
قال : أقول فيهما ما قاله خير مني في من هو أشر منهما , أقول فيهما ما قاله عيسى { ان تعذبهم فأنهم عبادك وان تغفر لهم فأنك انت العزيز الحكيم} وأقول فيهما ما قاله خليل الله إبراهيم { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كل ذلك ورعاً أن يكون بسبب كلمة أو فتوى يقولها سفك للدماء .(22/5)
والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء بطرائق شرعية معروفة , فلا يجوز لمؤمن أن يسفك دم مسلم [لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دم حرام ]
والمنكر الثالث بعد الشرك والقتل الزنا عياذاً بالله قال الله جل وعلا { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجال ونساء في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه يتضاغون فيه , قلت من هؤلاء يا جبريل , قال : هؤلاء الزناة والزواني عياذاً بالله .
وينبغي على المجتمع المسلم أن يتعاضد أفراده وآحاده على إيقاف الرذائل مهما كانت , وعلى نشر الفضائل وحراستها , وعلى إشاعة فضيلة الحياء في الناس , حتى يبتعد الناس قدر الإمكان عن ذلك المنكر الذي حرمه الله , وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم , بل قد قال العلماء جاءت الشرائع كلها بتحريمه .
على أن العاقل إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينكر منكرا , يكون حكيماً عاقلاً لبيباً عالماً , فلا يؤدي إنكاره على مفسدة أكبر منها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( ليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً ) أي مباني عديدة , دياراً بأكملها , (ليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً ليبني قصراً ) أي ليبني قصراً واحداً , وإنما ينظر - من تصدر للقرار للكلام للحديث للفتوى للتدريس – ينظر للمجتمع , وقد يمكن السكوت على منكر , خوفاً مما هو أعظم منه في بيئة , ولا يمكن السكوت عنه في بيئة أخرى .
وهذه أمور يدركها كل من تأمل الشريعة حق التأمل , ونشأ مؤصلاً نفسه علمياً على سنن صالح الأسلاف رحمة الله تعالى عليهم .
الخصيصة الثالثة في المجتمع المحمدي : o0o التواد والتراحم o0o(22/6)
أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه : أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم , فليقي أبا بكر وعمر في ساعة لم يكن يخرجوا ولا يخرجا فيها , قال : [ما الذي أخرجكما في هذه الساعة , قالا : أخرجنا الجوع , قال صلى الله عليه وسلم : وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع] .
هذا النبي الأمي لم يكن غنياً ولم يكن فقيراً , تمر عليه أيام يجد فيها ما يأكله , وتمر عليه أيام لا يجد فيها ما يطعمه .
وبهذه النظرة التكاملية يعرف وضعه صلى الله عليه وسلم { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى } خرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر رضوان الله تعالي عليهما أخرجهما الجوع , [قال وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع ]
ومن هنا تعلم أن بعض الفضلاء من الناس إذا قال كلمة أنا تعوذ , وقال أعوذ بالله من كلمة أنا , ولا يوجد تثريب شرعي في أن يقولها الإنسان ,
إنما نقمها الله على فرعون وعلى إبليس لما بعدها لا من للفظة نفسها ,
لأن إبليس قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }.
وفرعون عياذاً بالله قال :{ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } .
لكنها تكره إذا كان الإنسان يدق باب فسأل من أنت ؟
فيقول أنا
فمثل هذه الحالة لا تفيد معناً , ولا تؤدي جواباً ولا يعرف من أنت ما لم تسمي نفسك , من أجل ذلك كرهها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع المقيد .(22/7)
خرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر فأتيا أو أتوا بيت أبا الهيثم بن ...رضي الله عنه وأرضاه لم يكن في الدار كانت زوجته , لما رأتهم فرحت , وخوفاً من أن يذهبوا , قالت مرحباً وأهلاً , وأدخلتهم الدار , فجاء أبو الهيثم لما رآهم ماذا قال , قال : ما أحد اليوم أكرم أضياف مني , وصدق رضي الله عنه وأرضاه , لم يكن يومها على وجه الأرض أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر
فبادر إلى عذق في النخلة فأخرجه بسر ورطب وتمرا , وكل ما عنده فقدمه لهم وقال تخيروا ثم عمد إلى المدية وهي السكين , فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في يده – فتأمل أيها المبارك كيف يربي نبي الأمة عليه السلام الأمة – [قال إياك والحلوب] , أي لا حرج أن تذبح , لكن لا تذبح شاة حلوباً يستفيد منها أهل الدار
لو منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا الهيثم أن يذبح , لمنعه من أكرام ضيفه وهذا لا يعقل أن يفعله عليه الصلاة والسلام , وفي نفس الوقت يخشى على أهل البيت الضرر [فقال إياك والحلوب ]
وهكذا العاقل في تعامله مع من حوله , في القضايا التي تلج عليه مع الناس , لا يمكن أن يسلب الناس ما يفخرون به ويفرحون به , وفي نفس الوقت لا يطلق العنان حتى تصبح المسألة مسألة ضرر و فتنقلب من إكرام ضيف إلى ضرر بالأهل , فقال صلى الله عليه وسلم [إياك والحلوب ] .
ونظير هذا في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد كثر القتلى بالمسلمين حتى بلغوا سبعين , فحملت الأنصار قتلاها تريد أن تدفنهم في المدينة , فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا قتلى الشهداء , في مواضيعهم , والعدد سبعون , الصحابة الذين نجوا كانوا مرهقين جداً
حتى أنهم صلوا الظهر قعوداً وراء النبي صلى الله عليه وسلم , فعاد عليه الصلاة والسلام إلى أسلوبه الأمثل , ماذا قال ؟(22/8)
لم يوافق على أن ينقلوا القتلى إلى المدينة , حتى تشهد أرض أحد لهم , وفي نفس الوقت لا يريد أن يكلف هؤلاء المثخنين بالجراح أن يحفروا سبعين قبراً , ماذا قال ؟
قال : أجعلوا الرجل والرجلين والثلاثة في قبر واحد , فإذا جعلنا ثلاثة من قتلى المسلمين وشهدائهم في قبر واحد , قل عدد القبور , فلجأ صلى الله عليه وسلم إلى طريقة مثلى تجمع ما بين عدم إرهاق الصحابة وفي نفس الوقت يتحقق المراد ويدفن الشهداء عند جبل أحد أرض المعركة .
هنا قال صلى الله عليه وسلم : [إياك والحلوب ] , ذبح لهم رضي الله عنه وأرضاه , قدم , قال صلى الله عليه وسلم بعدها لصاحبيه : [لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة] , ثم أنه صلى الله عليه وسلم , وما يحمله في قلبه من مودة ورحمة مع علو كعب في الفهم , كأنه عرف أن أبا الهيثم ليس له خادم , فلما فرغ من ضيافته , قال له : [ أأتنا إذا جاءنا سبي] , فلما قدم سبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , جاءه أبو الهيثم , وقد جاء بالسبي رجلان , فقال صلى الله عليه وسلم : [أختر أيهما شئت , قال يا رسول الله أختر لي ]
قال عليه الصلاة والسلام كلمته التي سارت بها الركبان وضربت مضرب المثل قال : [المستشار مؤتمن ] , يعلم الأمة أن من استشارك فقد قلدك أمانة في عنقك , فأتق الله جل وعلا فيمن استشارك أن تكون بطانة خير له , تخبره بما ينفعه , وتدله على الصواب , ولا يقع في مثل هذه الأحوال غيبة .(22/9)
فقال صلى الله عليه وسلم ليبين للأمة ما الطريق المثلى بالحكم على الناس قال : [أختر هذا فأني رأيته يصلي ] , لما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الصلاة على النفس , قال لهذا الصحابي الجليل لأبي الهيثم : أختر هذا فأنه يصلي , ثم قال صلى الله عليه وسلم له : [وأستوصي به معروفاً ] , شفقة على هذا الرقيق , رجع أبو الهيثم مع الرقيق الذي أعطاه نبينا صلى الله عليه وسلم إياه من السبي , دخل على زوجته يظهر الفرح على أسارير وجهه , أخبرها الخبر , ثم قال لها : [وأن نبي الله قال لي : وأستوصي به خيراً أو معروفاً ]
فقالت المرأة الحاذقة : [يا ابا الهيثم أعتقه ] فبهذا يتحقق وصية نبينا صلى الله عليه وسلم , ولم يكن مراد رسول الله فيما نعلم أن يعتقه , لكن المرأة أرادت أن تبلغ الكمال في حمل حديث نبي رب العزة والجلال صلوات الله وسلامه عليه , فأعتقه ,
فبلغ خبر عتقه للنبي صلى الله عليه وسلم , فقال صلوات الله وسلامه عليه , أخبر أن المرء لا بد له من بطانة إما بطانة خير وإما بطانة سوء , وقصده أن هذه المرأة هذه الزوجة كانت بطانة خير لزوجها بما أشارت به عليه
والحديث سقناه لنبين التواد والتراحم في المجتمع المدني آنذاك , والنماذج على هذه كثيرة لكننا حدثنا ببعضها
الخصيصة الرابعة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مما رباهم عليه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه :
*·~-.¸¸,.-~*القيام بواجب المسلم نحو أسرته *·~-.¸¸,.-~*
الله جل وعلا قدم من لهم حقوق , الوالدين وقال بعد ذلك { ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } وبين حق الجار
والعاقل ينتقل من دائرة ضيقه إلى دائرة أوسع , فلا يقدم من أخره الله , ولا يؤخر من قدمه الله , وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون حق أسرهم عليهم , حتى ينشأ المجتمع مجتمع مدني .(22/10)
ألا ترى أن أول من امن بالنبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به , خديجة زوجته وأبو بكر صاحبه وزيد غلامه وعلي ربيبه , فهؤلاء أول الناس إسلاماً , لأنهم كانوا قريبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون عطفه ورحمته وشفقته فتأثروا , فلما دعاهم لإلى الإسلام بادروا .
والمؤمن ينبغي أن يدرك واجبه نحو أسرته , جابر رضي الله عنه بن عبد الله بن حرام الأنصاري , استدعاه أبوه ليلة أحد , ثم قال له : يا بني قد حضر ما ترى أي القتل والحرب والمعركة , واني لا أراني إلا أول من يقتل غداً , فإذا أنا مت فأقضي ديني وأستوصي بأخواتك خيرا , وكان جابر رجلاً ذكراً واحداً بين أخوات .
جاءت المعركة كان عبد الله بن حرام والد جابر صادق مع ربه , فكان من أوائل من قتل في المعركة , يقول جابر : فدفنت والدي مع غيره , وجاء في رواية أظنها في الموطأ من مراسيل مالك أنه دفن مع عمرو بن الجموح , ثم يقول : لم تطب نفسي بعد ستة أشهر أن يدفن رجل مع أبي , فحفرت فوجدته كيوم دفنته إلا شيء يسيراً في أذنه .
موضع الشاهد أن جابر أخذ بوصية أبيه في العناية بأخواته فتزوج ,على أي طريقة تزوج ؟
على الطريقة المحمدية في تعليم الناس , لا يترك الأشياء بالكلية , ولا يأخذها بالكلية , وإنما يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى الوسطية في التعامل مع الأشياء .
فجابر أيها المبارك أوصاه أبوه بأخواته , وفي نفس الوقت هو شاب لنفسه عليه حق أن يتزوج , فكان أمامه طريقان :
أما أن يترك الزواج ويعتني بأخواته .
وأما أن يقول ينشأن على مراد الله على رعاية الله وأتزوج وأنظر في نفسي .
لكن جابر التلميذ في المدرسة المحمدية لم يصنع هذا ولا هذا , تزوج امرأة ثيباً , فلما تزوج الثيب أسقط شيئاً في حق نفسه أنه لم يتزوج بكراً , لكن لم يسقط الزواج بالكلية , وفي نفس الوقت أسقط شيئاً يسيراً من حق أخواته , لم يتفرغ لهن بالكلية , لكن تزوج ثيباً حتى تقوم على أخواته .(22/11)
فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه تزوج [ هلا بكراً تلاعبها و تلاعبك ] ذكره بوصية أبيه , قال يا نبي الله أن أبي ترك أخوات والمر كذا وكذا فسره له , فأقره صلى الله عليه وسلم على قوله ذلك بسكوته ولم يعنفه ولم يثرب عليه صلوات الله وسلامه عليه .
أيها المؤمنون من حولنا من أبوين وزوجه وبنات في المقام الأول وبنين في المقام الثاني أحوج الناس إلينا , ولا خير فينا إن كان الإنسان منا يحاول أن يعطي الأبعد ويترك الأقرب ,لكن يقدم من قدمه الله
لأن من يعطي الأبعد ويترك الأقرب , نقول له أن كنت تريد ما عند الله فليس هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لنا , وأن كنت تريد ما عند الناس فإن الناس والله لا يملكون قلوبهم حتى يهبوها لك , فكيف تطلب منهم شيئاً لا يملكونه ولا يطيقونه ,
وإنما يعرف الرجل والعالم الرباني بسيره على منهاج الله , بوقوفه عند كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم
قال المؤرخون أن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر ذات ليلة على فتية من الأنصار يحتسون الخمر ( من الأنصار يعني نسباً) في حائط أي في بستان , فعتلى السور ودخل عليهم
فقالوا يا أمير المؤمنين جئنا بواحدة وجئتنا بثلاثة قال الله { وَلا تَجَسَّسُوا } وأنت تجسست
وقال الله { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } وأنت أتيتنا من أعلى السور
وقال الله { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } أي تستأذنوا وأنت لم تستأذن .
وعمر يملك الرد على هذا , لكنهم لما أتوا عن طريق الآيات أطرق رضي الله عنه وأرضاه رأسه لها , وهذا هو حقيقة الوقوف عند آيات الله .
قال حافظ رحمه الله
و فتية ولعوا بالراح فانتبذوا ** لهم مكانا و جدوا في تعاطيها
ظهرت حائطهم لما علمت بهم **و الليل معتكر الأرجاء ساجيها
حتى تبينتهم و الخمر قد أخذت **تعلو ذؤابة ساقيها و حاسيها
سفهت آراءهم فيها فما لبثوا ** أن أوسعوك على ما جئت تسفيها(22/12)
و رمت تفقيههم في دينهم فإذا ** بالشرب قد برعوا الفاروق تفقيها
قالوا مكانك قد جئنا بواحدة ** و جئتنا بثلاث لا تباليها
فأت البيوت من الأبواب يا عمر ** فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها
و استأذن الناس أن تغشى بيوتهم ** و لا تلم بدار أو تحييها
و لا تجسس فهذي الآي قد نزلت ** بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
فعدت عنهم و قد أكبرت حجتهم ** لما رأيت كتاب الله يمليها
و ما أنفت و إن كانوا على حرج ** من أن يحجك بالآيات عاصيها
وهذا هو الشاهد من القصيدة كلها
]( وما أنفت وان كانوا على حرج
من أن يحجك بالآيات عاصيها ) أن عندما تقبل قول أحد لأنه أستدل عليك بالقرآن , تقبله للدليل لا لذاته , وهذه تربية عظيمة يربي المرء عليها نفسه , لكنها تحتاج إلى نوع من المكابدة والاستمرار والأخذ والعطاء ما أمكن إلى ذلك سبيلا .(22/13)
العبد الصالح للشيخ صالح المغامسي
أيها المؤمنون :
إن الله جل وعلا أفاء على عبده سليمان بن داود بالنعم العظيمة وآلاء الكريمة يوم إن ستجاب الله له عندما قال : " ربي أغفر لي وهب لي ملك لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب " .. فسخر له الله جل وعلا الجن والأنس والطير قال الله تعالى في معرض قصصه عن هذا النبي الكريم عليه السلام " وحشر لسليمان جنوده من الجن والأنس والطير فيهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يأيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها" ...
مّر سليمان عليه السلام في المنعة و العزة و الجند الذي أعطاه الله إياه حتى آتى على وادي النمل فسمع نملة تنادي في أصحابها ( أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) .. فأعجبه عليه السلام رفقها بقومها وتأدبها مع سليمان وجنده فرفع يديه يدعو ربه جل وعلا قائلاً بثلاث دعوات :
{ ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وأن أعمل صالح ترضاه } .. فدعى في الأولى عليه السلام أن يمنّ الله عليه على شكر ما أفاءه الله عليه من النعم وعلى والديه ثم سأل الله جل وعلا في الثانية أن يعينه على العمل الصالح الرشيد في قوله عليه السلام { وان أعمل صالحاً ترضاه } ... ثم ختم تلك الدعوات الثلاث عليه الصلاة والسلام بقوله أن يدخله الله برحمته في عباده الصالحين
مع أنه مقرر شرعاً أن سليمان عليه السلام نبي كريم ولا يخفى أنه يكون نبياً كريماً حتى يكون في المقام الأول عبداً صالحاً .. والمقصود في هذا السياق أن الدخول في عباد الله الصالحين مطلب عظيم ومرتقى صعب طالما طلبه أنبياء الله ورسله والأخيار من العباد المتقون من الخلق يفزعون إلى الله في أدبار الصلاة و أثناء السجود وغير ذلك من مواطن وأماكن وأزمنة الإجابة يفزعون إلى لله أن يجعل منهم في زمرة عباد الله الصالحين ..(23/1)
فالعبد الصالح غاية عظيمة جليلة ..
لابد لله جل وعلا وعد عليها جنات عدن في الآخرة ووعد عليها عظائم الأمور في الدنيا.. والعبد الصالح.. لفظه شرعيه مباركه جاءت في القرآن و في السنة جاءت في القرآن وقف على أعلام وجاءت في السنة وقف على أعلام وجاءت في القرآن والسنة صفات مطلقة لعباد غير مذكور الأسماء النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالشرع وأحرص العباد على أن ينتفع الخلق يذكر بالله و يدعو إليه ويعرف به ...
مما كان صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه أنه صلى الله عليه وسلم بهم ذات يوم فسمعهم يقولون في التشهد ( السلام على جبريل و ميكال السلام على فلان وفلان ) فلما فرغ من صلاته ألتفت إليهم وقال لاتقولوا هذا قولوا (التحيات إلى الله والصلاة والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) .. ثم قال صلى الله عليه وسلم فإنكم إن قلتموها أصابت كل عبداً صالح في السماء أو في الأرض ,... فهذا مما قصده صلى الله عليه وسلم أن يعلمه أصحابه أن يكون من الفوز الذي ينشدونه والغايات التي يطلبونها أن يكون من عباد الله الصالحين فإن كان الإنسان عبداً صالحاً فإن قول المصلي في صلاته السلام علينا وعلى عباد الله الصاحين يدخل هذا المؤمن التقي النقي في زمرة من دعي له ذلك المصلي في صلاته ..(23/2)
لوط عليه الصلاة والسلام وهو على الأظهر ابن أخ لأبراهيم عليه السلام آمن لأبراهيم كما قال الله في كتابه لما ذكر في السياق قصة إبراهيم قال ( فآمن له لوط ) ثم ان لوط عليه السلام نبأه الله وبعثه رسولاً إلى قرية سدوم فدعاهم إلى ترك الشرك وترك الفاحشة التي كانت شاعة ذائعة عندهم فجأته الملائكة فراودوه أهل قومه على ضيفه حتى أخزهم الله وجعل منقلبهم إلى وبال وأمرهم إلى خسران في قصة شهيرة ذكرها الله في كثير من سور القرآن والمقصود من هذا كله أن هذا الوصف ناله بسبب عيناً تسميته نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام أما في السنة فقد نعت صلى الله عليه وسلم بالصلاح ثلاثة : سعد بن معاذ , عبدالله بن عمر, النجاشي ملك الحبشة .. فإنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى قومه إلى الصحابه في اليوم الذي مات فيه النجاشي وقال لهم : مات اليوم رجل صالح من الحبشة فهّلم فصلوا على أخيكم وخرج بهم صلى الله عليه وسلم إلى المصلى وصلى على النجاشي .. ولكنه لا يوجد بين أيدينا ما يمكن أن يحدث الناس به عن النجاشي رحمه الله ورضي الله عنه .. كان رفيقاً بالمؤمنين لما هاجروا إليه نصرهم ومنعهم وكان على صلاح وتقوى بشهادة نبينا صلى الله عليه وسلم ..(23/3)
وأما سعد بن معاذ وعبد الله بن عمر فأما عبدالله بن عمر فهو من المهاجرين والأبن الأكبر لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان رجلاً صالحاً تقياً وهو من صغار الصحابه الذين عاشوا في عهد النبوة ومن كبارهم الذين عمّروا بعد النبي عليه الصلاة والسلام فقد أدرك ولايه الحجاج بن يوسف الثقفي أي أنه عمّر إلى فوق الثمانين عاماً وكان هذا الصحابي الجليل محباً لرسولنا صلى الله عليه وسلم وأشتهر عنه الصلاح أمور كثيرة لكن أكثرها عظيم أتباعه لنبينا عليه الصلاة والسلام حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على شجرة سمرة فكان ابن عمر رضي الله عنه يأتي إليها ويجلس تحتها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع ونقل أنه كان يأتي بالماء فيسقي تلك الشجرة حتى لا تيبس لتبقى حتى يأتي إليها تخليداً أو تأسياً بنينا صلوات الله وسلامه عليه ..
هذا الصحابي الكريم نعته النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الرجل الصالح في حديث صحيح { أنه رأى رؤيا .. رأى أن ملكين أتياه فطفا به إلى النار فرأها مطوية كطي البئر ورأى فيها أناس قد عرفهم فجعل فجعل يقول في منامه : أعوذ بالله من النار. أعوذ بالله من النار .. أعوذ بالله من النار .. فجاء له ملك وقال له : لن شُرع فلما أصبح كان شاباً عزباً ينام في المسجد فلما أصبح أخبر أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فقصتها حفصة على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فقال النبي الكريم عليه السلام < إن أخاك عبدالله رجل صالح لو كان يقوم الليل > فهذه شهادة من نبينا صلى الله عليه وسلم
لعبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه عبد صالح ..(23/4)
فمن ظفر بنفس الشهادة سعد بن معاذ الأوسي المعروف السيد الكبير رضي الله عنه وأرضاه .. سيد الأوس في زمانه وهو الذي كان إسلامه سبباً في أسلام كثير من دور المدينة وبيوتها وأهلها لأنه كان سيداً مطعاً وهو الذي قال لنبينا عليه الصلاة والسلام في يوم بدر في خطبة الشهيرة يحث النبي صلى الله عليه وسلم
على الجهاد وعلى أن أصحابه ماضون معه قادمون فيما يقدم عليه فّسر النبي صلى الله عليه وسلم بحديثه وخطبته وقال { أمضوا فإن الله وعدني أحد الطائفتين} هذا الصحابي الجليل أصيب في أكحله يوم الخندق أصابه رمي فرماه فأصيب في عرق يقال له الأكحل رضي الله عنه وأرضاه .. وكان رجلاً جسيماً يركب الدابه وينشد عليها الأشعار التي تدل على شجاعته لما رأته عائشة رضي الله عنها يهذه الصفة خشيت عليه من الموت إلا أن هذا الجرح بدأ يتضاعف تدريجياً حتى تفرق الأحزاب عن المدينة فلما تفرق الأحزاب كانت غزوة بني قريظة وحكمه النبي صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ قد أشتد الجرح عليه فأوتى به محمولاً على حمار فلما قعد به أصحابه إلى الموضع الذي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال صلى الله عليه وسلم : قوموا إلى سيدكم ..
أي إلى سعد ثم حكم فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعه ثم بعد ذلك أشتد فيه المرض فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم قبه في المسجد حتى يعوده فيها لعظيم منة على دين الله تعالى وجهاده وصلاحه فلما توفي رضي الله عنه أزداد الجرح وانفجر دمله فنزل سبعون ألف من السماء ليشيعوا جنازته أكثر لم ينزل من السماء قط .. فخرج صلى الله عليه وسلم
يجر رداءه ويسرع في مشيته وأصحابه من حوله تكاد تتقطع أشساع نعالهم وتسقط أردءتهم وهو يقول صلى الله عليه وسلم : أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فلما دخل عليه وهو يغسل وأما سعد تبكي عليه قال صلى الله عليه وسلم : كل نائحة تكذب إلا أم سعد رضي الله عنه وارضاه .. ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم(23/5)
سار في جنازته فلما وضع في قبره تغير وجه صلوات الله وسلامه عليه ثم سبح ثلاث فسبح الصحابه الذين معه حتى ارتج البقيع .. فكبر صلى الله عليه وسلم فكبر أصحابه معه حتى أرتج البقيع ثم قال عليه الصلاة والسلام : هذا العبد الصالح الذي اهتز عرش الرحمن لموته وفتحت له أبواب السماء ونزل سبعون ألف ملك لتشيعيه لقد ضم عليه القبر ضمه لو نجى منها أحد لنجى منها هذا العبد الصالح .
.(23/6)
فخبر صلى الله عليه وسلم أن سعد على تقواه وصلاحه وجهاده وأيامه المشهودة مع نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينجو من ضمة القبر قال العلماء كما حكى الذهبي وغيره ( ولايعلمن مؤمن أن هناك راحه دون لقاء الله ) فالمؤمن لايمكن أن يضع عنه الأوزار وتذهب الآلام حتى يلقى ربه جل وعلا أما من يوم ان نفخت فينا الروح حتى نلقى الله جل وعلا فلابد من النصب ولابد من كبد ولابد من سقم ولابد من ألم في الدنيا وفي القبر ويوم يقوم الأشهاد حتى يخلف المرء جسر جهنم وراء ظهره يدخل الجنة ويلقى الله هناك يسترح المؤمن الراحه كلها قال الذهبي رحمه الله [ مع ما أصاب سعد من ضمة القبر إلا أننا لنشهد ان سعداً في الجنة وأنه من أرفع مقامات الشهداء رضي الله عنه وأرضاه ولكن الله تعالى سنن لا تتبدل وصبغة لا تتغير ولذلك قال صلوات الله وسلامة عليه { إن للقبر ضمة لو نجى منها أحد لنجى منها هذا العبد الصالح } .. وليست ضمة القبر داخلة في عذاب القبر وإنما هي ألم يصيب المؤمن كما يصيبه في الدنيا عندما يفقد حبيباً او يسافر عن أهله أو ما إلى ذلك مما يجده الإنسان من عناء النفس وليست من عذاب القبر في شيء ولكنها ضمة مكتوبة على كل مقبور كم أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه .. أيها المؤمنون هؤلاء الثلاثة جاءت السنة كما بينت في وصفهم عباد صالحون وجاء القرآن بذلك إسماعيل وإدريس وذو الكفل ..(23/7)
لكننا ماذكرناه عيناً لا يعني الحصر فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عباد صالحون والأنبياء والمرسلون أولى أن يكون عباد الله صالحين ولكننا تقيدنا باللفظ الذي تمليه المحاضرة ولايشك عاقل أن قدمكم المبارك رزقنا الله وإياكم الحياة الطيبة والسريرة الصادقة والدمعة الخالصة لا يجهل احد منكم أن الإنسان لا يكون عبداص صالح حتىى يعمل الصالحات وليس هذا الذي قدمنا لنجيب عليه لكننا الذي قدمنا من أجله ومن أجله أقيمت المحاضرة أن نضع معايير ونضع يقينات من عرفها وآمن بها وتعامل مه الله بوفقها نال إن شاء الله ان يكون عبداً صالحاً .. هذه المعايير إذا أدركها العبد عرف كيف يكون يتعامل مه الله مستقاه من الكتاب و مستقاه من السنة .. تقرب من الله وتدل إلى الجنة وإلا لا يجهل مؤمن أن الصلاة والصيام والزكاة والحج وأشباه ذلك مما شرعه الله به يكون المرء مؤمن صالح لكن من الناس من يعملون هذا ولا يستطيعون فعله لفقد المعايير واليقينات والمدلاكات التي من خللها يتعاملون مع ربهم تبارك وتعالى ..
أولى هذه اليقينات وهو سبع :(23/8)
أن يعلم الإنسان أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه وأن خزائن كل شيء بيده وأنه خلق خلقه وهداهم النجدين فمنهم قريب ومنهم بعيد وأنه جل وعلا خلقهم وسخرهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد وأنه الأمر أمره و الخلق خلقه والكل عبيد به عبيد قهر وذلة شاءوا أم أبوا وفي الحديث القدسي أنه صلى الله عليه وسلم قال ( يقول الله جل وعلا ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظلموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فستهدوني أهدكم ياعبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فستطعموني أطعمكم ياعبادي كلكم عاري إلا من كسوته فستكسوني اكسكم ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فستغفروني أغفر لكم ياعبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني ياعبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئا ياعبادي لو أ أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ياعبادي لو ان اولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل ذي سؤل مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، ياعبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد لله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن غلا نفسه )
الحمد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ..
إذا أدرك المؤمن هذا ..يدرك أنه لاعز إلا بتذلل لعظمته ولافوز إلا في طاعته ولا غنى إلا في الإفتقار في رحمته ولانعيم إلا في قربه ولاصلاح ولافلاح إلا في الإخلاص له مع توحيده وحبه جل وعلا .(23/9)
هذا ربنا جل وعلا خلقنا وهو الغني كل الغنى عنا فمن تعامل مع الله وهو يعلم أن الله قادر على كل شيء إن أهتدى فبفضل من الله ونعمه وإن ضل فبعدل وبما جنت يداه ..إن تعامل مع الله على ان الله مطلع عليه أن قدم الحسنى سيجازيه عليها وإن عمل السيئة سيجازيه عليها إن لم يغفر الله له ..
من اعظم وطرائق الوصول إلى الصلاح لأن الإنسان إذا كان لايعلم ربه لن يحسن التعامل مع رب العزة تبارك وتعالى ولذلك ذكر الله جل وعلا في آيات عظيمة وعلى ألسنة رسله يعّرف تبارك وتعالى بذاته العلية وأخبر أنبيائه ورسله كيف أخذوا يعرفون بربهم ويدلون الخلق على خالقهم جل وعلا حتى يحكموا عبادتهم عندهم يقول سبحانه بعد أن عرّف بذاته العلية ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )
فما من شيء إلا وخزائنه بين يديه يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويقبض ويبسط ويعز ويذل يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ويرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار و لايكشف
لأحرقت سفحات وجهه منتهى إليه بصره من خلقه وأعظم الناس فرحاً بربهم وصلاحاً في أعمالهم أعلم الناس بربهم جل وعلا إلا إنه ينبغي أن يعلم أن روح العبودية يتمثل بمحبة لله جل وعلا ..
قال العلماء (إن المحبة كلما عظمت في القلب كان التوقير لله أعظم وكان الإنسان للطاعة اقبل وكان الأنس والسرور بالله جل وعلا أكمل )
قال ابن القيم رحمه الله من قرّت عينه بالله قرّت له كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات )(23/10)
لاتقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات .. لا تقر عينه بأعظم من رضوان الله تبارك وتعالى .. هو يعلم أن الله جعل الدنيا مراحل مطوية يبتلى ويختبر تبارك وتعالى عباده فيها .. حتى إذا قام الأشهاد وحشر العباد أدخل الله جل وعلا في رحمته أهل الصلاح الجنة وأدخل أهل النار النار كما أن المؤمن يعلم عن ربه جل وعلا أن الله خالق الأسباب وخالق مسبباتها فلا يكون شيء إلا إذا أراداه الله ثم هذا الشيء مما أحبه الله ومما كرهه الله إذا وقع يكون بإرادته تبارك وتعالى ..
لما تعطلت الأسباب عند زكريا طلب من الله الولد فلما بشره الله بالولد تعجب قائلاً (قال ربي أنا يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وأمراتي عاقر ) فجاء الجواب القرآني ( قال كذلك الله يفعل مايشاء ) ولما أنتفت الأسباب ولم تتعطل بل لا توجد أصلاً في قصة مريم وأخبرتها الملائكة بأن الله سيرزقها الولد تعجبت قائلة ( قالت ربي أنّا يكون لي ولد ولم يمسني بشر ) فكان الجواب الإلهي ( قال كذلك الله يخلق مايشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ) فهذه ياأخّي أول الحقائق وأعظم اليقينات وأجل المدركات أن تعلم هذا العلم عن ربك تبارك وتعالى حتى يتيسر لك بعد ذلك ان تكون عبداً صالحاً ..(23/11)
الأمر الثاني : ان تعلم أن الله جل وعلا طيب لا يقبل إلا طيباً ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) .. والجسد أما أن يبنى على طعام ومال حلال مباح وإما أن يبنى على أمر محرم .. فإن بُني على محرم فقد قال صلى الله عليه وسلم ( أيما جسد بُني على السحت فالنار أولى به ) وإن بني على المباحات فإن هذا الجنة أولى به فإذا أنفق تقبل الله منه وإذا انفق صدقة تقبل الله منه وإذا غدى أو راح يتقبل الله منه فعلمك بربك أنه جل وعلا طيب لا يقبل إلا طيباً يجعلك تحرص إن كنت تريد أن تكون عبداً صالحاً يجعلك تحرص أن يكون مطعمك ومشريك وملبسك مما غُذي بالحلال تتوخى الطرائق الشرعية التي ينجم عنها الرزق غير مبالي بكسب الناس وعلو درجاتهم في الدنيا فإن أي جسد بني على السحت فالنار اولى به ..
أمر الله النبين بما أمر به الناس وأمر الناس بما أمر به النبين قال الله تبارك وتعالى في حق النبين ( يأيها الناس كلوا من طيبات مارزقناكم ) وقال في حق النبين ( كلوا من الطيبات وعملوا صالحاً ) .. فأمر الأثنين بالأكل من الطيبات جل وعلا حتى تنبت الأجساد على حلال و الجسد إذا بني على حلال كانت دعوة مجابة أينا هذا الذي لا يفتقر إلى الدعاء قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( يانبي الله أدعو الله أن يجعلني مجاب الدعوة قال : ياسعد أطب مطعمك تجب دعوتك ) فالإنسان إذا كان مطعمه مباح ومطعمه حلال وطيب كان إنفاقه ودعاءه مقبول وحياته يمشي ويغدو في رضوان الرب تبارك وتعالى ..(23/12)
الحقيقة الثالثة : ان الله يكره الكبر و يحب التواضع وقال جل وعلا في الحديث القدسي( الكبرياء رداء والعظمة إزاري فمن نازعني واحد منهما قبضته ) ولا يوجد أحد إلا وفي نفسه شيء من الكبر مخلوق معه فإن حرره بتحرير الشرع وأخرجه سلم ونجى وأن أبقاه فمايزال الكبر في الناس يتمادى ويعلو أن يقوده والعياذ بالله إلى التسلط على الخلق كما دعا فرعون أن يقول ( أنا ربكم الأعلى ) وقد يأتي الشيطان للإنسان على أن الكبر نوع من قوة الشخصية ومابين حب العلو التكبر على الناس والتعالي عليهم وهذا كله ممقوت قال صلى الله عليه وسلم ( لايدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر والجزاء من جنس العمل ) قال صلى الله عليه وسلم ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يطئهم الناس ) والتاريخ الإنساني كله والإسلامي كذلك شهد ممن طفو وتجبروا وأن بدو في أحد أتباع القرامطة كان يزعم أنه على الحق وكان يسكن البحرين وكان يخرج ويلبس على الناس دينهم على أنه الحق حتى غزى مكة في شهر ذي الحجة فركب على فرسه – عياذاً بالله – وعند البيت الذي طأطأ عنده نبي الله صلى الله عليه وسلم رأسه وامر الناس أن يكونوا أعظم ما يكونوا خاشعين وخاضعين مخبتين الله عند البيت ركب ذلك المتجبر المتكبر فرسه ثم أخذ يطوف في البيت حتى بال فرسه عند باب الكعبة وصعد على باب الكعبة وخطب في الناس قائلاً :
أنا الله وبالله أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا(23/13)
ثم قتل ثلاثين ألف من الحجاج وهدم بهم بئر زمزم – عياذاً بالله – ثم مازال طغيانه وجبروته يقوده حتى قلع الحجر الأسود من مكانه وأخذه على فرس له وغدى به إلى البحرين فجلس الحجر الأسود في بلاد الهجر – البحرين الآن – جلس فيها عشرين عاماً ثم بعد عشرين عاما رد إلى بيت الله العتيق هذا الذي دفعه والعياذ بالله الكبر والتعالي ولذلك ثبت بالسنن بسند صحيح أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة جمع بنيه ولن تجد أحد اعلم من الأنبياء ينصح الناس قال نوح لبنيه : يابني أوصيكم باثنين , وأنهاكم عن اثنتين ,بلا إله إلا لله فإن السموات السبع والأراضين السبع لو كن كحلقة مفرغة لقصمتهن لاإله غلا لله وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق ثم قال وأنهاكم عن اثنتين الشرك والكبر لعلمه صلوات الله وسلامه عليه أن الشرك والكبر قرينان وأن أول ذنب عصى لله جل وعلا به هو الكبر يوم أن أمنتع إبليس عن السجود لأبينا آدم وهذا يوجد في حياة الناس إلى اليوم ..من الناس من تراه شاء أم أبى فيه من التعالي على عباد لله إن كان أميراً أو كان ذا سلطان أو كان غنياً أو كان ذا جاه أو حتى إن كان إماماً أو خطيباً أو كان مسؤلاً إدارياً رفيعاً أو قائد عسكري مسموع الكلمة ..
تختلف وظائف الناس لكن ما في القلوب هذه الوظائف تسمع لما في القلوب أن يظهر فمن الناس من قد يكون داخله الكبر لكن لفقره ولمسكنته لعدم الوظيفة لا يجد فرصة ليتعالى على الناس فما أن يجد فرصاًً إلا ويبدأ يخرج مافي قلبه عياذاً بالله من الكبر .. فلايمكن أن يجمع صلاح عبد مع كبر في القلب قال صلى الله عليه وسلم ( من تواضع لله رفعه الله جل وعلا ) .. فالتواضع للرب تبارك وتعالى من أعظم المناقب ومن أعظم أمارات وقرائن صلاح العباد ..(23/14)
الحقيقة الرابعة : أن الله جل وعلا يكره الفواحش ولما نسبها القرشيون إلى الرب نزه الله تبارك وتعالى ذاته العليه عنها .. قال الله جل وعلا عنهم { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا آبائنا والله أمرنا بها } فقال الله جل وعلا في جوابه عليهم { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون }... الفواحش من زنا ولواط وماشاكلهما من المعاصي التي تدخل في جنسهما كل ذلك مما حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يجتمع مع الصلاح أبداً قال صلى الله عليه وسلم في نفي كمال الإيمان ( و لايزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ..
فنفى النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان من الزناة و لا يمكن أن يوصف عبد أقترف الزنا أو أقترف الفاحشة الأخرى أو غيرهما مما هو قريب منهما لا يمكن أن يوصف عند الله بأنه عبد صالح ونبيكم صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في أيامه خرج يجر رداءه حتى إنه صلى من هول الآية أخطاء في الإزار و الرداء فلبس أحدهما مكان الآخر ثم تنبه ولبس ثم خرج إلى الناس فصلى ونودي للصلاة جامعة وهو أعرف الناس بآيات ربه ثم لما صلى بالناس خطبهم بعد ذلك خطبة عظيمة مما قال فيها عليه الصلاة والسلام وقال : ( وأنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته ) وفي هذا العصر أخذت هذه الفواحش طرائق متعددة كالإتصالات الهاتفية والخلوات المحرمة واللقاءات المذمومة وما أشبه ذلك مما يحصل بالطرائق أو يحصل في الأسواق أو ما يحصل في أماكن غيرها ..أو من الناس والعياذ بالله من يخرج بجسده وماله .(23/15)
يذكر النبي صلى الله عليه وسلم مجاهدين خارجون لايرجعون بشيء ويذكر منفقين ينفقون الليل والنهار حتى لاتعلم شمالهم ما تنفق يمينهم ويذكر أفئدة معلقة بالمساجد ينتظرون من يفتح المسجد فيدخلوه ولايخرجون إلا بإلحاح من يقوم عليه ومع ذلك يأتي قوم يخرجون بأجسادهم وأموالهم إلى بلاد الغرب وحانات الشرق وبارات الغرب من أجل الزنا والشواطئ التي عليها من العراة ماعليها أو من القنوات المحرمة والأفلام الإباحية يمتع أحدهم نفسه ليلاً ونهارا يظن أنه ينجو من عذاب لله لايمكن أ يوصف هذا ولو صلى وصام وزكى وحج وأفطر لايمكن أن يوصف بأنه عبد صالح لأن الله تعالى يقول ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) والعلماء يقولون إن الكبائر في المراتب الثلاثة
الشرك بالله ـ وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق ـ والزنا .
قال لله تبارك وتعالى ( والذين لايدعون مع الله إله آخر ولايقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ) فذكرها لله جل وعلا بأظهر أقوال العلماء على انه ذكر من باب الترتيب أعاذنا الله وإياكم من الفواحش كلها .
في التعامل مع الرب تبارك وتعالى ينبغي أن يُلم أن الله جل وعلا حرم أذية الناس وقال جل وعلا كما سمعنا في الحديث القدسي (ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما )
الظلم للناس إما أن يكون بسفك الدماء إما أن يكون بانتهاك الأعراض وإما أن يكون بأكل الأموال وكله حرمه النبي عليه الصلاة والسلام قائلاً ( إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا )(23/16)
ومن أشد الظلم أن ياخذ الإنسان أموال الناس بالقوة إن كان ذا سلطان أو ذا آمره أو ذا منصب أو يقع على وظيفة تسمح له وظيفته أن يجتر ما عند الناس من أموال ..لايفعل حتى تدفعون ، لاأمنع حتى تدفعوا لا أصنع حتى تعطوني مالاً وما أشبه ذلك ..من هم قريب من المكس وصاحب المكس والعياذ بالله من أعظم من يكونون بعيدين كل البعد عن الرب تبارك وتعالى ..
نبيكم صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة غامدية زنت بعد أن زنا ماعز فردها صلى الله عليه وسلم جاءته في اليوم التالي قائلة :يانبي لله أو إنك لتردني كما رددت ماعزا بالأمس إني لحبلى من الزنا فقال صلى الله عليه وسلم : إذهبي حتى تضعي ..فعادت بعد ان وضعت ووضعت غلامها في خرقه فقالت يارسول لله هاقد وضعت(23/17)
فقال صلى الله عليه وسلم : إذهبي حتى تفطميه فذهبت وعادت بعد عامين بعد أن أتمت رضاعته وقد فطمته وفي يده كسرة خبز حتى تبرهن انه ياكل فقالت يارسول لله هاهو قد فطمته فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ـ أي الغلام ـ لرجل من الصحابه وأمر برجمها فلما رجمت كن ممن شهد الرجم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه فلما أصابها حجر نزح الدم من رأسها فأصاب ثياب خالد فسبها غضباً فقال صلى الله عليه وسلم : لاتسبها ياخالد فو الذي نفس محمد بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكساً لغفر له ) ثم أمر بالصلاة عليها ودفنها ..موضع الشاهد كما قال النووي وغيره كما في الصحيح مسلم ( أن النبي ..هذه المرأة على زناها وما حصل منها وأنها حملت من الزنا قال عليه الصلاة والسلام لبرهن أن لله قبل توبتها قال لو أن هذه التوبة تابها صاحب مكساً لغفر له ) صاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس بالقوة ..وقريب منه من يأخذها ولا يردها ولا يعبأ باصحابها فالله جل وعلا حرم اذية الناس ولا يجتمع صلاح مع عدم احترام والعياذ بالله وعدم العناية بهم كما سيأتي في الأمر السادس فأذية المرء لغيره من المؤمنين تتنافى مع صلاحه إن تكلم في أعراضهم أو أخذ من أموالهم أو وصل إلى مرحلة أكبر وسفك دماءهم فهذه اشد ..
والمقصود أن الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم أذية الناس قال الله جل وعلا ( وقولوا للناس حسنا ) وقال لله على لسان شعيب ( ولا تبخسوا الناس أشيائهم )
الأمر السادس ايها المؤمنون أن الله جل وعلا كما حرم أذية الناس جعل من اعظم طرائق الصلاح والقرب منه جل وعلا والإحسان إلى الخلق جعل الإحسان إلى الخلق من اعظم طرائق الصلاح وكم من أنفس قد لا يكون منها كثير صلاة ولا صيام ولكن جبلت على الإحسان إلى الخلق يقول عليه الصلاة والسلام ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلها قول لاإلل إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق )(23/18)
ويقول صلى الله عليه وسلم يخبر ان أمرأة بغي من بغايا بني إسرائيل رأت كلباً يلهث من شدة العطش فسقته فلما سقته غفر لله لها بغيها كله
وذكر لله في القرآن تأديباً لعباده ذكر قصة نبيه موسى عليه السلام قال عنه (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير )
والإنسان يتساءل إلى من نحسن ؟؟ هذا اجاب عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ) ويجاب عنه أن الناس تختلف حقوقهم بين الواحد والآخر .
فأعظم الناس حقاً الوالدين والمعلم والجيران وذوي الأرحام من القرابة ثم يأتي بقية من له حق خاص او عام فهؤلاء الإحسان إليهم
أفضل من الإحسان إلى غيرهم كما إن الإساءة إليهم أعظم من غيرهم ..
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :( يارسول الله أي الذنب اعظم قال أن تجعل لله نداً وقد خلقك قال : ثم أي قال : أن تزني بحليلة جارك ) .. فجعل صلى الله عليه وسلم الزنا بحليلة الجار من كبائر الذنوب رغم أن الزنا في ذاته محرم لكنه إذا وقع على جارة لها حق الستر لها حق أن يرعيها الإنسان أكثر من غيرها لقرب الدار كان ذلك أعظم وبالاً وأشد خسرناً إذا انتهكت محارم الله تبارك وتعالى ..(23/19)
الأمر السابع : من اليقينات التي يجب ان تدرك أن الله جل وعلا من سننه أنه شرع الأقتداء للخلق يتأسوا بالصالحين فقال في حق سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأعظم العباد تقوه عليه الصلاة والسلام قال في حقه بعد أن ذكر جملة من الأنبياء قال { أولئك الذين هدى الله فيهداهم أقتده } فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن نقتدي بنينا صلى الله عليه وسلم فقال ربنا جل وعلا { ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا } .. وإن الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم من أعظم أمارات وقرائن ودلائل الصلاح .. عبدالله بن عمر خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد النبوي هذا ... وكان للمسجد في ذاك الزمان أبواب غير محدودة أي غير مخصوصة للرجال والنساء فقال عليه الصلاة والسلام : ( لو جعلنا هذا الباب – وأشار إلى باب قريب – للنساء ) قالها من باب الراي ولم يقلها من باب الأمر قال نافع رحمه الله < فما دخل عبدالله من هذا الباب حتى مات > .. وابن عمر عمّر بعد النبي صلى الله عليه وسلم قرابه خمساً وخمسين سنة ومع ذلك لم يدخل مع هذا الباب لأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( لو تركنا هذا الباب للنساء ) من تأسيه رضي الله عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الركنين اليمانين فساله رجل : لماذا تفعل هذا ؟ .. قال : رايت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله .. فهذا عبداً صالح ظهرت لنا علامة من علامات فوزه بالصلاح والتزكيه النبوية أنه كان عظيم التأسي بنينا صلى الله عليه وسلم ..(23/20)
وأنت أيها الأخ المبارك السنة امامك مفتوحة وكتب الحديث منشورة وهدية صلى الله عليه وسلم ظاهر يبّن في كل الكتب جعلها العلماء بيان للناس فتأسي به صلى الله عليه وسلم طريق عظيم للوصول إلى الصلاح لأن الله جل وعلا سد كل طريق موصل إليه إلا طريق نبينا صلى الله عليه وسلم قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : [ يذكر بعض من سننه عليه الصلاة والسلام قال نام نبينا عليه الصلاة والسلام على الأرض ونام على الحصير ونام على السرير ونام على الفراش وركب البغل وركب الحصان وركب الحمار وركب الفرس مسروجة وغير مسروجة وأكل صلى الله عليه وسلم الغثاء الرطب وقال نذهب حرهذه ببرد هذه وأكل صلى الله عليه وسلم البطيخ وأكل صلى الله عليه وسلم العسل وكان صلوات اللخ وسلامة عليه إذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال سبحان الله وإذا مشى يمشي يتكفأ تكفأ كأنما ينحدر من مكان عالِ وإذا ناداه أحد من الخلف ألتفت صلى الله عليه وسلم ببدنه الشريف كله وإذا أشار إلى شيء أشار بيده كلها وإذا وضع يده لينام جعل يمناه تحت جبينه الأيمن وقال : بأسمك اللهم أحيا وأموت .. وإذا قام من الليل قال: <الحمدلله الذي أحيانا بعد ماأماتنا وإليه النشور > .. ومسح النوم من عينيه وتلى خواتم آل عمران { إن في خلق السموات والأرض } ثم يختمها ثم يعمد إلى وضوءه فيتوضأ ويستاك ثم يقف بين يدي ربه جل وعلا يذكره ويدعوه ويهلل ويقرأ القرآن ويصلي حتى يخرج الفجر ثم يضطجع صلاة الله وسلامه عليه ثم يصلي راتبة الفجر القبلية في بيته ثم يضطجع قليلاً قبل أن يذهب إلى المصلى ] هذه بعض السنن التي كان عليها نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يقول لباس المؤمن إلى انصاب قدميه كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية إلى غير ذلك من سننه صلوات الله وسلامه عليه التي دعى إليها وأمر بها الإقتداء بها من عظيم المطالب ومن أجلّ مايدرك بلإنسان أن يكون عبداً صالحاً ...(23/21)
خاتمة اليقينات أن تعلم ان الله جل وعلا خلق الخلق وهو يعلم أن دأيهم التقصير والخطايا والذنوب فقال الله جل وعلا عن عباده { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكر الله واستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله } .. فشرع الله لهم الإستفغار وشرع لهم كثيراً من الأعمال الصالحة التي يسدون بها الخلل ويوارون بها النقص ويزدادون بها أجرا ويتقربون بها على الله جل وعلا فقال عليه الصلاة والسلام ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) وقال ( الصلوات الخمس والعمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن من الذنوب ) .. وأخبر أن تقبيل الحجر الأسود ومسحه يحط الخطايا حطاً و أخبر الله جل وعلا أن الحمى إذا أصابت الإنسان وبلغت عنه مبلغاً وصبر عليها أنها تحط ذنوبه إلى غير ذلك مما كتبه الله وشرعه حتى يتلافى به العباد مايعتريهم من نقص وكل بني آدم خطأ كما قال صلى الله عليه وسلم:(خير الخطائين التوابون ) .. هذه الثمانية أو تسع أيها الأخ المبارك إذا نظر إليها المؤمن نظرة إجمال وقد يكون قصرنا في معضمها أو زدنا في غيرها فالكمال عزيز لكننا أجتهدنا قدر الأمكان أن نصل غليه فإذا تبين هذا يتساءل المؤمن مالذي أعده الله جل وعلا لعبده الصالح ..(23/22)
أعد الله جل وعلا للعبد الصالح في الآخرة جنات النعيم قال الله تبارك وتعالى { ومن يعمل من الصالحات من ذكر وأنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولايظلمون نقيراً } .. أعد الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أعد لهم رؤية وجهه الكريم وهو أعظم الهبات وأجل العطايا أما في الدنيا فإن من تأمل القرآن والسنة وجد أن الله جل وعلا وعد عبادة الصالحين في أمور منها أولها : أن الله جل وعلا يتوله في الدنيا في الدنيا و الآخرة قال الله جل وعلا في سورة الأعراف { إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولي الصالحين } .. وإذا تولاك الله لن يصيبك شيء يضرك في دنياك و آخرتك إلا شيء شيء من وراءه منفعة لك من حيث لا تدري لأن ولاية الله جل وعلا سد منيع وعطايا عظيمة لا يبلغها أحد والإنسان إذا تولاه الله جل وعلا أعظم مايرزق التوفيق الذي يناله العبد من ربه تبارك وتعالى وأنت ترى ممن حولك من الناس ممن رزقهم الله عز وجل الكثير من التوفيق لأن الله تبارك وتعالى تولاهم بولايته ..
ومن العطايا من الله جل وعلا يجعل العبد الصالح محبوباً ومقبولاً في الدنيا قال صلى الله عليه وسلم (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل فقال :ياجبريل إني أحب فلان فأحبه فيحبه جبريل ثم يقول جبريل لأهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يكتب الله جل وعلا له القبول فيحبه أهل الأرض )
وهذا من أعظم العطايا والمؤمن الحق يألف ويؤلف وينقاد ويسمع ويطيع ويأخذ ويمنع ويعيش من الناس حياتهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيشها وهو سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه ...(23/23)
كما أن من عطايا الرب تبارك وتعالى لعباده الصالحين التثبيت فإن الإنسان في طريقه إلى الله لن يسلم من نزغات الشيطان ..يأتيك الشيطان فيشكك في الدين الذي أنت فيه ..يشكك في الرب الذي تعبده والرسول الذي أرسل إليك والعمل الصالح الذي تفعله والأئمة الذي تقتدي بهم هذا لابد منه ولا يرد ذلك إلا:
الاستعاذة وللجوء إلى الرب تبارك وتعالى والله جل وعلا يقول لنبيه (ولولا ان ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلا )ولذلك صلى الله عليه وسلم كان يقول (يامثبت القلوب ثبت قلبي على دينك )
ولا يخلو إنسان من نزغات تأتيه ووساوس تعتريه ليس لها إلا الإستعاذه بالرب تبارك وتعالى فإذا أراد لله به خير ثبته على الصلاح ووقاه شر النزغات وإثم الوساوس ..
نبيكم صلى الله عليه وسلم في منقلبه من الطائف أصابه من الهم لأن أهل مكة منعوه وأهل الطائف ردوه فلما رجع وأصابه من الكرب والضيق ما أصابه جاءه جبريل في رسالة من الله يراد بها التثبيت فلما جلس عليه الصلاة والسلام وقد أصابه الحزن قال له جبريل وأشار إلى شجرة بعيدة (أدعوا تلك الشجرة )
فنادها صلى الله عليه وسلم فتركت مكانه ووقفت بين قدميه فقال له جبريل ( ردها كما كانت )فقال صلى الله عليه وسلم للشجرة : أذهبي إلى حيث كنت فقامت الشجرة تمشي حتى رجعت إلى مكانها وبقيت ..
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد أدرك أنها تثبيت من لله له في رسالته قال لجبريل (حسبي ما قدر رأيت )(23/24)
فأنت يا أخي قد تخرج من المحاضرة فيأتيك الشيطان من قبل أو بعد ينزغ ويوسوس – كلنا ذلك الرجل – فالإنسان في مثل هذه الحالات إن كان عبداً صالحاً له عمل صالح ..له نيه صادقة له ماله من الله جل وعلا يأتيه التثبيت من الله إما أن يفتح المذياع فيسمع آيات يثبته الله جل وعلا بها وإما يلقى أخ مبارك يخبره بحديث سمعه لتوه ..وإما يفتح كتاباً فيقرأ منه ما يثبته ويدله على صراط الله المستقيم أو يجد أخاً يحمله إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ولن يعدم أمراً يثبته جل وعلا به إن صدقت نيته وخلصت سريرته وصلح أمره وأذعن لربه تبارك وتعالى ...
مما يرزقه العبد الصالح عند مماته أن الملائكة تأتيه في أحوج اللحظات التي يكون بها قريباً من الله والإنسان أيامه الأخير خلاصه لأيامه كلها لايظهر فيها إلا ما كان الإنسان منكباً عليه منشرح الصدر له يريده بقلبه وجوارحه يظهر في لحظاته الأخير فيوفق لقول الشهادة أينما كان مكانه وحيثما حل زمانه ...
وأما إن كان والعياذ بالله ليس من العمل الصالح ولا من الطاعة ولا من اليقينيات شيء فهو إلى الخذلان أقرب منه إلى التوفيق ولا يهلك على الله إلا هالك قال الرب تبارك وتعالى
((إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفورٍ رحيم ))
هذا أيها المؤمنون ما تهيأ إيراده ووفقنا الله جل وعلا إلى قوله فإن وجد فيه خيراً فقبله وإن وجدت فيه نقصاً فسده ...
{(23/25)
إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت ... اللهم الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لم يلد ولم يولد .. أنت ربنا ولا رب لنا غيرك ولا إله لنا سواك جمعتنا من غير ميعاد وأنت الرب الرحيم الرحمن في بيت من بيوتك فاللهم أرزقنا عملاً صالحاً زاكياً ترضى به عنا ياذا الجلال والإكرام اللهم أدخلنا في رحمتك وفي عبادك الصالحين .. اللهم أدخلنا في رحمتك وفي عبادك الصالحين .. اللهم أدخلنا في رحمتك وفي عبادك الصالحين .. اللهم إنا نسألك السريرة الصادقة والدمعة الخالصة والعمل الصالح والحياة الطيبة .. اللهم إنا نسألك مرداً إليك غير مخزي ولا فاضح ياذا الجلال والإكرام .. اللهم إنا لنا من الذنوب والخطايا مالا يعلمه غيرك ولايدري عنها سواك اللهم كما سترتها علينا في الدنيا فمحها عنا في الدنيا والآخرة يارب العالمين ... اللهم إنا نسألك أن ترزقنا حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا لحبك اللهم أرزقنا محبة نبينا صلى الله عليه وسلم .. اللهم أحينا في الدنيا على سنته وأمتنا على ملته وأحشرنا يوم القيامة في زمرته .. اللهم أوردنا حوضه وأسقنا من يده ياذا الجلال والإكرام .. اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة.. اللهم إنا نسألك الدرجات العلى من الجنة .. ونستجير بوجهك الأكرم وبأسمك الأعظم من النار يارب العالمين .. اللهم أغفر لنا ولوالدينا يارب العالمين .. اللهم أغفر لأمهاتنا وآبائنا ومن له حق علينا ياذا الجلال والإكرام .. اللهم إننا نخطأ ونصيب اللهم إننا أطعناك في أعظم ما أمرتنا به فلا إله إلا أنت .. وأنتهيا عما أعظم مانهيتنا عنه فنعوذ بك أن نشرك بك غيرك اللهم أغفرلنا مابين ذلك يارب العالمين .. اللهم أجعلنا أحسن مما يظنه الناس بنا وأغفرلنا مالايعلمه الناس عنا .. ورزقنا اللهم القبول عندك لا إله إلا أنت .. اللهم أجعلنا ممن قرت أعينهم بك فتعلقت بك ولم تنقطع إلى غيرك يارب العالمين ..(23/26)
اللهم أقطع علائقنا مع كل أحد غيرك يارب العالمين .. اللهم لا تجعل لأحد غيرك من أعمالنا حظاً ولا نصيباً ولا ذكراً يارب العالمين .. وأجعلها اللهم برحمتك خالصة لوجهك .. اللهم من حضر مجلسنا هذا يريد التوبة والأنابة إليك فبلغه اللهم مراده .. اللهم أصلحنا أجمعين وأجعلنا من عبادك المخلصين .. وأغفر لنا لا إله إلا أنت .. أنت ربنا ومولانا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا سواك .. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمدلله رب العالمين ...}(23/27)
تفريغ شريط:"إنه من يتق ويصبر"
للشيخ:صالح المغامسي. الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،رب الأرض والسماوات يفعل مايشاء ويحكم مايريد،يحيي ويميت ويبدئ ويعيد وهو على كل شيء شهيد ،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير مبعوث إلى خير أمه بلغ الرساله ونصح الأمه وأدى الأمانه على الوجه الأكمل حتى ترك الأمه على المحجة البيضاء والطريق الواضحه الغراء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتبع نهجهم باحسان إلى يوم الدين،أما بعد أيها المؤمنين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أيها الأحبه إنه لايخفى على أحد أن هذا الكتاب المبين الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فيه من المعالم الحقه والطرق الواضحه الموصله إلى رضوان الله جل وعلا،تصريحا أو تلميحا عباره أو إشاره يفطن له بعض من يفطن وقد يغيب ذلك عن البعض إلا أن المتفق عليه أن هذا الكتاب إنما جعله الله هدى للخلائق وإيضاحا للطرائق والآيه التي نحن بصددنا اليوم في درسنا الأسبوعي الذي أسأل الله أن يبارك فيه هي قول ربنا جل وعلا(إنه من يتق ويصبر) وهذا المقطع من الآيه جاء على لسان نبي الله يوسف بعد أربعين عاما من رؤيا رأها، بعد أربعين عاما من محن متواليه وحلقات داميه، وقف يكشف اللثام عن شخصيته أمام إخوته ويصرح لهم عن نفسه فيقول لهم: (قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا) ثم بين السلاح الذي كان يتسلح به طوال حياته فقال:(إنه من يتق ويصبر) فجعل سلاحه كله مجموع في أمرين هما سلاح التقوى وسلاح الصبر وإن صح التعبير هما رداء التقوى ورداء الصبر وأكرم بهما من سلاح ...وأعظم بهما من رداء...(24/1)
قال (إنه من يتق ويصبرفإن الله لايضيع أجر المحسنين) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه والحديث عن التقوى والصبر بما أن المتكلم عنه هو نبي الله يوسف فإنه يحسن أن نمهد عن هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه الله جل وعلا ذكر في القرآن نماذج إنسانيه أثنى عليها تبارك وتعالى ثناء عاطرا وثناء جما وأمر العباد أن يقتفوا آثار أولئك العباد فمنهم أنبياء الله ورسله ومنهم الصديقيون ومنهم الحواريون ومنهم غير ذلك مما هو منثور في الكتاب المبين ويوسف عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أولئك الشخصيات الذين أثنى الله عليهم في كتابه بل إن الله جل وعلا سمى سورة كامله باسمه أي باسم هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه ولما سئل الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري وعند غيره من حديث أبي هريره قالوا يارسول الله سألوه عن أكرم الناس قال"إن أكرم الناس عند الله أتقاهم قالوا ليس عن هذا نسألك قال فإن أكرم الناس يوسف ابن يعقوب نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله فقالوا ليس عن هذا نسألك فقال صلى الله عليه وسلم فعن معادن العرب تسألوني قالوا نعم قال فخياركم في الجاهليه خياركم في الإسلام إذا فقهوا"صلوات الله وسلامه عليه فهذا فيه بيان لمنزلة هذا النبي الكريم المعني في الحديث اليوم وهو نبي الله يوسف ومبدأ قصته أن أباه يعقوب عليه الصلاة والسلام رزق ثلاثة عشر ولدا منهم أخوين شقيقين هما يوسف وبنيامين وأحد عشر يظهر أنهم من أمهات أو زوجات متفرقات وكان نبي الله يعقوب يرى في ابنه يوسف من النجابة وحسن الخلق وكريم الشمائل ووضاءة الوجه ماهو أهل لأن يكرم به فكان يتعهده بمحبته ويقربه منه ويدنيه منه لما رأى عليه من النجابه مما أثار حفيظة إخوانه من سائر إخوته"بقية الثلاثة عشر"فكانوا فيما بينهم إذا تهامسوا وتناجوا وتحدثوا جل حديثهم عن إكرام أبيهم لأخيهم يوسف وأخيه الشقيق بنيامين دون أن يكون لهم حظ أو(24/2)
نصيب من ذلك الكرم على مايظنوه هم ثم إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى في إحدى رؤياه/ رأى أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له فلما أصبح غدا إلى أبيه وقص عليه تلك الرؤيا ولما كان يعقوب عليه الصلاة والسلام نبي يوحى إليه كان على درجة كبيره من العلم ففهم الرؤيا من أول ماقالها له يوسف فخاف على يوسف من ذلك فأخبره أن لاينبئ بتلك الرؤيا أحدا من إخوته خوفا عليه من حسد إخوته ثم بين له عن طريق الإشاره أنه فهم الرؤيا قال:(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك ) وقال له (ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك ) فلما قال له (يتم نعمته عليك) بيان أن النعمة التي أتاها الله يعقوب وإسحاق وإبراهيم إنما كانت نعمة النبوة ومع ذلك أمره أن يخفي تلك الرؤيا عن كل أحد .ازداد من إخوة يوسف في قلوبهم الأمر على أخيهم يوسف حتى اجتمعوا في شبه مؤامره عليه ثم قرروا أن يقتلوه وقالوا حتى يخلوا لنا وجه أبينا في تعبيرنا نحن أي لايبقى لأبينا أحد يكرمه ويعده ويقربه إلا نحن، فيوسف قد هلك ثم غلبت عليهم عاطفة الأخوة فتنازلوا عن قضية القتل إلى قضية الإلقاء في غيابة الجب، ثم بعد ذلك غدوا إلى أبيهم وأخذوا يلاطفونه في الكلام ويريدون منه أن يوافق على أن يذهب يوسف معهم فقال :إنه ليحزنني أن تذهبوا به وهذا من شدة تعلقه بيوسف خاف على الوقت الذي يقضيه يوسف معهم أن يشعر هو بفقده ثم قال أمرا آخر قال:(وأخاف أن يأكله الذئب) تلقفوا هذه الكلمه من فمه مباشرة وقالوا(لئن أكله الذئب ونحن عصبه إنا إذا لخاسرون) فبعد ملاطفة و... منه...(24/3)
استطاعوا أن يأخذوه معهم ليمضي قدر الله لا أكثر ولا أقل فأخذوه معهم قيل/ إنهم كانوا يضربونه ويشتمونه والله تعالى أعلم بصحة الخبر ثم إنهم في آخر الأمر ألقوه في بئر مهجوره، ثم غدوا إلى شاة فذبحوها وأتوا بقميص فلطخوا به من دم تلك الشاة وغدو على أبيهم في الليل يبكون بالدموع الكاذبه ويقولون: (أكله الذئب ونحن عنه غافلون) ذهبنا نرتع...ذهبنا نلعب...ذهبنا نرعى...المهم أن الذئب أكله ثم قالوا له:(وما أنت بمؤمن لنا ولوكانوا صادقين) وهذا من ملاطفتهم في الكلام أي أننا وإن كنا صادقين عندك إلا أن الواقعه التي اتفقت قولك مع الحادث لايجعلك تصدقنا من باب اعذاره في عدم تصديقه ولكن نبي الله جل وعلا لم يرد على أن قال: (فصبر جميل) أي دون شكوى (والله المستعان على ماتصفون) وورد أنهم لما قربوا إليه القميص وجاؤا على قميصه بدم كذب أخذ ينظر إلى القميص وكان من غفلتهم وسرعتهم أنهم أتوا بالقميص ولطخوه بالدم فقط دون أن يمزقوه وورد أن يعقوب حمل القميص بين يديه وقال كالمتهكم بهم "أي ذئب عاقل هذا؟أكل ابني وترك قميصه فعرفوا أن أباهم قد عرف القضية كلها لكنهم لم يصرحوا ولم يصرح يعقوب بشئ على ماورد في القرآن ثم إنهم لما ألقوه في تلك البئر المهجوره مكث فيها عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام فانتقل من المحنه الأولى وهي محنة كيد إخوته. فاتفق إن مرت قافله أرسلوا بعض غلمانهم ليلقوا دلوهم في البئر فتشبث وتعلق يوسف عليه الصلاة والسلام في البئر حتى نزل ثم كان ماكان أن بيع عليه الصلاة والسلام بيع الموالي وهو عند الله نبي تقي مرسل فبيع كما يباع الموالي والعبيد بل إنه عليه الصلاة والسلام بيع بثمن بخس. قال ابن مسعود وغيره: عشرين درهما وورد أنه خمسة دراهم وهذا وإن كنت لاأريد أن أدخل مداخل على الدرس حتى لا يضيع كنه القصه.(24/4)
إلا أن فيه دليل أن الإنسان أحيانا قد يعيش بين قوم لايعرفون له قدرا ولايعرفون له مكانه ولذلك المؤمن العاقل لايقول علمه ولايخرج مواهبه ولايخرج فضل الله عليه إلا مع قوم يعرفون له قدره ولذلك لما كان الشافعي في أحد المجالس فتكلم الجهال وتطاول السفهاء وقيل له: يا أباعبد الله ألا تتكلم قال انثروا بري بين سارحة الغنم أي هؤلاء لايفهمون لي قدرا ولايعرفون لي وزنا ولا يعرفون كنه ماأريد أن أبلغهم إياه .الشاهد أن الأمر وصل بيوسف عليه الصلاة والسلام إلى أنه بيع بيع الموالي فكان الذي اشتراه عزيز في أرض مصر فأكرمه وقربه وتخيل فيه مخايل الفلاح وقد قال أهل العلم :إن خير المتفرسين ثلاث/ بنت شعيب لما تفرست في موسى وقالت(ياأبت استئجره إن خير من استأجرة القوي الأمين) وعزيز مصر يوم أخذ يوسف وقال لزوجته:(أكرمي مثواه) والخليفه الراشد أبوبكرالصديق رضي الله تعالى عنه يوم تفرس في عمر وأسند إليه أمارة المؤمنين وخلافة المسلمين من بعده.(24/5)
كان من عزيز مصر أنه قرب يوسف وأبناه وأوصى زوجه أي زوجته أن تكرم مثوى ذلك النبي وهو لايعلم طبعا أنه نبي وكان في يوسف من الوضاءه والجمال والبهاء مما جعله عليه الصلاة والسلام لما كبر إذا كلمه النساء غطى وجهه حتى لا يفتن النساء بجمال وجهه وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج لما ذكر لقياه لإخوانه النبيين قال: "فرأيت يوسف فإذا هو قد أوتي شطر الحسن"واختلف العلماء في بيان معنى صلى الله عليه وسلم أن يوسف أوتي شطر الحسن ولعل أظهر الأقوال والله أعلم/ أن الحسن كله رزقه آدم عليه الصلاة والسلام لأن الله جل وعلا كما هو معلوم خلق آدم بيده وشطر الحسن الذي أوتيه آدم رزقه نبي الله يوسف فكان فتنة عظيمه للنساء مما جعل تلك المرأه تتعلق به فتلمح له بين الفينة والأخرى وهو عليه الصلاة والسلام معرض عنها خائف وجل من سخط ربه جل وعلا حتى إن المرأه لم تطق صبرا على أن ترى جماله دون أن يقع عليها فغلقت الأبواب واتخذت الأسباب وصرحت دون حياء قالت:(هيت لك ) أي هلم إلي لكنه عليه الصلاة والسلام آثر ماعند الله على ماعنده فابتلي بأمرين/ ابتلي إما أن يزني ويكون من الفاسقين. أو يسجن ويكون من الصاغرين.قال أهل العلم: باع دنياه ليشتري دينه وباع حريته لِيُبْقِي علىعقيدته كما سيأتي في عرضهم السجن عليه فلما تعلقت به وتشبث به خوفها الله(قال معاذ الله إنه ربي) أي سيدي ومولاي (أحسن مثواي) وهذا من وفاءه لزوج المرأه ثم قال: (إنه لايفلح الكافرون) خوفا من ربه جل وعلا فورد أن امرأة العزيز لما راودته عن نفسه قامت إلى صنم كان في البيت فغطته من جهلها برداء كان عندها فقال لها ياأمة الله أتستحيين من صنم لاينفع ولايضر ولاتريدينني أن أستحي من المليك الواحد القهار ففر منها صلوات الله وسلامه عليه.(24/6)
وانظر إلى الفرق البعض اليوم عفا الله عنا وعنهم وغفر الله لنا ولهم وردهم الله إليه ردا جميلا قد يتركون هذه البلاد الآمنه المطمئنه إلى بلاد غيرها رجاء وبحثا عن الزنا وماشاكله وهذا النبي يعرض عليه الزنا من امرأة هي سيدته...من امرأة وظيئه جميله ذات سلطان وهو غريب عن البلده. ومعلوم أن الغريب لا يراعي حق أحد والعبد الجرم في حقه أهون من الجرم في حق الحر ومع ذلك كله رغم أنه كان شابا وضيئا عبدا كل مسببات الزنا كانت مفتوحه بين يديه إلاأن هذا يندرج تحت الصبرعن المعصيه وسيأتي بيانها إلا أنه صلوات الله وسلامه عليه فر هاربا من بين يديها يريد الباب وكان من ولعها به أن فرت وراءه هو يفر منها وهي تلحق به هو يفر من المعصيه وهي تفر إليه حتى أخذته بيدها من وراءه مما كان سببا في قد ثوبه وقميصه من الخلف في اللحظه التي قد بها القميص دخل ذلك الزوج البيت قال جل وعلا:ــ "واستبقا الباب" أحدهما يريد الفرار والآخر يريد المعصيه "فألفيا" أي وجد سيدها لدا الباب هنا أخرجت مكامن كيدها وأخرجت مظاهر لؤمها فقالت مباشره لزوجها "ما جزاء من أراد بأهلك سوءا" ألحقت به التهمه جزافا صلوات الله وسلامه عليه وهو بريء منها "إلا أن يسجن أو عذاب أليم" والظاهر أنها حكمت في القضيه " إلا أن يسجن أو عذاب أليم" هذا الحادث لم يطوى طي النسيان تناقله النساء في تلك البلده وتسامعت به الناس في المدينه وقلنا عليها:ــ (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) كنا يظنن جهلا أن يوسف كسائر الفتيان في الهيئه والشكل وما علمنا بحسنه وبهائه وجماله وكانت المرأه أي إمرأة العزيز على قدر كبير من الدهاء فدعتهن إلى مأدبه أقامتها في بيتها أو في قصرها ثم قدمت لهن لعله شيئا من الفاكهه وسكينا ليقطعن ما بين أيديهن من الفاكهه وهن في ذروة الإنشغال بها أدخلته عليهن وكان الله كما بينا سلفا قد أتاه من الحسن والوضاءه مالله به عليم.(24/7)
فلما رأينه قطعن أيديهن "أكبرنه وقطعن أيدهن وقلنا حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم" لأنهن لم يرين في البشر أحدا من جمال هيئته صلوات الله وسلامه عليه هنا استغلت الموقف (قالت فذالكن الذي لمتنني فيه) أنتم لم تصبرن من وقت ...نظرة واحده إليه كيف أصبر أنا وأنا التي أخالطه في البيت وأراه بكرة وعشيا ثم بينت على ملأ من النساء إن لم يستجب لها أن تسجنه فابتلي ببلاء ديني وبلاء دنيوي فاختار ضياع الدنيا والسجن على أن لايبيع دينه وعلى أن تبقى عقيدته وعلى أن يبقى موصولا برب العالمين جل جلاله (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ثم بين عليه الصلاة والسلام أن فضل الله عليه هو الذي ينقذه وأن الإنسان لوكل إلى نفسه لما نال جنه ولما فر من نار(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا) أي وإن لم (وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين)استجار برب العالمين جل جلاله فكان الغوث الإلهي (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم) فلما صرف الله عنه كيدهن خرج عليه الصلاة والسلام من المحنه الثانيه إلى المحنه الثالثه والبلاء الثالث وهو/ أن يلقى في غياهب السجن من غير جرم جناه ولا أثم قدمته يداه يسجن مع أهل السرقه وأهل المجون وأهل الفجور وأهل القتل وهو عند الله جل وعلا نبي مرسل ولكنه الصبر على أقدار الله وقضائه فمكث في السجن.(24/8)
من شغل في السجن كيف يخرج منه؟ وإن من شغل وهو في غياهب السجن بالدعوة إلى الله جل وعلا فلما تسنت له الفرصه وحان له التمكن وجاءه اثنان ممن كان معه سجينين معه يستفتيانه في رؤيا رءاها وقد راء عليه مخايل التقوى وظنا به الحكم ومارءا أولئك السجينين مخايل التقوى على يوسف إلا من عمله وحركته ودعوته وذكره وتمجيده لربه جل وعلا وإلا كيف علما أنه رجل تقي محسن يوم قالا(إنا نراك من المحسنين) فاستغلها صلوات الله وسلامه عليه أعظم استغلال وانتهز تلك الفرصة أعظم انتهاز فلم يجبهما مباشرة وإنما قال لها (لايأتيكما طعام ترزقانه إلانبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) بين أنه قادر على تفسير الرؤيا وبين أنه ذو حظ من العلم حتى يزداد تعلقهما به فلما رءا ذلك كله وتعلقا به أخذ يدعوهما إلى الله جل وعلا (ياصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الواحد القهار*ماتعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ماأنزل الله بها من سلطان...(24/9)
) ثم بين فضل الله عليه وفضل الله على ءابائه وبين أن حق الله أن يشكر وقال مختما ومنهيا قوله(ولكن أكثر الناس لايعلمون) ثم لما فرغ من الدعوة إلى الله وشعر أنه أدى الأمانه الملقيه عليه لجأ وتفرغ واستوى إلى أن يقول لهما ماأرادا منه فأنبأهما بحالهما قال: أما أحدكما فيسقي ربه خمرا أي يصبح ساقيا للملك، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، ثم أنه أخذ الذي ظن أنه ناج على نجوى منه وأسره وأخبره أنه إذا خرج ينبئ الملك بأن في السجن رجل حليما كريما قادر على تعبير الرؤى(وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين)مما كان سببا في بقائه في السجن صلوات الله وسلامه عليه ثم إن الملك في ذلك العصر رأى رؤيا ملخصها أنه رأى سبع بقرات سمان وسبع بقرات عجاف ورأى سبع سنبلات خضر وأخرى يابسات فعرض القضيه قضية الرؤيا على الملأ من حوله ولم يكونوا ذو علم (قالوا أضغاث أحلام ومانحن بتأويل الأحلام بعالمين)كان ساقي الملك الذي خرج من السجن كانا بينهما فأخبرهم بحال يوسف وأخبرهم بقدرته على تفسير الرؤيا(فأرسلون)أي إلى يوسف فأرسله الملك وجعله مبعوثا شخصيا له ليقدم على يوسف ويخبره بحال الرؤيا فلما أخبره بحال الرؤيا فسرها يوسف وأخبر في السبع السنين العجاف والعام الذي يغاث فيه الناس وفيه يعصرون، فلما رجع ذلك الرسول إلى الملك وأخبره بقدرة يوسف على تفسير الرؤيا قال الملك (ائتوني به) ولم يقل هاهنا استخلصه لنفسي (وقال الملك ائتوني به) فبعث إليه من يأتي به فلما أتاه الرسول ويخبره بطلب الملك إياه كان صلوات الله وسلامه عليه حريصا على كرامته رفض الخروج (قال ارجع إلى ربك فسأله مابال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم)أي لم أخرج حتى تعلن على الملأ أنني بريئ وإنني كريم وأن التهمه كانت تهمه ملفقه وأنني لم أراود المرأه على نفسها فلما رجع الرسول وأخبر(24/10)
الملك جمع النسوة فاعترفن(قالت امرأت العزيز ألئن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه)(ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لايهدي كيد الخائنين) فقال الملك في المرة الثانيه (وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي) زادت مكانته عند الملك فلما جاء عند الملك (قال له إنك اليم لدينا مكين أمين ) وكذلك العلماء الربانييون ينتهزون الفرص قيل للمهلل بن أبي صفرة مالحزم؟قال: تجرع الغصص حتى انتهاز الفرص. لايستعجل أحدكم الظهور ولايستعجل أحدكم أن يخرج إلى الناس بين عشيه وضحاها ولايستعجل أحدكم أن يقلد منصبا عظيما بين يوم وليله الله...الله بالصبر لما قال له(إنك اليوم لدينا مكين أمين)انتهزها يوسف عليه السلام وقال له(اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)فإذا عرض على رجل فيه من القوة والأمانه ماينفع الله به المسلمين والإسلام فلايتردد في قبول ذلك المنصب وإن علم أنه سيجامل فيه أوسيكون منه مايكون المهم أن يدفع أعظم المفاسد ويجلب أجل وأعظم المصالح(قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) فتولى خزائن الأرض هنا انتقل صلوات الله وسلامه عليه من فتنة البلاء إلى فتنة السراء والعافيه وهي فتنة المنصب وفتنة الوزاره فمكث مسؤلا عن الزراعه ومسؤلا عن معايش الناس في أرض مصر. أصاب الناس في أرض فلسطين قحط وجدب في الأراضي وقلة في الأمطار وتسامع الناس في وجود رجل في أرض مصر يعطي الناس معايشهم.(24/11)
فأرسل يعقوب عليه الصلاة والسلام أبناءه ليكتالوا من أرض مصر وهو لايدري أن الذي على أرض مصر اليوم هو ابنه يوسف لأنه كان يظن أنه هلك في البريه فلما ذهبوا وغدوا إلى أرض مصر كانوا قد كمموا أفواه الإبل لأنهم أولاد أنبياء حتى لاتأكل من زروع الناس فلما دخلوا على يوسف عرفهم عليه الصلاة والسلام ولم يعرفوه فلما عرفهم أخذ يسألهم عن أحوالهم ويستدرجهم في القول ويلاطفهم في العطاء ويكرمهم ويثني عليهم حتى أخبروه أننا ثلاثة عشر ولدا نحن أحد عشر بين يديك وأحدنا هلك في البريه يقصدون يوسف وآخر عند أبيه محب له لايستطيع أن يفارقه فأخبرهم أنه لن يكرمهم كرة أخرى حتى يؤتوا بذلك الولد الذي عند أبيهم وأخذ عليهم العهد والميثاق في ذلك ثم لما أرادوا أن يرحلوا أمر صبيانه وغلمانه وجنده أن يزيدوا في كيلهم ويردوهم عليه حتى يعرفوها إذا عادوا إلى أرض مصر فلما عادوا إلى أرض مصر ولم يتهيأ لهم أن يكشفوا مافي أمتعتهم (قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون)فأخبرهم بقصة يوسف وماكان منهم ثم أخذ عليهم العهد والميثاق فلما فتحوا متاعهم أمام أبيهم وجدوا بضاعتهم رددت إليهم فـ (قالوا ياأبانا مانبغي)أي ..أي شئ بعد هذا(قالوا ياأبانا مانبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير*قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم )جعل لهم مخرجا ومنفسا من الكرب وهو قوله (إلا أن يحاط بكم)فلما آتوه موثقهم (قال الله على مانقول وكيل)ثم عليه الصلاة والسلام أي يعقوب جمعهم وقال لهم قول الأب الحنين العالم العارف(وقال يابني لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقه وماأغني عنكم من الله من شئ...(24/12)
)فادخلوا من أبواب متفرقه لأنهم إذا ذهبوا متصافين في هيئه واحدة وهم اثنى عشرقد لايسلمون من العين ثم بين لهم أن هذا الأمر سبب لا أكثر ولا أقل وأن الأمور بيد الله قال جل ذكره (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ماكان يغني عنهم من الله من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها..)أي قالها وباح بما في صدره(إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لايعلمون)فلما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم جاؤا على يوسف فأكرمهم وأنزلهم المقام الذي يليق بهم ثم أخذ أخاه بنيامين بينه وبينه(قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون)ثم جهزهم وأمرهم بالرحيل وأوصى غلمانه أن يجعلوا المكيال الذي يكيلون به يجعلونه في رحل بنيامين دون أن يدري عنهم ودون أن يعرفوا خبرهم فلما مضت القافله إذا بالنداء يناديها (أيتها العير إنكم لسارقون) فكانوا من ذكائهم لم يقولوا:لم نسرق،لأنهم إن قالوا لم نسرق كأنهم يعلمون أن هناك سرقه قالوا: ماذا تفقدون.(قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير)أي هديه وجعل(وأنا به زعيم)أي أنا به كفيل ومنه أخذ الفقهاء جوازالكفاله فلما رجعوا أخبروهم أنهم ليسوا أهلا لذلك(قالوا تالله لقد علمتم ماجئنا لنفسد في الأرض...) بدليل أننا كممنا أفواه الإبل حتى لاتأكل من زروع الناس فنحن أولى أن نترفع عن السرقه فلما أضحوا بين يديه بدأ برحل الولد الأكبر منهم فوردت أنه كان كلما فتح متاع أحدهم يقول :"استغفر الله مما ظلمتك به" وهكذا حتى بقي بنيامين قال: أما هذا فإنه صبي صغير لاأظنه أنه أخذ شيئا فأقسموا عليه أن يفتح متاعه فلما فتح متاعه وجد المكيال فيه فقالوا لما كانوا عليه من شر(قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل...)يستفزون أعصابه ولكن أنى لهم قال جل ذكره:(فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا...(24/13)
)قالها أين؟قالها في قلبه ولم يقلها بلسانه (قال أنتم شر مكانا والله ألم بما تصفون)ثم حالوا أن يسجنوا أحدهم بدلا منه ولكنه رفض قال: (إنا إذا لظالمون)(فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا)أي ذهبوا إلى مكان بعيد وتناجوا فيما بينهم فكأن أخاهم الأكبر ندم على ماكان منه واستحيا أن يعود إلى أبيه ويقول له قد ضاع بنيامين... وتاها بنيامين... وأخذ بنيامين...( فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل مافرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى أو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين)ثم قال ذلك الكبير لبقية أخوته(ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وماشهدنا إلا بما علمنا وماكنا للغيب حافظين)وإن لم تصدقنا هذه المره(وسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون)(قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل...)ثم قال ذلك النبي الموقن بفرج الله (قال عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم)قصد يوسف وبنيامين والأخ الأكبر الذي بقي في أرض مصر (فتولى عنهم)ومعلوم أن الحزن يذكر بما قبله فذكره فقدان بنيامين ذكره فقد يوسف (وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف)قال العلماء لو أنه قال:" إنا لله وإنا إليه راجعون" لكنا هذه الكلمه يظهر والله أعلم أنه لم ترزقها إلا أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه والله تعالى أعلم.(وتولى عنهم وقال ياأسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)فقالوا له:(تالله تفتؤ تذكر يوسف)إلى الآن وأنت في ذكر يوسف(حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين)فقال جواب من يوقن بلقاء الله وفرجه قال:(قال إنما أشكوا بثى وحزني إلى الله...)أنا مارفعت إليكم شكوى(إنما أشكوا بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله مالاتعلمون)ثم قال:(يابنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه...) فالتحسس يكون في الخير والتجسس بالجيم يكون في الشر(فتحسسوا من يوسف وأخيه...(24/14)
)وبين لهم ذلك البند العظيم والأمر الكريم الذي لابد لكل مؤمن أن يوقن به قال:(يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله إنه لايايئس من روح الله إلا القوم الكافرون)مهما كانت النوازل ومهما كانت الخطوب ومهما كان الأمر ومهما كان الضيق ومهما كان الفقر ومهما كان العسر فإن فرج الله أقرب ورحمة الله جل وعلا أوسع(ولاتيأسوا من روح الله إنه لايايئس من روح الله إلا القوم الكافرون)هنا دخلوا على يوسف ببضاعه مزجاه أي مخلطه حالها...ماحالها؟(قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين)هنا حانت الفرصة التي ليست بعدها فرصه .
إذا درت نياقك فاحتلبها
فلا تدري الفصيل لمن يكون
وإن خفقت رياحك فاغتنمها
إن لكل خافقة سكون
((24/15)
قال هل علمتم مافعلتم بيوسف وأخيه...)انظر إلى عدله (إذ أنتم جاهلون)(قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينا..) نسب الفضل إلى الله (قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر)رداءه الذي كان عليه (فإن الله لايضيع أجر المحسنين) فقالوا:(تالله لقد ءاثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين) وكان مقامه العفو عند المقدره كما بيناه في درس"رحماء بينهم" (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) وكذلك الكبار العظماء لاينزلون إلى مسائل العقاب والأخذ بالثأر(قال لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) ثم خلع صلوات الله وسلامه عليه قميصه وأعطاه لأخوته وقال:(اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين) فلما تحركت القافله من أرض مصر ثم يعقوب في أرض فلسطين ريح يوسف قال جل ذكره:(ولما فصلت العير)أي خرجت من أرض مصر(قال أبوهم)أي في أرض فلسطين(قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف) ومايمنعني من التصريح إلا (لولا أن تفندون)أي تتهمونني بأنني شيخ كبير مخرف وفعلا اتهموه(ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون*قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم)(فلما أن جاء البشير)قيل/ إن البشير هنا أخاه الأكبر قال :إنني كما عذبته في الأول بقميص يوسف يوم كان عليه الدم أحسن إليه اليوم وأدخل عليه بقميص يوسف في هيئة البشارة فلما( ألقاه على وجهه فارتد بصيرا) وهنا أخذ أهل العلم أن وقع قميص يوسف على أبيه كان وقعا عظيما كوقع موسى يوم أرجع على أمه وهنا استطرادا نقول قد كان بين أخوين متحابين في الله علاقه حميمه قدحا من الزمن ثم شاء الله لهما أن يتفرقا في الأمصار طلبا للرزق فكتب أحدهما إلى الآخر رساله يخبره فيها بشوقه فلما وصل ذلك الكتاب أي تلك الرساله إلى الأخ الآخر قال متمثلا ببيتين من الشعر قال:ـ
وصل الكتاب فلا عذلت أناملا
خطت به حتى تمخض طيبا(24/16)
فكأن موسى قد أعيد لأمه
أو ثوب يوسف قد أتى يعقوبا
فهو استنباط جميل من كتاب الله الكريم ونعود إلى ماكنا عليه نقول: إن وقع قميص يوسف على يعقوب كان وقعا عظيما حتى إنه رد إليه بصره ثم قدم يعقوب وزوجه وأولاده على أرض مصر فأحلهم يوسف عليه السلام المقام الكريم وسجدوا له سجود تحيه لا سجود عباده فإن الله لايأمر أحدا أن يسجد لأحد سجود عباده وإنما كان ذلك السجود على هيئه من أنواع التحيه في ذلك العصر. (وخروا له سجدا وقال ياأبتى هذا تأويل رءياى من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى...)يعدد فضل الله ولايذكر شيئا عن نفسه(وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من البدو...)ثم لم يقل إن إخواني ظلموني قال(من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى...)جعله أمرا مشتركا وهو منه براء ولكنه الأدب الذي كان عليه أنبياء الله ورسله. قال:(من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم)ثم توجه إلى ربه قائلا:(رب قد ءاتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولى فى الدنيا والأخرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين)أراد من الله حسن الخاتمه وأراد من الله حسن المآل وقال:(وألحقنى بالصالحين)فهو صلوات الله وسلامه عليه إمام من أئمة الصالحين وهو صلوات الله وسلامه عليه أحد القدوات العظمى في مسالك الصالحين فهو نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا بكرة وعشيا .أيها المؤمنون هذا الذي أوردناه جملة خبر يوسف عليه الصلاة والسلام وهو من باب التمهيد للدرس"إنه من يتق ويصبر"أناط يوسف مآل إليه كما بينا بأمرين عظيمين وفقه الله لهما وهما التقوى والصبر .فما التقوى ومالصبر؟التقوى:ـ تفاوتت عبارات السلف الصالح في بيانه ولعل أظهرها / أن تعمل بنور الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.(24/17)
وقد سئل أبوهريرة رضي الله تعالى عنه عنها قيل له: ياصاحب رسول الله مالتقوى؟فقال لمن سأله أمشيت في طريق فيه شوك قال: نعم .قال:فما صنعت قال:إما تجاوزته وإما قصرت عنه فقال: فذلك التقوى.وقال أهل العلم :ـ
خل الذنوب كبيرها و صغيرها فهو التقوى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر مايرى
لاتحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى(24/18)
أما من الذي يتقى فهو رب العالمين جل جلاله يراد رضوانه ويتقى سخطه قال جل وعلا(أهل التقوى وأهل المغفره) أي أهل لأن يتقى وأهل أن يغفر تبارك وتعالى سبحانه وتعالى وبحمده فالإنسان لابد له من أن يزداد علما بالله حتى تغرس التقوى في قلبه لأن الإنسان كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف قال جل ذكره (إنما يخشى الله من عباده العلماء)الذين يعلمون مالله جل وعلا من سلطان وجبروت وعظمة وملكوت ورحمه وقدرة وما إلى ذلك من صفاته العلى وأسمائه الحسنى .وأما ماميز الله به المتقين فإن الله جل وعلا جعل التقوى مناط القبول يوم أن قال:(إنما يتقبل الله من المتقين)وأمر الله جل وعلا بها عباده الخلص يوم أن قال:(ياعبادى فاتقون)وجعلها الله وصيته للسابقين والاحقين يوم أن قال:(ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم إن اتقوا الله) وجعلها تبارك وتعالى المنجيه من عذابه يوم أن قال:(ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا)وجعلها الله تبارك وتعالى النعته والصله الكامله لأنبيائه المرسلين يوم أن قال لأحد أنبيائه ورسله(وكان تقيا) بل هي الجامع لكل خير والأمر الداخل فيه كل بر هو التقوى.(24/19)
أما أيها المؤمنون ينبغي أن يعلم أن التقوى ليست شعارا يرفع ولالواء يحمل فقط ولكن التقوى تظهر في حرص الإنسان على العبادات فرضا ونفلا تظهر على حرص الإنسان في المعاملات مع العدو والصديق مع الزوجه والولد مع الأب والأم مع الأخ والجيران مع الصديق والقريب مع المراجع ومع الموظف مع عامة المؤمنين يقول صلى الله عليه وسلم (الدين المعاملة)وهذا كله يندرج تحت عموم تقوى الله جل وعلا ومن كان ذا تقيه كان ذو نهيه، إذا ذكر بالله وقف وإذا دعي إلى الله أقبل لا يقدم به إلا رضوان الله ولا يحجمه عن شيء إلا خوف عقاب الله وسخطه وقد بينا في غير مرة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تسور ذات يوم حائط للأمصار وإذا به أغلمه يشربون الخمر فدخل عليهم بعد أن تسور الحائط فقالوا له: يا أمير المؤمنين يقول الله جل وعلا(ولا تجسسوا) فتجسست علينا ويقول الله جل وعلا (وأتوا البيوت من أبوابها)وأتيت من أعلى السور ويقول الله جل وعلا(حتى تستأنسوا وتسلموا)ولم تسلم علينا فرجع رضي الله تعالى عنه وهو أمير المؤمنين وقال: كل أناس أفقه منك يا عمر والله ما دفعه إلى هذا القول وما دفعه إلى هذا الرجوع إلا تقوى الله جل وعلا وإلا فهو أمير المؤمنين لا يبالي بهم إذا أمر بهم إلى السجن أو أمر بهم إلى المعتقل أو أمر بهم إلى الجلد أو أمر بهم إلى غير ذلك رضوان الله تبارك وتعالى عليه.فالتقوى إذا كانت حلية المؤمن جعلته عبدا مقربا عند الله محبوبا عند الناس لا يضره سلطانه ولا ثراؤه ولا جاهه ولا ماله ولا مدح الناس له إنما يعلم إن الأمور كلها من الله وإلى الله .(24/20)
أما الصبر والحديث عنه قد يكون أبسط قولا وأكثر بيانا لأن التقوى قد تكون معروفه مشهورة وقد سبق التنبيه عنها فنقول :إن الصبر أيها المؤمنون قرين التقوى والصبر بشر الله أهله البشارة المطلقة يوم أن قال ربنا (وبشر الصابرين)ووعد الله عليهم الأجر المطلق يوم أن قال ربنا (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)إنما يكون فقط على البلاء وعلى الأقدار وهذا خلاف الصحيح فإن للصبر مواطن عده نبسطها فيما يلي:ـ(24/21)
الأول:ـ الصبر على البلاء والأقدار وهذا يعلم من حقائق الدنيا واستقراء أحوالها إن الله يبتلي العباد أجمعين مؤمنا وكافرا تقيا وفاجرا غنيا وفقيرا يبتليهم بما يبتليهم به في صور شتى فلا يخلوا إنسان كائنا من كان من سقم في الأبدان وسآمة في النفس ونقص في الأموال وفراق للأحبه وغربه عن الأوطان إلى غير ذلك مما يبتلي الله جل وعلا به عباده وحال الناس أمام كل بلاء واحد من أربعه/ إما أن يسخط وهذا أمر محرم شرعا . وإما أن يصبر وهذا أمر واجب شرعا.وإما أن يرضوا وهذا أمر مستحب شرعا. وإما أن يشكروا وهذا مقام رفيع يخص الله به بعض أوليائه وبعض من اصطفاهم تبارك وتعالى.فالصبر على أقدار الله مثاله في القرآن:نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام ومازال الناس يتناقلون هذا النموذج إلى اليوم ونحن سنذكر بعضا من الابتلاءات الدنيويه التي تندرحج تحت هذا الباب:قد يبتلى الإنسان بفراق حبيب لديه وإنسان قريب إليه وهذا سلواه أن يعلم أنه لو كتب التخليد لأحد لكرامة في شخصه لخلد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الموت أمر صائر على كل أحد كل نفس ذائقة الموت فليتعزىبمثل هذاوليصبرأما الحزن في القلب والدمعه في العين فإن الله لايحاسب به فإن نبينا صلىالله عليه وسلم يوم أن فقد ابنه إبراهيم قال عليه الصلاة والسلام (إن القلب لايحزن وإن العين لتدمع وإن لفراقك ياإبراهيم لمحزونون ولكن لانقول إلامايرضي ربنا) كذلك وأنانتكلم إجمالا من البلاء الدنيوي أن يبتلى الا نسا ن بأن يكون متزوجا ولايرزق بولد ومعلوم أن نعمة الولد نعمة جليله عدها الله من نعمه على عباده (والذين يقولون ربنا هب لن من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين )ولكن قد يبتلي الله بعض عباده فيحرمهم هذه النعمه إماشيئا مؤبدا وإما أمرا مؤقتا وهما في كلا الحا لتين مأمورون بالصبر.(24/22)
فاعلم ياأخي إنما عند الله أكرم وما ادخره الله لك عنده أعظم إن أنت صبرت وليتعزى بأن كثيرا من أنبياءالله ورسله كانوا لاينجبون وبعضهم أنجب وكان جل من أنجبه بنات فأن لوطا رزق ابنتين وشعيب عليه الصلاة والسلام رزق بنات وموسى عليه الصلاة والسلام لم ينجب أحداعلى ما نعم ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يمتع كثيرا بأبنائه فإنهم ماتوا وهوحي صلوات الله وسلامه عليه اللهم إلافاطمه رضى الله تعالى عنها فإنها هي التي بقيت حتى بعد وفاة أبيها ثم توفيت بعده بستة أشهر رضي الله عنها وصلى الله على أبيها. فالمقصود أن هذا أمر يحتاج إلى صبر ونحن نعذر إخواننا هؤلاء إذا رأوا أولاد الناس بنين وبنات فإن مثل هذا يحرك الشجون ويحرك العواطف ولكن مما ابتلاهم الله به.فالله...الله بالصبر في هذا وفي غيره ولكنه في هذا قد يكون أعظم فلهم عند الله الحسنى. كذلك مما يبتلي الله جل وعلا به عباده الإعاقه في الجسد فقد يكون الرجل كفيفا لايرى أو قد يكون معوقا لايستطيع أن يمشي أو قد يكون غير ذلك من المعوقات التي تعيق على أن يجاري الناس في أعمالهم وغدوهم ورواحهم ولكنه ليعلم أن ماعند الله من أجر إن هو صبر أعظم وأجل فإن أهل العافيه يغبطون أهل البلاء يوم القيامه لما يروه من إكرام الله جل وعلا لأهل البلاء في عرصات يوم القيامه .(24/23)
كذلك ممايبتلي الله به عباده النقص في الأموال فإن الإنسان قد يكون ذوتجاره أو قد لايكون غنيا أصلا فيولد فقيرا وينشأ فقيرا وعزاه مما يتعزى به قوله صلى الله عليه وسلم "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواء لوأقسم على الله لأبره"فيقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث مستدرك الحاكم من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص "إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنه قبل المؤمنين بأربعين سنه يتطرقون أبوابها فتتعجب الملائكه من سرعة حسابهم يقولون لهم أو قد حوسبتم يقولون وعلى أي شئ نحاسب وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا نجاهد في سبيل الله فيدخلون الجنه يقول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخلها الأغنياء بأربعين سنه .فالإنسان لاتكون نظرته دنيويه كل ما ابتلاك الله به من بلاء ظن بما اعده الله لك وقد يحب الله جل وعلا أحدا من خلقه ولايكون بذلك العبد عمل صالح ترفع به الدرجات فيبتليه الله فيصبر فترفع له به الدرجات بجزاء ذلك البلاء حتى إن من أهل الأرض اليوم من يمشي على الأرض ليس عليه خطيئه من صبره على أقدار الله جل وعلا ولذلك إذا تأملت التاريخ وجدت أن الحسين رضي الله تعالى عنه جده رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ...ذلك الصحابي الجليل قطع رأسه فصل رأسه عن جسده وتخلى الناس عنه وأهانه بني أميه إهانه الله أعلم بها قال أهل العلم: إنما ذلك لإكرام الله له ليرفعه عند درجة جده صلوات الله وسلامه عليه فما نالك من مصيبه أو مانالك من قدر لايسرك اصبر عليه وتفكر فقط في أمر الآخره وتعزى بالصبر وهذا الأمر يسمى عند أهل العلم صبرا اضطراريا لأنك لاتملك رده فأنت واحد من أمرين :إما أن تصبر وإما أن تتسخط وإلا لو فرضنا أنك لم تصبر هل معنى ذلك أن القدر لم يأتي ...هل معنى ذلك أن القضاء لن يقع...حاشا وكلا فإن أمر الله لايرده أحد فأنت أصلا ليس أمامك إلا الصبر فعلاما تحيد عنه بل اصبر وارض...واشكوا لله جل وعلا على بلائه..(24/24)
وتعزى بما عند الله من النعيم (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) يقول الله جل وعلا في غيرها(إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون)كثير من آيات الله وجزاء الله وفضل الله علقه الله جل وعلا بالصبر (وجعلنا منهم أئمة) متى؟(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون)فهذا يا أخي الصبر على أقدار الله ولاأستطيع أن أتكلم فيه أكثر من ذلك خوفا من أن يغلب على غيره.الأمر الثاني:ـ الصبر على طاعة الله.إن الإنسان جبل على أنه يأنف من العبوديه ويعشق الربوبيه مامنا من أحد صدق مع نفسه أم كذب إلا وهو أن يحب أن يكون رئيسا أن يكون عاليا ولو قدر له أن يكون إلاها لأراد ولكن جل وعلا ابتلى عباده بالعبوديه له والذل بين يديه والعبوديه تحتاج إلى صبر وتحتاج إلى نفس تذل بين يدي رب العالمين جل جلاله ولذلك الصبرعلى الطاعه صبر عظيم لأن الإسلام هو الإستسلام لله وإن التسليم والخضوع لله يحتاج إلى نفس صابرة ألا ترى إلى نبي الله إسماعيل يوم أمر بأن يذبح ماذا قال؟ (قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)قال جل ذكره(فلما أسلما)تذللا خضعا أهان أنفسهما لمن؟ لله جل وعلا وحده وهذه عباده شرعيه لاتكون إلا لله لو دخلت على أعظم ملوك الأرض حيِّّّّّه بما يحيِّ الناس بعضهم بعضا أما أن يركع له وأما أن يطأطأ الرأس بين يديه وأما... وأما من غير ذلك فهذا لايصرف إلا لله جل وعلا .(24/25)
حتى وقوفك عند قبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وهو هو عليه الصلاة والسلام في السلام عليه لا تقف هكذا واضع يمينك على يسراك فإن هذا موقف ذل لايكون إلا لله ولكن قف موقفا عاديا وسلم عليه صلوات الله وسلامه عليه السلام اللائق به فهو عند الله في المقام الأعظم ولكن هناك أمور تعبديه محضه فيها الذل والخضوع وهذا لايكون إلا لله الواحد القهار ولو غلبك ذو سلطان ولوغلبك ذووجاه ولوغلبك ذومال ولو...ولوأرغمك الناس ماأرغمك فإن هذا لايصرف إلا لله جل وعلا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "دخل رجل النار في ذبابه ودخل رجل الجنه في ذبابه"والقضيه قضية استسلام وخضوع لله جل وعلا فهذا يندرج في الصبر على الطاعه.الأمر الثالث:ـ الصبر عن المعصيه التطلع إلى هذه الحياه الدنيا والنظر في شهواتها وشهوات النفس لايمكن أن يتفق مع شرائع الله جل وعلا فإن الله ابتلى عباده بأن يصبروا على شهوات الدنيا وهذا أمر يحتاج إلى صبر ولذلك قال جل ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في صريح القرآن(ومانتنزل إلا بأمرربك له مابين أيدينا وما خلفنا ومابين ذلك وما كان ربك نسيا*رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا)وإنني أقول إن إخواننا من الشباب اليوم إذا رأؤا مافيهه نجوم الفن ونجوم الرياضه ونجوم غيرهما من متاع دنيوي يذكرون على كل لسان..يشار إليهم بالبنان يمتعون بالأموال تعرض صورهم في التلفاز تحرص القنوات على اللقاء بهم فتصدر صورهم وأخبارهم الصحف أليس هذا من متاع الدنيا بلى ورب محمد فإذا رآه الشاب غلبته النزغات والشهوات أن يكون مثلهم فإذا تذكر ماعند الله من النعيم أحجم عن ذلك كله . يابني إنما هم فيه متاع دنيوي وغالب ماهم فيه أخلاق أقوام لاخلاق لهم عند الله جل وعلا فكم ممن يشار إليه بنانا هو عند الله جل وعلا في أسفل سافلين ولكن اصبر نفسك .(24/26)
ألا ترى إلى قارون يوم خرج في قومه رآه من؟رآه أهل الدنيا وأهل الآخره أهل الدنيا ماذا قالوا؟ قالوا(ياليت لنا مثل ماأوتي قارون إنه لذو حظ عظيم)لكن ماذا قال من يريدون الله والدار الاخره(وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون)أي صبروا عن الشهوات ولذلك قال الله جل وعلا لنبيه(ولاتمدن عينيك إلى مامتعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) ماهم فيه من متاع لاينظر إليه(أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين*نسارع لهم في الخيرات بل لايشعرون)فكل ماهم فيه من متاع ..متاع دنيوي زائل ظاهره النعمه وباطنه ورب محمد النقمه المرأه المؤمنه وهن يسمعنن الآن إن المرأه من أخواتنا المؤمنات المستقيمات الملتزمات إذا رأت عارضات الأزياء والفنانات ومن شابههن من النساء اللاتي لاخلاق لهن ممن يمجدن ويعلى شأنهن في هذه الحياه الدنيا في زمن نطق فيه الرويمضه تبدلت فيه الأحوال وتغيرت فيه المعالم فإن المرأه قد يغلب عليها الشهوة والرغبه في المتاع الدنيوي ياأختاه تصبري بما أمرك الله به الله...الله في القدوات العظيمات عائشه...حفصه...أم سلمه... فاطمه أولئك اللاتي زكاهن الله في كتابه وأثنى الله عليهن في الدنيا والملأ الأعلى أزواج محمد صلى الله عليه وسلم بناته زوجات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم التابعات الجليلات ومن نهج منهجهم بإحسان.أما أولئك فإنك ترى في بعض الأحيان في بعض الصحف قد ترى خبرا مقتبضا مكتوبا في مكان نائي توفيت اليوم الفنانه أو الفنان فلان عن عمر يناهز التسعين أو الثمانين أو المائه فالله لم يكن عندها أحد يوم أن ماتت أخذ الناس خيرها وتركوا لها شرها أخذ الناس خيره إن كان فنانا وتركوا له شره من يتبعه في جنازته مائه...ألف...مائة ألف...(24/27)
مليون ومايغني هؤلاء عند الله شيئا (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا) أيها المؤمنون إنه الإيمان والعمل الصالح فقط ثم رحمة الله تبارك وتعالى أما غير ذلك فلوكان يرجوا أحد بما كان له مجد في الدنيا لنجي أبولهب ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم جده هاشم من يتمنى الناس أن يكونوا منهم ولايتمنون أن يكونوا من الناس ومع ذلك يقول ربنا في سورة تتلى إلى يوم القيامه (تبت يدا أبي لهب وتب) فالمراد كله/ على العمل الصالح أما ماتراه من متاع أهل الدنيا فإنهم إن كانوا صالحين فالحمد لله مثلهم في ذلك سليمان أوتي الملك وأتي الإيمان وإن كانوا غير ذلك فإنهم إن كانوا كفار فإلى جهنم وبئس المصير. وإن كانوا فاسقين وهم تحت مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء رحمهم أسأل الله أن تسعني وإياكم رحمته. ثم أيها المؤمنون من الصبر وهو النوع الرابع/ الصبر على مشاق الدعوة من المعلوم أن الدعوه إلى الله منهج الأنبياء قضى فيها المرسلين حياتهم كلها ولاريب أنه مادعى أحد إلى الله إلا وأوذي هذه سنة الله في الخلق(يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر...) ثم ماذا؟(واصبر على ماأصابك) لأنه ماأمر أحد بمعروف ولانهى أحد عن منكر إلا وأوذي من الناس والدعاة والعلماء والأنبياء من قبلهم والمصلحون في الأرض وحملة لواء الدعوة في دين الله من تأمل حياتهم وجد ماينالهم من المشاق وصور ذلك المشاق قد يمكن حصره فيما يلي. الأول:ـ في إعراض الناس عنهم وأي شئ أشد على النفس أن تصرخ في أقوام بملء فيك بشيرا ونذيرا تدعوهم إلى الحق ولاتجد إلا قلوبا غلفا وأذانا صما وأعين عميا لاتقيم لما تقول وزنا هذا رآه وعاصره ووجده نبي الله نوح (قال رب إنى دعوت قومي ليلا ونهارا*فلم يزدهم دعاءى إلا فرارا*وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) فهذا أعظم مايلاقيه الداعيه أن يعرض الناس عنه.(24/28)
الأمر الثاني:ـ أن يقابل الناس دعوته بأذى القول أو بأذى العمل وهذا كذلك يحتاج إلى صبر أي شئ أعظم من أن تقابل الناس بالحسنى فيقابلونك بالسيئه... تدعوهم إلى الجنه ويدعونك إلى النار... تخفض لهم الجناح يغلظوا لك القول...تبدأهم بالكلم الطيب يبدؤك بالتهم الجائفه...يمشي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضعوا عليه سلى الجزور صلوات الله وسلامه عليه...حدث بين الناس تآمروا عليه وحاصروا في شعب أبي طالب...خرج إلى الطائف يدعوا سلطوا عليه السفهاء والغلمان ليرموه بالحجاره...أراد أن يتركهم تآمروا عليه في بيته ليقتلوه...تركهم وخرج من دياره وبيوت أهله لاحقوه في الجبال والفيافي والصحارى حتى حاصروه في غار صلوات الله وسلامه عليه...هاجر إلى مدينته صلى الله عليه وسلم وأقام فيها معالم الدين لم يتركوه جلبوا عليه بخيلهم ورجلهم وحاصروه كما في غزوة الأحزاب...كلما صنع أمرا بادلوه بأكثر...يريد بهم الخير ويريدون به إلى الشر...وكان لسان حاله كلسان حال العبد الصالح(وياقومي مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار*تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ماليس لي به علم) هذا أنتم (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار*لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولافى الأخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار)فأذى القول وأذى العمل لم يخلو منه فيما نعلم من دعا إلى الله جل وعلا وكذلك نبي الله شعيب (قالوا ياشعيب مانفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وماأنت علينا بعزيز) فكانت كلماته الدامعه (قال ياقوم أرهطى أعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط) نوح (قالوا مجنون وازدجر) لوط (لنخرجنك من قريتنا) كثر عباد الله من أوذوا ومن سلك مسلكهم ناله مانالهم صلوات الله وسلامه على أنبيائه رضي الله عن أصحاب نبيه وغفر الله للعلماء والدعاه والمصلحين والأئمه المتبوعين.(24/29)
كذلك مما يتعرض له الدعاه إلى الله والعلماء الربانيون استبطاء النصر فإن مما يلاقيك في دعوتك للناس أنك أحيانا تستبطئ النصر تستبطئ إجابة الناس لك اعلم ياأخي أن الطريقه في الدعوة إلى الله طريق طويل لايعقل أن يتبدل الناس بين عشية وضحاها لذلك لابد لك من الحكمه والقين والصبر (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) فلا بد أن تصبر(حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) نبي الله صلوات الله وسلامه عليه هاجر بعد ثلاثة عشر عاما من الدعوة من مكه إلى المدينه يمر به الركبان في الطرقات والله لا يعرفونه يقولون من هذا يا أبابكر ثم بعد عشرين عاما صلوات الله وسلامه عليه دخل مكه منصورا بأمر ربه وقد أنزل الله عليه (إذا جاء نصر الله والفتح*ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا*فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فهذا هو الصبر على مشاق الدعوه وعلى مايلقاه الداعية إلى الله من الناس من أذى القول أو أذى العمل أواستبطاء تحقيق الإجابه له. كذلك أيها المؤمنون من أنواع الصبر ...الصبر في العلاقات الإنسانيه والأمور الأدبيه وهذا محكه أن الإنسان يعاشر مثلا في البيت زوجته ولايخلوا الرجل من نقص فيه كما لاتخلوا المرأه من نقص فيها فلو أن كلا منهما أراد أن يحاسب الآخر حسابا دقيقا لبطلت الحياة الزوجيه يقول ربنا (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) ويقول صلى الله عليه وسلم"لايفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي منها آخر" واعلم أنه لايوجد أحد على وجه الأرض يمشي على قدميه إلا وفيه منقصه كائنا من كان.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء فخرا أن تعد معايبه(24/30)
ولو أردت ان تحاسب الناس بالورقة والقلم والمعايير الحسابية لم يبقى لك أحد أبدايصاحبك ولم يبقى لك أحد يخالطك فالإنسان في معاملته مع زوجته على وجه الأخص وأولاده وآبائه قد يلومك أبوك على شئ ليس فيك ولكن تحلى بالصبر،قد يتهمك ابنك بما ليس فيك ولكن تحلى بالصبر.ألم ترى إلى أخوة يوسف يقولون عن أبيهم) إنا أبانا لفي ضلال مبين) وهو عند الله نبي مرسل.قد تكون في مجتمع ...في عمارة تسكنها وأنت لفقرك أو لعدم جاهك أو لأشياء تطول...يأتي جارك يدعوا من فوقك ويدعوا من تحتك ويدعوا من أمامك أما أنت لا يلقي لك بالا ولا يدعوك هذا أمر فيه ازدراء لك وفيه احتقار لشخصك ولكن يا أخي تحلى بالصبر فإن هذا داخل في عموم الصبر الذي أمر الله به والذي وعد الله الأجر عليه قد تكون في العمل ولكنهم يستمعون لغيرك ويستأنسون برأي سواك.علي رضي الله تعالى عنه أدرك فئة من الخوارج عليهم من الله ما يستحقون وهو رابع الخلفاء الراشدين يقول لهم الأمر فلا يعبؤن به ويخطئونه فكان يقول رضي الله تعالى عنه والحرقة تكاد تقتل قلبه يقول :لا رأي لمن لا يطاع فإذا كان علي رضي الله عنه وصل إلى هذا الأمر وقد مر بك قبل قليل إن يوسف عليه الصلاة والسلام بيع بيع الموالي فالإنسان في هذه المواطن يحتاج إلى صبرقد يمر بك بعض الناس فأمامك يثني على غيرك ويمدحه ويعليه المقام الأعلى وقد يعطيه دعوة إلى حفلة أو إلى غيرها ،وأنت يريد أن يشعرك أنك لست بشئ،تغاض عنه يا أخي (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) فهذا كله داخل في عموم الصبر وليس له حلقة يمكن أن نحدد معالمها ولكن كلما كان فيه ازدراء لشخصك أو احتقار لك أو ما إلى ذلك من اساءة القول او الفعل فاعلم أنه داخل في عموم الصبر الذي أنت مطالب به .(24/31)
وخلاصة الأمر أيها المؤمنون:إن الردائين العظيمين تقوى الله جل وعلا والصبر على مايناله الإنسان إما من البلاء والأقدار وإما من صبره على الطاعه وإما من صبره على المعصيه وإما سوى ذلك من معاملات الناس له إذا الإنسان استطاع أن يحوز ذلك بيديه بعون من الله وفضل فقد أوتي المكانه العليا في الدين .قال شيخ الإسلام ابن تيمية:إنما تنال الإمامة في الدين بأمرين باليقين والتقوى أي اليقين والتقوى بعنى واحد.باليقين والصبر واستدل بعموم قول الله جل وعلا :(وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ) وقد سئل الشافعي يا أبا عبد الله أيهما أجمل للمؤمن البلاء أو أن يمكن؟قال سبحان الله وهل يمكن مؤمن حتى يبتلى فإن يوسف عليه السلام ابتلي فلما نجح مكن ولذلك أقول لإخواني خاصه ممن تصدروا للدعوة وإمامة المساجد وقراءة القرآن على الناس أو تعليمهم وإرشادهم اعلموا أن هذا الطريق شاق وطويل فلا تستعجلوا أولا الظهور سترون من الناس الإزدراء والإحتقار وانتقاص الشخصيه وسيأتيكم من ملئ قلبه حسدا وحقدا فيحاول أن ينتقص شخصيتك ويتهمك بما ليس فيك أو أن يلحق بك التهم الجزاف أو ما إلى ذلك فاصبر واحتسب ولكن إياك والعجب بنفسك واعلم أن ما أنت فيه إنما هو من فضل الله تبارك وتعالى عليك فاحمد الله على نعمه واصبر على ماتناله من أذى الخلق فإن رزقت هذين الأمرين فأبشر بأن الله جل وعلا سيجعل لك المآل الحسن والعاقبه الحسنى والمقام المحمود واعلم أنه ماجلس رجل عند كبر سنه حيث يحب إلا وقد جلس وهو صغير حيث يكره فاجلس حيث تكره في الصغر ستكون يوم تكبر في مكان تحبه وأنا أتكلم عن الأمور الشرعيه فقط أما الدنيا فإنها تنال بالحق وتنال بالباطل فإن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لايحب ولا يعطي الدين إلا من يحب .(24/32)
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يغفر لي ولكم الزلل وأن يجنبنا وإياكم مواطن الخلل ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا واغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بحمد الله(24/33)
** أهل الله وخاصته ..للشيخ صالح بن عواد المغامسي **
الحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات واشهد ان لاإله إلا الله وحده لاشريك له يعرج الملائكه والروح إليه في يوم كان مقداره ألف سنةٍ مماتعدون خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى ، واشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبيٌ شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما عرّف بالله ووحده ودعى إليه وعلى صحابته ومن تبع منهجه إلى يوم الدين 000
اما بعد 00
( إن الذين كفروا بالذكرِ لما جاءهم * وإنه لكتابٌ عزيز * لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميد ) 00
مانزل كتابٌ من السماء على نبي من الانبياء أعظم ولا اجل من القران العظيم الذي انزله الله على قلب محمد صلى الله عليه ، فمابين دفتي المصحف ممايرى المؤمن اليوم ويقرأه هو كلام رب العزة والجلال جل جلاله ، نزل به أمين السماء جبريل على قلب أمين اهل الارض محمد صلى الله عليه وسلم في خير ليله هي ليلة القدر وفي خير شهر هو شهر رمضان انزله الرب تبارك وتعالى ولم يكل إلى احد من الخلق حفظه وإنما أوكل جل وعلا حفظه على ذاته العليه ، فقال سبحانه ( إنا نحنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وكتابٌ بهذه المنزله حريٌ بإن يكون من يحفظه ويتدبره ويعلمه ويقرأه ويقوم بما فيه ويؤمن بمتشابهه ويعمل بحكمه حريٌ أن يكون
من أهل الله وخاصته ، جعل الله لإهل القران في الدنيا صدور المجالس وجعل لهم في المساجد صدور المحاريب وجعل لهم في حياة البرزخ أول القبر وجعل لهم يوم القيامه أهل الله وخاصته
جاء النبيون بالآيات فنصرموا ......وجئتنا بحكيمٍ غير منصرمِ
آياته كلما طال المدا جددٌ ...... يزينهن جلال العتقِ والقدمِ(25/1)
ولقد عرف التاريخ الإسلامي منذ ان جمع القرأن في عهد ابي بكر إلى يومنا هذا عرف افذاذاً من الرجال وأئمة من الأخيار أفنوا أعمارهم وقضوا إيام حياتهم في كلام ربهم تبارك وتعالى إما يتلونه وإما يعلمونه وإما يتدبرونه وإما يفسرونه وفي ذلك كله كانوا يعملون به لإنهم يعلمون أن ليس بين الله وبين احدٍ من خلقه نسب إلا العمل الصالح ، إستفتح الشيخ الإمين الشنقيطي رحمه الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا ولاتفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ، استفتحها ليفسرها في الحرم بعد صلاة المغرب فمكث رحمه الله يبكي لايقدرعلى ان يفسرها ، يُتصور ان يفسد أحدٌ في الأرض بعد ان أصلحها الله ، فمكث رحمه الله يبكي حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء ولم يفسر آيةص واحده ، وفسر قول الله جل وعلا ( إهبطوا مصر ) في أربع ساعات دون ان يكرر كلامه او ان يخرج عن معنى هذه الآيه رحمه الله وعفى عنه ،
وغاية المقصود من هذا كله هو ان تتأمل آيات متفرقات من كلام الرب جل وعلا أحياناً نتاملها تامل علمي محض واحياناً نتاملها تأمل وعظي محض واحياناً نحاول ان نجمع بين العلم والوعظ ماستطعنا لذلك سبيلا
~ ~ الو قفه الاولى ~ ~
قول الله جل وعلا ( ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لمامعهم نبذ فريقٌ من الذين أُتوا الكتاب كتاب الله وراى ظهورهم كأنهم لايعلمون * واتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان * وماكفر سليمان ولكن الشياطين كفروا * يعلمون الناس السحر وماانزل على الملكين ببابل هاروت وماروت * ومايعلمان من احدٍ حتى يقولا إنما نحنُ فتنةٌ فلا تكفر * فيتعلمون منهما مايفرقون به بين المرء وزوجه * وماهم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله *ويتعلمون مايضرهم ولاينفعهم * ولقد علموا لمن إشتراه ماله في الآخرة من خلاق * ولبأس ماشرو به انفسهم لو كانوا يعلمون )(25/2)
موضع الإشكال قول الله جل وعلا ( وماأنزل على الملكين ببابل ) ذلك انها تحتمل ان تكون نافيه ، وتحتمل حسب اللغه أن تكن موصوله ،لكن سأبدا في تفسير الآيات من أولها 00
الآيات جاءت في سورةالبقره في ذكر اليهود والله هنا يقول ( ولما جاءهم رسولٌ من عندالله مصدقٌ لما معهم )
هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والذين معهم هي التوراة وفي التوراة وصف لنبينا صلوات الله وسلامه عليه ، ذلك ان الله جل وعلا وصف محمد واصحابه في التوراة والإنجيل ثم أبتعثه من اعز قبيل وفي أكرم جيل وأمثل رعيل ، صلوات الله وسلامه عليه، ولما قيل لعبدالله بن سلام اليهودي أتعرف ان النبي صلى الله عليه وسلم هو هو بعينه قال نعم ولا أشك في ذلك أعرفه أكثر مما أعرف ابني ، ثم بين قال أعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ان الرب جل وعلا أعطى موسى التوراة فأخبره بوصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أما أبني فلا ادري ماكان من شأن امه أكذبت علي أو صدقت ، ام النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء وصفه في التوراة والتوراة أعطاها الله موسى من غير وسيط 0
غاية الأمر ان الله هنا يقول ( ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الذين أُوتوا الكتاب ) وهو أسلوب القرأن العظيم في التحرز من تعميم الأحكام قال الله جل وعلا ( فريق ) ولم يقل أمة اليهود بإكملها ذلك أن كل أمه فيها الأخيار وفيها دون ذلك ، وهذا يشهد له الواقع فالإسلام دين الفطره ، ومازال الناس من يهود ومجوس ونصارى ووثنيين وغيرهم يدخلون في دين الإسلام تباعاً حتى أن آخر يهودي أسلم ، أسلم قبل أيام
وهذا كله يدل على التحرز القرأني في كلام الرب جل وعلا 0
((25/3)
واتبعوا ماتتلوا الشياطين على ملك سليمان ) عد الله الفعل تتلوا هنا بحرف الجر ( على ) وهذا يحتمل ان المقصود من الآيه أن اليهود تركوا الحق والامر المبين الواضح الذي أنزله الله جل وعلا عليهم ولجئوا إلى الكذب والآيه تُفهم من سياقها التاريخي ذلك ان سليمان عليه الصلاة والسلام أعطاه الله جل وعلا أموراً عظام يقول الله ( فسخرنا له الريح تجري بإمره رخاءً حيث أصاب * والشياطين كل بناءٍ وغواص * وأخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطائنا فامنن أو امسك بغير حساب ) قبل أن يموت سليمان دفن السحر الذي جاءت به الشياطين ولما مات أخرجته الشياطين وأخرجه اليهود ونسبوا إلى سليمان لم يكن معجزةً من الله بزعمهم وإنما كان سحراً ولهذا قال الله جل وعلا ( وماكفر سليمان ) رغم ان اليهود لم ينسبوا إلى سليمانرالكفر وإنما قال الله ( وماكفر سليمان ) لأنهم نسبوا إلى سليمان السحر والسحر هو الكفرأو قرين الكفر او بتعبير أوضح السحر من الكفر ولايوجد بين العلماء خلاف كبير في معنى اللآيه 0
قال الله في الآيه التي بعدها ( وماأُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) قال فريق من العلماء إن (ما) هنا نافيه والآيه عندهم في تقديم وتأخير ومعنى الآيه ( وماكفر سليمان ) أي نافيه نفى الله الكفر عن سليمان ، ويقولون الأصل في الآيه (وماأُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ) أي أن الله ينفي أن يكون قد أنزل على الملكين أي شيئ من السحر ، هذا معنى اللآيه عند بعض العلماء واختاره القرطبي وأيده الشوكاني من المتأخرين
لكن هذا القول لايستقيم مع الآيه أبداً ، لإن الله قال بعدها ( ومايعلمان من احدٍ حتى يقولا إنما نحنُ فتنةٌ فلا تكفر فيتعلمون منهما ) فجاء الله بألف التثنيه في يقولا ومنهما ويتعلمان ، ممايدل على أنها تعود على الملكين هاروت وماروت ، فعلى هذا يبطل هذا القول في ظننا 0(25/4)
القول الثاني أختاره الإمام إبن حزم رحمه الله وحجته أن الواو للعطف ،والعطف يقتضي المغايره وفق قواعد اللغه ، فمعنى الآيه عند إبن حزم ، أي ان الذي انزل على الملكين غير السحر لإن الواو عاطفه والعطف يقتضي المغايره ، الذي دفع العلماء إلى هذا القول ماروي عن إبن عمر بإسانيد مرفوعه وموقوفه ، عن الله جل وعلا أنزل الملكين هاروت وماروت وابتلاهما بالكوكب المعروف ( الزهرة ) تمثلة لهم كأنها أمرأه ففتن بها الملكين فردها الله فجعلها كوكباً ، هذا الذي جعل بعض العلماء يحيد عن معنى الآيه 0
والحق إن شاء الله تعالى هو مايلي 00
اما القول بإن الملكين أبتوليا بالزهرة فهذا القول باطل ولايمكن ان يثبت ، وإنما مجمل الآيه أن الله جل وعلا لاملزم له ولا معقب لحكمه ، فلما فشى في ذلك الزمان السحر حتى أختلط على الناس ماهو السحر وماهي المعجزات الأنبياء أرسل الله جل وعلا وبعث هذين الملكين هاروت وماروت بعثهما جل وعلا فتنه للناس يبنون للناس ماهو السحر فإذا عرف الناس ماهو السحر ، عرفوا كيف يفرقون بينه وبين معجزات الانبياء ، ولاذي يدل على صحة هذا المعنى قول الله ( ومايعلمان من احدٍ حتى يقولا إنما تحنُ فتنةٌ فلا تكفر ) أي يبينا للناس ، وهذا على ان السحر كفر ، ( فيتعلمون منهما ) أي شرار الناس من الملكين ، ( مايفرقون به بين المرء وزوجه ) وهذا أحد انواع السحر المنصوص عليها في كتاب الله 00
( وماهم بضارين به من احدٍ إلا بإذن الله ) فقد يقع الضرر وقد لايقع وسواءً وقع أو لم يقع كل ذلك لايمكن أن يتم أويكون إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى
~ ~ الو قفه الثانيه ~ ~
معنى قول الله تبارك وتعالى في سورة الكهف
((25/5)
المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثوابً وخيرٌ أملا ) قال صلى الله عليه وسلم ( من امسى معافاً في بدنه آمناً في سربه عنده قوت يومه ، فكأنما جمعت له الدنيا بحذافيرها ) هذه الحياة ظروريات وفيها زينة زائده على الظروريات ، فالظروريات وفق الشرع ثلاث 00
أن يكون الإنسان معافً في بدنه
ان يملك قوت يومه
ان يكون الإنسان يجد أمن ليعبد الله فيه
ومازاد عن ذلك فهو زينة الدنيا ولذلك قال الله (المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) أي ليس من الضروريا ، فالإنسان يمكن ان يعيش دون ان يكون له ولد ويمكن ان يعيش دون ان يكون له مال مدخر ، لكن لاينغص العيش إلا عدم وجود قوت اليوم او السقم في البدن او الخوف وعدم الامن عياذاً بالله من هذه الثلاث ، ثمة مركات يجب ان ينتبه لها المسلم وهو يتأمل وتدبر هذه الأيه الكريمه ، قبل ان نشرع في هذه المردكات نبين إن العلماء أختلفوا في الباقيات الصالحات فمنهم من حصرها في ( سبحان الله والحمدلله ولاإله إلا الله والله اكبر ولاحول ولاقوة إلا بالله ) ولاريب ان هذه من الباقيات الصالحات لكنها لاتستوعب الباقيات الصالحات كلها وإنما الباقيات الصالحات الاصل والصواب ان يقال كل عمل صالح اريد به وجه الله جل وعلا فهو من الباقيات الصالحات أم التامل في هذه الأيات تعمقاً فإني أقول ان الله يبين من هذه الآيه ان الحياة زهرةٌ حائله ونعمةٌ زائله لابد ان تنقضي وماأدخره الإنسان في حياته الدنيا يتلاشى ويذهب إلا ماأريد به وجه الله جل وعلا فإنه يبقى مدخر له يوم القيامه والواقع اعظم الشهود عندما يموت بني آدم وعندما يموت الرجل أو المرأه أول مايترك منه أسمه فإن الناس إذا مات الميت وجاءو يسألون عنه قبل أن يغسل لايقولون أين فلان ولكن يقولون أين الجثه 0
الأمر الثاني 00(25/6)
ان تعلم ان الباقيات الصالحات توفيق من الله وان الهدايه جملةً نور من الله يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء لا يناله احداً بعلمه ولابجهده ولابسعيه ولا بغدوه ولابرواحه قال الحق تبارك وتعالى ( ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور ) ولقد شبه الله قلب المؤمن بالكوه التي في الجدار على النافذه الغير المطله التي في الجدار التي فيها مصباح فالكوه هي قلب المؤمن والمصباح الذي فيها يضيئ من خلال زيت فجتمع فيه سببان لان يضئ ، فاجتمع في الكوه سببان المصباح وهذا المصباح متكئ على سبب آخر هو الزيت تفسيره الفطره التي جعلها الله جل وعلا في قلوب الناس والمصباح هي الآيات البينات التي أنزلها الله على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفطره تكاد تهدي صاحبها من غير دليل كما أن الزيت يضئ من غير أن توقد به نار ، فتشع هذه الفطره مع آيات الله البينات في قلب المؤمن والكوه مقوي محفوظ والشعاع فيه يبقى ظاهراً ممتلئ وكذلك قلب المؤمن يشع بنورين نور الفطره التي فطره الله جل وعلا عليها ونور الآيات البينات التي استفاد منها وجعلها الله جل وعلا في قلبه ولاسبيل إلى الفطره ولاسبيل إلى اللآيات البيناتإلا بالله تبارك وتعالى قال العز إبن عبدالسلام رحمه الله ( والله لن يصلوا إلى شيئ بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله ) قال تباركت أسماءه وجل ثناءه ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجه الزجاجه كأنه كوكب دري يوقد من شجرةٍ مباركةٍ لازيتونةً لاشرقيه ولاغربيه يكاد زيتها يضيئ ولم تمسسه نار نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء
الأمر الثالث 00(25/7)
من المدركات من الباقيات الصالحات ان تعلم ان الله جل وعلا وحده من يعلم الغيب كله فكم من إنسان يسعى لأمر يأمل خيره ويلقى ضده وكم ممن يأمل غير ذلك يلقيه الله جل وعلا بالخير ومن علم أن الغيب كله لله اطمأنت تفسه وسكن قلبه ولم يركن إلى إلى امر من الدنيا إتكئ عليه
وشدد يديك بحبل الله معتصمِ 00 فإنه الركن إن خانتك أركانُ
~ ~ الوقفه الثالثه ~ ~(25/8)
مع قول الله جل وعلا ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لايبغون عنها حولا ) هذه الآيه ختم الله به بعدها بآيه سورة الكهف والمقصود من بيان هذا الأمر أمور عدة الناس يسمون الخطيب الذي يتحدث كثيراً عن الجنة بإنة يطرق موضوع تقليدي ويتناسون أنه لابغية للمؤمن أعظم من الجنة لأنه من دخل الجنة ماالذي يظيرة من مصائب الدنيا ومن أدخل النار ماالذي أفادة من عطايا الدنيا ، الجنة درجة عالية والدخول إليها لابد أن يكون صاحبها ذا قلب سليم 00قال الله عزوجل على لسان خليلة ( يوم لاينفع مالٌ ولابنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم ) ونبيكم صلى الله عليه وسلم مر على إعرابي يدعوا فقال الإعرابي يانبي الله ومعه معاذ أما واني لاأحسن دندنتك ولادندنت معاذ ولكن أسأل الله الجنه واستجير به من النار فقال الرسول صلى الله عليه وسلم حولها ندندٍ أي لابغية لنا ولا مطلب لنا في دعائنا إلا ان نزحزح عن النار وندخل الجنه ، والجنه ذكرها الله جل وعلا مرات عديده في كتابه قال الله جل وعلا عن ابينا آدم ( وقلنا ياآدم أسكن انت وزوجك الجنه ) فختلف العلماء هنا في الجنه التي أمر الله آدم وزوجته ان يدخلها فقال فريق منهم إنها جنة المأوى التي وعدها الله جل وعلا عباده وحجتهم في هذا ان الألف واللام للمعهود الذهني لإن ذكر الجنه لم يمر من قبل فننتقل معهود اللفظي ولايمكن ان تكون للإستغراق لإنه لايوجد إلا جنةٌ في السماء ، فقالوا لم يبقى إلا المعهود الذهني ومن حججهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن أهل الجنه إذا أرادوا أن يدخلوها يجدوها مغلقة الأبواب فيأتون أباهم آدم فيقولون ياآدم إستفتح لنا الجنه فيقول عليه السلام وهل أخرجكم من الجنه إلا خطيئة أبيكم إذهبوا إلى محمد قالوا إنها ذلاله على أنها جنة المأوى ، وقال آخرون من العلماء انها ليست الجنه التي وعدها الله لعباده ومن حججهم انه أبليس وسوس لآدم وأن آدم كلف(25/9)
فيها قالوا والجنه لاسبيل لإبليس عليها ولاتكليف فيها وغن آدم أخرج منها والذي يدخل الجنه يخلد ولايخرج ولكن جماهير العلماء وهذه إطلاله علميه على الآيه 00
نعود للجنه 00
قوم لايدخلونها بالكليه وقوم يمنعون منها إبتداءً وقوم يدخلونا من غير حساب ولاعذاب وأما الذين منعوا عناه بالكليه فهم اهل الإشراك فمن مات على غير ملة الإسلام فقد حرم من الجنه ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنه ) والفريق الآخر الذين لايدخلونها إبتداءً ومن هؤلاء العاق للوالديه قال صلى الله عليه وسلم لايدخل الجنه عاق ، فقمن مات وهو عاق للوادليه لم يدخل الجنه إبتداءً ولو كان من اهل التوحيد ومالحافظين على الصلوات لإن الله جل وعلا لم يعطي حق لأحد من الخلق بعد حق نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم من حق الوالدين فإذا وجد عبد نبذ هذا الحق الذي وضعه الله وراء ظهره وقدم عليه غيره وعامل الإحسان بالعقوق كان حقاً على الله أن لايدخله الجنه إبتداءً إلا ان يشاء الله ، الامر الثالث ممايتعلق بالجنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نسب إلى الجنه الشوق قال عليه الصلاة والسلام ( إن الجنه لتشتاق إلى ثلاثه ، إلى علي وعمار وسلمان ) رضوان الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين
~ ~ الوقفه الأخيره ~ ~(25/10)
مع قول الله جل وعلا لكليمه موسى ( والقيت عليك محبةً مني ) الله جل وعلا يحكم مايشاء ويعمل مايريد ويبتلي بالمن كمايبتلي بالعطاء ، ونبي الله موسى القته امه في اليم خوفاً عليه وهو من حيث العقل لايستقيم لكنه أمر الله فلما حملة الامواج موسى ورأته أسيا بنت مزاحم ألقى الله محبة موسى في قلبها فكان ذلك أحد الأسباب في بقاءه وأستمرار حياته بقدر الله جل وعلا ، قال الله جل وعلا ( والقيت عليك محبةً مني ) فلا يرى موسى عبد ذو إنصاف إلا واحبه مماألقى الله جل وعلا عليه وهذا مطلب عظيم يطليه عباد الله وأوليائه، لقد ذكر الله جل وعلا شرطه قال الله تعالى في سورة مريم ( أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وودا) فالود فسر ممايجده الإنسان في قلوب المؤمنين من محبةٍ له وودٍ له وهذا لاينال إلا بالإيمان
والعمل الصالح وقلوب العباد ليست لهم حتى يهبوك أياها فمن وصل مابنه وبين الله تكفل الله جل وعلا بكل غاياته ورغباته ، والغايه من ذلك ان تعلم ان من اعظم العطايا واجزل الهبات أن يمن الله عليك بمحبة الناس ولاسبيل إلى ذلك كما بينا إلى بالإيمان والعمل الصالح وهذا يسوقنا إلى بعض الذين كان يحبهم النبي صلى الله عليه وسلم 00
جملةً النبي صلى الله عليه وسلم يحب الصحابه كلهم لمن بعضهم ألقى الله عليه محبه ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويؤثره على غيره ويأتي في مقدمة هؤلاء أسامه إبن زيد رضي الله عنه ، غلام اسودٌ افطس خفيف البدن ، ذكر الذهبي في الأعلام خبراً عن عائشه أن مخاطهرضي الله عنه نزل فبادر النبي صلى الله عليه وسلم ليمسحه عنه فقالت عائشه رضي الله عنها يانبي الله أنا أمسحه عنك فقال ياعائشه إني أحبه فأحبيه 00
ولما جاء دفنه قال عمر رضي الله عنه يوم دفن أسامه عجلوا في دفن حبي نبي الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تغرب الشمس 00(25/11)
احب نبينا صلى الله عليه وسلم خديجه بنت خويلد وكان يذيح الصدقات ويرسلها لقرائب خديجه ، ودخلت عليه هائله أخت خديجه تستأذنه فلما دخلت تمنى ان تكون هائله قبل أن يعلم انها هائله قال اللهم اجعلها هائله ودخلت ، حتى يتذكر خديجه رضي الله عنها وهي أول هذه الامه اسلاماً بلاريب ولاشك ولم يسبقها إلى الإسلام احد من الامه 00
هؤلاء طائفه ممن أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم 00
أحب نبيكم جبل أحد ،، وهذا كله ممايدل على أن هناك أشياء حوله صلى الله عليه وسلم كان يحبها ، والمؤمن اليوم إذا وفق للسنه وفق لهدي النبوه يصنع الشيئ وربما لايوافق جبلته لكن يصنعه تقرباً إلى الله لإنه يحب كما يحب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 00
هذا زمن الصيف جمع نبيكم في زمن الصيف مابين البطيخ الأصفر ومابين الرطب فكان يأكل الرطب ويأكل البطيخ الأصفر ويقول نكسر حر هذا ببرد هذا ونكسر برد هذا بحر هذا ، تأمل رجلٌ يدخل مع أبناءه ومعه رطب وبطيخ أصفر فيضع ابناءه ثم يقسم بينهم البطيخ والرطب ويقول أحبوا ماأحبه نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وهذا ممايغرس الإيمان في القلوب ويكسب الرق في القلب ويجعل الإنسان على بينه من أمره ، وهذه القلوب آنيه واوعيه وأعظمها ماكان ممتلئً بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم 00
لو وكلنا إلى اعمالنا لم ندخل الجنه قط ولكنها رحمة الله يصيبها الله جل وعلا لمن يشاء ورحمته تطلب منه بكرةً وعشيا ، تارةً بالدعاء وتارةً بالنوايا وتارةً بالعمل الجامع للنوايا الحسنه بكل شيئ ، وماعجزنا منه لانتركه نأخذ بعضاً منه نتقرب إلى الله بما يحبه ويحبه رسولنا صلى الله عليه وسلم 00(25/12)
لقاء الشيخ صالح المغامسي في معكم على الهواء بتاريخ 15 /3 /1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ رب العالمين والصلاةُ والسلام على نبينا مُحمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين
أخوة الإيمان في كُل مكان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
ليس شيءٌ أنفع للعبد في معاشهِ و معادة وأقرب إلى نجاتهِ وسعادتهِ من تدبُر القرآن وإطالة النظر فيهِ وجمع الفكر على معاني آياتهِ فإنها تُطلعُ العبد على معاني الخير والشر وعلى حال أهلها وتُريهِ صورة الدُنيا في قلبهِ وتحضُرهِ بين الأمم وتُريهِ أيام الله فيهم فيرى غرق قوم نوح ويعلم صاعقة عاد وثمود ويعرف غرق فرعون وخسف قارون ، بتدبُر القرآن يعيشُ المرءُ مع الآخرة حتى كأنها فيها ويغيبُ عن الدُنيا حتى كأنهُ خارجٌ عنها فيصيرُ في شأن والناسُ في شأنٍ آخر ((وإذا تُليت عليهم آياتهُ زادتهُم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون )) لقد أنزل الله القرآن من فوق سبع سماوات لتدبُر والتعقُل لا لمُجرد تلاوتهِ والقلبُ لاهِ غافل (( كتابٌ أنزلناهُ إليك مُباركٌ ليتدبرُوا ءاياتهِ وليتذكر أُولي الألباب ))
أخوة الإيمان مع القرآن الكريم الذي نسأل الله العلي القدير أن يجعلهُ ربيع قُلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا { آياتٌ وعظات } هذا هو عنوان حلقة هذا اليوم من برنامج معكم على الهواء في حلقةٍ على الهواء مُباشرةً من إذاعة القرآن الكريم من المملكة العربية السعودية نُرحبُ كثيراً بضيفنا الكريم فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي عضو هيئة التدريس في كُلية المُعلمين في طيبة الطيبة وإمام وخطيب مسجد قباء في المدينة المنورة أهلاً وسهلاً فضيلة الشيخ صالح .
حياكم الله شيخ خالد وحي الله الأخوة المُستمعين والأخوات المُستمعات وأسأل الله لي ولكُم التوفيق والسداد(26/1)
اللهُم آمين ونسأل الله العلي القدير أن ينفع بكم وأن يجعل ذالك في موازين حسناتكُم كما نسألهُ عز وجل أن يجعل القرآن ربيع قُلوبنا نور صدورنا وجلاء همومنا وذهاب أحزاننا .
اللهم آمين
فضيلة الشيخ صالح مرةً أُخرى يتجدد الترحيب بكُم وأهلاً بكُم في إذاعة القرآن الكريم وشُكراً لكم على قبول دعوة البرنامج ونسألهُ عز و جل أن ينفعنا دائماً بما نقول ونسمع إنهُ على كُل شيءٌ قدير ..
حفظكم الله { آياتٌ وعظات } هذا هو عنوان هذا الأسبوع من برنامج معكم على الهواء يتساءل البعض عن كيفية الإجابة عن الأشكال الظاهرة من قولهِ تعالى عن نبيهِ شُعيب (( وإلى مدين أخاهُم شُعيبا )) بينما قال سُبحانهُ في سورة الشعراء (( كذّب أصحابُ الأيكة المُرسليِن * إذ قال لهُم شُعيبٌ ألا تتقون ))
فضيلة الشيخ صالح وجه الإشكال لمّا قال في سورة هود ((أخاهُم )) ولم يقُل ذالك في آية الشُعراء نبدأ بهذهِ الوقفة حفظكُم الله ثم يتدرج الحديث معكُم عن باقي الآيات وباقي العضات في هذهِ الحلقة المُباركة ؟؟؟
الحمدُ للهِ حمداً كثيراً طيباً مُباركاً فيهِ كما يُحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله شعارٌ ودثارُ ولواءُ أهل التقوى وأشهدُ أ، سيدنا ونبينا مُحمدٌ عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من أقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ على يوم الدين أما بعد ....
فما ذكرتمُوه من الإشكال الظاهر في قول الله جل وعلا (( وإلى مدين أخاهُم شُعيبا )) مع قوله سُبحانهُ وتعالى (( كذّب أصحابُ الأيكة المُرسليِن * إذ قال لهُم شُعيبٌ ألا تتقون )) فلم يذكُر الله نسبتهُ إلى الأخوة والجواب عن هذا الإشكال :(26/2)
أن الله جل وعلى في الآية الأولى والتي هي في سورة هود نسبهُم الله جل وعلا إلى القبيلة أو إلى المكان فكلمة مدين تُعنى بالقبيلة التي ينتسبُ إليها شُعيب وقومهُ وتُطلق كذالك على المكان الذي هُم فيهِ ونُسبتُها إلى القبيلة أقوى إذاً مدين هذا رجُل تنتسبُ إليهِ أُمة من الأُمم ولا يخلوا شُعيبٌ أن يكون واحدٌ من أبناء أحفاد مدين فهو يجمعهُ مع قومهِ أُخوة النسب فلمّا نسب الله جل وعلا قوم شُعيبٍ إلى جدهم ذكر بأن شُعيباً أخاهُم فقال (( وإلى مدين أخاهُم شُعيبا )) والتقدير واذكُر إذ أرسلنا إلى مدين أخاهُم شُعيباً .
أمّا في سورة الشُعراء فقد نسب اللهُ أُولئك القوم إلى المُعتقد الذي يعبدُونهُ وهي تلك الشجرة التي أتخذُها من دون الله فلمّا نسبهم الله جل وعلا إلى الأيكة وعبّر عنها هُنا بالأيكة نسبهُم إليها نفى عنهُ جل وعلا عن نبيهِ الأخوة فقال ((إذ قال لهُم شُعيبٌ )) لأنهُ لو قال هنا أخوهم لفُهم أنهُ أخوهُم في العقيدة وهذا مُنتفي وعلى هذا يترتب أن على المؤمن أن يكون على مُباينه ومُفاصلة ظاهرة عن أهل الباطل وعن أهل الكفر وأن مُعتقد الإنسان أعظم ما يملكُهُ فينؤ بنفسهِ على أن يشوب مُعتقدهُ أيُ شائب وهذا من بلاغة القرآن والتدقيق اللفظي فيهِ وعلى أنهُ حقٌ مُنزلٌ من لدُن حكيمٍ خبير وبهذا كما هو ظاهر يزول الإشكال ..
نعم فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي أيضاً قبل قليل وردت هذهِ الآية ((أصحابُ الأيكةُ )) هنا وهُناك في آيةٍ أُخرى ( الأيكة ) هل هُناك ؟؟؟
ليس هُناك فرق إنّما هذا لفظاً يُطلق على اثنين والمُراد بها الشجرة الكبيرة التي كانوا يعبدُنها من دون الله .
أجدها مُناسبة طيبة وأنتُم تستعرضون هذهِ الآية وتتحدثون عن هذهِ الإشكالية والفروق الحديث أيضاً عن بني الله شُعيب ؟؟؟(26/3)
نبيُ الله شُعيب عليهِ الصلاة والسلام هو أحدُ أنبياء عرب ومعلومٌ أن أنبياء الله جل وعلا أكثروا من مئة ألف وهؤلاء المُباركون لم يكُن منهُم من أُمة العرب إلا أربعة " هود ، وشُعيب ، وصالح ، ونبيُنا صلى الله عليه وسلم " وكُلهم بُعثوا في جزيرة ..
شُعيبٌ يُعرف عند جمهرةِ أهل العلم بأنهُ خطيب الأنبياء لأنهُ كان قد أُوتي بياناً واضحا وحُجةً بالغة وكذالك الرُسل أئمةُ بيانٍ وفصاحةُ لسانٍ وبلاغة يبلغُون عن الله رسالاتهِ وينصحون لهُ في برياتهِ لكن كان في شُعيبٍ عليهِ الصلاةُ والسلام حضٌ أكبر من البيان كما قال الله تبارك وتعالى عنهُ (( واستغفروا ربكُم ثم تُوبوا إليهِ إنّ ربي رحيمٌ ودود * قال يا شُعيبُ ما نفقهُ كثيراً مما تقول وإنّا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطُك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز )) فكان جوابهُ كما حكى الله عنه (( قال يا قومِ أرهطي أعزُ عليكم من الله و أتخذتُمُوهُ وراءكُم ظهرياً إنّ ربِي بما تعملون مُحيط ))
إلى غير ذالك مّما ذكرهُ الله جل وعلا ممّا فيهِ من الدلائل الظاهرة والبراهين الواضحة على قُدرة بيان هذا النبي الكريم صلواتُ الله وسلامهُ عليه .
ويظهر كذالك ــ بما أن الحديث عن شُعيب ــ أن أنبياء الله كانوا يجمعون الفقه في الدعوة فيبدأون بمسالة العقيدة فيدعون إلى توحيد الله والخوف من لقاء الله ويُحذّرون أُممهُم من اليوم الآخر ثم إنّ كُل نبيٍ يتحدث عن الخطيئة الكُبرى التي تلبس بها قومه فلمّا كان التطفيف في الكيل والميزان الخطيئة التي تلبس بها قومٌ مدين قدّمها شُعيبٌ عليهِ الصلاةُ والسلام ولمّا كان جريمةُ إتيان الذُكران من العالمين هي الجريمة التي باء بها قوم لوط قدّمها لوطٌ عليهِ الصلاةُ والسلام وعلى هذا فإنّ كُل إنسانٍ يبدأُ أولاً بمسالة العقيدة ثم ينتقل بعد ذالك للُمنكر الظاهر البيّن فشاداً في قومهِ فيبدأ بالأعظم والأجلّ ..(26/4)
هذهِ الطريقةُ المُثلى التي كان أنبياءُ الله جلاّ وعلا يدعون على منوالها ومنهاجها .
نعم بارك الله فيكم فضيلة الشيخ صالح وكيف يزرع المُؤمن المُسلم هذهِ العقيدة في قلبهِ وهو يعني مُعرّ لبعض الفتن ؟؟؟
المُؤمن يُدرك انهُ لن يقوم بأي عملٍ على الوجه الأكمل حتى يحسُن إيمانهُ ويعظُم بذالك الأمر فالإنسانُ إن لم يكُن على قناعةٍ تامة وعلى علمٍ جليل بما يدعُو إليهِ جاءت دعوتهُ هشة من أراد أن يدعُ الناس على هذهِ العقيدة العظيمة لابُد أن يكون هو أولاً على يقينٍ من توحيدِ ربهِ تبارك وتعالى ،،
ثم يأتي بعد ذالك استثمار ما حولهُ يبدأُ أولاً بكلام الله جل وعلا فقد بيّن الله جل وعلا فيهِ الأهمية الكُبرى لمسألة التوحيد ثم يأتي لكلام سيد الخلق صلى الله عليهِ وسلم وما فيهِ من عظاتٍ بالغة " ما حقُ اللهِ على العباد ؟ أن يعبُدُوهُ ولا يُشركوا بهِ شيئاً " كما في حديث مُعاذ ثم يأتي في كلام أهل العلم من السلف والخلف رحمةُ الله تعالى عليهم ،،
ثم بعد ذالك ينظُر في هذا الكتاب المنثور بين أيدينا الذي خلقهُ الله جل وعلا كما انهُ هناك كتاباً مسطوراً وهو القرآن فإنّ هناك كتاب منثور وهو الكون وما فيهِ من آيات ودلائل تدلُ على قُدرة الجبّار جلّ جلالهُ وعلى أنهُ تبارك وتعالى أحقُ من عُبد وأجّلُ من شُكر وأنهُ لا ينبغي أن تُصرف العبادةُ إلى غيرهِ :
تأمل في نبات الأرض وأنظُر
إلى آثار ما صنع المليكُ
عيونٌ من لُجينٍ شاخصات
على ورقٍ هو الذهبُ السبيكُ
على كُثب الزبرجد شاهدات
بأنّ الله ليس لهُ شريكُ
جزاكم الله خير فضيلة الشيخ لكن ذكرتُم قبل قليل الدعوة الهشة كيف هي الدعوة الهشة لماذا هشة وهو مُسلم ومُؤمن بالله سُبحانهُ وتعالى وهو يتعمّق في بحُور هذا القرآن العظيم ؟؟؟(26/5)
لا لابُد أن يُصاحب هذا التبحُر يقيناً بما يقول فليس كُل من حفظ متناً أو قرأ علماً أو تلا آيةً بلغت يقينهُ فيها مبلغا فلابُد أن تُرث القراءة يقين عند المرء لابُد أ، يكون الإنسانُ يجد ثمرة ما يقرأهُ في قلبهِ أولاً كم منّ صاحب علم قرأ متوناً ونظر في أقوال العُلماء ورُبما حفظ أحاديث ورُبما أكمل حفظ القرآن لكنّهُ ليس مُقتنعاً بما يدعُ إليهِ ولا بما يقولهُ فينجُم عن ذالك بلا شك ضعفاً في يقينهِ هو . وأنّا لمثلهِ أن يدعُ الناس بعد ذالك على بصيرةٍ وعلى بينهِ أو أن يجد الناس لقولهِ قبولا.
ففاقدُ الشيء لا يُعطيهِ ،،،
وكُلُ إناءٍ بما فيهِ ينضح .
أحسن اللهُ إليكم فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي نحنُ معكم أيُها الأخوة والأخوات ونحنُ نعيش هذهِ الدقائق في رحاب القرآن الكريم سائلين الله سُبحانهُ وتعالى أن يجعلنا ممّن قال فيهم صلى الله عليهِ وسلم " ما أجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونهُ بينهم إلا نزلت عليهم السكينه وغشّتهُم الرحمة وحفّتهُم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ،،
فضيلة الشيخ يتواصل الحديث عن هذا القرآن العظيم ولعلّنا ننتقل إلى سورةٍ من سور هذا القرآن الكريم وهي سورة يوسف وتعلمون أنها السورة حوت قصة نبينا يوسف عليهِ السلام بأكملها ولم تأتي مُجزئة في سورٍ عديدة وقد حوت أيضاً على عظات عدة لعلّي أترُك لك الحديث عن هذهِ السورة العظيمة بما فيها من التنبيهات والفوائد العظيمة حظكُم الله .؟؟؟
تُدرك يا شيخ خالد كما يُدرك الأخوةُ المُستمعُون والأخوات المُستمعات أن الحديث عن سورة يوسف يطول لكنّنا سنقتصر على بعض الفوائد من هذهِ السورة الكريمة .(26/6)
يوسُف نبيُ الله ابنُ نبي اللهِ ابنُ نبي اللهِ ابنُ خليل اللهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وعلى آبائه هذهِ السورة كما ذكرتُم جاءت كاملةً في سورةٍ واحدة ولم تأتي مُجزئة نظير سورة إبراهيم نظير قصة إبراهيم ، أو نظير قصة موسى فهذهِ جاءت مُتفرقة في عدة سور بخلاف سورة يوسف عليهِ الصلاة والسلام .
لكنّنا نبدأ بالقضية الأولى بالفائدة الأولى التي حوتها تلك السور طبعاً نحنُ لا نُرتب حسب الأهمية لكن حسب وضع البرنامج عموماً فقد تكلّمنا عقدياً في قضية شُعيب فلا حاجة لأن نُعيدها في مسألة يوسف نعم أو نُكّررها ..
فنقول من أعظم ما حوتهُ القضية :
أن الإنسان لا يتعجّل في الوصول إلى الثمرة..
فإنّهُ قد قيل ما بين رُؤيا يوسف وما بين تحقيقها أكثر من أربعين عام الله يقول (( ورفع أبويهِ على العرش وخرّوا لهُ سُجدا وقال يا أبتِ هذا تأويلُ رُؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا )) وقد رآها علية الصلاة والسلام وهو صغير يافع وبين هذهِ الرؤيا وبين تحقيقها أحدث بل حلقات من أحداثٍ داميات وكم حصل فيها من مواطنُ حزن ومواطنُ فرح عاش هذا النبيُ الكريم ثم انتهى بهِ المآل إلى ما انتهى إليهِ ،،،،،
من هنُا نأتي لطلبة العلم على وجه الخصوص بما أنّا نتكلم عن القرآن والقرآنُ وعاء العلم الأعظم نقول ينبغي على العاقل أن يتأنّى في الوصول وأن لا تكون الدُنيا همّهُ وأن يعلم أن الذي يمشي على خطوات ثابتة ويتدبّر العلم تدريجياً ويأخُذه مُؤصلاً ويجنح بنفسهِ خطوةً خُطوة لا يستعجلُ ظهوراً ولا يبحثُ عن أضواء سيصلُ بحمد الله جل وعلا ورعايتهِ إلى مقصدهِ ومرادهِ .
ولنضرب مثلاً
نعم(26/7)
تعلم أيُها الأخُ المُبارك عن أبي حنيفةً النُعمان أول الأئمة الأربعة ظهوراً رحمهُ الله كان لأهُ تلميذ يُقال لهُ أبو يُوسف وأبو يُوسف كان يومها غُلاماً صغيراً يتيماً تجنح أُمهُ إلى أن تجعلهُ يعملُ عند حائك حرصاً منها على أن ينال دانقاً يقتاتُ بهِ و الدانقُ أيُها المُستمعُ الكريم آنذاك أقل ما يُمكن أن يُترك كالهلل والقروش وما يُسمّى بالفلس في دول الخليج يعني شي زهيد تماماً لكنّ المرأة كانت تنظُر إلى أن هذا هو البُغية هو الغاية بينما كان أبو حنيفة رحمةُ الله تعالى عليهِ ينظُر إلى يعقوب الذي هو أبو يوسف ينظُرُ إليهِ على أنهُ سيكونُ ذات يومٍ رجُلٌ ذا بال في العلم فكانت هذهِ المرأة تأتي إلى أبي حنيفة في حلقتهِ وتذُمّهُ وتقولُ ما أضاع ابني إلا أنت وما جعل الغُلام يفرُّ عن موطنهِ إلا أنت فيقول خلي منك يا رعناء ــ هذا أبو حنيفة يقول لها ــ [ والله إنّ ابنك ليأكُل الفالوذج بدهُن الفُسق ] هذا الفالوذج نوعٌ من الحلوى لم يكُن يوجد آنذاك إلا في بيوت الأثرياء أما الفالوذج الممزوج بدُهن الفُستُق فهذا لا يُوجد إلا في بيوت الخُلفاء ولا يُوجد إلا على أحيان يعني ليس دائماً ، فلمّا قال أبو حنيفة لأُمي أبي يوسف هذا الكلام قالت إنك شيخٌ كبرت وخرّفت فمضت عنه وأصرّ أبو حنيفة أن يدرُس أبا يوسف عندهُ ثم مضت سنون مات أبو حنيفة ماتت الأم تقلّد أبو يوسف القضاء في العراق حتى أصبح قاضي القُضاة في الدولة فكان يأكلُ على مائدة الرشيد أمير المُؤمنين ماذا يقول أبو يوسف ؟؟(26/8)
يقول أكلتُ يوماً على مائدة الرشيد فقُدّم لهُ طعام فقال لي يا أبا يوسف كُل فهذا قلّما يوجد في قصرنا قُلتُ أصلحك الله ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا فالوذج بدُهن الفُستق فتذكر أبو يوسف الحادثة وضحك فتعجّب الرشيد قال ما الذي يُضحكُك يا أبا يوسف ؟ قال خيراً يا أمير المؤمنين قال أخبرني فأخبرهُ بالقصة فقال عندها هارون الرشيد قال يا أبا يوسف [ إنّ أبا حنيفة كان يرى بعيني عقلهِ ما لا يراهُ غيرهُ بعيني رأسهِ ] أي بعيني بصرهِ.
.يستشرفُ المُستقبل عندما قرأهُ جيداً .
إذاً يوسف علية الصلاةُ والسلام مرّ بحلقات داميةِ ثم آل بهِ الأمر أراد لهُ إخوتهُ أن يضيع في غيابات الجُب فيُخرجهُ اللهُ من غيابات الجُب إلى دهاليز القصُور تتأمرُ عليهِ امرأةُ العزيز فتُودعهُ السجن فيُخرجهُ الله جل وعلا من غياهب السجن إلى أن يُصبح عزيزاً على مصر .
هذهِ الفائدة الأُولى والعُظمى
الفائدة الثانية :
أن الإمامة في الدين لا تُنال إلا بالتقوى والصبر قال الله جل وعلا (( وجعلنا منهُم أئمةً يدعون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآيتنا يوقنون ))
وقال عن يوسف عليه الصلاةُ والسلام لمّا أظهرهُ الله وعفا عن إخواتهِ قال بعد أن قال لهُ أخوتهُ (( أءنّك لأنت يوسُف قال أنا يوسف قال أنا يوسُف وهذا أخي قد منّ اللهُ علينا )) فنسب الفضل إلى بارية وخالقهِ جل جلالهُ ثم قال (( إنّهُ من يتقِ ويصبرِ فإنّ الله لا يُضيعُ أجر المُحسنين ))
فأسند الأمر كلهُ إلى الأسباب التي وضعها الله لرفعةِ والعلو وعلو الشأن ألا وأنّ من أعظمها أمرين :
تقوى الله جل وعلا *** والصبر
فبالتقوى والصبر تُنالُ الإمامة في الدين .
دلت الأحداث أن ّالإنسان إذا ضاق الأمر وبلغ مُنتهاه فآخرُ لحظةٍ في مُنتهى العُسر هي أولُ لحظةٍ في أول اليُسر .
سُبحان الله
فآخرُ لحظةٍ في مُنتهى العُسر هي أولُ لحظةٍ في أول اليُسر .
وراء مضيق الخوف مُتسعُ الأمرِ
وأولُ مفرُحٍ بهِ غايةُ الفجر(26/9)
الم ترى أن الله ملّك يوسفاً
خزائنهُ بعد الخلاص من السجنِ
وصل يوسف إلى مُنتهى أحداث الله أُلقي مع المُجرمين ،، يأكلُ ويطعم ويعبدُ رهبِ في غياهب سجنهِ
وكان داعية
وكان داعية حتى في السجن لكن كما قُلت أيُها المُبارك نحنُ ضربنا عنها الذكر صفحاًَ لأننا تكلّمنا عن قضية شُعيب ،، ثم بعد ذالك انتقل إلى أن أصبح على الكُرسي الذين يتعاملون مع الله بحق رابحون لا محالة .
يجب أن نُحسن الظن بربنا تبارك وتعالى حُسن الظنُ بالله يُرثُ حُسن العاقبة في الدُنيا والآخرة نسأل الله للجميع التوفيق
هذا ما يُمكن أن يُقال أيُها المُبارك حول فوائد سورة يوسف وقد اختصرتُها حتى لا تكون الحلقة كُلّها عن سورة هذا النبي الكريم ..
لكن نتعشم أن يكون الحديث عنها أطول وأطول رغبةً مني ومن أيضاً المُستمعين الكرام حفظكُم الله إذا اخذتُم فائدة أُخرى حفظكُم الله .؟؟؟
نأخُذ فائدة أُخرى ،، من الفوائد التي دلّت عليها هذهِ السورة:
أن الإنسان لا يُضيرهُ أن ينظُر الناس إليهِ نظرة نقص إن كان عظيماً في ذاتهِ فيوسف عليهِ الصلاة والسلام بيعِ بثمنٍ بخس
جميل
والله يقول (( شروه )) أي باعُوه (( بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة )) وقال (( وكانوا فيهِ من الزاهدين ))
نعم
فزهدُوا فيهِ وهو نبيُ الله وأُدخل السجن وهو نبيُ الله فالمؤمنُ الحق عظمتهُ في ذاتهِ ليست في غيرها وقد قُلنا مراراً في دروسٍ سلفت وأيامٍ خلت لنا نأتي بمثال من السُنة يشهد لهذا :(26/10)
النبيُ صلى الله عليه وسلم كما تعلمُ أيُها المُبارك في هجرتهِ مرّ ومعهُ أبو بكرٍ وعامرُ ابنُ فُهيرة وعامرُ ابنُ أُريقط مرّوا على أم معبد امرأةُ جلدةٌ برزةٌ من خُزاعة تُطعم الناس جهة الآن يعني عندنا في بلادنا المُباركة وادي قديد بين طرق الهجرة بين مكة والمدينة لمّا مرّوا عليها وصل بهم الأمر لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألها عن الشاه فأخبرتهُ أنها شاةٌ عازب يعني لم تذهب مع الغنم لعجزها قال هل تأذنين لي أن أحلبها قالت نعم فلّما ناخ صلى الله عليه وسلم الشاة ومسح على ضرعها وسمّ الله درّت
ما شاء الله
لمّا درّت لأنهُ عظيم صلى الله عليه وسلم لم يقُل لأبي بكر أحلب لنا حتى يُبين لأم معبد أنهُ النبي أو يقول لعامر الخادم أحلب لنا أو يقول لدليل أحلب لنا لو كان غيرهُ لفعل هذا حتى يُميز نفسهُ عن أصحابهِ لكنّه صلى الله عليه وسلم عظيم خلب لهم أو لم يحلب ، شرب أول القوم أو شرب أخرهم حيث ما هو فهو صلى الله عليه وسلم عظمتهُ أعطاهُ اللهُ إياه في ذاتهِ عليهِ الصلاة والسلام فيما أكرمهُ اللهُ بهِ من النبوة والرسالة.
فمثلُ هذا لا يحتاج أن يدعُ أضواءً أن تُسلّط عليهِ أو صحفيين يكتبون عنه أو ما إلى ذالك هو صلى الله عليه وسلم كأخيهِ يوسف عظمتهُم في أنفُسهم فيوسف نبيُ الله ابنُ نبيُ الله ابنُ خليل الله وهو في السجن وهو عند أبيهِ وهو يُباع بثمنٍ بخس وهو على كُرسي العرش وفي كُل الأحوال كريمٌ على الله تبارك وتعالى عظيمُ الشأن عند ربهِ هذا ما يُمكن أن يُقال.
فأنا أُوصي نفسي وغيري بأن يكون اعتزازُ المرء بربهِ وأن يكون غناه في نفسهِ وأن يكون على ثقةٍ بأن الله جل وعلا وحدهُ من يُبت من يشاءُ بفضلهِ ويُقّرُ من يشاء بعدلهِ كما أنهُ تبارك وتعالى لا يسألهُ مخلوقٌ عن علّة فعلهِ ولا يعترضُ عليهِ ذو عقلٍ بعقلهِ . نعم(26/11)
نعم بارك الله فيكم أيضاً بس فائدة أخيرة قبل أن ننتقل إلى محاور أُخرى حفظكُم الله عدم اليأس والقنوط كما حث الله؟؟؟
نعم عدم اليأس والقنوط وهذا قد يكون قُلناهُ في مُدرج ما قُلناهُ من قضية الصبر إلى الوصول لأنهُ لن يكون صبرٌ حتى يكون هناك عدمٌ يأسٍ وقنوط
و لكن تخصيص ذالك
كما قُلت أنت قضية يعقوب تقصد
نعم
أيهِ تنبهت الآن قضية يعقوب الذي يرفع البلوى هو الله .
سُبحانهُ
ويعقوب أُبتلي بيوسف أولاً ثم أُبتلي بفقد بنيامين ثم أُبتلي بفقد الابن الأكبر الذي رفض أن يرجع قٌال (( لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي )) ولهذا قال (( عسى اللهُ أن يأتيني بهم جميعاً )) جميعاً هذي أكثر من واثنين قصد يوسف وبنيامين و رُوئيل على قول من يقول أن أسمهُ رُوئيل هؤلاء الثلاثة كانوا ابنائهُ عليهِ السلام كلُهم فقدهم واحداً بعد الآخر فقد الأبناء لكنّة لم يفقد ثقتهُ وحُسن ظنّهِ بربهِ قد جاء في الأثر " أن يعقوب كلّما ازددتهُ بلاءً ــ حديث قُدسي ــ كلّما ازددتهُ بلاءً ازداد حُسن ظنٍ بي "
وقد قُلنا أن حُسن الظن بالله يُورث حمداً عظيماً أسأل الله أن يجعلني من يُحسن الظن بهِ ويجعل منقلبهُ ومآلهُ إلى خير .
بارك الله فيكُم فضيلة الشيخ حفظكُم الله نتواصل مع المُستمعين الكرام هذا عدد من الفاكسات والتي سنُخصص لها في ختام هذهِ الحلقة للرد عليها لأنها تحوي بعض الآيات ويطلبون تفسيرها أو الشرح عنها إذا أذنتُم لنا لكن أتواصل معك فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي عضو هيئة التدريس في كُلية المُعلمين في طيبة الطيبة وإمام وخطيب مسجد قباء في أيضاً المدينة المنورة يقول الله سُبحانهُ وتعالى (( يا بني ءادم لا يفتنّنكُم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزعُ عنهُما لباسهُم ليُريهُما من سوءاتهِما إنّهُ يراكُم هو وقبيلهُ من حيث لا ترونهُم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يُؤمنون ))(26/12)
هذهِ الآية حافلة بالمعاني والعظات نُريد إلقاء الضوء عليها وتجليتها علمياً أيضاً ووعظياً ونحنُ في هذا الموضوع آياتٌ وعظات ؟؟؟
فلنبدأ بالنداء في الآية قال الله جل وعلا ((يا بني ءادم)) النداء في القرآن يختلف من حالٍ إلى حال
أحياناً يكون نداء عام كقولهِ سُبحانهُ (( يا أيُها الناس أعبدوا ربكُم)) ،
وقد يكون نداءً لتقرير الواقع (( يا أهل الكتاب )) فهم أهلُ كتابٍ فعلاً ،
قد يكون النداء لتنبيهِ والتذكير (( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي )) لتنبيهِ على أنهُم أبناءُ نبي ويُنسبُون إلى نبي وهو يعقوب فيُنبههُم ويُذكّرهُم بأن يذكروا النعمة على أبيهِم الذي ينتسبُون إليهِ ،،
قد يكون نداء كرامة وهذا في حق أهل الإيمان (( يا أيُها الذين ءامنوا اتقوا الله )) فهذا نداء كرامة و (( يا أيُها الذين ءامنوا كُتب عليكُم الصيام )) هذا نداء كرامة .
يكون نداء يجتمعُ الناس فيهِ جميعاً نسبتهُم إلى أبيهم وهذا يندرج في نداء الواقع وهو الذي بين أيدينا ((يا بني ءادم)) فنسبنا الله جل وعلا إلى أبينا ءادم و ءادم أبو البشر خلقهُ الله جل وعلا بيدهِ وأعطاهُ خصائص منها :
أنهُ خلقهُ بيدهِ ،، نفخ فيهِ من روحهِ ،، أسجد لهُ ملائكته ،، علّمهُ أسماء كُل شيء هذهِ لم تُعطى لأحدٍ غيرهِ عليهِ الصلاةُ والسلام وقد صحّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ءادم كان نبياً بل قال عليهِ الصلاةُ والسلام لمّا سُئل أكان ءادم نبيا ؟؟ قال " كان نبياً مُكلّما " أي أن الله جل وعلا كلّمهُ وإن كان التكليم في اصطلاحهِ الشرعي إذا أُطلق ينصرف إلى نبي اللهِ موسى صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
(( يا بني ءادم لا يفتنّنكُم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة )) المقصود بالأبوين هُنا ءادم وحواء وهذا يُسمّى عند اللغويين مسألة التغليب والتغليب أيُها المُبارك يكون لهُ أسباب فعندما نقول الأبوان نقصد الأب والأُم في القرآن هُنا المقصود ءادم وحواء .
نعم(26/13)
فقُدّم الأب على الأُم لذكوريهِ لأن الذكر أفضل من الأُنثى كما نقول الحسنان ونقصد الحسن والحُسين في التغليب والتغليبُ هُنا معيارهُ أن الحسن أكبرُ من الحُسين ،، ونقول المكتان ونقصدُ مكة والمدينة وإنما قُلنا المكتين لأن مكة أفضل من المدينة ،، ونقول العُمران ونقصدُ بهما شيخا الإسلام أبا بكر وعُمر رضي الله تعالى عنهُما وإنّما غلّبنا عُمر لأن أبا بكر مُركب تركيب إضافي لا يتأتى تثنيتُهُ وعُمر اسمٌ مُفرد يُمكنُ تثنيتُهُ عُمر مُفرد مفرد يعني لا نقصد أنهُ غير مُثنى ولا جمع لا ، نقصدُ بمفرد هنا أنّهُ غير مُركب وأبو بكر اسم مُركب تركيب إضافي أبو وكلمة بكر وهو الفتى من الإبل على هذا قيل العُمران .
الذي يعنينا هُنا قال الله ((لا يفتنّنكُم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ))
اختلف الناس وأنت قد أذنت لي بأن أتكلم بما فيها من مسائل علميهِ .
نعم أبداً تفضل على أساس نستفيد حفظكم الله والمُستمع أيضاً.
اختلف الناس في الجنة التي أُخرج منها ءادم ؟؟؟
والصوابُ والحق الذي عليهِ جمهور أهلُ السُنة أنها جنةُ عدن التي وعدنا اللهُ إياها والدليلُ على ذالك الدليل الظاهر على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر " أن الناس يوم القيامة يأتون الجنة فيجدونها مُغلقة فيأتون أباهُم ءادم فيقولون يا أبانا أستفتح لنا الجنة "
وجهُ الشاهد: أن النبي صلى الله عليهِ وسلم أخبر أنّ ءادم يقول وقتها " وهل أخرجكُم من الجنة إلا خطيئة أبيكم " فهذا دليل على أن الجنة التي وُعدنا بدخولها برحمة الله هي جنةُ عدنٍ الني أُخرج منها أبونا ءادم .
نعم
قال آخرون .. إنّ الجنة التي أُخرج منها ءادم هي جنةٌ إمّا في الأرض أو في السماء الدُنيا وليست الجنة المعهودة المعروفة التي انصرف الحديث إليها ولهم حُجج منها :(26/14)
دخول إبليس إليها فقالُ لو كانت جنة عدنٍ لما تمكن إبليس من دخولها وهذا يُمكن أن يُجاب عنهُ بأن إبليس دخلها دخول مذلة فقد ورد وإن كانت هذهِ أثار منقولة عن بني إسرائيل لكنّ هذا ممّا قال عليهِ الصلاة والسلام فيهِ " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " بل أقول على علم أنّ هذا لهُ شواهد قوية صحيح أنّا لا نعلم نصاّ في كتابٍ ولا سُنّة صريح واضح يدلُ عليهِ لكن قولهُ جل وعلا (( اهبطوا منها )) وقولهُ جل وعلا (( وقاسمهُما أني لكُما من الناصحين )) كُلها قرائن على أن إبليس في غالب الأمر دخل الجنة .
يعني أُدخل الجنة مذلةٍ على هيئة في خياشيم الحية كما قيل والعلمُ عند الله .
الذي يعنينا هذا الجواب عن قولهم أن الجنة لن تكون جنة عدن كما قالوا أن ءادم أُخرج منها والجنة الأصل فيها الخلود لكن هذا يُجاب عنهُ :
بأن الخلود فيها إنما يكونُ بعد البعث والنشور .
على العموم نحنُ نقول أنها جنةُ عدن التي وعدنا الله جل وعلا إياها .
الله يقول ((كما أخرج أبويكم من الجنة ينزعُ عنهُما لباسهُم ليُريهُما من سوءاتهِما ))
السوءة تُسمّى سوءة وهي العورة لأن الإنسان يسوءهُ أن تظهر عورتهُ لناس فظهورها لناس أمرٌ يسوء .
لكن ثمّة أمر هنا وهو العظة من هذهِ الآية :
أن الشيطان لمّا أراد أن يضُر بالأبوين دخل عليهما من باب نزع الحياء منهما فلمّا أراد منهُما أن ينظُر كُلٌ منهُما إلى عورة الآخر وأن يتحلّلا ويخرُجا من نطاق اللباس والارتداء والستر إبليس فهم من هذا أنهُ إذا وقع منهُما هذا يسهُل عليهِما المعاصي .(26/15)
ومن هُنا نفهم أن أعداء الأُمة اليوم ومن يُنافس الأُمة أو من يُنازعُ الأُمة في أخلاقها بالذات يعمد إلى قضية الحياء فيحُول أن يأتي لناس من باب أنهُم إذا استمرأُ النظر إلى وجوه المومسات استمرأُ النظر إلى قضية المرأة تظهر شبهة عارية في الشاشات هذا يكسر حاجز المعصية صحيح فيهون الأمرُ على الناس فلهُم عُمدة في هذا وهو إبليس ولنا عُمدة أن الله أخبرنا عن هذا (( كما أخرج أبويكم من الجنة ينزعُ عنهُما لباسهُم ليُريهُما من سوءاتهِما )) فأولُ خيطٍ بدأ إبليس أن يحُل عُقدتهُ مع الأبوين قضية الحياء .
فإّذا ازدلفنا أيُها المُبارك إلى قضية الحياء فالحياء عند بعض أهل العلم مُقسّم :
منهُم من يقولون حياء الجناية :. وحياءُ الجناية أن تقع من العبد معصية ثم يقع منهُ ندمٌ عليها فيُرثهُ ذالك حياءً من ربهِ ويضربون لهُ مثلا فيقولون ..
أن ءادم عليهِ السلام لم ينظُر إلى السماء حياءً من ربهِ بعد أن أُهبط من الأرض .
وهُناك حياء الإجلال كما وقع لبعض الصحابة لأنهُم كانوا يستحيون النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهُ قول الشاعر:
أهابُك إجلالاً وما بك بُلغةٌ
علي ولكن ملءٌ عينٍ حبيبُها
هذا النوع الثاني وهو حياء الإجلال .
ومنهُ حياء أن الإنسان أحياناً يستقلُ الأمر مع غيرهِ فيستحي أن يسأل الإنسان شيئاً يسيراً كمن يدخُل على ملكٍ أو أميرٍ أو ذي سُلطان ويستحي أن يسألهُ أمراً هيّن لكنّ هذا الحياء وإن كان محموداً بين الناس أمّا مع ربنا جل وعلا فإنهُ ينبغي على العبد أ، يسأل الله جل وعلا ما قلّ وكثُر لأنّنا جميعاً فُقراء إلى ربنا تبارك وتعالى وقد جاء في الأثر أن الله قال لموسى " يا موسى سلني علف دابتك وملح عجينتك وشسع نعلك " وهذا يدلُ على عظيم فقر العباد أجمعين إلى ربهم تبارك وتعالى .
(((26/16)
لا يفتنّنكُم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزعُ عنهُما لباسهُم ليُريهُما من سوءاتهِما )) ثم قال الله (( إنّهُ يراكُم هو وقبيلهُ من حيث لا ترونهُم))
المخلوقات التي تعقل ثلاثة :
الإنس والجن والملائكة يجتمع بعضُها مع بعض في أشياء وتختلف في أشياء .
بالنسبة لنا معشر الإنس نحنُ لا نرى الملائكة ولا الجن والجنُ يتفقون معنا في أنّهُم يتناكحون ويتناسلون والملائكة تختلف في أنهّم لا يتناكحون ولا يتناسلون ،،
الجن ّيتفقون معنا أنّنا جميعاً مُكلفين في حين أن الملائكةُ غيرُ غيرُ مُكلفين . وهذا منهُ ينجُم أن الجنّ يروننا ولا نراهم كما أنّنا أيضاً لا نرى الملائكة (( إنّهُ يراكُم هو وقبيلهُ من حيث لا ترونهُم إنّا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يُؤمنون ))
الإنسان إمّا أن يكون وليهِ أولياء من الملائكة إذا كان مُسارعاً في الخيرات ، وإمّا أن يكون لهُ أزٌ من الشياطين أعاذنا الله إذا كان بعيداً مُعرضاً عن ذكر ربهِ تبارك وتعالى . نعم*
بارك فيكم فضيلة الشيخ لا زلنا معكم أحبتنا في الله في إذاعة القرآن الكريم من المملكة العربية السعودية ونتواصل معكُم من خلال هذا البرنامج وموضوع هذهِ الحلقة آياتٌ وعظات مع فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي بارك الله فيكم لعلّك أستأذنُك في بعض
تفضل
أستأذنُك في استعراض بعض الفاكسات التي وصلتنا أو حقيقة هذي أُختكُم المُحبة صفية تقول يا شيخ صالح حفظك الله ما هو الأفضل حفظ القرآن أم قراءتهُ تلاوةً بتدبُر ؟؟؟
لا تعارُض أيُها الأُخت المُباركة بين الاثنين يُمكن الجمع تضعين أوقات تُراجعين فيها حفظكِ وتضعين أوقات تقرأين فيها بتدبُر ولا يوجدُ مانعٌ بين الأمرين إذا وُفقتي في ترتيب الوقت ولا بُد من الاثنين تقرأين بتدبُر وأن يكون القرآن في صدرك وهذهِ منقبةٌ عظيمة أسأل ألله أن يرزُقكِ إياها .(26/17)
نعم بارك الله فيكم هذي إحدى الأخوات وهي سامية محمد الشهري تطلُب قراءة الفاكس كاملاً لعلي أقتطف منهُ تقول أتمنى قراءة الفاكس تأثير القرآن في نفوس المؤمنين بمعانية لا بأنغامهِ ولا بمن يتلون بهِ أو يتأوهُ بهِ .. إلى أن تقول يا شيخ صالح حفظك الله ورعاك أشكل علي آية في كتاب الله الكريم وهي (( وإنّ منكُم إلا واردُها )) فما التفسير الشافي الكافي لهذهِ الآية ؟؟؟
الحديثُ هنا أيُها الأُخت المُباركة عن الصراط قال الله تعالى في سورة مريم (( وإنّ منكُم إلا واردُها )) يردُ الناسُ النار أي يسيرون على الصراط ودُعاء المُسلمين المؤمنين يومئذٍ وهو دُعاء النبيين " اللهم سلّم سلّم " فيمُر الناس على الصراط بحسب أعمالهم في الدُنيا منهم من يمُر كأجاود الخيل ومنهُم من يمُر كالريح ومنهُم من يمُر كالبرق ومنهُم من يمشي مشيا ومنهُم من يحبوا حبوا هذا هو التفسير الصحيح في قول الله جل وعلا (( وإنّ منكُم إلا واردُها كان على ربك حتماً مقضيا)) لأن الله قال بعد ذالك (( ثم نُنجّي الذين اتقوا ونذرُ الظالمين فيها جثيا)) نعم.
بارك الله فيكم أتواصل معكُم أيضاً ومع الفاكسات أيضاً حفظكُم الله ثم نعود إلى بعض أو بقية محاور هذا البرنامج أخواتكُم في اللهِ فتيات الدعوة أسماء وعزيزة من الزلفي كتبن هذهِ الرسالة :
كان القرآن ولا يزال المُعجزة الباقية الخالدة كما أراد الله سُبحانهُ وتعالى لهُ أن يكون وها هو في كُل عام تظهرُ كنوزهُ ويبدوا على العالم منهُ إعجازهُ فهو المُتجدد الذي لا تُبليهِ الأيام والمُعجز الذي لا يظهرُ عليهِ أحدٌ من الأنام قضى اللهُ بحفظهِ وقيّض لهُ من يجمعهُ في صدرهِ وتعهدهُ الله سُبحانهُ وتعالى وتعهد الناس بتلاوتهِ والتعبُد بهِ فضيلة الشيخ ما رأي فضيلتكُم بمن يُفسّر القرآن وفق هواه . والسلام عليكم ؟؟؟
كتابُ اللهِ جل وعلا مُعجز
جاء النبيُون بالآيات فانصرمت
وجئتنا بحكيمٍ غير مُنصرم(26/18)
آياتهُ كُلّما طال المدى جُددٌ
يزينهُنّ جلال العتق والقدمِ
الذكرُ آيةُ ربك الكُبرى التي *** فيها لباقٍ المُعجزاتِ فناءُ
ولا يجوزُ لأحدٍ أبداً أن يُفسّر القرآن بهواه من أُعطي حظاً من علم وقُدرةً من آلةٍ علمية وعرف ناسخهُ ومنسوخة وأسباب نزولهِ وأطلّع على لُغة العرب وقرأ أساليب كلامها في شعرها ونثرها وعلم أصول الفقهِ وأدرك كثيراً من الواقع وجمع حظاً من هذهِ العلوم كُلها أصبح مُؤهلاً بعد ذالك إذا رُزق التوفيق أن ينظُر في كلام الله قال علي رضي الله عنهُ لمّا سُئل هل أختصّ النبيُ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ قال " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يُؤتيهِ اللهُ من يشاء في كتابهِ" .
وهذا الفهم هذا مبنيٌ على آلةٍ عُلمية تُؤهل العبد أو الأمة من النظر في كلام اللهِ جل وعلا . نعم**
نعم بارك الله فيكم أمينة الصافي تقول ذكر الله تعالى إسحاق بخصائص وميزات تفوقُ أخاهُ إسماعيل فنرجو توضيح ذالك وذكرت قول الله سُبحانهُ وتعالى : (( واذكُر عبادنا إبراهيم وإسحاق )) وكذالك أيضاً ذكرت قول الله (( واذكُر إسماعيل و اليسع وذا الكفل )) ... إلى آخر الآية ؟؟؟
كُلهُم أنبياءُ الله
الحمدُ لله
وإسماعيلُ وإسحاق ابنان لخليل الله جل وعلا إبراهيم والله جل وعلا ذكر إسماعيل ووصفهُ بأنهُ صادق الوعد وبأنهُ كان عند ربهِ مرضيا ، ووصفهُ بأنهُ كان يأمُر أهلهُ بالصلاةِ والزكاة. وصف إسحاق بأنهُ كان ممّن مُنّ عليهِ بخالصة وهي ذكرى الدار وكُلٌ منهُم ذو فضلٍ في نفسهِ وعلى غيرهِ وهُما نبيان كريمان من أنبياء الله الكرام صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
أمّا إسماعيل فهو جدُ العرب المُستعربة ، وأمّا إسحاق فهو والدٌ ليعقوب وهو جدٌ لبني إسرائيل .
ولا يعني يحسُن النظر بهذا المقياس في ظني إلى أنبياء الله وإن قال الله (( تلك الرُسل فضّلنا بعضهُم على بعض )) لكن يكون النظر بذكر مناقب كُلٌ أحدٍ لوحدهِ لا بالموازنة بينها . نعم **(26/19)
نعم بارك الله فيكم ولكنّني أنا أيضاً أسأل مثلي مثل هؤلاء الأخوة والأخوات يقول الله سُبحانهُ وتعالى (( النبيُ أولى بالمؤمنين من أنفُسهم وأزواجهُ أُمهاتُهم )) أولاً لو تحدثتُم عن مُناسبة الآية لما قبلها ولماذا أطلق ولم يُحدد فيما تختصُ بهِ الآية ؟؟؟
هذهِ الآية من سورة الأحزاب (( النبيُ أولى بالمؤمنين من أنفُسهم وأزواجهُ أُمهاتُهم )) كان الله جل وعلا قد قال قبلها (( ادعُوهم لآبائهِم هو أقسطُ عند الله ))
وفي هذا يُخاطب بهِ أولاً زيدُ ابنُ حارثة رضي الله تعالى عنه الذي كان يُعرف بزيد ابن مُحمد فكأن زيداً قد سُلب شيءً أُعطيهُ من قبل لأن الله جل وعلا نفى قضية الأدعياء التي كانت موجودة قال الله (( ما جعل اللهُ لرجُلٍ من قلبين في جوفهِ )) وبيّن أنهُ لا يجوزُ للأدعياء أن يكونوا أبنائهم على هذا ذالك الشعورُ بنوعٍ من النقص الذي ربُما كان في قلب زيد جاءت آياتٌ عامة للمؤمنين فهذا النبيُ الكريم والرسول الخاتم هو للأُمة كُلها (( النبيُ أولى بالمؤمنين )) والإطلاقُ هنا أن الولاية لهُ صلى الله عليهِ وسلم لا تُحدد بشيء بمعنى أنّهُ لا يوجدُ أحدٌ لديهِ من الحرص بنا والشفقة علينا منه صلى الله عليه وسلم فهو صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ كما نعتهُ ربهُ (( بالمؤمنين رءوفٌ رحيم )) وهو صلى الله علية وسلم الحريصُ على أُمتهِ قال عليهِ الصلاةُ والسلام وقد خرج من المقبرة " وددتُ لو أني رأيتُ إخواني قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك ؟ قال: بل انتُم أصحابي ولكنّ إخواني لم يأتوا بعد وأنا فرطهُم على الحوض قالوا يا رسول الله كيف تعرفُ من يأتي بعدك من أُمتك؟ قال أرأيتُم لو أن لأحدكُم خيلاً غُراً مُحجلةٍ في خيلٍ دُهمٍ بُهم أكان يعرفُ خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فإنّ إخواني يأتون يوم القيامةِ غُرٌ مُحجلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض "
موضعُ الشاهد منه:(26/20)
ها هو صلى الله عليهِ وسلم وهو حيٌ يُرزق ويخرجُ من المقبرة ومع ذالك كما ترحّم على الموتى تذكّر من سيأتي بعده وهذا تحقيق لقول الله جل وعلا (( النبيُ أولى بالمؤمنين ))
وقد جاء في البُخاري حديث في هذا الباب يُخبر النبي صلى الله علية وسلم أنهُ وليُ كُلُ مؤمن وهذا ممّا يدلُ على كمال رسالتهِ صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ ورفيع منزلتهِ عند ربهِ ومّما يُوجبُ علينا معشر المؤمنين أن نُحبهُ ونُعزّرهُ ونوقرهُ صلواتُ الله وسلامهُ عليه وأن نمتثل لأمرهِ وأن نجتنب نهيهِ ونتبع هديهُ ونلتزم سُنته بهذا تتحقق مسؤولية ولايتهُ صلى الله وسلامهُ عليهِ على الوجه الأكمل .
أمّا قول الله جل وعلا إذا أذنت (( وأزواجهُ أُمهاتهُم )) فهذا الحديث الذي ذُكر في الآية يتحدث عن أُمهات المؤمنين ونحنُ نعلم أن البرنامج المُبارك هذا يسمعهُ الرجال.
جميل وهي فُرصة طيبة للحديث عنها نعم
وهي فرصة طيبة لمُقابلة أخواتنا المؤمنات ــ لأن لا يمكن أن نقول لناس افعلوا ، اتركوا ولا نضعُ قدوة أُمهاتُ المؤمنين نساء اختارهُنّ الله أن يكُنّ أزواجاً لسيد الخلق صلى الله عليهِ وسلم وهُنّ أزواجهُ في الدُنيا وأزواجهُ في الآخرة :.
أولهُن :
خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وهذهِ المرأة عظيمةُ الشأن جليلةُ القدر قال صلى الله عليه وسلم من حُبهِ لها تقول عائشة لمّا رأت حُبهُ لها " ما غرتُ على أحد كما غرتُ من خديجة " وقد قالت لهُ مرة ــ أي عائشة ــ " وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان قد أبدلك اللهُ خيراً منها ، قال لا والله ما أبدلني الله خيراً منها لقد ءامنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس " ثم قال " وكان لي منها الولد " وكان صلى الله عليهِ وسلم يُحبها حُباً جمّا ولمّا ماتت دفنها ولم يُصلي عليها لماذا لم يُصلي عليها ؟(26/21)
لأنها ماتت في مكة ولم يكُن يومها إذٍ شُرعت الصلاةُ على الميت ولم يتزوج عليها في حياتها صلى الله علية وسلم فلم يجمع معها غيرها .
ثم من أُمهات المؤمنين الصديقة بنتُ الصديق حبيبةُ حبيب الله عائشة بنتُ أبي بكر رضي اللهُ تعالى عنها و أرضاها وهي البكر الوحيدة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بكرا وهذهِ الصديقة أُبتليت كما هو معلوم بحديث الإفك فبرأها الله جل وعلا من فوق سبع سماوات وهي من أعلم نساء الصحابة بل تفوقُ بعض رجالات الصحابة علماً أخذت عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً جمّاً رضي الله عنها وأرضاها .
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنتُ حُيي ابن أخطل وهي يهودية كانت تحت رجُلٍ من اليهود فلمّا كانت معركةُ خيبر وانتصر صلى الله عليه وسلم وقعت في أسر بعض الصحابة في سبي بعض الصحابة ثم اصطفاها النبيُ صلى الله عليه وسلم وتزوجها وجعل عتقها مهراً لها صداقاً هذهِ الصحابيةُ الجليلة زوجةُ نبينا صلى الله عليهِ وسلم جاء في الأثر أن النبي وجد على وجهها أثر من ضربة فسألها فأخبرتهُ أنها رأت رُؤيا أن هلالاً يسقُطُ في حجرها فلمّا أخبرت زوجها غضب وصفعها على وجهها فأثرت الصفعةُ على خدها حتى ندبت وقال لها تتزوجين هذا النبي الذي في يثرب فكان الأمر كما قال في تأويل رُؤياه أُسرت سُبيت ثم أعتقها النبيُ صلى الله عليهِ وسلم وجعل عتاقها صداقها وتزوجها صلواتُ الله وسلامهِ عليهِ ولمّا عيّرتها بعضُ أُمهات المُؤمنين بأنها يهودية قال ــ يعني أجيبي من عيّرك ــ قولي " والله أني لبنتُ نبي وعمي نبي وتحتُ نبي " لأنها كانت من ذُرية هارون وعمُّها موسى عليهما الصلاةُ والسلام وهي تحتُ نبينا صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
من أُمهات المُؤمنين رضي الله عنها وأرضاها بنتُ عُمر ابنُ الخطاب رضي اللهُ عنها وأرضاها ومنهُن جُيرية ومنهُنّ زينب بنتُ جحش وغير ذالك مّما لا يخفى .(26/22)
الذي يعنينا الذي نُريد أن نُصلهُ لناس أنّهُنّ هؤلاء الفُضليات يختلفن في مواهبهنّ مثلاً زينب كانت كثيرة الصدقة ، وعائشة رضي الله عنها كانت كثيرة العلم ، و خديجة كانت عظيمة النُصرة لنبينا صلى الله عليهِ وسلم ، صفية أُثر عنها كثرت العبادة رضي الله عنها وأرضاها ..
هذا يدُل على أن المرأة تنظُر القدر الذي تُحسنهُ من أمرٍ ما تعبُدي أو ما ينفعُ الناس فتحاول قدر الإمكان أن تجنح إليهِ والإنسانُ العاقل يُحاول أن يأتي الصنعة أو الأمر الذي يُتقنُهُ ويُحسنُهُ ويغلبُ على ظنّهِ أنهُ ينفع الناس فيهِ .
في زماننا هذا تجدُ المرأةُ المُسلمةُ نوعين من محاولةِ انتقاصها :
إمّا من قومٍ لم يفقهُ الدين باسم التشدُد يُضيقون عليها الخناق حتى لا يُريدونها أن تخرُج من بيتها ولا أن تعبُد ربها على وجهِ أكمل ولا أن تُقدم شيئاً لمُجتمعها بحُجة الخوف عليها وهؤلاء حسُنت نيتهُم لكنّهُم ما فقهُ معنى الشرع .
وآخرون عياذاً بالله إنّما أرادُ أن يجعلوا منها طُعمةً لرجال وأن يُخرجُها عن نطاق الشرع فهؤلاءِ بئس العمل عملهُم نيتاً وفعلا .
لكنّنا نقول إنّ الله جل وعلا دلّ كتابهُ العظيم وسُنةُ نبيهِ صلى الله عليهِ وسلم على أن ّالله جعل للأُنثى خصائص لم يجعلها لرجال فإذا كانت مسيرةُ الأُنثى تتفقُ مع خصائصها كانت مسيرةً موفقه قال اللهُ جل وعلا : (( وليس الذكرُ كالأنثى ))
هذا ما يُمكن قولهُ حول قول الله جل وعلا (( و أزواجهُ أُمهاتهُم )) .
بارك الله فيكُم وأسأل الله سُبحانهُ وتعالى أن ينفعنا جميعاً بما سمعنا أتواصل إذا أذنت لي مع المُستمعين الكرام هذا أحدُ الأخوة يقول ما هو تفسير قول الله تعالى (( قال يا نوحُ إنّهُ ليس من أهلك إنهّ عملٌ غيرُ صالح )) ما علاقة ذالك بعدم صلاح بعض الأبناء في وقتنا الحاضر لبعض الصالحين ؟؟؟(26/23)
نعم هذا الكلام عن أحد أبناء نوح ونوح عليهِ الصلاة والسلام شيخُ المُرسلين وأولهُم صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وأطولهُم عُمراً وأهلُ التفسيرُ يقولون كان لهُ أبناء حام وسام و يافث وكنعان وعلى قولهم هذا الحديث في الآيات عن كنعان (( قال يا بُني اركب معنا قال سآوي إلى جبلٍ يعصمُني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر اللهِ إلا من رحم وحال بينهُما الموجُ فكان من المُغرقين وقيل يا أرضُ ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقُضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بُعداً للقوم الظالمين ))
لمّا رست السفينة تذكر نوحٌ ابنهُ أصابتهُ شفقةُ الوالد فأخذ يُناجي ربهُ وهو يعلم أن لهُ عند ربهِ كرامة وهو شيخُ المُرسلين يتلقى الوحي وعبدٌ صالح وعبدٌ شكور بنص القرآن قال الله جل وعلا أنهُ قال (( قال ربِ إنّ ابني من أهلي وإنّ وعدك الحق وأنت أحكمُ الحاكمين )) فالله جل وعلا وعدهُ أن يُنجّي أهله
نعم
فقال الله جل وعلا لهُ ((إنّهُ ليس من أهلك )) لأنهُ خرج بالكُفر.
والذين يُريدون أن يفقهُ القرآن لا يُطبقُ هذا على أبناءهم لأن المعصية غير الكُفر فقول الله جل وعلا ((إنهّ عملٌ غيرُ صالح )) وفي قراءة (( إنّهُ عَملَ غيرُ صالح )) المقصودُ منها الكُفر والكُفر هو الذي تحدُث بهِ المُفارقة والمُفاصلة بين الابن وأبيه فلا يتوارثان أمّا مُجرد المعاصي ولو كانت كبائر التي لا تُخرج من الملة فهذهِ لا تُخرج من الملةِ وبالتالي لا تنطبقُ عليها الآية لكن يحسُنُ أو يجبُ على الآباء السعي في صلاح أبناءهم على الوجه الأتمّ والنحو الأكمل ، فالله جل وعلا خاطب هذا النبي الكريم بقولهِ ((إنّهُ ليس من أهلك )) لأنهُ كفر فغلبت مُفارقةُ الكُفر على بنوة وأُبوة النسب والاختلاف العقدي هو الفيصلُ بين الناس.نعم **(26/24)
بارك الله فيكم وأتواصل معكم أيضاً يقول الله سُبحانهُ وتعالى (( يا قومنا أجيبوا داعي الله و ءامنوا بهِ يغفر لكُم )) هذهِ الآية لها مُناسبة ولها أيضاً فوائد كثيرة فلعلّكُم شرحتُم المقصُود من هذهِ الآية حفظكم الله ورعاكم ؟؟؟
نعم هذهِ الآية في سورة الأحقاف
نعم
تتكلم عن الجن والجنُ مرّوا على النبي صلى الله عليهِ وسلم وهو يقرأ القرآن فأعجبهُم تلاوتهُ أراد الله بهم خيراً ءامنوا قال الله (( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فلّما حضروه قالوا أنصتوا فلمّا قُضي ولّو إلى قومهم مُنذرين قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مُصدقاً لما بين يديهِ يهدي إلى الحق وإلى طريقٍ مُستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله و ءامنوا بهِ يغفر لكُم ويُجركُم من عذابٍ أليم ))
فالآية تتحدث عن مُؤمني الجن جنُ نيصبين الذين وافقوا النبي صلى الله عليهِ وسلم وهو يقرأُ القرآن عند عودتهِ من الطائف إلى مكة.
لكن أيُها الأخُ المُبارك هنا مسألة تُقال أو تُثار في بعض كُتب التفسير وهي مسألة أن الله هنا قال على لسان الجن (( يا قومنا أجيبوا داعي الله و ءامنوا بهِ يغفر لكُم ))
تُلاحظ يا شيخ خالد
نعم
أنهُ لم يقُل تدخلون الجنة على هذا اختلف العُلماء هل مُؤمنو الجن يدخلون الجنة أو لا يدخلون ؟
نعم
بناءً على هذهِ الآية ؟؟
والأقوال فيها :
// قال بعضهُم أنهُم تُغفر لهُم الذنوب ولا يدخلون الجنة وهذا القول وإن قال بهِ بعضُ الفُضلاء إلا أننا نراهُ بعيداً وقد استبعدهُ أيضاً الشيخُ المُفسّر الحافظُ ابنُ كثير رحمةُ الله تعالى عليهِ .
// قال بعضُ العلماء أنهم يدخلون الجنة لكن هُم في ربض الجنة يعني لا يصلون إلى قلبها .
// وقال آخرون أنهُم يدخلون الجنة لكنّهُم يُعاملون بالمثل في الدُنيا نحنُ لا نراهُم وهو يروننا يقول بعضُ العلماء في الجنة يدخلون الجنة ونراهُم ولا يروننا وهذا يحتاجُ إلى دليل ولا أعلم في هذا دليلاً .(26/25)
والصوابُ أنهُم يدخلون الجنة والدليل على أنهُم يدخلون الجنة أن الله قال في آية إمتنان (( ولمن خاف مقام ربهِ جنتان * فبأي ألاء ربكُما تُكذبان )) ونحنُ مُتفقون على أن المُخاطب بها الجن والإنس .
قال الحافظ ابن كثير كلاماً مفادهُ أنهُ لا يُمكن أن يمُنّ الله جل وعلا عليهم بمقام فضل ثم يحرمهُم إياه في قولهِ جل وعلا (( ولمن خاف مقام ربهِ جنتان *)) هذا امتنان من العلي الكبير عليهم على الإنس والجن فلا يُمكن أنت الله تبارك وتعالى يُمنيهم ويعدهم إذا خافوا مقامهُ بالجنّة ثم لا يدخلهم إياها وقد أدوا ذالك العمل هذا بعيدٌ جداً .
فنقول إن ّالذي عليهِ جماهيرُ أهلُ العلم أن مُؤمني الجن يدخلون الجنة مثلهُم مثلُ الإنسِ بسواء قال الله جل وعلا (( حورٌ مقصوراتٌ في الخيام * فبأي ألاء ربكُما تُكذبان * لم يطمثهُنّ إنسٌ قبلهُم ولا جان )) فهذهِ دليل ظاهر على أنهُم يدخلون الجنة والعلمُ عند الله تعالى
بارك الله فيكم وفي علمكم أتواصل معكم فضيلة الشيخ صالح المغامسي حفظكم الله هذا يقول " من صلى الفجر أربعين يوماً يُدركُ تكبيرة الإحرام خلف الإمام يُؤمن من النفاق " هل هذا الحديث صحيح وهل هناك حديث شبيهِ بهذا المعنى وما هو فضل صلاة الفجر في جماعة ؟؟؟
صلاةُ الفجر من أوكد الصلوات قال الله قد أفردها (( وقرآن الفجر إنّ قُرآن الفجر كان مشهودا)) أما ممّا ذكرهُ السائل في هذا حديثان :
حديث يقول " من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كُتبت لهُ براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق " هذا بعضُ أهل الصناعة الحديثيهِ حسّنهُ .
وحديث من صلى أربعين يوما يعني له كذا يعني نص مُعين يعني مُكافأة مُعينة لكن هذا الحديث ضعّفهُ أكثروا العلماء لا نعلم أحداً حسّنهُ الثاني أما الأول "من حافظ على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كُتبت لهُ براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق " هذا يوجد من العُلماء من حسّنه والعلم عند الله .(26/26)
صلاةُ الفجر يعني كما قُلنا في دروسٍ عدة هي آخرُ صلاة صلاّها النبي صلى الله عليهِ في يوم بدر وآخرُ صلاة صلاّها الصحابة رضي الله عنهم والمؤمنون والنبي صلى الله عليهِ وسلم حيٌ أفردها الله في كتابهِ (( وقرآن الفجر)) " من صلّى الفجر فهو في ذمة الله فلا يطلبُنكُم الله بشيءٍ في ذمتهِ" إلى غير ذالك من النصوص العظيمة التي تدلُ عليها وعلى أخواتها من الصلوات الخمس .
بارك الله فيكم عفواً هذهِ إحدى الأخوات تقول أنا امرأة مسحورة منذُ ثماني سنوات ولها يعني قصة وفي كربٍ شديد لكن تقول أرجوا الدُعاء لي بظهر الغيب من الشيخ صالح بأن يرفع اللهُ عني هذا المرض ويفُك سحري ويرزُقني الذُرية الصالحة تقول جزاكم الله خير يا شيخ بماذا تنصحوني في مسألة النوم وأنا أرقي نفسي وأُحافظ على الذكر لكن ما زلتُ أُعاني من الألم والمرض والضعف ؟؟؟
إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون كل ما أساء المؤمن فهو مُصيبة ...
أسأل الله الذي في السماء عرشهُ وفي كُل مكانٍ رحمتهُ وسُلطانهُ أن يكشف عنك الضُرّ والبلوى وأقول لك إن كانت والدتُكِ حية فأطلُبي من والدتكِ أن تدعُوا لكي دُعاء الوالدة لهُ شأن ومقام عظيم عند الله جل وعلا فإن كانت الوالدة موجودة فاطلُبي منها أن تدعُوا لكِ كذالك أنتي ادعُ لنفسكِ كثيراً ويُمكن أن تقولي في دُعاءكِ تأخُذين بما ورد تقرأين على نفسكِ آية الكُرسي وخواتيم البقرة وما جاء كما تعلمين أكيد اطلعتي على كثيراً مما يُقال في هذا لكن قولي في دُعائكِ { اللهُم يا ولي نعمتي وملاذي عند كُربتي اجعل هذا الأمر الذي أخافهُ برداً وسلاماً علي كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم }
أُعيد لكِ الدُعاء إن كُنتِ تكتُبين قولي { اللهُم يا ولي نعمتي وملاذي عند كُربتي اجعل هذا الأمر الذي أخافهُ برداً وسلاماً علي كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم }(26/27)
إلى غير ذالك ممّا ورد من أدعيةٍ مأثورة أسأل الله أن يكشف عنّا وعنكِ وعن المُسلمين جميعاً الضُرّ والبلوى .
نعم بارك الله فيكم ونحنُ نتواصل معكم ومع المُستمعين الكرام ومع هذهِ الآيات الكريمات المُباركات ونحنُ في رياض القرآن الكريم وفي إذاعة القرآن الكريم على الهواء مُباشرةً أنتقل إلى أحد الإخوة يقول قال الله تعالى (( فليحذر الذين يُخالفون عن أمرهِ أن تُصيبهُم فتنةٌ أو يُصبهُم عذابٌ أليم )) نريُدّ شرحاً للآية وما هي الفائدة العُظمى عندما يتصبر المُسلم عند المُصيبة ؟؟؟
نعم المقصود بالأمر هنا الإسلام ..
نعم
من حيث الجملة وهديُ النبي صلى الله عليهِ وسلم ولا يُتصور أن مُسلماً يعلمُ هدي النبي صلى الله عليهِ وسلم في شيء ويقعُ في قلبهِ ثبوت ذالك الهدي وتقوم عندهُ الأدلة والبراهين والحُجج على أن هدي النبي صلى الله عليهِ وسلم في هذا الأمر كذا وكذا ثم يصدُ عنه هذا ممّن قال الله فيهم (( فليحذر الذين يُخالفون عن أمرهِ أن تُصيبهُم فتنةٌ أو يُصبهُم عذابٌ أليم)) وقد قال بعضُ العُلماء أن قضية أو هنا قد تكون فتنة في الدُنيا بصرفهِ عن الدين أو أنهُ قد يُؤخّر لهُ العذاب في الآخرة وليس هناك مجال لإطالة تفسير الآية لكن قضية الصبر على البلاء هو طلب هذا الظاهر .؟
أي نعم
ينبغي الإنسان يُحسن الظنّ بربهِ وبعضُ أهل الفضل يقول إذا وقع في قلب المؤمن اليقين بأنهُ لا يرفع البلوى إلا الله تُرفع إذا وقع في قلب المؤمن اليقين بأنهُ لا يرفع البلوى إلا الله تُرفع عند ذالك تُرفع والعلم عند الله .
وقد لا أجزمُ بهذا القول كُليةً لكن أحياناً الإنسان يُربيهِ الله جل وعلا ويُخلّصهُ من الذنوب بما يبتليهِ بهِ . نعم **
نعم بارك الله فيكم آية أُخرى بعثها أحد الأخوة يقول قال الله تعالى (( يجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء )) ما المقصود بهذهِ الآية وهل الأرض كانت مسكونة من قبل ؟؟؟(26/28)
ظاهرُ القرآن أن الأرض كانت مسكونة من قبل من قِبل الجن وهذا هو ظاهرُ قول الملائكة الذي حكاهُ اللهُ جل وعلا في القرآن (( قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونحنُ نُسبح بحمدك ونُقدّسُ لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )) فظاهرُ الآية أن ثمّةَ من كان يسكُنُ الأرض ولمّا كان أبونا ءادم لم يكُن أحدٌ من قبلهِ نُنسب إليهِ دلّ ذالك على أنهُ من غير الإنس فلم يبقى إلا الجن لكن مع ذالك نقول هذا ظاهرُ القرآن ونتأدب ولا نستطيعُ أن نجزم بهِ .
نعم بارك الله فيكم هذي إحدى الأخوات تقول إذا وصل الإنسان بالصبر على عدم الإنجاب وصل بهِ إلى درجة الرضا على قضاء الله وما كتبهُ عليها هل عليهِ ذنب إذا لم يدعُو بذالك أي أني لا أدعُو الله بالذُرية لنني راضية بذالك وأرجوا الثواب في الآخرة ؟؟؟
والله يا أُختي لا أنصحُكِ بعدم الدُعاء كونك تكونين راضية لا يمتنع معهُ الدُعاء فإنّ زكريا عليهِ الصلاةُ والسلام لن نكون لا أنا ولا أنت ولا غيرُنا من أهل عصرنا أفضل منه ولا شك أن زكريا كان راضياً بقضاء الله وقدرهِ ومع ذالك دعا الرضا بقضاء الله وقدرهِ منزلة عظيمة لكنني أنصحُكِ أنت تدعو فإذا دعوتي فالإنسان لا يدري أين الخير أكثري من قول ربنا ءاتنا في الدُنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، قولي ربِ هب لي من لدُنك ذرية طيبة إنك سميعُ الدُعاء ، توسلي إلى الله جل وعلا بأسمائهِ الحُسنى وصفاتهِ العُلا وهذا كُلهُ كما أخبرتُكِ لا يتعارض مع الرضا بقضاء اللهِ جل وعلا وقدرهِ أسأل الله بمنّهِ وكرمهِ وسُلطانهِ العظيم أن يمُنّ عليك بالذُرية الطيبة الصالحة .
بارك الله فيكُم هذي أم عبد الرحمن الفارس أرسلت بهذهِ الرسالة تحمل سبع خطوات من أجل قراءة مؤثرة للقرآن الكريم تقول : أولاً أن يقصد القارىء التدبُر والتفكُر وأن يخشع قلبُه ويهتدي بنور القرآن .(26/29)
ثانياً : تعظيم القرآن باستحضار جلالة قدرهِ وعلوّ منزلتهِ وجزيل إنعام اللهِ على من قرأه .
ثالثاً : الاستعاذة بالله من كيد الشيطان فإنّ الشيطان يسعى لصد القارىء من أمرين :
تدبُر كلام الله والتأثُر بهِ ،،، ثانياً : الانتفاع بالتدبُر والاهتداء بهِ .
رابعاً : الحذر من هجر تدبُر القرآن فإنّ ترك الخشوع في قراءتهِ سبب لقسوة القلب .
خامساً : الترتيل والترسُل في القراءة فتكون همّهُ عرض المعاني على القلب عسى أن يتأثر أو يخشع وليس همّهُ متى يختم القرآن .
سادساً : إطالة النظر في مقصُود الآيات .
سابعاً : أن يفرح بتدبُرهِ فإذا تأثر بآية وأنتفع قلبهُ فلا يتجاوز هذهِ الآية حتى تنطبع معانيها في قلبهِ وينشرح صدرهُ بها .
تعليقكُم بارك الله فيكم ؟؟؟
هذا حسنٌ
جميل
لكنني أقول هذهِ الأشياء النظرية محمودة لكن ينبغي أن يقع في القلب أولاً تعظيمُ الله جل وعلا وتعظيم كلامهِ والبُعد عن الكلفة وما ذكرتهُ الأُخت المُباركة في مُجملهِ حسنٌ ومقبول لكن كما قُلت كم من علمٍ نظريٍ يعني قد يعجزُ الإنسانُ عن تطبيقهِ لكن للأعمال الصالحة والخوف من مقام الله وصلاح السريرة وحُسن الطوية دورٌ عظيم في أن يُتقن العبدُ قراءة كلام اللهِ جل وعلا .
نعم بارك الله فيكم معنا اتصال أو مًداخلة تفضل نعم
أعود مرة ثانية إليكُم ريثما يتم الاتصال أو المُشاركة هذا أحد الأخوة ولكن أتواصل معكم حفظكُم الله ولكن لعلي أستعرض بعض الآيات الكريمات إذا سمح الوقت ونحنُ في ختام هذا الوقت والدقائق معدودة لكن يقول الله سُبحانهُ وتعالى (( أفلا يتدبرُون القرآن أم على قلوبٍ أقفالُها )) ما المقصُود بالأقفال حفظكُم الله ؟؟؟
هذا استفهام إنكاري ذكره الله جل وعلا في هاذهي الآيات المُباركة (( أفلا يتدبرُون القرآن أم على قلوبٍ أقفالُها ))(26/30)
الجهل بالله يحجب عن تدبُر القرآن ، سوءُ النية يحجب عن تدبُر القرآن ، ظُلمُ الناس يحجب عن تدبُر القرآن ، يكون الإنسان يجعل من القرآن زاداً دُنيوياً محضا هذا يحجب عن تدبُر القرآن .
تدبُر القرآن منزلة رفيعة يُؤتاها من وفقه الله جل وعلا وفطر قلبهُ على خوف الله جل وعلا وعلم يقيناً أن هذا كلام ربهِ يقول اللهُ جل وعلا (( قُل ءامنوا بهِ أولا لا تُؤمنوا إنّ الذين أُوتوا العلم من قبلهِ إذا يُتلى عليهِم يخرّون للأذقانِ سُجدا * ويقولون سُبحان ربنا إن كان وعدُ ربنا لمفعولا * ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهُم خشوعا ))
تدبُر القرآن الحق ليست قضايا حقائق اللُغة وأسرار البلاغة لكن تدبُر القرآن الحق أن يُورث عملاً أن يُورث قلباً خاشعاً وعيناً دامعة وكبداً رطبة يعرفُ بذالك كُلهِ العبد أين مواطن رضوان الله فيسعى إليها ويعلم منها أي مواطن غضب الله جل وعلا فيفرّ منها فلا يُحبُ أن يراهُ الله حيث نهاه ولا أن يفقدهُ الله جل وعلا حيث أمره إذا وقع هذا من العبد يكون هناك تدبرٌ عظيمٌ لكلام الرب جل وعلا أو فلنقُل قد أحسن هذا العبدُ تدبُر القرآن . نعم **
نعم بارك الله فيكم هذي أم عبد العزيز من جدة حفظكم الله تقول لقد ذكر بعضُ أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ أعلى المقامات وجُمع لهُ أعظم صفات الأنبياء من قبلهِ تسأل تقول أرجوا فضيلتكُم تكرُماً منكُم وإحساناً لنا أن تذكرُوا لنا أشرف المقامات التي ذُكر لرسول الله صلى الله عليهِ وسلم أو ذُكر في القرآن الكريم ومنها مثلاً مقام العبودية في سورة الإسراء ومقام التحدي ومقام التنزيل بارك الله فيكم ؟؟؟(26/31)
النبيُ صلى الله عليه وسلم خاتم الرُسل وأفضلُ الأنبياء قال عليه الصلاةُ والسلام " ما من نبيٍ يومئذٍ ءادم فمن سواه إلا وهو تحت لوائي " أعظمُ مقامٍ أعطاهُ اللهُ جل وعلا إياه هو المقام المحمود وقد أشار الله إليهِ في سورة الإسراء بقولهِ (( ومن الليل فتهجد بهِ نافلة لك عسى أن يبعثكُ ربُك مقاماً محمودا ))
هذا أعظمُ المقامات وهي الوسيلة قال عليهِ الصلاةُ والسلام " فهي درجةٌ لا ينبغي أن تكون إلا لعبدِ صالح وأرجوا أنا أن أكون أنا هو "
من دلائل إكرام اللهِ جل وعلا لنبيهِ قول الله جل وعلا (( وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقُ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو أتنا بعذاب أليم )) قال اللهُ جل وعلا يُبيّن مقام نبيهِ عنده (( وما كان الله ليُعذبهُم وأنت فيهم )) وعلى القول بأنهُ أقسم بهِ جل وعلا فهذا مقام رفيع لهُ صلى الله عليه وسلم قال الله في سورة الحجر (( لعمرُك إنّهُم في سكرتهِم يعمهُون )) كما أ، من دلائل اصطفائه جل وعلا أقسم بالأرض التي يطأُها نبيهُ فقال جل وعلا (( لا أُقسمُ بهذا البلد * وأنت حلٌ بهذا البلد )) على وجهِ من أوجه التفسير في معنى كلمة حل .
هذهِ بعضُ المقامات التي أعطاهُ الله جل وعلا نبيهُ الكريم صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ وهو أعلى الأنبياء درجة وأرفعهُم منزلة صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ.
أحيانا الله في الدُنيا على سُنتهِ و أماتنا الله على ملتهِ ونسأل الله أن يحشًُرنا يوم القيامة في زُمرتهِ ...
بارك الله فيكُم فضيلة الشيخ صالح ونحنُ في ختام هذهِ الحلقة عن ماذا تود أن تختم هذهِ الحلقة وهذا الموضع المُهم حقيقةً ؟؟؟(26/32)
نُريد أن نختم بالوصية لأنفُسنا ولغيرنا بتقوى الله فإنّ تقوى الله جل وعلا الزادُ الذي بهِ يسود المُؤمن في أمر دُنياه وأخرتهِ وصّى اللهُ بها خلقهُ أجمعين بلا استثناء (( ولقد وصينا الذين أُتوا الكتاب من قبلكُم وإياكُم أن اتقوا الله )) تكفل الله لأهل تقواه بالأمن ممّا يخافون وبالنجاة ممّا يحذرون وبالرزق من حيث لا يحتسبون (( ومن يتقِ الله يجعل لهُ مخرجا ويرزقهُ من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبُهُ إنّ الله بالغُ أمرهِ قد جعل اللهُ لكُل شيءٍ قدرا ))
نسأل الله جل وعلا أن يرزُقنا وإياكم التقوى وأن يُوفقنا وإياكم لما يُحبُ ويرضى ..
عفواً هذا اتصال ثم نعود نُختم الحلقة تفضل يا أبو أحمد
السلامُ عليكم ورحمة الله
عليكم السلام
أُحييكم وأُحيي فضيلة الشيخ صالح أنا اسمي أحمد أتمنى لكم التوفيق وأدعو لكُم بالتسديد والحقيقة إذا سمحت لي في نصف دقيقة أن يعني أحمد إلى الشيخ صنيعهُ في التفسير لكن سيما أنا أذكُر كلمة للحسن أنا أود من السيخ أن يُعلق عليها الحسن البصري
نعم
لمّا قال إنّ الله أنزل كتابهُ ليُعمل بهِ فاتخذ الناس تلاوتهُ عملا صار مُجرد التلاوة عند كثيرين هو العمل دون تدبُرهُ أو تأمُل في المعنى يعني لمّا نسمع للشيخ وكلامه في تفسير سورة يوسف والمعاني الجميلة التي أثارها وكان الأستاذ خالد يُثيرها معهُ تجعل الإنسان فعلاً يقف عند معاني وآثار عظيمة أنا أدعو لمثل هذا مثلاً حتى في كُل السور التي نُكررُها سورة الكهف التي نقرأُها كُل جُمعة ما هي الدروس والفوائد ولماذا
شكراً(26/33)
السؤال الأخير لفضيلة الشيخ لماذا لا يُوجد كثير من أهل العلم والفضل والذي هُم ذا قُدرة وبلادنا وبلاد المُسلمين تزخرُ بهم ممّن يُحاول أن يُفهم الناس القرآن ليُلامس جرُحهم فيُداويها ويأتي إلى هُمومهِم ويُخففها ويأتي إلى مثلاً سلواهُم فيزيدهُم سعادة وغير ذالك من المعاني التي يحملُها كتابُ الله في دفع الظُلم مثلاً في محبة الخير في نشر الفضيلة أتمنى لكم التوفيق وأُشير وأشدُ على أيديكُم وأدعو لكُم من خالص قلبي الحقيقة بالتوفيق ولفضيلة الشيخ صالح الذي نُشهدُ الله على الهوا أننا نُحبهُ اسأل الله أن يجمعنا وإياها على خير وبالله التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتهُ
شكر الله لك يا شيخ أحمد شُكراً جزيلاً والله إنّنا إن قيل للإنسان شيء من الفراسة فإنّا لا نُزكيك على الله لكن والله نحسبُك أنك صادقاً فاهماً مُدركاً لما تقول وهذهِ منزلة عظيمة رزقنا الله وإياك إياها وثبّتنا الله وإياك عليها وما دعوتُم إليهِ أيُها الشيخُ المُبارك الفاضل هو الذي يجبُ أن نحمل جميعاً همّهُ يجب أن يفيء الناس إلى القرآن يجب أن يفيء الناس إلى العمل بالقرآن وما نقلتهُ بارك اللهُ فيك عن التابعي الجليل الحسن البصري هي كلمةٌ عظيمةٌ جليلة من رجُلٍ معروف بالصدق والصلاح فيما نُقل عنه رحمةُ الله تعالى عليهِ وهو أبي سعيد الحسن البصري .(26/34)
الذي يعنينا أنه ينبغي أن يفقه الناسُ القرآن ويعملوا بهِ ويعلموا أنهُ لا نجاة للأُمة إلا بكتاب الله وسُنة نبيها صلى الله عليهِ وسلم لكنّهُ إذا وقف الناس فقط عند تلاوتهِ وإتقان قرأتهِ وتنافسوا في ذالك فقط وظنُوا أن ذالك هو المُنتهى فلم يفقهُوا شيئاً فكلامُ الله جل وعلا أو كتابهُ ما أُنزل لنضعهُ في مؤخرة السيارات أو على مكاتبنا أو خلف كراسينا إذا أُلتُقطت لأحدنا صورة أو ما أشبه ذالك كلامُ الله يجب أن يستوطنُ القلوب يجب أن يُعمل بهِ يجب أن يكون هو الحاكمُ على أمرنا كُلهِ وهو المُسيّرُ لنا وما السُنةُ إلا في آيةٍ واحدة قال الله جل وعلا (( وما أتاكُم الرسول فخذُوهُ وما نهاكُم عنهُ فانتهوا )) لكن لا يُمكن أن يُفقه الكتاب من غير السُنة فهُم مُتلازمانِ تلازُماً تاما " تركتُ فيكُم ما أن تمسكتُم بهِ لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسُنة نبيهِ " كما قال صلواتُ الله وسلامهُ عليهِ .
رزقنا اللهُ وإياك والمُسلمين العلم النافع والعمل الصالح .
بارك الله فيكم يا شيخ صالح وأسأل الله سُبحانهُ وتعالى أن ينفع بكُم وأن يجعل ذالك في موازين حسناتكُم ...
أمين
بودي أن يطول اللقاء ولكن يبدوا أنك على موعد بعد مغرب هذا اليوم بمشيئة الله تعالى في جامع الحسن بن علي في البديعة في مدينة الرياض أسأل الله سُبحانه وتعالى أ يُسدد الخُطى وأن يجعل ذالك عملاً مُباركاً إنهُ على كُل شيءٍ قدير...
اللهم آمين
أيُها الأخوة والأخوات إلى هُنا ونأتي إلى ختام هذهِ الحلقة من برنامج معكم على الهوا آياتٌ وعظات ضيف الحلقة فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي عضو هيئة التدريس في كُلية المُعلمين في طيبة الطيبة وإمام وخطيب مسجد قباء في المدينة المنورة(26/35)
جزا اللهُ الشيخ خير الجزاء وجعل ذالك في موازين حسناتهِ كما نسأل الله العلي القدير أن ينفعنا بما سمعنا وأن يُبارك لنا في القرآن والسُنة وبما فيهما من الآيات والحكمة وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء هُمومنا وذهاب أحزاننا إنهُ على كُل شيءٍ قدير
اللهم آمين(26/36)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الحمد السرمد حمداً لا يحصيه العدد ولا يقطعه الأبد حمداً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي له جل وعلا أن يحمد وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله نبي سلم الحجر عليه وحن الجذع إليه ونبع الماء من بين إصبعيه آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً ، ختم الله به الرسالات والنبوات وبعثه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : أيها الأخوة المؤمنون السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الأخوة : عنوان المحاضرة ( تعظيم شعائر الله ) ونحن في هذه الليلة بعد أن تفيأ المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ثاني أيام عشر ذي الحجة ويتهيئون لاستقبال ثالث أيامه ، في هذه الليلة المباركة نتكلم عن عنوان مستقى من قول الحق تبارك وتعالى ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإني من تقوى القلوب ) رزقنا الله وإياكم تقواه في كل زمان ومكان .
معشر الأخوة : إن الحديث في هذه الأيام عن الحج وأحكامه ودروسه أمر يكثر بلا ريب سواء كان على ألسنة الأئمة في المنابر أثناء الخطب أو في الدروس أو في المحاضرات أو في كثير من المساجد على ذلك : فإننا سنتكلم عن شعائر الله جل وعلا محاولين أن نمزج بين التاريخين الفقهي والتاريخ ... والمنهج التاريخي محاولة لتقريب ما بعد وتسهيل ما صعب سائلين الله جل وعلا العون والتوفيق والسداد فبه يستعان وإليه يلجأ وعليه يتوكل .(27/1)
الشعيرة : كل ما أمر الله به وقيل إنها كل ما جعله الله جل وعلا علماً من أعلام دينه وقيل غير ذلك ، وقيل : بل هي الدين كله . وتعظيم شعائر الله جل وعلا إنما هو في أصله تعظيم لمن أمر بها وهو الله جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التقوى ها هنا وأشار إلى فؤاده ) ( أشار إلى قلبه ) وكذلك من يعظم شعائر الله جل وعلا فإنما يخبر عن ما في قلبه من تقوى ومحبة للباري سبحانه وتعالى. وإذا قلنا إن شعائر الدين هي الدين كله أصبح الباب مفتوحاً والمجال واسعاً للحديث لكننا في أيام عشر ذي الحجة فلذلك سنقصر الحديث والدرس على ما نص الله جل وعلا في كتابه على أنه شعيرة أو ما احتمل في القرآن أن يكون شعيره . روى عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أنه قال : " أعظم وأكبر الشعائر بيت الله الحرام " وقال الله جل وعلا في كتابه :" إن الصفا والمروة من شعائر الله .." وقال جل ذكره : " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ... " وقال سبحانه : " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ... " فهذه ما نص الله جل وعلا في طيات كتابه العظيم على أنها من شعائر دينه وعليها وإليها وعنها سيكون الحديث بإذن الله جل وعلا . أما الحديث عن البيت الحرام فإن المؤمنين يعلمون أن الله جل وعلا جعل لهذه الأمة البيت الحرام قبلة أحياءً وأمواتاً وكما قلت إننا سنمزج بين المنهجين : 1- التاريخي و 2- الفقهي في بيان ذلك.(27/2)
اختلف أهل العلم رحمهم الله فيمن بنى البيت العتيق فقالت طائفة بنته الملائكة وقالت طائفة بناه آدم وقالت طائفة بناه نوح وظاهر القرآن على أن الذي بناه إبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام ، والبيت الحرام في مكة ، ومكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم فإن قلنا إن البيت كان أول من بناه إبراهيم بمعنى أنه لم يكن مبنياً قبله جاء الإشكال كيف كان الناس يحجون قبل إبراهيم فعلى هذا ، الأفضل والأظهر أن يقال : أن البيت كان معروفاً قبل إبراهيم ولكن لا يعلم بالتحديد من بناه ولكن الله جل وعلا بعد أن طمست معالم الطوفان معالم البيت أمر الله جل وعلا خليله إبراهيم أن يبني له البيت . تزوج إبراهيم أول الأمر سارة ثم تزوج جارية اسمها هاجر وهبته سارة إياها . فلما تزوج هاجر حملت فأصبح دب بينهما ما يدب بين النساء عادة فهاجرت هاجر من أرض مصر إلى مكة المكرمة بأمر من الله جل وعلا فأنزل إبراهيم زوجته و ابنه وجعل لهما جرابا فيه تمر و سقاءً فيه ماء ثم انصرف إلي ديار العراق . حصل ما حصل لهاجر قصة حفر ماء زمزم كما سيأتي في موضعه ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام عاد ليتفقد ما ترك فوجد هاجر قد ماتت وسأل عن إسماعيل فدل على بيته فلما سأل قالت له زوج إسماعيل خرج يقتات لنا فسأل عن حالهم فأخبرته أنهم بشر حال وشكت إليه الضيق والشدة فقال إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام وقولي له غيِّر عتبة بابك ولم يخبرها أنه أباه .(27/3)
عاد إسماعيل كأنه آنس شيئاً سأل زوجته قالت جاءنا شيخ كبير ذكرت أوصافه ذكرت ما حصل بينهما من مقاله ، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك ففارقها ثم لبث إسماعيل ما شاء الله له أن يلبث فتزوج امرأة أخرى من جرهم فجاء إبراهيم مرة أخرى لنفس المكان يتفقد ما ترك فلم يجد إسماعيل وكل ذلك بقدر الله فوجد زوجته فسألها عن حالها فشكرت الله جل وعلا وأخبرته بأنهم في أحسن حال ، فقال : ما طعامكم قالت اللحم قال : ما شرابكم ، قالت : الماء ، فدعا لهما بالبركة أن يبارك الله في اللحم وأن يبارك الله في الماء ثم انصرف ، رجع إسماعيل كأنه آنس شيئاً سأل المرأة أخبرته قال ذلك أبي وقد أمرني أن أبقي عليك ، عاد إبراهيم كرة ثالثة ، في الكرة الثالثة وجد ابنه إسماعيل يبري نبلاً عند دوحة بجوار مكان البيت حالياً فلما رأى إسماعيل أباه قام إليه فصنع به ما يصنع الوالد بولده والولد بوالده إذا التقيا بعد غياب ثم قال إبراهيم لإسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : يا أبت أطع أمر ربك قال : أو تعينني قال : نعم قال : إن الله أمرني أن ابني له بيتا وأشار إلى مكانه في الأرض فأخذ إسماعيل يجمع الحجارة وإبراهيم يبني .....(27/4)
قال بعض العلماء من المؤرخين وغيرهم : إن سحابة أظلت مكان البيت لتحدد لإبراهيم معالمه وقيل إن ريحاً جاءت فحملت ما في الأرض من قذى وأذى على حدود البيت حتى يعرف إبراهيم و أياً كان بنى إبراهيم البيت إسماعيل يناوله الحجارة وإبراهيم يبني وهما يدعوان كما قال الله عز وجل " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " لما فرغ من بناء البيت لما علا البيت قبل أن يفرغ من بنائه اضطر إبراهيم أن يرتقي على حجر حتى يصبح قادراً على بناء الجزء الأعلى من البيت فقرب إسماعيل إليه حجراً فبقيت معالم قدمي إبراهيم معالم موطئ قدميه على الصخر نفسه فعرف بعد ذلك بمقام إبراهيم و قد نص الله جل و علا عليه في كتابه " و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " لما أتما البيت صلوات الله و سلامه عليهما قلنا طاف حوله معظمين لله جل و علا آخذين بأمره سبحانه :
((27/5)
أن طهرا بيتي للطائفيين و القائمين و الركوع السجود ) فبقي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في مكة ما شاء الله له أن يبقى حتى انتقل مرة أخرى إلى أرض الشام و توفي بها و توفي إسماعيل عليه الصلاة و السلام في مكة هذا مجمل اللبنة الأولى في بناء البيت العتيق . نشأ الناس بعد ذلك و إسماعيل بينهم على ملة إبراهيم و كانوا يحجون و يعتمرون و يطوفون بالبيت كما أمر الله جل وعلا و كما تركهم عليه خليل الله إبراهيم عليه الصلاة و السلام حتى ظهرت الأوثان و بدأت الأصنام و تغيرت الناس عن الملة الحنيفية مع ذلك بقيت أشياء من معالم دين إبراهيم يقوم الناس عليها كتعظيم البيت و كالطواف حوله و دخل فيه ما دخل مما لم يأذن الله جل وعلا به شرعا تتابع الناس على ذلك سنين عديدة و حج البيت بعد إبراهيم عليه الصلاة و السلام أنبياء الله جل وعلا و رسله كما أخبر صلى الله عليه وسلم ( أنه رأى موسى ورأى يونس ورأى عيسى عليهم الصلاة والسلام وهم ملبين يقدمون إلى بيت الله جل وعلا العتيق كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه فأصبح البيت كما قال الله ( مثابة للناس وأمنا )
والحديث عن البيت العتيق حديث ذو شجون متشعب نحاول أن نلم شعثه قدر الإمكان(27/6)
تاريخياً : بقي البيت محط أنظار العرب و المسلمين ممن بقوا على ملة إبراهيم وحتى بعد أن تغير الناس بقي البيت محفوفاً بالمهابة محفوفاً بعناية الحكام والأمراء و مشايخ القبائل و أشباههم من أعيان الناس حتى قيل إن جرهم وهي القبيلة العربية التي كانت تسكن مكة بنت البيت وجددت بناءه ثم جددته قريش لما داهمه السيل فجمعوا أطيب أموالهم الطيب من أموالهم وتخلصوا من الأموال الربوية وهم قرشيون كفار آنذاك ثم بدا لهم أن يهدموا البيت ليعيدوا بناءه فهابوا هدمه فكان أول من تقدم لهدمه الوليد بن المغيرة فهدم حجراً حجراً منه فلما اطمأن الناس أن الوليد لم يصب بأذى أقبلت باقي قريش تساعد الوليد في قضية هدم البيت ثم أعادوا بناءه إلا أن النفقة أي المال المخصص لبناء البيت قَصُر بهم فلما قصُر بهم جعلوا الركنين اليمانيين الركن اليماني و الحجر الأسود جعلوهما على قواعد إبراهيم أما ماكان من جهة الشام فقصرت بهم النفقة فأخرجوا جزءاً من البيت لم يكملوه و هو ما يعرف اليوم بحجر إسماعيل و سيأتي تفصيله قصرت بهم النفقة على هذا الحال فبنوا البيت كما قلنا بعضه على قواعد إبراهيم وبعضه على غير قواعد إبراهيم .(27/7)
بعد ذلك لما بدا لقريش هذا كان الوليد بن المغيرة و هو أبو خالد أول من سن أن يدخل البيت و قد خلع نعليه و خفيه تعظيماً للبيت و هو يومئذ كافر حتى يعلم كل أحد أن الهداية من الله و ليست بالعقل و إلا هذا الرجل كان موفور العقل جداً ، فتبعته قريش ثم تبعت قريش العرب في أنها إذا جاءت البيت تريد أن تدخله لا تدخله إلا وقد خلع الرجل منهم نعليه كان القرشيون قوما قد دخلتهم الحضارة فكانوا في تصريفهم لأمورهم و تسييرهم لشؤونهم قسموا الأمور بينهم فجعلوا السقاية في بني عبد المطلب و كانت الحجابة أي سدانة البيت في بني عبد الدار فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم ودعا الناس إلي دين الله جل و علا انقسمت قريش كما هو معلوم إلى فريقين ، فريق قلة متبعون للهدى وفريق كثرة متبعون للباطل الشاهد منه كانت الحجابه كما قلنا في يد بني عبد الدار في يد رجل يسمى عثمان بن طلحه عثمان هذا كان بيده مفتاح البيت بأمر قرشي كان يفتح البيت كل اثنين و خميس ليدخله من شاء من الناس فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته و قبل هجرته ليدخل البيت مع الناس فكأن عثمان هذا أغلظ على النبي عليه الصلاة والسلام فصبر عليه الصلاة و السلام و حلم عنه ثم قال أي النبي كما روى أن سعد في الطبقات قال : يا عثمان ليأتين يوم هذا المفتاح بيدي أضعه حيث أشاء . فقال عثمان إذاً ذلت قريش يومئذ و هانت فقال : صلى الله عليه وسلم بل عزت يومئذ و عمرت و افترقا على هذه الكلمة سيأتي بعد ذلك ..(27/8)
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسس دولة الإسلام حتى كان عام الحديبية فمنع عليه الصلاة والسلام من دخول مكة و نجم عن عدم دخوله مكة ما عرف تاريخياً بصلح الحديبية فمكث الناس على أن يطرحوا الناس الحرب عشر سنين خلال هذه الفترة أعانت قريش بكراً على خزاعة وكانت بكر دخلت في جوار قريش وخزاعة دخلت في جوار النبي صلى الله عليه وسلم فجاء الخزاعيون بعثوا وفداً إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستنصرونه فجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً لفتح مكة بعد أن نقضت قريشا عهدها ، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها ما يسمى الآن بالحجون و ركزت الراية هناك ثم أخبر عليه الصلاة و السلام بعظمة البيت ومكة عند الله فقال إن الله جل و علا حرم مكة يوم خلق السموات و الأرض و إنها لن تحل إلا لي ...) أي له صلى الله عليه و سلم " ساعة من نهار " حتى لا يحتج أحد بسفك الدماء في البيت الحرام أنها أحلت لنبينا عليه الصلاة و السلام ساعةًً من نهار و هذا دلاله على رفيع قدره عليه الصلاة و السلام عند ربه لما أقبل عليه الصلاة والسلام على البيت بعد أن رأى عليه أصناماً أشار ...(27/9)
كان في يده فتساقطت الأصنام و هو يتلوا ( قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) ثم إنه عليه الصلاة و السلام سأل عن عثمان و أمر بأن يؤتى إليه بمفتاح البيت فلما أوتي إليه بالمفتاح أمر أن تفتح الكعبة ففتحت فدخلها صلى الله عليه و سلم كما ثبت في الصحيح و غيره و دخل معه بلالاً و أسامه ثم كبر في نواحي البيت و صلى فيه ركعتين و لم يدخل إلا بعد أن أخرج ما في البيت و ما عليه من صور قال عليه الصلاة و السلام و قد رأى صور لأبيه إبراهيم و إسماعيل سيستقسمان بالأزلام قال : قاتلهم الله إن استقسما بهما قط " أي لم يستقسما بهما قط ثم إنه صلى الله عليه و سلم خرج من البيت فلما خرج من البيت ابتدره علي رضي الله تعالى عنه و أرضاه و قال يا رسول الله : اجمع لنا الحجابه مع السقاية في بني عبد المطلب الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فأراد علي كرم الله وجهه أن يكون مع النبي عليه الصلاة والسلام مع بني عبد المطلب إضافة إلى السقاية الحجابه لأنها من مفاخر المسلمين آنذاك فقال عليه الصلاة و السلام أين عثمان بن طلحة فجيء به إليه فقال عليه الصلاة والسلام خذ مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء ثم قال خذوها يا بني شيبه خالدة تائدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فهي إلى اليوم في بني شيبه و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وبالأمس نقل التلفاز وغيره في الصحف أن نائب الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام سلم سدنة البيت كسوة الكعبة لهذا العام و كما قلنا هذا هو فضل الله يؤتيه من يشاء الشاهد منه :- هذا إلى الآن المرحلة التاريخية في بناء البيت .(27/10)
عليه الصلاة والسلام لم يغير في البيت شيئا وإن كان أخبر أنه يريد أن يغير فقد قال لعائشة زوجته :" لولا أن قومك حديث عهد بكفر لنقضت البيت "( أي هدمته وأعدت بناءه و جعلت له بابين و بنيته على قواعد إبراهيم فإن قومك قصرت بهم النفقة" استمر الوضع على هذا الحال حتى كانت خلافة الصديق أبي بكر ثم خلافة الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه الشيء الوحيد الذي فعله عمر أنه أخر المقام كان المقام ملتصقاً في البيت واختلف هل كان المقام ملتصقاً في البيت منذ أيام إبراهيم أم أن القرشين ألصقوا المقام في البيت على قولين ، الشاهد منه : أن عمر رضي الله تعالى عنه أخر المقام حتى يتسنى للناس الطواف بالبيت ثم جاءت خلافة عثمان ثم علي ثم انتهت الخلافة الراشدة ثم كانت خلافة الأمويين في عام 73 من الهجرة كانت الفتنة مابين عبد الملك بن مروان و عبد الله ابن الزبير ابن العوام ، عبد الله ابن الزبير كان أميراً على الحجاز و عبد الملك بن مروان كان خليفة في الشام في دمشق فبعث عبد الملك الحجاج بن يوسف الثقفي ليعينه على أن يسلم عبد الله بن الزبير زمام الحكم لعبد الملك حاصر الحجاج مكة ضربها بالمنجنيق مع الضرب طبعاً لا يعقل أن أهل الشام قصدوا هدم البيت أو حرقه لكن الحرب تأخذ معها كل أخضر و يابس كما هو معروف الشاهد منه أن البيت تأثر بالقصف و قيل أنه حرق بعضه فقام عبد الله بن الزبير فنقض البيت و أعاد بناءه كانت أمه و من أمه ؟! أسماء بنت أبي بكر أخت من ؟ أخت عائشة كانت أمه أسماء أخبرته أن عائشة أخبرتها أو عائشة أخبرته مباشرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لولا أن قومك حديث عهد بكفر لنقضت البيت وجعلت له بابين " فأقامه عبد الله كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فجعل له بابين و بناه على قواعد إبراهيم و أدخل الحجر فيه فلما استطاع الحجاج بن يوسف أن يقتل عبد الله بن الزبير كما هو معروف تاريخياً و أن يستتب الأمر له في مكة نقض ما(27/11)
بناه عبد الله ابن الزبير و أعاد البيت كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم . لما فعل الحجاج هذا ؟! لا علاقة لنا به لكن يظهر أنه فعله لأمر سياسي أو قيل إنه لم يبلغه حديث عائشة أياً كان رأي الحجاج البيت هدم أخرج الحجر جعل له باب واحد بني الركنان على قواعد إبراهيم بقي الأمر على كذلك حتى كانت خلافة المهدي أحد خلفاء بني العباس فأراد أن يعيد البيت كما بلغه و كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم .
فاستشار علماء عصره فأشار عليه مالك رحمه الله ألا يفعل ،و قال : أخشى أن يكون بيت الله بعدك ألعوبة للملوك هذا يزيد فيه وهذا ينقص منه وهذا يغير فيه فأبقى المهدي البيت على ما هو عليه استمر البيت محفوفاً برعاية حكام المسلمين و أمرائهم و علمائهم إلى عصرنا هذا ولله الحمد و المنة في عام 1401هـ
غُيرَ بابه في عهد الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله تعالى و جعل له باباً من الذهب الخالص و هو الباب الموجود حالياً لكنه بقي كما هو الأمر عليه باب واحد هذا قصة بناء البيت تاريخياً كما بينا لأننا سنمزج ما بين التاريخ و الفقه
ماذا يتعلق بالبيت من أحكام :-(27/12)
قبل أن نتعرض للأحكام نقول إن الحجر الأسود قيل إنه نزل من الجنة و قد جاء في سنن الترمذي من حديث ابن عباس :" نزل الحجر الأسود أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم " و بعض العلماء ينقلون عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال : " أن الله جل وعلا لما خلق آدم و أخرج من ظهره ذريته كما قال الله جل وعلا ( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بنا فعل المبطلون ) نقول : علي رضي الله تعالى عنه يقول : إن الله جل و علا يوم أخذ العهد و الميثاق من بني آدم كتبه جل و علا في رقه ثم ألقمه الحجر و كان للحجر عينان و أخبر أن هذا ميثاق أخذه الله على بني آدم وأن الحجر يشهد بعد ذلك لمن استلمه بصدق و لذلك تواتر عن سلف الأمة مرفوع عن النبي عليه الصلاة و السلام أن الإنسان إذا استلم الحجر و بدأ بالطواف يقول اللهم إيماناً بك و تصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك ) إيماناً بك لأن الله أمر المؤمنين أن يؤمنوا به و تصديقاً بكتابك لأن الله قال في كتابه : " ولله على الناس حج البيت " ووفاء بعهدك هذا الذي قلناه ما ذكره العلماء أن الله جل وعلا ألقم الحجر ذلك الميثاق الذي أخذه على بني آدم و قد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم قال:" إن الحجر يشهد يوم القيامة لمن استلمه بصدق " نعود إلى الأحكام الفقهية :- الطواف بالبيت من أعظم القربات و أجل الطاعات كما نص على ذلك العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله و الطواف يقع سنة و يقع ركنا و يقع واجباً و يقع نافلة مطلقه .(27/13)
يقع سنه مرغباً فيها كما في طواف القدوم للحاج ويقع ركنا و هو طواف الإفاضة و هو المقصود بقول الله جل وعلا ( و ليطوفوا بالبيت العتيق ) و يقع واجباً عند جماهير العلماء كما في طواف الوداع و يقع نافلة أن الإنسان له أن يطوف بالبيت في أي ساعة شاء من ليل أو نهار يبدأ الطائف طوافه جاعلاً البيت عن يساره مبتدأ بالحجر يكبر ثم يقول ( اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك ) ثم يطوف حتى ينهي سبعة أشواط . إن حلت الصلاة و الإنسان يطوف بالبيت فالعلماء فيها أقوال الأظهر و المختار : و الذي عليه الفتوى أن الإنسان يتوقف عن الطواف ثم يدخل مع المسلمين في الصلاة ثم بعد ذلك يبني على ما بقي من طوافه من حيث وقف ينهي ما تبقى له من طوافه.
س / هل للطواف طهارة ؟ !(27/14)
اتفق العلماء على وجوب الطهارة من الحدث الأكبر و اختلفوا في الحدث الأصغر فجماهير العلماء و أكثر المحققين على أنه يلزم الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر و ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزم الطهارة من الحدث الأصغر . و الله تعالى أعلم . و هذا التفصيل لا أظن أن أحداً يقدر على أن يتطهر و يتوضأ ثم يمتنع عن الطواف بالبيت ثم يتمنع عن ذلك قبل الطواف بالبيت لكن الأفضل أن يقال إن الإنسان لو قدر أنه في طواف الإفاضة مثلاً أو في طواف الوداع و فيه من الزحام الشديد ما الله به عليم و يعرف ذلك كل من طاف بالبيت ثم لو انتقض و ضوءه في أحد الأشواط فإننا نرى و الله تعالى أعلم أنه لا يلزمه أن يخرج ثم يتوضأ و يعيد الطواف فإن فعل فهو حسن و خروج من خلاف العلماء لكن لو لم يفعل من الصعب أن ينقض طوافه هذا ما يتعلق بالطواف بالبيت ، البيت كما قلنا له باب واحد و كان له بابان في أيام القرشين له ميزاب صنع هذا الميزاب في مصر أول ما صنع في عهد السلطان قلاوون قواعد إبراهيم هي الركنين اليماني والحجر الأسود و هما اللذان يستلمان من البيت فإن الركن اليماني يستلم و لا يشار إليه يعني إما أن يستلم وإما أن يترك و الحجر الأسود إما أن يستلم و إما أن يشار إليه أما الركنان الباقيان فلا يستلمان و لا يشار إليهما هذا الذي عليه جماهير العلماء . الحجر الذي يسمى عند الناس اليوم بحجر إسماعيل داخل في البيت بمعنى أنه لا يجوز الطواف من دونه و إنما يطوف الإنسان من وراء الحجر و هذا أمر ينبغي التنبيه عليه خاصة من يحج لأول مرة يريد أن يفر من الزحام فربما دخل من الحجر ظاناً منه أنه يطوف من وراء البيت ولا يحسن ذلك .(27/15)
المسجد الحرام ما حول البيت و قيل يطلق على مكة كلها و العلماء سلفاً و خلفاً مختلفون في الصلاة التي أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه أخبر أن الصلاة في المسجد الحرام بمائه ألف صلاة فهل المقصود بها المسجد الذي حول الكعبة أو عموم الحرم في مكة ، فذهب بعضهم إلى أن المقصود به المسجد المعروف الذي حول الكعبة المبني المحدد و ذهب كثير منهم إلى أنه كل حرم من مكة يعد داخل في عموم قوله صلى الله عليه و سلم بمائه ألف صلاة ، و ذهب إلى هذا كثير من علماء العصر منهم العلامة ابن باز رحمة الله تعالى عليه هذا ما يتعلق بالشعيرة العظمى و هي الطواف بالبيت العتيق . بعد ذلك ننتقل إلى شعيرة أخري من شعائر الدين أخبر الله جل و علا بها ثم في الأخير نجمل كيفية أن نعظم الإنسان شعائر الله؟(27/16)
الشعيرة الأخرى السعي بين الصفا و المروة . الصفا و المروة نستطيع أن نقول أنهما جبلان صغيران غير بعيدين عن البيت و لا يمكن أن يقال أنهما جبلان كبيران لأن مكة لها ثنيتان و لهما جبلان جبل أبي قبيس و جبل قَعيقُعان و لهما ثنيتان الثنيه العليا ما يسمي بالحجون اليوم، الثنيه السفلى و هي ما يسمى بكدي النبي صلى الله عليه و سلم السنة يدخل من أعلاها يخرج من أسفلها أي يدخل بالحجون و يخرج من جهة كدي هذا لمن أراد أن يطبق السنة حرفيا و قد يتعذر هذا في زماننا نعود إلى السعي بين الصفا و المروة ، هاجر عليها السلام عندما تركها إبراهيم عليه الصلاة و السلام و نفد ماؤها و سقاؤها و طعامها خرجت تلتمس لرضيعها ماء ، فوقفت على الصفا ثم توجهت إلى المروة و هي في الطريق عندما وصلت إلى ما بين العلمين اليوم الأخضرين سعيت سعي المجهود يعني أسرعت كما في صحيح البخاري في حديث ابن عباس من طريق سعيد بن جبير حتى وصلت إلى المروة ثم عادت مرة أخرى إلى الصفا و هكذا حتى وصلت إلى المروة في المرة السابعة فلما وصلت إلى المروة استمرت السابعة سمعت صوت الإنسان إذا كان وحده و سمع صوت أول عمل يعمله نفسياً يسكت حتى يريد أن يعرف الصوت منه هو و لا من شخص غيره فعليها السلام قالت : صه و سكتت فسمعت الصوت فعلمت أن الصوت غير خارجاً منها قالت : قد أسمعت لو كان عندك غواث يعني يا صاحب الصوت سمعت صوتك إن كنت تريد أن تغيثني فرفعت بصرها فإذا بالملك يحفر بجناحيه بئر زمزم فهرولت إليه و القصة معروفه موضع الشاهد :- أن الإسراع الآن بين العلمين الأخضرين المحددين في المسعى فيه إتباع لسنة تركتها هاجر قلنا سعيت سعي المجهود و قال بعض العلماء :- إن النبي عليه الصلاة و السلام لما سعى بين الصفا و المروة كانت الأرض تلك أرضاً رمليه و الأرض الرملية لا تقطع إلا بشده و ثبت عنه صلى الله عليه و سلم كما في السنن أنه قال :" لا يقطع الأبطح إلا شداً فشد" و يمكن(27/17)
الجمع بينهما أن الأصل إتباع هاجر فوافق اتباع هاجر فعل النبي صلى الله عليه و سلم و يمكن أن يقال أن تلك الحصباء من الرمل كانت منذ عهد هاجر و هي التي جعلت هاجر تسعى سعي المجهود إلى عهد النبي صلى الله عليه و سلم المهم : أننا نفعلها سنة واقتداءً لأثر سنة نبينا صلوات الله عليه و سلامه عليه .
س / كيف تعظم هذه الشعيرة ؟(27/18)
تعظم بأن الإنسان يخرج إلى الصفا من بابه للصفا باب إذا خرج من الطواف بعد الركعتين يعود إلى الحجر سنة بالاتفاق لكن صعبة الحصول في زماننا هذا ثم يتوجه إلى الصفا فإذا أقبل على الصفا قال صلى الله عليه و سلم كما روى جابر _ تلا قول الله جل و علا :- إن الصفا و المروة من شعائر الله ) ثم قال أبدأ بما بدأ الله به فبدأ بالصفا و استقبل القبلة أي البيت و كبر ثلاثاً ثم قال : لا اله إلا الله وحده لا شريك له الملك و له الحمد يحي و يميت و هو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده و نصر عبده و أعز جنده و هزم الأحزاب وحده "وروى غير ذلك ثم دعا رافعاً يديه ، فعل ذلك ثلاثاً يقطعها بالدعاء صلوات الله و سلامه عليه ثم أتى المروة ففعل على المروة ما فعل على الصفا فإذا فعل الإنسان ذلك في حج أو عمره متأسياً برسول الهدى و نبي الرحمة صلى الله عليه و سلم مخلصاً لله جل و علا معتقداً أن الدعاء على الصفا و الدعاء على المروة مظنة إجابة وسأل الله جل و علا بقلب خالص منيب فلا ريب أنها مظنه إجابة و ساعة قربة وشعيرة عظيمة نص الله جل و علا عليها في كتابه :" إن الصفا و المروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم " و هذا هدي خير من حج و اعتمر رسولنا صلى الله عليه و سلم كما نقله أصحابه عنه و بالأخص جابر رحمه الله في صحيح مسلم هذه شعيرة ما بين الصفا و المروة ننتقل إلى شعيرة أخرى و هي شعيرة مزدلفة و قد نص الله جل وعلا عليها في كتابه قال الله جل و علا ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام و اذكروه كما هداكم و إن كنتم من قبله لمن الضالين ) يوم عرفه أعظم الأيام عند الله جل و علا أو تحديداً من أعظم الأيام و الله تبارك وتعالى يخصص في الأيام فيوم عرفه أعظم في إجابة الدعاء و يوم النحر أعظم في كثرة الأعمال و ليلة القدر أفضل في كثرة العبادة و الله(27/19)
يفعل ما يشاءو يخلق ما يريد
يوم عرفة : السنة أن يقف الإنسان حتى تغيب الشمس و لا يحسن أبداً أن يخرج الإنسان من عرفه قبل أن تغرب الشمس بل ذهب مالك رحمه الله إلى أنه من فعل ذلك لا حجة له ، و الجمهور على أنه يجبر بدم ، بعد ذلك يتوجه الحاج إلى مزدلفة إذا توجه إلى مزدلفة النبي عليه الصلاة و السلام بعد أن غاب قرص الشمس تماماً أردف أسامة خلفه ثم توجه إلى مزدلفة في الطريق بال و توضأ وضوءاً خفيفاً و ركب طبعاً هذه الحجة الأولى له مع أصحابه ، الصحابه لا يعرفون ماذا سيفعل فاستعجل أسامة فذكره بصلاة المغرب فقال صلى الله عليه وسلم ( الصلاة أمامك ) أي في مزدلفة و صل النبي صلى الله عليه و سلم إلى مزدلفة فصلى بها المغرب و العشاء جمعاً جمع تأخير لأنه وصلها و قد دخل وقت العشاء ثم اضطجع و اختلفوا في صلاته صلى الله عليه وسلم يعني هل أحيا ليلة مزدلفة بوتر أو لا ، لم ينقل نقلاً صحيحاً أنه أوتر لكن هل عدم النقل دليل على أنه لم يصلِ ؟ مسألة فيما خلاف .(27/20)
ظاهر حديث جابر أنه لم يصلِ ، و ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يمنع أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى دون أن يعلم جابر أياً كان الأمر بقي عليه الصلاة و السلام حتى قبيل الصبح ثم صلى الفجر بمزدلفة بغلس ، بغلس بمعنى في أول الفجر يعني ما بعد ظهر الفجر تماماً في أول الفجر بعد دخول وقتها ثم أتى المشعر الحرام و هذا موضع الشاهد في المحاضرة المشعر الحرام جبل مبني عليه المسجد حالياً و يسمي قزح قديماً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم المشعر الحرام فأكثر من تكبير الله و تحميده و تهليله و ذكر الله جل و علا كثيراً كما أمر الله جل و علا في كتابه ووقف صلى الله عليه و سلم رافعاً يديه يدعوا حتى أسفر جداً ، أسفر بمعنى كاد ضوء الشمس أن يظهر و لم يظهر فلما أسفر جداً توجه صلى الله عليه و سلم إلى منى تعظيم هذه الشعيرة أن الناس يتعجلون في الخروج من مزدلفة و لابد أن نفرق ما بين الإجزاء و ما بين إتباع كمال السنة .(27/21)
الإجزاء :- من مكث في مزدلفة إلى منتصف الليل الثاني دخل عليه نصف الليل الثاني و هو في مزدلفة ثم انصرف منها فلا دم عليه . لكن من بقي إلى الفجر وصلى الفجر ثم وقف في أي مكان من مزدلفة لأن المشعر الحرام و إن أريد به مقاماً واحداً إلا أنه يقصد به مزدلفة كلها و يصعب على الحجاج أجمعين أن يقفوا كلهم حيث وقف النبي صلى الله عليه و سلم و قد قال :" و جمع كلها موقف " أي مزدلفة كلها موقف لكن الإنسان يقف يذكر الله يهلله يحمده يكبره رافعاً يديه يدعوا حتى يشعر أنه أسفر جداً ثم يمضي إلى منى إن طبق هذه السنة فقد عظم شعائر الله جل و علا من باب النصح الأخوي : يعني الإنسان يفرق صاحب العائلة غير من يحج لوحده ومن يحج لوحده مع شباب أقوياء ليس كمن يحج مع شباب ضعفاء الإنسان أدرى بحاله لكن لو أن إنساناً تخير حجة من حجاته يحج فيها لوحده أو مع رفقه أقوياء حتى يصيب أكثر السنة يعني يخصص عاماً من الأعوام يحج فيه حجةً يحاول أن يقتدي فيها بأكثر السنة هذا فيه خير كثير له فإن حج مع الضعفاء من النساء أو من الرجال حاول أن يأتي بما استطاع من السنة و لا يكلف الله جل وعلا نفساً إلا وسعها . هذا ما يمكن أن يقال عند المشعر الحرام ، ثم ننتقل إلى شعيرة أخرى و هي الهدي و الأضاحي قال الله جل و علا :" و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون "(27/22)
الله تبارك و تعالى غني عن كل أحد يطيعه من يطيعه فلا يزيده ذلك منفعة ويعصيه من يعصيه فلا ينقص ذلك من ملكه شيئا و يسأله من يسأله فلا ينقص ذلك من ملكه فهو العلي الكبير لكنه سبحانه حتى تبقى القلوب متوجهه إليه ابتلى عباده و ابتلاؤه على طريقين طريق أوامر و نواهي و تكاليف و طريق قدري وممن اصطفاهم الله جل وعلا و قربهم و أدناهم و أعلى منزلتهم و فضلهم خليل الله إبراهيم عليه الصلاة و السلام فهذا النبي من اصطفاء الله جل و علا له أن الله جل و علا حصر النبوة بعده في ذريته فلم يبعث أحد بعد إبراهيم إلا و هو من ذرية إبراهيم قال سبحانه ( و جعلنا في ذريته النبوة و الكتاب ) و التقديم يفيد الحصر حتى عيسي ابن مريم عليه الصلاة و السلام رغم أنه لا أب له إلا أن أمه مريم من ذرية إبراهيم الشاهد من هذا كله / إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما رزق إسماعيل نشأ إبراهيم محباً لمن ؟! محباً لإسماعيل الطفل ينتظره أبوه حتى يكبر لأن الابن إذا كبر تذهب مشقته و تأتي منفعته و لذلك العامة إذا عندك ابن يقول لك : ابنك إن شاء الله يكبر و يعوضك . يعوضك تعبك عليه مخلوف لو كبر هذا الابن و أصبح باراً و صالحاً فيك ، إبراهيم عليه الصلاة و السلام لم يبتلى بشيء في إسماعيل و هو ماذا ؟ و هو صغير لما كبر إسماعيل و اشتد عوده وأصبح قادراً على أن يذهب و يغدوا مع أبيه و قادر بإذن الله على أن ينفعه قال الله جل و علا ( فلما بلغا معه السعي ..... ) أصبح يذهب و يأتي مع أبيه أصبح رجل قريباً من أبيه ابتلاه الله جل و علا بذبح ابنه حتى نتكلم بعدها عن ذبح الهدي و الأضاحي قبل أن أتكلم عنها يتصور عقلياً ، نتصور تصور عقلي تصور شرعي و نبدأ بالتصور الشرعي ، التكليف من الله جل و علا لرسله يكون بواحد من ثلاث :- قال الله جل و علا : " و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ...... "(27/23)
فأي نبي يبعث يكلف بشيء إما أن يكلمه الله بحجاب بحيث إن النبي لا يرى ربه لكنه يكلمه كما كلم الله آدم .. كلم الله موسى .. كلم الله محمد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين أو يأتي الوحي الرسول و هو جبرائيل في الغالب أو ينفث في قلب ذلك النبي ما أراده الله جل و علا له هناك مرتبة في الوحي بعد الثلاث هذه هي مرتبة الرؤيا أن النبي يرى رؤيا و رؤيا الأنبياء حق لكن مرحلة الرؤيا هذه أضعف مراحل التكليف هذا التصور الشرعي نضعه جانباً قبل أن ننتقل للتصور العقلي ، التصور العقلي إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أو أي والد معرض لأن يفقد ابنه و صور الفقد ثلاثة :-
1- إما أن يفقد هذا الابن بموت بحادث لا علاقة للأب و لا بالناس فيه يموت ، من مرض ... يموت يسقط من جبل شاهق أو ما شابه ذلك ....
طبعاً لو حدثت هذه يصبح في الأب حزن و كمد على فقد الابن
2- المرحلة الثانية : أعلى منها : أن يقتل الولد فإذا قتل الولد أصاب الأب كمد على ابنه و أصابه كمداً و ترة على من قتله .
3- المرحلة الثالثة : أن يقتل الأب ابنه فيصبح رهين أمرين :
# فقد الابن
# و الشعور بالذنب أنه قتل الابن
وبالطبع الثالثة هذه عقلياً أعلى واحده .
إبراهيم عليه الصلاة و السلام كُلِّف بأدنى شيء و هو الرؤيا و ما كُلِّف به أعلى شيء و هو ذبح الولد و هذه فرصة لمن ؟! فرصة للشيطان لأن الشيطان سيأتي لإبراهيم و يقول له تقتل ابنك هذا لو أن الله كلمك ... لو جاءك جبرائيل لو نفث في روعك كان معقول لكن تقتل ابنك عشان شفت في المنام و رأيت في المنام أنك تذبحه هذه طريقه للشيطان لكنها وافقة قلباً هو قلب من ؟ هو قلب إبراهيم
( قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ) الإنسان ربيب ثقافته ربيب بيئته ربيب ما يراه ربيب ما يسمعه ربيب من يخالطهم ربيب من ينشأ معهم ، إسماعيل عليه الصلاة والسلام نشأ في بيت أبيه في بيت إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما قال له أبوه :
((27/24)
يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك قال يا أبت افعل ما تؤمر )
و لم يقل : ( يا أبت افعل ما تريد ) لو قال : افعل ما تريد صار ابناً محبا لأبيه لكن لما قال ( يا أبت افعل ما تؤمر ) صار عبدا محباً لربه عز وجل .
و هذا هو المقصود من الدين كله أن يبقى قلبك لله جل و علا وحده ، لا يبقى في قلبك مع الله جل و علا أحد و هذا الذي أراده الله جل و علا من تعظيم شعائره (قال يا أبت افعل ما تؤمر) فأراد إبراهيم أن ينجز أمر ربه لما قال : إسماعيل هذا أسلم نفسه لمن ؟ لله و لما همَّ إبراهيم بالذبح أسلم قلبه لله و قد قلت إن هذا هو المقصود كله من الدين فلما تم المقصود لم يبقَ حاجة أن يراق دم إسماعيل ، قال الله جل وعلا ( فلما أسلما و تله للجبين * و ناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * و فديناه بذبح عظيم * و تركنا عليه في الآخرين )
أنا و أنت و الأمة كلها تضحي ( و تركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين )(27/25)
هذا الفعل الذي كان من أبي الأنبياء عليه الصلاة و السلام تركه الله جل و علا سنة ماضية فأمر الله جل و علا بالأضحية و أمر تبارك و تعالى بالهدي ، فالهدي و الأضحية لا يراد منها إراقة الدماء و إنما يراد أن يسلم الإنسان قلبه لله عن طريق إراقة الدماء تقرباً لله جل و علا ( لن ينال الله لحومها و لا دماؤها و لكن يناله التقوى منكم ) و شتان بين من تنحر أضحيته و هو لا يدري حتى ما لون الأضحية و ما شكلها و شتان من يقف على الأضحية أو يباشر الذبح بنفسه أو أن كان لا يعرف يذبح يقف عليها و يراها و هي تهرق و مع كل قطره من دمها تخرج يتمنى من الله جل وعلا أن يقبلها و كل صوف منها يسلخ يتمنى من الله جل و علا أن يكتب له بها حسنات و كل لقمة منها يطعم بها أهله أو يهديها إلى صديق أو يعطيها إلى مسكين يتمنى من الله جل و علا أن يثيبه عليها أعظم الأجر و الثواب هذا عظم الشعيرة التي أرادها الله كما أخبر الله و كما أمر رسوله صلى الله عليه و سلم ، و لا يعني ذلك أنها لو ذبحت و أنت لا ترى أنها غير مجزيه نحن لا نتكلم في أدنى الكفاف و أدنى المطلوب و إنما عنوان المحاضرة :" تعظيم شعائر الله " و المقصود ما الذي يبلغ بقلب المؤمن المنازل العالية عند الله جل وعلا و منافسة الأقران من الأخيار و منزلة الصديقين في الأمة هو إتباع سنة نبينا صلى الله عليه و سلم وإتباع سنة أبي الأنبياء عليه الصلاة و السلام ، النبي عليه الصلاة و السلام محفوف مخدوم ، أصحابه أعظم الناس له طوعا و مع ذلك يباشر ذبح أضحيته بيديه و يضع قدمه عل صحافهما و يأخذ المديه ثم يشحذها أي يسنها ثم يسمي الله و يكبر و يقول ( بسم الله الله اكبر اللهم هذا منك و إليك اللهم تقبل من محمد و آل محمد ) ثم يضحي الثانية ويقول : اللهم و هذا عمن لم يضحي من أمة محمد كم من الأخبار تقرأها في السيرة بعث أسامة ... بعث بلال ... أرسل أبي بكر .... دعا عليا ....(27/26)
بعث زيداً لكن في هذه الشعيرة باشرها صلى الله عليه وسلم بنفسه و نفذها عليه الصلاة والسلام بيده ، ولو قيل إنه نفذها مرة واحدة باشر الذبح بنفسه مرة واحدة لقلنا لبيان الجواز لكنا أنساً يقول : عشر سنين و النبي صلى الله عليه و سلم يضحي بيديه عليه الصلاة و السلام ينزل من المنبر يذهب إلى بيته يأخذ الأضحية يضحي صلى الله عليه و سلم بيديه الطاهرتين الشريفتين هذا يا أخي معنى تعظيم شعائر الله جل و علا على هذا يقال : إن شعائر الله جل و علا الهدي و الأضاحي أما الهدي ما يهدى إلى البيت و هو على قسمان : 1/ هدي واجب 2/ هدي نافلة
و الهدي الواجب ينقسم إلى قسمين أيضاً 1/ واجب للنسك ذاته كما في هدي التمتع و هدي القران 2/ وواجب و هو عند فعل المحظور إذا اختاره أو عند ترك واجب . أما النافلة أن يهدي الإنسان إلى البيت حتى لو لم يكن حاجاً و لا معتمراً فالنبي عليه الصلاة و السلام أهدى إلى البيت مائة ناقة و هو عليه الصلاة والسلام لم يحج في سنة تسع بعثها مع أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه و قد قال الله جل و علا :" و البدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف ....." صواف : يعني قائمة و الأصل : أنه يطلق على الخيل لكنه انتقل إلى الإبل مجازاً لأن الإبل تنحر قائمة معقولة يدها اليسرى و قد رأى ابن عمر كما في صحيح مسلم و غيره ( رأى رجلاً يذبح بدنة و هي باركة فقال : قم و اجهلها قائمة معقولة سنة نبيكم" صلى الله عليه و سلم)(27/27)
هذا الهدي الذي يساق إلى مكة ينبغي أن يذبح أين ؟! يذبح في الحرم قال الله جل وعلا :( ثم محلها إلى البيت العتيق ) و المراد بالبيت العتيق هنا / مكة كلها الحرم من مكة بمعنى :- لو نحر في مكة لو نحر في منى لو نحر في مزدلفة صح النحر لكن لا يصح في عرفات ولا يصح في الجعرانه لأنهما حل و لا يصح في أي حل آخر إنما يصح في الحرم نفسه كما أخبر صلى الله عليه و سلم ( نحرتها ها هنا وفجاج مكة كلها منحر ) هذا الهدي كما قلنا : المقصود منه التقرب إلى الله جل وعلا و كانت تشعر بمعنى : تودج قليلاً في سنام الإبل من الجهة اليمنى حتى يهرق الدم فيعرف من يراها أنها يراد بها القربة إلى الله جل و علا أو توضع عليها القلائد من جلد و هذه القلائد لا لتجلب منفعة و لا لتدفع مضرة لأنه لا يجلب النفع و لا يدفع المضرة إلا الله و إنما هذه القلائد حتى يعرف أنها يقصد بها وجه الله جل و علا فلا يقربها أحد و تعظم فتصبح شعيرة ثابتة منقولة يراها الحاضر والباد معظمين لها قال الله جل و علا :" لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام ولا الهدي و لا القلائد و لا آمنين البيت الحرام ..) فالهدي المقصود به في الأول الهدي غير المقلد أما القلائد المقصود به :- الهدي المقلد الموضوع عليه قلادة تميزه عن غيره حتى يعرف أنه أريد بها وجه الله جل و علا فلا يقربها أحد .(27/28)
كذلك الأضاحي في البيت من تعظيم تلك الشعيرة أن تسمن و أن يختار الإنسان أنفسها و أطيبها و أغلاها و ما تجزيء منها وجوباً :- الثنية من المعز و هو ما تم له سنة و من الإبل ما تم له خمس سنين و من البقر ما تم له ثلاث سنوات ومن الضأن ما تم له ستة أشهر فما فوق و يسمى جذعه و هذا فيه خلاف بين العلماء أما وقت النحر فلا نحر إلا يوم العيد بعد ارتفاع الشمس قيد رمح فأهل الأوطان غير الحجاج بعد صلاة العيد أما غيرهم لأنه لا صلاة عيد على الحجاج بعد ارتفاع الشمس قيد رمح يبدأ المسلمون بنحر هديهم و نحر أضاحيهم قربة إلى الله جل و علا يجوز أن يأكل الإنسان من هديه كما يجوز له أن يأكل من أضحيته قال الله جل وعلا ( فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر ) ولو لم يأكل منها صح ولو أكلها كلها أجزأت لكن المفضل عند العلماء أن يجعلها أثلاثاً ثلثاً يأكله وثلثاً يهديه وثلثاً يتصدق به على الفقراء والمساكين هذا أطيب وأنفع ولو أطعم بها خاصة أهله وأصحابه كأصحاب البناء الواحد جاز ذلك .
هذا أيها المؤمنون مجمل من شعائر الله جل وعلا التي أردنا بيانها . على أننا ننبه أن شعائر الله ليست محصورة فيما ذكرناه ، الأذان شعيرة ، صلاة العيدين شعيرة ، إقامة صلاة الجماعة شعيرة ، كل ذلك من شعائر الله التي أمر الله جل وعلا بها ودعا إليها .
سائلين الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم ما قلناه وما سمعتموه وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم ، وسأجيب على بقية الأسئلة في خمس دقائق ثم ننهي المحاضرة فربما بعضكم صائمين يريد أن يأكل ... يطعم قبل دخول صلاة العشاء أو ربما بعضكم يريد أن يذهب إلى الحرم نحاول أن نجمع مابين المحاضرة واستثمار الوقت .
س/ هل الأفضل إذا طلع الصفا أن يقرأ الآية أم الدعاء الذي ذكرت ؟
ج/ يقرأ الآية مرة واحدة وهو ذاهب إلى الصفا يقول : " إن الصفا والمروة من شعائر الله " أبدأ بما بدأ الله به ثم لا يتلوها بعد ذلك .(27/29)
س/ ما حكم من أراد أن يحج هذه السنة مع العلم أنه حج العام الماضي ؟
ج/ من حج تقبل الله جل وعلا منه .
س/ ما هي مواطن إجابة الدعاء في الحج ؟
ج/ كثيرة : أثناء الطواف ، على الصفا والمروة ، بعد رمي الجمرات الصغرى والكبرى ، في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر هذه كلها من مواطن إجابة الدعاء .
س/ هذا يتكلم عن تفسير رؤيا وليس لنا في تفسير الرؤيا نصيب .
هذا ما أردنا بيانه سائلين الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم . ...(27/30)
محاضرة
حالنا في رمضان
للشيخ صالح المغامسي
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى له الأمر كله وله الحمد كله وله الملك كله وإليه جل وعلا يرجع الأمر كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب غيره ولا إله سواه يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فجعله ربه بفضل منه ورحمة خير أهل أرضه وسماواته اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار المبلغين عن الله دينه والناشرين له كلماته اللهم وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين .... أما بعد أيها المؤمنون فاللهم هذا شهرنا قد ظهرت أنواره اللهم هذا شهرنا قد بدت بشائره وحل على الدنيا هلاله اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه واجعلنا اللهم فيه من عبادك المقبولين المخلصين برحمتك يا أرحم الراحمين أيها المؤمنون:
سلام من الرحمن نحو جنابكم*** فإن سلامي لا يليق ببابكم
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الأخوة المؤمنون قدمتم تتساءلون عن رمضان وعن حال المسلم فيه وماينبغي للمؤمن أن يكون عليه في نهار رمضان ولياليه وهل حال المسلمين في رمضان إلا قلوب خفاقة وعيون مهراقة وأنفس إلى لقاء ربها مشتاقة وهل حال المسلمين في رمضان إلا دعاء وصلاة وصدقات وزكاة وتسبيح وتهليل وذكر لربها ومناجاة وهل حال المؤمنين في رمضان إلا توبة واستغفار وتشبه بالأبرار واقتفاء لهدى ومنهج سيد الأخيار صلوات الله وسلامه عليه.
في رمضان أيها المؤمنون أنزل الله القرآن ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم يوم الفرقان.
في رمضان أعز الله جنده وأنزل الله كتابه ونشر الله كلمته وأنزل الله فيه ليلة ولا كل الليالي كما أن رمضان شهر ولا كل الشهور.
أيها المؤمنون:(28/1)
للمؤمن مع رمضان أحوال متعددة تندرج من الأدنى إلى الأعلى:
أول أحوال المؤمن مع رمضان: التذكر والتفكر في عظمة الخالق جل جلاله فكم مر على الناس قبلنا من شهور عديدة وأزمنة مديدة وقرون متعاقبة وأيام متواصلة منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم وسيبقى الأمر كذلك إلى قيام الساعة سنن لا تتبدل وصبغة لا تتغير { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } فسبحان من أحكم الصنعة وأبدع الخلق وخلق كل شيء فأحكم خلقته سبحان من يحكم مايشاء ويفعل مايريد سبحان من نعت نفسه العلية بقوله {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وكم أحدثت عظمة الله في قلوب أصحابها من إقبال على الطاعات وإحجام عن المعاصي والسيئات وكم أحدثت عظمة الله في قلوب المؤمنين من إقبال عن الله وإعراض عما نهى عنه جل وعلا وكم أعقبت لهم عند ربهم من خاتمة حسنة ومرد غير مخزي ولا فاضح وبشرى من رب العالمين وأرحم الراحمين جل جلاله صح عنه صلى الله عليه وسلم كما عند ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مررت ليلة أسري بي بريح طيبة فقلت ماهذه الريح الطيبة ياجبريل ؟ فقال : هذه ريح ماشطة ابنة فرعون قلت وما ماشطة ابنة فرعون فقال : إن ماشطة ابنة فرعون كانت تمشط لابنة فرعون شعرها فسقط المشط من يديها فتناولته قائلة بسم الله فقالت لها ابنة فرعون هذا أبي قالت لا ولكنه ربي وربك ورب أبيك قالت أولك رب غير أبي قالت نعم ربي وربك الله قالت إذا أخبر أبي قالت أخبريه فلما أخبرت الفتاة أباها أحضر فرعون هذه(28/2)
المرأة بين يديه وسألها قائلا ألك رب غيري قالت نعم ربي وربك الله الذي في السماء فلما قالتها قال لها أمر أن يوقد لها....... أي إناء من نحاس فيه نار وأن تلقى فيه
فقالت إن لي إليك حاجة قال وماهي قالت أن تجمع بيني وبين عظام أبنائي فقال هذا لك لما لك علينا
من الحق فأخذ يقلي أبناءها واحدا بعد الآخر والمرأة صابرة محتسبة حتى بلغ الابن الأخير منهم فقال يا أماه اصبري فإنك على الحق " وما أقبلت تلك المرأة الصالحة على هذا العمل وأمثاله من الصالحات إلا لما استقر في قلبها من عظمة الجبار جل جلاله وما استقر في قلبها من ملكوت وتنزيه الجبار جل جلاله عما لا يليق به فسبحان من أحسن كل شيء خلقه وبدا خلق الإنسان من طين فأول أحوال المؤمن في رمضان أن يتذكر في مرور الليالي ووالأيام وتقلب الدهور والأعوام الخالق الباري الذي خلق هذا الخلق وسيره كيفما يشاء لا يعزب عنه فيه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء .(28/3)
أما ثاني أحوال المؤمنين في رمضان: فإنهم ما إن يبدوا هلاله إلا وهم ينظرون إليه كما نظر إليه من قبل سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون كما أثر عنه " ربنا وربك الله اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام " فإذا ذكروا ذلك خافوا على أنفسهم أن لا يوفقوا في هذا الشهر إلى عمل صالح خافوا على أنفسهم أن يغتنمهم الأجل قبل أن يتموا صيام شهرهم خافوا على أنفسهم أن يردوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله خافوا على أنفسهم أن يكون حظهم من صيامهم النصب والتعب خافوا على أنفسهم أن لا تقبل لهم طاعة ولا يرفع لهم كلمة طيبة ولا عمل صالح فلجأوا إلى رب العالمين جل جلاله لجأوا إلى من فرج عن موسى وهارون وأنجى ذا النون أن يوفقهم إلى الأعمال الصالحة برحمة منه وفضل وأن يتقبلها منهم برحمة منه وفضل{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} إن العبد إذا فر عن الله وأعرض عن ذكره فقد أوكل نفسه إلى هواها وأوكل نفسه إلى ذاته الضعيفة وأوكلها إلى من لا حول له ولا طول ولا قوة ولكن اللبيب العاقل إذا فر من الله فر إليه ولا ملجأ من الله إلا إليه وما رمضان إلا مظهر ظاهر ومعلم بين من مظاهر رحمات ربنا جل جلاله بعباده فالله تبارك وتعالى خلق الرحمة وجعلها مائة جزء جزءا واحدا منها يتراحم به الخلق
حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه من تلك الرحمة وأبقى جل جلاله تسعا وتسعين جزءا ادخرها تبارك وتعالى لعباده يوم القضاء والفصل وكما قلنا سلفا إن رمضان مافيه من نفحات إلهية و مافيه من رحمات ربانية مظهر من مظاهر رحمة الله جل وعلا بعباده .(28/4)
ألا وإن من أحوال المسلمين في رمضان: أن يعلموا أن الصوم أبين خصاله وأهم مايمكن أن يقدم عليه المؤمن من عمل خاص في رمضان والصوم أيها المؤمنون من أجل القربات ومن أعظم الطاعات فقد صام نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يفرض عليه صيام رمضان وجاء في الآثار الصحيحة أن موسى عليه الصلاة والسلام لما واعده ربه أربعين ليلة صام تلك الأيام حتى يتهيأ للقاء الله تبارك وتعالى وصام أنبياء الله من قبل كما صام المسلمون الحنفاء من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ولقد نادانا ربنا في القرآن نداء كرامة لا نداء علامة فقال جل جلاله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }فأوجب الله جل جلاله على المؤمنين صيام هذا الشهر وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه " وفي الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال قال الله تعالى " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " "والصوم جنة فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم للصائم فرحتان يفرحهما يفرح بفطره إذا أفطر ويفرح بصومه إذا لقي ربه " وفي رواية لمسلم " كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " وفئام من الناس اليوم عفا الله عنا وعنهم لم ينظروا إلى رمضان إلا أنه تغيير في البرنامج اليومي وتبديل في البرنامج الزمني فيقضون نهار رمضان في سحابة نوم متواصل ويقضون ليله والعياذ بالله في لهو وعبث متواصل ويظنون بذلك أنهم قد أدوا ماعليهم وأنهم صاموا وأين هم من آثار وهدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه لقد كان نبينا ....... العشرين الأول من رمضان مابين صوم ونوم أي في الليل ويتفرغ(28/5)
صلوات الله وسلامه عليه في العشر الأواخر للصيام في النهار والعبادة والقيام والذكر والتهليل والدعاء والمناجاة والتسبيح في الليل والمقصود من ذلك أن يعلم المؤمن أن رمضان أيها المؤمنون باب عظيم من أبواب الجنة وطريق بين إلى رضوان رب العالمين جل جلاله وإن من رحمت الله بك أيها الأخ المؤمن وأيتها الأخت المؤمنة أن يبلغك الله شهرا كرمضان وانظر إلى من هم اليوم تحت الثرى وفي طيات المقابر كيف لا يستطيعون أن يخرجوا منها أبدا ولا أن يقدموا لأنفسهم عملا صالح لا في رمضان ولا في غيره وأنت ربك قد اصطفاك وبلغك رمضان وأرشدك إلى معالم الحق وبين لك مواطن الطاعة وبين لك مواطن المعصية بين لك مواطن الطاعة لتأتيها وبين لك مواطن المعصية لتحجم عنها { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } وهذا أمر بين وجلي واضح .
ولكن ينقص الناس اليوم أمران :(28/6)
الأول:اليقين بلقاء الله تبارك وتعالى وإنه إذا رزق العبد اليقين بلقاء الله جل وعلا هانت عليه الأعمال وسهل عليه طاعة ربه جل جلاله كان أبو حازم من السلف يمر في السوق على الجزارين فيقولون له هلم لتشتري اللحم يا أبا حازم فيقول لا أملك دنانير ولا دراهم فيقولون نصبر عليك فيقول إن كانت المسألة مسألة صبر فأنا أصبر حتى أدخل الجنة يقينا بلقاء الله تبارك وتعالى فالله جل جلاله خاطب سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم بقوله { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}والله جل جلاله يقول حتى يورث في قلوب المؤمنين اليقين بلقائه{ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) } فإذا وقر في القلوب هذا سهلت الطاعات سهل إتيان المساجد
سهل القيام بين يدي الله سهل الصبر على النصب والتعب والعطش وما يكون من وراء الصيام من جهد ومشقة.(28/7)
والذي ينقص الناس ثانيا: الهمة العالية والعزيمة على العمل الصالح الرشيد فإن انتشار العلم اليوم قد بين للناس كثيرا من أمور دينهم ولكن كما أثبتنا ينقص الناس اليوم الهمة والعزيمة على طاعة الله جل وعلا والإنسان إذا كان عالي الهمة ينظر وراء الأفاق ينظر فيما وراء الغيب يطمع فيما عند الله لا ينظر إلى الدنيا ولذاتها ولا إلى الشهوات التي ستنتهي فإن الدنيا بأسرها نعمة زائلة وزهرة حالة لا محالة صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في غزاة له فأطعمه أعرابي وأكرمه فقال له عليه الصلاة والسلام:"اعهدنا وأتنا" يريد أن يكافئه على صنيعه فحدث أن جاء ذلك الأعرابي إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال له صلوات الله وسلامه عليه:" سلني حاجتك فقال يارسول الله ناقة وأعنز يحلبها أهلي فقال عليه الصلاة والسلام:" عجز هذا الرجل أن يكون كعجوز بني إسرائيل قالوا يارسول الله وما عجوز بني إسرائيل فقال صلى الله عليه وسلم إن الله لما أمر موسى أن يسري بقومه ليلا ضل الطريق فقال ما هذا فقال له الملأ من بني إسرائيل العلماء منهم إن يوسف عليه السلام قد أخذ علينا العهد والميثاق أن إذا رحلنا عن أرض مصر أن نأخذ عظامه معنا فقال ومن يدلني على قبر يوسف قالوا لا يعلم قبر يوسف إلا عجوز منا فلما قدمت بين يدي موسى قال دليني على قبر يوسف قالت لا أدلك عليه حتى تؤتيني حكمي قالت وما حكمك قالت أن أكون مرافقتك في الجنة فكأن موسى استثقل هذا فلما أصرت عليه قال لها ذاك لك ودلته على قبر يوسف وموضع الشاهد منه أن هذه المرأة لم تطلب أمرا دنيويا ولا منصبا تتفاخر به على غيرها من النساء ولا زينة مما يتحلى به النساء عادة ولكنه كان جل همها وتفكيرها وعزيمتها وجهدها منصب على أن تنال حظا أخرويا من الله تبارك وتعالى وقد حدثت لها هذه الفرصة ونظير هذا ما أخرجه مسلم في الصحيح من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله(28/8)
تعالى عنه أنه كان يخدم رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم من باب المكافئ يا ربيعة سلني حاجتك قال يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قال هو ذاك يارسول الله فقال له عليه الصلاة والسلام فأعني على نفسك بكثرة السجود والمقصود من هذين الشاهدين أن المؤمن ينبغي عليه أن يكون ذا نظرة أخروية يفكر ويؤمل فيما عند الله أما متاع الدنيا فإن حدث بلا جهد ولا مشقة فلا حرج ولا ظير ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء أما أن يكون الدين هو الضريبة لنيل المتاع الدنيوي فلا وألف لا لأن الدنيا ستفنى وما عند الله أيها المؤمنون خير وأبقى وقد تواتر عن سلف الأمة ما يدل على أنهم كانوا ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله جل وعلا فقد جاء رجل إلى عبيدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أخو عبدالله بن عباس وكان من أشد الناس سخاء فأعطاه ألف دينار واعتذر إليه على أنها قليلة فسمع به رجل آخر فقدم المدينة وكان عبيدالله جالسا وهذا السائل مايدري أن هذا هو عبيدالله فسأله فأعطاه ألفي دينار واعتذر إليه فقال له الرجل إن كنت أنت عبيدالله بن عباس فأنت اليوم خير منك أمس وإن لم تكن أنت عبيدالله بن عباس فوالله إنك لخير منه ولم يكن عبيدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ينشد من هذا الرجل مدحا ولا ذما ولكننا سقنا هذا الأثر للدلالة على أي نفس كانت لديهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ورحمهم وغفر لهم وألحقنا بهم في الصالحين في قضية إعطاء أهل المسكنة والفقراء.(28/9)
أيها المؤمنون كذلك من أحوال المسلمين في رمضان: ذكر ربهم تبارك وتعالى ولا ريب أن ذكر الله أنس السرائر وحياة الضمائر وأقوى الذخائر على الإطلاق يقول جل جلاله { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } وإن الإنسان لا يلهج بذكر أحد إلا إذا بلغت محبته في القلب محبة عظيمة فمن كان يحب الله حبا يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته ولا يقدم على حب الله حب أحد كان طبعيا وبدهيا أن يلهج لسانه بذكره ولكن المغرقين في الشهوات والعاكفين أمام شاشات التلفاز والمستمعين إلى ما حرم الله هؤلاء غالبا
ليس في قلوبهم إلا ما يبتغيه الشيطان ويريده أصحاب الفجور ويرتضيه أهل الهوى فلذلك من البدهي أن
يقل على ألسنتهم ذكر الله تبارك وتعالى فالذي ينبغي أن يحرص عليه المؤمن في المقام الأول أن يجنب نفسه المواطن والمنازل والأماكن التي تلهي عن الله لأنها إن ألهت عن الله ألهت عن ذكره وينبغي عليه أن يحرص على أن يرتاد الأماكن التي فيها إيحاء لذكر الله كالمساجد والصلوات وحلقات العلم ومواطن المحاضرات والجلساء الصالحين فإن تلك المواطن مما تعين المرء على ذكر ربه.
أما كيف يذكر المؤمن ربه؟(28/10)
فإن قراءة القرآن ذكر والصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر وتهليل الله وتسبيحه وحمده والثناء عليه ودعاءه نوع من الذكر وأعظم الذكر على الإطلاق قول لا إله إلا الله لما في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه:" أن موسى سأل ربه قال يارب قل لي كلمة أدعوك وأذكرك بها فأوحى الله إليه ياموسى قل لا إله إلا الله قال يارب كل عبادك يقولون هذا فأوحى الله إليه ياموسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله" كما أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أحب الكلام إلى الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" وجاء في فضل سبحان الله وبحمد سبحان الله العظيم ما جاء من الفضل وهذا أمر مشتهر ظاهر بين منتشر بين الناس ولكن كما قلنا في الأول ينقص الناس العزيمة والأوبة والبذل لذكر الله تبارك وتعالى ولهج هذا اللسان بذكره فقد أوصى نبينا صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بقوله " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله تبارك وتعالى "
ينبغي أن نقول في خاتمة محاضرتنا هذه:
أن في شهر رمضان تجدد كثير من المسؤوليات تجدد مسؤولية الأب المسلم مع أبناءه في أن يدلهم على الخير ويحثهم على مواطن الرشاد ولا يكن هم الرجل المؤمن أن يتخلص من أبناءه بحجة أنه يريد أن(28/11)
يتفرغ للعبادة بل إنه ينبغي عليه أن يعلم أبناءه بنين وبنات مالي هذا الشهر من مكانة في الدين كما يتجدد في شهر رمضان مسؤولية المرأة المسلمة فإن المرأة المسلمة من الواضح الجلي في هذا العصر أنها أصبحت مرمى وهدفا ظاهرا بينا لأعداء الملة ودعاة الفجور وأرباب الهوى وما تبثه القنوات الفضائية عبر الأفلام والأغاني والبرامج في كثير منها لا يختلف عليه اثنان في أن المراد منه إخراج المرأة المسلمة العفيفة من خدرها وجعلها كنساء الغرب الذين لا يرقبون في الله إلا ولا ذمة ولا ريب أن هذا الهدف هدف خطير والتصدي له ليس واجب الدولة فقط وليس واجب الولاة أو العلماء فقط ولكنه واجب الجميع كل بحسبه ونبينا صلى الله عليه وسلم كان شفيقا حادبا على الأمة كما هو معلوم ولذلك نقل عنه في الصحيح صلوات الله وسلامه عليه:" أنه استيقظ ذات ليلة فقال يا سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وما فتح من الخزائن أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم" ثم قال:" أيقظوا صواحب الحجرات ـ أي النساء ـ فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة" ومايرتديه النساء من ألبسة اليوم حذر منه صلى الله عليه وسلم بقوله " صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات عليهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " فهذان الأثران عن المعصوم صلى الله عليه وسلم موعظة وتبليغ وذكرى لنساء المؤمنين وأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا في أن يتقين الله تبارك وتعالى في السر والعلن وأن يخشينه في الغيب والشهادة وأن يعلمن أن ماطولب به الرجال من الطاعات الأصل أن النساء مطالبين به إلا أن يستثني ذلك دليل فكون المرأة تخرج إلى الصلاة غير متطيبة ولا متزينة متبرجة هذا أمر حسن محمود قال صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ويلعب الرجل المؤمن الحصيف العاقل(28/12)
دورا كبيرا في هذا الأمر فإذا كان الرجل كلما دخل البيت أو غدا سأل عن الطعام وسأل عن الأثاث وسأل عن تغيير الفرش وسأل عن ماشابه ذلك انشغلت المرأة بذلك حتى ترضى زوجها ولكن
إذا كان الرجل إذا دخل لا يسألها إلا عن الأبناء صلوا أولم يصلوا صاموا أو لم يصوموا سألها عن البنات
كم قرأنا من القرآن كم حفظنا من الأحاديث انصرف جهده المرأة إلى رعاية أبنائها وبناتها وفهمت أيضا أن المراد بها نفسها وهذا أمر ينبغي أن يحرص الناس عن طريق الكلمة الطيبة والنصيحة السديدة والتآلف والتآخي بأن نسد جميعا تلك الثغرة التي يريد أعداء الإسلام أن يجعلوها ظاهرة بينة في الأمة وأن يصلوا من خلالها إلى هدم القيم والمبادئ والأخلاق نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ورحمته التي وسعت كل شيء أن يبلغنا رمضان ويعيننا على صيامه وقيامه اللهم إننا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت لك الحمد في الأولى والآخرة أنت الله لا إله إلا أنت لا تدركك الأبصار ولا تحيط بك الظنون ولا تراك في الدنيا العيون نسألك اللهم ربنا بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تبلغنا رمضان وأن تعيننا على صيامه وقيامه وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد."
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(28/13)
خطبة " حالنا في رمضان "
للشيخ: صالح المغامسي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى له الملك كله وله الحمد كله وإليه يرجع الأمر كله{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} وأشهد أن لا إله إلا الله لارب غيره ولا إله سواه لواء وشعار ودثار أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته رفع الله له ذكره وشرح الله له صدره ووضع الله عنه إزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم عليه اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار وعلى من سلك مسلكهم واقتفى آثارهم إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أما بعد أيها المؤمنون فهذه بشائره قد أطلت وهذه أنواره قد حلت شهر ولات الشهور شهر أوجب الله صيامه وشرع الله قيامه نصر الله فيه جنده وأنزل الله فيه كتابه وأعز الله فيه الإسلام وأهله.
عباد الله :
إن رمضان شهركم أهل الإسلام وفخركم يا أمة القرآن قدمتم اليوم تتساءلون عن حال المسلم فيه وتتساءلون ماينبغي أن يكون عليه المؤمن في نهار رمضان ولياليه.
عباد الله :
وهل حال المسلمين في رمضان إلا قلوب مشتاقة ودموع مُهراقَه وأعين إلى لقيا ربها جل جلاله مشتاقة حال المسلمين في رمضان دعاء وصلاة صدقات وزكاة حال المؤمنين فيه توبة واستغفار وتهليل وذكر للواحد القهار وسير على منهج وهدي سيد الأخيار صلوات الله وسلامه عليه.
عباد الله :(29/1)
لقد شرع الله لكم صيام رمضان وقيامه وللمؤمنين مع هذا الشهر أحوال خاصة ينجيهم الله بها ويرشدهم الله إليها ويجزيهم تبارك وتعالى عليها فأول ماينبغي علمه أن يعلم المؤمن أن أعظم أحوال المؤمنين مع رمضان التدبر والتفكر في عظمة الخالق جل جلاله فكم مر على من كان قبلنا من الناس رمضانات عديدة وأزمنة مديدة منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم وسيبقى الأمر كذلك إلى قيام الساعة سنن لا تتبدل وصبغة لا تتغير تنبئ عن عظمة الجبار وعن عظمة وملكوت الواحد القهار{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فسبحان مصرف الليالي والأيام ومكور الليل والنهار اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :
ألا وإن من أحوال المسلم في رمضان أن يعلم يقينا أن هذا الشهر الكريم مظهر من مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى بعباده ففيه ترفع الدرجات وتكفر السيئات وتضاعف الحسنات وتفتح أبواب الجنات ففي المسند من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلها خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله لهم كل يوم جنته يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصلوا إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا(29/2)
يخلصون في رمضان إلى ماكانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة قيل يارسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا إنما يوفى الأجير أجره إذا قضى عمله " ففي رمضان تتجلى رحمات رب العالمين جل جلاله أيام معدودات كم فيها من النفحات الربانية وكم فيها من الرحمات الإلهية فقل للمعرضين عن الله ورحمته من سيُآنس غدا في القبور وحشتكم ومن سيرحم غدا تحت الثرى غربتكم اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :
هذا وإن من أحوال المسلم في رمضان أن يعلم أن شهرا كرمضان لا يستقبل بالقناديل المضيئة ولا بالمسابقات السنوية ولا بالبرامج الدعائية ولكن شهرا كرمضان لا يستقبله المسلم بأعظم من توبة صادقة نصوح وأوبة خالصة إلى رب الملائكة والروح فالتوبة أيها المؤمنون وظيفة العمر أمر الله بها عباده ونعت الله بها أوليائه ووصف الله بها أصفيائه فقل للجامعين المال من غير حله كفاكم ماجمعتم فإن الله مطلع عليكم وقل للعاكفين على الزنا والفجور والفحشاء توبوا إلى الله فإن الله يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وقل لمن ملئت قلوبهم حقدا وحسدا وبغضاء توبوا إلى الله فقد كفاكم ما أفسدتم وقل للشباب الذين يؤذون المؤمنات ويلمزون الغافلات إن الموت يطلبكم والله جل جلاله سيسألكم وقل للمؤمنات الغافلات عن الله وذكره والعاكفات على ماحرم الله جل وعلا وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم قل لهن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن ومافتح من الخزائن أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها أيقظوا صواحب الحجرات فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله " صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس
ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات عليهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها "
عباد الله:(29/3)
أيها المؤمنون هذا شهر التوبة فإن لم نتب في شهر رمضان فمتى نتوب وإن لم نرجع إلى الله في مثل هذا الشهر فمتى نؤوب فالله الله يا أخي ويا أختاه ولنتذكر جميعا وليتذكر كل فرد منا غدا إذا ذهبت لذته وبقيت حسرته إذا انقطع أمام الله جوابه وشهدت عليه جوارحه بما قدم وأخر ورد في بعض الآثار أنه يؤتى بالرجل العاصي يوم القيامة يؤتى بالعاصي يوم القيامة رجلا كان أو امرأة فتغلب عليه شقوته فيقول يارب لا أقبل شاهدا إلا من نفسي فيختم الله على لسانه فتنطق جوارحه بما صنع تقول العين أنا إلى الحرام نظرت وتقول الأذن وأنا إلى الحرام استمعت وتقول اليد وأنا إلى الحرام تناولت حتى تقول القدم وأنا إلى الحرام مشيت ويقول الفرج عياذا بالله وأنا فعلت وفعلت وفعلت فيقول الملك الذي على اليسار وأنا اطلعت وكتبت فيقول الملك الذي على اليمين وأنا اطلعت وشهدت فيقول رب العالمين جل جلاله وأنا اطلعت وسترت ثم يقول يا ملائكتي خذوه ومن عذابي أذيقوه فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ(29/4)
الْمُعْتَبِينَ} اللهم بلغنا رمضان وارزقنا فيه توبة خالصة نصوح.
عباد الله :
ألا وإن مما شرعه الله لكم في رمضان صيام نهاره فلقد ناداكم ربكم في كتابه نداء كرامة لا نداء علامة فقال جل جلاله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} والصيام في ذاته من أعظم القربات وأجل الطاعات فلقد صام نبي الله موسى أربعين يوما وهو يتهيأ للقاء ربه جل جلاله وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " " والصوم جنة فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يسخط فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم للصائم فرحتان فرحة إذا أفطر يفرح بفطره ويفرح إذا لقي ربه بصومه " وفي رواية لمسلم " كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " وفي الحديث المتفق عليه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال : "من صام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر الله له ماتقدم من ذنبه" فصوموا شهركم أيها المؤمنون إستجابة للأمر الرباني العظيم وتقربا إلى الله وزلفى بهذا العمل الصالح الذي دأب عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وأعلموا عباد الله أن فئاما من الناس اليوم يقضون نهارهم في نوم متواصل ويقضون ليلهم في لهو وعبث وتكاسل وأمثال هؤلاء لم يعرفوا من رمضان إلا تبدلا وتغيرا في جدول حياتهم اليومية وكفى بذلك إثما وخطيئة وبعدا عن منهج الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :
وكما شرع الله لكم صيام رمضان ندبكم ربكم جل وعلا إلى جملة من الأعمال الصالحة من نوافل
الطاعات التي هي في رمضان أوكد وأعظم أجرا ولعل أظهر ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل لليل(29/5)
مزية على النهار فأسرى الله جل وعلا بنبينا إلى المسجد الأقصى ليلا ونجى الله موسى وقومه ليلا ونجى الله لوطا وبنتيهما مع فلق السحر وقيام الليل أمر مندوب إليه في رمضان وفي غيره {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أما قيام رمضان فقد قال صلى الله عليه وسلم :"من قام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه " ولقد سن لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه خرج في أول ليلة من رمضان فصلى فصلى وراءه جمع من الصحابة فلما كان في اليوم الثاني اجتمعوا عليه أكثر ثلاث ليال أو أربع وكان من حدبه وشفقته صلى الله عليه وسلم على الأمة خاف أن يفرض عليها قيام ليل رمضان فامتنع عن الخروج وقال لهم علمت الذي صنعتم ولكني خفت أن تفرض عليكم ثم مكث الناس بقية عهد النبوة وفي عهد الصديق يصلون أرسالا وفرادا وجماعات حتى كانت في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأمر أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري رضي الله تعالى عنهما أمرهما أن يصليا بالناس إحدى عشر ركعة ثم مضت صلاة التراويح سنة مرضية منذ ذلك العصر الراشد إلى يومنا هذا فقيام رمضان أيها المؤمنون تراويح و غيرها من أعظم القربات وأجل الطاعات كما أن قيام العشر الأواخر منه أعظم أجرا وأكثر فضلا لأن فيها ليلة توازي عبادتها عبادة ألف شهر قال جل جلاله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ }اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :(29/6)
ألا وإن مما شرعه الله لكم وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم في رمضان الإنفاق من المال ابتغاء ماعند الله من الرضوان ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس عند مسلم وغيره كان نبينا أجود الناس وكان أجود مايكون في رمضان إذا لقيه جبريل يدارسه القرآن كان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة وكم لله في أرضه من عباد بيوتهم مستورة وقلوبهم بائسة مكسورة لا يعلم حالهم ولا ماهم فيه إلا الله تبارك وتعالى وإن قيام الدولة وفقها الله بواجبها تجاه أهل الفقر والمسكنة لا يعفي أبدا أهل الثراء والمال والجاه والغنى من أن يقوموا بواجبهم تجاه الفقراء والمساكين وذوي الحاجات فهنيئا لمن عرف تلك الدور وأعطاها هنيئا لمن خاف الله فيها فأطعمها فسقاها هنيئا لمن دل عليها وأرشد إليها وجلاها دخل رجل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال:
ياعمر الخير جزيت الجنة*** اكسي بنياتي وأمهن
وكن لنا من الزمان جنة***أقسمت بالله لتفعلنه
فقال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال : إذا أبا حفصة لأمضينه ،قال عمر وإن مضيت يكون ماذا؟ قال:
إذا أباحفص لتسألنه ***يوم تكون الأعطيات جنة
وموقف المسئول بينهن *** إما إلى نار وإما جنة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً(10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) }
اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :(29/7)
ألا وإن من المشروع في رمضان أن يأتي المسلم فيه بالعمرة فإن العمرة في أصلها أمر محمود من كفارات الذنوب ومزيلات الخطايا والمعاصي ولقد ثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة بعد حجة الوداع سأل امرأة من الأنصار مامنعك أن تحجي معنا فشكت إليه المرأة قلة الزاد قلة الرحالة والزاد فقال صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالشرع وأنصح الخلق للخلق قال فإذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي صلوات الله وسلامه عليه فتقربوا إلى الله جل وعلا بهذا العمل الصالح تقربوا إليه بنية خالصة وقلوب مقبلة على الله ترجوا ثوابه وتخشى عقابه جل جلاله ألا وإن مما شرعه الله لكم في رمضان وفي غيره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومساعدة رجال الحسبة في تنبيه الغافل ورد الباطل فإن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر الدين التي أمر الله بها{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } بلغنا الله وإياكم رمضان وأعاننا على صيامه وقيامه اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ومن فجاءة نقمتك ومن تحول عافيتك ومن جميع سخطك أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم"
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ..... أما بعد
أيها المؤمنون:(29/8)
فلئن كان معروفا لدى المؤمنين أن رمضان مضمار للخيرات ومجال للتنافس في الطاعات ولئن كان من البدهي أن رمضان منبع للفضائل ومنهل للصالحات فإن ممن لا شك فيه ولا مرية أبدا أن رمضان في المقام الأول شهر القرآن ففي هذا الشهر أيها المؤمنون أنزل الله خير كتبه على خير رسله صلى الله عليه وسلم بواسطة خير ملك في خير ليلة { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } فأقبلوا على القرآن أيها المؤمنون ليلا ونهارا سرا وجهارا وأعلموا أن من دأب سلف الأمة الصالح أنهم كانوا يخصصون جل وقتهم في رمضان لقراءة القرآن فقد كان مالك رحمه الله على جلالة قدره وحاجة الناس إلى علمه كان إذا دخل رمضان ترك الحديث وترك مجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن فأقبلوا على قراءة كتاب ربكم تبارك وتعالى واعلموا أن نبي الله داوود كان يقرأ كلام ربه في الزبور فتجيبه الشم الشوامخ والجبال الرواسخ وتردد الطير بترديده قال جل جلاله { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}والعزاء كل العزاء لقلوب تقرأ القرآن فلا تخشع وعيون يتلى عليها القرآن فلا تدمع { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } وإن البكاء حال قراءة القرآن من أعظم من مناقب الصالحين فإن الله ذكر جملة من عباده الأخيار ثم أردف بقوله { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ(29/9)
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}ولقد ثبت في الصحيح أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قرأ آيات من سورة النساء على
رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : حسبك قال عبدالله فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
عباد الله :(29/10)
ألا وأعلموا أن الناس اليوم وللأسف استبدل كثير منهم كتاب ربهم تبارك وتعالى بأغاني ماجنة ذات كلمات بذيئة ومعان مبتذلة كم هدمت من القيم وكم أضعفت من الأخلاق وكم أنكرت من مبادئ الشرع يردده الشباب والفتيات صباح مساء لا يعون مافيها ولا يدركون مايحيط بها {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون واغتنموا بلوغ رمضان في الاستمرار في الطاعات والمنافسة في الخيرات وأعلموا أن ربكم تبارك وتعالى أرحم الراحمين وخير الغافلين يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار أخرج الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن ابن عمر قال : إن نبينا صلى الله عليه وسلم حدثنا بحديث لم أسمعه مرة ولا مرتين ولا سبع مرات بل سمعته أكثر من ذلك ثم قال ابن عمر: قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان الكفل في بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها مايبكيك أأكرهتك على ذلك؟ قالت : لا ولكنه عمل ماعملته قط وما دفعني إليه إلا الحاجة فقال : أتفعلين هذا ولم تزنين قط فقام عنها وأعطاها المال وقال : والله الذي لا إله غيره لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فلما أصبح وجدوا مكتوبا على قبره إن الله قد غفر للكفل والكفل هذا غير ذي الكفل المذكور في القرآن فإن هذا رجل عابد والذي في القرآن نبي مرسل.
ألا وصلوا أيها المؤمنون وسلموا على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر خير من صلى وصام(29/11)
وضحى وزكى وأفطر فقد أمركم الله بذلك في كتاب يتلى إلى يوم المحشر { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } اللهم صل على محمد ماذكره الذاكرون الأبرار وصلى على محمد ماتعاقب الليل والنهار وأرضى اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار اللهم وارحمنا معهم بمنك وكرمك ياعزيز ياغفار اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت لا تواريك أرض أرض ولا سماء سماء لا يخفى عليك جبل مافي وعره ولا بحر مافي قعره لا تحيط بك الظنون ولا يصفك الواصفون لا تدركك الأبصار ولا تراك في الدنيا العيون نسألك اللهم باسمك الأعظم ووجهك الأكرم أن تبلغنا رمضان وتعيننا على صيامه وقيامه اللهم اجعل مانقدمه فيه من عمل عملا خالصا لوجهك وحدك يارب العالمين اللهم ارزقنا في رمضان وفي غيره الإخلاص لك يارب العالمين ياحي ياقيوم اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأيدك اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك اللهم اجعل وأمراءه وإخوانه رحمة على البلاد والعباد يارب العالمين اللهم أعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون"
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(29/12)
خطبة " حالنا في رمضان "
للشيخ: صالح المغامسي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى له الملك كله وله الحمد كله وإليه يرجع الأمر كله{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} وأشهد أن لا إله إلا الله لارب غيره ولا إله سواه لواء وشعار ودثار أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته رفع الله له ذكره وشرح الله له صدره ووضع الله عنه إزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره اللهم صلي وسلم وبارك وأنعم عليه اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار وعلى من سلك مسلكهم واقتفى آثارهم إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أما بعد أيها المؤمنون فهذه بشائره قد أطلت وهذه أنواره قد حلت شهر ولات الشهور شهر أوجب الله صيامه وشرع الله قيامه نصر الله فيه جنده وأنزل الله فيه كتابه وأعز الله فيه الإسلام وأهله.
عباد الله :
إن رمضان شهركم أهل الإسلام وفخركم يا أمة القرآن قدمتم اليوم تتساءلون عن حال المسلم فيه وتتساءلون ماينبغي أن يكون عليه المؤمن في نهار رمضان ولياليه.
عباد الله :
وهل حال المسلمين في رمضان إلا قلوب مشتاقة ودموع مُهراقَه وأعين إلى لقيا ربها جل جلاله مشتاقة حال المسلمين في رمضان دعاء وصلاة صدقات وزكاة حال المؤمنين فيه توبة واستغفار وتهليل وذكر للواحد القهار وسير على منهج وهدي سيد الأخيار صلوات الله وسلامه عليه.
عباد الله :(30/1)
لقد شرع الله لكم صيام رمضان وقيامه وللمؤمنين مع هذا الشهر أحوال خاصة ينجيهم الله بها ويرشدهم الله إليها ويجزيهم تبارك وتعالى عليها فأول ماينبغي علمه أن يعلم المؤمن أن أعظم أحوال المؤمنين مع رمضان التدبر والتفكر في عظمة الخالق جل جلاله فكم مر على من كان قبلنا من الناس رمضانات عديدة وأزمنة مديدة منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم وسيبقى الأمر كذلك إلى قيام الساعة سنن لا تتبدل وصبغة لا تتغير تنبئ عن عظمة الجبار وعن عظمة وملكوت الواحد القهار{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فسبحان مصرف الليالي والأيام ومكور الليل والنهار اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :
ألا وإن من أحوال المسلم في رمضان أن يعلم يقينا أن هذا الشهر الكريم مظهر من مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى بعباده ففيه ترفع الدرجات وتكفر السيئات وتضاعف الحسنات وتفتح أبواب الجنات ففي المسند من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلها خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله لهم كل يوم جنته يقول يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ويصلوا إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا(30/2)
يخلصون في رمضان إلى ماكانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة قيل يارسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا إنما يوفى الأجير أجره إذا قضى عمله " ففي رمضان تتجلى رحمات رب العالمين جل جلاله أيام معدودات كم فيها من النفحات الربانية وكم فيها من الرحمات الإلهية فقل للمعرضين عن الله ورحمته من سيُآنس غدا في القبور وحشتكم ومن سيرحم غدا تحت الثرى غربتكم اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :
هذا وإن من أحوال المسلم في رمضان أن يعلم أن شهرا كرمضان لا يستقبل بالقناديل المضيئة ولا بالمسابقات السنوية ولا بالبرامج الدعائية ولكن شهرا كرمضان لا يستقبله المسلم بأعظم من توبة صادقة نصوح وأوبة خالصة إلى رب الملائكة والروح فالتوبة أيها المؤمنون وظيفة العمر أمر الله بها عباده ونعت الله بها أوليائه ووصف الله بها أصفيائه فقل للجامعين المال من غير حله كفاكم ماجمعتم فإن الله مطلع عليكم وقل للعاكفين على الزنا والفجور والفحشاء توبوا إلى الله فإن الله يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وقل لمن ملئت قلوبهم حقدا وحسدا وبغضاء توبوا إلى الله فقد كفاكم ما أفسدتم وقل للشباب الذين يؤذون المؤمنات ويلمزون الغافلات إن الموت يطلبكم والله جل جلاله سيسألكم وقل للمؤمنات الغافلات عن الله وذكره والعاكفات على ماحرم الله جل وعلا وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم قل لهن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن ومافتح من الخزائن أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها أيقظوا صواحب الحجرات فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة " وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله " صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس
ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات عليهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها "
عباد الله:(30/3)
أيها المؤمنون هذا شهر التوبة فإن لم نتب في شهر رمضان فمتى نتوب وإن لم نرجع إلى الله في مثل هذا الشهر فمتى نؤوب فالله الله يا أخي ويا أختاه ولنتذكر جميعا وليتذكر كل فرد منا غدا إذا ذهبت لذته وبقيت حسرته إذا انقطع أمام الله جوابه وشهدت عليه جوارحه بما قدم وأخر ورد في بعض الآثار أنه يؤتى بالرجل العاصي يوم القيامة يؤتى بالعاصي يوم القيامة رجلا كان أو امرأة فتغلب عليه شقوته فيقول يارب لا أقبل شاهدا إلا من نفسي فيختم الله على لسانه فتنطق جوارحه بما صنع تقول العين أنا إلى الحرام نظرت وتقول الأذن وأنا إلى الحرام استمعت وتقول اليد وأنا إلى الحرام تناولت حتى تقول القدم وأنا إلى الحرام مشيت ويقول الفرج عياذا بالله وأنا فعلت وفعلت وفعلت فيقول الملك الذي على اليسار وأنا اطلعت وكتبت فيقول الملك الذي على اليمين وأنا اطلعت وشهدت فيقول رب العالمين جل جلاله وأنا اطلعت وسترت ثم يقول يا ملائكتي خذوه ومن عذابي أذيقوه فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ(30/4)
الْمُعْتَبِينَ} اللهم بلغنا رمضان وارزقنا فيه توبة خالصة نصوح.
عباد الله :
ألا وإن مما شرعه الله لكم في رمضان صيام نهاره فلقد ناداكم ربكم في كتابه نداء كرامة لا نداء علامة فقال جل جلاله{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} والصيام في ذاته من أعظم القربات وأجل الطاعات فلقد صام نبي الله موسى أربعين يوما وهو يتهيأ للقاء ربه جل جلاله وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " " والصوم جنة فإذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يسخط فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم للصائم فرحتان فرحة إذا أفطر يفرح بفطره ويفرح إذا لقي ربه بصومه " وفي رواية لمسلم " كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " وفي الحديث المتفق عليه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال : "من صام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر الله له ماتقدم من ذنبه" فصوموا شهركم أيها المؤمنون إستجابة للأمر الرباني العظيم وتقربا إلى الله وزلفى بهذا العمل الصالح الذي دأب عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وأعلموا عباد الله أن فئاما من الناس اليوم يقضون نهارهم في نوم متواصل ويقضون ليلهم في لهو وعبث وتكاسل وأمثال هؤلاء لم يعرفوا من رمضان إلا تبدلا وتغيرا في جدول حياتهم اليومية وكفى بذلك إثما وخطيئة وبعدا عن منهج الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :
وكما شرع الله لكم صيام رمضان ندبكم ربكم جل وعلا إلى جملة من الأعمال الصالحة من نوافل
الطاعات التي هي في رمضان أوكد وأعظم أجرا ولعل أظهر ذلك أن الله تبارك وتعالى جعل لليل(30/5)
مزية على النهار فأسرى الله جل وعلا بنبينا إلى المسجد الأقصى ليلا ونجى الله موسى وقومه ليلا ونجى الله لوطا وبنتيهما مع فلق السحر وقيام الليل أمر مندوب إليه في رمضان وفي غيره {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أما قيام رمضان فقد قال صلى الله عليه وسلم :"من قام رمضان إيمانا وإحتسابا غفر له ماتقدم من ذنبه " ولقد سن لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه خرج في أول ليلة من رمضان فصلى فصلى وراءه جمع من الصحابة فلما كان في اليوم الثاني اجتمعوا عليه أكثر ثلاث ليال أو أربع وكان من حدبه وشفقته صلى الله عليه وسلم على الأمة خاف أن يفرض عليها قيام ليل رمضان فامتنع عن الخروج وقال لهم علمت الذي صنعتم ولكني خفت أن تفرض عليكم ثم مكث الناس بقية عهد النبوة وفي عهد الصديق يصلون أرسالا وفرادا وجماعات حتى كانت في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأمر أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري رضي الله تعالى عنهما أمرهما أن يصليا بالناس إحدى عشر ركعة ثم مضت صلاة التراويح سنة مرضية منذ ذلك العصر الراشد إلى يومنا هذا فقيام رمضان أيها المؤمنون تراويح و غيرها من أعظم القربات وأجل الطاعات كما أن قيام العشر الأواخر منه أعظم أجرا وأكثر فضلا لأن فيها ليلة توازي عبادتها عبادة ألف شهر قال جل جلاله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ }اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :(30/6)
ألا وإن مما شرعه الله لكم وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم في رمضان الإنفاق من المال ابتغاء ماعند الله من الرضوان ولقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس عند مسلم وغيره كان نبينا أجود الناس وكان أجود مايكون في رمضان إذا لقيه جبريل يدارسه القرآن كان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة وكم لله في أرضه من عباد بيوتهم مستورة وقلوبهم بائسة مكسورة لا يعلم حالهم ولا ماهم فيه إلا الله تبارك وتعالى وإن قيام الدولة وفقها الله بواجبها تجاه أهل الفقر والمسكنة لا يعفي أبدا أهل الثراء والمال والجاه والغنى من أن يقوموا بواجبهم تجاه الفقراء والمساكين وذوي الحاجات فهنيئا لمن عرف تلك الدور وأعطاها هنيئا لمن خاف الله فيها فأطعمها فسقاها هنيئا لمن دل عليها وأرشد إليها وجلاها دخل رجل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال:
ياعمر الخير جزيت الجنة*** اكسي بنياتي وأمهن
وكن لنا من الزمان جنة***أقسمت بالله لتفعلنه
فقال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال : إذا أبا حفصة لأمضينه ،قال عمر وإن مضيت يكون ماذا؟ قال:
إذا أباحفص لتسألنه ***يوم تكون الأعطيات جنة
وموقف المسئول بينهن *** إما إلى نار وإما جنة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً(10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) }
اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه.
عباد الله :(30/7)
ألا وإن من المشروع في رمضان أن يأتي المسلم فيه بالعمرة فإن العمرة في أصلها أمر محمود من كفارات الذنوب ومزيلات الخطايا والمعاصي ولقد ثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة بعد حجة الوداع سأل امرأة من الأنصار مامنعك أن تحجي معنا فشكت إليه المرأة قلة الزاد قلة الرحالة والزاد فقال صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالشرع وأنصح الخلق للخلق قال فإذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي صلوات الله وسلامه عليه فتقربوا إلى الله جل وعلا بهذا العمل الصالح تقربوا إليه بنية خالصة وقلوب مقبلة على الله ترجوا ثوابه وتخشى عقابه جل جلاله ألا وإن مما شرعه الله لكم في رمضان وفي غيره الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومساعدة رجال الحسبة في تنبيه الغافل ورد الباطل فإن إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر الدين التي أمر الله بها{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } بلغنا الله وإياكم رمضان وأعاننا على صيامه وقيامه اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ومن فجاءة نقمتك ومن تحول عافيتك ومن جميع سخطك أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم"
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ..... أما بعد
أيها المؤمنون:(30/8)
فلئن كان معروفا لدى المؤمنين أن رمضان مضمار للخيرات ومجال للتنافس في الطاعات ولئن كان من البدهي أن رمضان منبع للفضائل ومنهل للصالحات فإن ممن لا شك فيه ولا مرية أبدا أن رمضان في المقام الأول شهر القرآن ففي هذا الشهر أيها المؤمنون أنزل الله خير كتبه على خير رسله صلى الله عليه وسلم بواسطة خير ملك في خير ليلة { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } فأقبلوا على القرآن أيها المؤمنون ليلا ونهارا سرا وجهارا وأعلموا أن من دأب سلف الأمة الصالح أنهم كانوا يخصصون جل وقتهم في رمضان لقراءة القرآن فقد كان مالك رحمه الله على جلالة قدره وحاجة الناس إلى علمه كان إذا دخل رمضان ترك الحديث وترك مجالس العلم وأقبل على قراءة القرآن فأقبلوا على قراءة كتاب ربكم تبارك وتعالى واعلموا أن نبي الله داوود كان يقرأ كلام ربه في الزبور فتجيبه الشم الشوامخ والجبال الرواسخ وتردد الطير بترديده قال جل جلاله { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ}والعزاء كل العزاء لقلوب تقرأ القرآن فلا تخشع وعيون يتلى عليها القرآن فلا تدمع { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } وإن البكاء حال قراءة القرآن من أعظم من مناقب الصالحين فإن الله ذكر جملة من عباده الأخيار ثم أردف بقوله { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ(30/9)
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}ولقد ثبت في الصحيح أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قرأ آيات من سورة النساء على
رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : حسبك قال عبدالله فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
عباد الله :(30/10)
ألا وأعلموا أن الناس اليوم وللأسف استبدل كثير منهم كتاب ربهم تبارك وتعالى بأغاني ماجنة ذات كلمات بذيئة ومعان مبتذلة كم هدمت من القيم وكم أضعفت من الأخلاق وكم أنكرت من مبادئ الشرع يردده الشباب والفتيات صباح مساء لا يعون مافيها ولا يدركون مايحيط بها {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } فتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون واغتنموا بلوغ رمضان في الاستمرار في الطاعات والمنافسة في الخيرات وأعلموا أن ربكم تبارك وتعالى أرحم الراحمين وخير الغافرين يبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار أخرج الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن ابن عمر قال : إن نبينا صلى الله عليه وسلم حدثنا بحديث لم أسمعه مرة ولا مرتين ولا سبع مرات بل سمعته أكثر من ذلك ثم قال ابن عمر: قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان الكفل في بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال لها مايبكيك أأكرهتك على ذلك؟ قالت : لا ولكنه عمل ماعملته قط وما دفعني إليه إلا الحاجة فقال : أتفعلين هذا ولم تزنين قط فقام عنها وأعطاها المال وقال : والله الذي لا إله غيره لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فلما أصبح وجدوا مكتوبا على قبره إن الله قد غفر للكفل والكفل هذا غير ذي الكفل المذكور في القرآن فإن هذا رجل عابد والذي في القرآن نبي مرسل.
ألا وصلوا أيها المؤمنون وسلموا على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر خير من صلى وصام(30/11)
وضحى وزكى وأفطر فقد أمركم الله بذلك في كتاب يتلى إلى يوم المحشر { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } اللهم صل على محمد ماذكره الذاكرون الأبرار وصلى على محمد ماتعاقب الليل والنهار وأرضى اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار اللهم وارحمنا معهم بمنك وكرمك ياعزيز ياغفار اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت لا تواريك أرض أرض ولا سماء سماء لا يخفى عليك جبل مافي وعره ولا بحر مافي قعره لا تحيط بك الظنون ولا يصفك الواصفون لا تدركك الأبصار ولا تراك في الدنيا العيون نسألك اللهم باسمك الأعظم ووجهك الأكرم أن تبلغنا رمضان وتعيننا على صيامه وقيامه اللهم اجعل مانقدمه فيه من عمل عملا خالصا لوجهك وحدك يارب العالمين اللهم ارزقنا في رمضان وفي غيره الإخلاص لك يارب العالمين ياحي ياقيوم اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأيدك اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك اللهم اجعل وأمراءه وإخوانه رحمة على البلاد والعباد يارب العالمين اللهم أعطنا ولا تحرمنا وزدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ماتصنعون"
تم بحمد الله وتوفيقه
سائلين المولى عز وجل الإخلاص والقبول(30/12)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
........................
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،ارادم العبدا فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ،ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله ،نبي سلم الحجر عليه ،ونبع الماء من بين أصبعيه فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه،اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار ،وعلى من سلك مسلكهم وتبع منهجهم بإحسان الى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
أما بعد:
أيها المؤمنون..
فإن أول سطر في تاريخ مجد هذه الأمة هو حياة نبيها صلوات الله وسلامه عليه فقد جعله الله حظنا من النبيين كما جعلنا برحمته حظه من الأمم صلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه عليه الصلاة والسلام قلما يأت أحد فيه بجديد لأنه مامن مسلم إلا وقد اطلع على شيء من سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه ..
وفي هذا اللقاء المبارك سنتحدث عن حجرات أمهات المؤمنين ،تلك الحجرات التي كان يأوي اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ،شهدت تلك الحجرات أحداثا عظاما وخطوبا جساما وأياما نضرة وسيرة عطرة من حياته صلوات الله وسلامه عليه.
فإلى تلك الحجرات كان يأوي ويقوم الليل وإلى تللك الحجرات كان يأتي أصحابه ليسألوه وينهلوا من معين علمه ،وإلى تلك الحجرات كان يدرج الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما إلى جدهما صلوات الله وسلامه عليه.
والى تلك الحجرات كان يأتي النساء من الذين يسألنه عليه الصلاة والسلام أو يشكين له بعض أمورهن رضوان الله تعالى عليهن.
وأعظم من ذلك كله أن تلك الحجرات كانت ينزل عليها ما أفاء الله على نبيه من القرآن والحكمة قال حسان رضي الله عنه يذكر ويتذكر:
بها حجرات كان ينزل وصفها من الله نور يستضاء ويوقدُ(31/1)
معالم لم تطمس على العهد عهدها أتاها البلى فالآي منها تجددُ
عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقد وارات آثار الترب منشد
على أنه ينبغي أن يعلم أن تلك الحجرات أيضا شهدت وفاته صلى الله عليه وسلم .ففي حجرة عائشة توفي وفيها قبر ودفن صلوات الله وسلامه عليه وربما كان بعض الفضلاء ممن حضر يرغب في وصف خلقته الهيئية عليه الصلاة والسلام وسنشعر في أول الأمر بيان خلقته الهيئية ثم نتحدث عن حجرات أمهات المؤمنين وما شهدت من خطوب عظام وأيام جسام،فنقول والله المستعان:
الله جل وعلا أكمل خلق نبينا وخُلُقه ، زكى الله جل وعلا لسانه (ما ينطق عن الهوى)وزكى الله بصره (ما زاغ البصر وما طغى)وزكى الله فؤاده (ماكذب الفؤاد مارأى)وزكى الله جل وعلا كل خلق فيه فقال(وإنك لعلى خلق عظيم) فهو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق وأشرفهم وأجلهم وأعظمهم مقاما عند الله وأعلمهم بالله وأشدهم لله خشية ، وكما زكى الله به الصنيع الخلُقُي زكى الله جل وعلا به الصنيع الخلقي فهو عليه الصلاة والسلام عليه نور النبوة يتلألأ رجل وأي رجل ونبي وأي نبي فهو العبد المشتبى والحبيب المصطفى والرسول المرتضى جمعني الله وإياكم به جنات النعيم..
نبيكم أيها المباركون:
كان ربعة من الطول لا بالطويل ولا بالقصير عريض ما بين المنكبين ،شعر رأسه عليه الصلاة والسلام كان سبط الشعر ،بمعنى أن شعره لم يكن ملتويا ولم يكن ناعما في جبهته عرق يدرّه الغضب إذا غضبت في ذات الله يمتلئ هذا العرق دما ،أشل الأنف أدج الحواجب من غير قرن بمعنى أن حاجبيه كانا دقيقين لكنهما لم يكونا متصلين.(31/2)
كما كان عليه السلام كث اللحية وليع الجنب أي كبير الجنب والشيب فيه ندرة ومعنى أن الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه أن الشيب متفرق شيب في صغده الأيمن والأيسر وعكسه شيبه في عنقدته أسفل شفته السفلى صلوات الله وسلامه عليه كأن عنقه إبريق فضة والثغرة التي في النحر الى أسفل صرته شعر ممتد على هيئة خيط ليس في بطنه ولا صدره شهر غيره ،مابين كتفيه من الخلفشعيرات سود وناتيه عن الجسد يشتبك بعضهن اللا بعض كأنهن بيضة حمامة عرفت بأنها خاتم النبوة .إذا أشار أشار بيده كاه وإذا تعجب من شيء قلب كفيه أو عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه،وإذا مشى يمشي تكفئا كأنما ينحدر من مكان عالي بمعنى أنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه من رآه من بعيد هابه ومن خالطه أحبه ولم يرى قبله ولا بعده مثله صلوات الله وسلامه عليه .
يقول جابر بن سبرة رضي الله عنه وأرضاه أحد صغار الصحابة :خرجت في ليلة البدر فيها مكتمل (مثل ليلتنا هذه)فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حراء حمراء فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عندي أجمل من القمر.
وقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه:أتانا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف قال:لا بل مثل القمر.
وقال جابر نفسه رضي الله عنه: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى أي صلاة الظهر ،فدفق أهل المدينة يسلمون عليه فسلمت عليه فوجدت لكفه أربا أو ريحا كأنما أخرجه منجنب عطار.
هذا هو وجه الاجمال الهيئة الخلقية صلوات الله وسلامه عليه..
أما الحجرات وهي موضع ومؤل درسنا أنه قد ثبت تاريخيا أنه صلى الله عليه وسلم أول ما نزل على المسجد ثم بنى حول المسجد حجرات أمهات المؤمنين لتكون تلك الحجرات مأوى يأوي اليه صلوات الله وسلامه عليه ،وسنقف مع الأحداث عظام شهدتها تلك الحجرات تنبئك أيها الأخ المبارك عن سيرة نبيك صلوات الله وسلامه عليه ..(31/3)
أعظم ما شهدتها تلك الحجرات قيامه الليل بين يدي ربه صلوات الله وسلامه عليه وقد جاء عبد الله بن عباس وهو أحد صغار الصحابة وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة كان عند ميمونة بنت الحارث ،ميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس ،وابن عباس يجرؤ على أن ينام عندها فنام عند خالته ميمونة والنبي عليه الصلاة والسلام يومئذ عندها أي في ليلتها فأراد ابن عباس أن يرقد قيام الليل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام صلوات الله وسلامه عليه فمسح النوم من عينيه ثم قلب بصره الى السماء وقرأ خواتيم آل عمران(إن فب خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنبوهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) حتى ختمها صلوات الله وسلامه عليه ،ثم استاك حتى يكون فمه رطبا نديا وهو يقرأ القرآن ثم توضأ ثم قام يصلي كل هذا وابن عباس رضي الله تعالى عنهما يرقبه ليحدث الأمة بعد ذلك عن ليل نبيها محمد عليه الصلاة والسلام وبهذا بيان واضح أن أقرب العباد هديا من نبينا عليه السلام من كان ليله قريبا من ليل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أم القلب لم ينم
بالليل تصدأه لوحي تعمره وشيبتك هود آية الصن
ياليتني كنت فردا من صحابته أو خادم عنده من أصغر الخدم
صلوات الله وسلام عليه..(31/4)
فالليل جعله الله جل وعلا مطية وقد دل القرآن والسنة على أن الليل أعظم عند الله جملة من النهار فالله نجى لوطا وبنتيه ليلا (إلا آل لوطا نجيناهم بسحر) وجعل ليلة الاسراء والمعراج من قبل جعلها ليلا(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)وجعل الله جعل وعلا المتقين من عباده يفرون من المضاجع الى أن يقيموا بين يدي ربهم والنبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ :ألا أدلك على أبواب الخير ،الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجلفي جوف الليل الآخر ثم تلا:(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)قال بعض أهل العلم في تفسيرها :لما أخفوا من أجل الله العمل أخفى الله جل وعلا الناس أجرهم.
يقفون بين يديه ويسألونه ويرجونه ويعبدونه أخفى الله جل وعلا لهم الأجر وقال جل جلاله:(فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)
والمقصود:أن هذه الليلة مما شهدته تلك الحجرات من ليل نبينا صلى الله عليه وسلم.(31/5)
كما شهدت تلك الحجرات عبادته شهدت خلقه العظيم عليه الصلاة والسلام ، فعن عائشة رضي الله عنها زوجته تخبر ذات يوم أنها قدمت اليه فأخبرته بنبأ احدى عشر امرأة من الأنصار وهو حديث طويل ومع ذلك وهو رأس الملة وامام الأمة كان يستمع لها حتى فرغت وأثنت في كلامها عن رجل يقال لها أبو زرع فلما فرغت بعد أن ذكرت قصة احدى عشر امرأة وهو كل ذلك مصغ سمعه أدبا مع زوجته قال لها يلاطفها :كنت لك كأبي زرع لأم زرع . وكانت زوجته صفية وقد تزوجها بعد فتح خيبر وهي يهوديه تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يهودية فكانت تجد نوعا من الاضطهاد واحيانا نادرا بسبب الغيرة والتنافس فعيرتها احدى أمهات المؤمنبن بأنها يهودية وكان صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خُلُقا وأرأفهم بالغريب فلما عيرتها بأنها يهودية قولي لها : بأنني والله ابنة نبي أي بنت هارون لأن صفية كانت من نسل هارون وان عمي نبي تقصد موسى عليه السلام وأني تحت نبي تقصد أنها زوجة نبيننا صلى الله عليه وسلم فعلمها صلى الله عليه وسلم كيف تجيب من يعيرها بأنها يهودية .(31/6)
في تلك الحجرات أيضا كما كان عليه الصلاة والسلام يلاطف أمهات المؤمنين كان يحذرهن من الفتن ويخشى عليهن منهن تقول أم سلمة كما في الصحيحين:قام صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول:سبحان ماذا أنزل الله من الفتن؟؟أيقظوا صواحب الحجرات فيصلين،رب كاسية في الدنيا ،عارية في الآخرة)فهو عليه الصلاة والسلام رحمة وشفقة على أمهات المؤمنين وعلى نساء الأمة من بعدهم يحذرهن من الموقوع في الفتن ويدعوهن إلى قيام الليل لأن قيام الليل الكسوة الحقيقة فقال جل وعلا:(ولباس التقوى ذلك خير)لكن كم من امرأة تتزين في الدنيا وهي يوم القيامة عارية من العمل الصالح عارية من التقوى عارية من المعروف عارية من الفضائل فإذا قدم عبد أو أمة رجل أو امرأة بين يدي الله ولا إيمان ولا تقوى ولاعمل فأولئك عياذ بالله من الهالكين والهالكات قال جل وعلا:(ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمي فيها جثيا)
والمقصود من ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجمع ما بين ملاطفته لأمهات المؤمنين وقيامه بواجب الزوجية ومع تربيتهن ورعايتهن وتعليمهن وقد قال جل وعلا من قبل (واذكرن ما يتلى عليهن من آيات الله والحكمة)
في تلك الحجرات أيضا قدم اليه نسوة من الانصار يشتكين اليه أن أزواجهن يضربهن فخرج صلى الله عليه وسلم الى الناس يقول:لقد طاف اليوم بأل محمد نسوة يشتكين أزواجهنليس أولئك بخياركم ليس أولئك بخياركم)
حجب النبي صاى الله عليه وسلم الخيرية عن الرجال الذين يضربون أزواجهم أي زوجاتهم والمقصود أيها المؤمنون ،الرجل الحر الأبي الشهم تهابه نفسه لنده المرأة يؤدبها بالقطع الذي تتأدب فيه إما أن يهاجرها في المضجع أو أن يقول لها كلاما فيه نوع من العتاب المؤدي الى ثمرة لكن العاقل يعرف أن المرأة ضعيفة والرجل الأبي لا يرضى بأن يكون خصم الضعيف .(31/7)
والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(أحرج عليكم في حق الضعيفين اليتيم والمرأة)وقال في حجة الوداع عليه الصلاة والسلام:(انهن عوان عندكم أي النساء أي أسيرات فالمرأة في أصلها ضعيفة تحتاج الى من يلاطفها والمرأة لا يمكن أبدا أن تستقيم لك على حال هذا شيء محال(لايفرك مؤمن مؤمنة ان سخط منها خلقا رضي منهااخر)
لاتوجد امرأة أي كانت كاملة مؤدية حق زوجها على النحو الأتم.قال عليه الصلاة والسلام(فان استمتعت بها استمتعت على عوج )ثم قال:(وإن شئت أن تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها).
والمقصود أن الانسان يقدم أحيانا ويؤخر أحيانا ويلاطف ويتحمل.
بالعقل يشقى بالنعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم.
والعاقل يعلم أن الدنيا أصلا تحتاج الى نوع من المداراة.
قيل لإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه:ان فلانا يقول ان تسعة أعشار العافية في التغافل قال: لا بل العافية كلها في التغافل.
فالعاقل لايظهر أنه يرى كل شيء ويعرف كل شيء.
لابد أن الانسان أحيانا يتغافل لكن لا يعني ذلك أن يترك الانسان القوامة الشرعيةوتأديب امرأته بملاطفة الخطاب.أو بالتأديب الوارد شرعا إذا أراد أن يغير من خلق زوجته لكن باللين والحسنى ووضع اللبنات بعضها فوق بعض ..(31/8)
غلى تلك الحجرات جاءت امرأة طاعنة في السن فقال لها صلى الله عليه وسلم:من أنت؟قال:أ، جُفينة المزنية.فقال صلى الله عليه وسلم:بل أنت حسانة المزنية،ثم رد لها عليه الصلاة والسلام كيف أنتم؟كيف أصبحتم بعدنا،وأقبل عليها هشا دهشا،فقالت عائشة له بعد أن فرغت المرأة وخرجت :من هذه يا رسول الله مالك أقبلت اليها،قال انها كانت تأتينا زمن خديجة وان حسن العهد من الايمان وهذا كله ،قوام النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف لمن جاءه ولمن حوله ولغيره حقه،وكذلك المسلم يأخذ من السيرة على حسب من يتعامل من حوله ،لايتباهى بعمل مع جيرانه مع اخوانه ،الدنيا كلها زهرة فانية ،وكل بلاء فيها الا العافية وكل مرمى سوى الجنة فانية ،والانسان يجعل له من الدنيا مطايا .
وقيل:ان البر شيء جميل ولسان لين ،
الانسان الذي يعمل المعروف ويراعي الناس ويجبر كسرهم ويراعي خواطرهم هذا يتأسى بمحمد صلى الله عليه وسلم
نقول أيها المباركون:
شهدت تلك الحجرات ذات يوم أنه دخل عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها مضطجعا كاشفا عن ساقيه ،ولك أن تتخيلأن نبي الأمةمضطجع وساقاه ظاهرتان وأبو بكر عنده ،ثم دخل عمر فاستأذن ورسول الله ما زال مضطجعا ،فلما دخل عثمان رضي الله عنه غيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هيئته ،وغير من جلسته واستوى جالسا وستر قدميه فلما أتموا شأنهم وأنهوا حديثهم وخرجوا قالت له عائشة بعد أن خرجوا يسألونه عن سبب صنيعه فلماذا لم يتغير حاله عند ابي بكر وعمر وتغير حاله عند عثمان فال صلى الله عليه وسلم :يا عائشة ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة.
الان نريخ المطايا هنا،السنة ليست أخذا محضا فقط،لكن ثنايا عقل ،وعلو همة ،وخلق عظيم كان عليه صلى الله عليه وسلم .(31/9)
الناس ياأخي ويأختاه يتفاوتون تفاوت عظيم في شخصياتهم ،وان من الكمال الايماني والعقلي أن نعامل الناس على قدر ما يحبون ،على قدر طبائعهم.
كان أبو بكر حييا وكان عمر حيا ،لكن عثمان كان أرفع درجة من درجات الحياء .
فتعامل النبي مع عثمان على هيئته ،على ما فطر عليه عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذه السنة ماضية في حياته صلوات الله وسلامه عليه ،وسنأتي بأدلة خارج هذا النص فنقول:
مر معكم في حادثة الهجرة أن سراقة بن مالك تبع النبي صلى الله عليه وسلم ،سراقة يومها كان كافرا،اذا مالذي أخرج سراقة؟أخرجه الطمع في الجائزة يريد100 ناقة فتبع النبي صلى الله عليه وسلم فتنأى الفرس مرة بعد مرة أدرك سراقة أن هذا الرجل نبي.
وذات مرة في الحجرت كان عليه الصلاة والسلام مضطجع على الأرض على حصير ،فدخل عليه عمر فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة ،قال له :يارسول الله،كسرى وقيصر فيما هما فيه ،وأنت على هذه الحالة ،ماذا قال الرسول؟
لم بقل لعمر أنك ستصبح أميرا للمؤمنين وأن أرض المدائن ستفتح لك وأن كسرى سيضع سيفه بين يديك ،لأن عمر شخصية آخروية تفكر في الآخرة ،يفكر في الجنة ،تخاف الله ،ليست كشخصية سراقة في يوم الهجرة ،فقال له:أفي شك أنت يا ابن الخطاب هؤلاء عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ،لهم الدنيا ولنا الاخرة ومقصدنا من هاذين المثالين يتبين لك ،كيف تعامل الرسول صلى الله عليع وسلم مع سراقة ؟وكيف تعامل مع عمر ؟
وهكذا الرجل العاقل اللبيب ،كيف يخاطب الناس متى يحدثهم ،متى يعظهم ،متى يتقدم /متى يتأخر هذا منهاج نبوة ،وأصله في القرآن .
فمثلا:الصحابة رضوان الله عليهم ،في يوم بدر أبروا بأنهم سألوا كيف تقسم الغنائم ،وفي يوم أحد ،رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أخبروا بأنهم ترك أحدهم مكانهم في جبل الرماة .
والان كم خطأ؟خطائين.(31/10)
لكن يوم بدر كان مشفوعا بأنهم كانوا مرسولين ،وفي يوم أحد كان قد مسهم القرع وأصابهم الهلع وقتل منهم أقوما.
فعاقبهم الله جل وعلا على الخطائين،عاقبهم على أنهم تكلموا في أسرى يوم بدروعاقبهم على الفرار يوم أحد .لكن انظر الى اسلوب القران.
في يوم أحد كانوا مكسورين لأنهم كانوا منهزمين فتلطف الله بهم فقال الله :(لقد صدقكم الله وعده ) ثم قال في آخر الآية(ولقد عفى عنكم والله ذو فضل على المؤمنين)
فما أراده الله وهو أرحم الراحمين أن يجمع على أصحاب محمد أمرين كافيين من العتاب من الله والعزيمة.
فعاتبهم الله بلطف بين لهم الخطأ وقال:(ولقد عفى عنكم واله ذو فضل على المؤمنين)
أما في يوم أحد لما كان هناك أسرى قال الله :(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)ثم ختمها بالآيةالتي بعدها في الأنفال بقوله جل وعلا :(لولا كتاب من الله سبقكم لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم)
انظروا الفارق ،لماذا لأنهم كانوا مرسولين ،فما خاطبهم بهذه الشدة نسبيا لأنها توافق حالهم رضي الله عنهم وأرضاهم ،ما أكرمهم من أصحاب ،وما أجلهم من مجاهدين ،وما أعظمهم من رعيل،وما أقربهم عند الله من شيء يذكر.
والمقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتعامل مع الناس بصورة تنبأ عن عظيم حكمته وجليل خطابه صلوات الله وسلامه عليه.
في تلك الحجرات قدم وفد حديث العرب في الاسلام ،فقال رجل:يامحمد اخرج الينا فان مدحنا جلد وان ذمن شم ،هكذا (يامحمد)باسمه امجرد،فأنزل الله جل وعلا قوله(إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج اليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم)
وفيها ذكر أن الله عفى عن أولئك القوم .(31/11)
موضع الشاهد أن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم دلائل كمال الايمان ،فان محبته صلى الله عليه وسلم لا يقوم الابأدبها ،ومحبته دين وذلة وقربه صلوات الله وسلامه عليه والأدب معه مع ماكان يتأدب فيه صلى الله عليه وسلم أمر مباح .
وسأبين ذلك في هذ1ا المجلس المبارك ،أعظم مما يحصل الاقتداء به إن كان سنة مأمورة أو سنة مشهورة.
فمثلا ثابت أحد التابعين كان إذا رأى أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه وقابله وسلم عليه كان ثابت يقبل يد أنس ويقول:انها يد لامست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فثابت وشهده هذا تعجب ومحبة مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ،وعمرو بن العاص يقول:لو أن أحدا طلب مني أن أصف النبي صلى اله عليه وسلم لما استطعت أن أصفه لأنني لم أملأ عيني منه ،اجلالا له صلى الله عليه وسلم .
وأبو بكر يوم الهجرة طرفا يتقدم وطرففا يتأخر وطرفا يأتي عن اليمين وطرفا يأتي عن الشمال ،يقول:يا رسول الله إذا ذكرت الرفث تقدمت واذا ذكرت القبر تأخرت وان خفت عليك من ذات اليمين وأحيانا ذات الشمال كل ذلك محبة لنبينا صلى الله عليه وسلم ،وهذا أمر لا يحتاج الى ايلاج يمكنكم أن تسألوا الله أن يرزقكم جوار نبيكم في جنات النعيم ومحبته اتباع الهدي.
وبعض ما نقل منه مما أحبه .
أحب نبيكم صلى الله عله وسلم البطيخ الأصفر(الخربز)كان يأكله مع الرطب ونحن في زمن الصيف فكان يأخذ شيء من الخربز ويطعم أخرى من الرطب ويقول عليه الصلاة والسلام وهو الذي لاينطق عن الهوى (نطفئ حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا)فلو أن انسانا أراد ان يتقرب الى الله بأن يقتفي شيئا محبة مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأكل الخربز والرطب وهو يقول :نطفئ حر هذا ببرد هذا )عل الله أن يغرز فيه بعد ذلك أمورا عظاما .(31/12)
من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،من محبته صلى الله عليه وسلم ،محبة أهل بيته ،ومعرفة قدرهم ،وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس لما ذكر جفوة قريش لبني هاشم ،قال له :والله لن يؤمنوا (أي لن يكمل ايمانهم )حتى يحبوكم لله .
كما ان من محبته صلى الله عليه وسلم محبة مكان نبيك الذي جعله الله مهاجرا له وماوى ومثوى له جسدا صلوات الله وسلامه عليه.
كما ان من محبته ،محبة أصحابه والترضي عليهم أجمعين والسكوت عما صدر بينهم مع العلم بأن ذلك قليل نادر.وأن ما وقع من بعضهم انما هو مغمور مغموس في بحر فضائلهم وجليل عطاياهم وجهادهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم ،وكيف وقد زكى الله صنيعهم من فوق سبع سموات
(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم)
(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من اذين اتبعوه باحسان)
كل ذلك ايها المبارك من جملة ما زكى فيه صلى الله عليع وسلم.
خاتمة المطاف:
شهدت تلك الحجرات وهذا أنا لاأقول على سبيل الوعظ بل على سبيل الخبر،نام صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة ،-أنه قد روي أن ثلاثة أقمار تسقط في حجرها -،فأخبرت بذلك أباها أبو بكر رضي الله عنه فلم يشأ أن يعبرها فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفن عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة فجاء أبو بكر رضي الله عنه فقال لابنته:يا بنية هذا أول أقمارك فكان الأمر كما قال دفن بعد ذلك في تلك الحجرة الصديق رضي الله عنه وأرضاه ثم دفن الفاروق رضي الله عنه وارضاه وكانت عائشة ترغب في أن يكون في ذلك المكان قبرا لها واستأذنها عمر لما حضرته الوفاة ،فقالت له،والله لأثرنه على نفسي فدفن عمر رضي الله عنه وأرضاه عند صاحبيه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه .
هذا هو بالاجمال أيها الأخ المبارك ما تيسر قوله وتهيء إيراده في هذا المجمع المبارك.
وأخيرا :(31/13)
الله أسأل أن أكون قد وفقت في تفريغ المحاضرة فما كان من صواب فبتوفيق من الله،وماكان من خطأ فمني والشيطان ،وأستغفر الله منه.
أختكم ..
(( أم اويس ))(31/14)
في مجلة نون العدد18رمضان-1428هـ
الشيخ صالح المغامسي...في أول حوار له بعد عملية " القلب "
حوار/ يزيد الهريش
لم يكن الحوار مع الشيخ صالح بن عواد المغامسي خطيب مسجد قباء وعضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بالمدينة المنورة ..لم يكن مجرد حوار عادي..بل هو حوار الذات إلى الذات.
في هذا الحوار..كان الشيخ يتحدث بعيدا عن التقليدية..حوارا هادئا لكن كان مليئا بالمفاجآت وستجدون مالم تسمعوه أو تعلموه من قبل عن شيخنا.
*بداية..نحمد الله أن منّ عليكم بالشفاء من العارض الصحي الذي نسأل الله أن يتم لكم الشفاء ويكتب لكم الأجر..كلمة مختصرة حول طبيعة العارض...ووضعكم الصحي الحالي لتطمين القراء والأحباب والطلاب؟
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فكما سبق وقلت إنه من المعلوم أن المنابر الإعلامية ليست منابرا يتحدث فيها الواحد عن نفسه ولسنا أول الناس ابتلاء ولن نكون أخرهم إنما طبيعة العارض أنني أصبت بمرض روماتزم بالقلب وكان الأطباء يرون أنه لا بد من العملية من زمن ولكنني كنت لأمور عدة أدفعها مرة بعد مرة حتى أراد الله جل وعلا أن أجري العملية الجراحية في مركز الأمير سلطان لجراحة القلب بالرياض , والعملية في عبارة عن تبديل صمامين الصمام المترالي والأورطي بصمامين معدنيين والحمد لله على فضله ونعمه وعطاءه وإحسانه العملية بفضل الله ورحمته ودعاء المسلمين الصالحين تمت بنجاح لكن معلوم أن عملية يتم فيها شق صدر وإخراج قلب وتخييط معدن به لها توابع ولها عوارض وتحتاج إلى وقت،الحمد لله الوضع الصحي الآن طيب ،لكن لابد من الراحة ،والله وحده هو المستعان ومن استعان بغير الله لا يعان .(32/1)
*نود أن نستهل هذا اللقاء بجولة سريعة على نشأتكم وحياتكم وطلبكم للعلم وسيرتكم الذاتية بوجه عام ؟
ـ صالح بن عواد المغامسي ،ولدت في المدينة المنورة عام1383هجري درست المرحلة الثانوية في معهد المدينة العلمي ومرحلة البكالوريوس(تخصص لغة عربية ) في كلية التربية بجامعة الملك عبدالعزيز ،وبدأت الدراسات العليا بجامعة الملك سعود ،عينت مدرسا عام 1405هجري في مقر متوسطة كعب بن مالك بالمدينة ثم عينت مشرفا تربويا عام 1413هجري وفي عام 1418هجري انتقلت إلى كلية المعلمين بالمدينة .اعتنيت بطلب العلم عبر كثرة القراءة منذ الصغر ، وأدركت العلامة المفسر الشيخ الأمين الشنقيطي وكنت جارا له ولم أشرف بالأخذ عنه ، إلا أني أخذت عن تلميذه الشيخ الجليل : عطية محمد سالم . رحمهما الله . "وقد تأثرت كثيرا في الناحية الإيمانية عند الشيخ : عبدالله عمر الشنقيطي ـ حفظه الله ـ وسعيت كثيرا ولا أزال أن أتشبه به في تقوى الله والخوف منه وتعظيمه سبحانه وتعالى" كما تأثرت بطريقة الشيخ عطية محمد سالم والشيخ عبدالقادر شيبة الحمد في التدريس لاعتمادهما على الشمولية في التعليم ، وهذا مطلب صعب ، لكنني اجتهدت في تحصيله ، وأنا راض بما وصلت إليه في هذا المجال ، وأطمع من الله في المزيد ، وقل رب زدني علما . أما عن الإمامة والخطابة فقد بدأت الإمامة مساعدا في مسجد السلام بالمدينة عام 1408هجري ومعها بدأت أولى دروسي العلمية في نفس المسجد ، وكان الدرس عصر كل خميس من كل أسبوع ، ثم أضحى درس تفسير مخصص ثلاثاء كل أسبوع . أما الخطابة فقد بدأت بصورة منتظمة عام 1412هجري في مسجد المهاجرين بحي الهجرة بالمدينة ، ثم أصبحت خطيبا لجامع الملك عبدالعزيز ثم من الله علي في الشهر الخامس من عام 1427هجري بالخطابة في مسجد قباء ولا أزال ولله الحمد .
* كثيرا مايقول الشيخ صالح : " انقطع الوحي بموت الأنبياء ، فمن أراد العلم فليقرأ " هل من حديث حول ذلك ؟(32/2)
ـ نعم . فلا يتصور استغناء طالب العلم عن القراءة ، قيل للبخاري : ماطلب العلم ؟ قال : " المطالعة وكثرة التأمل والنظر في الكتب " . وأحسب أن القراءة اليوم تكاد تكون أعظم السبل لتحصيل العلم ، ولا يعني هذا الزهد في مجالس العلم وحلقاته ، لكن لابد للمرء من ساعات يكون فيها أسير مكتبته ، ورهين قراءته ، مع تدوين وشغف بالعلم ، كل ذلك يساعد على تكوين شخصية علمية .
* مقولة قالها الشيخ صالح وغيره كثير وهي أن الإعلام من أقوى الوسائل تأثيرا في المجتمعات .. ومع ذلك لم نر الشيخ صالح إلا عبر قناة المجد حتى الآن .. فهل فضيلتكم يؤيد ظهور المشايخ والدعاة في الفضائيات بعامة وأن ذلك خيرا ، أم لكم نظرة معينة وأنها ليست سواء ..أرجو التفصيل في هذه القضية ؟
لا أرى جواز الظهور في أي قناة إعلامية على إطلاقها ، وإن كنت أحترم رأي المخالفين في الرأي ، وأجد للفضلاء الذين يرون جواز ذلك عذرهم ، فالمسألة ليست قطعيا لكن ثمة قنوات بلغت من الفحش مداه فلا يحسن تزكيتهم بالظهور في شاشاتهم .
*الإعلام والأعلام .. الأولى بكسر الهمزة والثانية بفتحها ..كيف يمكن تصحيح المفهوم الخاطئ حول أنه لا يكون الأعلام إلا بالإعلام ؟
ـ نعم . هناك ارتباط وثيق في عصرنا بين الإعلام والأعلام ، وبصورة أوضح إذا كان هناك شخصية علمية متمكنة يمكن للإعلام أن يظهرها ، لكن الإعلام لا يمكن له أن يبني شخصية علمية ، ولو حصل ذلك فهو إلى حين ولا بد للناس بعد ذلك من أن يعرفوا الفرق بين من صنعهم الإعلام ، وبين من أسهم الإعلام في إظهار علمهم للناس .
* ننتقل إلى جانب آخر .. الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله إمام وخطيب المسجد النبوي ، ذكرتم في أكثر من مناسبة أنه من أحب خلق الله إليكم وأنك تأثرت به إلى أبعد درجة . رحمه الله . هلا أمتعتم القراء بجوانب من حياته وأشد ماأعجبكم فيه أو علق بذاكرتكم منه ؟(32/3)
ـ أما الشيخ عبدالعزيز بن صالح فالحديث عنه يحتاج إلى صفحات ، ولقد كنت أحاكي طريقته في التلاوة من قبل 35عاما . رحمة الله تعالى عليه . إضافة إلى أنني تأثرت جدا بقوة شخصيته التي ينجم عنها نفع للناس وتحقيق لمصالحهم ، بعكس من تراه من الناس قوته في الظلم والإستبداد .
* كلمة يرددها الشيخ صالح كثيرا وخاصة عند ذكر المدينة فدائما ما نسمعه يقول : " أنا ابن المدينة " فماذا تعني لكم المدينة؟
ـ الشرف لي أن أكون واحدا ممن ينتسبون إلى هذه البلدة المباركة ، ولا يخفى الآثار المتواترة في بيان فضلها فأنا في أحيائها نشأت وترعرعت ، وفي مسجدها المبارك صليت ، وإلى قباء قدمت وعلى منبره خطبت ، وفي حبها قلت :
هواك شاقني فشدا بياني*** يبثك خاطري ورؤى حناني
ذكرتك والحمام يطوف حولي*** يردد خافتا نغم الأذان
فجالت في مخيلتي القوافي*** تسطر مارأين من الحسان
فيا خير البقاع ومأوى طه*** وروضا زاهرا في كل آن
فلي قرب العوالي هوى وذكرى***ليال قد مررن كما الثواني
وكم جئت البقيع أزور صحبي فيرشدني الصحاب إلى مكاني
أرجو أن يكون ذلك بعد عمر مديد وعمل صالح وخاتمة حسنة . آمين .
آمين يارب العالمين . بصحة وعافية . لننقلكم إلى حياتكم الخاصة : كيف توفقون بين حياتكم العامة والخاصة لا سيما مع كثرة الأسفار وتواليها ؟
ـ التوفيق بين الحياة العامة والخاصة يحتاج إلى بعض التضحيات ، والحق أن أسرتي ـ رعاهم الله ـ يساعدونني كثيرا في هذا الجانب ،ويتقبلون كثرة ترحالي ، كما أنني ولله الحمد محفوف بدعاء الوالدين ـ متع الله بهما ـ ورزقني برهما فلهما علي فضل كبير عز نظيره وقل مثيله .
* كيف هو منهجكم في التعامل مع أبنائكم . حفظهم الله ؟(32/4)
ـ أما بالنسبة لتربية أولادي فإنني أؤمن يقينا أن الذي يبقى هو ذلك العمل الذي لا يراد به إلا وجه الله ، ولذا فأنا أحرص على أن يعبد أبنائي وبناتي ربهم ، لأنه الله المستحق للعبادة لا لأن أباهم فلان أو فلان من طلبة العلم . وعلى هذا فأنا لا أجبر أبنائي ولا من حولي على السير في طريق معين ، المهم أن يكونوا مستقيمين بعيدين عن المعاصي ، والقدرات والمواهب تختلف ، ولا يمكن جمع الناس تحت مظلة واحدة .
* هل تحدد لهم مسارات التعليم ؟
ـ لا . فأنا لا أؤمن بالتدخل المباشر وإنما الإشارة فقط .
* ذكرتم في إحدى محاضراتكم قصة الرجل الذي استودع الله تعالى جنينا في بطن امرأته وسافر ثم عاد وقد ماتت وجنينها حي في قبرها بين قدميها ..وقامت بعض مواقع الإنترنت بنشر هذا المقطع من المحاضرة بين الناس وأيضا تناقله الناس عبر "البلوتوث" ولكن كثيرا من الناس استغرب من القصة ..مماجعل الأسئلة تتوالى عليكم عن مصدرها ؟ فهل يمكن إزالة الإشكال حول هذه القصة ؟(32/5)
ـ في الحقيقة أنني لم أدخل بلدة إلا وأسأل عن هذه القصة ، والذي أقوله هو أن الأصل في الدروس والمحاضرات أن تكون مستقاة من الوحيين : الكتاب والسنة وتستنبط الفوائد منهما لأنهما الأصل ، أما أن يقوم من يحدث الناس بذكر قصة فقط ويستنبط منها فهذا هو الخطأ بعينه ، هذه القصة ذكرت ضمن محاضرة بعنوان " فاجعة الفجر " وكان مما جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ ثم ذكرت هذه القصة ، وسواء صحت القصة أو لم تصح هذا لا ينفي عظيم قدرة الله وأنه كما ثبت في الحديث الصحيح : أن الله إذا استودع شيئا حفظه ، وقد اتصل بي هاتفيا داعية في منطقة القصيم وأخبرني أنه ألقى كلمة في مسجد هناك وذكر تلكم القصة يقول الداعية : استوقفني بكاء شديد لأحد كبار السن الحاضرين وظننت سبب بكاءه تأثره بالقصة فإذا به يقف أمام الناس وهو يقول : سبحان الله !! حدثت هذه القصة ذاتها منذ عشرات السنين حين كنا في رحلة للحج حيث توفيت معنا امرأة حامل فدفناها ومضينا إلى حجنا ..وفي طريق عودتنا وجدنا جنينها حي في قبرها .
* الذي لا يعرفه كثير من الناس عنكم أنكم من محبي الشعر وممن ينظمه .. فهل السر راجع لتدريسكم مادة الأدب الحديث ؟
ـ نعم بلاشك ، وأيضا لمطالعتي للشعر دور كذلك .
* ذكرتم كثيرا أن بينكم وبين شوقي علاقة روحية .. فما سر هذه العلاقة ؟
ـ لشوقي وشعره وفلسفته دور وأثر كبير في حياتي فأنا أقرأ له وأحفظ منذ الصغر ، وأنا أكاد أجزم أنه أفضل شاعر عرفته لغة العرب ، وقصائده في مدح النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل ماقيل في مدح رسول الهدى ونبي الرحمة ـ عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى سلام ـ
* هل لكم أن تحصوا مجلة نون ببعض الأبيات التي نظمتموها ولم تنشر ؟(32/6)
ـ نعم . ففي عام 1409هـ كنت مدرسا في المرحلة المتوسطة وتوفي طالب من طلابي كان أثيرا عندي واسمه : فارس حسن العمري ـ رحمه الله ـ ولظروف ما لم يستطع والده آنذاك حضور دفنه " فقمت بالنزول في قبره ودفنه في بقيع المدينة " وعدت يوم السبت4/9/1409هـ إلى المدرسة فلما قابلت أحد زملائه واسمه فهد ، كتب الله أن أقول في رثاء فارس هذه الأبيات :
وافارساه أيدري القبر من فيه
فيه الفؤاد ومن بالروح أفديه
لولا الإله وإيمان أدين به
لكنت قربك أشفي ما ألاقيه
لكنها سنة الله التي سلفت
إن الإله لما قد شاء ممضيه
كم من فواجع شتى قد بليت بها
لكن موتك لا شيئ يدانيه
لكن موتك أحزاني بأجمعها
ياليت شعري ماذا أنت لا قيه
نزلت قبرك والأحزان عاصفة
والدمع مني حبيس في مآقيه
واريتك الترب لم أدري بما صنعت
مني اليدان ولا مالكفن يطويه
أبكي عليك إذا مالفصل أدخله
ولا أراك طليقا في نواحيه
أبكي عليك إذا مالدرس أشرحه
ولست تكتب ماقد كنت أمليه
أبكي عليك إذا فهد يناظرني
قد أخفى في القلب ما الأحزان تبديه
لهفي عليك إذا مالعيد هل على
هذي الديار فأين العيد تقضيه
بني هذا قضائي قد رضيت به
فحسبي الله في هم أعانيه
أرجوا لك الله في سر وفي علن
أن يجعل القبر روضا أنت رائيه
في رحمة الله ابن كان لي أملا
قد وسد الترب وانفضت مغانيه
رحمه الله وغفر له .
*المتابع لأنشطتكم يلاحظ أن علاقتكم بأهل الرياض قوية ومتينة .. ومتميزة عن غيرها وفريدة ،، فما السر في ذلك ؟ هل لأنكم عشتم في الرياض ؟
ـ نعم . لأهل الرياض مكانة خاصة وطلبة العلم فيها خاصة لهم علي فضل كبير ، فقد قلدوني ما لاأستحق من الإجلال والإكرام . كما أنني أدين لكل من يسمع لي بالفضل في مملكتنا الحبيبة وفي سائر أقطار الأرض .
*ننتقل إلى الأسئلة المباشرة.. موقف أثر في الشيخ صالح ؟(32/7)
ـ أكثر ماأثر في التعاطف الكبير الذي وجدته من عموم المسلمين أثناء مرضي ، وهذا ابتلاء عظيم أعظم من المرض نفسه ، ولقد كان يبلغني سؤال العجائز في بيوتهن عني ودعائهم لي ، وأرجو الله برحمته ألا يكون هذا استدراجا ، إن ربي لطيف لما يشاء .
* برنامجكم محاسن التأويل ماذا يعني لكم ؟
ـ بدأت العلاقة مع الفضلاء في قناة المجد من خلال المشاركة في برنامج " يدعون إلى الخير " قبل أربع سنوات ثم قدر لي أن أشارك في الدورة العلمية في جامع ولي العهد بجدة وشرحت خلالها كتاب " الدرة المضيئة " وتم عرضه في قناة المجد ضمن برنامج " مجالس العلم " بعدها أشار علي الشيخ الفاضل : راشد الزهراني ببرنامج ثابت فسجلت لي القناة 12حلقة من برنامج " مجمع البحرين " ويظهر أنه لاقى صدىً طيباً ، فعرضت علي القناة برنامجا يوميا يعرض في شهر رمضان عام 1426هـ فكان برنامج " من معين القرآن " بعده تم الإتفاق على إعداد برنامج طوال العام يعنى بالتفسير فكان " برنامج ـ محاسن التأويل ـ الذي أتقرب إلى الله به ، فهذا البرنامج لي رأس مال أرجو أن يعينني على إتمام تفسير كتاب الله تعالى"
"نون" خلف كواليس " المدائح النبوية " للشيخ المغامسي .
البرنامج نقلة نوعية في برامج السيرة النبوية .
تتابع نون أولا بأول صحة الشيخ صالح المغامسي وأنشطته العلمية والإعلامية ، وحاولنا جاهدين أن نضيف لمسات نحسب أنها رائعة إلى هذا اللقاء ، الذي نرجو أن يكون نافعا ومفيدا في المقام الأول ، فقد رصدنا لكم إضافة على هذا الحوار ، رصدا خاصا لبعض من جديد الشيخ الرمضاني ، ألا وهو برنامج انتهى فضيلته من تصويره مؤخرا سيبث على قناة اقرأ الفضائية .. نون حرصت أن تتواجد وترصد لكم التالي :
فكرة البرنامج:(32/8)
هي فكرة رائعة ورائدة وجديدة في مجال السيرة النبوية ، حيث علَّق فضيلته على القصائد التي قيلت في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع ذكر بعض الوقائع من السيرة النبوية التي تأتي بذكرها الأبيات ، ويتم التعليق عليها تعليقا شافيا من الشيخ ، وذلك من الناحيتين التاريخية الأدبية ومن الناحية الشرعية من خلال بعض النصوص إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، وبالتالي فهي فكرة على الصعيد الإعلامي يعز نظيرها .
ويقع البرنامج على عشرين حلقة مدة الحلقة الواحدة 25دقيقة تقريبا .
اسم رائع .. ومكان أروع :
كما سبق وذكرت فبرنامج كهذا البرنامج الذي يحمل فكرة تعد نقلة نوعية في البرامج التي تعرض السيرة النبوية ، فهو بلاشك يستحق الإهتمام ، ولذلك فقد تمت العناية به أعظم العناية لا من حيث اختيار مكان التصوير أو اختيار اسم البرنامج فأما مكان التصوير فقد كان في قصر طويق بالحي الدبلوماسي " حي السفارات " بالرياض ، في حدائق القصر والمسطحات الخضراء التابعة له ، وأما اسم البرنامج فهو موسوم بـ " المدائح النبوية " ، ماأروع المكان وما أروع الاسم ، ولكن هذا الجمال ليس بمستغرب على برنامج يتحدث عن " خير خلق الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم " والذي يعده ويقدمه هو درة المدينة النبوية وابنها البار الشيخ صالح المغامسي حفظه الله .
شكر وعرفان
وجه الشيخ صالح المغامسي عبر "نون" شكره العميق للجهة التي تم إعداد البرنامج لها وهي : البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم د/عادل الشدي ود/ أحمد المزيد الذين كانت لهم اليد الطولى في إقامة هذا البرنامج ، كما شكر فضيلته مؤسسة رواسن التي تولت إنتاج البرنامج وكافة فريق العمل الشكر لقناة اقرأ الفضائية التي ستبث البرنامج شهر رمضان المبارك .
مشاهدات(32/9)
ـ التصوير في هذا المكان الرائع كانت له ضريبة باهظة ، حيث كان التصوير في الهواء الطلق متعبا وطريفا بعض الشيء حيث توقف التصوير مرات عديدة بسبب طائرة مرت في الجو !! أو سيارة مرت مسرعة قريبا من البوابة فأصدرت أصواتا دعت لإيقاف التصوير !!إلى غيرها من المواقف التي أضحكت فريق العمل إلى جانب شيء من التعب .
ـ تم تسجيل البرنامج في وقت قياسي بل وقياسي جدا حيث تسجيل العشرين حلقة خلال خمسة أيام فقط .(32/10)
ختامها مسك : للشيخ صالح بن عواد المغامسي
قال من أسر شيئاً أظهره الله على قسمات وجهه وعلى فلكات لسانه ، ومن عامل الله بصدق وقر في قلبه أن الله جل جلاله أجل وأعظم وأكبر من أن يخدع ، قال الله في حق أهل النفاق
( يخادعون الله وهو خادعهم ) وقال جل وعلا في حق أهل المكر ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) وقال ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) موضع الشاهد من هذا كله أن العبد إذا أراد الله به خيراً أصلح منه تلك المضغة قال صلى الله عليه وسلم ( آلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله .........الحديث ) وما سعى ابن أدم في إصلاح شيء أعظم من سعيه في إصلاح قلبه ولن يصلح القلب شي مثل القرأن ، قال الله جل وعلا ( فذكّر بالقرأن من يخافُ وعيد )فمنزلة العبد عند ربه بقدر منزلة القرأن وأثرة في قلبه ، لإن الله لما ذكر الأصفياء والأخيار والعظام من النبيين والمرسلين أخبر بخضوع قلوبهم وخشوعهم أمام آياته ، فكانت لآيات الله جل وعلا في قلوبهم المنازل العالية ، فلذلك كان لهم عند الله جل وعلا المقامات العالية ..قال الله جل وعلا
( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية أدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرّوا سجّداً وبكيا ) ..غاية المقصود في هذه الوقفة القرآنية أن يصلح الإنسان قلبه وهو يتعامل حقاً مع ربه فإنه لابد أن يعلم أن الله جل وعلا لا تخفى عليه من عباده خافيه، والناس معذورون أنهم يحكمون على كل أحدٍ بحسب ماظهر من قوله وفعله ، لكن الميزان الحق يوم القيامة إنما يكون بناءً على ما أسرة الناس في قلوبهم ..قال الله جل وعلا ( يوم تبلى السرائر ) ...هذه الوقفة الأولى أيها المباركون مع قول الله جل وعلا ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس )....
,,,, الوقفة الثانية ,,,,,(33/1)
مع قول الرب تبارك وتعالى ( إن الله لايستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها ) وهي في نفس السورة سورة البقرة ..الله جل وعلا خاطب عبادة بما يعقلون وقد جرت سنّة العرب في كلامها والقرأن نُزل بكلامهم أنهم يضربون الأمثال ..يقصدون بذلك الإجازة في اللفظ وتقريب المعنى وحسن التشبيه ، والقرأن جاء متضمن أمثال عديدة ساقها العلي الكبير تقريباً لعبادة وحثاً لهم على الدنو من رحمته ...فضرب الله مثلاً للذين يجعلون من آلهة يعبدونها أو أولياء يتعلقون بهم بدفع مضرة أو جلب نعمة جعل لهم مثلاً كالعنكبوت تتخذ بيت وليس بيتها بواقٍ لها شيئاً لا حراً ولا برداً ولا ضراً ولا أذا ..قال سبحانه ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن اوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) وبين الله جل وعلا وهذا من نسق القرأن أن الله يحكم على شي العديم الفائدة كأنه غير موجود كما قال فيمن له سمع وبصر لا ينتفع به ..أخبر جل وعلا أنهم ليس لهم أبصار وليس لهم سمع لإن الإنسان إذا عطل النفع بتلك الجارحة كأن الجارحة لم تكن ومع أن القرشيين واضرابهم كانت لهم أصنام محسوسة وآله معلقة على الكعبة يعبدونها ويأتون إليها وينذرون لها لكن قال الحق الكبير ( إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شي ) فنفا الله عنها جل وعلا الوجود معناً لا حسا وإلا هي حساً موجودة لكنها كأنها غير موجودة لإنها لا تقدم ولا تأخر ولا تضر ولا تنفع ، كما ضرب الله جل وعلا مثلاً لعالم السوء الذي لا يعمل بما يعلم قال الله ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فنسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شأنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ساء مثلٍ القوم الذين كذّبوا بآياتنا فقصص القصص لعلهم يتذكرون ) نقول يقول العلماء أن أدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض حث إبليس السباع ضده ..(33/2)
ضد أدم عليه السلام ، وكان الكلب يوم ذاك سبعاً مفترساً فتقدم الكلب السباع لإذاء أدم عليه السلام فجاء جبريل ينصح أدم كيف يتعامل مع سبعية الكلب ..فقال جبريل لإدم أمسح على رأسه ..أي أمسح على رأس الكلب ..فمسح ادم عليه السلام بوصية جبريل على رأس الكلب ..فلما مسح على رأس الكلب مات قلبه ..فلما مات قلبه فقد خاصيته فلم يعد سبعاً مفترساً ولم يعد حيوناً اليفاً ولذلك ترى بمقتضى العادة بمقتضى العرف بمقتضى الشي المشاهد أن الكلب إذا غلبت عليه مسحت أبينا أدم يحرسك يحميك ولهذا أباح الله أكل صيده ,,وإذا غلبت عليه إغواء إبليس يفترس بني أدم ..لكنه في حقيقته ميت القلب لذلك يغدوا ويروح وهو يلهث ..فضرب الله عياذاً بالله لعالم السوء بقلب الكلب وبالكلب جمله (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث )
إن الله جل وعلا جعل هذا العلم إما حُجة لحامله أو حُجةً عليه ..ومن أعظم دلالة العالم حقاً ليست فصاحت لسانه ولا بلاغة بيانه ولا بكاءة بين الناس ولا رفع صوته بالدعاء ولا إتقان ترتيله وإنما بخشيته لرب تبارك وتعالى في السر والعلن وخشيته في الغيب والشهادة جل وعلا ..قال العلي الكبير ( أماً هو قانتٌ أناء الليل ساجداً او قائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه * قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) فقال سبحانه ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) بعد أن قال ( أماً هو قانتٌ اناء الليل ساجداً او قائما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه ) وقال في آيةٍ أوضح ( إنما يخشى الله من عبادة العلماء ) وقال الحسن البصري رحمة الله تعالى عليه ..إنما العلم الخشية فكل من عصا الله جاهل بمقدار تلك المعصية وكل من خشي الله فهو عالم بمقدار تلك الخشية ، وتقع على أهل العلم وحملت الدين ورقات المنابر وأئمة المحارب مالا يقع على غيرهم ....
معشر القراء يا ملح البلد &&& من يُصلح الناس إذا المِلحُ فسد ؟؟!(33/3)
بالملح نُصلح ما نخشى تغيُرهُ &&& فكيف بالملح إن حلت بهِ الغيرُ
إن الناس إذا كانت أئمتهم أئمةً في الخير يقولون مايفعلون ويأتمرون به وينهون عن المنكر ويجتنبونه ويأمرون بالمعروف ويأتونه ..ويتمثلون بخشية الله في غدوهم ورواحهم مع يقينهم وعلمهم أنه قد كتب الله علينا المعاصي ..كل بني أدم خطاء وخير الخطاءين التوابون ..لكن إن كان هناك نوع من المجاهرة ودفع الشر والأذى كان الإنسان أقرب إلى رحمة ربه وأدنى إلى فضل مولاه والله يحب من عبده أن يعلم العلم ويعمل به ..قال الله لخير خلقه ( وقل ربي زدني علما ) وما أمر الله نبيه بإن يزداد من شيء بعد فعل الخيرات كما أمر بأن يزداد من العلم لإن العلم سبيل موصل إلى رحمة الرب تبارك وتعالى ..ولقد شهد التاريخ الإسلامي أئمةً مهديين ودعاةً صالحين جمعوا مابين العلم والعمل وأمتثال قول رسول الله صلى الله علية وسلم سواءً أكان ذلك من الصحابة أو ممن أتبعهم بإحسان أو ممن مضوا من أهل القرون السابقة والأيام الخالية إلى زماننا هذا وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..
الوقفة الثالثة أيها المؤمنون .....
مع قول الرب تبارك وتعالى ( وإذا المؤودةُ سأُلت بأي ذنبٍ قُتِلت )(33/4)
ووجه الإشكال في الآية أن السؤال أن يظن العبد أنه من المفترض أن يوجه إلى من وأد لا إلى من وئدت لكن قال أهل العلم في الجواب عن هذا أن المقصود أن من كان يأد البنات ..أي يوميتهن وهن أحياء أو يدفنهن وهن أحياء لا يقيم الله جل وعلا له يوم القيامة وزن فلذلك من ليس له كرامة عند الله فلذلك لا يسأل مباشرة وإنما يوجه السؤال لغيره حتى يُعرف مقامة عند الله وأنه لا مقام له عند ربه قال الله عنه وعن أمثاله ( فلا يقيم لهم يوم القيامةِ وزنا ) فتُسأل الموؤدة بأي ذنب قُتِلت وقد قال الله في النحل ( وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشربه أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون )(33/5)
أصل ذلك عند العرب أن رجلاً منهم أغار عليه أعدائه فأسروا أبنته وهو غير موجود فلما عاد وصارع خصومه بعد حين وضعت الحرب أوزارها فاصطلحوا فخُيرت البنت المأسورة مابين أبيها ومابين آسرها الذي أصبح زوجها فلما خُيرت اختارت زوجها وآسرها وتركت أباها ..فقال أبوها آلا لله أن لا تلد له ابنة إلا ذبحها حتى يدفع عن نفسه مذمة العار والشنار عند العرب ..فتبعه بعض العرب على هذا ..هذا سبب من أسباب وئد البنات ، والسبب الثاني كان يأتي على البنات والبنين وقد عبّر الله عنه في القرأن بقتل الأولاد لإن الأولاد يطلق على الذكر والأنثى فكانوا يقتلون أبناءهم إما خشية الفقر أو يقتلون أبناءهم من الفقر وفي كُلٍ جاء القرأن ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ) ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) بِكلٍ ذكر الله جل وعلا في الانعام وفي الإسراء ، المقصود من هذا ..هذا ديدن العرب في جاهليتها فكان الرجل إذا أراد أن يقتل خوف مذمة العار إذا أصاب زوجته الطلق وقرُب منها ودنت من الولادة أخذها إلى حُفيرة وجعلها تلد على رأس الحُفيرة فإذا ولدت ذكراً اعادها هي والمولود ، وإن ولدت أنثى رماها في تلك الحفيرة ثم دفن عليها ..أما قتلهم لبنيهم وأبناءهم خوف الفقر فإنه يترك الطفل يشُب قليلاً ثم يزينه ثم يذهب به إلى الصحراء ثم يأتي به إلى بئر عميقة فيضعه على شفير البئر لينظر فإذا نظر دفعه من الخلف ثم واراه كل ذلك خوفاً من الفقر وهذا الصنيع جاء الإسلام فأبطله بمبطلات عده ..أبطلة بالنكير قال الله ( ألا ساء ما يحكمون ) وأبطله بالتخويف قال الله تعالى ( بأي ذنبٍ قُتِلت ) وأبطله بما أظهره الله على لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه من إكرام المرأة المؤمنة ، فلما تشفع أسامه إبن زيد عنده صلوات الله وسلامه عليه في المخزومية التي سرقت قال صلى الله عليه وسلم وآيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ..(33/6)
فعبر عن فاطمة ليبين العلاقة العظيمة بينه وبين أبنته رضي الله عنها وأرضاها ولهذا قال الإمام الذهبي في ترجمته لفاطمة هي الجهة المصطفوية والبضعة النبوية رضي الله عنها وأرضاها ....
كما عبر صلى الله عليه وسلم لما رأى ابنته زينب تُخرج عقداً كانت قد أهدته إليها أمها خديجة رضي الله عنهن أجمعين لما كان يوم نكاحها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبنته أخرجت العقد لتفدي زوجها ذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه ، هذا كله في سياق بيان مكانة البنات عند الآباء في الإسلام ، وأكرمها الله أماً ( حملته أمه وهناً على وهن ) وإنم من أعظم أسباب بعد التوفيق عياذاً بالله عقوق المرء لوالدته او عقوقه لوالدة ..قال صلى الله عليه وسلم ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ) ليبين حق الأم قبل أن يبين حق الآباء وبكلٍ جاء الحق القرآني ..نقول أيها المؤمنون أن العقوق من أعظم أسباب البعد عن التوفيق والهدايه عياذاً بالله ، على هذا أكرم الإسلام المرأة بنتاً وأكرمها أماً وأكرمها خاله ، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل قال يا رسول الله أشكوا إليك كثرت ذنوبي ..قال ألك والدة ..قال لا ..قال ألك خاله ..قال نعم ..قال فبرها إذاً ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم أن يبر الإنسان ببر خالته كبره لوالدته وأن في ذلك رفع لدرجات ومحواً للخطايا وتكفيراً لسيئات ، وأكرمها الإسلام وهي عمة قال النبي صلى الله عليه وسلم ..قال يوم أحد لولا أن تغضب صفية أوقال كلمةً نحوها ..لفعلت وفعلت ...فقال صلى الله عليه وسلم ذلك إكراماً لصفية عمته رضي الله عنها وأرضاها ......(33/7)
المقصود أن الإسلام أكرمها في هذه النواحي المحرميه ، وأكرمها وهي زوجه ..وقال صلى الله عليه وسلم أني أحرّج على الله حق الضعيفين ..حق المرأة وحق اليتيم ، وقد ظهر في زماننا رجال خلو من المروءات ..تسلطوا على أموال زوجاتهم يأخذونها بالباطل ويجعلون من القوامة الشرعية طريقاً إلى أكل أموالهم بالباطل ، ويهدد الرجل المرأة بالطلاق إن لم تعطه أو إن طالبة بحقها ,..ينتهز سيف الحياة ليجبرها على ما تكره وكل هذا محرم قال الله ( إلا أن تكون تجارةٌ عن تراضٍ منكم ) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا سبيل إلى مال المؤمن إلى من طيب نفس منه ، لكن الآية وإن جاءت في الموؤدة فالعاقل يقسها على غيرها ..فأكلت الربا سيسألون عما أكلوه وأكلوا الرشوة سيسألون عما أخذوه ، والذين منعوا العمال والأجراء والخدم والضعفاء حقهم سيسألون عما حرموه قال الله جل وعلا ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة * فلا تُظلم نفسٌ شيئا وإن كان مقدار حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) والله جل وعلا حكمٌ عدل لا يضيع عنده يوم القيامة شيئا هذا ما أخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم ...
خاتمة اللقاء أيها المؤمنون قول الله جل وعلا في سورة المطففين ...
( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون * كتابٌ مرقوم يشهده المقربون * إن الإبرار في نعيم * يسقون من رحيقٍ مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون )
الجنة أيها المؤمنون أعظم مقصود ..من قلب أحد على جنبيه ولا قعد أحد من فراشة ولا رفع أحد يديه إلى الله يسأله شيء أعظم من الجنة ..
أسأل الله بمنة وكرمة أن يدخلنا وأياكم الجنة ...(33/8)
أخبر الله جل وعلا أن الصالحين من خلقة كانوا يسألونها ربهم ..قال الله جل وعلا مخبراً عن كثيرٍ من الصالحين في آيةٍ جامعةٍ مانعة ( كان على ربك وعداً مسؤلا ) أي الجنة وعد أعطاه الله عبادة ويسألوه عبادة إياه ، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح لما ذكرت له عائشة ..عبدالله إبن جدعان وما كان يصنع في الجاهلية قال إنه لم يقل يوماً من الدهر ربي أغفر لي خطيئتي يوم الدين ، والمقصود من هذا أن الجنة لها ثمانية أبواب ..أبوابها أفقيه وأبواب النار رأسيه ، جاء في الحديث أنها ثمانية أبواب لهذه الأمة باب خاص بها ، والنبي صلى الله عليه وسلم حث أمته بكل وسيلة على أن يسعوا إلى الدخول إلى جنات النعيم ، وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله أن كتاب الأبرار لفي عليين وكتاب الأبرار هو مجمع أرواحهم ذلك أن الروح إذا قبضت يتبعها البصر ثم تستقر أرواح المؤمنين في عليين وأرواح الفجار في سجيين فإذا أستقرت أرواح المؤمنين في عليين اذن الله أن ينفخ في الصور النفخة الثانية فرجعت تلك الأرواح من مستقرها إلى تلك الأجساد التي خرجت منها ، فإذا التأم الجسد مع الروح دبت فيه الحياة فيخرجون من القبور كما أخبر الله في كتابة ( يوم يخرجون من الأجداث كأنهم جرادٌ منتشر ) وقال في ياسين ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون * قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) تكون أمور وأمور قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة ، فإذا دخلوها نحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ، ثم رأو من نعيم الله وعظيم الآلاء مالم يخطر لهم على بال ، قال الله
((33/9)
فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرةِ أعيون جزاءً بما كانوا يعملون ) ومما أخفاه الله جل وعلا لهم هذا الرحيق المختوم ، وينبغي أن يفرق مابين مختوم في ( رحيق مختوم ) وما بين ( ختامه ) في الآية التي تليها ..فمن ذهب من أهل التفسير إلى أن المعنى في سياق واحد ..في ظننا قد أبعد النجعه ، وإنما الأصل في فهم الآية أن الله يخبر أن هؤلاء الأبرار أعد الله لهم رحيقاً ..هذا الرحيق مختوم أي أعلاه فلم يفكه ولم يفتحه أحد من قبلهم كما قال الله عن النساء ( لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جان ) هذا من أعلاه لم يفتح لإحد قبلهم ، فإذا شربوه فإنه جرت سنة الله القدرية في خلقه في الأشربه أن أخر الشراب يكون كدراً كما أن أخر الطعام يكون كدراً قد لا تستسيغه النفس ولذلك من أتاك من ضيوفك وأردت أن تسقيه قهوة مثلاً فإنك تأنف وتربا به أن تسقيه حثالة القهوة أخرها ، لإن أخرها ليس بحسن ليس كل الناس تستسيغه ، فالله كما أخبر أن الغطاء مختوم لم يفتحه أحد قبلهم أخبر أن الختام الأخير مسك ، خلاف ما عليه أشربت الناس في الدنيا ، فإذا كان أخر الشراب في الدنيا أسوء مافيه فإن شراب الجنة سقانا الله وأياكم منه يكون مخلوط ممزوجاً بالمسك يلعق في اللسان فلا يظن بنو أدم إذا شربوه أن فيه شيء من كدر ..(33/10)
قال الله جل وعلا ( ختامة مسك ) فلما ذكر الله الجائزة رغب فيها سبحانه فقال ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) والإنسان إذا رأى نعمة من نعم الله على غيرة فلا تخلوا تلك النعمة من أحد حالياً فإذا كانت نعمة دنويه وتمناها لنفسه دون أن يتمنى أن تزول عن غيره فهذه غبطه لكنها غبطه مباحة ولا نقول غبطة محمودة ، أما إذا كانت نعمة دينيه من الله بها على بعض خلقة فرآها العبد فتمنى مثلها لنفسه دون أن يتمنى زوالها عن أخيه فهذه غبطة ليست مباحة كالأولى لإن الأولى في شؤون الدنيا وإنما هي غبطة محمودة وهي معنى قول الله جل وعلا ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) ثم قال ربنا ( ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب منها المقربون ) ...
أيها المؤمنون لإن دل القرأن والسنة على الجنة أعظم ما أعدة الله جل وعلا لعبادة فقد دل القرأن والسنة على الطريق الذي يصل بها المؤمن إلى الجنة ..(33/11)
يصل المؤمنون إلى الجنة إذا كان قلبه مليئاً بالتوحيد خالياً من الشرك ، إذا كان قلبه مليئاً بالسنة خالياً من البدعة ، إذا كان قلبه مليئاً بالطهر والصفاء والنقاء خالياً من الغل والحسد والبغضاء ، هذا من حيث الجملة ، أما من حيث العمل فإن الإنسان ينبغي عليه أن يوطئ نفسه على أنه لابد من ملاقات الله وأن الإنسان ربما إذا عمل عملاً لرجل من أهل الدنيا ووجد عند ذلك الرجل الذي عمل له مالم يخطر على باله من المكافئة أو الحساب ، أضعاف أضعاف ماكان يأمل ..فإذا كان هذا في التعامل مع مخلوق فكيف التعامل مع الخلاق العظيم جل جلاله ، إن العبد كلما أخفى عن الناس عمله أخفى الله جل وعلا عن العباد أجره ،فالله جل وعلا بعد أن ذكر القائمين له قال ( تتجافى جنوبهم عن المضاحع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون ) هذا صنيعهم ، ثم قال في مكافئتهم ( فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرت أعيون جزاءً بما كانوا يعملون ) قال بعض أهل التحقيق من بعض أهل التفسير ..أخفوا عن الناس أعمالهم في الليل فأخفى الله جل وعلا عن الناس أجرهم ، ويجب أن توطن نفسك وانت تتعامل مع الله ان الله جل وعلا حيياً كريم جليل عظيم ..يجازي على الحسنة بعشر أمثالها ، وربما ضاعف لمن يشاء من عبادة وأنه حكيم عدل قال ( وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها ) لكن أعظم ما يقربك إلى الله أعمال السر التي هن ظاهرة لله وعن الناس خافية ، هذا الذي يدنيك ويقربك ، ولا يعني ذلك الزهد في أعمال الظاهر فمن خطت أقدامه إلى الجمع والجماعات وسعى في إنفاق المال في الصدقات والزكوات وبر والديه ووصل رحمة وغض بصرة وكتم غيظه كان له عند الله أعظم الخصال وأكمل السجايا ، هذا ما تيسر إرادة وأعان العلي الكبير على قولة ...
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .....ما بقي من الوقت إن اذن المشرفون يكون في الإجابة على أسألتكم .....
أنتهت المحاضرة(33/12)
بسم الله الرحمن الرحيم ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
أضع بين يديكم المباركه الجزء المتبقي من تفريغ محاضرة ختامها مسك لشيخ صالح المغامسي "حفظه الله "
هنا سؤال يا شيخ يقول ..من أكثر المشائخ الذين تعلمت منهم واستفدت وما أبرز هذه الفوائد ؟؟
ينسب العلم والفضل دائماً إلى الله ، ومن أراد أن يتحدث عن نعمه أنعم الله بها عليه فاليتحدث عن عظمة ربه ، كل من علمنا ولو حرفاً له علينا حق وله علينا فضل وله علينا منه ، لكن ما كان لما علموه أن يؤتي ثمرته لولا أن الله جل وعلا أذن بذلك ..قال الله ( ولو اننا نزلنا عليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ماكانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) ونسأل الله ان يزيدنا وأياكم من فضله وأن يرزقنا حسن شكر نعمه وفضله العلمي وغير العلمي ...
_ ماهي عوامل تقويت ضعف الإيمان وماهي الأسباب التي تؤدي إلى خشيت الله جل وعلا ؟؟(33/13)
جمع الله في كتابه وعلى لسان رسوله بين الإيمان والعمل الصالح ، فالأعمال الصالحة ينجم عنها أثر في القلب وزيادة في الإيمان ..قال صلى الله عليه وسلم من أصبح اليوم منكم صائما ..قال أبو بكرٍ أنا ..قال من أطعم اليوم منكم مسكينا ..قال أبو بكرٍ انا ...قال من عاد منكم اليوم مريضا ...قال أبو بكرٍ أنا ...قال من تبع اليوم منكم جنازة ..قال أبو بكرٍ انا ...قال مجتمعنّ في إمرءٍ إلا دخل الجنة ، فهذه تقوي الإيمان في القلب ، لكن كما قلت يوجد تلازم عظيم مابين الإيمان ومابين العمل الصالح ..لإن الإنسان إذا زاد الإيمان في قلبه إنعكس ذلك على جوارحه فسعى في فعل الخيرات من إقامة الصلوات وإتاء الزكوات وغير ذلك من الأعمال كلها ، لكن الناس من مشكلاتهم المعاصرة ..أنهم يعنون بأمور ويتركون أموراً أخر .. ولايوجد واعظ من المرء على نفسه ، يتكل الإنسان على مصبه الديني أو على نظرة الناس إليه أو على زهده فأما الاتكال على المنصب الديني يقول أنا ولله الحمد إمام مسجد أو محاضر أو رجل علم فيتكل على هذه الأمور دون أن يعظ نفسه ويكون رقيب عليها ، أو أنه عياذاً بالله يقول انا لست مصنفاً أصلاً في سياق أهل الإلتزام وليس مطلوب مني يكون لدي عمل صالح ، ولا ينظر الناس إلي على أني قدوه وهذا كله لا يعفيك لإن المسؤليه يوم القيامة مسؤليه فرديه قال الله جل وعلا ( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) لكنني أقول دائماً هذا ماقاله الله في كلامه .أن كل معصية وكل قسوة وكل ضعف في الإيمان ناجم عن ضعف العلم بالرب تبارك وتعالى ..الله جل وعلا ياأخي ..وهذه والله من فرائد العلم تكتب بماء العينين لا بماء الحبر ، الله جل وعلى قال في الحديد ( وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ) فالله الذي خلق الحديد قال..(33/14)
أن فيه بأس شديد وقال عن الحديد الذي قال عنه ( فيه بأس شديد ) قال عن داوود ( وألنا له الحديد) وذكر الله الحجارة وقسوتها لكنه لم يذكر جل وعلا أنه الآن الحجارة لإحد ..إلى الأن هذا علم نظري لكنه أخبر أن هناك قلوب أقسى من الحجارة ، هذه القلوب التي هي أقسى من الحجارة هي القلوب التي لاتعرف الله فمن كان لايعرف الله كان قلبه عياذاً بالله أقسى من الحجارة ولهذا فإن كل من عرف الله حق المعرفه لآن قلبه وخشعت جوارحه واستكان لإمر ربه تبارك وتعالى ...رزقني الله وأياكم هذه المنزلة ........
_ماهي أولويات قواعد طلب العلم وماهي الوسائل التي تؤدي إلى طلب العلم ...
هذا سؤال عام ومثل هذه المسألة يصعب الإجابة عليها ..لأن لا بد أن تعرف أين موضعه أصلاً .....
إنسان يقول لك أين طريق مكة ..أول سؤال تسأله ..أين أنت الأن ؟؟
فإذا كان موجود في أول طريق مكة ..تقول له أستمر ..فإذا قال لك أنا في الشمال تقول له اذهب إلى طريق كذا وكذا حتى تأتي إلى طريق مكة ..وإذا قال لك أنا في الشرق تقول له أخرج مع الدائري ..إطلع مع كذا حتى تصل إلى طريق مكة ثم تقول له أبدأ ...
لذلك لا يعقل أن يجاب إجابة عامه عن قول السائل كيف أبدأ العلم ..لإن لا ندري أهذا طالب جامعي أو طالب في المرحلة الثانوية أو غير طالب أكاديمي نظامي أصلاً ، لا نعرف مستواه كم يحفظ من القرآن ، هذه المنطلقات هي التي ينطلق منها للتوصية لطلب العلم ..(33/15)
الإنسان يقرأ في القرآن كأصل ثم يقرأ في التفسير والعقيدة والفقه والتاريخ مع علم الآله ، الذي هو علم اللغة ، ويمشي تدريجين ، يأخذ بقدر حتى يستقيم بنيانه ، حتى يصبح بعد ذلك مشيته في العلم عرجاء ، يعرف فن ويجهل فنون كثيرة ، فلا يستقيم أن يتصدر ، لكن تدريجياً مع التؤدة والأناة ووضع الخطوات ،فالعاقل لا يطير حتى يريش بل لا يستطيع أن يطير حتى يريش ومن مر بمرحلة بيات طويلة مر برمحلة ثبات أطول ، ومن لم يمر بمرحلة بيات طويلة لا يمكن له أن يقف ، يخرّج محاضرة ومحاضرتين وثلاث وأربع ثم ينتهي وتخرج محاضراته ودروسه إنشائية ليس فيها زاد علمي ، لكن من أراد ركاب العلماء الحق ..ليس ركاب من ينفع ، يأجر على نفعه ولو كان قليل البضاعة مأجور مثاب على خير وفضل عظيم ، لكن .. أتكلم عن سلم العلماء العالي لابد من علم الأله لابد أن يتعب الإنسان كثيراً في الطريق حتى إذا خرج للناس خرج ثابتاً يسير بخطوات ثابتة ، صعب جداً أن يسأل إنسان عن آيات الله آية ثم آية ثم آية وهو يجهل أقوال أهل الفضل والعلم فيها ..وهو قد تصدر للناس ...(33/16)
وقلنا مراراً أن الإمام أبا حنيفة رحمة الله تعالى ..كان له طلاب كان من أبرزهم أبو يوسف ، فكان أبو حنيفة رحمة الله يقول لفلان أنت قد أجزتك وأنت قد أجزتك وأنت أذهب ..ويترك أبا يوسف ، فأبا يوسف أخذه الشك في نفسه حتى مرض ، فلما مرض سأل عنه أبا حنيفة ..قيل له إن أبا يوسف مريض ، فذهب يعوده فوافقت زيارة أبي حنيفة لإبي يوسف شدة مرض أبي يوسف فظن أبو حنيفة أن أبا يوسف سيموت في مرضه هذا ، فلما وصل إلى باب الدار ..قال إنا لله وإنا إليه راجعون لقد كنت أعدك للناس من بعدي لإن مات هذا الغلام ليفقدن العلم أحد رجالاته ..وخرج ... فرجع الطلاب إلى أبي يوسف فأخبروه بما قال أبو حنيفة ..طبعاً برء ، صار طيباً بعد كلمات المدح ، فلما برء وعوفي لم يرجع إلى أبي حنيفة ..فتح حلقة في مسجد آخر ، فقال أبو حنيفة في الدرس ما فعل الله بأبي يوسف ؟ قالوا برء أيها الإمام قال فأين هو ؟ قالوا فتح حلقة في مسجد بني فلان ، فأقام طالباً من طلابه ، قال أذهب إليه وقل له إن رجلاً أعطا ثوبه لغسال يغسله ثم إن الرجل لما أراد ثوبه أنكر الغسال أن يكون قد أخذ ثوباً ، ثم إن الرجل أدركته التوبة فتاب فرد الثوب مغسولاً إلى صاحبه ، فسأل أبي يوسف هل للغسال أجره أوليس له أجره ؟؟(33/17)
فإن قال لك له أجره فقل له أخطأت وإن قال لك ليس له أجره فقل أخطأت ، فذهب الطالب الذي بعثه أبو حنيفة إلى حلقة أبي يوسف ، فجلس فلما فرغ الشيخ وجاءت الأسئلة ، طرح السؤال وهو مالئ يده من الإجابة ، فقال أبويوسف ليس له أجره ، فقال له الطالب بقوة أخطأت ، فتفكر أبو يوسف قال نعم نعم له أجره قال الطالب أخطأت ، ففطن أبو يوسف أنها حيلة من أبي حنيفة فعاد ..فلما عاد وجلس ونظر إليه أبو حنيفة ..قال ..يا أبا يوسف أعادتك إلينا مسألة الغسال ، ثم قال له ( وانظر إلى فقه أبي حنيفة ) قال يا أبن أخي كان ينبغي عليك أن تسأل من سألك ، إن كان الغسال قد نوى سرقة الثوب قبل أن يغسله فليس له أجره لإنه عندما غسله غسله لنفسه وإن كان الغسال غسل الثوب وليس في نيته السرقة ثم لما فرغ منه رآه جديد فنوى سرقته فله أجره ..لإنه عندما غسله غسله لغيره ، ثم قال كلمة معناها أنه من المستحيل أن يطير الإنسان قبل أن يريش ، فمن المصيبة أن يأتي إنسان يريد أن يتصدر وهو لم يأخذ من العلم شيء ويبين كل طالب علم على النبات والزرع فالزرع إذا كانت جذوره في الأرض أكبر كان قلعه صعب ومحال وإذا كانت جذوره في الأرض قليله كان سهل على الناس قلعه وكذلك طالب العلم إذا مر بمرحلة بيان يأخذ أكثر مما يعطي سيأتي عليه يوم يعطي أكثر مما يأخذ ، وإن كان بالعكس كان العكس ذلك وكل مأجور وليس المقصود إنتقاص أحد ولكن المقصود الحث على مراتب الكمال وعلو الهمة ، لما كان السابقون الأولون
فبادره وخذ بالجد فيه &&& فإن اتاكه الله أنتفعت
فإن أوتيت فيه طويل باع &&& وقال الناس أنك قد رؤوست
فلا تأمن سؤال الله عنه &&& بتوبيخٍ علمت فهل عملت ؟؟
_ ماهي طريقة الخلاص من الفتن في هذا الزمان وماهي وسائل الثبات على الدين ؟(33/18)
فتن الشبهات تدفع بالعلم ..وفتن الشهوات تدفن بالإيمان .. مع وجوب الفرار من مواطنها ومواقعها ، إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تمر على سلمى وواديها ، قال تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموه فاصبروا وهذا الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه خيرِ جيلٍ وأمثلِ رعيل ، فالإنسان يفر بنفسه قدر الإمكان أن لا يراه ، مع سؤال الله جل وعلا الثبات مع قيام الليل لإن النبي صلى الله عليه وسلم قرن مابين الخلاص من فتن الشهوات مع قيام الليل ، فقد قام صلى الله عليه وسلم كما في البخاري من حديث أم سلمه ..قال صلى الله عليه وسلم ( أيقظوا صواحب الحجرات ..سبحان الله ماذا أنزل الله هذه الليلة من الفتن ماذا أُنزِل الليلة من الخزائن )ذكر الفتن ثم قال
أيقظوا صواحب الحجرات ( رُب كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرة ) والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين قيام الليل ومابين البعد عن الشهوات ...
_ السر في قيام الليل وجود اللذة العظيمة .. ما السر ياشيخ في ذلك ؟؟(33/19)
هو ثمت أسرار بعضها نعلمها وبعضها لا نعلمها ..لكن .. لا أدري والله كيف يعني يُشرح ..لكن أي إنسان يحب أحد لا يحب أن يشاركه أحد في الجلسةِ مع محبوبة يريد أن ينفرد به ، والخلّص من المؤمنون لا أحد أحب إليهم من الله فجعل الله لهم الليل لينفردوا فيه بالقيام بين يديه ، الإنسان له جسد ، هذا الجسد في النهار يكده لإهله لذويه لرزقه للقمة عيشة وفي الليل يريحه بالعبادة بين يدي سيدة وخالقه ومولاه ..قال الله لنبيه ( إن لك في النهار سبحاً طويلا ) ثم قال ( إن ناشئة الليل هي أشد وطءً وأقوم قيلا ) // فناشئة الليل على الصحيح في التفسير هي الصلاة التي تقع بين منامين ، إن قيام الإنسان أول الليل ثم يستيقظ فيصلي ثم يعود فينام قبل صلاة الفجر هذا الأظهر من قول الله جل وعلا ( إن ناشئة الليل هي أشد وطءً وأقوم قيلا ) وقيل في تفسيرها غير ذلك ، لكن هذا المترجح عندي والعلم عند الله ، لكن المقصود أن الإنسان يجد من لذة الطاعة والعبادة بين يدي ربه في ظلمة الليل ما الله جل وعلا به عليم ..
أطار النوم خوفهم فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ
أسأل الله القبول لنا ولكم ...
_ هذا السائل ياشيخ يقول .. ماتفسير قول الله عز وجل ( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون )
هذه الآية صدرها في أهل الكفر ، فلا يجوز حملها على أهل الإيمان وإنما أصلها في أهل الكفر الذين كانوا يخالفون النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقول وأنه لاعذاب ولا عقاب ، وأنهم اشد تمكيناً إن كان هناك بعث في الآخرة ..كما قال الله جل وعلا عن بعضهم ( وقال لأوتينّ مالاً وولد ) قال الله ( أطلع الغيب أم أتخذ عند الرحمن عهدا ) لكن يخوف بها العصاة من المؤمنين ، لكنها لا تحمل حملاً كلياً على أهل الإيمان ..
_ يقولون ياشيخ ، بإن القلب يتأثر وقت المحاضرة أو وقت سماع القرآن فإذا خرج أو خلا بنفسه ذهبت هذه الخشية ..(33/20)
إن شاء الله لا تذهب بالكلية .. ومحال أن تبقى بالكلية ، يقول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ..بين لهم أنهم محال أن يكونوا في بيوتهم كما يكونون عنده ..لكن الإنسان إذا سمع وعظ أو سمع قرآن في مسجد أو في محاضرة أو في مخيم يجعل من هذا الشيء يفكر فيه ويزيد فيه ويقرأ بعد ذلك ، ويرى ما الكلمات ما العبارات ما الآيات التي أثرت فيه فيرددها أو يقرأها ويبحث عما يزيده عليها ..حتى تبقى جذوة الإيمان في قلبه ، هذا مايعين بإذن الله تعالى على بقاء الإيمان والطاعة ...
_ يا شيخ كيف تتمكن محبة الله في القلب ؟؟
كل ماترى حولك من دفع النقم وأتيان النعم يبين لك عظمة الله ، فلا أحد أحق أن يحب إلا هو جل وعلا أو أحد أمرنا الله أن نحبه قال الله ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله )
فلا ينبغي لعاقل يرجوا ماعند الله من نعم ويخاف ماعند الله من الجحيم أن يقوم بمحبة أحد على محبة الرب تبارك وتعالى ، لابد أن يكون القلب مملوءاً تاماً بمحبة الله تبارك وتعالى ، ثم يخرج ذلك على اللسان بكثرة ذكره ..اللهج بذكره تبارك وتعالى وأتيان طاعته والإبتعاد عن معصيته ، وعلمه أنه يحب الله وإن عصاه ..والنبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن بالفرس المقيد الذي حتى إذا بعُد يعود ، هذا المؤمن ..والله قال عن اهل طاعته ( والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون ) النعم التي يراها الإنسان من عافية في البدن ونعمة في الوالدين ونعمة في الأبناء ونعمة في دفع الأذى ونعمة في الرزق ونعمة في الأمن ..كل هذه تدل على عظمة الله ، فوجب أن يعظم ويحب تبارك وتعالى
رزقنا الله وأياكم حبه ..
_ يقول يا شيخ ..ما معنى قول الله عز وجل ( قل ما يعبئ بكم ربي لولا دُعائكم )(33/21)
هذه الآية من خاتمة الفرقان ، لإهل العلم فيها أربعة أقوال لكن الذي يظهر والعلم عند الله تبارك وتعالى ..ان القرشيين كانت لهم دعوات في الجاهلية ..أخبر الله عنها ( فإذا ركبوا في الفلكِ دعوا الله مخلصين له الدين ) فقال بعض أهل العلم إن هذا الدعاء هو السبب الذي جعله الله جل وعلا لا يُهلك قريش عن بكرتها ..وقال آخرون أن الله تبارك وتعالى لا يعبئ بعبادة يعني ليس له حاجه من عبادة ، ( لولا دُعائكم ) يعني لولا أن الله يدعوكم إلى عبادته الذي هو حق الله جل وعلا على عبادة ، مابين هذين المعنيين يدور كلام أهل التحقيق من أهل التفسير
والعلم عند الله ..
_ ياشيخ ..السائل يقول ..خطر النظر ..بإطلاق النظر وللنساء والرجال ..كيف السبيل للخلاص منه ؟؟
تكلم العلماء عنه كثيراً ومن اكثر من فصّل فيه إبن القيم رحمة الله في الداء والدواء والجواب الكافي وامثالها
لكن هذا مبني على محبة الله ..من رأى عظمة الله عرف انه لا يلتفت لمثل هذا ، وهي قاعدة من أستأنس بالله أستوحش من خلقة ...
_ يتساءل البعض ..هل يجوز له أن يتهم نفسه بالنفاق ؟؟
لايتهم نفسه بالنفاق لكن يكون على خوف من النفاق ، يكون على خوف من ان يكون من النفاق ، لا يدعي لنفسه الإيمان الخالص يبقى على وجل ، فالنفاق والرياء من خافهما فهما ليسا فيه ومن أمنهما فالغالب أنهما فيه ولا نحكم على أحد بعينه ...
أنتهت الأسئلة ...
نسأل الله أن يجزي شيخنا خيرا وان يوفقه لما يحب ويرضى ..
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ...(33/22)
خمس وتسعون فائدة من محاضرة تأملات في سورة العنكبوت للشيخ / صالح المغامسي .
منتديات شبكة منبر الدعوة الاسلامية
http://www.d3ooh.com/vb/showthread.php?p=31723
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اهلا بكم .’
أحمد الله عزوجل على ان يسر لي حضور محاضرة الشيخ صالح بن عواد المغامسي . حفظه الله وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (( من لايشكر الناس لايشكر الله)) فأشكر من اعلن عن هذه المحاضرة في هذا المنتدى وكذلك الأخ {اخودريحم }على موافاته لي بالأخبار عن موعد هذه المحاضرة وعن الشيخ ., ولقد يسر الله لي ان أدون عدة فوائد من هذه المحاضرة التي كانت كالمنبع الصافي , يشرب منه كل إمرئ ., ومن لديه فوائد قد دونها فلايبخل بها فالنبي صلى عليه وسلم يقول ((بلغوا عني ولو اية )) .؟
كلكم تعلمون ان عنوان المحاضرة هو[تأملات في سورة العنكبوت] فالشيخ وقف على بعض اياته مستنبطاً منها فوائد ودرر .,
وهاكم مالتقطته من الشيخ/
1/ سورة العنكبوت هي سورة مكية وبعض من آيا تها مدنية. وعدد آياتها 69__آية..,
2/ نوح دعا قومه ألف سنة الاخمسين عاما وقد اخبر الله ذلك في كتابه الكريم وإخبار الله تعالى بمدة دعوته هو إخبار تحقيق وتثبيت وليس أخبار تقريب والسبب في ذلك هو أداة الإستثاء.,{ إلا}. اقرا الأية رقم 14,.
3/ [الطوفان]تعريفه: الماء الذي يحيطك من جميع الجهات ., والطوفان ارسله الله الى قوم نوح ., وكذلكـ ارسله الى قوم موسى ., وهناكـ فرق بين طوفان نوح وطوفان موسى , والفرق ان طوفان موسى قوم موسى اخف.
4/ قال تعالى[[ فأنجينه وأصحَب السفينةِ وجَعَلنَهاَ ء ايةً للعلمِينَ ]] يقول احد السلف ان من نعم الله انه ابقى السفينة وجعلها عبرة وعظة . وكما اخبر العلماء ان السفينة موجودة في الموصل في احد انها العراق.(34/1)
5/ذكر الله عزوجل . قصة نوح وغيرها من القصص . ومدة دعوته لقومه هي مخاطبةً للرسول صلى الله علية وسلم., لكي يتمهل في دعوة وانت اولى ان تصبر
6/ الرسل معصومون من الخطأ في الدين.
7/ ابراهيم عليه السلام هوابو الأنبياء لانه اغلب الأنبياء من ذريته.
8./جعل الله النبوة لنوح عليه السلام وابراهيم عليه السلام إكراماً لهم,.
9./ جعل الله النبوة في ذرية ابراهيم مستمرة الى أن انقطعت
10/ لم يركب مع نوح في السفينة إلا حام . وسام . ويافث.
11/ لم يؤمن مع ابراهيم عليه السلام إلا لوط كما في الأية رقم 26.
12/ يعقوب ابن لاسحاق.
13/ كل الملل تتمنى ان تكون ملة ابراهيم ,قال تعالى[ ماكان ابراهيم يهودياً ولانصرنياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وماكان من المشركين]
14/ ومالمناسبة التي بين قصة نوح علية السلام وقصة ابراهيم عليه السلام . يقول الشيخ : ان الله عزوجل انجى الله نوح علية السلام من [الماء] وانجى الله ابراهيم علية السلام من النار وهذه الأمور لايقدر عليها إلا الله ,سبحانه,
15/ الهجرة الى الله هي التجارة الرابحة .
16/ الهجرة نوعان . 1_هجرة بالبدن و2_ هجرة القلب.
17/ هجرة القلب قليل تصنع فما اقل من يهجر المعاصي والشهوات لله.
18/ انت تملكـ قلب واحد فإما ان تهاجر به لله وإما تهاجر به للشيطان والشهوات
19/ كل أحد مهما كان تكبره على الخلق إلا انه يعلم انه ضعيف ومحتاج لله.
20/ شبه الله قريش بالعنكوت وشبه الأصنام ببيت العنكبوت.
21/ قريش تعلم ان شبك العنكبوت لاينفع. ولكنها لاتعلم ان الأصنام لاتنفع.
22/ ينبغي على الأنسان أن يتوكل على الله حق التوكل.
23/ لايمكن ان ينفعكـ أحد إلا بإذن الله , عزوجل وكما قال ذلك النبي صلى الله علية وسلم لابن عباس. ((إعلم أن الأمة لو أجتمعوا على ان ينفعوك بشئ ....إلخ الحديث)).
24/ ماكان لله يبقى أثرة ولو زال حسياَ
25/ ماكان لغير لله لايبقى أثره ولو بقي حسياً(34/2)
26/ النبي صلى الله علية وسلم. امي منعه الله من القراءة والكتابة حتى تكون حجته اقوى.
27/ لايوجد منة ًأعظم من ان يكون القران بصدركـ وتعمل به.
28/ سئل الشيخ: عن ايهم يبدا الأنسان بالحفظ او قراءة التفسير فأجاب : على حسب إستطاعة الأنسان ويستحسن ان يبدا بهما جميعاً والأولى ان يبد بالحفظ حتى يقرأ ذلكـ في جوف الليل والقيام
29/ نهى الله عزوجل الرسول علية الصلاة والسلام. ان يمد عينيه الى زينة الحياة الدنيا وملذتها.
30/ لايخشع قلبكـ حتى تعلم ان مصدر الفلاح بفهم القران والسنة وتعمل بهما جميعاَ
31/ من يقوم بالقران في جوف الليل هوالمفلح.
32/ القران والتوراة والزبور والأنجيل هي منزلةُ من الله عزوجل.
33/ إنقسم الناس بهجر القران الى قسمين : 1_ منهم من قدم الكتب والمقالات على كتاب الله , وينبغي ان يقدم كتاب الله على كل شئ.2_ من من إنشغل بالشهوات والملذات وزينة الحياة الدنيا والله المستعان.
34/ يجب على الشخص ان يحرص على قيام الليل . وان يصتصحب نعمة الله علية ان جعله يقوم.
35/ هل تريد شئ يعينكـ قيام الليل . {إقرأ بعض من الآيات بالنهار وافهمها واعمل بها , وإقرأ بصلاتكـ في جوف الليل.
36/ أعظم غاية هي عبادة الله فلاتنشغل عنها., ومن إبتغى غيرها فقد خسر.
38/ زكريا دعا الله أن يرزقه ولد على كبر فأعطاه الله , وقد قبل زكريا هذه البشارة ولكن بشرط أن يجعل له آية فأعطاه الآية وهي الا يكلم الناس ثلاث ليال ., ولكنه امره ألا ينشغل عن ذكر الله قال تعالى[قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلثةًَ أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي ولإبكار.]
***
39/ لابد للأنسان ان يهاجر من الأرض التي يحال بينه وبين أن يعبد الله , فالرسول علية الصلاة والسلام. هاجر من مكه هو وأصحابة , على عظم مكة . ورغد العيش فيها ,. ولانه قد احيل بينه وبين ان يعبد.الله.(34/3)
40/ عنما يخاطب الله عزوجل . المومنين بأيها الذين آمنوا هو ندا تشريف,.
41/ {كل} هي تفيد العموم.
42/ النفس إذا كانت بالجسد تسمى نفس.
43/ النفس إذا خرجت من الجسد تسمى روح
44/ كل الأشياء كتب الله عليها العدم إلا ستة1_العرش.2_الجنة 3_النار.4_القلم.عجب الذنب.5_اللوح وقد نسيت السادس فليتكم تذكروني؟؟؟,.
45/عندما ينفخ الملَك الروح بالجنين تسري الروح بكل أعضاء الجسم,.
46/ إذا قبض الملكـ الموت الروح من الجسد . فأن الروح تنزع من كل أعضاء الجسد. وهنا يتبين عملكـ فإن كنت من الصالحين فستزع روحك .كماتنزع الشعرة من العجين. واما الفاجر فسيلقى من العذاب ماالله به عليم.
47/ كل الخلق منذ لين لله وحده .سبحانه.
48/ تفرد الله باإثنتين 1_ الخلق. 2_والرزق.
49/ كثرة الرزق لاتعني الصلاح والتقى.
50/ الله هو من يتحكم بالرزق.
51/ هناك فرق بين الرزق والقوت 1_ الرزق عام بكل شئ.2_ القوت هومايخص البدن.
52/ افضل الرزق. هو معرفة الدين والعمل به.
53/ الجنة هي اعظم الأرزاق. وهي الرزق الذي لاينفد.
54/ في هذه الحياة لاأحد يعلم صدقك مع الله ولكن في يوم المحشر يتبين ذلك.
55/ ليعلم كل إنسان أنه سيقف بين يدي الله عزوجل.
56/في هذه الحياة الدنيا يجب عليكـ ان تجاهد نفسكـ في طاعة الله,
57/ الله قد تكفل بمن جاهد نفسه في سبيل طاعة الله بالهداية.
58/ سأل بعضهم الشيخ عن الوحدة والجلوس من دون اصدقاء فأجاب الشيخ.: المؤمن إلف يألف ولابد للأنسان أن يكون علاقات مع الأخرين حتى يعينوه على ذلكـ ولوتأملنا حديث الرسول صلى الله علية وسلم. مع جبريل علية السلام حينما يأتية يدارسه القران كان علية الصلاة والسلام أجود بالخير من الريح المرسلة فهذا دليل على ان الأصحاب يعينوك على الخير.(34/4)
59/ سأل بعضهم الشيخ عن الفتور وعلاجه للملتزمين الجد وغيرهم فأجاب :التدرج سنة ماضية, ولابد للإنسان ان يتدرج في عبادة الله ولايلزم نفسه إلا ماتتحمله . وهذا لايعني ترك الواجبات. أومن كان تحته أناس يقتدون به فلايحملهم إلا مايطيقون,
60/ سأل بعضهم الشيخ عن مسألة الإنتكاس فأجاب : من أعظم أسباب الإنتكاس هو عقوق الوالدين.
61/ سئل الشيخ عن الأسباب المعينة على قيلم الليل فأجاب:إنظر فائدة رقم 35.
62/ سئل الشيخ عن حكم التصوير فأجاب: التصوير ينقسم إلى قسمين1_ تصوير باليد وهوالنحت وهوالذي يدخل في عموم النهي. وأما مايكون عن طريق الألة فلاأرى انه يدخل في ذلك .
63/ سئل الشيخ عن دور المسلم تجاه من سب النبي صلى الله علية وسلم فأجاب 1_من أعظم الوسائل هي تطبيق سنته صلى الله علية وسلم.2_المقاطعة وأنا أرى أنها هي أقرب للوجوب.
64/ سئل الشيخ عن خطر الذنوب فأجاب إجابة مختصرة وهي: ماحمل الأنسان شئ أعظم من أن يحمل ذنبه.
65/ سئل الشيخ كيف أكون عبداً صالح فأجاب: إن من أعظم التوفيق ان يكون لك والدان فتبرهما حق البر او ان يكون لك والدة فتحقق رغباتها قبل ان تطلب منك.
66/ حينما تبر ا بإمك لا يعني ذلك لانها ولدك بل لان الله عزوجل أمركـ .
67/ سئل الشيخ عن كتب التفسير : فقال تفسير بن كثير وايضاً كتاب محاسن التأويل .
68/ سئلت أحد الأخوات الشيخ ان ينصح بعض الشباب ممن يشغلون الفتيات بالمعاكسات فأجاب :لاأحد أغير من الله وان الله يستطيع ان بفضح من يحاول إزعاج الفتيات العفيفات. بل لو تذكر ان سوف يدفن وحده . وانها سيرى العواقب الوخيمة لهذه الأعمال وأنه سيقف امام الله عزوجل وسيحاسبه.
69/ كلما زاد تعظيم الله عزوجل في قلب الشخص قلت المعاصي , عنده والعكس بذلكـ
70/ سئل الشيخ هل الذبيح اسحاق ام إسماعيل فأجاب : الأرجح من اقوال العلماء انه إسمعاعيل.وكلهما نبي,
{(34/5)
وقد شرح الشيخ حفظه الله سورة البلد بين الأذان والإقامة شرحاً علمياَ.}
71/ قال تعالى[لاأقسم بهذا البلد] المراد بالبلد هدومكة.
72/ والد البشر هو آدم علية السلام.
73/ قال تعالى[لقد خلقنا الإنسان في كبد] أول مايكابد الإنسان هو قطع سرته ومن ثم يكابد تعب هذه الحياة من البحث عن الغذا ء ومن ثم يعاني من سكرات الموت ومن ثم يعني من قبضت القبر وضمته ومن ثم يعني من ظلمته ومن ثم هول المحشر ولاراحة للمؤمن حتى يلقى الله.
74/ قال تعالى [إنا هديناه النجدين] كلمة [هدى] في القران إستخدمت في طريق الخير وفي الشر والمراد بالنجدين بحسب شرح الشيخ : هو النهدين وهما ثد يي المرأة فلولا فضل لما أهتدى هذا الجنين إلى هذا الثدي ين .
75/ ان أطعام الطعام من أعظم القربات لله.
76/ الإنفاق ينفسم إلى ثلاثة أفسام 1_إنفاق عام.2_إنفاق أعلى من الأول وهو إنفاق ماكان من زيادة مال .3_ إنفاق مع حاجة وهو أعلى المنازل .
77/ في هذا الوقت مع إرتفاع الأسعار يستحسن الإطعام والأفضل الا يعرفوكـ المساكين , فعندما تتصدق بالنهار وقد قرأت قول الله تعالى[أو إطعام في يومِ ذي مسغبة] وكذلك عملت مابهذه الأية فتذهب وتقوم في جوف الليل وتقرأ هذه الآيات عندها ستستشعر لذة القيام والمناجاة وهي معينة بإذن الله.
78/ الإيمان يقدم على الإطعام,
79/ ينبغي على الإنسان ان يصبر على طاعة الله ويصٌبر غيره.
80/ أعظم من يجب ان ترحم هما والديكـ ومن ثم تعظم زوجتكـ وأولادكـ
81/ بعض الناس لايرحم أولاده . ولو علم بأن الرسول صلى الله علية وسلم قطع خطبته من ان يحملها لم قسى على أولاده.
82/ ذكر الشيخ: قصة الرجل الذي لايضرب أولاده من أجل أنه يتذكر فعل النبي علية الصلاة والسلام بالحسن والحسن. رضي الله عنهما.
83/ ضرب الأولاد جائز بالإتفاق إذا كان للتأديب ولكن لايكون ضرباً مبرحاً
84/ لاتقطع العلاقة مع إبنكـ فهو محتاج الى توجيهكـ وإرشادكـ(34/6)
85/ قال الرسول صلى الله علية وسلم(( إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))
86/ الناس أحد إثنين 1_إما ان يعرف الله ويسجد لله ويعظم الله .. أما2_ لايعرف الله ولم يسجد له سجدة ً واحدة ولم يعقد يده لتسبيح الله,,,,, وذلكـ هوالخسران
87/ المؤمن حينما يلاقي الله يريه اللهُ اعماله الصالحة فيفرح! ومن ثم يريه أعماله السيئة فيغفرها له فيزداد فرحه .وأما الفاسق . فيريه اللهُ اعماله السيئة فيغتم لذلكـ ثم يريه اللهُ نعمه علية وان الله يرزقه ومع ذلكـ فقد عصاه,.فيزداد غمه.,
88/ لاتعلق قلبكـ إلا بالله عزوجل .,
89/ إذا أردت حاجة فأسأل الله عزوجل ولاتتكل على غيره لانه غيره مخلوق مثلكـ .
90/ عندما تريد ان ترق قلبكـ فاسأل الله ولاتقول سوف احضر محاضرة فلان من الناس . حتى يرق قلبي لابل إسأل الله,
91/ إن رأى الله منكـ الصدق في الدعاء فسيستجيب الله لكـ
92/ لوقال رجل لزوجته انت طالق إلا أن تكوني كالقمر فإنها لاتطلق لان الله عزوجل يقول [لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم]
93/ حث الشيخ: على الإكثار من الإستغفار ..
وهذا ماإستطاعت يداي ان تلحق من جمع الدرر وأسأل الله ان يجعل ماقال الشيخ تكفيراً عن ذنوبه وأن يجعل أعمالنا خاصةً لوجهه الكريم
منقول للفائدة
أختكم في الله : أريج(34/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى له الأمر كله وله الحمد كله وله الملك كله وإليه جل وعلا يرجع الأمر كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا رب غيره ولا إله سواه يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته أدي الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فجعله الله بفضل منه ورحمه خير أهل أرضه وسماواته اللهم صلى وسلم وبارك وأنعم عليه اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار المبلغين عن الله دينه والناشرين له كلاماته اللهم وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين أما بعد :
أيها المؤمنون خواطرنا الإيمانية في هذا المساء المبارك معشر الأحبة ذات عناوين رئيسة ست ألا وهى :
إذعان القلوب لعلام الغيوب
إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
الدعاء الخالد
حين تطغي الشهوات
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
هلما إلى التوبة
وهذه الخواطر الإيمانية وإن تنوعت عناوينها وتعددت موضوعاتها وتباين المراد منها فإنما تنصب جميعا في نهر الإيمان الكبير وفي بحر اليقين بالله جل جلاله في نهر الإيمان الكبير و في بحر اليقين بالله جل جلاله وفي الطريق الموصل إلى رضوانه تبارك وتعالى وذلك مراد المؤمنين وغاية المتقين بلا ريب معشر الأحبة لقد جعل الله تبارك وتعالى الإيمان به قسيما بين أهل الجنة والنار فقال تبارك وتعالى -( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب )ص
فهلم أيه المؤمنين بقلوبا لا تبتغي إلا وجه الله نستعين ربنا تبارك وتعالى في هذه الخواطر الإيمانية(35/1)
أول هذه الخواطر : إذعان القلوب لعلام القلوب جل جلاله معشر الأحبة إن الحديث عن الله تبارك وتعالى حديث عن خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليوم لا ريب فيه حديث عما يعلم السر وأخفي حديث عما يكشف الضر و البلوى حديث عما رد إلى يعقوب بنيه وأرجع موسى إلى أمه و جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم حديث عمن بلغ محمدا صلى الله عليه وسلم دعوته وأكمل له دينه ونشر له ملته وأعلن كلمته في الأرض فما بقيت دار إلا ودخلها دين سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم الحديث عن الله أيها المؤمنون له تخفق قلوب الموحدين وله ترتجف قلوب المتقين لأنه حديث عن خالقها ورازقها وبارئها تبارك وتعالى والحديث عنه جل جلاله ينبغي أن يكون حديثا محببا إلى النفوس لأنه تبارك وتعالى أحب إلينا من كل شئ -( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك )- الإنفطار أما إذعان القلوب لعلام الغيوب تبارك وتعالى
فإن من دلائل إذعان القلوب لعلام الغيوب تبارك وتعالى أمورا ثلاثة :
أولاها .. الاستسلام لأمره والانقياد له
وثانيها .. التواضع له تبارك وتعالى
وثالثها .. خشيته جل وعلا في الغيب والشهادة
أما الاستسلام لأمر الله والانقياد له فإن الله تبارك وتعالى ضرب لهذا الأمر مثلا في القرآن في أبي الأنبياء وسيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال تبارك وتعالى عنه -( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين )- البقرة
لم يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحده ولم يسأل ربه كيف أسُلم وإلى من أتوجه وعند من(35/2)
أدون أسمى وما الجزاء وعلام أذهب وإلى من أغدوا -( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين )- [البقرة/131] وهذا الأثر القرآني الذي حكاه الله عن انقياد إبراهيم واستسلامه أيدته السنة كما راوي البخاري في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله جل وعلا أمر إبراهيم أن يختتن فبادر إبراهيم عندما أمره الله أن يختتن بادر عليه الصلاة والسلام إلى القدوم ثم إختتن به ) فا ورد في بعض الآثار كما ذكر ذلك كثير من شراح هذا الحديث ورد في بعض الآثار أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما بادر إلى القدوم وأختتن به أوجعه أشد الإيجاع فأوحى الله تعالى إليه " يا إبراهيم لما عجلت حتى يأتيك وحيي " فقال يا ربي خشيت أن أؤخر أمرك قيل له " يا إبراهيم لما عجلت حتى يأتيك وحيي " قال يا ربي خشيت أن أؤخر أمرك(35/3)
فما أن أمره الله جل وعلا بالأمر إلا وأذعن إليه وأستسلم له وأنقاد إليه دون أن يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة في الإذعان لربه علام الغيوب جل جلاله وهذا من أعظم الدلائل على ما فطر عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من الاستسلام لله بعد هذا لا غروا ولا عجب أن نسمع في القرآن ثناء الله تبارك وتعالى على إبراهيم ونسمع في القرآن أن الله جل وعلا أخبر أن إبراهيم كان أمة قانت لله حنيفا ولم يكن من المشركين ونسمع من رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم أول من يكسي من الخلائق يوم القيامة فهذا الثناء العطر الذي أبقاه الله لإبراهيم في الآخرين وماله عند الله جل وعلا يوم القيامة من منزلة عظيمة إنما نالها هذا العبد الصالح وهذا النبي التقي بإذعانه وانقياده واستسلامه لرب العالمين تبارك وتعالى ومما يؤيد أن القلوب المؤمنة إنما تمتثل لأمر الله دون تردد أنه ورد في الآثار كما هو معلوم أن الله جل وعلا خلق آدم من تراب قال الله تبارك وتعالى -( ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون )- [الروم/20] ورد في الآثار مما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة أن الله جل وعلا لما أراد أن يخلق آدم من قبضة من الأرض بعث ملك من الملائكة ليقبض له قبضة من الأرض فلما قدم هذا الملك إلى الأرض قالت له الأرض أعوذ بالله منك فقال لقد عذتي بعظيم وعاد إلى ربه دون أن يقبض من الأرض شيئا فلما سأله ربه وهو أعلم بما صنع قال يارب لقد استعاذت بك فأعذتها فبعث الله ملك آخر فلما وصل إلى الأرض وهم أن يقبض منها قبضة كما أمره الله قالت له الأرض أعوذ بالله منك فرجع إلى ربه فلما سأله ربه وهو أعلم قال يا ربي استعاذت بك فأعذتها فبعث الله ملك ثالثاً فلما هم أن يقبض من الأرض قالت : أعوذ بالله منك فقال وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره فأخذ قبضة من الأرض وعرج بها إلى السماء والمقصود منه هذا الإذعان لأمر رب العالمين تبارك وتعالى(35/4)
والذي ينبغي أن تفطر عليه قلوبنا وأفئدتنا وجوارحنا أن تستسلم لله وأمره وأن تعظم ربها تبارك وتعالى يحكي الله جل وعلا في القرآن عن تعظيم ملائكته له فيقول تبارك وتعالى عنهم -( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير )- [سبأ/23]
قال بعض الأئمة في تفسيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله إذا أراد أن يتكلم في الوحي أخذت السموات منه رشفت شديدة فإذا سمع بذلك أهل السماوات صوعيق فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه السلام فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء فيمضى جبرائيل في الأمر على كل سماء كلما مر على سماء سألهم
ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول قال الحق وهو العلى الكبير " والغاية من هذا كله يا أخي أن تذعن قلوبنا لعلام الغيوب جل جلاله فنسمع النداء حي على الصلاة حي على الفلاح فنبادر إلى المسجد كما تقول عائشة لما سئلت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم ما كان يصنع في بيته ؟ قالت : " كان في مهنة أهله فإذا سمع النداء مر كأن لا يعرفنا "
أي أنه يبادر ويسارع إلى الصلاة(35/5)
نسمع أمر الله جل وعلا بأن نذكره -( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون )- [البقرة/152] فلا نعرج على ألسنتنا في القيل والقال ولا بالغيبة بالمسلمين ولا بالنميمة بينهم ولانردد قول فلان وفلان من أهل الفن أو من غيرهم وإنما نذكر ربنا جل وعلا مبادرة ومسارعه لأنه بذلك أمرنا تبارك وتعالى يسمع أهل الثراء منا أمر الله جل وعلا بالإنفاق -( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون )- [البقرة/254] فيبادرون إلى الإنفاق طمعا فيما عند الله وإذعان لأمره تبارك وتعالى في المقام الأول وعلى هذا قس يا أخي بقيت الطاعات والمسارعة في الخيرات ألا وإن من دلائل إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله التواضع لله تبارك وتعالى وأجمل ما يكون التواضع عند حلول النعمة و حمول الظفر والنصر وحلول المقصود والمراد هنا يظهر الإذعان لرب العالمين تبارك وتعالى ولن --- الإنسان عن شكره لله واعترافه بأن ما لديه هو من فضل الله تبارك وتعالى وأن ما أصابه من نعمة إنما هو من ربه جل وعلا حتى يظهر لله تبارك وتعالى تواضعه فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم طرده قومه من مكة فدخلها بعد عشر سنوات من الهجرة وبعد عشرين عاما من بعثته صلى الله عليه وسلم حصير في هذه العشرين في شعب أبي طالب وأختفي في الغار ومشي طريداً وحيداً ومعه صاحبه ودليله ومكث في المدينة وقد داهمته لأحزاب وناله ما ناله صلى الله عليه وسلم من البلاء فصبر وأحتسب عند الله وجاهد في الله حق جهاده فلما أظفره الله ودخل مكة صلى الله عليه وسلم عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة صلوات الله وسلامه عليه دخلها صلى الله عليه وسلم متواضعا لربه مستسلما له حتى أهل السير عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان مطئطيا رأسه حتى أن لحيته لتصيب مقدم رحله صلوات الله وسلامه عليه رغم أن أصحابه كان يحفونه وهم تحيطهم الدروع والحديد وهم لا(35/6)
يظهر إلا الحذق وجبرائيل عليه السلام يتردد بينه وبين ربه يؤيده بالنصر والآيات والملائكة ومع ذلك دخلها صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة تواضعا لرب العالمين جل جلاله وإذعان له وإنقيادا لربه وليعلم الثقلين ممن يرونه وممن لا يرونه ممن سيصلهم خبره أنه ما من نعمة إلا من الله تبارك وتعالى وكم يخطي أحدنا إذا ظن أنه إذا حصل على المقصود أنه قد حصل عليه بجهده أو بكفاحه أو بسعيه يقول ربنا تبارك وتعالى -( وما بكم من نعمة فمن الله )- [النحل/53] -( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم )- [النحل/18] ومن قبله صلى الله عليه وسلم هذا نبي الله سليمان يعلمه الله جل وعلا منطق الطير وتحشر له جنوده من الجن والأنس ويأتيه عرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه -( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم )- [النمل/40]
ثالث ما يدلل على إذعان القلوب لربها جل جلاله خشيته تبارك وتعالى ياأخي إن خشية الله جل وعلا هى العلم الحق فليس العلم محصورا في حفظ المتون ولا في شرح الكتب ولا في استظهاري ما تقرأه في البيت والمدرسة وفي حلقات العلم إنما العلم الحق خشية الإله جل جلاله حاور رجل الحسن البصري رحمة الله تعالى عليه فكان الرجل يكثر على أبي سعيد وهو الحسن أن يقول: لقد قال الفقهي كذا يا أبا سعيد لم تسمع قول العلماء إن قولك هذا يعارض قول الفقيه فلان فغضب الحسن وقال يا أخ العرب وما رأيت الفقهاء إنما العلم الخشية وصدق من قال
لو كان في العلم غير التقي شرفا لكن أشرف خلق الله إبليس(35/7)
فالعلم الحق يا أخي والدليل بين على إذعانك لربك تبارك وتعالى خشيتك الله في الغيب والشهادة -( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم )- [يس/11] فخشية الرحمن تبارك وتعالى أعظم الدلائل على الإذعان له والاستسلام له وهذا الأمر أين محكه ؟وأين مكمنه ؟ وأين بلاغه واختباره ؟ مكمنه ومحكه واختباره إذا خلوة بمحارم الله تبارك وتعالى إذا حلة عليك الظلمات إذا ذهب عنك الرقيب إذا غفل عنك المعلم إذا زاغت عنك أعين الوالدين إذا بقيت وحيدا في غرفتك إذا أصبحت ساهرا لوحدك في ليلة إذا قربت منك المعصية ولم يبقي بينك وبينها إلا أن تخاف الله جل وعلا فيها هنا يظهر بجلا ووضوح خشيتنا لربنا تبارك وتعالى
أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرزقنا وإياكم خشيته في الغيب والشهادة
هنا يا بني يظهر حقيقة الإيمان ويظهر حقيقة الخوف والخشية من ربنا تبارك وتعالى ولذلك كان الشافعي رحمة الله عليه أعز الأشياء ثلاثة وذكر منها خشية الله تبارك وتعالى في الغيب والإنصاف من قلة وكلمة الحق عندما يرجى أو يخاف والمقصود من ذلك كله أن خشية الله تبارك وتعالى هى لب الدين وهى الدلالة البينة الجلية الرابحة على مدى علما بالله تبارك وتعالى وعلى مدى إعظامنا وإجلالنا لله جل وعلا ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرن دائما مابين العلم والخشية فيقول صلى الله عليه وسلم : ( أما وإني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية )
هذه الخاطرة الأولى جعلها الله تبارك وتعالى مما ينفع بها
الخاطرة الثانية(35/8)
إكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم النبوة معشر الأحبة ليست أمر ينال بالجهد ولا يكتسب بالسعي ولكن النبوة فضل من الله وعطاء والله جل جلاله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ولقد --- سنة الله في خلقه أنه بعث إليهم رسلا هم الواسطة بين الله وبين عبادة أي أنهم يبلغون عن الله رسالاته وينصحون له في برياته هذا من نوح حتى ختم الله تلك الرسالات بمبعث ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فنبينا هذا الذي ننتسب إليه ونتشرف أجمعون بأننا من أمته صلوات الله وسلامه عليه له عند الله الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية والمقام الأسمى وإننا لا نرزق حبه صلوات الله وسلامه عليه حتى نعلم الكثير عنه لأن من يجهل سيرته من باب أولى لا تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم كاملة في قلبه وإن عدمه المحبة لابد أن يعدم الأتباع لأن الإتباع أصلا مبنيا عل الحبة والمحبة مبنية على العلم بسيرته صلى الله عليه وسلم وهذه الخاطرة سنخصصها لما أكرم الله رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى نكون على يقين إلى أي نبينا ننتسب وبأي نبين نقتدي وإلى أي ملة نتبع قد أكرم الله رسولنا صلى الله عليه وسلم بثلاثة مكارم أكرمه قبل ولادته وأكرمه حال حياته وسيكرمه يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه فمن إكرام الله لنبينا قبل ولادته أن الله ما بعث نبين إلا وأخذ عليه العهد والميثاق أن يتبع رسولنا صلى الله عليه وسلم إذا بعث قال تعالى في آل عمران -( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )- [آل عمران/81] وأكرمه بأن نبي الله إبراهيم لما وضع رحله وذريته في وادي غير ذي زرع عند بيت الله المحرم أستقبل القبلة ودعي الله قائلا : -( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت(35/9)
العزيز الحكيم )- [البقرة/129] فكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ورؤيا أمي حين وضعتني رأت أن نورا ساطعا يخرج منها أضاءت له قصور الشام ) وأما قوله
وأما قوله وبشارة عيسى فقد ذكرها الله في القرآن نصا -( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين )- [الصف/6] فهذا بعض مما أكرم الله به قبل ولادته ومبعثه أما ما أكرم الله به رسولنا في حال حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن ذلك كثيرا لا يحصي ولكننا سنجمل بعضه لأنه مما ملزمون به في هذه المحاضرة مما أكرم الله به رسوله أن الماء نبع من بين إصبعيه وأن الحصى سبح بين يديه وأن الجذع حنا إليه فإنه لم صنع له المنبر صلوات الله وسلامه عليه وأرتقي عليه أول الأمر إذا بالصحابة يسمعون لذلك الجذع الذي كان رسولنا يأوي إليه ويخطب عنده في السابق يسمعون له أنين وحنينا على فراق رسولنا صلى الله عليه وسلم وأكرمه ربه جل وعلا برحلة الإسراء والمعراج فكانت تلك الرحلة الخالدة التي أسراء الله بها بنبينا ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فصلي صلى الله عليه وسلم بنبينا إماما رغم أنه آخرهم مبعثي وصلي بهم إماما ثم عرج به إلى سدرة المنتهي ثم جاوز سدرة المنتهي حتى وصل إلى مستو يسمع فيه صرير الأقلام قال شوقي :
يأيها المسري به شرفا إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أو بالهيكل الأسرى
بهم سموت مطهرين كلاهما روحا وريحا نية وبهاء
تغشي الغيوب من العوالم طويت سماء قلدة كسماء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
المصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حادا وحنت با لفلا و جني
وأستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء(35/10)
أكرم الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا بأن الصلوات الخمس أعظم فرائض دينه بعد الشاهدتين فرضت عليه في السماء العلى وهذه إشارة عظيمة إلى أهمية الصلاة في دين الإسلام ولذلك عمر رضي الله تعالى عنه يطعن في المنبر فيتأخر عن الصف ويقدم عبدالرحمن أبن عوف ويقول لمن حوله حتى لا يستغربون " لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة "(35/11)
ومما أكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في الدنيا أن الله أقسم بالقرآن بحياته قال العلماء: ولا يعرف أن الله أقسم بحياة أحد من خلقه إلا نبينا عليه الصلاة والسلام قال تعالى في سورة الحجر -( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون )- [الحجر/72] وأقسم الله في الأرض التى يطئ عليها -( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد )- البلد بل بالغ ربه في إكرامه حتى أقسم له أي من أجله صلوات الله وسلامه عليه فقال ربنا -( والضحى والليل إذا سجى )- [الضحى/2] فأقسم بالضحى وأقسم بالليل حال تغطيته للكون ثم بين جواب القسم فقال -( ما ودعك ربك وما قلى )- [الضحى/3] فالله يقسم له أنه ما ودعه وما قلاه وما هجره وما نأي عنه تبارك وتعالى بل له صلى الله عليه وسلم مؤيد وظهيرا ونصيرا صلوات الله وسلامه عليه وهذا كثير مضطرد فسنقف عند ما أخبرنا به إما إكرام الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم في الآخرة فإنه عليه الصلاة السلام أول من ينشق عنه القبر وأول من يجيز الصراط هو وأمته وهو عليه الصلاة السلام أول من يطرق باب الجنة وهو عليه الصلاة السلام أول من يدخله كما أن ربه يعطيه يوم القيامة المقام المحمود الذي يغبطه عليه الخلائق أجمعين كما أن الله يؤتيه الوسيلة كما في الصحيح من حديث عبدالله بن عمر ابن العاص أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة ) فهذا دليل على إجابة المؤذن وسؤال الله الوسيلة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودليل وبرهان واضح ظاهر لكل أحد على مقدار ما سيكرم الله به رسولنا صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة وهنا نريح المطايا لنقول لكم يا معشر الشباب خاصة هذا نبيكم صلى الله(35/12)
عليه وسلم فعلاما أحدنا اليوم يتعلق بزيد وعمر من أحاد المشاهير من أهل الشرق والغرب إن كثيرا ممن يقلدون وكثيرون مما يحاكون وكثير مما تعلق صورهم على الحيطان وتتصدر صورهم وعناوين حياتهم أعمدة الصحف وأغلفة المجلات وطيات المنشورات لا يعبوا الله جل وعلا بهم يوم القيامة وليس لهم عند الله منزلة ولا مكانة فعلام نعلق أفئدتنا ونحيل أبصارنا إلى أمثال هؤلاء ونعرض عن هدى المعصوم صلى الله عليه وسلم ونعرض عن هدى هذا النبي الكريم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر هذا النبي الذي كان يا أخي رحيم شفيقا بي وبك رحيم بي وبك رحيم بأبي وأبيك رحيم بأمي وأمك حتى أنه صلى الله عليه وسلم يضحي في يوم العيد بكبشين أملحين أقرنين فيسمي الله ويكبر على الأول
ويقول:" اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد" ويسمي ويكبر على الآخر ويقول:" اللهم وهذا عن من لم يضحى من أمة محمد "
كان صلى الله عليه وسلم حريص أن يرانا ولنا الشرف أننا تكتحل أعيننا في رؤيته يقول لأصحابه كما في صحيح ابن حبان " وددت لو أني رأيت إخواني " قالوا يارسول الله : " ألسنا إخوانك " قال : "بل أنتم أصحابي ولكن إخواني لم يأتي بعد وأنا فرطهم على الحوض " قالوا يارسول الله :"وكيف تعرف من يأتي بعد من أمتك " قال: " أرأيت لو أن لأحدكم خيلا غرنا محجله في خيل دهما بهم أكان يعرف خيله " قالوا :" بلي يارسول الله " قال:" فإن إخواني يأتون يوم القيامة غر محجلين من آثر الوضوء وأنا فرطهم على الحوض " أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم
الخاطرة الثالثة:(35/13)
الدعاء الخالد كلنا يعلم أن دعاء الله جل وعلا هو حقيقة عبادته ودعاءه تبارك وتعالى سلوانا للقلوب وعزاء للنفوس و انتظار للفرج وقد قيل إن أعظم العبادة انتظار فرج الله تبارك وتعالى ولقد سطر التاريخ الإسلامي عبر قرونه المديدة أدعية كثيرة عجي بها أصحابها لله عز وعلا فتجاوزه حدود الأرض وعبرة أفاق السماء واستظلت تحت ظل العرش وأجاب الرحمن الرحيم دعائها ونصر أوليائه وقرب أصفيائه ولكننا سنقف اليوم أما دعاء دعي به سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم لأن مناسبته مناسبة عظيمه يستحضرها المؤمن في كل آن وحين فكلنا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء قومه أول ما دعاهم في وحدة من الأرض وخلوا من النصير وقربة من التوحيد فكان ربه جل وعلا قد أيده بشخصيتين أيده بعمه أب طالب رغم كفره وأيده بخديجة رضي الله عنها وأرضاها فكان أبو طالب ظهيرا ونصيرا له في الملأ وكانت خديجة عون له في الخلاء لأنها ربة بيت ثم شاء الله أن يقبض أبا طالب على كفره وخديجة رضي الله عنها و أرضاها على إيمانها وأشتد بعد وفاة أبي طالب آذي قريش لرسولنا صلى الله عليه وسلم فأحب عليه الصلاة والسلام أن يغير سبيل الدعوة وأن يغير الوجوه الذي يدعوها فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه غلامه زيد ابن حارثه إلى الطائف فلما خرج إلى الطائف وكله أمل ورجاء أن يستجيب أهلها له فعرض دعوته على ثلاثة من زعمائهم فسخروا منه إيماء سخرية واستهزئوا به وهو عند الله بالمكانة العظمى حتى قال أحدهم له
أما وجد الله أحد يبعثه غيرك وقال الآخر منهم أمرطوا ثياب الكعبة إنكنت نبين فلما أشتد الكرب(35/14)
عليه الكرب طلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يكتموا عنه أمره لكنهم لخسة في نفوسهم أبوا فأغروا به السفهاء والصبيان فكان صلى الله عليه وسلم يمشي في طرقات الطائف قال بعض أهل السير : ما كان صلى الله عليه وسلم يرفع قدمه إلا ويؤذيه الصبيان بالحجارة ولا يضع قدمه الأخرى إلا ويؤذيها الصبيان بالحجارة حتى أدمية عقباه وسال دمه الطاهر الزكي الشريف على أرض الطائف فلما اشتد عليه الكرب عجي إلى ربه بالدعاء خالد لما ضاق بها أهل الأرض لجئ صلى الله عليه وسلم إلى رب الأرض والسماء لما عجز أهل الأرض عن نصرته لجئ صلى الله عليه وسلم إلى العزيز فقال فيما سطره ابن إسحاق في السير وهو دعاء وإن لم يثبت سندا على الوجه الأكمل إلا أنه والله الذي لا إله غيره جلال النبوة ظاهر على كل حرفا فيه فضلا عن كل كلمه قال صلى الله عليه وسلم :وهو نازل من الطائف إلى مكة بعد أن لقي من أهلها ما لقي " اللهم إليك أشكو ضعف حيلتي اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين إلى من تكلني إلى عدوا يتهجمن أما إلى بعيد ملكته أمري ألم يكن بك على سخط فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت منه الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضي ولا حول ولا قوة إلا بك(35/15)
عجي رسولنا صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء إلى ربه تبارك وتعالى فلننظر ما صنع الله به بعد هذا الدعاء لقد تتابع مدد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأنا اختارت أن يكون هذا الدعاء واسطة العقد في هذه الخواطر لأن كثير منا قرأ هذا الدعاء في طيات كتب التاريخ وقرأه في دروس السير وربما سمعه ذات مرة في محاضرة من المذياع أو من التلفاز ولكن قليل منا وقف أمام الحكمة في هذا الدعاء هذا الدعاء أعقبه حدثين أحدثان عظيمان الأول منهما أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الطائف استفاق بقرن الثعالب فإذا بسحابة قد أظلته فإذا فيها جبرائيل ومعه ملك من الملائكة فسلم عليه جبرائيل وقال :"يا محمد إن ربك قد رأي صنيع قومك بك وإن معي ملك الجبال يأتمر بأمرك " فقال له ملك الجبال :" إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلة الآن " فقال أرحم الخلق بالخلق وأنصح الناس للناس وأعظم من دعي إلى الله صلى الله عليه وسلم قال :"لا إني لأرجوا الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شئ " والعبرة التي أريد أن أقف فيها مع هذا الدعاء وهذا الأثر أن الله جل وعلا لما عجز أهل الأرض أن ينصروا نبيه عوضه بنصرة أهل السماء إن الله جل وعلا لما رأي خذلان أهل الأرض لنبيه صلى الله عليه وسلم
عوضه بنصرة أهل السماء قبل ساعات معدودة يرفض أهل الأرض أن ينصروه وبعد لحظات معدودة ينزل ملك كالمندوب من السماء ليبين نصرة أهل السماء له صلوات الله وسلامه عليه
الحدث الثاني : أنه مضي صلى الله عليه وسلم متجاوزا قرن الثعالب حتى وصل إلى وادي نخلة وهو بين الطائف ومكة قريب من مكة فلما وصل وقف صلى الله عليه وسلم في هدأت الليل يتهجد ويقرأ القرآن فبعث الله إليه نفر من الجن ليستمعوا إلى قرأته وكانوا على الصحيح سبعة من جن نيصبين وهى قرية بين العراق والشام فاستمعوا له فلما استمعوا له آمنوا بدعواه ولم يكتفوا بالإيمان بدعواه صلوات الله وسلامه عليه بل انطلقوا(35/16)
بل انطلقوا في معالم الأرض وغيابها يبلغون عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دعوته قال تعالى -( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين )- [الأحقاف/32] والعبرة الربانية للخلق هنا أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن رفض بني قومه من الأنس أن يجيبوا دعوته عوضه الله تعالى بإجابة الجن إلى دعوته في السابق خذله أهل الأرض فعوضه الله بأهل السماء والثانية عوضه الله بعدم استجابة بني قومه من الأنس إلا قليلا منهم عوضه الله باستجابة الجن له صلوات الله وسلامه عليه وهنا نريح المطايا مرة أخرى إنه ينبغي أن كل منتسب لهذا الدين أن الله مظهرا دينه لا محالة ومعز جنده لا مفر من ذلك -( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون )- [الصافات/173] هذا أمر قدريا شرعيا لا محالة سيظهر الله دينه وإن لم يكن اليوم سيكون غدا وإن لم يكن غدا فبعد غد وما زالت في كثير من ديار المسلمين خاصة في هذا الشهر معالم الإيمان ظاهرة و أضحه ولله الحمد فما يراه المؤمن من تكالب قوى الغرب ومن تسلط أهل الشهوات ومما يعيث أهل الفساد في الأرض كل ذلك يا أخي إرهاصات بأن الله جل وعلا سيتم كلمته ويعلى دينه وينشر لوا محمد صلى الله عليه وسلم لا محالة فما بعد العسر إلا اليسر وما بعد الليل إلا الفجر
وتلك الساعات الحالكات التي قضاها نبينا
صلى الله عليه وسلم
بعد أن عجي إلا ربه بذلك الدعاء الخالد
أعقبه النصر بعد النصر وأعقبها الظفر بعد الظفر حتى أتم الله لرسولنا
صلى الله عليه وسلم(35/17)
دينه ونزل قول الله تعالى بعد سنين عديدة عاشها
صلى الله عليه وسلم
محتسبا أنزل الله قوله: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا )
فلا عذر بعد إذن لأي متخلف ولا عذر بعد إذن لأي مقصر إن نصرة دين الله جل وعلا من ومن مقدمة الأولويات ليست نصرة دين الله في الحماس المفرط ولا بالكلمات الجوفاء ولا بإثارة الدهماء إن نصرة دين الله جل وعلا في وضع الكلمة في موضعها الصحيح وفي وضيع وفي وضع القدم اليمني في وضع صحيح
وفي وضع القدم اليمني حين نجد مكان للقدم اليسرى وحين نخطو خطوات واثقة على بينة من كتاب ربنا وعلى هدى من رسولنا
صلى الله عليه وسلم
عندها يعز الله به ديننا ويرفع الله جل وعلا بنا دينه ويعلى تبارك وتعالى كلمته
الخاطرة الرابعة(35/18)
حين تطغي الشهوات الله تبارك وتعالى معشر الأحبة ذكر طائفة من الناس في كتابه بعث إليهم نبيا من الأنبياء هو لوط عليه السلام وأخبر الله تبارك وتعالى عن هذه الفئة وأولئك الملأ أن سكرتهم غلبة عليهم فأعمت بصائرهم وبصيرتهم ورانت على قلوبهم فكانوا يأتون في ناديهم المنكر ولا يتورعون من أي عمل يفعلونه وكان مصابهم الأعظم بعد إشراكهم بالله جل وعلا أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين و خاطرتنا حين تطغي الشهوات تتحدث عن أولئك الملأ كيف أن الله جل وعلا أنتقم منهم أعظم انتقام وأرسل عليهم حجارة من سجين منضود الشهوات يا أخي إذا طغت على صاحبها أعمته والعياذ بالله عن طريق الله جل وعلا فأصبح كالبهائم لا يعترف بالعبادات ولا ينظر إلى التقاليد والعادات البهائم عافانا الله وإياكم لها شهوتين البطن والفرج فإذا أرادت أن تأكل أو أرادت أن تتناكح لا تعرف أن تتواري أو تتزاوي والإنسان والعياذ بالله إذا غلبت عليه شهوته وطغت عليه شقوته أصبح كالبهائم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة أخبر أن الناس في آخر الزمان يتسافدون كتسافد الحمير حتى وإن الرجل والعياذ بالله ليفترش المرأة في الشارع قال صلى الله عليه وسلم :" وإن أعظمهم آمنة من يقول له هلا وريتها خلف الحائط " والمقصود أن الشهوات إذا طغت على بني آدم أضلته أيما إضلال وصرفتهم عن طريق الحق وزوت بهم عن معالم الهدى والإنسان ينبغي عليه أن يكون في حرز مكين من أن تطغي عليه شهوه ونقول لكل من أبتلي بغلبة الشهوة عليه أن يعلم ثلاثة أمور :(35/19)
الأول منها .. أن لا يسمح لنفسه ولا لبصره أن يستمر في النظر إلى الشهوات فتلك الأفلام الخليعة وتلك الأغاني الماجنة وما يعرض على الشاشات من دواعي الفسق والزنا والفجور لا ينبغي للمؤمن أن يستسلم له وأن يخلد بصره إليه لأنه قطعا بلا ريب ولا شك لن يأمن الفتنة على نفسه العاقل الحصيف لا يسلم نفسه الشهوات ثم يسأل الله تبارك وتعالى بعد ذلك العصمة
إن السلامة من سلمى وجارتها أن لا تمر على سلمى وواديها
الأمر الثاني ... أن نعلم أن في طرائق الحق وما منحه الله تبارك وتعالى لعباده وما في هذا الدين من يسر وحنفية سمحة ما يشغلنا عن تلك الشهوات ويجعلنا في مناء منها بعض الشباب يقول إن لم أنظر إلى تلك القنوات وأتابع تلك الفضائيات وما يعر ض فيها ماذا أصنع ؟ نقول له بكل هدوء ماذا كنت تصنع قبل أن تعرف تلك الفضائيات ألم تكن بشرا يمشي على قدميه ألم تكن رجل تسعى على بينة وهدى وبصيرة ما لذي غيرك أنك أسلمت نفسك إلى تلك المحارم غيرك أنك أسلمت نفسك وبصرك وعينك الخلود إلى تلك الشهوات فاستمتعت بها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " ولا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب "
لا يملئ جوف ابن آدم إلا التراب في قضية النظر وإدمان الشهوات(35/20)
الأمر الثالث ... في ما يحفظك بإذن الله أن تسلم لنفسك الوقوع في تلك الحبائل أن تعلم أن الله سألك عن شبابك فيما أفنيته سائل جوارحك فيما صنعت وأنما ذهبت لذته ستبقي حسرته يقول جل جلاله -( ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين )- [فصلت/] فما منا من أحد إلا وسيسأله ربه عن كل عمل يعمله وعن كل أمر قدمه صغيرا كان أم كبيرا عظيما كان أم حقير أما أولئك القائمين على تلك القنوات والقائمين على تلك الفضائيات وأخص منهم من يعني بنشر تلك الأفلام الخليعة والأغاني الماجنة فإننا في المقام الأول نسأل الله لهم جل وعلا
التوبة وأن يردهم اله إليه رد جميلا أما المقام الثاني
فإن الله جل وعلا لا محالة سيسألهم عن هذه الفئات العظيمة من شباب المسلمين الذين سعوا في إضلاله وسعوا في إفسادهم ولم يرقبوا الله تعالى فيها فإنهم سيحملون أوزارهم كاملة يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شئ نعوذ بالله تبارك وتعالى من أن نكون أدعياء للشيطان معرضين عن دعوته تبارك وتعالى وهو يقول -( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى )- [طه/126]
الخاطرة الخامسة
أيها المؤمنون وفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم(35/21)
كم مر على أمة الإسلام من مصائب وكم مر على أمة الإسلام من قطوف وكم رأي الناس من الملهمات وكم حل ببني آدم من النكبات وكم فجع الناس لفقد ولد وحبيب وكم خسر الناس من مال ونصب ونشب ولكن كل الصيد في جوف الفر أيه الأحبة بعث الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم لغاية واحدة عظيمة ألا وهى نشر دين الله تبارك وتعالى وتبليغ رسالة الله ولقد قضي صلى الله عليه وسلم حياته كلها في تحقيق هذه الغاية العظيمة فلما تحققت الغاية على يديه صلوات الله وسلامه عليه لم يبقي لحياته صلى الله عليه وسلم داع لأنه خلق لعظائم الأمور وقد أنهي ذلك الأمر العظيم على أكمل وجهه حج نبيكم صلى الله عليه وسلم بالمسلمين حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ثم أشهد الناس وممن حضر خطبته وشهد حجه على أنه بلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل فقال " اللهم قد بلغت اللهم فاشهد " ثم لما قضي صلى الله عليه وسلم نسكه عاد قافلا إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه فما إن عاد عليه الصلاة والسلام إلا وأخذت الحمى تدب فيه شئ فشيئا والصداع ينتابه بين الحين والآخر(35/22)
حتى أخذ المرض يدب في جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه شيئا فشيئا فلما أحس صلوات الله وسلامه عليه بدنوا أجله وقرب رحيله أخذ في بعض الليالي غلامه أبو نويهبه وتوجه صلوات الله وسلامه عليه إلى البقيع كالمودع لأهله وأستغفر الله لهم وقال لأهله وما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها ثم قال يأبي نويهبه " إن ربي خيرني بين أن أعطي خزائن الدنيا ثم الجنة ولكن اخترت لقاء ربي والجنة " فقال له أبي نويهبه يارسول الله " بأبي أنت وأمي يارسول الله أختر خزائن الدنيا ثم الجنة " قال :لا يا أبي نويهبه إنما اخترت لقاء ربي والجنة " فعاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم أخذ عليه الصلاة والسلام في الليالي التي سبقت صعود روحه إلى السماء إلى الملأ الأعلى صلى الله عليه وسلم يعلم الناس كيف يقبلون على الله جل وعلا فحذر أولا من اتخاذ القبور مساجد وقال " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا ثم خرج في اليوم التالي يقول للناس ويكشف عن ظهره من كانت عنده جلد ظهر فهذا ظهري فليستقد منه ثم خرج صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوصى بأن يقضي دينه ثم -- صلى الله عليه وسلم يوصى الناس بالأنصار خير ويقول لهم قد أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فقبل من محسنهم وتجاوزوا عن محسنهم ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس حتى رقي المنبر صلوات الله وسلامه عليه فصعد المنبر وقال :" أيها الناس إن عبد خيره الله مابين الدنيا ولقاء الله فاختار ما عند الله " فبكي أبو بكر رضي الله عنه وكان أعلم الصحابة وقال " بأبي وأنت وأمي نفديك بأرواحنا وأنفسنا يارسول الله صلى الله عليه وسلم "فقال صلى الله عليه وسلم على رسلك يأبي بكر " إن من أمن الناس في صحبتي أبي بكر ولو كنت متخذ خليل غير ربي لاتخذت أبي بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته ثم قال ليبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر ثم عاد صلى(35/23)
الله عليه وسلم إلى بيته وأخذ المرض يثقل عليه فستأذن زوجته في أن يمرض في بيت عائشة فبقي عليه الصلاة والسلام وهو أكرم الخلق على الله يمرض في بيت عائشة وقرب دنوا أجله يوم بعد يوم وساعة بعد ساعة فكان همه عليه الصلاة والسلام أن يودع الناس وقد عرفوا ربهم حق المعرفة وأقبلوا عليه حق الإقبال فكان صلى الله عليه وسلم يصلي حين ويتركها حين ثم لما رأي المرض --تثاقل عليه أوصي أن يصلي أبي بكر بالناس فمكث أبي بكر يصلي بالناس حتى كان اليوم الذي سبق موته صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس يتهادي بين رجلين فلما رأه أبي بكر تأخر قليلا وصلي بصلاته وصلي الناس بصلاة رسولنا صلى الله عليه وسلم ثم عاد عليه الصلاة والسلام راجعا إلى بيته حتى إشتدة فصب عليه سبع قرب عليه الصلاة والسلام فكان يفيق أحيانا ويغيب حينا آخر ثم كان اليوم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول صلوات الله وسلامه عليه فدخلت عله ابنته فاطمة في ضحى ذلك اليوم فقربها إليه وأخبرها بخبرين بكت من الأول وضحكت من الثاني أخبارها بأنه سيلقي ربه في مرضه هذا فبكت رضي الله عنها و ارضاها وأخبرها بعد ذلك أنها أول أهله لحوقا به فسرت رضي الله عنها وارضاها وأنها سيدة نساء أهل الجنة ثم دخل عليه أسامة ابن زيد فطلب أن يدعوا له فلم يقدر صلوات الله وسلامه عليه أن يدوا له إنما أخذ يشير بالدعاء إشارة ثم إشتد ضحي ذلك اليوم فدخل عبدالرحمن ابن ابي بكر أخوا عائشة على عائشة وفي يده سواك يتسوك به وأشار صلى الله عليه وسلم فأدام النظر إلى المواك فعلمت عائشة أنه يريده فقضمته له ثم طيبته له ثم تسوك صلى الله عليه وسلم ثم أشار بإصبعه الشريف إلى السماء وينظر إلى سقف البيت وهو يقول لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم قال بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى فكان آخر ما ردد صلوات الله وسلامه عليه وهو مفارق الدنيا لا إله إلا الله مع الذين أنعمت الله عليهم من(35/24)
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه وأفضت روحه إلى ربه في الرفيق الأعلى والمحل الأسمى وانتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه وفاضت روحه وجسد بين سحر ونحر عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وارضاها فما زادت على أن وضعته تلقم خدها رضي الله عنها وارضاها وكانت يوم إذن شابة صغيرة لم تبلغ الثامنة عشر وهى تندب رسولها صلى الله عليه وسلم فإذا فاطمة تقول
يا أبتاه أجاب رب دعاه
يا أبتاه من جنة
إلى جنة الفردوس مأواه
يا أبتاه إلى جبرائيل ننعاه
فثقل الأمر على الصحابة وسادهم الهرج والمرج حتى أقبل أبو بكر فأزاح الغطاء عن جسد رسولنا صلى الله عليه وسلم الطاهر وقبله وهو يقول " طبت حيا وميتا يارسول الله " والله لا يجمع عليك الله موتتين أما الميتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها بالدنيا ثم صعد المنبر وقال قولته الشهيرة " من كان يعبد محمد فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت فلما فرغ أصحابه من أمر الخلافة وكان ذلك في يوم الثلاثاء اليوم التالي لوفاته صلى الله عليه وسلم غسله دون أن يكشفوا له عورة صلى الله عليه وسلم دون والذين(35/25)
تولوا غسله أهل بيته علي بن أبي طالب و العباس ونفر من غلمانه صلوات الله وسلامه عليه ثم إنه بعد ذلك كفنوه في ثلاثة أثواب عليه الصلاة والسلام ثم حفروا في مرقده في بيت عائشة عليه الصلاة والسلام ثم صلوا عليه قبل أن يدفنوه أرسالا أي أفراد يدخلون من بابا ويخرجون من باب آخر فصلي عليه أول الأمر قرابته من بني هاشم ثم صلي عليه المهاجرون ثم صلي عليه الأنصار ثم صلي عليه عامة الناس ثم صلي عليه النساء ثم الصبيان ثم العبيد ثم بعد ذلك واروه صلى الله عليه وسلم وهو أكرم الخلق على الله في التراب ودفنوه ونزل في قبره علي وقسم والفضل ابنا العباس ومولاه شقران وأحد الصحابة من الأنصار يقال له أوس أستأذن قرابته بأن ينزل في قبره صلوات الله وسلامه عليه وقد أستعظم أصحابه أن يئومهم أحد على جسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه فلذلك صلوا عليه لما صلوا عليه أرسالا و أحاد و فرادا ثم واروه التراب صلوات الله وسلامه عليه ليصدع حسان بقوله
بطيبة رسم لنبي ومعهد منير وهل تعد الرسوم وتمهد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضئ ويوقد
معالم لم تطمس على العهد آيها أتاه البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبر به واراه بالترب ملحد
وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد
وهل عدلت يوم رزيت هالك رزيت يوما مات في محمد
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيبون على المبارك أحمد
إنا لله وإنا إليه راجعون(35/26)
معشر الأحبة إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث لا يمكن أن تمله القلوب المؤمنة ولا يمكن أن تسأمه النفوس المسلمة إنه حديث عن أحب حبيبا إلينا من الخلق وعن أقرب قريبا إلينا من الناس حديث عن صفوة الله من الخلق حديث عن رسول الحق صلوات الله وسلامه عليه وإنه من يريد أن يعلم أين مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلبه فا لينظر أين هو من سنته فلينظر أين هو من الذود عن سنته أين هو من الدعوة إلى دينه أين هو من اقتفاء أثره أين هو من التزام --
صلوات الله وسلامه عليه كان ابن عمر رضي الله عنه يتوخي كل أمر يصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يلبس النعل التي لا شعر لها فلما كلما في ذلك قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعل التى لا شعر بها و يتوضاء بها ويصلي بها فإذا كان قد إتبعه في النعل الذي يلبسه فما بالك إذا في عظائم الأمور إن محبة رسولنا صلى الله عليه وسلم هي الدين وهى عين الملة لأنه صلوات الله وسلامه عليه الطريق الأوحد إلى رضوان ربنا جل جلاله وليست محبته دموعا في المحاجر وأمرا في سويداء القلوب وإن كانت ينبغي أن تكون كذلك ولكن محبته صلى الله عليه وسلم أن نجعل الناس كلهم وراء ظهورنا إلى من أحب آثر محمد صلى الله عليه وسلم ألا ننظر إلى زيد وعمر ولا إلى مشور ولا إلى -- وأن نحب الناس ونعاديهم على مدي تمسكهم بسنة محمد صلوات الله وسلامه عليه حشرنا الله وإياكم في زمرته وسقانا الله وإياكم من حوضه وأنالنا الله وإياكم من شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم(35/27)
خاتمة المطاف وخاتمة الخواطر أيها المؤمنون بعد هذا الذي سمعتمه هلما إلى التوبة بعد هذا كله ما لذي ينبغي علي وعليك ينبغي علينا أمر واحد أن نسارع بلا تردد وأن نبادر بلا إحجام أن نتوب إلى ربنا جل جلاله لقد قالت اليهود يا أخي في سالف الأزمان -( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق )- [آل عمران/181]
والله تبارك وتعالى هو الغني حقا وسائر خلقه فقراء إليك لا تظننا يا أخي أن الله تبارك وتعالى عندما يدعوك لعبادته ويدعوك إلى أن تسجد له وأن توحده وإن تعظم أمره وتحجم عن نهيه إنما في حاجة إليك تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا بل إن الأمر كما أخبر أنبيائه -( ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد )- [لقمان/12] -( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )- [فاطر/15] الله تبارك وتعالى أغني الأغنياء عن الشرك جل وعلا مستو على عرشه بائنا عن خلقه لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طائعة الطائعين يبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل ويبسط يده في الليل ليتوب مسئ النهار ولكن الناس أنفسهم يظلمون فهلما أيها الأخ المؤمن(35/28)
إلا توبة إلا ربنا جل جلاله خاصة وأننا نتفيئ ظلالة هذا الشهر الكريم وهذه الليالي المباركة إننا لا ندري بما يختم لنا ولا ندري إلى أي أمر نصير -( صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور )- [الشورى/53] فلسعيد كل السعادة من أعرض عن الشيطان وأقبل على مولاه وأسلم لله قلبه وأسلم لله جوارحه وأسلم لله دمعته وأسلم لله محاجره وأقبل على الله جل وعلا بقلب خالص وتوبة ناصحة وأوبة لا رجعت فيها يستغفر ذنبه ويرجوا الله أن يمحوا خطيئته وأن يسبغ الله عليه رحمته وأن يدفع الله تبارك وتعالى نقمته كفانا ماخلا من أيام عمرة بالذنوب والمعاصي وليالي أظلمت بالذنوب والخطايا ولنقبل أجمعين إلى ربنا جل وعلا ولتعلم يا أخي أن رحمت الله لا تضيق بشئ فيقول جل جلاله -( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )- [الأعراف/156]
أسأل الله جل وعلا في خاتمة هذه الخواطر وفي خاتمة هذه المحاضرة أن يمن علينا أجمعين بالتوبة النصوح والأوبة إليه إنه سميع مجيب ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننا من الخاسرين اللهم ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
-----------------
تفريغ الشريط
ما كان من صواب فمن الله تعالى وما كان من خطأ فمن نفسي و الشيطان(35/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها المباركون :
يقول - صلى الله عليه وسلم - :" إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع " نسأل الله أن يكتب لنا ولكم المقام الطيب في هذا المسجد الذي أسسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إننا نقول إن الدرس منذ اليوم إن شاء الله تعالى إلى مرحلة قادمة سيأخذ التعريج على آيات الأحكام ـ سيأخذ التأمل في آيات الأحكام ـ قد منًّ الله جل وعلا علينا بتدبر القرآن معكم من سورة الفاتحة وانتهينا إلى سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكنا قد أخذنا الجزء السابع والعشرين منفكاً فما بقي من عرض المصحف سنجعله في المناطق في غير المدينة ونعيد النظر والتأمل من أول المصحف بدءاً من سورة البقرة ونقف عند آيات الأحكام ، فكنا فيما سلف لا نعرج كثيراً في آيات الأحكام فهذا العرض الثاني للقرآن سنعرج إن شاء الله تعالى على آيات الأحكام ، يفهم من هذا أن الدرس سيكون علمياً محضاً ولا يكون فيه للوعظ نصيب ، والوعظ له مواطنه كخطب الجمعة والمحاضرات وأمثالها وهو خير عظيم جاءت به الرسل كما لا يخفى .(36/1)
المسألة الأولى : هي مسألة تحويل القبلة وهي أول الأحكام الموجودة الظاهرة في سورة البقرة ، وسورة البقرة يقال لها فسطاط القرآن ، والفسطاط: البناء الضخم العظيم المتسع وسورة البقرة جمعت في باب العقائد وباب الأحكام وباب القصص أشياء كثر وتضمنت آية الكرسي التي هي أعظم آية في كلام الله ، كما أن سورة البقرة هي أطول سورة في القرآن وجاءت أحاديث كثر في بيان فضلها من هذا كله بديهي أن تبدأ بالبقرة لأن هذا هو الأصل فالآيات التي سنتحدث عنها في هذا اللقاء المبارك علمياً هي قول الله جل وعلا { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } إلى آخر الآيات ، ثم نزدرف إلى قول الله جل وعلا { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح !$yèx© اللَّهِ } إذاً في لقاء اليوم سيكون هناك كم مسالة؟ مسألتان : مسألة تحويل القبلة ، ثم المسألة الثانية : قول الله جل وعلا { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح !$yèx© اللَّهِ } .
فنبدأ بالأولى :(36/2)
يقول أصدق القائلين جل جلاله { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } قبل أن تفهم هذا ثمة شيء اسمه الاستصحاب ، معنى استصحاب شيء تستحضره في الذهن ، تستصحبه معك قبل الشروع في تأمل ما تريد أن تتأمله ، فمثلاً أنت تقدم إلى هذا المسجد المبارك قبل أن تقدم إليه تستصحب عظمته وأنه مسجد أسسه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الصلاة فيه تعدل عمرة ففرق بينك وبين غيرك من يأتي إلى المسجد وهو لا يدري عن هذا كله وبين من يعلم هذا كله ، ففرق بين الاثنين في حاله ووضعه في المسجد فقبل أن نزدرف إلى قول رب العالمين جل جلاله { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } نستصحب أن هذه الآية في ترتيب المصحف جاءت بعد آيات تضمنت مسألتين ـ السؤال الآن ـ ما هما المسألتان اللتان نريد أن نستصحبهما هنا ؟(36/3)
المسألة الأولى : سبقت هذه الآيات تعظيم الله للبيت ـ للكعبة ـ قال الله { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } فهذه الآيات سبقت قول الله جل وعلا { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فجاءت آيات تبين عظمة البيت وفي الوقت نفسه جاءت آيات تبين ضلال اليهود والنصارى وأنهم يكذبون في دعواهم { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } إذاً نحن نستصحب ونزدرف قبل أن نتأمل بما نملكه من آلة علمية ـ أنا أتكلم عنكم ـ إلى الآيتين نستصحب إن الله قبلها عظم البيت وبين ضلال اليود والنصارى والمشركين لكن المشركين جاء بيان ضلالهم في مقدمة السورة هذا ظاهر ؟ بعد ذلك قال الله { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } بادئ الرأي يفهم من الآية أن القبلة حولت لأن الله قال { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } إذاً هؤلاء المؤمنون تحولوا عن القبلة هذا بادئ الرأي لكن هذا ممكن أن يكون لا خيار فيه لو كان المتكلم أنا وأنت أو أحد غيرنا لكن الكلام هنا من كلام من؟ كلام رب العالمين وهذا يوجب النظر في الآية من وجهين ، قال بعض العلماء : إن هذه الآية { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } وإن جاءت متقدمة على قول الله جل وعلا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إلا أنها قبلها في النزول فيصبح تخلص من هذا إلى أن قول الله { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } متأخر نزولاً متقدماً كتابة ، أي أصحاب هذا الرأي يقول إن الله قال لـ { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } إن هذه نزلت أولاً فاعترض المشركون والمنافقون واليهود(36/4)
فقال الله { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ } هذا قول ـ أن قول الله جل وعلا { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ } متأخر نزولاً متقدماً كتابة ، وهذا اختاره جمع من العلماء ، والذي نرجحه ـ والعلم عند الله ـ أن الآية متقدمة نزولاً وعرضاً أما عرضاً فلا خلاف بمعنى أنه لم يحصل أمر بتحويل القبلة لكن الله جل وعلا قبل أن يأمر نبيه بتحويل القبلة مهد له تسلية له من باب، وإظهار معجزة له صلوات الله وسلامه عليه من باب آخر قال له { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } والسين في لغة العرب للمستقبل القريب يقابلها سوف للمستقبل البعيد وإن كان تحديد القرب والبعد هذه مسألة نسبية زمانياً { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } فالله يقول لنبيه سيقوم السفهاء من الناس ، والسفه في اللغة: من لا يميز ما له وما عليه ، ولا يدري ما يضره مما ينفعه فكل كافر سفيه قطعاً لأنه لا سفه أعظم من أن يجهل المرء عبادة رب العالمين جل جلاله فالله يقول { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } قال بعضهم إن ( من ) بعضية وقال منهم إن ( من) بيانية فعلى القول إن السفه يكون في بني آدم ويكون في غيرهم تكون ( من ) هنا بيانية ، إذا قلنا أن السفه يكون في بني آدم وفي غيرهم فيكون قول الله { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } ( من) هنا بيانية وإن كان السفه لا يكون إلا في الناس فإن (من ) هنا تكون بعضية { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } جاء الجواب القرآني أن الأمر في أصله أمر تعبدي { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } والمعني أن المشرق والمغرب جهتان لا يفضل أحدهما على الآخر ليس في المشرق فضل زائد على المغرب ولا في المغرب فضل زائد على المشرق وإنما المشرق والمغرب جهتان مخلوقتان مملوكتان لمن ؟ لله ، والله تعبدنا بأن نتوجه إلى الكعبة لأن الجهات كلها له جل وعلا هو خالقها وهو يملكها(36/5)
فالأمر أمر تعبدي محض { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } بعد ذلك قال أصدق القائلين { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قبل أن نصل إلى معنى وسطا الواو عاطفة لكن الإشكال في الكاف ، هل الكاف هذه مقحمة زائدة على ما قاله بعض النحويين أو أنها للتشبيه فالذين قالوا إنها مقحمة زائدة قالوا لا يمكن أن يقال أنها للتشبيه لأنه لا يوجد شيء قبلها ، والصواب أنها للتشبيه وأما دلالة ما قبلها فإن العرب تقول كما قال أبو تمام قال:
كذا فليجل الخطب وليفتح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر(36/6)
السفر يتكلم عن رجل اسمه ( محمد بن حميد الطوسي) موضوع الشاهد أبو تمام يقول :كذا فليجل الخطب وهذا أول القصيدة مداد هذا أول بيت فلا يمكن أن يكون متعلق بشيء قبله ، فهؤلاء قالوا إن القضية قضية إقحام مثل قول أبي تمام ، قلنا إن الكاف لماذا؟ للتشبيه ،لما نزعم شيء لا بد أن تقيم عليه الدليل يتضح فنقول إن الأمر إن الله أراد أن يقول { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أي الملك التام له كما أن الملك التام له جعل هذه الأمة خير الأمم قال في الأول { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } أي الملك التام لي أنا رب العالمين جل جلاله يقول فالمشرق والمغرب لي ، ثم قال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } كما أن الملك التام لي فأنا جعلت هذه الأمة دون سائر الأمم أمة ماذا؟ أمة وسطاً وإن جاء في الآخر فيصبح إن الكاف في قوله تبارك اسمه وعز ذكره { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ } ليست كما زعم بعض النحاة أنها زائدة مقحمة ولكنها كاف؟ كاف التشبيه { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } وسطاً بمعنى: خياراً عدولاً ، وهذه الأمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - جاء الله بالنبي الخاتم عليه الصلاة والسلام فجعله آخر الأنبياء زمناً وهو أفضلهم جميعاً صلوات الله وسلامه عليه فما سبقه أحد قبله أفضل منه ولا نبي بعده ، وأمته ـ والحمد لله الذي جعلنا من أمته ـ آخر الأمم وما سبقتها أمة أفضل منها قبل ولا أمة بعدها كما أن نبيها عليه السلام لا نبي بعده قال عليه الصلاة والسلام في الدجال:" فإن يخرج فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج وأنا ميت فكل امرئ حجيج نفسه وإنه خارج فيكم لا محالة لأنه لا أمة بعدكم "والمقصود أنه - صلى الله عليه وسلم - خير النبيين وأمته خير الأمم قال الله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } قلنا معنى وسطاً خياراً عدولا لكن يفقه الناس أن الوسط يأتون للطرف في الأشياء الطول فيقولون الوسط ها هنا(36/7)
وهذا فقه غير صحيح فالوسط: هو الشيء الذي في الداخل الممتنع، فلو أن مدن من المدن تعرضت لغزو فأعظم ما يمتنع أين ؟ وسطها ـ أي قلبها ـ فيسمى الوسط في حقيقة اللغة هو ذلك الشيء العزيز الممتنع الذي يصعب الوصول إليه ، فهذه الأمة أمة عزيزة ممتنعة لأنها على هدي من الله عظيم ولهذا قال الله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } فهذه الأمة كما جاء في الأخبار الصحيحة تشهد يوم القيامة على أن الرسل بلغوا دين الله ، فيختصم نوح مع قومه ويقول قوم نوح أن نوحاً لم يبلغ ويقول نوح عليه السلام بلغت فيقال لنوح من يشهد لك فتقول هذه الأمة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - نحن نشهد أن نوحاً بلغ الأمانة وأدى الرسالة ونصح لله ومعلوم قطعاً أن أي أحد من أمة محمد لم يرى نوح وهو يدعوا قومه فعلى أي شيء شهدوا ، شهدوا لأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا أن نوح أدى الرسالة ، كما أنزل الله على نبينا في كتابه العظيم هنا قال الله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شاهد على أمته { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } أي قبلة؟ بيت المقدس وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تعلمون يصلي إلى بيت المقدس من جهة الركنين اليمانيين من الكعبة فإذا استقبل - صلى الله عليه وسلم - الكعبة من جهة الركنين اليمانيين وهما جنوبا الكعبة واستقبل من جهة الجنوب سيصبح مستقبلا بالنسبة له شمال فيصبح عليه الصلاة والسلام استقبل الكعبة واستقبل البيت ـ بيت المقدس ـ { جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا } يعني أقررناك على هذا الحال { إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ }(36/8)
ينقلب على عقبيه يعني يعود إلى ما كان عليه من الكفر قال ربنا تبارك وتعالى { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } عندما يقال لمم ما بعد اللمم؟ صغيرة ما بعد الصغيرة ؟ كبيرة ، اللمم الله يقول { يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } فوق اللمم صغائر فوق الصغائر الكبائر ـ ضعها في كيس وأخرجها من القضية ـ هنا ليس لها علاقة فقول الله جل وعلا { وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً } الله لا يتكلم عن ذنب لا يتكلم عن معصية لا عن لمم ولا عن صغيرة ولا عن كبيرة يتكلم هنا كلمة كبيرة بمعنى وإن كانت ذات مشقة على المسلمين أن تحول القبلة ليست كبيرة مرادفة لماذا؟ مجاورة للصغيرة وإنما كبيرة : بمعنى أمر عظيم يشق على النفوس ليست من الذنوب في شيء نظيرها في القرآن { فإن كان كبر عليك إعراضهم } ما معنى { كبر عليك إعراضهم } ؟ اشتد وعظم وشق عليك إعراضهم هذه أيها المبارك مثلها وإن كانت لكبيرة يعني ليس أمراً هيناً أن يطلب منهم تحويل القبلة، فأمر عظيم ذو مشقة يحتاج إلى عباد صالحين يتقبلونه { ôMtR%x.(36/9)
bخ)ur لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } جاء تحويل القبلة والمسلم يحب أخاه المسلم فالصحابة الذين أنزل عليهم تحويل القبلة فكروا فيمن ؟ فيمن كان يصلي إلى بيت المقدس ثم مات ،مات متى؟ قبل تحويل القبلة ، وهذا يدلك على أن المجتمع المسلم مجتمع متآخي يفكر بعضهم في بعض فالصحابة لما نزل قول الله تعالى بتحويل القبلة فكروا وشغل بالهم من كان قد صلى إلى بيت المقدس ثم مات فقال أرحم الراحمين جل جلاله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } إجماعاً كلمة إيماناً هنا بمعنى: الصلاة وهي حجة دامغة لأهل السنة أن الإيمان والعمل لا ينفكان قال الله تعالى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } فسمى الله الصلاة إيماناً كما عرض عليه الأئمة أبواب كما عند البخاري في الصحيح ..(36/10)
وغيره { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } هذا كله توطئة للأمر ، الأمر إلى الآن ما جاء ، ثم جاء الأمر قال الله جل ذكره يخاطب سيد الخلق وأشرفهم { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } لا أحد اشد أدباً مع الله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوده قلبياً أن يتوجه إلى قبلة إبراهيم خاصة بعد أن أخبره الله بمكان البيت لكن حيائه من الله منعه عليه السلام أن يطلب ذلك جهاراً صراحة فكان يقلب طرفه في السماء كناية عمن ينتظر أمراً، يقلب وجهه في السماء كناية عمن يرتقب شيئاً يحدث ، ولما قلنا مراراً التجارة مع الله تجارة رابحة فالله يعلم ما تنطوي عليه النفوس وما تكنه الصدور فقال جل وعلا { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ } هذا مطلبك هذا مقصدك هذا مرادك وحيائك يمنعك أن تخاطبنا به { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } تريدها ترغبها تحبها إلى الآن لم يأتي الأمر ، ثم جاء الأمر رباني إلهي { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } هذه الآية { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } هي الأمر بتحويل القبلة وقلنا رجحنا أن هذه الآية متأخرة في العرض كما هي متأخرة في النزول { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } كلمة شطر في اللغة : تأتي بمعنى النصف والجزء قال عليه الصلاة والسلام :" الطهور شطر الإيمان " نصفه أو جزء منه وتأتي بمعنى الجهة { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } والمسجد الحرام هنا الكعبة ، يتحرر من هذا قبل أن نتجاوز المسألة ـ الذي ندين الله به ـ أن المسجد الحرام في القرآن أطلق وأريد به أربعة أمور مختلفة : أطلق المسجد الحرام في القرآن وأريد به عين الكعبة ، وأطلق المسجد الحرام في القرآن(36/11)
وأريد به المسجد المحيط بالكعبة الذي في العرف ، وأطلق المسجد الحرام في القرآن وأريد به مكة حرماً حدود مكة حرماً ، وأطلق المسجد الحرام في القرآن وأريد به مكة كلها حرماً وحلاً قال جل ذكره { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } على الصحيح أن الصحيح أن المسجد الحرام هنا مكة كلها حلها وحرما فيدخل به ما يسمى الآن مثلاً الشرائع كلها وهذا التفصيل سيأتي إن شاء الله في دروس، لكن هذا الإجمال لابد فيه قبل أن نتجاوزه قال ربنا جل وعلا { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قلنا جهة الكعبة ، نتجاوزها قليلاً الآيات الآن إذا صلى المسلم أين ينظر؟ هذه مسألة مختلف فيها ـ قلت هذا مجلس علم ـ فمن قال أنه ينظر إلى موضع سجوده احتج بحديث عند البيهقي من رواية حسن عن أنس واحتج بحديث عند الحاكم صححه وحكم الألباني ـ رحمه الله ـ عليه بالصحة ويقابله أهل صناعة حديثية مثلهم في القوة لا يرون أن هذه الآثار ترقى إلى الصحة فمن راء أن هذه الآثار ترقي إلى كونها صحيحة ترفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال :إن السنة دلت على أن المؤمن ينظر في صلاته إلى سجوده ، ومن راء أن هذه الآثار وإن تكاثرت ليس فيها أحاديث يمكن الجزم بصحته ولا يصح من هذه الآثار شيء لا الذي عند الحاكم ولا للذي عند البيهقي ولا للذي عند غيرهما من بعض المسانيد والسنن وليس في الصحيحين منها شيء ، قالوا إنه لا يوجد دليل أين ينظر المصلي وجه وجاء دليل صريح بنهي أن يرفع المؤمن بصره إلى السماء والله يقول { فَوَلِّ وَجْهَكَ } أين ؟ { شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } فقالوا ينظر المصلي أين ؟ ينظر أمامه واحتجوا بقولهم هذا بما في البخاري من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :" صلى بهم صلاة الكسوف ـ كسوف الشمس ـ ثم قال :" ما رأيتك اليوم خيراً ولا شراً قط " وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه راء النار وراء الجنة وذلل له قطف من عنب الجنة وهذا كله أخبر(36/12)
أنه راءه أمامه ولم يراه تحته ينظر إليه ـ واضح المسألة الآن ؟ ورجح بعض المتأخرين وهذا قول حسن جمعاً بين الآثار أ ن الإنسان إذا كبر تكبيرة الإحرام يكبر وينظر أمامه عملاً بالآية { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وإذا وقف قام في صلاته ينظر إلى موضع سجوده عملاً بأن تلك الآثار أفضل من الرأي ـ والعلم عند الله ـ وإنما أردت تحرير المسألة لأنني قلت إن المجلس في المقام الأول مجلساً علمياً .
قال ربنا { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } لكن يخرج من اشتراط استقبال القبلة كم حالة ؟ حالتان لأن قوله جل ذكره { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } هذا عموم خصصته السنة بكم حالة ؟ حالتين :
الحالة الأولى : النافلة عند السفر على قول الجمهور وعلى قول ابن حزم إن النافلة في أي مكان لكن قول الجمهور أقوى فمن تنفل على دابة طائرة أو قطار أو سيارة يتنفل يصلي ركعتين في الليل أو في النهار في مواضع الصلوات يصلي نافلة فأين قبلته ؟ حيث ما توجهت به راحلته .(36/13)
الحالة الثانية : المقاتل الخائف في الحرب عند المسايفة أو ما يشابهها فأين قبلته ؟ حيث يكون أمنه الجهة التي إذا نظر إليها يكون فيها أشد أمناً تكون ماذا؟ تكزن هي قبلته . { ]ّٹymur مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } الآن لاحظ الله يقول { يا أيها النبي اتق الله } هذه فاتحة الأحزاب من المخاطب؟ النبي، والمراد من؟ أمة ، النبي وأمته وقال جل وعلا يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت نزول هذه الآيات لم يكن والداه حيين إنما خوطب النبي والمراد الأمة فيأتي في القرآن أحياناً خطاب النبي والمراد الأمة أو يأتي الخطاب للأمة ويندرج فيها النبي { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } فالخطاب للأمة نبياً وأتباعاً ، هنا قال الله لعظيم الأمر قال ربنا { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } بالإفراد فولي ثم قال { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ } فجاء الخطاب مستقلاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومستقلاً لأمته صلوات الله وسلامه عليه ليظهر عظيم ماذا ؟ عظيم الخطاب { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } يخبر الله جل وعلا أن العقائد لا يمكن لأي أحد في أي ملة أن يتنازل عنها لأنه إذا تنازل عنها لم يصبح على العقيدة التي يدعوا إليها فاليهود لو تنازلوا عن القبلة ما أصبحوا ماذا ؟ ما أصبحوا يهود ، والنصارى لو تنازلوا عن معتقدهم ما أصبحوا نصارى ، وأنت لو تنازلت عن ديانتك وعقيدتك لم تصبح ماذا ؟لم تصبح مسلماً فقال الله {(36/14)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } فإذا كانوا وهم على الباطل لا يتنازلون فأنت أولى أن لا تتنازل وأنت على الحق ولهذا قال { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } ثم قال { وَمَا بَعْضُهُمْ } لا اليهود ولا النصارى { بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } وإلى اليوم على التحالف العظيم بين اليهود والنصارى إلا أنه لا يوجد يهودي يتنصر ولا نصراني يتهود يعني لا يوجد أحد يتنازل عن أمر عقدي بينهم إنما هي مصالح ترتقي أحياناً وتنخفض أحياناً ثم قال الله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } ومعلوم أن الله علم أزلاً أن هذا خير البشر وسيد الخلق وأفضل ولد آدم كلهم عليه الصلاة والسلام ولا يمكن له أن يتبع الظالمين لما أعده الله له من عظيم الرسالات لكن تحذير لكل أحد ، قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ كلاماً طويلاً مفاده أنه إذا كان النبي لو قدر جدلاً اتبع هواه وترك الحق لعد من الظالمين فكيف غيره صلوات الله وسلامه عليه ثم قال الرب تبارك وتعالى { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } من هم؟ اليهود والنصارى { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ } يعرفون من ؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } لأنه جاءهم فيما بين يديهم من كتب أخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ } أي العلماء { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } جمهور العلماء على أن معنى قول الرب تبارك وتعالى { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } أي حق؟ قالوا(36/15)
النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله قال قبلها { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } والذي أدين الله به أن هذا الاستنباط في غير موضعه لأنه لا يمكن فهم الآية حتى يقرأ ما بعدها ماذا ما بعدها ؟ الله قال في الأول { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } فالله يقول لنبيه لا تكنن من الشاكين الممترين ومحال أن يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماذا؟ في نفسه لأنه لا يوجد أحد يشك في نفسه كل أحد يعرف نفسه إن كان حقاً أو باطلاً له كينونة تعرفه بنفسه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاكاً في نفسه فقول الله جل وعلا { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } المعنى لا يشككونك في أن إتباعك لمكة حق إتباعك للقبلة في مكة حق هذا كله داخل أيها المبارك في مسألة شهيرة وهي مسألة تحويل القبلة وتحويل القبلة يسمى في عرف الأصول " النسخ" والنسخ ممنوع عند اليهود ـ يعني لا يؤمنون به ـ وهو ثابت في شرعنا قال ربنا { مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والنسخ أ يها المبارك الكلام فيه طويل ليس هذا مقامه وإن كنت قد حررته في أول التأملات لكن سنذكر هنا بعض الفوائد : النسخ قد يقع بعد أن عمل الناس جميعاً في الحكم يأتي نسخ الحكم مثل ماذا؟ مثل هذا الذي نحن فيه ، فإن المسلمون جميعاً إلى سبعة عشر شهراً من الهجرة كانوا يصلون إلى أين ؟ إلى بيت المقدس فهذا نسخ بعد أن عمل المسلمون جميعاً به ، وقد ينسخ الحكم بعد أن عمل به بعض الناس(36/16)
كقول الله جل وعلا { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قال الله بعدها { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } وقد ورد من طرق متعددة أن علي ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ هو الوحيد الذي قدم نجوى على هذا القول يصبح أن هذا الحكم نسخ بعد أن عمل به بعض من؟ بعض الأمة أو بعض الصحابة لأن المقصود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيت حالة وهو ينسخ الحكم قبل أن يعمل به أي أحد فمن يجيب ؟ قصة إبراهيم في ذبح ابنه صحيحة لكن ، يقول في قصة إبراهيم في ذبح ابنه أنه أمر بذبح ابنه ثم نسخ الحكم قبل أن يذبح إبراهيم وهذا حق لكن هذا أيها المبارك ـ الجواب صحيح ـ لكنه ليس المقصود وإن إبراهيم وحده كلف بذبح ابنه ، أنا أتكلم عن تكليف جماعة ......(36/17)
فرض الصلاة خمسين صلاة فإن الله فرض على نبيه الصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة ثم نسخت حتى وصلت إلى خمس ولم يعمل بها أحد لا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره لأن أول صلاة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فرض الصلوات الخمس هي صلاة الظهر ولهذا قال جابر بن سمرة كما عند مسلم في الصحيح قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته الأولى ، ما هي صلاته الأولى؟ صلاة الظهر ، قال ربنا تبارك وتعالى ـ وقد قلنا في اللقاء الماضي إن الكعبة تكلمنا عنها كثيراً لكن قلنا إن الناس كانوا يصلون إلى الكعبة من أي جهة؟ قلنا إن الكعبة كان الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده إلى عهد بني أمية يصلون من جهة واحدة من جهة مقام إبراهيم حتى كانت ولاية خالد بن عبد الله القسري ، هذا أمير من أمراء بني أمية كان والياً على مكة في زمنه فجمع الناس على أن يصلوا من جميع الجهات ـ زي ما هو معمول الآن ـ فصلوا من جميع الجهات وإلا كانوا ما يصلون إلا من جهة واحدة ،وقد يهدي الله الدين بالرجل الفاجر لأن هذا خالد كان فاجراً جداً خالد بن عبد الله القسري ، المهم جمع الناس فسئل عطاء من عطاء ؟ عطاء بن أبي رباح تلميذ من ؟ تلميذ ابن عباس ، كم حجة حج ؟ سبعين حجة فهو من أعلم خلق الله بالمناسك ، رجل حج سبعين حجة وتلميذ ابن عباس وكان ينادي منادٍ في المسجد الحرام في زمن بني أمية أن لا يفتينَّ في هذا المقام إلا عطاء بن أبي رباح وكان يقال عنه وصف غريب " مات عطاء وهو أرض الناس للناس " كل الناس يحبونه العلماء والعامة وطلبة العلم والسلطان والأمراء مات وهو أرضى الناس للناس ، دخل على هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي فجلس وأكرمه فقال له يا عطاء سلني حاجتك قال: يا أمير المؤمنين أهل الثغور ـ يعني الذين يجاورون اليهود والنصارى على الحدود ـ أهل الثغور أهل الجهاد الضعفاء أعطهم قال : يا كاتب أكتب لأهل الثغور ، يا عطاء سلني(36/18)
حاجتك قال : يا أمير المؤمنين فقراء المسلمين قال: يا كاتب أعطي فقراء المسلمين ـ قد خلص غلين يوصل لهم ـ قال : يا أمير المؤمنين أهل الحرمين ـ أهل مكة والمدينة ـ هم مادة الإسلام منهم شع النور قال: يا كاتب أكتب لأهل الحرمين بأعطياتهم يا عطاء سلني قال : يا أمير المؤمنين البوادي يقل عنهم المطر ويجدب فيهم الديار أعطهم قال: يا كاتب أكتب لأهل الديار قال : يا عطاء سلني قال : يا أمير المؤمنين طلبة العلم لهم حق ينشرون الملة يذودون عن السنة قال: أعطهم قال : يا عطاء سلني حاجتك؟ قام وخرج قال من كان معه والله ما شرب عند هشام كاسة ماء ، كاسة ماء ما شرب ورجع من دمشق إلى مكة ـ رحمة الله عليه ـ ومات وقد حج سبعين حجة ـ رحمة الله عليه ـ بأمثال هؤلاء اقتدي ، قال ، رحمه الله ـ لما قيل له إن خالداً جمع الناس على الكعبة قال هذا موجود في القرآن قيل له أين موجود في القرآن ؟ قال الله يقول { وترى الملائكة حافين من حول العرش } وكما قلنا مراراً قاله مالك من قبل ـ ونحن نكرره العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء ـ إلى هنا ينتهي الحديث عن المسألة الأولى وهي مسألة تحويل القبلة .(36/19)
الآية التي بعدها في الأحكام قال الله جل وعلا { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح !$yèx© اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ #ژِچyz فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ما الصفا والمروة ؟ جبلان هذان الجبلان بينهما سعت من؟ هاجر عليها السلام ، هاجر سعت بعد أن ترك إبراهيم عندها رضيعها إسماعيل في خبر معروف لا يجهله أحد مع مرور الأيام جاءت قبائل العرب فوضعوا صنماً اسمه ( إساف ) على الصفا وصنماً آخر يقال له ( نائلة ) على المروة فكان الأنصار إذا حجوا قبل إسلامهم ( الأوس والخزرج ) يعظمون إساف ويعظمون نائلة اللذان على الجبلين ، فلما جاء الإسلام بالسعي بين الصفا والمروة تعاظم الأنصار أن يعودوا إلى مكان كانوا يعظمون فيه أصنامهم فأنزل الله { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح !$yèx© اللَّهِ } شعائر جمع شعيرة ، والشعيرة أي : أي شيء معلم فإذا أشعرت الدابة على أنها هدي يقال إنها أعلمت فمن شعائر الله إي من أعلام الدين الظاهرة قال الله { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ } إذاً لابد يكون السعي إما في حج أو في عمرة و لا يجوز لأحد أن يتنفل بالسعي وحده ، يعني يمكن أن تطوف بالبيت من غير حج ولا عمرة لكن لا يمكن أن تسعى بالبيت من غير حج أو عمرة لابد أن يكون مندرج في حج أو مندرج في عمرة { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح !$yèx© اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أما قول الحق جل ذكره { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا } ليس المقصود ومن تطوع خيراً في سعي وإنما المقصود من زاد حجاً أو زاد عمرة أي أكثر من الحج وأكثر من العمرة { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } ينبغي أن تفهم أيها المبارك أن الآية ليس المقصود(36/20)
منها أبداً بيان حكم السعي إنما المقصود من الآية بيان أن ما كان يصنع في الجاهلية حول الصفا والمروة لا يمنع اليوم بعد الإسلام أن يسعى المؤمن بينها في حج أو عمرة ـ رفع الحرج ـ أما حكم السعي فينظر في أدلة أخرى والعلماء ـ رحمهم الله ـ فقهاء قبلنا ذهبوا إلى ثلاثة أقوال في حكم السعي : فالمشهور عن الشافعي ـ رحمه الله ـ وهو قول لأحمد : أن السعي ركن لحديث :" إن الله قد كتب عليكم السعي فاسعوا " ، وأكثر أهل التحقيق من العلماء : على أنه واجب يجبر بدم واختاره الشوكاني ـ رحمه الله ـ في جميع مؤلفاته ، وذهب بعض السلف ولا أعلم أحداً من الخلف قال به إلى : أنه مستحب ليس بركن ولا بواجب ـ فأما من قالوا أنه مستحب فبعيد جداً ـ " خذوا عني مناسككم " ما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعتمر ولا أصحابه إلا سعوا فالقول بأنه مستحب لا وجه له وإن قال به بعض الفضلاء ، لكن التردد يكون مابين كونه ركن أو كونه واجب ، فمن سألك هل لابد أن يسعى ؟ قل له لابد من السعي فمن أتى ولم يسعى قد يصعب عليك أن تقول أنه ركن لعدم وجود النص القوي في الباب فنقول له أجبر تركك السعي بدم .
تأتي مسألة معاصرة ما حكم السعي في المسعى الجديد؟
قطعاً عندنا يجوز السعي في المسعى الجديد ، الجبال ليست كحدود الأرض هذه أرض هنا صالح هنا وليد هنا محمد هنا فهد بالصمت تنتهي محال الجبل عرق يمتد في الأرض فجبل الصفا ممتد شرقأ وكذلك المروة ممتد شرقاً ولو جزء يسير فالمسعى القديم الآن أغلق حتى يتم بنائه أدواراً والذي أعرفه أنه سيصبح ستة أدوار سيعمل بثلاث منها حالياً ثم يفتح بعد الفراغ منه والمسعى الجديد ممتد على جهته شرقاً ويحتوي ويستوعب ما بين الصفا والمروة فالسعي بالمسعى الجديد ندين الله أنه لا حرج فيه البتة .
هذا ما تيسر اراده وأعان الله على قوله حول مسألتين من مسألة آيات الأحكام .
نراجع:(36/21)
قلنا صور النسخ ـ شف إذا بتراجع طالب لا تبدأ من الأول ـ صور النسخ كم؟ثلاث ما هي ؟ينسخ وقد عمل به بعض الناس ، وينسخ وقد عمل به كل الناس ، وينسخ وقد لايعمل به أحد .
قلنا قول الله جل وعلا { سيقول السفهاء من الناس } قبل كذا وقيل كذا ماذا قيل كذا وكذا ؟؟ { سيقول السفهاء من الناس } قلنا هذه الآية في التقديم والتأخير ماذا قلنا ؟ مقدمة نزولاً وكتابة هذا ما رجحناه ، متأخرة نزولاً ومتقدمة كتابة .
وقلنا المسجد الحرام يطلق في القرآن ويراد به أربعة ؟ عين الكعبة ، المسجد المحيط بالكعبة، مكة حرماً ، مكة كلها حلاً وحرماً.
نجيب على أسئلتكم حتى تذهبون للحرم :
*يقول أحد الصحابة سئل عن كيف تعرف قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال في اضطراب لحيته هل نستدل بهذا الحديث بأن المصلي ينظر أمامه ؟
ممكن نحن في نقطة مهمة نحن عندما نعرض الأقوال نريد أن تكون أنت وافر العلم حتى لا تسارع في الإنكار ليس المقصود أن نتبنى رأي يعني لازم تعرف قاعدة مهمة في الطلب تكتبها بماء عينك ـ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتج به وقول غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الناس يحتج له ،أعيد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله يحتج به أما قول أي أحد من الناس فيحتج له هو يحتاج إلى أن يستدل على صحة كلامه ـ هذا مهم في الطلب ـ
*يقول ما رأيكم في حفظ المعلقات وما أفضل شرح لها ؟
هو حفظها بالكامل قد يكون صعباً لكن لابد من الإطلاع عليها والنظر في شرحها فيه شرح قديم للزوزني ، وفيه شرح متأخر للمفيد قميحة وهذا جيد.
*يقول قال الله تعالى { سيقول السفهاء } يفهم من هذا أن السفهاء لم يتكلموا بعد هذا فكيف يتلى عليهم أنهم سيقولوا ويتحداهم الله بأنهم سيقولون ثم تجدهم يقولون ذلك لم يكن يسهم أن يصمتوا عن هذا القول ثم يجعلونه حجة لهم لم يتكلم به أحد فكيف تقول ذلك ؟(36/22)
الذي كتب السؤال أجزل الله مثوبته نسي شيئاً مهماً قلناه نحن قلنا الذي يتكلم بهذا من ؟ رب العالمين ، وهذا لعل الأخ الكريم نسي أن يتنبه له ، هو يقول إن الآية محال أن تكون متقدمة هذا معنى كلامه لأن كيف الله يقول { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ } ثم يأتون يقولون ، يقول سيسكتون ويقولون نحن لم نقل ،إيه هذا لو كان كلامي أو كلامك لكن الله علم يقيناً أنهم سيقولوا وأظهر منها ـ يا بني السائل خاصة ـ الله قال { تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى ناراً ذات لهب } الله يقول { سيصلى ناراً ذات لهب } والنبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها وقرأها الصحابة وأبو لهب حي كان ممكن أبو لهب أن يأتي ويقول لو محمد يقول أني أنا سأصلى ناراً ذات لهب هيا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله أنا أسلمت كيف أدخل النار ؟ لكن ما يقدر يقولها لأن الله قال { سيصلى ناراً ذات لهب } ما يمكن أن يقولها محال لأن الذي أخبر بهذا رب العالمين يخبر بما سيكون فالله جل وعلا قال { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ } وفعلاً قالوا وأنا نسيت أن أقول ماذا قالوا ؟ حنَّ محمد إلى ديار أهله ، حنَّ محمد إلى مولده ويوشك أن يرجع إلى دين قومه ، لكن الله جل وعلا علم أزلاً أنهم سيقولون هذا وهذا كثير في القرآن وسيأتي إن شاء الله .
*يقول ذكرت لنا حفظك الله في الدرس الماضي أن فواتح السور لها عشرة طرائق وذكرت لنا ثلاث فقط وأرجوا أن تكمل لنا البقية ؟
نأتي بالعشرة مرة واحدة ـ يعينكم الله إذا أردتم تكتبون ـ قلنا أخذنا ثلاث ما هي ؟
القسم ، الحروف المقطعة ، والجملة الخبرية .
نبين القسم مثل { والشمس وضحاها } .
الجملة الخبرية مثل { اقترب للناس حسابهم } { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } .
الحروف المقطعة مثل { الم } { كهيعص } هذه كم ؟ هذه ثلاث بقيت سبع نبدأ :(36/23)
الرابع: النداء مثل { يا أيها الناس اتقوا ربكم } في النساء وفي الحج { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } المائدة ، هذه كم الآن أربعة وهو النداء .
الخامس : الدعاء مثل { تبت يدا } { ويل للمطففين } { ويل لكل همزة لمزة } هذه خمس.
السادس : الاستفهام مثل { هل أتى على الإنسان } { هل أتاك حديث الغاشية } .
السابع : التعليل ولم يقع إلا مرة واحدة { لإيلاف قريش }
الثامن : الأمر مثل { اقرأ باسم ربك الذي خلق } { قل يا أيها الكافرون } .
التاسع : الثناء على الله ، وينقسم إلى كم قسم ؟ إلى قسمين ـ هذا التاسع ينقسم إلى قسمين ـ :
1/ إما تنزيه الله عما لا يليق مثل { سبح اسم ربك الأعلى } { يسبح لله } { سبحان الذي أسرى بعبده }
2 / أو الثناء على الله بالحمد وقع في خمس سور الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر
بقيت كم ؟ بقيت واحدة :
الشرط { إذا وقعت الواقعة } { إذا جاء نصر الله والفتح } { إذا زلزلت الأرض زلزالها } .
إذا ضيعت العشرة أتي بالسور تأتي بها أنت لوحدك ، أين ذكر هذا ؟ في أي كتاب ؟ هذا مهم، ذكرت في البرهان في علوم القرآن ـ لا تعتمد على أي عالم اعتماداً لا كلياً ولا شبه كلي أبحث أنت ، العالم يفتح لك أبواب لا أكثر ولا أقل ـ والموفق والهادي الله .
وصلى الله وسلم على محمد
- - - -
ملخص عام للدرس :
1ـ المسائل التي احتواها الدرس : مسألة القبلة ، ومسألة السعي بين الصفا والمروة .
2ـ القول في موضع قول الله تعالى { سيقول السفهاء من الناس } من حيث التقديم والتأخير :
" فمنهم من قال : متأخرة نزولاً متقدمة كتابة.
" ومنهم من قال : متقدمة نزولاً وكتابة ، وهو ما يراه الشيخ .
3ـ وسطية هذه الأمة وأنها شاهد على بقية الأمم يوم القيامة .
4ـ الإيمان والعمل لا ينفكان عند أهل السنة والجماعة .
5ـ المسجد الحرام في القرآن أطلق وأريد به أربعة أمور:
" عين الكعبة .
" المسجد المحيط بالكعبة .
" مكة حرماً.
" مكة حلاً وحرماً.(36/24)
6ـ نظر المصلي في الصلاة أين يكون ؟
" قيل ينظر أمامه .
" وقيل ينظر لموضع سجوده .
" وقيل قول يجمع بينهما وهو أن المصلي ينظر أمامه عند تكبيرة الإحرام ثم ينظر لموضع سجوده في باقي صلاته .
7ـ الحالات التي يمكن أن لا يشترط فيها استقبال القبلة حالتين هما :
" في صلاة النافلة وهو على دابة .
" وفي الحرب حال المسايفة وعدم الأمن .
8ـ الخطاب في القرآن له عدة صور منها :
" ما كان موجه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويدخل معه أمته .
" وما كان موجه لأمته ويندرج معها عليه الصلاة والسلام .
" وما كان الخطاب فيه مستقلاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما كان الخطاب فيه مخصص لأمته .
9ـ أن كل إنسان يعتز بعقيدته ولا يتنازل عنها إلى غيرها ـ مع أنه قد يكون على ضلال ـ
10ـ أنواع النسخ ثلاثة :
" نسخ الحكم الأول بعد أن عمل به الناس جميعاً .
" نسخ الحكم بعد أن عمل به بعض الناس .
" نسخ الحكم قبل أن يعمل به أي أحد.
11ـ حكم السعي بين الصفا والمروة :
من حيث حكمه منفرداً : لا يجوز السعي بين الصفا والمروة تطوعاً بدون حج أو عمرة .
من حيث حكمه في الحج أو العمرة ذهب العلماء فيه إلى ثلاثة أقوال: منهم من قال ركن .
ومنهم من قال واجب لو ترك لجبر بدم.
ومنهم من قال مستحب وهذا بعيد لم يقل به إلا بعض السلف .
12ـ بيان حكم السعي بالمسعى الجديد على قول الشيخ.
13ـ عرض طرائق فواتح السور في المراجعة وقد ذكرت في أكثر من درس .
14ـ كما اشتمل الدرس على عدد من المصطلحات منها :الفسطاط،استصحاب ، السفه،وسط ، كبيرة ،شطر،شعيرة...
هذا وإن كان ما في هذا الملخص من صواب فمن الله وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان
قام بالتفريغ والتلخيص
أختكم في الله
أم هتوف(36/25)
رحماء بينهم
الحمد لله الذي له الملك والملكوت وله العزة والجبروت وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الذي لا يموت
وسع كل شيء رحمة وعلماَ وقهر كل مخلوق عزة وحكماَ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماَ ..
وأشهد أن محمداَ عبده ورسوله صفيه من خلقه وخيرته من رسله بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب فهدى به من الضلالة وعلم من الجهالة أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياَ عن أمته
وصلى وسلم عليه وعلى آله أصحابه ومن سلك مسلكهم وأقتفى أثرهم وأتبع نهجهم بإحسان إلى يوم الدين :
أما بعد
أيها المؤمنون ففي هذا اليوم الثالث عشر من الشهر العاشر لعام خمسة عشر وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتجدد لقاء كان قد أنقطع لأمر لابد منه ألا و هو انشغال المؤمنين بالتعبد والتلاوة في شهر رمضان المبارك أسأل الله أن لا يخلي أيامنا وأيامكم من عمل بار ٍ مرفوع إليه ولا من دعاء مسموع لديه
ونحن إذ نجدد اللقاء في هذه الليلة لنبين أن دروس التفسير فيما سلف كانت تنصب على وقفات مع سور بأجملها أما المرحلة الثانية من هذه الدروس والمبدوءة من مساء هذا اليوم فإنها تنصب على آيات معنية من كتاب ربنا جل وعلا يحسن الحدث عنها ويجمل الذكر بها وهذا اليوم مع درس قول ربنا جل وعلا
" رحماء بينهم "
وهذا الجزء من الآية حكاه الله جل وعلا في القرآن منبأ بأنه وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ذلكم الجيل الأمثل و الرعيل الأول الذين أيد الله بهم دينه ونشر الله بهم ذكرهم في الأرض وآثر بهم العرب خير الأنبياء والمرسلين محمدا ً صلى الله عليه وسلم فقال ربنا وأخبر أنه أثنى عليه في كتابين من قبل القرآن من التوراة والإنجيل فقال جل جلاله(37/1)
" محمد رسول الله والذين معهم أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا ً سجدا ً يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا ً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا ً عظيما "
وهذا الوصف الرباني والنعت الإلهي الذي وصف الله به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نحن مقتفون على أثارهم وملزمون بهدي محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبع هديه من أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .. لذلك فإن الحديث عن الرحمة وأساليب الرحمة بين المؤمنين ترى والله تعالى أعلم من الأمور التي توجب نشرها للناس وتعليمها للعامة و الخاصة وإلا كيف لنا أن نقتدي بالرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ونقتدي بأصحابه ونحن نجهل أقوالهم ولا ندري عن أفعالهم فأن التشبه بالصالحين يقرب منهم والمؤمنين إنما يتعبدون الله جل وعلا بما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم كذلكم هو الدين الذي أمر الله عباده بأن على محمد يتبعوه وأن يتعبده به .. والحديث عن الرحمة أيها المؤمنون لا يمكن أن يتحدث به أحد دون أن يتكلم فيه عن أمرين جليلين عظيمين
الأول الحديث عن سعة رحمة ربنا جل جلاله .
والثاني الحديث عن سعة وما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم من رحمة فطره الله عليها وجبله الله تبارك وتعالى عليها.(37/2)
أما الحديث عن رحمة أرحم الراحمين جل جلاله .. فإنه ما رحم أحد أحداً إلا بفضل من الله ورحمة و إن الله جل وعلا خلق الرحمة مائة كما صح بذلك الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فأثبت ربنا تسعة وتسعين جزءاً عنده وأنزل جزءاً واحداً يتراحم به الخلائق قال صلى الله عليه وسلم " حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه " من ضمن هذه الرحمة التي أنزلها الله جل وعلا للخلق يتراحمون بها فيما بينهم والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله تبارك وتعالى كتب في كتاب فهو عنده تحت العرش " أن رحمتي تغلب غضبي "
" قل لله ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون "
فأخبر جل وعلا أنه كتب على نفسه الرحمة .. بل أخبر جل جلاله أن رحمته لا يليق بها شيء أبداً قال عذابي أصيب بها من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء " ولذلك قال الصالحون من قبلنا في دعائهم اللهم إن لم تكن أهل لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا " وقد صدقوا فيما قالوه فإن رحمة الله كما أنبأه وسعت كل شيء شملني الله وإياكم برحمته الواسعة ..
أيها المؤمنون مظاهر رحمة الله قد تنقسم إلى قسمين رحمة شملت المؤمنين والكفار الأبرار والفجار الخلائق أجمعين إنساً وجناً وحيواناً وطيراً وما إلى ذلك .. فهذه رحمته تبارك وتعالى الشاملة ومن أعظم الدلائل عليها خلق الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر وجريان الفلك في البحر بأمر الله تبارك وتعالى .. تسخيراً لعباده وإنزال المطر ليحيا به الخلائق كل ذلك من رحمة الله الشاملة للعباد أجمعين " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً * ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيرا *وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشورا ً* لنحيي به بلدة ميتاً ونسقيه مما خلقنا أنعاما ً وأناسي كثيرا ً "(37/3)
فهذا من مظاهر رحمته تبارك وتعالى الواسعة لجميع خلقه .. أما رحمته تبارك وتعالى بالمؤمنين فإن أعظم رحمة منّ الله بها على عباده المؤمنين أن هداهم للإيمان فلا يعدل الأيمان أي نعمة لأن نعمة الإيمان هو القسيم بين أهل الجنة وأهل النار فمن منّ الله جل وعلا عليه بالهداية للدين فقد رحمه الله جل وعلا رحمة عظيمة من عنده ونحن أيها المؤمنون شملنا الله برحمة أخف ألا وهي أنه جعلنا برحمة منه وفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورحم الله من قال :
ومما زادني شرفاً تيهاً
وكدت بأخمصي أطاء الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت لي أحمد نبياً
فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حظنا من النبيين ونحن حظه من الأمم صلوات اله وسلامه عليه بكرة وأصيلاً فمن رحمة الله جل وعلا لعباده المؤمنين أن هداهم للإيمان وأن وفقهم للعمل الصالح وأن تقبل منهم إذا تقبل ذلك العمل الذي يرفع إليه تبارك وتعالى
" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه "
على أن رحمة الله لعباده المؤمنين إنما ينال المؤمنون منتهاها إذا زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة قال ربنا " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " فهذا هو الفوز العظيم ..
ورحمة الله تبارك وتعالى إنما تتجلى أعظم في يوم الفزع الأكبر وفي عرسات يوم القيامة عندما يقف الخلائق أجمعين بين يدي رب العالمين جل جلاله .(37/4)
وهناك حديث طويل أخرجه الشيخان في صحيحهما وأخرجه ابن خزيمة وأبو عوانة والطوارفي في مسنده وغيره عنه صلى الله عليه وسلم ولعظم هذا الحديث فإن إيراده بطوله أمر نرى أنه أقهر أنه مسألة حتمية لأن فيه ما بين للعباد أن التوحيد أجل ما تعبد الله به الخلائق وهو السبب الأعظم والأجّل في رحمة الله تبارك وتعالى قال البخاري حدثنا يحيى بن مكير حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي العمري عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : (( قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة . قال هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانا صحوا قلنا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما .. ثم قام كل قوم إلى ما كانوا يعبدون فمنهم أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر وغبرات
من أهل الكتاب ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيقال لليهود ما كنتم تعبدون قالوا : كنا نعبد عزيراً بن الله فيقال : كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد
فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال أشربوا فيتساقطون في جهنم
ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح أبن الله ..
فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد ..
فما تريدون قالوا : نريد أن تسقينا فيقال أشربوا .. فيتساقطون في جهنم
حتى يبقى من كان يعبد الله من براً أو فاجر فيقال لهم ما يحبسكم وقد ذهب الناس فيقولون فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم وإنا سمعنا منادياً ينادي ليلحق به قومه بما كانوا يعبدون وإنا ننتظر ربنا
قال فيأتيهم الجبار في صورة غي صورته رأوه أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا
فلا يكلمه إلا الأنبياء(37/5)
فيقولون هل بينكم وبينه آية تعرفونها ..فيقولون الساق فيكشف عن فيكشف عن ساقه فيسجد كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة فيذهب كيما يسجد ويعود ظهره طبق واحدا ً ثم يؤتى بالجسر
فيجعل بين ظهرانّي جهنم قلنا يا رسول الله وما الجسر قال : مضحدة مزلة
عليها خطاطيف كلاليب و حصفة لها شوكة عطيفة يقال لها السعدان
فالمؤمن عليه كالبرق والطرف وكالريح وأجاود الخيل والركاب فناجي مسلم وناجي مخدش و ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحباً فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار و إذا رأوا أنهم قد نجوا في أخواتهم يقلون ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا و يصومون معنا ويعملون معنا فيقول الله تعالى اذهبوا فمن وجدهم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه ..
فيحرم الله صورهم على النار فيأتي لبعضهم وقد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون فيقول أذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا قال أبو سعيد فإن لم تصدقوني فقرؤوا ((إنا الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ..)) فيشفع النبيين والملائكة والمؤمنين فيقول الجبار بقيت شفاعة
فيقبض قبضة من النار فيخرج أقوام قد امتحشوا
فيلقون بنهر أفواه أنهار الجنة يقال له نهر الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الجبة في حميل السيل
قد رأيتها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة
فما كان من الشمس منها أخضر وما كان منها إلى الظل كان أبيض فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون فيقول لأهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلوا الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فيقال لهم لكم ما أريتم ومثله معه ))..
خرجاه في الصحيحين وخرجاه غيرهما
أيها المؤمنين إن هذا حديث منبئ من سعة رحمة ربنا جل وجلاله وإنه حري بعبد يتحدث عن الرحمة
أن لا يغفل ذكر هذا الحديث ..(37/6)
كما أننا نبين ما كان عليه سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم من رحمة فإن الله جل وعلا نعته بقوله " بالمؤمنين رءوف رحيم " فوصف رسالته كلها بقوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " ووصفه تبارك وتعالى بقوله " وإنك لعلى خلق عظيم " ومن عرف ما هو الخلق العظيم عرف أن من أعظم جوانب الخلق أن يكون الإنسان رحيماً ورءوفا بمن حوله ونبينا صلى الله عليه وسلما رحيما بأزواجه رحيماً بأهل بيته قطع خطبته من أجل الحسن والحسين حمل أمامة بنت أبي العاص وهو يصلي ويحملها إذا قام ويضعها إذا ركع وسجد صلوات الله وسلامه عليه .. كان يزور الأنصار في دورهم ويمسح على رؤوس أطفالهم يداعب بعضهم .
بل إن الموتى في قبورهم كان صلى الله عليه وسلم يأتي إلى بقيع الغرقد فيدعو الله لأهله ويستغفر الله لهم .. فعل ذلك مراراً وتكراراً ..
فلما كان في أخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه زار حتى الشهداء الذين كانوا قد شهدوا أحداً واستشهدوا فيها فزار قبر حمزة بن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم وزار إخوانه من الشهداء الذين قبروا جواره فرحمته صلى الله عليه وسلم شملت القريب والبعيد والعدو والصديق بل شملت الإنس أجمعين والحيوان والطير(37/7)
نهى صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الطير غرضاً وأخبر أن امرأة أدخلت النار بسبب هرة عذبتها حبستها فلا هي بالتي أطعمتها ولا بالتي تركتها تأكل من خشاش الأرض فمن تأمل سيرته العطرة صلوات الله وسلامه عليه وجد هذه الأمر التي ذكرناها إجمالا وجدها مفصلة مبينه تنبئ عما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه من رحمة بالخلق بل كان صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق وأنصح الناس بالناس , ثم أيها المؤمنون إننا نقول إن الله جل وعلا أراد من المؤمنين أن يكونوا متوادين متراحمين يحب بعضهم بعضاً فلما .. كان الله لم يترك عباده سدى ولم يخلقهم عبثاً شرع لهم من الحدود والطرائق والأساليب ما يعينهم على تطبيق هذا الأمر وما يجعلهم متوادين متراحمين وهذا هو لب درس هذه الليلة ..
ومن تلك الطرائق وتلك الأساليب الشرعية صلة الرحم وإطعام الطعام ورعاية اليتيم والعفو عند المقدرة وقضاء حوائج المساكين والمقعدين وعيادة المرضى وما إلى ذلك مما حول هذا الأمر من الطرائق جعل الله جل وعلا مناط وطريقاً إلى التواد والتراحم بين عباده
أما صلة الرحم فقد جاءت الآيات الصريحة في بيان أنها من أعظم ما أمر الله به أن يوصل والرحم جامع لمن كان يجمعهم في رحم واحدة من ذوي القرابة قال الله تبارك وتعالى في وصف عباده الخلص " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " وقد أجمع أهل العلم على أن أعظم ما أمر الله به أن يوصل صلة الرحم وقد بين أهل العلم جمعهم الله أن الإنسان في هذا الأمر واحد من ثلاث : أن يصل الإنسان قوم قطعوه وهذا في منزلة العالية من الصلة
الأمر الثاني أن يصل الإنسان قوماً من رحمه وصلوه فهذا في منزلة المكافئ
والمرحلة الثالثة أن يقطع الإنسان قوماً قطعوه فهذا آثم ..
هناك مسألة رابعة أشد إثماً وهو أن يقطع الإنسان رحم أقوام وصلوه وهذا والعياذ بالله في منزلة الأقل وفي الإثم الأعظم(37/8)
والإنسان إذا تأمل حال المسلمين اليوم وجد أنهم فرطوا في هذا الأمر أيما تفريط .. بل أن لو خطيباً من الخطباء وإماماً من الأئمة متحدثاً بعد الصلاة تكلم في هذا الأمر لظن الناس أنه تكلم في مسائل عفا عليها الزمن وأنها لا تناسب لغة العصر .. ولا مستجدات الفكر وأن دين الله جل وعلا الذين أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم إن الذي تعبد الله به نحن اليوم وهو الذي تعبد به الخلائق إلى قيام الساعة بل الله جل وعلا أخبر أن قطيعة الرحم فساد في الأرض فلذلك قال صلى الله عليه وسلم (( أن الله لما فرغ من الخلق قالت الرحم .. فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال لها ربنا جل جلاله نعم .. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت نعم قال فهذا لك ..))
قال صلى الله عليه وسلم والحديث في الصحيحين اقرؤوا إن شئتم
" فهل عسيتم أن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم .. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم "
يبقى سؤال يطرحهم الناس كثيراً .. ما الميزان الذي نربط في صلة الرحم فتقول والله تعالى أعظم لا تحفظ فيما نحفظ ميزاناً دقيقاً لهذا الأمر لكن أهل العلم قالوا إن أقل الكلام والسلام والتحدث على أنه ينبغي أن يعلم أن ذوي قرابتك يتفاوتون فيما بينهم فإذا كان لك ذوي قرابة في يسر من العيش وكثرة من الولد وأمن من الحياة فإن صلتهم تكون المواسم والأعياد وما بين ذلك أما إن كان لك ذوي قرابة فيهم من الفقر المغدق والحاجة إلى العون والنأي قي السكن وما إلى ذلك فإن الصلة هنا تتأكد في حقهم .. فينبغي على المؤمن أن يكون أرحامه وأقربائه أولى الناس به فيسعى في قضاء حوائجهم والقيام بشؤونهم وتفقد أمورهم وكثرة السلام عليهم وزيارتهم الاطمئنان عليهم يرتجي بذلك رحمة الله وفضله وخوفاً أن يدرج فيمن قطعوا أرحامهم(37/9)
وإنه حري بالشباب الخلص الذين اصطفاهم الله جل وعلا ومن عليهم بالاستقامة والالتزام على شرعه أن يعطوا هذا الأمر الأهمية فإنه الانشغال بطلب العلم وحضور الدروس وتحفيظ القرآن وما إلى ذلك أمر أثنى الله على فاعله .. ولكن الدين يؤخذ جملة ولا يؤخذ جزء منه .. وإن طالب العلم ينظر الناس إليه نظرة قدوة وأسوة
فإذا كان طالب العلم والقائم بشرائع الله التعبدية المحضة كالصلوات والصيام وما إلى ذلك يغفل عن هذا الأمر ..فإن اقتداء الناس به يضعف ونظرة الناس إليه لا تكون نظرة مقبولة تنبئ عن نظرة كاملة إليه فبذلك حي بالمؤمنين عامة وبمن مّن الله عليهم بالعلم الشرعي خاصة أن يعنوا بهذا الأمر و أن يعرفوا حقه وأن يتفقدوا ذوي قراباتهم وأن يسألوا عنهم عملا ً بما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ..
كذلك من الأساليب الشرعية التي يكون به المؤمنون متراحمون
إرشاد الناس وتعليمهم ..وقد يظن البعض أن إيراد إرشاد وتعليمه في قضية الرحمة إيراد متكلف وهذا خلاف الصحيح لأنك لا يمكن أن تهدي أحدا من الناس أمرا ا خيرا من أن تدله على شرع الله ولا يمكن أن تهدي لأخيك هدية أعظم من أن تكون سبباً في أن يترك منكرا ً كان عليه
يقول صلى الله عليه وسلم لابن عمه علي رضي الله تعالى عنه قال
( لئن يهدي بك الله رجلا ً واحدا ً خيراً لك من حمر نعم)
ولما سأل معاذ رضي الله تعالى عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم
دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار
قال له صلى الله عليه وسلم : لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه
فسّم النبي صلى الله عليه وسلم الفوز بالجنة والنجاة من النار سماه أمر عظيم وإن المؤمن إذا حرص على تعليم الناس و إرشادهم إلى طرق الحق والصواب دخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة عند الطبراني وغيره بسند صحيح قال عليه الصلاة والسلام
(((37/10)
إن الله وملائكته و أهل سماواته وحتى النملة في جحرها والحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير ))
وليس تعليم الناس الخير مقتصر على المحاضرات والدروس المعلنة بل هذا قد يمّن الله به على فئة من الناس ولكن طرق الخير لم تكن يوما ً من الدهر مقصورة على أحد فإن الكلام الموجز بعد الصلوات والرسائل الكتابية الخاصة وتكليم الناس مشافهة فرادى و جماعات وإهداء شيء من الأشرطة و الكتيبات النافعة للمؤمنين كل ذلك داخل في عموم تعليم الناس وإرشادهم ..فقد يكون الإنسان غير قادر على أن يبين للناس علة عنده قد يعطي الكتابة أكثر مما يعطي في الحديث فيكتب لمن حوله وقد يعطي في المال ما يعينه على أن يهدي بالمال أمورا ً نافعة تعينهم على أمور دينهم ودنياهم على أن هناك لباسا ً يجب أن يتحلى به من تصدى لتعليم الناس وإرشادهم ألا وهو الرفق
يقول صلى الله عليه وسلم وقد مر عليه ملأ من اليهود فقالوا السام عليك أي "الموت"
فقال صلى الله عليه وسلم : وعليكم !!
فغضبت أمنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكانت حاضرة فقالت : وعليكم اللعنة أو كلمة نحوها
فقال صلى الله عليه وسلم لعائشة كان غير هذا أولى بك ..
ثم قالت أما سمعت ما قالوا ؟!
قال : أما سمعت ِ ما قلتْ ؟!
ثم قال :
إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه .(37/11)
وإن كثيرا من إخواننا الذين مّن الله عليهم بالتعليم في المباني الحكومية و الخاصة وجعل الله تعالى بين أيديهم طلاب فإنه حري بالمعلم أن يكون ذا شخصية قوية وهيبة حتى يقبل الناس منه ..لكن لا بد أن يخالط شخصيته نوع من الرفق ونوع من الرحمة ادع هم إلى الله جل وعلا وأنت تتحلى بزينة الرفق حتى يقبل الناس منك لأن من بغضك وكرهك لا يمكن إن يقبل منك ألا نسمع قول ربنا في نعت محمد صلى الله عليه وسلم " فيما رحمة من الله لنت لهم .. ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك " فإن الناس لا تجتمع قلوبهم ولا تجتمع أرواحهم على شخص يكثر من السخرية بهم والاستهزاء بهم ويكثر من تحقيرهم وتقليل ما يصنعون فإنه حري بالمؤمن المتصدر بتعليم الناس أن يكون دأبه الرفق فيمن يعملونهم ..
كذلك من الطرائق والأساليب التي جاءت من الشرع المطهر لكي يكون المجتمع مجتمعا راحماً " العفو عند المقدرة " الإنسان أيها المؤمنون في هذه يعيش وحوله أعداء وحوله فساق وحوله أصحاب وحوله أحباب وخلان وحوله من سائر الناس ما لا يمكن إحصاء عددهم .. فيحدث بينه وبينهم شيء من العداوة لا نظن أن مجتمعاً يخلو منه ..
ولكن أرباب الهمم العالية والذين يتطلعون إلى الملكوت الأعلى والذين يطمعون في أجر الله جل وعلا
يترفعون على أن يجاروا السفهاء في صنيعهم ويترفعون على أن يعاملوا أهل السفاهة بالمثل :
إذا جاروك في خلق دنيئاً
فأنت ومن تجارية سواء
رأيت الحر يجتنب المخازي
ويمنعه من الغدر الوفاء
فإن الطبقة العليا من الناس لا ينزلون إلى من يكثر التربص بهم والحقد عليهم واتهامهم بما ليس فيهم ..(37/12)
وهنا ندخل إلى القول " العفو عند المقدرة " فقد يمكنك الله جل وعلا ذات يوم ممن آليت فإن رددت عليه بالمثل فما تجاوزت قال الله جل وعلا " وجزاء سيئة.. سيئة مثلها " ولكنك إن عفوت عنهم كنت الله أقرب ولأجر الله قال الله جل وعلا " وجزاء سيئة.. سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله "
والله جل وعلا لم يحدد الأجر في الآية قال أهل العلم إن إبهام الأجر في هذه الآية يدل على عظمته لأنه أضيف إلى الله جل وعلا ..
ولا ريب أن الإنسان يطمع في كثير من عفو الله جل وعلا ..
ولهذا شواهد كثر فنبي الله يوسف آذوه أخوته آذوه وهو في كنف أبيه ثم تآمروا عليه وألقوه في غيابة الجب ثم لما زاروه في أرض مصر دون أن يعرفوه اتهموه بالسرعة " قال أن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " يعنون يوسف ثم الله جل وعلا أظهر عزته عليهم فمكنه من أخوته فلما سقط في أيديهم وظنوا وعلموا أنهم أخطئوا في حقه قال "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم "
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم آذاه الملأ من قريش عشرين عاماً أخرجوه من بيته ووضعوه على رأسه الشريف سلا الجزور تربصوا به تآمروا على قتله .. دخلوا عليه حتى في مدينته جمعوا عليه الأحزاب اتهموه بالجنون .. وما إلى ذلك مما لا يخفى على أحد من أصناف العداوة التي رموا بها رسول الله صلى اله عليه وسلم ..
فأظهره الله وأعزه من قبل وبعد ودخل صلى الله عليه وسلم على رأسه المعطف معززاً مكرماً وجعل الله جل وعلا كل أولئك الملأ بين يديه وفي قبضته قال يا معشر قريش " ما ترون أني فاعل بكم "
قالوا : "أخ كريم وابن أخ كريم" ..
وقد أحسنوا فيها..
فقال صلى الله عليه وسلم وهو أحلم الناس " لا تثريب عليكم اليوم .. اذهبوا فأنتم الطلقاء "
فعفا عنهم صلوات الله وسلامه عليه و إنه حري بالمؤمن أن يكون كذلك .. وإن آذاك أحد أو حسدك حاسد فليكن لسان حالك ومقالك :
وما أشكو تلون أهل ودي
ولو أجدت شكايتهم شكوت
إذا جرحت مساؤهم فؤادي(37/13)
صبرت على الإساءة وانطويت
ورحت إليهم طلق المحيا
كأني ما سمعت ولا رأيت
ولا والله ما أضمرت غدراً
كما قد أضمروه ولا نويت
ويوم الحشر موعدنا وتبدو
صحيفة ما جنوه وجنيت
بذلك تغلب على خصومك وأعدائك وهذا
الأمر أو العفو عند المقدرة قد يتأكد عند الملوك والأمراء والولاة والسلاطين وذوي الجاه أكثر مما يتأكد عند العامة .. لأنه الله مكن لهم في الأرض وآتهم من المادية المحسوسة ما يعينهم على البطش ولذلك ذكر أن المعتصم الخليفة العباسي الثامن المعروف قدم إليه برجل يقال له تميم الأوسي والظاهر أن تميماً قد أجرم جرماً في حق المعتصم ربما خرج عليه أو اتهمه بشيء أو ما إلى ذلك .. فكان المعتصم قد بيت النية في نفسه أن يقتله فأمر حراسه وجنوده أن يأتوا بالنطع أي الجلد و السيف وأظهره على الملأ وأتى بتميم الأوسي ووضعه على ليضرب عنقه ثم أراد أن يختبر أن جلاله فقال يا تميم كيف أنت الساعة .. فقال ذلك الرجل وقد كان فصيحاً ثابت الجنان . قال :
أرى الموت السيف والنطع كامنا
يلاحظني من حيث ما أتلفتُ
وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي
وأي امرئ مما قضى الله يفلتُ
يعز على الأوس بن تغلب موقف
يسل علي السيف فيه واسقط
وما جزعي من أن أموت وإنني
لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلقي صبية قد تركته
و أكبادهم من حسرة تتفتتُ
كأني أراهم حين أنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وفوتوا
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة
أذود الردى عنهم وأن مت مُيتوا
فرق المعتصم لحاله وقال قد تركناك لله أولاً .. ثم للصبية
على أنه أحسب مما قلناه كله قول ربنا جل وعلا " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميد وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه السميع العليم""(37/14)
قال العلماء عدو الرجل الواحد من اثنين إما إنسي إما جني وقد بينهما الله في الآيات التي قد سمعتم فإن كان إنسي فادفع بالتي هي أحسن فينقلب ذلك صديقاً حميماً لك اللهم إلا أن يكون تكون عداوته الحسد فإن من عاداك بالحسد غالب الظن أن لا ترجى مودته أبداً فتنقلب عداوته إلى صداقة ومحبة فيكون ولياً حميماً
وإن كان جنياً أي من الشياطين فاستعذ بالله جل وعلا منه ..
"وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون "
فهذا حال الرجل المؤمن أمام خصومه وأعدائه على أن هناك نقطة مهمة ينبغي أن تلاحظ لأن الأمر ليس على إطلاقه قد يكون من عاداك عدواً لله عدواً لرسوله فليس الذي هو أحسن إكرامه بل الذي هو يحسن إهانته
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم .. أسر أحد مشركي قريش في معركة بدر على ما أحفظ الساعة ثم عفا عنه صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله رجل كبير لي صبية وما إلى ذلك فعفا عنه صلى الله عليه وسلم فأخذ يمشي لهم طرقات مكة ويمسح عارضيه ويقول سخرت من محمد صلى الله عليه وسلم ثم لما قبض عليه في معركة أخرى قال يا رسول الله أن ورائي صبية ورائي ووارئي و قال لمن الصبية يا محمد؟! .. فقال صلى الله عليه وسلم لهم النار .
فالرد كان حازماً محكماً .. لأن ليس كل شخص ينفع معه الأمر الحسن .. لكن قدم الحسن في الأول وثانياً . ثالثاً ولكن أخر الداء الكي .. وهذا يكون مع أعداء الله وخصومه ومن يناهضون شريعة الله .. فإن غالب الظن أن لا تجدي معهم الرحمة إلا إن غلب على الظن أنه الرحمة مجدية معهم فإن لكل حال تصرف خاص به
كذلك أيها المؤمنون من الطرائق التي يكون فيها تواد المؤمنين وتراحمهم(37/15)
الإحسان إلى اليتامى واليتيم في الاصطلاح من فقد أباه وهو صغير هذا معناه الاصطلاحي والعرفي والله علم حال هؤلاء اليتامى وعلم حاجتهم إلى الرفق لأن قضيتهم قضية إجبارية فلا يوجد يتيم فقد أباه بطوع منه واختبار فلذلك أمر الله عباده أن يحسنوا إلى اليتامى قال الله جل وعلا
" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم أن الله عزيز حكيم "
وقد تواترت الأحاديث عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في أم الإحسان إلى اليتامى منقبة عظيمة من ذلك وهو أرفعها مقاماً أن يكفل العبد المؤمن يتماً في بيته فيطعمه ويسقيه ويقوم بقضاء شؤونه وحوائجه ويحرص على تعليمه وإرشادهم وهذا في المنزلة الأعلى قال صلى الله عليه وسلم " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار إلى أصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما "
وأي امرئ يأنف ويستكبر ويرغب أن لا يكون جاراً لمحمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم بل إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن منزلة أدنى على أن الإنسان قد لا يكون في بيته يتيم ولكن قد يمر به
أو يرى يتماً في الطرقات فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه من مسح بيده على رأس يتيم له بكل شعرة لمستها يده حسنة كما في مسند أحمد
بل إن رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه فقال صلى الله عليه وسلم له أمسح على رأس اليتيم وصل رحمك " فجعل المسح على رأس يتيم مما ترقق به القلوب وتذرف به العيون ويقرب به العبد من رضوان الله جل وعلا .. ويحفظ اليتيم في الإسلام حذر الله الأوصياء على أموال اليتامى أن يقربوا تلك الأموال .. ثم خفف الله عن الأمر فسمح الله للأوصياء أن يأكلوا من أموال اليتامى بالمعروف إن كانوا فقراء وأن يصرفوا عليهم المال مختلط إلا أن الله جل وعلا حذر الأوصياء على أموال اليتامى من الأمرين(37/16)
الأول / أن يأكلوا من أموال اليتامى بغير وجه حق قال جل ذكره " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم نارا ً ولا سيصلون سعيرا ً"
والأمر الثاني/ حذرهم الله من أن يبدلوا أموالهم الخبيثة بأموال اليتامى الطيبة قال الله جل وعلا (( ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا ً كبيرا ً))
فمسألة الوصاية على مال اليتامى مسألة عظيمة بل إن أهل العلم اختلفوا في الزكاة الشرعية لأموال اليتيم فذهب جماهير أهل العلم إلى أن الزكاة واجبة .. واجبة في حق اليتيم وأن لم يبلغ!!
والذي أدين به والله تعالى أعلم أن الزكاة في مال اليتيم غير واجبة خلافاً لما قاله الجمهور وعملا ً بما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وإن كانت المسألة مسألة فقهية ليس هذا مورد إيرادها ولكننا أوردناها لبيان أن اختلف أهل العلم في وجوب الزكاة الشرعية في مال اليتيم يدل دلالة صريحة على أن غير الزكاة الشرعية من باب أولى أحرى أن لا يقرب من أموال اليتامى في هذا المجتمع المسلم المترابط لا يعدم المؤمن أن يجد يتيما ً يحسن إليه على أن كثيرا ً من ذوي الجاه و المال والثراء يشرعون في الإحسان إلى اليتامى في خارج هذه بلاد هذا الأمر وإن كان أمرا ً حسناً عظيما مقبولا ً جاءت به الشريعة إلا أنه حري بالمرء أن يتفقد اليتامى من ذوي قرابته أولى ..
قال الله جل وعلا (( وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ))
وقال جل وعلا :" الأقربون أولى بالمعروف "
والإنسان إذا تجاوز قرابته وجيرانه وأرحامه إلى أمور بعيدة خلت القرابة والجيران والأرحام ممن يحسن إليهم لأن الناس يظنون أن هذه مسؤولية قرابات مسؤولية جيران فحري بالمؤمن أن يجمع المحسنين فإن لم يتمكن إحسانه إلى ذوي قرابته من اليتامى مقدم على اليتيم البعيد عنه وفي كل خير
**
كذلك أيها المؤمنون من الأمور التي تعين على الترابط والتواد بين المؤمنين الإحسان إلى الجار(37/17)
أغفلته المدينة الحضارية الحديثة ونظام السكن في العصر الحاضر كان سببا كبيرا في قضية إغفال المؤمنين لهذه المسألة المهمة وهي مسألة الجار رغم أن الله جل وعلا وصى بها في كتابه ((و الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ))
إلى غير ذلك من الأحاديث والآيات المستفيضة يقول صلى الله عليه وسلم
( والله لا يؤمن والله لا يؤمن و الله لا يؤمن !!
قال الصحابة على وله وشغف: من يا رسول الله ؟!
قال: من لا يأمن جاره بوائقه .. قالوا وما بوائقه يا رسول الله ؟!! قال : شره ))
فإن كثيرا ً من الناس قد يجاورك لكنك وتذهب تخرج من بيتك وأنت على خوف ووجل قد ينالك شر ..
وإن المدنية المعاصرة كما بينا أغلقت الكثير من مسألة حقوق الجار وإن المتأمل لسيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من ترابط وحدوي وتآلف في جيرانهم وبين قلوبهم صدورهم وأفئدتهم ..
بكى حسرة ودمعا ً على حال المؤمنين اليوم :
فليست عشيات الحمى برواجع
عليك ولكن خل عيناك تدمعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الشيب أسبلتا معا
ولكن ما زال في الأمة بقية من خير و إن الإحسان إلى الجار يتمثل في أمور عدة
الأول أن تشاركه في طعامه قال صلى الله عليه وسلم يوصي أبا ذر رضي الله تعالى عنه يا أبا ذر إذا طبخت مرقها فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك .
الأمر الثاني :
أن لا ينال جارك منك شر وأذى
الأمر الثالث أن تحرص على الإهداء له
الأمر الذي بعده أن تحرص على أن تتفقد جارك بين الحين والآخر فإن رأيت فيه في بيته أو على بعض أهله شيئا من النكرات فإنه حري بك أن تتقي الله في دينه فتذهب إليه وتنصحه في فسقه وتذكره الله والدار الآخرة
وتقدم له الدلائل القرآنية و السنة النبوية ما يعينه على ترك الأمر فإن أصر على معصيته فحاول مرارا وتكرارا فإن بقي على حاله فسقه وعصيانه فإن ذلك لا يفسد حق جواره
قال أهل العلم :
الجار له ثلاثة حقوق(37/18)
إن كان مسلما قريبا فله حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة
وله حقان إن كان مسلماً له حق الجوار وحق الإسلام وإن جاراً كافراً فيسقط عنه الإسلام وحق القرابة ويبقى له حق الجوار ..
وقد النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً يهودياً وكان ذلك الغلام في سكرات الموت فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام .. فكان والد الغلام واقفاً على رأس الصبي فقال والد الغلام للصبي يا بني أطع أبا القاسم فقال الرجل الغلام أي الصبي أسلم .. فقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنقذني به من النار ..
وقد بوب البخاري في صحيحه " باب زيارة الجار الكافر " ولأن كثيراًُ من الناس الآن قد يكون جار تارك للصلاة أو يكون له جار على غير مذهب أهل السنة أو يكون له جار يكون فيه من العصيان ما فيه .. فيقاومه ويحاربه ويعاديه وهذا خلاف ما أمر الله به ورسوله .. تعبد الله أيها المؤمنون بالشرائع ولا تعبدوه بالوقائع .. وإن الإحسان إليه عملاً بحقوق الجار ودعوته إلى الله بإلحاح وبيان طرق الحق له أمر حتمي وواجب عليك حتى تبرأ الذمة منه .. و إعذاراً الله جل وعلا في التقصير من أداء حقوقه
**
كذلك أيها المؤمنون والأمر مترابط بعضه في بعض في الأمور التي يكون فيها والتواد والترحم بإطعام الطعام والإحسان إلى الفقراء والمساكين .
الله جل وعلا هذه الحياة والدنيا فيها الأبرار وفيها الفجار فيها الغني المترف وفيها الفقير لمعدم فيها المسكين وذوي الحاجة وفيها بين ذلك من الناس وفيه بعض الثراء الفاحش والله لم يخلق يبتلي الفقير وينتظر إلى الغني يصير أو لا يصير والغني ينظر إلى حال الفقير يعطيه ويتصدق عليه قد لا يعطيه ولا يتصدق عليه " وجعلنا بعضكم لبعض فتنه أتصبرون وكان ربك بصيراً " إن إطعام الطعام والإحسان إلى الفقراء والمساكين أمْر أمَر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في هؤلاء والفقراء والمساكين الأجر العظيم من الله جل وعلا(37/19)
أما إطعام الطعام فقد كلن العرب في الجاهلية على كفرهم و عبادتهم للأوثان يعظمون هذا الأمر أيما تعظيم .. كان عبد الله بن جدعان في الجاهلية له ما يسمى بالجفنات توضع فيها فكان له جفنات عالية بأكل منها الراكب جفنات أدنى بأكل منها الماشي جفان أدنى بأكل منها القاعد .. ويذبح في يوم عرفة ألف تعبير يطعم فيها الناس .. لكنه لما لم يكن موحداً كان كل هذا العمل كله هباً منثوراً قالت عائشة رضي الله تعالى عنها .. أبنفعه عمله ذلك قال إنه يا عائشة لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
ولما جاء الإسلام حث المؤمنين على إطعام الطعام
قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب الأنصاري لما أطعام أبو أيوب وزوجه ذلك الضيف قال لهما عليه الصلاة والسلام .. لقد عجب الله من صنيعكما لضيفكما الليلة .
أما إطعام الفقراء والمساكين وتفقد أحوالهم .. فإن ذلك بيناً فيه أجر عظيم وحتى يكون الأمر عملياً فإنك لن تعلم في حي جاراً فقيراً تحرص على طعام
كذلك كلنا يعلم أن هناك أربطه فيها من الفقراء والمساكين ما لا يعلم حالهم إلا الله ماذا يشغل يا أخي لو خرجت يوماً من الدهر واشتريت وثلاثة من أخوانك ممن يعينونك على الطاعة .. ثم وقفت أمام ذلك البيت أو ذلك الرابط لا يعرفكم أحد .. فلا يعرف أسمائكم أحد تقربون به إلى الله فأطعموهم قد يجلس الوالد والوالدة والأبناء على الطعام ويدعون الله لكم بظهر الغيب وأي خير يرجى لكم أعظم من هذا
يقول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة " ورجل تصدق بصدقه فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "
قال جل وعلا " فلقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة "
ثم بين الله جل وعلا قال وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة إطعام من ؟ يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة(37/20)
ذا مقربة أي ذا قرابة ذا متربة أي التصق بالتراب لشدة فقره وعوزه وحاجته للمال وذلك فإن من المبشرات في هذه البلاد أن تدفع بها الجمعيات الخيرية وجمعيات البر والمؤسسات الخيرية . فإن مثل هذه يجب دعمها ودعاء الله جل وعلا بالتوفيق لمن قام عليها .. كذلك مما يغبط ويحمد أن نرى كثيراً من الأفراد من الشباب يكونون مجموعات تحص على إطعام الناس في رمضان وفي غيره ومنظر الإطعام في شهر رمضان في الحرمين وما كان عليه كثيراً من الشباب مد السفر للمؤمنين الصائمين كل ذلك من جلائل الأعمال فإن إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس ينام قربات عظيمة
أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنها من أسباب دخول المؤمن الجنة ومن أسباب رضوان الله تبارك وتعالى على عباده
**
كذلك أيها المؤمنون من جملة ما يكون عوناً على تواد المؤمنين وتراحمهم قضاء حاجات ذوي الحوائج كلنا يعلم أن هناك طائفة من الناس ليس لهم واسطة لا يعرفون أحداً ولا يعرفهم أحد .. أرمله في بيتها حولها بنوها لا تتعدى حدود معرفتها البيتين أو الثلاثة التي حولها لا تسمع بأحد ولا يسمع بها أحد
رجل قدم من البوادي سكن في ناحية نائية من المدينة لا يعرفه أحد ولا يعرف أحد رجلاً غريباً ليس من أصل هذه البلاد استوطنها وسكنها رغبة في الأجر كثير من الناس فقراء مساكين لكنهم حاجتهم إلى الشفاعة المعنوية أعظم من حاجتهم إلى الشفاعة المالية هؤلاء لهم أبناء لهم حاجات لهم معاملات في الدوائر الحكومية لهم ملفات وأمور عند الأمراء وعند السلاطين وقد تكون عند الملك وقد تكون عند دونه من المسؤولين في الأمانة أو في الزراعة أو في غيرها من الذي يقوم بحوائجهم السلطان أو ولي الأمر من المستحيل أن يعرف كل الناس هذا مما لم يقيم به أحداً أبدا أنبياء الله ورسله لم يكونوا يعلمون جميع من حولهم فضلاً عن الملوك من البشر(37/21)
لكن هذا يقع كهلاً على أهل الجاه على أهل المكانة على أهل المعرفة على المسؤولين المشهورين المتصدرين من الناس إنه كما أن للمال زكاة مادية فإن للجاه والمعرفة زكاة معنوية يجب على كل مؤمن أن يقوم بها تفقد جيرانك ابن من أبناء جيرانك – أمه توفي زوجها منذ أمد بعيد تريد أن تدخل أبنها المدرسة لكنها لا تعرف أيبن بوابة المدرسة فضلاً عن أن تعرف الشروط وطلبات القبول ماذا يضيرك لو أخذت ذلك الملف وقمت بذلك الأمر وتقربت إلى الله جل وعلا وهو مستو على عرشه فوق سبع سموات بذلك العمل إن ربك ليرضي عنك
فإنه حري بالمؤمن ذوي الجاه ذوي الثراء أن يكون قائماً بشؤون المؤمنين ممن أقعدهم الفقر وأقعدتهم المسكنة وأقعدهم العوز وإن الشفاعة في كل هذه الأمور قال عنها صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما " اشفعوا تأجروا " ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء فقال الله جل علا في صحيح المسند " من يشفع شفاعة حسنة يكون له كفل منها " وقد يظن البعض أن الواسطة في هذا الأمر أمر محرم ..
إن الشفاعة إذا اصطلح الناس على بالواسطة يكون حراماً إذا كان فيه بخس غيره من المؤمنين حقه أما إن لم يكن فيه بخساً لحقوق فلا حرج فيه ..بل فيه خير العميم والفضل من الله جل وعلا فاحرصوا أيها المؤمنون كباراً وصغاراً وذوي الجاه وذوي المعرفة منكم أن يقوم بهذا الأمر على أكمل وجه ..(37/22)
ويتأكد هذا الأمر في حق الموظفين القاعدين على مكاتبهم وفي حق رؤساء الدوائر الموظفين ذي المناصب العالية إذا راجعهم من يغلب على الظن أنه مسكين أو فقير أو لا يستطيع أن يعود أو يعود مرة أخرى يتأكد في حفهم أن يساعدوه إنه من الجرم في حق يأتيك من مكان بعيد ولا يملك سيارة يأتي بها ويعلم الله من وقف في حر الشمس حتى وجد من يوصله إليك ثم تقول له وأنت متكئ على أريكتك وبين يديك ما تحتسيه من الشاي وغيره ائتنا غداً أو بعد غد أو هذه الورقة تحت إلى تصوير وماذا يضيرك لو قمت من مكانك وصورتها له إن كثيراً من الناس يظن أن النظام يمنع هذا .. والله أننا نعرف الأنظمة أولها وآخرها .. ليس فيها ما يمنع ذلك ..
ولكن الناس فطروا غالبهم وحاشاكم أن تكونوا منهم فطر غالبهم على أنهم يحبوا شيئاً من السلطة ويحبوا شيئاً من الكبر ويرى أنه لو دخل المعاملة للمؤمنين لما أصبح مشهوراً ولا أصبح لم يأتي لأحد عنده .. إنه ربما خرج من عندك ذلك المراجع وهو قريب من الله فدعا الله جل وعلا لك أن ييسر أمرك إن تيسر أمور المؤمنين واجب على ولي الأمر وواجب على من هو دونه من المسؤولين وواجب على عموم موظفي الدولة وواجب على كل من بوأه الله مكاناً سواء كان مكاناً حكومياً أو مكاناً خاصاً فإن الرحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمر واجب في حق الجميع
أيها المؤمنون إن الطرائق والأساليب الشرعية في هذه الأمر قد يضيق بها الوقت وهي أمور متعددة وأرجو أن يكون فيما قلناه النفع والفائدة ..
لكن يبقي أن تقول ماذا يجني الإنسان من هذا كله ..
وما الذي يناله الإنسان إذا حرص على هذا الأمر فبذل فيه طاقته وجهده .. يكفيك أن تعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال "أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "
وأن نبيناً صلى الله عليه وسلم قال" لا يرحم من لا يرحم "
وقال صلى الله عليه وسلم لما قال الأقرع بن حابس أتقبلون أبناءكم ؟!
قال : نعم !!(37/23)
فقال الأقرع : أن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً قط
فقال صلى الله عليه وسلم : أو أملك إن نزع الله الرحمة من قلوبكم"
إننا جميعاً فقراء إلى رحمة الله جل وعلا وأن من الأسباب الموجبة لرحمة الله تبارك وتعالى فضله أن يكون العبد حريصاً على رحمة إخوانه المؤمنين قائماً بشئونهم متفقداً لأحوالهم يهمه ما أهمهم يحرص على منافعهم وإن العبد إذا وقف في عرسات يوم القيامة شاهداً بين يدي الله جل وعلا ..
وجد ذلك العمل شاهداً له بين يدي الله جل وعلا فينجيه الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته
أسأل الله جل وعلا في ختام المحاضرة أن ينفعنا وإياكم بما علّمنا وأن يعلمنا وإياكم ما ينفعنا وأن يجعلنا جميعاً مؤمنين متراحمين متوادين نقوم بالرحمة ونعمل بها
ونسأله تبارك وتعالى أن يغفر لنا مواطن الزلل وأن يلبسنا من الأيمان الحلل سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
***
تم بتوفيق من الله وعون
تفريغ محاضرة رفقاء بينهم
للشيخ صالح بن عواد المغامسي
سدده الله
~~~
وعذرا أن وجدتم خللا
***
منتديات الصفوة_منتدى القطوف الدانية(37/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد فهذا أيها المباركون اللقاء الثامن في تفسير سورة الأنعام وكانت قد مضت معنا ولله الحمد والمنة سبع لقاءات وأخر الآيات التي تأملنا فيها هي قول الله جل وعلا(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )وقلنا حينها إن الاستفهام هنا استفهام إنكاري والمعنى لا احد أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته لكنني قبل أن اشرع في الآية التي بعدها ثمة مقوله تكتب في سويداء القلب قبل أن تكتب في صفحات الورق قال الله تبارك وتعالى في سورة الحجر وهذا ليس تفسيراً لسورة الحجر لكن كما قلت حتى اصل للمقولة في بداية لقاءنا الثامن في تفسير سورة الأنعام قال الله جل وعلى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ )ثم قال جل ذكره (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ )تحروا من هذا الربط والمناسبة بين الآيتين مقولة تقول : من أُتي القرآن ثم ظن أن أحدا أتي من الدنيا أعظم مما أُتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً من أُتي القرآن ثم ظن أن أحدا من أهل الدنيا أُتي أكثر مما أُتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً,
عظم صغيراً : بمعنى جعل للدنيا أكثر من حقها(38/1)
وصغر عظيماً : لم يعرف قدر القرآن لأن الله قال (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ )ثم نهى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يمد عينيه إلى متاع الدنيا,
يكفيك ماذا ؟!
يكفيك القرآن (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ)فالقرآن من حمله حملاً صحيحاً حفظاً ووعياً وتدبرا فهو سيد العلماء بلا شك وفي هذا مقولات ذكرها الأئمة كما نص عليها الزركشي رحمة الله تعالى عليه في البرهان عن .. الذي يعنينا هنا استصحاب هذا الأمر يهون على طالب علم التفسير الكثير من المشاق و الصعاب إذا تذكر أنه يتدارس كلام الله جل وعلا
ومن عظمة كلام الله أنه يمكن لأي رجل على حسب ما أعطاه الله من علم من خلال آيات الكتاب أن يبحر في شتى الفنون وجميع العلوم لأن القرآن مهيمن وكذلك علم التفسير مهينٌ على سائر العلوم
وقد قلت مراراً في دروس خلت وأيام سبقت ومحاضرات مضت أن الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه كان يقول : كل العلوم تفيء إلى القرآن ثم قال : ما السنة كلها إلا في آية واحدة { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } الآن نأتي لما نحن فيه من سورة الأنعام في هذا اللقاء الثامن المبارك قال الله تعالى : {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) }
التكذيب بالبعث والنشور من أعظم ما تمسك به أهل الإشراك وإذا استصحبنا أن سورة الأنعام سورة
سورة ماذا ؟!(38/2)
مكية , فمادمت سورة مكية ستعالج الخلل العقدي في أهل مكة ومن أعظمه مع الشرك بالله إنكار البعث والنشور { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا } فالله جل وعلا يقول لنبيه في غيب لا يعلمه عليه الصلاة والسلام أذكر يا محمد ,, نبئ يا محمد هؤلاء القوم أنه سيأتي يوم نحشرهم فيه { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } بلا استثناء
والخلائق يحشرون جميعا أنساً وجناً وملائكةً و دواباً
{ ثُمَّ نَقُولُ } أي في يوم الحشر { لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} هل يحشر أصنامهم معهم ويحال بينهم وبين أصحابها هذا وارد يدل عليه قول الله جل وعلا {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } دليل على أنهم كانوا يرونهم لكن لا سبيل إلى الوصول إليهم , وقيل أنهم لا يحشرون
لكن الذي أراد القرآن أن يثبته أن تلك الآلهة والأصنام التي كانوا يتعلقون بها ويعدونها لساعة ما تخذلهم يوم القيامة ولهذا قال الله : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} وهذا لا شك أنه استفهام توبيخي
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل زعم في القرآن فهو كذب
ثم قال الله : { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ } نفي بعده استثناء وهذا يسمى أسلوب حصر { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } اختلف العلماء في معنى فتنتهم هنا ..!
على أقوال لكننا نبقي ,, حتى لا نتشعب على القول الذي يغلب على الظن
الفتة هنا بمعنى الشرك
لكن لا بد من تقدير المضاف ,, يصبح المعنى ( ثم لم تكن عاقبة شركهم ) يصبح المعنى واضح
الفتنة بمعنى الشرك ,, لكن لا بد من تقدير المضاف والمضاف يأتي قبل المضاف إليه ( ثم لم تكن عاقبة شركهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين )
من الذي يقول { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ..؟!
أهل الشرك ,, وهذا منهم كذب ,, لأنهم كانوا مشركين(38/3)
كيف يجمع الإنسان ما بين هذه الآية و بين قول الله جل وعلا {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فقول الله جل وعلا : {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أنهم يخبرون بكل شيء فعلوه على وجه الحقيقة والصدق
والله يقول هنا أنهم يقولون : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وهذا كذب
لأن الله أصلاُ قال بعدها : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ }
هنا طرح هذا السؤال على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
قال رضي الله تعالى عنه وأرضاه في الجواب عن هذا قال : أن أهل الإشراك إذا رأوا منة الله بالعفو على أهل التوحيد والإسلام ورأوا أن الله يعفو ويخلص أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض لم يبقى إلا أن نتبرأ من الشرك لعله يعفى عنا كما عفي عن غيرنا , عندها يقولون { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فيختم الله على أفواههم بعده فتنطق جوارحهم وتشهد وهذا معنى قول الله {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } إذاً جعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على كم مرحلة ؟!
على مرحلتين
المرحلة الأولى يعاين أهل الإشراك منة الله على أهل التوحيد بالعفو فيقول بعضهم لبعض أن الشرك حال بيننا وبين العفو فتعالوا نقول لم نكن مشركين فيحلفون { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وفي هذا كذب على أنفسهم لذلك قال الله { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } وهذا من باب التعجب
فيبدأ بعد ذلك قلنا تكمم أفواههم وتشهد جوارحهم فهذا معنى قول الله {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
قال الله { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} مضى معنا أن [ ضل ] لها معاني في القرآن
هنا [ ضل ] بمعنى غاب وأضمحل أي لم يكن موجوداً
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ما كانوا يفترون ويزعمون من آلهة أنها تنفعهم(38/4)
ثم قال الله : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ }
{ وَمِنْهُم} أي من الإشراك { مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش مكة وكان الملأ والأشراف كأبي سفيان وأبي جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمثالهم من صناديد قريش أحياناً يستمعون لنبي صلى الله عليه وسلم حيناً سراً وحيناً علانية والله يقول { وَمِنْهُم} بعضيه { مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} لكن الله جل وعلا قد علم في الأزل وقدر وشاء وفعل أن هذه القلوب لا يمكن أن تتعظ ولا يمكن أن يصل إليها سبب التدبر فقال الله لنبيه { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أكنة جمع كنان , كأعنة جمع عنان وأزمة جمع زمام
وهي في اللغة بمعنى الغطاء والستر
{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } أي حتى لا يفقهوه
{وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } الوقر : الثقل والصمم
الثقل والصمم إذا كان في الأذن يسمى وقر
{ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } مهما صنعت لهم من آيات وأظهرت لهم من معجزات وأخرجت لهم من براهين لا يمكن لهم أن يؤمنوا لأن الله قد كتب في قدره وأزله أنهم لن يؤمنوا
ويعلم بهذا كل أحد لأن الهداية بيد الله وهذا حررناه كثيراً
{حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } لن يكفهم فقط أن يردوا أو لم يقبلوا قولك بل زعموا أن قولك هذا من أساطير الأولين(38/5)
نعود للآية قلنا {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } كان بعضهم يقول ألا تأتون إلى هذا الصابئ يقصدون من ؟؟!
النبي صلى الله عليه وسلم
كلمة صابئ فعلها صبئ والعرب في طيات كلامها تفرق في الشيء الواحد في أطلاق لفظ العبارة عليه فمن خرج من دين إلى دين يقال له صبئ , وقريش كانت تزعم أن محمد كان على دينها صلى الله عليه وسلم فلما رأوه أتى بدينِ جديد ظنوا أنه قد خرج عن دينهم ولهذا قالوا صابئ أسم فاعل من صبئ
لكن العرب في لغتها والقرآن نزل بلغة العرب لا يستخدمون هذا لكل شيء
فإذا خرج الرجل من داره يقولون خرج
لكن إذا خرج من دينه يقولون صبئ
فإذا كان الرجل بين القوم كما نحن الآن ثم خرج أحد هنا لا يقولون خرج , يقولون أنسل
الآن كم فعل ؟؟!
ثلاث ’ خرج إذا كان خرج من أين ؟!
من الدار
وصبئ إذا كان خرج من الدين
وإذا خرج من القوم سمي أنسل فلان من المجلس
فإذا كان سهماً وخرج من الرمية يقولون , مرق
الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج وقال يمرق أحدهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية , فإذا خرج السهم من الرمية لا يقولون خرج السهم من الرمية يقولون مرق السهم من الرمية
فإذا صاد صائد سمكة ثم خرجت من يده - أنا مضطر أقول خرجت حتى أصل للمعنى - لا يقولون خرجت يقولون تملصت , يقولون تبلصت من يده , وهذا يدل على سعة لغة العرب و بها نزل القرآن قال الله : { يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا } يخرجون من المجلس
وسيأتي إن شاء الله في دروس قادمة قضايا كثيرة حول هذا الشأن , هذه واحدة
دلت الآية وهو المهم وقد حررناه أن الهداية بيد الله جل وعلا وأعظم الأدلة أن الله يقول { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } والله يحكم أزلاً على أن هؤلاء قلوبهم لا يمكن أن تقبل الحق(38/6)
ثم قال الله بعدها {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } هذه الآية قد تستحق لقاء كاملاً لكن نبدأ بخلاف العلماء في معناها أو في من تنطبق عليه
أختار بن جرير شيخ المفسرين على أن الآية تبع لما سبق ويصبح وهم عائدة على من كان الله يتحدث عنهم وأن هؤلاء أهل الإشراك ينهون الناس عن الدخول في الدين وفي نفس الوقت هم نفسهم يتباعدون عن الدين - واضح -
ينهون الناس عن الدخول في الدين وفي نفس الوقت هم أنفسهم يتباعدون عن الدين وهذا القول أختاره ابن جرير شيخ المفسرين
القول الثاني ينسب لابن عباس وقاله عنه سفيان الثوري بسنده وحرره ابن كثير في تفسيره وهو أن المقصود بالآية أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا قلنا أن أبا طالب هو المقصود بالآية يصبح معنى الآية ( وهم ينهون عنه ) ينهون الناس أن يؤذوا نبينا صلى الله عليه وسلم ( وينؤن عنه ) أي ينؤن بأنفسهم أن يدخلوا في الدين - واضح-
فيصبح الخطاب وأن جاء للجمع ألا أن المقصود به فرد واحد هو من ؟!
هو أبو طالب
لكن قلنا أن أكثر أهل العلم على أن المقصود بها الأصل العائد على المشركين السابقين يعني ينهون الناس عن الدخول في الدين ويتباعدون بأنفسهم
أي بمعنى أوضح جمعوا ما بين الضلال والإضلال
الضلال في أنفسهم والإضلال لغيرهم { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} نبقي على قضية أبي طالب
على القول أنه أبو طالب ذكر ابن أبي حاتم ونقله عنه الحافظ بن كثير ولم يعقب وكان أولى أن يعقب , قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة ينصرونه في العلانية ويعادونه في السر
وهذا غير صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم له أعمام عشرة نعم - واستصحاب التاريخ مهم في التفسير - ستة منهم لم يدركوا بعثته عليه الصلاة والسلام(38/7)
وإنما أدرك البعثة من أعمامه أربعة أبو طالب وحمزة والعباس و أبو لهب
أمن اثنان حمزة والعباس
وكفر اثنان أبو لهب وأبو طالب
أبو لهب عاداه وأبو طالب والاه هذا مهم جداً في استصحابه
فما ذكره ابن أبي حاتم في سنده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة يعادون النبي صلى الله عليه وسلم بالسر وينصرونه في العلانية لا أصل له ولا يمكن أن يصح متناً لمخالفته الروايات التاريخية المشهورة المحفوظة
أبو طالب كان بين أمرين وكان شديد الموالاة لما يعتقد وقد يضرب به المثل في نصرة الإنسان لما يعتقده
شديد الموالاة لدين قومه فلذلك لم يؤمن
وشديد الموالاة لمبادئ قومه , فرق ما بين الدين و المبادئ , دين قومه كان الإشراك ولذلك بقي على الشرك ,قال : لا أرغب عن ملة عبد المطلب
والأمر الثاني مبادئ قومه التي كانت شائعة ذائعة هي نصرة القريب
نصرة ماذا ؟!
القريب , يدفعه العصبة , وقد كان مخلصاً لهذا المبدأ فلذلك نصر النبي صلى الله عليه وسلم وحماه و دافع عنه رغم أنه لم يكن مؤمناً , ولهذا تشفع النبي صلى الله عليه وسلم فيه وهو أهون أهل النار عذابا
والنبي صلى الله عليه وسلم وهذا استطراد له ثلاث شفاعات خاصة به
وشفاعات تشاركه فيها غيره
وهذه الشفاعات : شفاعات في حررناها دائماً
شفاعة في أهل الموقف , أن يفصل بينهم هذه شفاعة في دفع ما .. ماذا؟!
في دفع ما يضر
وشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة وهذه شفاعة , لزاماً تجيبوا الآن ..!
قلنا الأولى في دفع ما يضر , وشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة وهذه شفاعة في جلب ما يسر , على وزن ما يضر
الأولى في دفع ما يضر والثانية في جلب ما يسر
فدخول أهل الجنة الجنة شيئاً يسرهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم قدم لهم
وأهل الموقف في كرب عظيم يريدون أن يدفعوا عن أنفسهم فشفاعته صلى الله عليه وسلم دفعت عنهم الضر
فشفاعة في دفع ما يضر وهذا من أكرام الله لنبيه
وشفاعة في جلب ما يسر(38/8)
وشفاعة في عمه أبي طالب خصصت مانعاً قرآنياً قال الله جل وعلا { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } ومع ذلك يشفع صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب
يتحرر منها من نفس الآية { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} قضية المبدأ والاعتقاد به وهذا إن شاء الله ما سنفتتح به اللقاء القادم هذا ما تيسر إيراده وتهيأ أعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(38/9)
إن من البيان لسحرا : سورة ق .. للشيخ صالح المغامسي
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته .. ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته .. واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له خالق الخلق بما فيه .. وجامع الناس ليوم لا ريب فيه .. واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبي شرح الله له صدره .. ورفع الله له ذكره .. ووضع الله له وزره .. وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره .. صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه وعلى سائر من ابتغ أثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين ..
أما بعد عباد الله :-
فان سوره { ق } سوره مكيه النزول طالما قراءها وتلاها وبين أسرارها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه جمعه على منبره حتى حفظها بعض الصحابة هذه السورة من فيه الرطب صلى الله عليه وسلم ولما كان لا هدي أكمل من هديه ولا طريق أقوم من طريقه فان حري بكل من رغب في أتباع السنة والتماس الهدي النبوي ان يشرع بين الحين والأخر في ذكر مافي هذه السورة العظيمة من عظيم آيات .. وجلائل العظات .. وبالغ التخويف من رب العالمين جل جلاله لعباده.
أيها المؤمنين :-(39/1)
لا احد اعلم بالله من الله تبارك وتعالى , ولا احد أدل بالطريق الموصل لجنانه والمبعد عن نيرانه منه تبارك وتعالى ولذلك اقسم الله جل وعلا في هذه صدر هذه السورة في القران وختم هذه السورة بقوله جل شانه (( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )) وأن المؤمن إذا كان على الفطرة قويم مستقيم على منهاج محمد صلى الله عليه وسلم .. كان لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن .. بالقرآن يجاهد المؤمن قال الله جل وعلا (( وجاهدهم به جاهداً كبيراً )) وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه (( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك مقاماً محموداً)) .. وبالقرآن يخوف من عصى الله .. (( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد )) جعله الله جل وعلا شرف لهذه الأمة في الدنيا والآخرة (( وأنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون )) .. والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي أتاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم .. ثم أخبر تبارك وتعالى أن أعظم الحجب الذي أنتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أصهرهم يعرفهم ويعرفونه فقالوا متكبرين كما قال الله جل وعلا : (( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم )) وهذه العلة في الرد هي العلة التي امتطتها الأمم من قبل فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسولهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله جل وعلا بشراً رسولاً فأخبر الله تبارك وتعالى أنه لو قدر أن ينزل الله جل وعلا ملك لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم كما بقي في الأول ورسولنا صلى الله عليه وسلم كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث تعرفه با أمانته وعفافه .. وطهره صلوات الله وسلامه عليه تعرف منشأه ومدخله و مخرجه فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه صلوات الله وسلامه عليه ..(39/2)
بل الأمر رحمه من الله محضة يضعها الله حيث يشاء قال جل ذكره وقالوا (( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم )) قال تبارك وتعالى مجيب لهم (( هم يقسمون رحمة ربك )) فاقتضت رحمة الله جل وعلا وحكمته و مشيئته أن يكون محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين ولله جل وعلا الحكمة البالغة و المشيئة النافذة .. (( بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم )) (( فقال الكافرون هذا شيء عجيب)) وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة وأعظم ما اعترضوا عليه إنكارهم للبعث وللنشور وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت يكون لها بعد ذلك مبعث ونشور كما أخبر الله تبارك وتعالى منهم فقالوا (( إذا متنا وكنا تراب ذلك رجع بعيد )) فقال الحق جل جلاله وعظم سلطانه (( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ )) قال صلوات الله وسلامة عليه أن بني آدم خلق من عجب الذنب منه خلق وفيه يركب وكل جسد بني آدم يبلى في قبره الأعجب الذنب أجساد الشعراء أجساد حفاظ القرآن أجساد الصالحين أجساد غيرهم من الخلق أجمعين كلها تبلى إلا أجساد الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم { إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت .. فقال : أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح وبقي ما غيرها من الأجساد عرضه للبلاء والذهاب كما أمر الله تبارك وتعالى ظاهراً في كتابه وكما بينته السنة الصحيحة عن الرسول الهدى صلوات الله وسلامة عليه (( وقد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ )) .. ذلكم هو اللوح المحفوظ حفظ أي محفوظ لا يتغير ولا يتبدل .. حفيظ لا يشذ عنه شيء .. حفيظ كتبه الملائكة بأمر من الله تبارك وتعالى فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد تبارك وتعالى ..(39/3)
ثم ذكر جل شأنه بعض من عظم خلقه وجلاء صنعه فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله تبارك وتعالى ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا تبارك وتعالى قال الله جل وعلا عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده (( أن في خلق السموات والأرض لآيات لأولي الأبصار الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار )) فما عظمة المخلوق إلا دلاله على عظمة الخالق .. وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه ..(39/4)
والله تبارك وتعالى ما من مخلوق إلا والله جل وعلا خالقه ومدبره .. فقير كل الفقر ذلك المخلوق إلى الله والله جل وعلا غنى كل الغنى عن كل مخلوق .. خلق العرش وهو مستغني عن العرش .. خلق حملة العرش وهو جل وعلا مستغني عن حملة العرش .. خلق جبريل و ميكائيل و اسرافيل وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو جل وعلا مستغنى كل الغناء عنهم .. وهو أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى .. (( الله لا إله إلا هو الحي القيوم )) فحياته جل شأنه حياة لم يسبقها عدم ولم يلحقها زوال وقوله جل وعلا القيوم .. أي قيوم السموات والأرض أحتاج كل أحد إليه واستغنى جل وعلا عن كل أحد سواه لا إله إلا هو رب العرش العظيم ..(39/5)
ثم ذكر جل وعلا بعد ذلك الخصومة التي بين نبيه صلى الله عليه وسلم وكفار قريش اعترفوا أول الأمر أن الله هو خالقهم ثم قالوا أن الله غير قادر على أن يبعثنا فقال جل وعلا (( أفعيينا في الخلق الأول بل هو في لبس من خلق جديد )) فهم متفقون على أننا خلقناهم أو مرة لكن اللبس الذي في قلوبهم والشك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور قال الله جل وعلا مجيباً العاص ابن وائل لما أخذ عظام بالية ووضعها في كفة ثم نفثها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه قال الله مجيباً له (( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نار فإذا أنتم منه توفيدون أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم )) آمنا بالله الذي لا إله إلا هو قال الله (( أفعيينا في الخلق الأول بل هو في لبس من خلق جديد )) ثم قال جل وعلا (( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )) وهذا قول الله جل وعلا من عبادة لملائكة لذلكم الرقيبين الذان يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر ثم يلتقيان مع صاحبها بين يدي الله بين يدي من لا تخفى عليه خافية وطوبى لعبد كانت سريرته خيراً له من علانيته ..(39/6)
قال الله (( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذا يتلقى المتلقيان )) وهذا بيان للأول أي ((ونحن أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )) تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب لله له من الحياة حتى يواجه سكرت الموت وكلما تلفظ به أمر مسطور لا يغيب قال الله (( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد )) أي تفر ولا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك قال الله (( وجاءت سكرة الموت بالحق )) وقف الصديق رضي الله عنه يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته فقالت الصديقة رضي الله عنها ابنته عائشة لما رأت أباها يواجه سكرت الموت تردد قولاً قديماً لحاتم طي :
لعمرك ما يفني الثرى عن الفتى
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر(39/7)
فكشف الصديق وهو في سكرة الموت غطاءه وقال : يابنيه لا تقولي هذا ولكن قولي كما قال الله (( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )) وسكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد فإذا خرجت سميت روحاً وإذا بقيت مازالت نفساً وهي لحظات يواجهها كل أحد ولو بدى لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله ويشتد الموت على الأنبياء لأن الموت مصيبة والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين و أولياء الله المتقين وإن لم يبدو ذلك ظاهر للعيان لمن كان محيطاً بالميت لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله بها عليم ثم يخففه الله جل وعلا فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية رب تبارك وتعالى بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة كما قال الله جل وعلا في فصلت (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلا تخافوا ولا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون )) .. (((39/8)
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ونفخ في الصور )) أي مرت على الناس أهله وأهله وهم في قبورهم ثم انتهاء الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم (( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد )) فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله بها عليم وفي حياة البرزخ ينكشف كثير من تلك الغيبيات وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين يرى الإنسان ما كان يسمعه ويقرأ و يتلوه من كلام لله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من الغيبيات يراه مائلاً بين عينيه قال الحق جل شأنه (( فبصرك اليوم حديد )) وهذا يقول قرينه ذلك الشيطان الذي وكل إليه { والواو واو عطف } (( وقال قرينه هذا مالدي عتيد )) فيكون الخطاب الرباني (( ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إله آخر فألقياه في العذاب الشديد )) ..(39/9)
أيها المؤمنون .. لا ذنب يلقى الله به أعظم من الشرك وهذا لا يغفره الله أبداً أما المؤمنون فإن أول ما ينظر فيما فعلوه ما بينهم وبين الله هو الصلاة فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو إلى ما سواها أضيع وأول ما ينظر إليه بين الناس والآخرين مسألة الدماء فأول ما يقضي به بين الخلاق الدماء .. الدماء أول ما يقضي به بين العباد لما يتعلق بحال بعضهم ببعض والصلاة أول ما ينظر فيه بين العبد وربه والشرك ذنب لا يغفره الله حرم الله على أهله الجنة .. ثم قال الله جل وعلا (( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ )) المؤمن في طريقه إلى الله جل وعلا يقول الله عنه (( لقد خلقنا الإنسان في كبد )) ينتابه الحزن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة تنتابه أمور كثيرة و مطالب عظام يزدلف حيناً إلى طاعات ويقع أحياناً في المعاصي يستغفر ما بين هذا وذاك يفقد أمواله بفقد أولاده يخوف يحزن و غير ذلك مما يشترك في أغلب الناس ويبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله جل وعلا ويمين كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم .. قال الله (( وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد )) هذا أي الذي ترونه ما كنتم توعدون أي ما كنتم توعدونه في الدنيا لكل أواب حفيظ الأواب دائم التوبة والإنابة و الاستغفار لله جل وعلا حفيظ لجوارحه أن تقع في الفواحش مما حرم الله مما ظهر منها أو بطن ذلك ما توعدون لكل أواب حفيظ ..(39/10)
ذكر الله جل وعلا النار قبلها وأن يلقى فيها حتى تقول قطٍ قطٍ أي يكفي يكفي قال الله جل وعلا قبل ذلك (( يوم نقول لجهنم هل امتلئت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ومن خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب )) ما القول الذي يقال لهم يقول لهم العلي الأعلى (( أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود )) والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا ولأجل ذلك يلقى ويذهب عنهم يوم القيامة قال الله جل وعلا (( أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد )) وأعظم ما فسر بالمزيد رؤية وجه الله تبارك وتعالى ..
اللهم غنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضله أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..(39/11)
الحمد الله وكفى والسلام على عباده الذين أصطفى .. ثم قال جل ذكر (( كم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقب في البلاد هل من محيص )) ... (( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )) .. و إن من دلائل العقل والاتعاظ و الإيمان أن ينظر إلى صنيع الله جل وعلا فيمن عصاه ورحمته تبارك وتعالى فمن أطاعه وأتبع هداه ثم ذكر جل وعلا رداً على اليهود التي زعمت أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً فقال جل ذكره ممجداً نفسه ومادحاً ذاته العلية (( ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب )) ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقول أعدائه (( فصبر على ما يقولون )) ولابد للصبر من مطيه آلا وأعظم المطايا ذكر الله تبارك وتعالى والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء قال الله جل وعلا (( فصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب)) ثم جل شأنه بعد أن دعى نبيه إلى التفكير في الصلاة والذكر على القول بأنه الذكر المطلق والمقيد وهو الأظهر والعلم عند الله (( وأستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب )) وأستمع هذا نداء لكل من يقرأ القرآن والمنادي هو إسرافيل عليه السلام والمكان القريب البيت المقدس سمي قريباً لأنه قريب من مكة وهذه السورة نزلت في مكة وليست بيت المقدس عن مكة ببعيد
((وأستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج ))(39/12)
ينادي أيتها العظام البالية أيتها الأوصال المتقطعة أن الله يدعوكن لفصل القضاء فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها فيخرج الناس لرب العالمين قال جل ذكر (( يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك بوم الخروج إنا نحن نحي ونميت وإلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم صراعاً ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون )) سواء جهروا به أو لم يجهروا والقلوب له مفضية والسر عنده علانية وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ فقال الله جل وعلا (( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)) عوداً على بدأ كما أقسم الله بقرانه العظيم ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا وذلك أن القرآن جعله الله جل وعلا هدى ونوراً لهذه الأمة :
وجاء النبيون بالآيات فنصرمت
وجاءتنا بحكيم غير منصرمٍ
آياته كلما طال المدى جددٌ
يزينهن جلال العتق والقدمٍ(39/13)
فصلوا وسلموا على من أنزل إليه هذا القرآن (( إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )) اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .. وأرضى اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء فرحمنا اللهم برحمتك معهم ياذا الجلال و الإكرام وغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم ووفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك واللهم وفقه لهداك وجعل عمله في رضاك .. اللهم وأصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان اللهم من روع أهل مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم فمكن منه وأخذله يارب العالمين .. اللهم أستر عوراتنا و آمن روعتنا .. اللهم أستر عوراتنا و آمن روعتنا .. اللهم أستر عوراتنا و آمن روعتنا .. اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف و الغنى والفوز بالجنة والنجاة من النار .. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة .. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة .. اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة .
.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فذكروا الله العظيم الجليل يذكركم وشكروه على نعمة يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ..
أمل الأمة(39/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت عليها السماوات والأرض ولأجلها كان الحساب والعرض هي عماد الإسلام ومفتاح دار السلام وهي أساس الفرض والسنة ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فجزاه الله بأفضل ما جزاء به نبياً عن أمته اللهم صلي وسلم وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد(40/1)
عباد الله .فإن تدبر القرآن من أعظم البراهين وأجل القرائن عن البعد عن قسوة القلوب قال الله تباركت أسمائه وجلّ ثناؤه ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد : 24] ومن أراد الله به سعادة الحياتين والفوز في الدارين منَّ عليه جل وعلا بأن هيئ عبده هذا لأن يتدبر كتابه على الوجه الذي أراد جل وعلا وعلى الوجه الذي بين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه وفي هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع المبارك نقف وإياكم مع بعض آيات الكتاب المبين وقفات علمية ووعظية ما أمكن إلى ذلك سبيلا مستصحبين أمراً عظيماً وهو أن التوفيق بيد الله جل وعلا وحده فما كان لمتحدثٍ أن يتحدث ولا من محاضر أن يحاضر ولا متلقي أن يعي و يسمع إلا إذا أذن الله فمن أسلم قلبه لله وعلم أن الفضل كله بيد لله كان قريباً من رحمة ربه لحسن ظنه بمولاه وجل اعتماده ويقين توكله على خالقه سبحانه وتعالى لا نشترط في الآيات التي نتدبرها ونتأملها الليلة أن تكون مرتبة وفق ترتيب المصحف فقد يكون لترتيبها لبعض الحكم التي تظهر أو قد تخفى قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين في سورة الجاثية (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : 29:28](40/2)
الجثو في اللغة / هو البقاء على الركب وإن لامست أطراف الأصابع الأرض فلا حرج وهي من أعظم دلالات الخضوع وفي هذه الآية الكريمة يخبر جل وعلا عن حال الأمم يوم القيامة ويقول مخاطباً نبيه (وَتَرَى) أي بعين البصر لأن (تَرَى) تأتي قلبيه وتتعدى لمفعولين وتأتي بصرية وتتعدى لمفعول واحد قال الله جل وعلا هنا (وَتَرَى) أي يا نبينا أيها المخاطب في القرآن سائر الناس وترى كل أمة جاثية أي على ركبها ثم قال الله (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) قال بعض العلماء كما نقله الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه " إن جهنم يومئذ تزفر زفره فتجثوا الأمم على ركبها حتى إن خليل الله إبراهيم عليه السلام على رفيع درجته وعلو منزلته يقول " نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي " بل ورد أن عيسى ابن مريم عليه السلام يومئذ يقول نفسي نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني فإذا كان هذا حال أنبياء الله فما عسا أن يكون حال من دونهم فكلنا دونهم نسأل الله لنا ولكم العافية والستر قال الله جل وعلا يخاطب نبيه (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) كل أمة والكلام ابتدأ ولذا رفعت (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) اختلف العلماء تفسير في معنى (كِتَابِهَا) هل هو كتابها الشرعي الذي أنزل على رسل تلك الأمم كالتوراة على موسى والإنجيل على عيسى والقرآن على محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة و السلام أو هو الكتاب الذي دَون فيه الملكان ما عمله بنو آدم بكل من قال من العلماء يرجح الأول الأفراد في الآية وقول الله جل وعلا (هَذَا كِتَابُنَا) والإضافة هنا إلى رب العزة لأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه وإذا قلنا إنهُ هو كتاب كل أحد بعينه فيؤيده ما بعدها فإن الله قال بعدها (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فكلا القولين متوجه ولو رجحنا أحدهما فإنه لا يُلغي الأخر بمعنى أن كلا الأمرين ثابت في آيات أُخر وإنما الخلاف بين العلماء على(40/3)
أيهم تشهد هذه الآية مع الاتفاق على أن الأمم تُسأل عن كتبها قال الله جل وعلا عن كتابه العظيم ( وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف : 44] ومع الاتفاق أن كل أحد يعرض عليه كتابه ويسأل عن عمله كما قال الله جل وعلا(....وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً* وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ....* وَوُضِعَ الْكِتَابُ.....") [الكهف : 48:47]إلى آخر الآيات هذه وغيرها الدالة على أن الإنسان تعرض عليه صحائف عمله قال الله جل وعلا (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : 29:28](40/4)
براهين اللغة تقول أن الاستنساخ معناه النقل عن الأصل ولهذا اختلف العلماء رحمة الله تعالى عليهم في معنى هذه الآية فمنهم من قال أن الأصل اللوح المحفوظ فيصبح معنى الآية أن الملائكة الذين في السماء يكتبون على اللوح المحفوظ أعمال بني آدم والملائكة الموكلون ببني آدم يكتبون أعمالهم ثم يطابقون هذا على هذا , وهذا وإن كانت اللغة تعضده إلا وإنني والعلم عند الله أراه بعيدا , فنبقى على أصل اللغة وهو أن الاستنساخ أخذ من الأصل فيصبح المعنى أن الاستنساخ هنا بمعنى أن الملائكة تكتب عن الواقع الحق البين وهو عمل بني آدم فالملائكة عليهم السلام , الملك الموكل الذي على اليمين أو الملك الذي على الشمال كلاهما يكتبون واقعاً مشهوداً وحاضراً مشاهداً يدوناه فهذا يمكن اعتباره أنه أخذ عن الأصل وهذه الآيات تبين لكل أحد يتدبر القرآن أنه مسئول كل المسئولية عن عمله قال الله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) ) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق عثمان " ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة " لأن الملائكة رأت في عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه حياء جماً فهو بالسر كما هو بالعلانية يستحي من الله في الملأ ويستحي من الله في الخلا ويعلم رضي الله عنه وأرضاه أن معه ملكين يدونان ما يكتب فنستغفر الله مما يكتب الملكين , لكن الإنسان إذا رزق قلباً موقنا بلقاء الله مستحيي من ربه جلا وعلا يعظم الله ويعظم أمرة ونهيه استحيى من باب حيائه من الله من الملكين الذين معه فكان حاله بالسراء حاله في العلانية لكن تلك منزله عظيمة جلية ومن أقسى ما قاله المفسرون أنهم قال بعضهم بقول الله(40/5)
جل وعلا (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ )[النحل : 90] قالوا في العدل أن تستوي السريرة و العلانية وقال بعضهم والإحسان أن تكون سريرة الإنسان أفضل من علانيته , وهذه كما قلنا منزله عالية فقد لا يدركها إلا ثلةُ قليلة من الخلق _ سلك الله بي وبكم سبيلهم _ قال لله جل وعلا في سورة أخرى (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) ) الدخان: , هذه الآيات جاءت بعد قول الله جل وعلا في نفس السورة نفسها في سورة الدخان ( َمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) ) ثم قال الله (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ ) ولم يأتي بواو العطف قال بعضهم معنيين بالبلاغة واللغة إن هذا معناه أن هذه الآيات كالنتيجة لما قبلها ثم تأمل أيها المبارك قول الله (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ )هذا أحد أسماء يوم القيامة سمي بهذا لأن الله جل وعلا فيه يحكم بين خلقه ويفصل بين عباده , ميقاتهم والميقات اثنان ميقات زماني لا يعلمه إلا الله وميقات مكاني على أرض بيضاء نقية لم يعصى الله فيها طرفة عين (مِيقَاتُهُمْ) الأصل أنه ميقات لكل مؤمن وكافر وبر وفاجر وأنس وجني بل هو ميقات للخلائق أجمعين لكن الله جلا وعلا أضاف الميقات إلى أهل الكفر لأنهم المخاطبون الأولون بالوعيد فقال جل وعلا (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)) وكلمة أجمعين هنا وردت للتوكيد وهي توكيد معنوي وليس بخافٍ عليك أن التوكيد ينقسم إلى قسمين توكيد معنوي وتوكيد لفظي , وهذا لفظ أجمعين في هذه الآية من ألفاظ التوكيد المعنوي , وهو يؤتى به للتأكيد لكن قد يتكرر بعض ألفاظ التأكيد المعنوي فلا(40/6)
ينتقل إلى كونه تأكيد لفظيا بل يبقى على حاله توكيدا معنويا لكن له أغراضاً بلاغية . قال الله جل وعلا مثلاً في سورة ص (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [ص : 73] فواحدة منها تكفي (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ....) أو يقول الله ( فسجد الملائكة أجمعون ) لكن تكرار لفظي التوكيد هنا أراد الله بهِ (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ) أي لم يبقى منهم احد لم يسجد وأراد الله بقوله (أَجْمَعُونَ) أي أنهم في وقت واحد , فيصبح تكرار التوكيد هنا أفاد فائدة زائدة وهي أن الملائكة سجدوا جميعاً من غير استثناء وسجدوا جميعاً في وقت واحد , قال الله جل وعلا هنا (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) ثم قال جلا وعلا (يَوْمَ لَا يُغْنِي) أي لا ينفع ولا يفيد( مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً) وكلمة مولا كلمة فضفاضة في اللغة لكن معناها هنا الحليم القريب الناصر المحب من يحب أن يأزرك قال الله جل وعلا ( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً) وكلمة شيئاً في القرآن إذا نكرت تدل على القلة قال الله جلا وعلا (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ 16] ( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً) من غنى ثم قال الله (وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) والنصرة أعظم من الغنى ثم قال الله جلا وعلا ( إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) فبقينا في ( إِلَّا) هنا هل هو استثناء متصل أو هو استثناء منقطع وفق قواعد اللغة والنحو تحتمل الآية الأمرين فإن قلنا إن الاستثناء متصل يصبح المعنى (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ) بمعنى إلا من رحم الله من الموالي فأولئك ينفع أحدهم أخاه , ويكون صورة ذلك بأن يأذن الله للشافع(40/7)
ويرضى عن المشفوع له فيكون هذا استثناء من الآية هذا على القول أن الاستثناء متصل . فإذا قلنا الاستثناء منقطع يصبح معنى الآية ( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) فتصبح ( إِلَّا ) معنى لكن فيكون المعنى يوم لا يغني مولاً عن مولاً شيئاً لكن من رحم الله ما التقدير لكن من رحم الله لا يحتاج إلى نصره لأن الله جل وعلا رحمه وأواه .إذا تدبر المؤمن هذه الآيات أغفل ما قاله النحاة وتكلم عنه البلاغيون لأن هذا ليس مقصوداً في الأصل إنما المقصود في الأصل أن يكون المعنى يتدبر الإنسان القرآن فينظر ماهي أسباب رحمة الله فالناس ليسُوا في حاجة العوام منهم على وجه الخصوص أن يبين لهم الاستثناء المنقطع من الاستثناء المتصل . لكن جميعاً نحن بحاجه إلى أن يفقه الإنسان ماهي أسباب رحمة الله _ لعل الله جلا وعلا أن يرحمنا _ يقول الله ( إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )
سنقف في بعض أسباب الرحمة جمله أولها وأعظمها واجلها:ـ
1/ استغفار الله جل وعلا فالاستغفار أعظم موجبات رحمة الله العزيز الغفار قال الله جلا وعلا على لسان نبيه صالح ( لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النمل : 46] وقد جاء في الأثر أن الله لما خلق آدم ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وامتنع إبليس عن السجود قال إبليس بعد حوار ( وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ) فقال رب العزة ذو الرحمة والجلال( وعزتي وجلالي لأغفرنَّ لهم ما استغفروا لي ) فالاستغفار من أعظم موجبات رحمة الله لأن فيه قرائن وبراهين على انكسار القلب بين يدي رب العالمين جلّ جلاله(40/8)
2/ من أسباب رحمة الله رحمتنا بمن حولنا. قال صلى الله عليه وسلم ( من لا يَرحم لا يُرحم ) وقال ( أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) ومن تأمل بعض الأحاديث النبوية لا في جانب الأمر بل في جانب النهي تبين لهُ كيف أن الإسلام على لسان نبية عظم مسألة الرحمة , ثبت في الصحيح في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن ضرب الوجه " فحتى الدواب نهى صلى الله عليه وسلم أن توسم في وجهها , وكذلك نهى صلى الله علية وسلم أن يضرب أحداً من الخلق في وجهه , شرع الإسلام لنا أن نأدب زوجاتنا إن لم ينفع معهنَّ الوعظ ولا هجر المضاجع ثم قال الله (واضْرِبُوهُنَّ ) واتفقت كلمة الفقهاء على أنه ضرب غير مبرح ولا يمكن أن يصيب الوجه أبداً وأولئك الذين يبحثون عن قوام الشخصية في ضرب نسائهم خاصة أولئك الذي يضرب أحدهم زوجتهُ أمام أبنائها وبناتها يريد أن يقيم بيتاً وهو في الحقيقة إنما يزرعُ في قلوب أبنائه وبناته غلّ وحقداً , إن ابناً رأى منظر كهذا من أبيه يصعب عليه إلا من رحم الله أن يترحم على أبيه بعد مماته لكن المؤمن العاقل الذي يعرف عناية الإسلام في جانب الرحمة يعرف أنه لا يمكن أن يقع منه أن يهين أحداً أمام من له في أعينهم نظر ومكانه , وإنما إذا ابتليت بشخص بين من يحبونه ويجلونه فأجلّه وأحبة لا يكن في قلبك أن تتشفى من مسلم وأن تريد أن تذلهُ وتهينه على مراء من الناس ..
نعود فنقول إن من أعظم أسباب موجبات رحمة الله رحمتنا بمن حولنا(40/9)
أرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء كما أن من موجبات رحمة الله ما أنتم فيه تقبل الله منا ومنكم قال صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة وأنزلت عليهم السكينه وذكرهم الله جل وعلا فيمن عنده " فتدارس القرآن من أعظم موجبات رحمة الرحيم الرحمن جلّ جلاله هذه من أسباب رحمة الله جل وعلا التي قال الله جل وعلا عنها جملةً (إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ) على أن أهل العلم من المفسرين يقولون جملةً إن السبب إلى وقوع رحمة الله ناجمُ عن مرضات الله جل وعلا عن عبده ولا يمكن أن ينال الإنسان نوالاً ولا يعطى شيئاً أعظم من حصوله على رضوان رب العزة و الجلال جلّ جلاله قال الله بعدها ( إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) في عرف أهل التفسير (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تسمى فاصله , والفاصلة لها أربعة أغراض , إما أن تأتي للتمكين فيكون ما قبلها من الآيات ممهداً لها قال الله جل وعلا ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) [الأحزاب : 25] فقول الله جل وعلا (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ...(40/10)
) كل ذلك ممهِد فجاءت آية أو فاصلة (وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) فقال أهل البلاغة هنا يراد بها التمكين وقد تأتي أحياناً فتسمى التوشيح فتكون مستسقاة من نفس الآية قال الله جل وعلا على لسان نوح ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) وقد تأتي بالمعنى لا باللفظ كما نحن فيه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) بعد قول الله جل وعلا (إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ) وخاتمتها تأتي للإيغال وهي الزيادة في المعنى فتحقق الفاصلة معنى زائداً لم يتحقق في صدر الأولى قال الله تبارك وتعالى (قل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) إلى هنا انتهى معنى الآية , فجاء قول الله جل وعلا (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا)ً [الإسراء : 88] ليسمى في عرف المعنيين بعلم التفسير يسمى إيغالاً أي أنّ الفاصلة زادت معنى لم يكن موجوداً في أصل الآية .
ومن الآيات التي سنشرع في بيانها قول الله جل وعلا (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً *و َقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً *و َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا) [الإسراء : 24](40/11)
صدر الله الآيات بالنهي عن الشرك فقال يخاطب نبيه (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ) والقعود شعور بالعجز الله يقول (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء) وقال (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) فعبّر بمن قعد عن الجهاد بأنهم قاعدون وكلها تشعر بالعجز فالله يقول لنبيه إن الشرك من أعظم أسباب الخسران في الدنيا والآخرة (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ) فلما نهى العلي الكبير نبيه عن الشرك أمره بالتوحيد فقال (و َقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) أي حكم ديناً وشرعاً وتعبداً لعباده وهذا من أعظم مطالب الله جلّ وعلا في خلقه ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : 56] ((و َقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) أسلوب حصر فإن العبادة لا يجوز بحال أبداً صرفها لغير الله تبارك وتعالى, ثم قرن جل وعلا حقه العظيم بأن ذكر بعده حق الوالدين فقال جل ذكره (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) ثم فصل وهذا يسمى في عرف البلاغيين استقصاء . ((40/12)
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) , فكلما عظم حاجتهما إلى الغير ازداد حق البر لهما (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) يختار المرء أطيب العبارات وأحسن الألفاظ وهو يخاطب والديه (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * و َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) الطائر إذا أراد أن يقع ويتخلى قليلاً عن كبرياء الطيران خفض جناحيه , وكذلك حال الولد البار ذكراً كان أو أنثى أمام أمه أو أبيه (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً *و َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا) [الإسراء : 24] قال العلماء كل من أسدى إليك تربيه تحقق عليك أن تبرهُ من حيث الإجمال كل من أسدى إليك نوعاً من التربية تحقق في شأنك أن تبرهُ , فالوالدان الأصل فيهما أن لهما الحق البر بمجرد أنهما والداك ويزداد حقهما تعظيماً إذا قدر لهما وهو الأصل أن يتوليا تربيتك فإن تولا تربيتك أحداً غيرهما أو كان لأحد لغيرهما شيئاً من التربية لك توجه وتقوى مسألة برك لهُ , قليلاً كان أو كثيراً قال الله جل وعلا (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا) لكن بني آدم يبقى ضعيف فأحياناً قد يكون للوالد أو الوالدة مطالب تعلم أنت أنك لو حققتهما لهما لكان ذلك سبباً في الضرر بهما فيبقى في نفسك أمور وأمور تتداول فتبقى على المنعطف الصحيح تغلب عقلك على عاطفتك كالأم تصاب بالوسوسة فتظن أن بها مساً وقد تحقق عندك أن لا مس بها لكنها تجبرك مابين الحين والآخر على أن تذهب بها إلى من يقرأ عليها وقد غلب على ظنك أنك لو ذهبت بها إلى(40/13)
زيد وعمرٍ من القراء لزدادت تعباً وعظم الوساوس في قلبها وأشتد الأمر عليها فتأنف وترفض أن تذهب بها وأنت بهذا تُخالف أمرها لكن لا تريد إلا الخير لها , فهنا لهذا وأمثالك يقول الله (بُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) ثم قال الله (إن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً) [الإسراء : 25] , كل الدين مرده على إصلاح القلب " ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" وفي الحديث " أن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن الله ينظر إلى قلوبكم " وفي دعاء إبراهيم (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : 89] من نفس هذا السياق القرآني يتبين للمرء أنهُ ما سعى في شأن أعظم من إصلاح قلبه وصلاح القلوب لهُ طرائق عده أعظمها تدبر القرآن و هو ما نحن فيه مع تلاوة القرآن والتأمل في هدي نبينا صلى الله عليه وسلم البعد عن حسد الناس وحمل الحقد والبغضاء لهم الإكثار من ذكر الله جل وعلا فإن الإكثار من ذكر الله حياة الضمائر وأنس السرائر وغيرها مما لا يخفى , والمقصود الإشارة من حيث الجملة , إلى أن صلاح القلوب بهِ يفوز الإنسان برضوان ربه ورحمته ويكون قريباً من دخول جنته .(40/14)
قال الله في سورة أخرى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً )كون أنبياء الله ورسله من نفس جنس الناس هذا يجعلهم أدعى لأن يقبل منهم وأنبياء الله ورسله ما كانوا يعيشون في منئاً بعيداً عن الناس وإنما كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وهذا مما اعترضت به الأمم عليهم , ومن كمال بشريتهم أن الله جعل لأولئك الرسل أزواجاً وجعل لهم ذريه , أزواج جمع زوج أي زوجه وجعل لهم ذريه وأنبياء الله ورسله جم غفير , فأما نوح فالمشهور أن له أربعه من الأبناء حامٌ وسامُ وكنعان ويافث أبناء نوح عليه الصلاة السلام والمؤرخون يقولون إن كنعان هو الذي غرق بالطوفان والثلاثة الباقون نجوا ويقولون إن يأجوج ومأجوج من نفس اليافث ابن نوح.(40/15)
إبراهيم عليه السلام المشهور عند المؤرخين عنهُ لم يرزق بنات وإنما رزق ذكوراً ولوط عليه الصلاة والسلام المشهور عند العلماء إنهُ لم يرزق ذكوراً وإنما رزق إناثاً والمشهور والمحفوظ أن عيسى عليه السلام لم يتزوج وأن نبينا صلى الله علية وسلم رزقه الله ذكراناً وإناثاً ست من خديجة وإبراهيم من ماريه وهؤلاء السبعة كلهم ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها فمات القاسم وعبد الله وزينب ورقيه وأم كلثوم وإبراهيم هؤلاء الست جميعاً في حياته صلوات الله وسلامة عليه وماتت ابنته فاطمة رضوان الله تعالى عليها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وكانت قد دخلت عليه في يوم وفاته فقال لها:" إنكِ سيدة نساء أهل الجنة وأنكِ أول أهلِ لحوقاً بي "وكانت عظيمة القدر عنده صلى الله عليه وسلم قال صلوات الله وسلامه عليه" إنما فاطمة بضعةً مني " صلوات الله وسلامة عليه المقصود من هذا إذا عرف الإنسان البشرية التي هم عليها من أنبياء الله ورسله شرع له بعد ذلك بأن يهتدي بهديهم ويقتفي أثارهم ويعلم أن الخير كله بإتباع ملتهم ونهج سننهم وهديهم عليهم الصلاة والسلام .حكى الله عن إسماعيل إنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان صادق الوعد , فأخبر الله عن سلوكه مع ربه وسلوكه مع الخلق فلما حافظ على الصلاة سهل علية بعد ذلك أن يحافظ على وعوده مع الخلق .فذكر الله أيوب وأخبر أنهُ أبتلاه وأنه بقي يحسن الظن بربه ويلجئ إلى مولاه حتى أنبأ الله تحت قدميه عيناً (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) [صـ : 42] , وحكى الله جل وعلا عن لوط أن قومه تأمروا عليه فقال عجلاً :( أوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : 80] ولقد كان يأوي إلى ركن شديد عليه الصلاة والسلام فطمأنته الملائكة (إنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ)(40/16)
وحكى الله جل وعلا عن داوود أنهُ كان يقوم الليل ويكثر من الصيام كما أخبر نبينا صلى الله علية وسلم . تنوع هديهم وتغير حالهم والأعراف التي نشئوا عليها واستعصموا واستمسكوا جميعاً بتوحيد الله يعبدون رباً واحداً لا إله إلا هو قال الله عنهم بعد أن ذكرهم جملة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون)ِ [المؤمنون : 52] ثم ختم الله النبوات وأتم الرسالات برسالة صفوة الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه .(40/17)
من الآيات التي أحسن تدبرها في مقاماً كهذا أن الله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين: ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) [الإسراء : 79] والمقام المحمود منزلة في عرف أهل الرياضيات لا تقبل القسمة على اثنين قال صلى الله عليه وسلم عن الوسيلة " إنها منزلة لا تكون إلا لعبدٍ صالح وأرجوا أكون أنا هو " فلما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم المطالب وأسمى الغايات أخبره بالطريق الأمثل والسبيل الأقوم للحصول عليه فدله جل وعلا على قيام الليل فقال جل ذكره وتباركت أسمائه ( وَمِنَ اللَّيْلِ) (ومن) هنا إما أن تكون بيانيه وهو قول فريق من العلماء وإما أن تكون بعضيه وهو الأغلب ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ) أي بالقرآن زيادة لك في الخير (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) قال العلماء إن من أنجح الطرائق لتحقيق الغايات والوصول إلى الأماني أن يقوم الإنسان بين يدي ربه يتهجد بين يديه ويسأل الله جل وعلا ويستعين بهِ ويسأله ويرجوه لأن الله قال (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) [الإسراء : 79] والبعث يطلق على الحياة بعد الموت فكأن تلك المنزلة التي وعدك الله بها أيها النبي الكريم لم تنلها بما لديك من مزايا وإنما هي هبه ربانيه ومنحه إلهيه لك كان أعظم سبب هيأك الله لهُ لأن تنالها أن منّ عليك بأنك تحسن القيام بين يديه تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها و أرضاها عائشة " أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليله فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه يقول في سجوده " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " قال الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ(40/18)
حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة : 128], هذا وصف عام لخلق نبينا صلى الله عليه وسلم وأنهُ عليه الصلاة والسلام جُبل على الرأفة والرحمة للخلق أجمعين ولهذا نعته ربه بقوله:" بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ", وقوله جل وعلا (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) يشعر الناس بقرب هذا النبي حساً ومعنى منهم وهذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامة عليه ترك هدياً عظيماً كما بيّنا آنفاً والعبرة كل العبرة في قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوه " التكاليف الشرعية أيها المبارك تنقسم إلى قسمين : أوامر ونواهي .(40/19)
فالحظ من الأوامر والنيل منها إنما يكون بقدر الاستطاعة فلا واجب مع العجز أما ما حرمة الله أو حرمة رسوله صلى الله عليه وسلم فليس لنا إلا الكف والانتهاء عنه أمراً واحداً , ولا يدخل حيز المراتب كما تدخله حيز الأوامر , اللهم إلا في المسائل الضرورات فهذه بينها أهل الفقه ولها أحكامها , لكن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهِ فقد يقدر عليه زيد ولا يقدر عليه عَمر فيندرج تحت قول الله جل وعلا (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) , أما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيبقى أن يكف الإنسان وينتهي عنهُ قولاً واحداً إلا كما قلت في حال الضرورات .والإنسان حتى يبني نفسهُ على هدي محمداً صلى الله عليه وسلم لابد أن له يستصحب أموراً عامةً من أهمها : أن يكون الإنسان حسن الظن بربه جل وعلا والأمر الثاني وهذا فصلنا فيه أكثر من موقف والأمر الثاني أن يكون الإنسان ذا حكمة ورويه فيما يقول ويفعل لا يقدم يُمناه حتى يجد موطن ليسراه ويعلم أن الكلمة قد تصلح اليوم ولا تصلح غدا وأن الإنسان العاقل يقتبس من سناء هدي نبيه صلى الله عليه وسلم كيف مضى صلى الله عليه وسلم في أيامه النضرة وسيرته العطرة في سبيل طرائق ذات حكمه تدل على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حلم وعلم قبل ذلك أدب جماً مع ربه ومع الناس صلوات الله وسلامه عليه.(40/20)
كما أن الإنسان وهو يبني نفسه لابد أن يكون هناك باعث في النفس ومن هنا يعلم المرء أن المسؤولية مسؤولية فرديه يوم القيامة وأنه ما حّك جلدك مثل ظفرك فتولى أنت جميع أمرك يقولون أن الإمام ابن حزم _ رحمة تعالى الله عليه _ دخل المسجد قبل أن يطلب العلم فلما دخل المسجد قبل أن يطلب العلم ليصلي على جنازة جلس فقال له أحد الحاضرين مؤنباً ما لك تجلس قم فصلي ركعتين تحية المسجد فقام فصلى ثم إنهُ علم أن هناك جنازةً في صلاة المغرب فتوجه إلى المسجد في وقت النهي فدخل وصلى فرأه أحد الناس فنهاه عن الصلاة في هذا الوقت فلما وجد التأنيب من رجلين هذا يأمره وهذا ينهاه وجد أنهُ اضطراراً بطلب العلم يرفع الجهل عن نفسه , فطلب العلم حتى عدّ إماماً عظيماً من أئمة الإسلام .قال العز بن عبد السلام _ رحمة الله عليه _ كتابان من حواهما وقرأهما وكان على منزلة عظيمةٍ في الذكاء حق لهُ أن يفتي , "المُغني" لابن قدامه و"المحلى" لابن حزم(40/21)
قال الإمام الذهبي رحمة الله تعالى عليه في الأعلام يزيد عليهما " وأنا أقول فإذا جمع الإنسان معهما" التمهيد " لابن عبد البر " والسنني الكبرى للبيهقي رحمة الله على الجميع وكان الرجل ذكياً وأدمن " وهذا لفظه " وأدمن المطالعة لهذه الكتب الأربعة أضحى عالماً فذاً من علماء المسلمين " موضوع الشاهد إن الإنسان ينظر في الآمال التي يبتغيها والمنازل التي يريد أن يصل إليها فيحسن الظن بربه ويصدق في توكله على خالقه ومولاه ثم مع ذلك يأخذ بالأسباب هذا الهدي الأقوم والطريق الأمثل الذي بينهُ صلى الله عليه وسلم لأمته ويندرج في قول الله جل وعلا (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [التوبة : 128] فإذا قدر للإنسان أن يبتلى بحساد يحاولون أن يمنعوهُ من الوصول إلى غايته أو مثبطون لا يريدون بهِ خيراً أو ضعفاء شخصيه يخافون الخوض في اللجج فهؤلاء يجب أن يتنحى الإنسان على أن يسمع لهم:
إذا غامرت في شرف مرومِ
فلا تقنع بما دون النجومِ
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهرِ(40/22)
ومن أعظم ما تنافس فيه الناس وبلغوا فيه أعظم الغايات الوصول إلى أرفع الدرجات في العلم لأن الله جل وعلا جعل العلماء شهوداً على أعظم مشهود قال الله جل وعلا (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : 18] في غمرة هذا وفي بحث الإنسان عن الشرف والمجد كما يكون هناك فئة تثبطك أو تحسدك أو تهون عزيمتك قد تأتي فئة تحاول أن تسلك بك طريقا أخر , فتقول لك أن طرائق المجد بأن تشهر السيف على المسلمين أو أن تخرج على ولاة أمرك أو أن تتبنى طرائق التكفير أو أضراب ذلك من دلائل الباطن ومن براهين الضلالة التي لا يشك مؤمنٌ متدبر بالقرآن فيها ودين الله بين الغالي فيه والمجافي عنه , ومن أراد الوصول إلى غاية شرعيه لا بد أن تكون المطية للوصول مطية شرعية , أي غاية شرعيه تكون صادقاً مع ربك في الوصول إليها لابد أن تكون المطية مطية شرعية وإلا فلا , فلا يمكن الوصول إلى غايات إلا بما أراد الله و أراد رسوله صلى الله عليه وسلم وإن أعظم دلائل الحق وأن لا يجاوز إيماننا حناجرنا :أن يطبق الإنسان كلام ربه وأن يستسقى العلم الحق من القرآن لا من الأناشيد وأن يأخذ الدين من هدي محمد صلى الله عليه وسلم لا من طرائق غيره وهذه منزلة تحتاج إلى قلب أسلم قلب حقاً لله ولم يغرره الهوى ولم تضلله الأماني ولم يسمع لكل ناعق ولكن من وطن نفسه على السمع والطاعة لما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ألبس ثوب الهداية وهدي إلى صراط مستقيم وكان يرى بنور الله كما في الحديث القدسي عن أولياء الله جل وعلا ( كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله الذي يمشي عليها ) يرزق للتوفيق أولياء الله ومن أولياء الله؟ المتشبثون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا أطلت الفتن وظهرت بوارق(40/23)
الكلم هنا وهناك لجئوا إلى كلام الله ثم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وتمسكوا بما عليه جماعة المسلمين كما أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم , أحاطت بالمؤمنين في المدينة الدوائر وحاصرهم جيش مسلم ابن عقبه المري وأرادوا بهم خزيا وعاراً فجمع الصحابي الجليل عبد الله ابن عمر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع القرآن وهو ينزل عليه واغترف من هديه وأخذ من مشكاته جمع بنيه وقال " إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خرج عن الإيمان قيد شبر مات ميتة جاهلية" فنقل إلى أبنائه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يطبق في أمور ويترك في أمور من أن نجعله هوى نقبله حيناً ونتركه أحياناً لكن المؤمن الحق الذي يريد ما عند الله يعلم أنه لا مطايا توصل لدخول الجنة إلا ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) فقال صلوات الله وسلامه عليه " من مات وليس في عنقه بيعه مات ميتة جاهلية" وقال وهو الصادق المصدوق المبلغ عن ربه " وأسمعوا وأطيعوا وإن تأمروا عليكم عبد" إلى غير ذلك من النصوص لا يمكن إزالتها عن مواطنها ولا أن تخرج عن موضعها ولا أن يقبل بشيء يصادمها إذا جاء سيل الله بطل سيل معطل كما هو مقرر في الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة. بقي أيها المؤمنون أن نأخذ آيةً نختم بها هذا اللقاء المبارك نعظ بها أنفسنا قبل غيرنا:
قال الله جل وعلا ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ *يصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ *وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ *ثم مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ* يوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(40/24)
قيل إن أبي حازم سأله أحد خلفاء بني أميه عن حاله فقال يا أمير المؤمنين اعرض نفسك على القرآن قال وأين أجد هذا قال في قول الله (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ *) يقول عمر" الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " ويقول :"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل "
والسير إلى الله سير كادح ذو مشقة قال الله (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : 4] وقال وهو أصدق القائلين ( ياَأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيه) [الانشقاق : 6] والوقوف بين يدي الله أمر وحتم لازم لا محيد عنه والسير على طريق الله يحتاج في أول الأمر وفي منتهاه إلى توفيق من الرب تبارك وتعالى وهذه بعض الوصايا فيما يعينك على أن تصل إلى ربك جل وعلا على النحو الذي أراد والوجه الأتم:
الأمر الأول / لا تقدم على رضوان الله جل وعلا رضوان أحد كائناً من كان فالله جل وعلا ( َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى : 11](40/25)
الأمر الثاني / كل شيء أمر الله بالمسابقة إليه فسابق فيه فإن الله لا يدلك إلا لخير ولا يحثك إلا على ما يقربك إليه لكن أفعلهُ وأنت محتسب لما تصنع وأنت تسير الخطوات إلى المساجد تذكر يوم يسير الخلق إلى ربهم جل وعلا وأنت تمشي في الظلمات تذكر يوم تعطى النور التام برحمة الله يوم القيامة وأنت تقف بين يدي الله في المسجد تأكد أن هناك ساعة ويوماً ستقف فيه بين يدي الله يوم العرض الأكبر وأنت تركع لربك وتسجد المنة لله عليك أن جعلك تركع له وتسجد وليس لك المنة على الله وأعلم يا أخي أنهُ كم لله من عبد صالح في السماوات والأرض خاضع لربه وليس لك أنت وأنت راكع وساجد لا أحد يجيرك ولا يعينك ولا يهديك إلا ربك تبارك وتعالى قل في سجودك وأنت تسجد " اللهم كم من عبد صالح لك في السماء و الأرض يسجد لك ويرجوك ويعبدك وليس لي رب غيرك ولا إله سواك أسأله وأرجوه "
فإذا أظهرت لله فقرك وحاجتك وإلحاحك على ربك رأيت من الله جل وعلا فضلاً كبيراً.
الوصية الرابعة /(40/26)
كل من استدام على أمر في الغالب أنه يموت عليه كل من استدام على طاعة في الغالب أنه يموت عليها وهذا ما يسمى بحسن الخواتيم والناس إذا رأوا زيداً أو عِمراً من الناس على طاعة ظنوا به خيراً وإن رأوه على معصية ظنوا به سوءً , والله وحده من يعلم وحده ما في سريره هذا العبد , والله لا يظلم أحداً مثقال ذرة فيكافئه جل وعلا بأن يميتهُ على نحو إن كان ذا سريرة حسنة يكون حسن اللقاء بربه جل وعلا فيقبل على الله تبارك وتعالى في لحظات يكون فيها قريباً من ربه , ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه , على أن الإنسان يحتاط لنفسه وهو يرى خواتيم الخلق فإنك لا تدري ولو رأيت ظاهر الأمر أنه حسن أو ظاهر الأمر أنه سيئ تبقى شهادتك معلقه بما ترى أما السرائر فأمرها إلى الله فسأذكر لك خبراً افتراضياً في أن السرائر ولو انتهت بالخواتيم لا يعلمها إلا الله وفي بعض أحوال الناس التي تقع وإن كانت أموراً قد يأنف منها أهل العلم البلاغة لكن قد يكون فيها إظهار لما يمكن أن يطوى عن الإنسان من خبر .(40/27)
أعرف رجلاً خرج ذات مرة مع قرابة له منهم بعض أيتام فوصل إلى منطقه سياحية في بلادنا إلى ما يسمى بالتلفريك وهو يأنف أن يركبهُ أو أن يحمل عليه لكن من حوله من الصغار أصروا عليه أن يكونوا معهم فأراد أن يجبر لهم كسراً فركب معهم وهو أصلاً لا يحب المواطن العالية وفي نفس الوقت أراد أن يتعبد الله في هذا المكان فصلى ركعتين منذ أن ركب إلى أن نزل أين موضع الشاهد في القصة الرجل لم يمت أعرفه إلى الآن حي يرزق أين موضع الشاهد من القصة هذا يعلمك ويؤدبك إن كنت تعقل وأنت تعقل كيف يؤدبك ويعلمك هذا الرجل عندما ركب إلى أن نزل وهو يصلي فلو قدرنا فرضاً أن هذا المركب سقط وغالب الظن أن من يسقط من هذا العلو يموت بالله عليك ماذا سيقول الناس سيقولون أن فلاناً مات في حديقة ملهى سقط من مركب كذا وكذا ومات لأن أحد من الناس لا يعلم ولا يدري أنه كان يصلي الآن تأمل كم من عبد صالحٍ مات وأنت تسيء به الظن وهو عند الله حسن وهذا يعلمك أن العبرة كل العبرة بسريرتك مع الله جل وعلا ولهذا قال الله ( يوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) ومن هنا تعلم إن من رحمة الله أن الله لم يجعل الجنة بيد أحد من خلقه .(40/28)
على هذا أيها المبارك وهذا تيسير لمفاهيم الدين إذا عملت العمل واجتهدت كثيراً أن يكون لله فلا تبالي بأي أحد من الخلق علمه أو لم يعلمه لأن الذي وحده يقدر على أن يكافئك علمه وكفى بعلم الله علماً وكفى بثواب الله ثواباً فبالله عليك رجل صلى ركعتين فعلم الله منهُ صدق نيته وأعد الله له بهذا نزلاً عظيماً في جنته ما الذي ينفعه الناس لو علموا عنهُ ذلك لم ينفعوه بشيء فخير لهُ أن لا يعلم الناس عنه لكن المثل الذي قلته في الأول أردت به شيئاً واحداً أن لا يكون في لسانك مسارعة إلى القدح في الناس على أي حال رأيتها إنما ترجوا لمن غلبة عليه الطاعة الجنة ولمن غلبة عليه المعصية تخشى عليه من النار , أما الخلق فسرائرهم إلى رب العزة والجلال (إناإِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) الله جل وعلا وحده يتولى محاسبة خلقه وهو القيوم عليهم تبارك وتعالى وكلهم فقراء إليك فحسبك أيها المبارك أن توطن نفسك أن لا تقدح في أحد وعلى أن توطن نفسك على أن تكثر من أعمال السرائر التي هي خافيه على الناس وهي عند الله ظاهره فالله لا رب غيره ولا إله سواه القلوب لهُ مفضية والسر عنده علانية وحده تبارك وتعالى يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله , وحتى تكون هناك أعمال سرائر في الخلاء لابد أن يكون في القلب تعظيم لرب العزة والجلال لابد أن يكون هناك علم بالله جل وعلا وهذا ينجم عن تدبر القرآن وتلاوة آياته والله يقول ( لايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) فكلما تذكر الإنسان سعة رحمة الله ازداد أملاً في دخول جنة وكلما تذكر الإنسان عظيم قدرت الله وان له مواطن سخط وغضب خاف من ناره(40/29)
فإذا تذكر ما لله من صفات الجلال والجمال والكمال زاد حباً على ربه تبارك وتعالى ومن جمع هذه الثلاث حب الله والخوف منه والرجاء فيما عندهُ وفق إلى صراط مستقيم.
هذه أيها المؤمنون شذرات من تأملات ومتفرقات من مواعظ قلتها على عجل والله وحده المسؤول أن ينفع بها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد أنه سميع الدعاء وصلى الله وسلم على آله.
أختكم
مساعي الخير(40/30)
شوقي وحافظ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فموضوع حلقة هذا اليوم من برنامجنا مجمع البحرين هو" شوقي وحافظ " وقد يظهر بادي الرأي لأول مرة أن في هذا العنوان خروج عن النص ذلك أن الأعلام التي اخترناها سابقا إنما كانت غالبا ذات صبغة شرعية في الغالب لكننا قلنا في هذا البرنامج إنه برنامج موسوعي والمقصود منه الإثراء العام شرعيا وثقافيا وأدبيا وغير ذلك،
ـ من شوقي وحافظ ؟(41/1)
معلوم أن الشعر العربي هو ديوان العرب وقد عنيا العرب بشعرهم أيما عناية وعرف الناس المعلقات وزعم بعضهم أنها كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على الكعبة كما أن العرب بعد ذلك جاء الإسلام فهذب كثيرا من صفاتهم وانقلب هذا التهذيب شمل حتى عالم الشعر وعالم النثر، الذي يعنينا كان شعر حسان مهذبا غير الذي كان يقوله في الجاهلية وجاء العصر الأموي ثم العباسي وهناك عند الأمويين والعباسيين كان للشعر منزلته الكبيرة وكان هناك الشعراء الفحول الذين أثروا الساحة الأدبية في عصرها ثم الانحطاط السياسي التي مرت به الأمة نجم عن ذلك حتى في عالم الأدب شئ من الرقاد حتى كان العصر الحديث فكان محمود سامي البارودي الشاعر المصري المعروف الذي يطلق عليه المعنيون بالأدب يطلقون عليه أنه رائد مدرسة الإحياء وينسبون إليه أنه أحيا الشعر العربي من مرقده ومحمود سامي البارودي أديب مصري كان يعمل عسكريا نفي إلى سرنديب وإلى غيرها وله دور كبير في بعث الشعر من مرقده نتيجة أنه كان قد اطلع على كثير من شعر السابقين خاصة العباسيون منهم ثم حاكاها وقلدها ثم ارتقى بالأدب العربي كله فقاد مايسمى بمدرسة الإحياء من تلاميذ البارودي في مدرسته الشاملة شوقي وحافظ رحمة الله تعالى عليهما وهما علمان شهيران من أعلام الشعر العربي المعاصر بلا شك، أما شوقي فاسمه أحمد شوقي وأما حافظ فاسمه حافظ إبراهيم وكلاهما كان له حظ كبير من الشهرة في عالم الشعر وهذا اللقاء نقف عند بعض شعرهما معلقين قدر الإمكان دينيا وشرعيا وثقافيا وعقديا كما قلت .(41/2)
ـ شوقي رحمه الله عاش حياة الثراء منذ أن ولد ولد في قصر الخديوي إسماعيل وكان يقولون أنه لما ولد كان بصره شاخصا إلى السماء إلى أعلى فجاء الخديوي بالذهب بالدنانير وكان يضعها بين يديه يعبث يلعب بها فاضطره هذا إلى أن يحدق بها هذا التحديق جعل بصره يشخص إلى الأرض فبرئ من تلك العاهة التي كانت فيه أول ماولد تقلب في الثراء حتى في أيام نفيه نفي إلى الأندلس إلى أسبانيا وكان محل حفاوة كثير من الناس فلما عاد إلى مصر :
ويا وطني لقيتك بعد يأس **** كأني قد لقيت بك الشبابا
زادت حفاوة الناس به وكان شعره وصيته قد ذاع في العالم العربي كله زار سوريا ولبنان واحتفوا به أيما احتفال وبويع بأمارة الشعر وقلما أن يوجد إنسان يتفق أقرانه عليه وأهل عصره وهو حي فإن نحن نرى الناس يحتفون بالإنسان بعد موته هذا مشهور فكثير عندما يموت منا عالم أو أديب أو فقيه أو واعظ أو أحد المشاهير في الخير يسمى بعض الأحياء باسمه أو بعض الشوارع أو بعض المكتبات أو بعض الصالات الثقافية هذا يقع لكثير لكنه يقع بعد الموت أما شوقي فقد نال المجد كله وهو حي ينظر إلى مجد رزقه الله جل وعلا إياه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فبويع بأمارة الشعر في حفل أقيم له وكان من أول المبايعين له قرينه ومعاصره حافظ إبراهيم:
أمير القوافي قد أتيت مبايعًا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
هذا حافظ يقول في مدح شوقي ، شوقي حياة الترف هذه جعلته ـ عفا الله عنا وعنه ـ يميل إلى الخمرة كثيرا وقد ذكرها في شعره ويقول:
حَفَّ كَأسَها الحَبَبُ *** فَهيَ فِضَّةٌ ذَهَبُ
رمضان ولى هاتها ياساقي ****مشتاقة تسعى إلى مشتاقي(41/3)
ورغم هذا الزلل العظيم في حياته إلا أن للرجل مناقب عظيمة في الإسلام مناقب عظيمة في الذود عن الإسلام فقد تغنى بأمجاد المسلمين أكثر من مدح النبي صلى الله عليه وسلم نشر الحكمة والخلق العظيم على لسانه رغم أنه لم يكن متقيدا به كما ينبغي كما بينا في حرصه على شرب الخمر المهم في حياته جملة أنه عاش حياة الثراء حتى مات ولو قدر أن أحد يكتب له أنه حصل من الدنيا على مايشتهيه لقلنا إن شوقي واحدا من أولئك بلاريب .
ـ أما حافظ: كان على النقيض فإنه وإن ذاع شعره وكان له صيته في عالم الأدب إلا أنه في عالم الحياة الاجتماعية لم يكن ذلك الثري ولا ذلك الغني وإنما تقلد مناصب ليست بتلك المناصب التي يمكن أن يتقلدها إنسان في شهرة حافظ لكنها مناصب كان يعمل في البريد عمل في وزارة المعارف سلفا من الزمن لكنه لم يكن ذلك الرجل الوجيه اجتماعيا في ثراء كما كان شوقي على النقيض منه ولذلك انعكس هذا على شعره فجاء في شعره تجربة حياة البؤساء وأنة حياة الضعفاء نقول : الناس اليوم يحفظون لشوقي ولحافظ الكثير من الأبيات ....مثلا
الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعباَ طيب الأعراق
هذا من غرر قول حافظ ، ويحفظون :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** إذ همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
هذا لشوقي ،ويحفظون :
دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحياة دقائق وثوان
هذا لشوقي
ـ مما وفق فيه شوقي ووفق فيه حافظ مايلي :
وفق شوقي في المدائح النبوية في مدحه للنبي صلى الله عليه وسلم أيما توفيق وتوفيقه ناجم من أمرين:(41/4)
1/ أن بعض الشعراء ـ عياذا بالله ـ لم يكن في شعره على كثرته وشهرته مدح للنبي صلى الله عليه وسلم مثلا كالشاعر العربي الكبير المتنبي ليس في ديوان المتنبي كله بيت شعر واحد يمدح فيه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو المحروم الخاسر أما شوقي فقد وفق بأنه نظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كونه عليه السلام جامعا لكثير من الأخلاق الكريمة بل لكل الأخلاق يقول شوقي في مدح النبي:
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا ملكت النفس قمت ببرها ***ولو أن ما ملكت يداك الشاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته *** فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما ***جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا بنيت فخير زوج عشرة *** وإذا ابتنيت فدونك الأبناء
وإذا حميت الماء لم يورد ولو *** أن القياصر والملوك ظماء
انصفت أهل الفقر من أهل الغنى*** فالكل في دين الإله سواء
لو إنسانا تخير ملة ***ما اختار إلا دينك الفقراء
فهو نظر إلى الشخصية النبوية على أنها شخصية متكاملة في البيت كزوج كوالد كجد كقائد كسياسي كرحيم كصاحب كمخالط لغيره هذه النظرة قلما أن يبصر إليها أحد فبصر الله جل وعلا شوقي إليها ثم صاغها شوقي شعرا سلساً كما سمعت وله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته البائية :
سلوا قلبي غداة سلا و ثابا***لعل على الجمال له عتابا
ويسأل في الحوادث ذو صواب ***فهل ترك الجمال له صوابا
ولي بين الضلوع دم ولحم ***هما الواهي الذي ثكل الشبابا
وكنت إذا سألت القلب يوما****تولى الدمع عن قلبي الجوابا
أبا الزهراء قد جاوزت قدري *** بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان*** إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدراً ***فلما مدحتك اجتزت السحابا
ـ أين الخلل في شوقي ؟(41/5)
الخلل في شوقي أنه أحيانا يجامل زيادة عن الحد فيقع ـ والعياذ بالله ـ في هفوة شرعية لا تغتفر لا تغتفر ليس المعنى أن الله لا يغفرها لكن معنى أنها عظيمة جدا والمقصود والدليل على ذلك مثلا كان مصطفى كامل زعيم حزب التحرير في مصر خطيبا مفوها ومات وهو في الثالثة والثلاثين تقريبا إن لم أنسى في مرض السرطان فكان معارضا للقصر وكان شوقي له علاقة وطيدة بمصطفى هذا كما كان له علاقة بالقصر لأنه ولد فيه كما بينا ويقول شوقي:
أأخون إسماعيل في أبنائه ** وقد ولدت بدار إسماعيل
أي أنه وفي للقصر ففي الفترة التي كان فيها مصطفى حيا لم يكن شوقي يستطيع أن يواليه في شعره فلما مات مصطفى كامل أراد شوقي أن يعوضه مابخل به من شعره في حياته وهو يعلم أنه مادام قد مات فإن القائمين على القصر لن يغضبوا من شوقي عندما يرثي مصطفى كامل لكنه عندما رثاه تجاوز فيه الحد تجاوز في الحد الشرعي يقول في نونية له يرثي فيها مصطفى كامل أذكر الأبيات التي لا يجوز الاتفاق على صحة معناها يقول :
لو كان في الذكر الحكيم بقية *** لم تأتي بعد رفيت في القرآن
وقد نقول أنه قال لو لكن ختم القصيدة بقوله:
مصر الأسيفه ريفها وصعيدها *** قبر أبر على عظامك حاني
أقسمت أنك في التراب طهارة *** ملك يهاب سؤاله الملكان
وهذا لا يقبل لا من شوقي ولا من غيره وإنما ذكرته لأننا هنا في لقاء علمي نذكر فيه مالرجل وما على الرجل كذلك غلب شوقي في حادثة جنشواي وهي حادثة وقعت في إحدى قرى مصر فأعدم الإنجليز من خلالها بعض إخواننا المصريين فثارت ثورة المصريين الأحرار في كل أنحاء مصر نجم عن ذلك أن الناس كانوا يترقبوا من شوقي أن يقول شعرا ينصربه أهل قرية جنشواي لكن شوقي خذلهم خوفا من القصر ثم بعد عام تذكرهم فقال :
يا جنشوايا على رباك سلام ** ذهبت بأنس ربوعك الأيام
مرت عليهم في اللحود أهلة ** ومضى عليهم في القيود العام(41/6)
فبعد عام كامل تذكرهم في حين أن حافظ كان..... الوطني لديه أقوى فقال قصائد وقت الحادثة مما جعل بعض المصريين يفضلونه على شوقي على الأقل في هذا الجانب .
ـ أما حافظ : فقد قلنا إنه لم يكن يعيش حياة الثراء التي عاشها شوقي نجم عن ذلك أن شعره كان مغلفا بالمأساة وزار مصر وزار سوريا وزار لبنان هو مصري أصلا لكنه لم يلقى من الحفاوة مالقيه شوقي وقلنا إن هذا شيء إن جاء شيء من عند الله وإن كان قد احتظى به بعض الشيء من غرر قصائد حافظ العمرية وهي قصيدة في مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه تتجاوز المائتين بيت وهذه القصيدة أقيم حفل خاص بها في مبنى وزارة المعارف في القاهرة فألقى حافظ قصيدته وكان الذي يغلب به حافظ على شوقي أن شوقي كان خجولا لم ينقل أبدا أنه كان يقرأ شعره بنفسه في حين أن حافظ كان يقول شعره بنفسه في حين أن حافظ كان يقول شعره بنفسه وكان لديه قدرة في الإلقاء لا توجد عند شوقي هذه القصيدة طويلة جدا أولها:
حسب القوافي و حسبي حين ألقيها **** أني إلى ساحة الفاروق أهديها
لاهم هب لي بيانا أستعين به **** على قضاء حقوق نام قاضيها
ـ سنقف عند حادثتين تكلم فيهما حافظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه:
الحادثة الأولى: مايقوله المؤرخون من أن رسول كسرى دخل المدينة يبحث عن عمر ومعه رسالة من كسرى فأخذ يسأل أين أمير المؤمنين؟ أين أمير المؤمنين ؟ وهو يعتقد أن الأمر في المدينة كالأمر في فارس لكن الناس كان يقولون له مر من هنا لقيناه قبل قليل كأني رأيته فأخذ يهول في عيني رسول كسرى هيبة عمر تدريجيا حتى قيل له قد مر خلف هذه الناحية فاتجه فإذا بعمر قد اضطجع تحت ظل شجرة نائما في بردة خرقة فقال الكلمة المشهورة " حكمت فعدلت فأمنت فنمت ياعمر " وكل واحده معلقه بالثانية من الوازم فلما قالها هذه المقولة قالها رسول كسرى نثرا قال حافظ:(41/7)
وراع صاحب كسرى أن رأى عمرا *** بين الرعية عطلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها *** سورا من الجند والأحراس تحميها
في جبة تحت ظل الدوح مشتملا***بجبة كاد طول العهد يبليها
فهان في عينه ما كان يكبره *** من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلا *** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم *** فنمت نوم قرير العين هانيها
فانظر تلك الكلمات الموجزات التي قالها رسول كسرى كيف أحالها حافظ بفصاحته إلى رونق الشعر
ثم إن المؤرخين كذلك يقولون وكتاب التراجم يقولون إن أمير المؤمنين رضي الله عنه تجول في المدينة ذات يوم ووجد حائطا خلف الحائط فتية من الأنصار يتنابون الراح الراح يعني الخمر يشربونها فتسور السور ودخل عليهم يفاجئهم بصنيعهم قالوا يا أمير المؤمنين هب أننا جئنا بواحدة وهي شرب الخمر لكنك أتيت بثلاث تجسست علينا والله يقول { وَلَا تَجَسَّسُوا } أتيت علينا من أعلى السور والله يقول { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } لم تستأذن والله يقول { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا }أي تستأذنوا { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } أكبرهم عمر أكبر جوابهم لأنه مستند إلى القرآن ورجع، قال حافظ يصور هذا الموقف التاريخي:
وفتية ولعوا بالراح فانتبذوا***لهم مكانا وجدوا في تعاطيها
ظهرت حائطهم لما علمت بهم ***والليل معتكر الأرجاء ساجيها
قالوا مكانك قد جئنا بواحدة***وجئتنا بثلاث لا تباليها
فأت البيوت من الأبواب يا عمر***فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت***بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم ***لما رأيت كتاب الله يمليها
وما أنفت وإن كانوا على حرج ***من أن يحجك بالآيات عاصيها(41/8)
فكما صنع في الأولى حافظ صنع في الثانية في أنه جعل ذلك الموقف التاريخي الذي نقرأه سردا جعله قمة في البيان وروعة في السلسبيل يسمعها الإنسان فيطرب لها ويتغنى بها لأنها تحكي أمجادا إسلامية هي عمرية أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وليس هذا فقط مما يستجاب لحافظ فله أبيات غرر منها الآن الناس عندما يستقطبون أجنبيا غربيا يفضلونه على أبناء جلدته سواء في عالم الثقافة أو في عالم الرياضة أو في أي فن وهذا مايسمى عند الناس اليوم عقدة الأجنبي هذه تنبه لها حافظ من قديم قال يصف هذه الأمة اعتبر أنها عقد عربية:
أمة قد بث في ساعدها *** بغضها الأهل وحب الغرباء
ـ نعود لشوقي والحديث أدبي ذو شجون نقول :
إن شوقي له أبيات في معان جلية فقد رفع شأن المعلم كما رفع الله أهل العلم فقال شوقي رحمه الله في لامية شهيرة عورضت بعد ذلك كما سيأتي قال:
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا .*.*.*. كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
==
أرأيت أعظم أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي .*.*.*. يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
==
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ .*.*.*. عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
==
أرسلت بالتوراة موسى مرشدا.*.*.*.وابن البتول فعلم الإنجيلا
=
وفجرت ينبوع البيان محمدا.*.*.*.فتق الحديث وناول التنزيلا
ومنها بيته الشهير:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليلا
فأصاب في الدنيا الحكيمة منهما*** وبحسن تربية الزمان بديلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له***أماً تخلت أوأباً مشغولا
فهذا من غرر قول شوقي وهذه القصيدة كما هو معلوم عارضها شاعر فلسطيني اسمه إبراهيم طوقان كان قد جرب التعليم أضحى معلما ورأى أن مايقوله شوقي شئ من المثاليات لا يصدق في عالم الواقع فقال:
شوقي يقول – وما درى بمصيبتي *** قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلا *** من كان للنشء الصغار خليلا؟(41/9)
ويكاد يقتلني الأمير بقوله *** كاد المعلم أن يكون رسولا!
حسب المعلم غمة وكآبةً *** مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا
مئة على مئة إذا هي صلحت *** وجد العمى نحو العيون سبيلا
ثم يذكر كيف أنه يقيم الطالب ويشرح له :
وأكاد أبعث سيبويه من الجلا *** وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى ـ وقال كلمة نابية أنزه نفسي وعنكم عنها فأرى كذا فأرى أنزه نفسي وسمعكم عنها يقدح فيه ويقول إنه يرى بعد ذلك من رفع المضاف والمفعولا يقصد أنه خرج عن نطاق النحويين خرج عن نطاق سلامة اللسان من اللحن بعد أن كان قد بين له مااستطاع سبيلا إلى ذلك ثم قال يختم أبياته
اقعد فديتك هل يكون مبجلا *** من كان للنشء الصغار خليلا؟
يا من يريد الانتحار وجدته *** إن المعلم لا يعيش طويلا
المقصود من هذه الجولة الأدبية العلمية معكم معشر الكرام أن نبين أمورا على وجه الإجمال:
الله جل وعلا يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويقبض ويبسط والإنسان العاقل إذا رأى أن الله من على أقرانه بشيء لم يمن به عليه لا يحسدهم على ماآتاهم الله من فضله وإنما يسأل الله من فضله وأن يعلم الإنسان ماكتب له سيأتيه على ضعفه ومالم يكتب له لن يناله ولو بقوته وأحيانا يجعل الله فيما تظنه منفعة يجعله الله مهلكة وما نظنه مهلكة يجعله الله جل وعلا منفعة فالأمور جملة من هذه الحادثة وغيرها تدبر في الملكوت الأعلى ولا تدبر في الملكوت الأرض.
وأختم بقصة بما أننا في عالم الأدب في عالم السياسة:(41/10)
المنتخبات الأمريكية تقوم في بعض جزئياتها على أن المرشحين للرياسة بينهما مناظرة كما هو معروف أول ماوقعت هذه المناظرة وقعت بين نيكسن ومرشح آخر المرشح الآخر اجتهد في أن يرتاح كثيرا قبل المناظرة في حين أن نيكسن كان يبحث عن أعماله يسعى هنا وهناك حتى قبل المناظرة بقليل فقبل المحاضرة بقليل حتى يظهر على الشاشات وكانت تلك أول مرة ينقل فيها انتخابات الرياسة الأمريكية في التلفاز فوضع بعض المساحيق على وجه حتى يبدو في صورة أحسن لكن لأنه لم يصنع ذلك إلا قبل التصوير بقليل وكان نيكسن أفصح من المعارض له من المرشح الآخر كانت الكاميرا تذيب المساحيق التي على وجهه فلما تذيب يظنه الناس أنه مرتبك وأن هذا عرق فانقلب الذي كان يعتقد أنه نفع انقلب إلى مضره والناس الذي كانوا يشاهدون المناظرة أو يستمعون إليها في المذياع اختلفوا اختلافا جذريا فالذين يستمعون في المذياع لا يرون تلك المساحيق التي تذاب على وجه الرئيس الأمريكي وكانوا يسمعون فقط فصاحته وبيانه وعجز خصمه فأسهموا في ترشيحه لكن أكثر الناس كانوا يرونها في التلفاز فنسوا فصاحته مع ما يرونه من تسلط الكاميرا عليه وذوبان ذلك المساحيق على وجه فما فعله قبل أيام ومساحيق حتى ينتصر كان هو سبب خسارته وهذه جزئيه بسيطة تجعلنا نؤمن أن الإنسان يتدبر ما حوله يتفكر فيما يكون عندما يقرأ كتب التراجم في عالم الأدب في عالم الفكر في عالم الشرع في أي عالم كان من حولنا نقرأه ونحن نتدبره أن ثمة رب لا رب غيره ولا إله سواه هو وحده ولي نعمتنا وملاذنا عند كربتنا بلغنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا بما علمنا وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين،،،
تم بحمد الله
***المخبتات***(41/11)
( طبت حياً وميتاً : للشيخ صالح بن عواد المغامسي )
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركا فيه ... كما يحب ربنا ويرضى ... واشهد ان لااله الا الله وحده لاشريك له ... شعار ودثار ولواء أهل التقوى .. واشهد ان سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبيُ سلم الحجر عليه ونبع الماء من بين إصبعيه وحن الجذع إليه .. فصلى الله وسلم وبارك وانعم عليه اللهم وعلى اله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان الى يوم الدين .. أما بعد...
أيها الاخوه المومنون ... فإن المتصدر لتدريس شخصيه ما وذكر أحوالها ومناقبها وما آلت إليه وما قدمته للناس يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينه من أمرهم في الصواب والخطاء والهداية والضلالة والسداد وعدم التوفيق .. لكن الذي يريد ان يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فليس عليه الا ان يطاطاء رأسه ويخشع قلبه وتسكن جوارحه .. اذا انه يتحدث عن رحمه مهداه ونعمه مسداه عن سيد البشر وخيره خلق الله وصفوتهم عن رسول الهدى ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وينبغي ان يعلم في أول الأمر ان السيرة واحده لاتزويد ولا تنقص فلا يستطيع احد ان يزيد شيئاً لم يثبت فيها ولا يستطيع احد ان ينقص شيئاً مما ثبت فيها لكن المسلمين في استسقاهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواراتهم ومناهلهم ومصادرهم فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون وينهل القادة ويغترف السياسة وينال العلماء ويبحث الفقهاء وبجد كل مراء له حظا من سيرته صلى الله عليه وسلم والأمر كما قيل :-
وكلهم من رسول الله ملتمسُ
غرف من البحر أورشف من الديم
صلوات الله وسلامه عليه(42/1)
ثم إني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد ان تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم والوجه الأكمل على مايسعى الإنسان ان ينال به رضوان الله ثم نفع إخوانه المسلمين فبدى لي والإنسان ناقص مهما سعى الى الكمال ان عرض السيرة إجمالاً من الميلاد الى الوفاة والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر الى فقه سيره رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل والنحو الأتم ...(42/2)
نبنا محمد صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة الكاملة والاحتفاء التام من ربه جل جلاله وحفاوة الله بانبياءه سنه ماضيه قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي انه كان بي حفيا ) وقال الله جل وعلا في حق موسى ( واصطنعتك لنفسي ) وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل الحفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل يقول صلوات الله وسلامه عليه (إني لعند الله لخاتم النبيين ان ادم المجندل في طينته ) ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين اخذ الله جل وعلا الميثاق ان اذا بُعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون ان يصدقون ويؤمنوا به ( وإذا اخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمه ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ااقررتم واتخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ثم كانت دعوه ابيه إبراهيم عندما وقف عند البيت ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة انك أنت العزيز الحكيم ) ثم كانت بشارة عيسى ( ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدِ اسمه احمد ) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( انا دعوه أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى ورويا أمي حين رأت ان نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام ) وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه انه صلى الله عليه وسلم قال ( انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب خلق الله الخلق فجعلني في خير فرقه ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقه , ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة , ثم جعلهم بيوتاً فجعلني خيرهم بيتاً , فانا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً ) صلوات الله وسلامه عليه(42/3)
هذا كله قبل ولادته صلى الله عليه وسلم فلما أراد الله جل وعلا ان يولد في العام الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على شيئاً ما سيقع وان حدث عظيم سيكون فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزء فيه ابرهه بيت الله العتيق وأب من ذلك الغزو خائباً خاسراً كما هو معروف ككل احد ..
ولد صلى الله عليه وسلم يتيم الأب اختلف العلماء هل مات قبل ولادته او بعده والأرجح الأول .. ثم ان الله جل وعلا أرد ان يبين لسائر الناس ان محمد بن عبد الله لم يكن يوماً تلميذا لشيخ ولا طالب في مدرسه ولا ربيباً لأبوين وانما تولته عناية الله في أصلاب الرجال وأرحام النساء ثم بعد الولادة الى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم , ثم توفيت أمه وهو صغير لم يبلغ ست من الأعوام وعاش طفولته بعيداً عن أسرته في بادية بني سعد حتى لا يقولون بعد ذلك ان رجل او شخصيه ما تولت رعايته وكونت شخصيته وألهمته الدروس وأعطته العبر وعلمته الكتاب ( وما كنت تتلوا من قبله كتاب ولا تخطه بيمينك اذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهيه وفضل رباني محض ليس لأحد من البشر كائن من كان فيه حظ او نصيب ....
عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته , ثم عاد الى مكة فكفله جده عبد المطلب ثم مالبث ان توفي ذلك الجد ثم كفله عمه أبو طالب ولم يكن دور أبو طالب أكثر من راعي معيشي له صلى الله عليه وسلم , فلم يكن لدى أبي طالب حض من علم او أثره من كتاب يسقي من خلالهما او ينهل من خلالهما رسولنا صلى الله عليه وسلم حتى تكونت شخصيته فنشاء بعيداً عما عليه قومه ...(42/4)
وكذلك العاقل اذا رأى مجتمعات الفساد وأوديه الظلاله ومنتجعات الغواة ... نأى بنفسه عنها ولو عاش وحيداً قال الله جل وعلا ( فلم اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبيا ) فالبعد عن أهل الغواية الفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح .. أول طرائق النجاح ...(42/5)
لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير فشهد حلف الفضول وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجيا شيئاً فشيئاً من غير ان يعلم صلى الله عليه وسلم فلم يحدث نفسه ذات يوم انه سيكون نبياً لأنه لاعلم له بذلك أصلاً , لكنه صلى الله عليه وسلم كان يرى رؤيا ... ولا يرى رؤيا الا واتى مثل فلق الصبح حاضرة ناصحه كما رآها في منامه حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فيسلم عليه الحجارة :- سلام عليك يانبي الله , فيلتفت يمينا وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً فيسكت ويبقى على حاله حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد ثم انه صلى الله عليه وسلم في ليله الواحد والعشرين من شهر رمضان على الأرجح لما تم له أربعين عاما جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية لشخصه والنقلة التاريخية للكون كله إذ بعثه الله رحمه للعالمين .. رحمه من لدنه كما اخبر جل وعلا , جاءه الملك فلم يكن صلى الله عليه وسلم له عهد بالملك اصلاً فأصابه من الرعب والفزع مااصابه قال له الملك :- اقرأ 0 قال :- ماانا بقارئ- أي لا أجيد القراءة اصلاً .. فردد الملك :- اقرأ – ورسول الله باقي على جوابه ( ما انا بقارئ ) فضمه الملك ثم يتركه ويضمه ثم يتركه حتى يشعره في تلك اللحظات ان الملك خارج عن حديث النفس فليست تلك رؤيا يراها او حديثاً في نفس يريد ان يتأكد فكان الملك يضمه ثم يتركه حتى يبين له ان هذا الحدث منفك ظاهره منفكة عن حديث النفس منفكة عن رؤى الأحلام منفكة عن أحلام اليقضه ثم قال له :- (اقرأ بسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم *علم الإنسان مالم يعلم ) نزل صلى الله عليه وسلم خائفا وجلا الى زوجته خديجة ..(42/6)
خديجة ترك عندها صلى الله عليه وسلم عندها أبناءه وبناته فلم تحدث ماذا صنع البنين وماذا أصاب البنات لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته وانما نسيت همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم .. آوته الى صدرها وضمته إليها ثم قال لها :- لقد خشيت على نفسي , فطمنته رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها .. وقالت :- والله لن يخزيك الله ابداً ثم عددت مناقبه انك لتطعم الفقير , وتعين على نوائب الدهر وتقول الصدق وأخذت تسرد له مناقبه وفضائله صلى الله عليه وسلم ....
فقدمت بذلك أنموذج لما ينبغي ان تكون عليه المرأة مع زوجها ان من كثير من الناس قد يأتي إليك محمول بالهموم مثقل بالخطايا ليس من الصواب ان تسرد عليه أنت وترده وتصده ولكن ينبغي ان تنسى همومك بجانب همه اذا أردت له النفع والفائدة ...(42/7)
ثم أخذت بيده الى ورقه بن نوفل ابن عمها وكان رجل له حظ من العلم واثر من كتاب فقال له :- ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى .. فشتاق الرسول صلى الله عليه وسلم الى الوحي لأنه سمع القران لكن الوحي انقطع ولم يأتي حتى يذهب الرعب ويبقى الشوق الى كلام الله جل وعلا تربيه من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات قال أهل العلم انها بقيت ستة أشهر وهي مرحله فتور الوحي أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الحزن ما لله به عليم حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري ( ان النبي صلى الله عليه وسلم ربما يصعد الى شواهق الجبال يريد ان يتردى منها مما أصابه من حزن ومن شك في النفس عن الحادثة الأولى ) لكن بعض المحدثين من العلماء يقولون ان هذه الرواية على هيئه البلاغ وهي لا تصح وتنافي عصمه الأنبياء والله تعالى اعلم , وان كان نفيها اقرب الى الصحة أين كان الأمر عاش النبي صلى الله عليه وسلم فتره عصيبة وهي فتره انقطاع الوحي عنه حتى أصبح يشك في نفسه مما راءه في السابق , فلما أصبحت نفسه ذات شوق عظيم الى كلام الله اذا به صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث جابر يمشي في طرقات مكة فإذا الملك يناديه فيلتفت فإذا الملك على كرسي بين السماء والأرض قد سد مابين المشرق والمغرب يقول له ( ياايها المدثر * قم فانذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر ) ثم نزل الوحي فتتابع وحمي بأعظم من ذلك قال الله جل وعلا في إيه يبين فيها علو قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه فاقسم الله بمخلوقاته إرضاء له صلى الله عليه وسلم ( والضحى * والليل اذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى ) هذا الإشعار الإلهي الذي جاء على هيئه أيه قرانيه فيه من الإثبات من مكانه العظمى لرسولنا صلى الله عليه وسلم مكانه لايرقى إليها احد من الخلق كائن من كان الا انها في نفس الوقت لاتعطيه صلى الله عليه وسلم أي حظ من الالوهيه او الربوبية(42/8)
فالالوهيه والربوبية كمالها وتمامها لله عز وجل وحده لاشريك له فيها ابداً ...
اخذ صلى الله عليه وسلم يقوم بواجب الدعوة شيئاً فشيئاً وهو ما عرف تاريخياً بالدعوة في مرحلتها السرية تغير وجه قريش له ونالوا منه صلى الله عليه وسلم وساموه وأصحابه سوء العذاب .. وهو صلى الله عليه وسلم صابر محتسب يدعو الى ربه بالحكمة والموعظة الحسنه يدعو الناس الى التوحيد فكان أبو جهل يحمل راية السوء ضده حتى انه بلغ من أذى أبو جهل لرسولنا صلى الله عليه وسلم كما أورد البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود :- ان جزوراً نحرث بالأمس فلما كان في الغد جاء صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وصلى فقال أبو جهل وقريش في أنديتها :- أيكم يقوم الى جزور بني فلان فيصنع سلا الجزور على كتفي محمد صلى الله عليه وسلم فانبعث أشقى القوم عقبه بن أبي معيط فحمل الجزور فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فوضع سلا الجزور بين كتفيه الطاهرين صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود :- فلو كانت لي منعه لرفعته عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم انه ذهب إنسان الى فاطمة رضي الله عنها وأرضاها واخبرها الخبر فجاءت وهي جويريه يوم إذ فرفعت سلا الجزور عن كتفي نبينا صلى الله عليه وسلم فلما أتم صلاته دعى ثلاثاً وكان إذ دعى دعى ثلاثاً وسال الله ثلاثاً ثم قال ( اللهم عليك باابي جهل وعتبه بن أبي ربيعه وشيبه بن أبي ربيعه والوليد بن أبي عتبه وعقبه بن أبي معيط وأميه بن أبي خلف ) وسمى سبعه صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود فو الله لقد رأيت من سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب قليب بدر كما وعده الله صلى الله عليه وسلم ..(42/9)
إن وقفنا عند هذا الحدث هناك ياأخي أعراف وتقاليد تتغير من مجتمع إلى آخر والعاقل من يستفيد من تلك التقاليد والاعتراف ولا يصادمها ابن مسعود كان يعلم ان الأعراف الجاهلية لاتسمح للضعفاء ولا عديم الظهر من ان يكون لهم حظ من الناس فكان يعلم انه لا يمكنه ان يصل الى النبي صلى الله عليه وسلم الا وهو ميت فبقي على نفسه ولم يأتي ليرفع سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو من الإيمان والتقوى لا يعلمها الا الله وكانت الأعرف الجاهلية تنص عن حفظ المرأة وعدم العرض لها ولو بدأت بالأذى وكان موقف لفاطمة انها تقدمت بين صفوف الرجال وحملت سلا الجزور عن رسولنا صلى الله عليه وسلم دون ان يصيبها أذى فالعاقل من الدعاة والحكيم من أهل الاستقامة من يتعامل مع الأعراف والتقاليد الاجتماعية بما يتوافق معها وهذه التقاليد والأعراف لاتبقى في كل زمان على هيئه واحده وانما تتغير الأعراف والتقاليد من عصر الى عصر ومن مكان الى مكان والشاهد والمقصود ان يوظفها الإنسان لصاع الدعوة والصالح هداية الناس الى طريق الله المستقيم ...(42/10)
عجزت قريش عن الأذى الجسدي الفردي فعمدوا الى الحصار العام فقدموا على أبي طالب فطلبوا منه ان يسلم إليهم ابن أخيه صلى الله عليه وسلم فأبى فقرر القرشيون مقاطعه بني هاشم لايناكحونهم ولا يبتاعون إليهم ولا يبتاعون منهم فآوى أبو طالب لبني هاشم وبني عبد المطلب في شعب لهن يقال له شعب بني هاشم ومكث الحصار ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم وآله مؤمنهم وكافرهم ينالهم من الأذى ما الله به عليم ، بقي الحصار ثلاث سنين كان خلال مدة الحصار أبو طال على كفرة إذا هجع الناس وناموا يعمد على رسولنا صلى الله عليه وسلم فيأخذه لينام عنده ويأمر أحد بنيه أن ينام في مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو همّا أحد بقتله يقتل أبنه بدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ومع ذلك كله والله الحكمة البالغة لم يرزق أبو طالب الإيمان بالله جل وعلا ومات على الكفر ولذلك حكمة لايعلمها إلا الله جل وعل
قبل أن ينتهي الحصار لايخلو صراع بين الحق والباطل من نشؤ أقوام كما يسمى في عرف السياسيين اليوم دول عدم الانحياز كانت في عصرنا هذا على هيئة دول لكنها في العصر السابق على هيئة أفراد فينشأ في المجتمع قوم حياديون ليسوا مع قريش وليسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم تشاوروا فيما بينهم وعرفوا بطلان مادعى إليه رؤساء قريش وزعمائهم فتعاونوا على نقض المعاهدة ..
وهنا ينبغي للعاقل من الدعاة وغيرهم أن يروا أهل المرؤات الذين لايخلو منهم زمان ولا مكان فيستفيدوا منهم في عالم الصحوة وعالم الدعوة ويوظف طاقاتهم وقدراتهم في سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا ولايصادمهم حتى لايخسر الدعوة سند وقوة له هؤلاء القوم لم يكونوا من أهل الإيمان لكن كان في قلوبهم رحمة وفي أنفسهم شهامة وخلال خصالهم مروءة وظفوها لنقض المعاهدة وتم لهم ما أرادوا ..(42/11)
ونقضت الصحيفة وخرج بنو هاشم من الحصار ..بعد الخروج من الشعب من شعب بني هاشم مات أبو طالب وماتت خديجة في عام واحد وقيل بين موتهما ثلاثة أيام ..فبدا له صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان لعل وعسى ...فخرج إلى الطائف فكانت أقرب الحواضر إلى مكة . خرج إلى الطائف فبدأ بسادات ثقيف يدعوهم إلى دين الله جل وعلا فلم يكونوا بأحسن حظاً من كفار قريش فسخروا منه وأمروا صبيانهم أن يرجموه فرموه بالحجارة حتى أدميت عقباه صلى الله عليه وسلم ولجأ على حائط في الطائف فلما لجأ إليه صلوات الله وسلامه عليه رق له بعض الكبراء فأرسلوا له غلام نصراني يقال له عداس ومعه قطف من عنب فلما وضع العنب بين يديه قال صلى الله عليه وسلم :بسم الله فقال الغلام : هذا شيء لايقوله مثل أهل هذه البلد فقال صلى الله عله وسلم : من أنت ومن من ؟ قال :أنا نصراني من أهل نينواء فقال صلى الله عليه وسلم :من بلدة النبي الصالح يونس بن متى قال الغلام : وما يدريك ما يونس أبن متى قال هو نبي وأنا نبي . فأكب الغلام على رسولنا صلى الله عليه وسلم يقبله حتى لامه سادة ثقيف يوم إذ .
ثم نزل صلى الله عليه وسلم وحيداً ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة فإذا انقطعت أسباب الأرض لجأ صلى الله عله وسلم إلى ربه فورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم بث إلى الله شكواه ورفع إلى الله نجواه وهو يعلم انه نبي مرسل لكن البلاء فيمن يستمع إليه فناجى ربه قائلاً (اللهم إليك اشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ارحم الراحمين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري أن لم يكن بك عليّ سخط فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي ,أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت منه الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولاحول ولاقوه إلا بك )(42/12)
فتحت لهذا الدعوات أبواب السماء فما كان صلى الله عليه وسلم ينزل من الطائف من وادي نخلة حتى بعث الله إليه نفر من الجن مؤمنين به حتى تطمئن نفسه ويسكن قلبه ويعلم أن العاقبة له ( وإذا صرفنا إليك نفر من الجن القرآن ) فطمئنت نفسه شيئاً فشيئا صلوات الله وسلامه عليه ثم بعث إلى الملأ من قريش يخبرهم في رغبته في دخول مكة ويريد أن يدخل في حلف أحدهم فرده ثلاثة منهم ثم قبل المطعم بن عدي أن يدخل في جواره فدخل صلى الله عليه وسلم بجوار المطعم بن عدي رغم أنه مشرك استبقاء للمسلمين حتى لا يتعرضوا لأذى ثم بعد رحلة الطائف منّ الله عليه برحلة الإسراء والمعراج فجاءه جبرائيل وهو نائم في الحجر فشق صدره وغسل قلبه بماء في طست من ذهب ثم أفرغ في قلبه الطاهر إناء مليء إيمان وحكمة ثم قدم له البراق ثم اسري به صلى الله عليه وسلم إلى البيت المقدس حيث المسجد الأقصى وربط دابته في مربط الأنبياء هناك ، ثم عرج به على سدرة المنتهى لما صدّ أهل الأرض أبوابهم أمامه فتح الله له أبواب السماء فستقبله هنالك سادات الأنبياء بدأ بآدم ثم ابني الخالة يحي بن زكريا وعيسى بن مريم ثم يوسف بن يعقوب عليهم السلام ثم إدريس ثم هارون ثم موسى ثم أبوه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ثم وصل صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى ورأى جبرائيل مرة أخرى على هيئته التي خلقها الله عليها ..
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكته * والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك التفوا بسيدهم * * كا الشهد بالبدر أوكالجلد بالعلم
صلى ورأك منهم كل ذي خطر* ومن يفوز بحبيب الله يأتمم
ركوب لك من عز ومن شرف ** مافي الجياد ولافي الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته** وقدرت الله فوق الشك والتهم(42/13)
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى مضجعه الشريف ، ثم توالت الأحداث فلتقاء صلى الله عليه وسلم برهط من الأنصار فكانت بيعة العقبة الأولى ثم إلتقى برهط آخرين فكانت بيعه العقبة الثانية ثم أذن الله له بالهجرة إلى هذه المدينة مدينته صلوات الله وسلامه عليه .
هاجرت قبله جمع من أصحابه ثم تأمرت قريش وقررت قتله في مؤامرة مشهورة معروفة ثم أخرجه الله جل وعلا من بين أظهرهم دون أن يروه وهو يتلو (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا وأغشيناهم فهم لايبصرون ) ثم إلتحق بصاحبه أبي بكر وأوى إلى غار في جبل ثور عرف بغار حراء ومكث في الغار والطلب والرصد تبع له مرة بعد مرة ورسولنا صلى الله عليه وسلم في الغار
أمرغ في حراء أديم خدي *** دوام في الغداة وفي العشي
لعل ان أنال بحر وجهي *** تراب مسه قدم النبي
مكث صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام وقريش تبعث الطلب والرصد فيه فوقفوا على مقربه من الغار وأبو بكر يقول :يارسول الله لو أن احدهم نظر أسفل قدميه لرآنا فيقول : يا أبا بكر ما بالك بثنين الله ثالثهما ) هذا نصر الله جل وعلا على هيئة كتمان آتاه الله جل وعلا نبيه فلما سكن الرصد وقل الطلب خرج صلى الله عليه وسلم من الغار وصاحبه متوجهاً نحو هذه المدينة المباركة كانت الأنصار قد بلغهم خروجه صلى الله عليه وسلم فيخرجون كل يوم ينتظرون آوبته ينتظرون قدومه حتى إذا أشتد عليهم وهج الشمس رجعوا إلى دورهم فلما كان اليوم الذي وصل فيه صلى الله عليه وسلم خرج رجل من اليهود على آطام من آطام المدينة فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عرفهم فنادى بأعلى صوته :يابني قيله ـ وهو جد يجتمع فيه الأوس الخزرج ـ هذا جدكم الذي تنتظرون فسمع في المدينة التكبير وأبتدر القوم إلى السيوف وخرجوا يستقبلون نبيهم صلى الله عليه وسلم .(42/14)
بالأمس خرج من مكة شريداً طريداً في ظلمة الليل ثم مالبث أن نصره الله فدخل المدينة كأعظم مايدخلها الملوك والأنصار من حوله كلما مر على ملاْ قالوا هلّم إلى العدد العدة هلّم على العز والمنعة يارسول الله وهو يقول : خلوا سبيلها فإنه مأمورة حتى بركت الناقة في موطن مسجده اليوم صلوات الله وسلامة عليه على مقربة من بيت أبي أيوب فعند أبو أيوب إلى متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدخله في بيته وقال له عليه الصلاة والسلام المرء مع رحلة بنى مسجده وبدا يضع النواة الأولى لدولة الإسلام صلوات الله وسلامة عليه ثم جاءت الغزوات فكانت غزوه بدر وهي حدث عظيم ولكن من أعظم مايلفت النظر فيها انه صلى الله عليه وسلم بعد ان اخذ بالأسباب المادية وجهز الجيش واعد العدة لجاء الى ربه ...
فاللجوء الى الله جل وعلا لايستغني عنه احد كائن من كان مهما عظمت قدرتنا وبلغ حولنا مابلغ وزادت قوتنا وحاجتنا الى الله حاجه ابديه ملحه لأننا فقراء الى الله جل وعلا مهما بلغنا ...
مكث صلى الله عليه وسلم في العريش يناجي ربه حتى سقط رداءه عن منكبيه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأتيه من خلفه ويضمه ويقول :- بعض مانشدت ربك يارسول الله, فانزل الله ( اذا تستغيثون بربكم فستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) فكان النصر له صلى الله عليه وسلم ..(42/15)
فلما قّّر الله عينيه بالنصر ووضع القتلى في قليب بدر نظر إليهم صلى الله عليه وسلم واخذ يقول :-يافلان ابن فلان , يافلان ابن فلان واخذ يناديهم بأسماهم هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً فاني وجدت ماوعدني ربي حقاً فتعجب أصحابه وقالوا :- يارسول الله تكلم قوماً قد جيفوا ؟ قال :-ياعمر والله ماانتم بما اسمع بما أقول منهم ولكنهم لايملكون جواباً .. وعاد صلى الله عليه وسلم كان هذا النصر أعظم مايكون المسلمون في حاجه إليه حتى تطمئن أنفسهم ويثقوا بنصر الله لأنها أول نزال بين أهل الكفر وأهل الإيمان بعد ان إذن الله للقتال ثم كانت احد وما أدراك ما احد فيها من العظات الشيء الكثير لكن فيها ان وجهه صلى الله عليه وسلم كان نوراً يتلالاء كأنه فلقت قمر ومع ذلك يريد الله ان يثبت ان الكمال المطلق لله وحده سبحانه فيشاع في ارض المعركة انه صلى الله عليه وسلم قتل فيشج رأسه وتكسر رباعيته ويسيل الدم على وجهه الشرف ثم يمسح صلى الله عليه وسلم وجهه الطاهر بيديه ويقول ( كيف يفلح قوم خفضوا وجه نبيهم وهو يدعوهم للإسلام ) فينزل الله جل وعلا عليه قوله ( ليس لكم من الأمر شيء او يتوب عليه او يعذبهم فإنهم ظالمين ) فالأمر كله لله جل وعلا وحده ..(42/16)
وليت بني قومي اليوم اذا سمعوا بهلاك احد او بموت احد لايشغلوا أنفسهم هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار فهذه أمور لله تبارك وتعالى وحده ولم يكلفنا الله تبارك وتعالى بان ندخل من نشاء الى الجنة او نحرم من نشاء فيها او ان ندخل من نشاء الى النار او ان نمنع من نشاء فيها الجنة والنار بيد الله العزيز الغفار والله جل وعلا اعلم بخلقه واعلم بما تكنه صدورهم هو تبارك وتعالى أسرع الحاسبين وقد قال بعض الصالحين لابنه ينصحه ( يابني ان الله يسألك لما لم تلعن فرعون مع ان فرعون ملعون في كتاب الله لكن المؤمن العاقل مثل هذه الأمور لايلقي لها بال ولا يشغل بها نفسه فالجنة والنار بيد أسرع الحاسبين وبيد رب العالمين وبيد ارحم الراحمين ولن يسألنا الله منهم أهل الجنة ومنهم أهل النار لكننا لأنفسنا نسال الله الجنة ونستجير بالله تعالى من النار وفي مسند البزار ( ان لا اله الا الله كلمه كريمه على الله من قالها في الدنيا صادقاً دخل الجنة ومن قالها في الدنيا كاذباً حقنت دمه وحسابه على الله جل وعلا فالعاقل لايشغل نفسه بما لايعنيه لكنه في حوادث الدهر يحكم فيهن ما أمر الله فيه ورسوله أما الحوادث الأخروية فلسنا مسؤلون عنها لان علمها عند ربي في كتاب لايضل ربي ولا ينسى ....(42/17)
في غزوه احد أراد الله جل وعلا ان يربي المسلمين على ان القادة العظماء والزعماء الأفذاذ لايربون الناس بالتعلق بذواتهم وعلى حبهم والمبالغة في الغلو بهم ولكنهم يربون الناس على التعلق بالله جل وعلا فلما أصاب المسلمين مااصابهم يوم احد قال الله جل وعلا معاتباً أهل الإيمان ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افإن مات او قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقيبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) ( وما كان لنفس ان تموت الا بإذن الله كتابا موجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤتيه منها ومن يرد ثواب الآخرة نوتيه منها وسيجزي الله الشاكرين ) فالعاقل لايربي الناس على التعلق به وانما يربيهم على التعلق باله الكون وحده فلا اله الا الله تعني ان الكمال المطلق والحب المطلق والتوحيد المطلق والتكبير المطلق لا يكون الا لله جل وعلا وحده فإذا كان سيد الخلق وجوده رحمه وعدمه لا يضر المسلمين شيئاً اذا اعتصموا بما جاء به كان غيره أولى وأجدر ان تطبق عليه القاعدة فكان صلى الله عليه وسلم حيه الدين حي الدين الذي جاء به أما هو صلى الله عليه وسلم فيجري عليه قم القضاء ( انك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون ) فهذه أعظم ما خرج المسلمون منه يوم احد من تربيه إلهيه لهم , ثم كانت غزوه الأحزاب تجمعت قريش ثم قدموا الى رسولنا صلى الله عليه وسلم في مدينته فستشار الناس فأشار عليه سلمان الفارسي ان يحفر الخندق والخندق وسيله حربيه مجوسية أخذها سلمان من أهل فارس لم يكن للعرب عهد بها او علم ان ذلك ...
وهنا نأتي بما عرف بعصرنا بصراع الحضارات ينبغي أهل التقوى مابين التقارب الديني وما بين التقارب الحضاري الدين ياأخي صنع الهي لا يمكن لأحد ان يزيد فيه او ينقص والحضارة صنع إنساني قابله بالزيادة والنقصان قابله لأخذوا العظمى قابله للتلاقح بين الأمم اذا تقاربت وتنافست ..(42/18)
فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مشورة سلمان وعمل بالخندق لما رأى فيه مصلحه يقوم به صلاح أمته ولم يقل حينها صلى الله عليه وسلم (من تشبه بقوم فهو منهم ) من تشبه بقوم فهو منهم محول على من تشبه بهم في أمور الدين أما الصناعات الانسانيه فليس ملكاً لأحد ولقد كانت العرب لا تأتي المرأة وهي مرضع خوفاً على ان يؤثر الإتيان على الرضيع فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان فارس والروم تصنع ذلك ولا يضر أبناءها شيء لم ينهى أمته عنه كما روى مسلم في الصحيح عن حديث جابر رضي الله عنه .
فالحضارات حق مفتوح وأمر مشاع يجوز للامه ان تأخذ منه اذا رأته ان في ذلك مصلحه والحكمة ضالة المؤمن ان وجدها أخذها , أما الدين (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ما عندنا من الدين يمنعنا ان نأخذ ولو قطره من سقى من أي دين او مله على وجه الأرض لان الله يقول ( ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )(42/19)
ثم توالت الأمور حتى كانت السنة السادسة فعزم صلى الله عليه وسلم على التوجه الى مكة معتمراً واخذ معه رهطاً من أصحابه معهم السيوف في رقابها , فلما دنو من البيت العتيق منعتهم قريش ان يدخلوها فجرى وأجرى من التفاوض تريد قريش ان تطمئن ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتي للقتال فكان ان بعث صلى الله عليه وسلم عثمان لأنه كان منيعاً عزيزاً في بني أميه وكان أكثرهم مشركاً حين ذاك ثم أشيع ان عثمان قد قتل فبايع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم نبينا صلى الله عليه وسلم على الموت تحت ظل شجره مثمره والذين بايعوه ألف وأربع مائه رجل كلهم الا الجد ابن قيس كان رجل منافق لم يحضر البيعة قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء انتم خير أهل الأرض وقال لهم :- لا يدخل النار بايع تحت الشجرة , ثم انه صلى الله عليه وسلم بسط يمينه وقال هذه عن عثمان ثم بسط يساره يبايع نفسه بنفسه قال العلماء ( وكانت يد رسول الله لعثمان خير من يد عثمان لعثمان نفسه ) بعد هذه البيعة وبعد مداولات اقر الصلح بين المسلمين والكفار والصلح ظاهر ان فيه إجحاف بحق المؤمنين فباطنه الرحمة اذا وضعت الحرب وألقت أوزرها وخمدت الناس واخذ ذوي العقول يفكرون في الطرائق المثلى للحصول الى الإيمان ..
ان هناك أناس يرزقهم الله جل وعلا عقولاً ويمنعهم من الاستفادة منها حجب التقليد التي يضعونها أمامهن ..(42/20)
أبو جهل كان يعلم ان محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ورأى من الآيات ما يشهد له بذلك لكن الحسد والتقليد الأعمى منعه وكان سبباً في حرمانه عن دخوله الإيمان أما سرقه بن مالك لما تبع النبي صلى الله عليه وسلم ورأى الايه لما ساخت قوائم فرسه او من ان النبي صلى الله عليه وسلم حق وعرف الايه ونبذ التقلد رأى ظهره خلال هذه الفترة بعد الصلح رجع عقلاء الناس الى أنفسهم واخذوا يناقشونها ويحاسبونها ودخل كثير من الناس أفواج في دين الله فانقلب ذلك العدد من ألف أربع مائه الى عشره آلاف يوم فتح مكة كما سيأتي ثم عاد صلى الله عليه وسلم الى المدينة وفي العام الذي بعده كانت عمره القضاء ثم انه صلى الله عليه وسلم غزى خيبر ثم لما كان العام الثامن كانت من بين شروط صلح الحديبية أن شاء أن يدخل في حلف محمد دخل ومن شاء ان يدخل في حلف قريش دخل فدخلت بني بكر في حلف قريش ودخلت خزاعة في حلف النبي فأعانت قريش بكراً على خزاعة فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة يستنصر بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : نُصرت ياعمرو بن سالم ثم جهز صلى الله عليه وسلم جيشه وقدم على مكة في عشرة آلاف من أصحابه ودخلها صلى الله عليه وسلم دخول عظيم أظهره الله عز وجل فيه دخلها من أعلاها من كداء وعلى يمينه أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه يحمل اللواء لكنه صلى الله عليه وسلم طوال دعوته وجهاده لم يكن يطلب حظاً لنفسه وإنما كان يريد أن يبلغ رسالة ربه فلما أظهره الله دخل صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأ رأسه حتى أن لحيته الشريفة كانت تمس وسط راحلته تواضع لله عز وجل حتى يعلم الخلق أن التواضع لله أعظم أسباب النصر فدخل صلى الله عليه وسلم وهو مطأطا رأسه متواضع لربه على بغلته طاف بالبيت العتيق سبعاً وأشار إلى الأصنام في عود بيده وهو يردد (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )ثم سال عن عثمان بن أبي طلحة وكانت الحجابة البيت عندهم يوم(42/21)
إذ ومازالت وفتح له باب الكعبة ودخل بها صلى الله عليه وسلم ووجد فيها صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فخرجت ثم كبر في نواحي البيت وصلى ركعتين ثم خرج فلما خرج بادرة علي رضي الله عنه قائلاً : يارسول الله أجمع لنا السقاية والحجابة فقال صلى الله عليه وسلم : - أين عثمان بن أبي طلحة ؟ قال : أنا يارسول الله فأعطاه مفتاح الكعبة وقال : اليوم يوم بر ووفاء خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فإلى اليوم مفتاح الكعبة بيد بني شيبة يفتحون البيت متى شاءوا (وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمّر على مكة عتاب بن أُسيد قبل أن يدخلها أسلم أبو سفيان جيئا به إليه فقيل له يارسول الله ان أبا سفيان رجل يحب الفخر فقال صلى الله عليه وسلم :- ومن دخل دار أبو سفيان فهو امن ...
الزعماء من الناس الذين تربوا على القيادة من الصعب ان تسلبهم حقهم بالكلية فان ذلك يحدث تغير في أنفسهم ونحن مابعثنا لنخاصم الناس في دنياهم إنما بعثنا كدعاة علماء لان تنقذ الناس من الضلالة فترك للناس دنياهم يتركوا لك دينك ..(42/22)
قال صلى الله عليه وسلم ( من دخل دار ابوسفيان فهو امن ومعلوم ان دار أبو سفيان لا تحمل أكثر من عشره نفر ولكن عندما يعلن في الملا وفي بيوت مكة من دخل دار أبو سفيان فهو امن يصيب أبا سفيان من الرضى مايصيبه ويناله من الفخر مايناله دون ان يضر الإسلام شيئا ثم عرج صلى الله عليه وسلم على هوازن وعلى ثقيف فكانت غزوه حنين وغزوه الطائف غر كثير من المسلمين ماهم فيه من كثره العدد ثم ثبت الله نبيه صلى الله عليه وسلم وال الأمر الى نصره صلى الله عليه وسلم وعند منقلبة من الطائف بدأ له ان يقسم الغنائم فأعطى أربعه من روساء الناس يوم إذ ممن اسلم حديثاً ألف بعير لكل واحد وقسم كثير من الغنائم على عدد بلغ الستين عند جمهره المورخين ولم يعطي الأنصار شيئاً صلى الله عليه وسلم فحز ذلك في انسفهم وتغيرت بعض قلوبهم فقال حدثاء الأسنان منهم :- ( يغفر الله لرسول الله يعطي قومه وان سيوفنا لتقطر من دماءهم ) فبلغ ذلك القول رسولنا صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم من العلم والقدوة بمكان عظيم لايرتقي إليه احد ...
ياأخي القادة العظماء لايتركون الحزازات في النفوس لكل إنسان مشاعر وأحاسيس وأراء لو أننا كبتناها لنقلبوا علينا لكن لا يمكن ان ينجح أمير في بلدته ولا زعيم في دولته ولا أب في بيته ولا معلم في فصله ولا مربي في حلقته اذا كان لايستمع الى مشاعر وأحاسيس من هم تحته فالله جل وعلا كلم موسى واستمع إليه وهو مخلوق من مخلوقاته ( قال ربي إني قتلت منهم نفساً فاخف ان يقتلون * وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فارساه معي رداء يصدقني ان اخف ان تكذبون ) والله يعلم كل ذلك من قبل ان يخل موسى ومع ذلك استمع إليه فهو الله جل وعلا ولله المثل الأعلى ...(42/23)
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار في قبة ثم قال لهم في معالجه تربويه تقصر عنها بيان البلغاء قال ( مامقوله بلغتني عنكم الم تكونوا إضلالا فهداكم الله الم تكونوا عاله فأغناكم الله الم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا :- بلى يارسول الله , لله ورسوله المنة والفضل . فقال :- الا تجيبوني ؟ قالوا :- بما نجيب يارسول الله فتولى الاجابه عنهم وقال ( إنكم لشئتم لقلتم فلتصدقتم ولصدقتم أتيتنا طريداً فآويناك وعائلاً فاسيناك ومخذولاً فنصرناك ثم قال صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار :أوجدتم في أنفسكم عليّ في لعاعة من الدنيا أسلمتها إلى قوم حديثو عهد بإسلام وأوكلتكم إلى ما جعل الله في قلوبكم من الإسلام يامعشر الأنصار أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ) فبكى القوم رضي الله عنهم وأرضاهم وقالوا : رضينا بالله ربا وبرسول الله قسماً وحظا فقال صلى الله عليه وسلم : (اللهم أغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) فانقلبوا راجعينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إن حاجتنا الملحة لأن نستمع إلى الغير وإن من أعظم الأخطاء في التربية والدعوة أن يجعل الإنسان من نفسه سلطان على الغير يفكر بدل منهم ويشعر بدل منهم ويرى ماحولهم بدل منهم ذلك أسلوب فرعوني نقله القرآن قال فرعون (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) وقد قيل :
زمان الفرد يافرعون ولى * * * ودالت دولة المتجبرين
وأصبحت الرعاة بكل أرض * * * على حكم الرعية نازلين(42/24)
قصر الرسول صلى الله عليه وسلم عائداً إلى المدينة ،وفي ذلك العام كان عام الوفود فبدأت وفود العرب تقدم إلية صلوات الله وسلامه عليه وكانت من الوفود التي قدمت وفد جيزان وكان وفد جيزان مسيحي يعبدون المسيح عيسى أبن مريم فلما قدموا عليه صلوات الله وسلامه عليه أخذوا يجادلونه ويقولون له كيف نتبعك وأنت تنتقص صاحبنا وتقول إنه عبد الله ورسوله قال :نعم عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فقالوا :كيف يكون عبداً لله ورسوله أرأيت ولداً ولد من غير أب فأنزل الله جل وعلا قوله (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين ) فلأن كان عيسى ولد من غير أب فإن آدم خلق من غير أب وأم فجاءوا بالغريب فجاءهم الله بما هو أغرب رد على حجتهم فلما قال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك أبوأ أن يسلموا له فدعاهم إلى المباهلة فدعي علي والحسن والحسين وفاطمة وقال :إن أنا دعوت فأمنوا وأنزل الله قوله ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا أبنائنا وأبنائكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فعرفوا أنه النبي الله حقا لكنهم لم يؤمنوا وخشيوا من المباهلته ثم إنهم صالحوه على ألف حلة تؤدى له صلى الله عليه وسلم مرتين في العام وأشياء أخر.(42/25)
وفي عصرنا هذا نشأ مايسمى بتقارب الأديان وبحوار الأديان فأما حوار الأديان فلا حرج فيه شرعاً إذا أراد المحاور المسلم أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأن الله جل وعلا رب لارب غيره ولاشريك معه أما تقارب الأديان فأمر مرفوض لأنه لايمكن أن تلتقي الأديان في شيء واحد فإن ذلك فيه تنازل عقدي والمسلمون أمرهم الله أن يقولوا ( قل يأيها الكافرون لاأعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد )فالمسلم على ملة حنيفية بيضاء لاينبغي أن يحيد عنها مثقال ذرة وليس هناك مصلحة ترقى على مصلحة التوحيد ولامفسدة أعظم من مفسدة الشرك وما يسمى بتقارب الأديان يفضي إلى ترك التوحيد وإلى القرب من الشرك وقد قال الله جل وعلا ( ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) .
ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان العام العاشر فأعلن لناس عزمه على الحج فلما أعلن عزمه على الحج صلوات الله وسلامه عليه تسارع الناس لذلك وقدموا إلية حتى يأتموا به فخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن أحرم من ذي الحليفة مهللاً مكبراً حتى وصل مكة وطاف في البيت سبعاً ثم رقى الصفا وقال أبدأ بما بدأ الله به ثم أتم نسكه صلى الله عليه وسلم حتى أتى يوم الثالث عشر فنزل بعد أن رمى الجمرات الثلاث في اليوم الثالث عشر ثم نزل في حيف بنى كنانة صلوات الله وسلامه عليه وصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم أضطجع ثم لما كانت صلاة الفجر نزل إلى الحرم قبل صلاة الفجر ثم طاف طواف الوداع ثم صلى بالناس صلاة الفجر ثم قفل راجع إلى المدينة يكبر على كل شرف من الأرض لما دنى منها ويقول :آئبون تائبون عابدون ولربنا حامدون ) صلوات الله وسلامه عليه .(42/26)
ثم أشتكى الوجع وبدأ يشعر بتغير حالة واشتدت عليه الحمى فلما شعر بدنو أجله خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فستغفر لأهله ثم خرج إلى أحد فشهد لشهداء معه ثم تصدق صلى الله عليه وسلم بدنانير كانت عنده وأعتق غلمانه ثم إن صلوات الله وسلامه عليه مكث ينتظر أجل ربه يوماً بعد يوم والحمى تشتد عليه حتى كان صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على الأظهر والأصح من ربيع الأول فكان صبيحتها اطل من ستار بيته فرأى أصحابه يصلون صلاة الفجر مأتمين بابي بكر فقرت عينه وسكنت نفسه بعد أن رآهم مجتمعين على إمام واحد خاشعين لربهم وبذلك أرسل ولذلك دعي ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد على فراشه واشتدت عليه وطئت الحمى ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي فمه سواك ثم أستاك صلوات الله وسلامه عليه ثم مازال يردد : بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى .ثلاثاً ثم فاضت روحه وأنتقل إلى رحمة خالقة ومولاه ،خير من أرسل وأجل من بعث صلوات الله وسلامه عليه بعد إن أدى الأمانة ونصح وبلغ الرسالة ونصح الأمة وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لايزيغ عنها إلا هالك.
ولاينبغي لمن يقف مع السيرة وينظر في مسيرتها أن يغفل عن شيء مهم وهو انه صلى الله عليه وسلم كان له من كريم الصفات وجميل النعوت ما تحبب الناس إليه وأجتمع عليه صلوات الله وسلامه عليه وكان في كل حينه منقطع إلى ربه دائم الصمت عليه من السمت والوقار ماعليه حتى إنه صلى الله عليه وسلم تفقده عائشة ذات ليلة فإذا هو في المسجد منتصبة قدماه يقول في سجوده ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)(42/27)
أيها المؤمنون هذه قطوف من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم منّ الله علينا وعليكم وأبحرنا خلالها من خلال ساعة كاملة وإننا مهما قلنا مقصرون ومهما تحدثنا لن نبلغ الصواب كله ولن نبلغ الكمال كله لكن إن كان من وصية أختم بها فإن الله جل وعلا شرفنا بأن جعلنا من أمه محمد صلى الله عليه وسلم وفي عصرنا هذا من أسباب الفجور وأسباب البعد عن الله ما لايخفى على أحد والبعد عن أسباب الفجور والسلامة منه
إن السلامة من سلمى وجارتها * * * أن لاتمر على سلمى وواديها
ويحتاج الأمر هذا كله إلى صبر على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فليوطن أحدنا نفسه على الصبر وليؤطنها على إتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وليعلم أن هذه الفتن التي تتابع شررها وتفاقم خطرها إنما هي بلاء وفتنة يصف الله جل وعلا به من يشاء فمن أخلص لله نيته وصلح قلبه واستقامة سريرته ووفق للصواب وهدي إلى سبيل الرشاد وهذا والله تعالى أعز وأعلم وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين .
.. أمل الأمة(42/28)
علماء المدينة
للشيخ صالح بن عواد المغامسي
الحمد لله الذي أحسن كل شئ خلقة وبدأ خلق الإنسان من طين وأشهد أن لااله إلا الله وحده لاشريك له إله الأولين وإله الآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .....
أما بعد
فإن الله جل وعلا اصطفى أنبيائه من سائر خلقه قال جل ذكره وعلا اسمه ((الله أعلم حيث يجعل رسالته )) وقال عنهم (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )) وختم الله جل وعلا أولئك الصفوة ببعثة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى " ما كان محمد أبا احد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما " فلما تعلقت النفوس بذلك الهدي الذي علمه الله جل وعلا أنبيائه قال صلوات الله وسلامه عليه " العلماء ورثة الأنبياء " فمن أراد أن يكون على منهجهم ويسير على طريقهم لزمه أن يطلب العلم الشرعي فيزدلف بذلك إلى ركب الأنبياء وسِير الأخيار من المرسلين وكلهم ذو خير...
أيها المؤمنون(43/1)
بعض المحاضرات الترتيب الأكاديمي فيها يذهب بهجتها ويضيع البغية منها،، فحديثنا اليوم قد لايكون ذو ترتيب أكاديمي صرف رغم انه يخاطب وينادي في المقام الأول طلبة العلم والمحبين للعلم والمحبين للعلماء فنقول والله المستعان يجب أن يحرر أولا أن العلم فضل من الله ليس محصورا في احد ولا قبيلة ولا مدينه ولا عنصرا ، وجد في الأمة علماء من العرب ووجد في الأمة علماء من الموالي ووجد في الأمة علماء من جزيرة العرب ووجد في الأمة علماء من غيرها فعرف الناس الإمام البخاري ومسلم وغيرهم وبعض العلماء عرف نسبه العربي بل بعضهم هاشمي وبعضهم مطلبي كالشافعي رحمة الله لكن العلم مع ذلك ليس محصورا في احد كائن من كان وإنما هو فضل من الله جل وعلا يؤتيه من يشاء والرب تبارك وتعالى لايخص به احد دون سواه لفضلٍ في ذاته على هذا ساحة العلم مفتوحة لكل احد ليست محصورة في مدينة ولا قرية عن قرية لكن المحاضرة التي نحن بصددها اليوم الترتيب لها قُدّر أن يكون عن علماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يقيننا وعلمنا إن العلم ليس محصورا في هذه المدينة المباركة رغم أنها مدينة سيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه 0
الأمر الثاني إن سير العلماء إذا أراد الإنسان أن يتأملها فإن أهل التحقيق يقولون إن هناك ثلاث جهات للنّظر في حياة العلماء هذا النظر ينقسم إلى ثلاث جهات :
الوجهة الأولى : وجهة سيرهم وأخلاقهم وتعاملهم مع الناس .
الجهة الثانية :جهة المنهج العلمي الذي اتبعوه.
الجهة الثالثة :التراث العلمي الذي تركوه .(43/2)
فمن أراد أن ينظر في سير الأمة الكبار والعلماء الأفذاذ فلينظر من هذه الثلاث فلينظر من سيرهم وأخلاقهم ولينظر في منهجهم ثم لينظر فيما تركوه من تراث علمي والمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام اختارها الله مُهاجرا لخير خلقه وصفوة رسله دخلها صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الاثنين وكان قد هاجر من مكة يوم الاثنين ومكث في الطريق أسبوعين ثم بعد ذلك يوم الجمعة من نفس الأسبوع على الصحيح دخلها بلدةً لأنه كان قد أناخ مطاياه أول الأمر بقباء فبنى مسجده عليه الصلاة والسلام فالمسجد النبوي هو المُنطلق الأول لعلماء المدينة عبر القرون كلها ، هذا المسجد أول من درس فيه رسولنا صلى الله عليه وسلم وسيبقى بإذن الله شامخا يُتلقى العلم فيه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، هذا المسجد شهد الصحابة وهم يتحلقون حول نبينا عليه الصلاة والسلام والنبي عليه السلام يعلمهم ويحث على العلم ويرغب فيه ويدل الأمة عليه ويقول " أما الأول فأقبل فأقبل الله عليه وأما الثاني فاستحيى فاستحيى الله منه وأما الثالث فأعرض فاعرض الله عنه " لما ذكر الثلاثة الذين رأو حلقته صلوات الله وسلامه علية .
ولهذا كان الإمام عبد العزيزبن باز رحمة الله عليه أيام ماكان عندنا في المدينة قبل أن يذهب إلى دوامه في مكتبة في الجامعة الإسلامية كان يصلي في الصف الأول من الحرم فإذا خرج وبدأت حلقات العلم كان يمُر رحمه الله على كل حلقه حتى يخرج من عهدة حديث " وأما هذا فاعرض فاعرض الله عنه " ثم ينطلق رحمه الله إلى عمله في الجامعة .
هذا المسجد شهد منارات شامخة هذه المنارات الشامخة العلمية هم أحد فريقين :
إما رجلٌ أصلاً من أهل المدينة مولده ووفاته .
وإما رجل قدم إليها ثم سكنها وجاور فيها ونشر ما أفاء الله عليه من علم بها .
وهذا من حيث الإطلالة العامة 00000(43/3)
التاريخ الإسلامي إذا ذكر والأئمة الأربعة إذا دون تاريخهم لا يمكن أن يهجر أو يترك مالك رحمه الله ومالك رحمة الله قطعا ليس من المعاصرين والمحاضرة عن المعاصرين لكن نبدأ به رحمة الله لأنه عالم المدينة الأول من حيث الشهرة ولذلك يسمى بإمام دار الهجرة وإلا شهدت المدينة من الصحابة ومن غيرهم علماء أعظم من مالك علما لكن مالك ارتبط اسمه بالمدينة لأنه ما تركها وكان يدرس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أحيانا البيئة والمكان يساعد المتكلم كثيرا فمالك يقول عن العلماء ما منّا إلا واردٌ ومردودٌ عليه إلا صاحب هذا القبر ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الأمر لا يتأتى لأحد إلا إذا كان يدرس في الروضة التي كان يدرس فيها مالك رحمه الله أو ينقل قول مالك على سبيل الحكاية لكن لايستطيع احدٌ في أقصى الأرض أن يقول مامنا إلا وارد ومردود عليه علاما يشير وإلى ما يرفع يده لكن مالك رحمة الله كان قريبا من قبر نبينا صلى الله عليه وسلم .
موضع الشاهد من ذلك إن مالك يقول الشافعي رحمة الله إذا ذكر العلماء فمالك النجم شرح مالك رحمة الله في المدينة الموطأ ومنه أي من المدينة انتشر الموطأ في أصقاع الأرض وكان أبو جعفر المنصور رحمة الله قد قال لمالك [ وطأ لناس كتابا تجنب فيه شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس ] وطالب
العلم الحق المؤصل يفقه هذه الوصية جيدا [ وطأ لناس كتابا تجنب فيه شدائد ابن عمر ورخص ابن عباس ] ومنذ أن كان الناس كان هناك علماء يحملون طابع الشدة في الله ، وهناك علماء يحملون طابع الرخص في الله على بينه على علم ولا يقال لفريق انه متنطّع ولا يقال للأخر انه قد ميع الدين .
لكن الناس في زماننا بعضهم عفا الله عنّا وعنهم إذا غلبت عليه الشدة قال فلان ضيع الدين وإذا غلب عليه الأخذ بما يمكن أن يسمى بالرخص تجوّزاً - ليس بالرخص ذات البعد الآخر - يقول فلان تنطّع وعقد الدين.(43/4)
لكن منذ إن كان الناس كان الاختلاف موجود إما اختلاف تنوع أو اختلاف على حسب فهمهم للنصوص وكلما كان الإنسان في بيئة علميه زاخرة كان الإنكار العلمي عنده قليل جداً وإنما يُكثر من الإنكار العلمي من كان قليل البضاعة في العلم أو كان في بيئة غير مليئة بالعلم لأنه لا يسمعُ إلا رأياً واحدا ، أما المسجد النبوي كان زاخرا بالعلماء مع تنوع رؤيتهم للإحداث وللنصوص فلهذا نشأ القبول من طرف لطرف كما في عهد التابعين والعهد الذي عاش فيه مالك رحمة الله تعالى عليه .
ومالك رحمه الله وطأ للناس كتابا خالف فيه غيره وخالفه غيره لكن كانت الساحة الإسلامية العلمية تتسعُ الجميع لأنه ليس قول فلان بأولى من قول فلان إنما هي نظرات علميه وقد حرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه {رفع الملام عن أئمة الأعلام } الأسباب التي من اجلها اختلف العلماء وليس هذا موطن ذكرها لكن المقصود بيان البيئة العلمية في المدينة آنذاك ولهذا الطلب العلمي يحتاج إلى نفس ذات روي تخطو خطوةً خطوة لا تُعالج أمورها باندفاع والإنسان كلما كثرُ علمه قلّ إنكاره قل إنكاره للمسائل ذات طابع الخلاف ليست المسائل المقطوع بنُكرانها التي حرمها العلماء مثل الغناء وما أشبه ذلك هذه قضية أخرى أنا أتكلم عن القضايا العلمية التي اتسعت فيها أراء المذاهب الاسلاميه منذ القدم..
فمثلا حلي الزكاة المستعمل هذا منذ أن كان الناس والخلاف فيه مشهور.
ومثلا الجلوس لتشهد الأخير وكيفيته .(43/5)
هذا في المذاهب الأربعة فيه أربعة أقوال كل إمام استبان فيه قول فهذه المسائل واضرابها لايمكن لمن طلب العلم حقا أن يكثر من الإنكار فيها وإنما في ساحة العلماء يحصل البحث والمناظرة والاستقصاء رفعاً للخلاف و علواً بالهمم وكسباً في المعارف وهذا الذي كان مؤصلا في مجتمع المدينة آنذاك لمل قال أبو جعفر لمالك [ احمل الناس على كتابك قال يأمير المؤمنين لاتفعل فإن أصحاب محمد علية الصلاة والسلام ورضي الله عنهم تفرقوا في الأمصار] ولكل رأيه ودليله ولايمكن جمع الناس إليه ولذلك بعض العلماء لايخوض في الأفضل لان الأفضل كل بحسب رؤيته .
وشيخنا الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى عليه حج مفردا فلما حج مفردا ناقشه سماحة المفتي محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى عليه لماذا تفعل هذا قال أنا لا افعله لأنه الأفضل لان الأفضل مسألة لا تُناقش كل عالم يرى أن الأفضل من وجه ولكنني فعلته عمدا لأرد على من يقول انه يجب أن يتحلل الإنسان من عمرته ولهذا كما قلت انه كلما قل الزاد العلمي كثر الإنكار وترى أحدا يتصدر في مجلس أو على منبر أو على خطبة فيبطل شئ مضى عليه فعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا يُعقل أن يكون فهمك أعظم من فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
والمقصود من هذا عندما يطرح الإنسان هذا يكون دل على قلة البضاعة في العلم نحن لا نقول انه يجب أن تأخذ برأي زيد أو عمر لا لكن ليس من حق احد أن يفرض على الناس رأياً يعتقد أنه الصواب ويعتقد أن الحق محصورا فيه بل كان الأكابر من العلماء يخشون من هذا وهذا المعنى الحقيقي لقول الأمة الأربعة [ إذا خالف مذهبي قول الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط].
المقصود من هذا تحرير الأمر أول قبل الخوض في ذكر سير علماء المدينة وتحرير مسائل علمية يجب أن يتنبه لها من يطلب العلم .(43/6)
العلمُ كذلك يحتاج إلى نقل وعقل يحتاجُ إلى نقل صحيح والى فهم وإدراك لهذا النقل قال صلى الله عليه وسلم " رب حامل فقه لمن هو افقه منه " ومالك رحمه الله - ونحن ما زلنا في الحديث عن مالك - أشار إلى سوار المسجد وقال والله أدركت في هذا المسجد أكثر من سبعين والله يستسقى بوجههم الغمام يعني قوم صالحون لا يفارقون المسجد وإن منهم لو أؤتمن على بيت مال المسلمين لوجدته أمينا ولم أأخذ عنهم حديثا واحدا قالوا له لما يا عبد الله قال إنهم ليسوا من أصحاب هذا الشأن يعني عُباد لا يعرفون كيف ينقلون العلم قد يُغرر بهم فكل مجال خلقه الله جل وعلا في فنون الحياة خلق له رجال يحسنونه فليس من الصواب أن يطلب من الأمة كلها أن تكون علماء لان العلماء في الأمة هم الرؤس هم الأكابر ولا يُعقل أن الأمة كلها تصبح على مستوى واحد .
بل قال الله جل وعلا في الجهاد وهو ذروة سنام دينها قال ((وما كان المؤمنون لينفروا كافه )) فالله جل وعلا وزع القدرات فيجب أن يستصحب الإنسان هذا قبل أن يقدُم هو على العلم أو قبل أن يُشير عليه به فليس كل احد يصلح أن يطلب العلم وليس كل احد يجد في نفسه الرغبة والتأهل إلية وإن كان العلم منزلة ذات شرف لا يُضاهى ومجد لا يُبارى ...
نعود فنقول بدأنا بمالك كتوطئة قبل الخوض في علماء أهل المدينة كان شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه يقول إن استنباط مالك يوافق الكتاب بل أكثره مأخوذ من كلام الله جل وعلا ولذلك شدد مالك على الرافضة وقال [ ليس لهم في الإسلام شيء من الفيء] محتجا بأن الله ذكر في القران الفيء للمهاجرين ثم قال (( والذين تبوءُ الدار والإيمان )) ثم لما ذكر الفيء في هاذين الفريقين قال جل ذكره بعدهما قال ((والذين جآءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن )) فمن لم يترضى عليهم ولم يستغفر لهم فليس داخلاً في عمُوم المسلمين الذين يُعطون من الفيء ..(43/7)
وهذا المنهج في الفهم أخذه الأمين الشنقيطي كما سيأتي في الحديث عن سيرته رحمة الله تعالى . المقصود هذه المدينة كأجواء في عهد مالك رحمة الله والله جل وعلا إذا أراد شيئا هيأ أسبابه فإذا أراد أن ينشر علم احد هيأ أحدا أو غير ذلك مما يساعد على نشر ذلك العلم بشتى الطرائق .
لكن ينبغي أن يعلم انه وإن عرفة الأمة عُلماء مشاهير إلا إن العلم ليس محصورا في فقط في من اشتهر فكم من عالم جليل القدر لايعرفه الناس ولايعني ذلك قدحا في النيات وهذا من الأخطاء الشائعة إن الناس يظنون أن الشهرة مبنية على صلاح النية وان عدم الشهرة مبنية على فساد النية وهذا ليس من الصواب في شيء النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنما الأعمال بالنيات " أي اجر النية على اجر العمل أما إفادة الناس من العمل فليس معلقا شرطا بالنية.
وحتى تتضح المسألة وبضرب الأمثال يتضح المقال :
لو إن إنسانا عنده مال ثريا جدا وقال أريد أن ابني مسجدا يقول في نفسه فقدرته المالية جعلته يتخذ طريقا أو مكان أو قطعة ارض في كثافة سكانية كبرى ثم بنى فيها المسجد وهو يقول في نفسه بل ربما قال لأقرانه إنا لا أُريدُ بهذا وجه الله إنا أُريد الشهره فكتب على المسجد مسجد فلان بن فلان عمداً قد يكتبها رجل لله ، وقد يكتبها رجل لغير الله وبقدرته المالية جعل مواقف للسيارات وداراً لتحفيظ وأتى بأئمة يحرصُ الناس على الصلاة ورائهم وأتى بمحاضرين يحبهم الناس وأتى بموظفين وانفق عليهم أمولا فحيي المسجد .
فالناس الأمام يرغبون في القراءة ورائه والمسجد مخدوم من حيث المواقف وغيرها وحلقات التحفيظ تعطي مكآفات وهناك سيارات وتقدم وتُؤخّر للمسجد فالناس انتفعوا وإن كان صاحب المسجد لم ينتفع لأنه ما أراد به وجه الله .
وقد يأتي إنسان أراد بعمله وجه الله لكنه لم يوفق للمكان ولم يعان في أمور عدّة فلم يأتي احد مسجده.(43/8)
فهذه أمور لا ينبغي أن من رأيناه مشهوراً ظاهراً حكمنا عليه جزما بأنه صالح النية نعم نرجو الله أن يكون صالح النية لكن لا يحكم عليه ،، ومن رأيناه مغمورا لا يعرفه احد نُشكك في نيته فهذا كله تطاول وأمور لاسبيل لنا عليها والله تعالى يقول (يوم تبلى السرائر )ولنا من الناس ظاهرهم .
هذا كله ساقنا إلى قضية إن مالك أراد الله أن ينشر علمه وكان من أسباب انتشار علمه أمور عدة لعل من أشهرها:
أن يحيى ابن يحيى الذي قدم إليه من بلاد الأندلس بلاد المغرب طلب العلم أدرك مالك في آخر حياته وكان يحيى هذا منصرفا للعلم وحده وذات يوم جاء فيلٌ في المدينة والفيل حيوان غير مألوف في جزيرة العرب رؤية فانصرف الناس خرجوا من المسجد يشاهدون الفيل يتسامعون ويتناقلون هناك فيل ومالك كان ذا سمت ووقار وهيبة في مجلسه يقال عنه كما في مقدمة الموطأ 00
يأتي الجواب فلا يراجع هيبة والسألون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المهاب وليس ذا سلطان(43/9)
فخرج كل من في المسجد إلا مالك ويحيى ابن يحيى رحمة الله بين يديه قال يُبني علاما لا تخرج إلى ما خرج إليه الناس قال إنني قدمت من بلادي لأراك واخذ عنك العلم ما قدمت لأرى الفيل فأُعجب به مالك فصار يدخله بيته فأخذ علما عن مالك وقُدّر له أن يرى الليث ابن سعد قرين مالك لكنه سكن مصر وكان الليث على دابته فقام يحيى هذا وهو يومئذ شاب فقاد الدابة لليث وهو لا يعرفه - أي الليث لا يعرف يحيى - فدعا له - ولعلها وافقت ساعة إجابة - قال له يا بُني أُنظر دعاء العلماء قال [ يا بُني خدمك العلم] - هو الآن قدم عالما - قال[ يا بني خدمك العلم] فلمّا توفي مالك وفرغ يحيى ابن يحيى من رحلته عاد راجعا إلى بلاد المغرب وفي الطريق مرّ على بغداد فجلس يحدث بها مأخذه عن مالك فأخذ مسلم ابن الحجاج كثيرا من علم يحيى ولهذا جلّكم قرأ في الصحيح ترى أن مسلم يقول حدثنا يحيى ابن يحيى ثم يسوق السند عن مالك مثلا عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رجع إلى المغرب أي إلى الأندلس - تُسمّى المغرب آنذاك - وسكنها يحيى ابن يحيى كان رجلا محبوبا فحصلت له بعض القضايا مع السُلطان فقربة السلطان فأصبح السلطان لا يعين أحدا في قضاء إلا بتزكية من من ؟ إلا بتزكيةٍ من يحيى ابن يحيى فيضطر الطلاب أن يدرسوا عند يحيى ابن يحيى وهو يدرسهم علم مالك فانتشر علم مالك في المغرب إلى اليوم وظهر هناك ابن عبد البر رحمة الله تعلى عليه أعظم من خدم المذهب المالكي كما في التمهيد.
الذي يعنينا هذه جملة عن الأحداث التأصيليه عن رجلٍ ولد في المدينة وتوفي بها هو مالك رحمه الله تعالى رحمة واسعة وهو مدفون بالبقيع رحمه الله تعالى رحمة واسعة .....(43/10)
أما المعاصرون من العلماء فلا ريب إن الله جل وعلا منّ على جزيرة العرب بلّم شملها على يد الملك عبد العزيز غفر الله له ورحمه والأمن السياسي إذا وُجد أعظم ما يعين على طلب العلم لأن الناس إذا خافوا أو جاعوا انصرفوا إلى ما يزيل خوفهم أو إلى ما يزيل جوعهم فيقّل شغف الطلاب بالعلم .
من ابرز العلماء:
الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى علية وهذا الرجل أصله من بلاد شنقيط وموريتانيا كبلد يسكنها عرب وعجم يخدمون العرب واللغة العربية لكلا الفريقين وفيها قبائل بعضها انشغل بالإغارة على عادة القبائل والتنافس بينها والتنازع ،، وبعضها انشغل بالتجارة مع طلب العلم ،، ومن القبائل التي في موريتانيا التي انشغل أبنائها بطلب العلم الجكنيون الذين منهم الشيخ وأصولهم من حمير من اليمن.
هذا الرجل رحمة الله تعالى علية ولد هناك ثم حفظ القران بعد أن عاش يتيما وعهدة به أُمة وعنيت به عناية عظيمة وهي رسالة للآباء والأمهات أول من يغرس طلب العلم في الأبناء هم الآباء والأمهات بالتشجيع فلمّا حفظ القران رحمه الله فرحت به أُمة فرحا شديدا ثم بعثته يأخذ بعض الفنون فهو يقول رحمه الله تعالى زودتني بمتاعين أو مركبين : مركب فيه كتبي ومركب فيه زادي ومتاعي وجعلت معه خادما معه بقرات وأرسلته إلى القرى والمدن التي فيها العلماء آنذاك في شنقيط فحصل على علم جمّ فرحت به امة و أخواله وكان له خال عالم يُعلمه والإنسان أحيانا يبغض من يحسن إليه دون أن يشعر لان أي إنسان يمر بمراحل زمنية فالشيخ رحمة الله ذات يوم مرض خالة فارتاح قليلا من عناء الطلب فمر على خاله وهو مريض فأضحى يقول متى يموت حتى ارتاح من الطلب ثم برئ الخال وأكمل المهمة ،المهم أخذ العلم عن غيره .(43/11)
أعظم ما عني به الشيخ وهذا لُب الحديث في اللقاء كله أن الله وفقه لأن يعرف قدر القران فكانت عنايته التامة بكلام الله جل وعلا ومن أراد الله به خيرا جعله يفقه كلام ربه تبارك وتعالى إذ أن أعظم مقصود من العلم هو العلم بالله جل وعلا ولايمكن أن يعرف الله إلا بكتابه إذ لا أ حد أعلم من الله ولا أحد أعلم بالله من الله .
فالسبيل الأول الذي كل سبيل مندرج فيه هو معرفة ايآت الكتاب حتى تدلك على الملك الغلاب جل جلاله فعُني الشيخ رحمه الله برجز كان لعلاّمة شنقيطي اسمه العلامة محمد يعرف بالبحر هذا الرجز ذكر فيه العالم ذلك منظومة في قضية الآيات المتشابهة في القران رسماً أو تلاوة لفظا أو تلاوة التي يتكرر أكثر من مرة فعُني بها وهو شاب فلما أكملها مالم يتعرض له العالم دوّنه الشيخ وتبع العالم البحر على نفس منواله وزاد عليها رحمة الله تعالى عليه .
فمثلا قال الله جل وعلا في سورة سبأ ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ) فكلمة أشياع تكررت في سوره القمر ( ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مّدكر ) في سورة القمر جاءت بضمير المخاطب (أشياعكم ) وجاءت منصوبة لأنها مفعول لأهلك ،
وفي سورة سبا جاءت للغيبة (كما فعل بأشياعهم ) وجاءت مجرورة لأنها مسبوقة بالباء فالشيخ رحمة الله زيادة على تلك المنظومة التي عني بها قال رحمه الله
في سورة القمر خاطب وانصبَ وجُرهُ وغيبنهُ في سورة سبأ
أي أن هذا الفظ في سورة القمر خاطب به وانصبه وفي سورة سبأ اجعله على ضمير الغيب وجرة كما هو صريح القران .
المقصود بدأت العناية بالقران ثم منّ الله عليه بعلم التفسير ثم قرر أن يقدم إلى الحجاز حاجاً وإذا أراد الله بأحد خيراً أعطاه فوق ما يؤمل بلقيس خرجت من اليمن إلى بلاد فلسطين تبحث عن ماذا ؟ كيف تحافظ على مُلكها تطمئن سليمان أنها لا تنازعه فردّها الله وقد أسلمت أعطاها الله فوق ماتؤمل ،،،(43/12)
وبعدها الكليم موسى عليه السلام ذهب يبحث عن جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهار فالله جل وعلا ذو منة وفضل على عباده فهذا الرجل خرج من بلاد شنقيط كل الذي يريد أن يحج ويعود فقُدّر له أن يحج فلما حج في منىً بقدر الله تكون خيمته بجوار خيمة الأمير خالد السد يري وعبد الرحمن السديري وفي أيام منى حصلت مناقشات علميه حول الأبيات فسمعهم قد اختلفوا فأستأذنهم أن يدلو بدلوه فأذنوا فلما اذنوا وجدوا علما جمّا وبحراً لا ساحل له فقرّبوه وعُرض أمره على الملك عبد العزيز رحمة الله تعالى فأمر له بالجنسية له ولمن في كفالته ومن قرابته ثقةً في الشيخ وإكراماً له فكانت سببا في أن يستوطن الحجاز ثم منّ الله جل وعلا بعد ذلك لمّا لم تكن في ارض موريتانيا الكتب منتشرة كانتشارها ها هنا وليست مطبوعة متداولة في كثير من الأمور لم يقع على يد الشيخ المغني لأبن قدامه وهو هناك وأهدي له من قبل إمام الحرم آنذاك الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمة الله تعالى عليه فكان نظره في تفنن المذاهب زاد على حصيلته التي حصل عليها في موريتانيا فأسهمت في إيجاد حصيلة علمية له رحمة الله تعالى عليه.(43/13)
هذا من حيت الإجمال وسنقف وقفات مُعينه مع سيرته أعظم السير ، أعظم ما جاء في سيرته رحمه الله عنايته بالقران كان يقول السنة كُلها في أية واحدة (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوه ) درّس في الرياض ها هنا وحاضر مرة في مسجد وممن حضر المحاضرة الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله فشرح العقيدة شرحاً علميا مؤصلاً فلمّا فرغ والعلماء يعرفون بعضهم بعضا قال الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله جزى الله عنا الشيخ محمد الأمين خير الجزاء - ثم ماذا قال ؟- قال الجاهل عرف العقيدة يعني من حضر المجلس وهو ليس معدوداً من العلماء الآن عرف العقيدة الجاهل تعلم العقيدة طبعاً الشيخ عبد اللطيف عالم لا يستطيع أن يقول والعلماء تعلموا العقيدة كيف صاروا علماء وهم لا يعرفون العقيدة قال رحمه الله والعالم تعلم الطريقة والأسلوب أي التي يُعلم بها الناس لكن هذا مبني على حرص الشيخ على علم الآلة لا يمكن لأحد أن يطير قبل أن يُريش هناك طرائق وأساليب حتى تصل إلى غايتك لكن الإغراق في علوم الآلة يُضيع الهدف فإذا علم الآلة أخذ شطر عمرك ماذا بقي للهدف وإن لم يأخذ علم الآلة من جهدك شيئا مُحال أن تصل إلى هدفك لابد الإنسان أن يجمع ما بين علم الآلة في التقديم الأول يؤصل نفسه ثم بعد ذلك ينتقل إلى العلم الشرعي محال أن يتصدر الإنسان وهو لايعرف شيئا عن لُغة العرب ولاعن شعرهم ولا عن آدابهم ولا أسلوب كلامهم هذا محال ولا أن يعرج على شيئا عن تاريخهم الشيخ الأمين قبل البلوغ له أقران يتنافسون فألف منظومة في النسب في نسب بني عدنان وسماها {خالص الجمان } فلما بلغ وجرى عليه قلم التكليف أخذها وحرقها ودفنها فلامه مشايخ عصره فقال رحمه الله إنني لم أدونها لله دونتها لمنافسة الأقران فلذلك أخفيتها فقال له العلماء يمكن تحسين النية لكنه رفض وبقيت مخفيه إلى يومنا هذا لأنه عندما صنعها كان يغلب عليه انه كان ينافس أقرانه في الطلب 0(43/14)
أقول العلم بالقران قبله العلم بالآلة والعلم بالقران مفتوح يقول على رضي الله عنه وأرضاه "إلا فهما يؤتيه الله من يشاء في كتابه " فباب العلم في القران مفتوح لان الله جل وعلا كتابه اجّل من أن يحوي فهمه صدر رجل واحد لكنه يبقى على مر العصور ينهل منه العلماء فهو كلام رب العزة والجلال .
نقول عني الشيخ عناية عظيمة بالقران تأصيلاً وشرحاً ويستطرد كثيراً حتى يستفيد الطلاب من شتى الفنون ويجعل القرآن هو المرجع وقد خاطبه الشيخ عطية سالم رحمة الله تعالى عليه وهو تلميذه النجيب الأول فقال إن القرآن هو جامع العلوم ومنه انطلق إلى شتى فنون العلوم إذا أردت أن اشرح فأتكلم في الفقه وأتكلم في الأصول وأتكلم في التاريخ وأتكلم في الحديث وأتكلم في اللغة وكلٌ يأخذ منا بطرف وهذا يحتاج إلى رجل ذي سعة في العلم كما كان الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه.
هذه العناية بالقران هي التي فيما يغلب على الظن ولا نزكي على الله أحدا أسهمت في وصول الشيخ إلى تلك المنزلة العلمية العظيمة التي وصلها في عصره مع هذا كله كان الرجل يتقي الله في الفتوى تقوىً عظيمة بل في أخريات حياته كان يتحرج من الفتوى وكان يقول إن الفتوى نوع من البلاء والعاقل يكون من البلاء في عافية.(43/15)
وقد قلت في محاضرات عدة إن وفد من الكويت حضر إليه رحمه الله في أخر أيامه يسألونه عن مسألة أظنها كانت عن البرلمانات فلما دخلوا علية يسألوه وهم قد شدو إلى علمه الرحال اعتذر عن الإجابة فلما أكثروا علية كان مضطجعاً كما يقول ابنه الشيخ عبد الله وهو حاضر وهوالذى أخبرنا بهذا يقول فأصلح جلسته ثم قال أُجيبكم فيها بكلام الله فكأنهم فرحوا فقال قال الله قال الله تعالى (ولا تقف ماليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل اؤلئك كان عنه مسؤلا) فلما أكثروا عليه وهذه الكلمة لازمته في آخر حياته قال قال العلماء كذا وقال فلان كذا ويضع أصبعه على رقبته ويقول أما أنا فلا أُحمّل ذمتي من كلام الناس شيئا لا ادري.
وأنت ترى اليوم من يبحث عن من يسأله ومن يتجرأ على السؤال ومن يكون لديه قدره على المجابهة لكن ليس لديه قدره على أن يرجح وحتى أن وصل إلى أن يرجح تجده يسُفه أقوال غيره.
يقول أحد أعضاء هيئة كبار العلماء حججت معه لقيته في الحج مرة يقول درسنا الشيخ في الرياض في كلية الشريعة فذكر قول لأبي حنيفة فكأنة أطال فأعترض أحد الطلاب وأراد أن تمضى المسألة قال يا شيخ وان قال أبو حنيفة فغضب الأمين رحمة الله تعالى عليه يقول وضرب اللوح بيده مراراً وقال للطالب أنت لا توازي شراك نعل أبو حنيفة أبو حنيفة أمام رضيت أو لم ترضى ثم قال بعد أن هدأ روعه وخف غضبه قال يابنى أبو حنيفة إمام وليس لزاماً أن نأخذ بقوله لكن عليك أن تحترم رأيه فالأمة شهدت له بالعلم والقبول وشهد لهُ أفذاذ من العلماء ليس أنت عندهم بشيء والعاقل ما يهدم شيئا قد تم ولا يجابه شيئاً أُجمع عليه ولا يواجه تيار صعب فكيف يضع نفسه أمام هذه القمم الشامخة يُسّفهها ويُقلّل من علمها ويُقلّل من علو منازلها التي أعطاها الله جلا وعلا إياها .(43/16)
والحرص على احترام من سبقك من العلماء أو من عاصرك من أعظم الدلالة على تأصُل العلم فيك ، رُزق الرجل مع هذا العلم تقوى من الله عجيبة كان يقول قدمت من بلادنا بكنز لا أريد افقده أو أن أضيعه وهو القناعة ولذلك لم يُقدم يوما طلباً في زيادة مرتبة ولا في رفع درجته ولم يسأل يوما أحدا مالا وما أعطي من مال من غير سؤال أخذه وقبله ثم يوزعه ومات ولم يورّث شيئا وقد كنت اسكن على مقربة تامة من داره وعندما مات كنت تقريبا في الثاني عشر أو الحادي عشر من العمر آنذاك غفر الله له ورحمه .
الذي يعنينا الآن قضية حياة العلماء وهي قضية الاتصال بالله تبارك وتعالى
والعظيم من يستشعر الأمر قبل أن يقوله للناس جلس مرة والله في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يُريد أن يفسر قول الله (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وكان من طريقته إن هناك تالي للقران يتلو القران ثم الشيخ يفسر فردد الشيخ الآية (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) وأخذ يبكي حتى أذن المؤذن لصلاة العشاء لم يفسر أية واحدة .
إن من أعظم ما يرزقه العالم القناعة أو العلم التام بما يقول لكن إذا كان الرجل يتكلم من لسانه حتى ولو انتفع به الناس لا ينتفع هو بأجر علمه فقد يكون هناك لبيب خاشع خاضع في المجلس ينفعه الله جل وعلا بما قلت لكن أيُ كرامة هذه عند الله ضائعة إذا كنت ينتفع الناس بما تعلم ولا تنتفع أنت به بين يدي ربك.
والله جل وعلا لما أراد من أنبيائه العظام أن يقول شيئا على علم به حقا قال في حق إبراهيم (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين ) .
ولما أراد أن يتم نعمته على نبينا صلى الله عليه وسلم عرج به إلى سدرة المنتهى فرأى صلى الله عليه وسلم الجنة والنار حقاً حتى إذا حدّث عن الجنة وعن النار أصبح صلى الله علية وسلم يُحدث عن علم صلوات الله وسلامه عليه.(43/17)
ليس العلم أن يأتي المحاضر أو الداعية أو الخطيب أو الموفق إلى كلمات يقرأها يحضرها قبل المحاضرة ثم يقولها للناس ، العلم الحق أن يستشعر بها في نفسه وأن يعمل بها بينه وبين الله حتى إذا قالها للناس خرجت من قلبه قبل لسانه فالإمام أحمد رحمه الله لما كتب المسند مر على حديث أن النبي إحتجم وأعطى الحجام كذا درهم فذهب واحتجم وأعطى الحجام مثل ما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم كتبه في مسنده رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة
معشر القراء يا ملح البلد من يصلح الناس إذا الملح فسد
والله جل وعلا يقول (( واتلوا عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها )) ثم قال جل وعلى يضرب مثلا لعالم السوء الذي عنده علم ولم يعمل به قال الله (( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث )) قال بعض أهل العلم والعلم عند الله في بيان هذا أن الله جل وعلا لما أهبط آدم إلى الأرض أمر إبليس نزغ في السباع أن تؤذي آدم فكان الكلب يوم إذاٍ سبع كاسر فجاء جبريل وأوصى آدم أن يمسح على رأس الكلب حتى يتقي شره فمسح آدم على رأس الكلب فمات قلبه أي مات قلب الكلب فخرجت منهُ السبعيه التي أوجدها الله فيه ولهذا الكلب الآن إذا غلبت عليه مسحة أدم يحرسك وإذا غلبت عليه نزغات الشيطان يفترسك فيقع منه النفع ويقع منه الأذى ولا يوجد هذا إلا في الكلب .
أما الحيوانات بعضها أليف وبعضها سبع وفوارس كاسرة مؤذية إلا الكلب يجمع مابين كونه سبعي ومابين كونه أليف ولهذا أباح الله جل وعلا صيده فهو ميت القلب لا يركن إلى طبع فجعل الله جل وعلا عياذاً بالله عالم السوء كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث .(43/18)
وهذا العلم الذي يحفظه العلماء في صدورهم إما أن يكون لهم بين يدي الله حجه لهم يؤجرون على ما قالوه أو أن يكون عياذ بالله حُجه عليهم وقد قال الله جل وعلا (( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) لكن الناس يقرؤن هذه الآية من آخرها ويعلقونها في الفصول والمدارس والكليات والسيارات ولا تُقرأ هكذا إنما يقرأ أولها وهذه الآية جاءت تذييل ولم تأتي تأسيس فمن الذين يعلمون الذين قال الله إنهم لا يستوون مع الذين لا يعلمون ليس الذين يحفظون المتون ويتكلمون ارتجالا أو ما أشبه ذالك قد يكونون منهم لكن العالم الحق من وقف يبن يدي الله عز وجلا في ظلمات السحر يسأل ربه ويرجوه ويدعوه ويتوسل إليه كما كان شأن محمد صلوات الله وسلامه عليه.......
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أتاكه الله انتفعت
فإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس انك قد رؤست
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملت
نعود فنقول هذه العناية الأولى ...
والعناية بلغة العرب وهي مبنية على الأول وقد تكلمنا عنها استطراداً في إن الشيخ رحمه الله كانت له عناية كبيرة بلغة العرب لأنها الطريق إلى القران وقد ذكر في سيرته انه لما مرّ على السودان سأله بعض طلبة العلم عن أخر كتاب قرأه فقال أخر كتاب قرأته{ ديوان عُمر ابن أبي ربيعه} فأغتاظ الناسُ غضبا لأن ديوان عمر ابن أبي ربيعه في الغزل وهو لا يُظن به أن يقرأ في مثل هذا فقال رحمه الله مجيباً استعين به على فهم كلام ربي فالعلم بما دونه الشعراء العرب خاصة في عصر التدوين الأول الذي يُستشهد به يُعين المرء على فهم كلام الله تبارك وتعالى .(43/19)
الشيخ رحمه الله توفي في مكة المكرمة كان معه سائقه في ليلة مزدلفة قال له السائق أو في صبيحة العيد إنني رأيت رؤيا رأيت النبي قد مات فتوقف الشيخ قليلا فقال السائق إنني رأيت النبي قد مات لكنه ليس النبي كأن الشيخ غضب قليلا قال ما أدراك انه ليس النبي قال عندما نظرت لم يكن هيئة النبي صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه فأحس السائق الذي قص الرؤيا انه أحرج الشيخ فقال لعلها ليست رؤيا لعلها أضغاث أحلام قال لا لا هي رؤيا ويقضي الله ما شاء خيرا إن شاء الله ثم مات بعدها بثلاث ليالي أو أربع.
وتعبيرها أن العلماء ورثة الأنبياء والشيخ كان يعلم من نفسه انه اعلم أهل زمانه وان كان لا يدّعي هو بنفسه فلما اخبر أن النبي قد مات أي أن عالم هذه الأمة آنذاك سيموت خاصة إن الرائي قال لم أرى هيئة النبي صلى الله عليه وسلم لكن وقع في نفسي انه نبي فمات رحمه الله في مكة المكرمة وبها دفن وترك علماً جمّا ونحن لا ندعي لا له ولا لغيره العصمة لكن نذكر رجلاً علما نحسبه عند الله كذلك والله اعلم بسريرته نسأل الله لنا وله غفران الذنوب وهذا واحداً من أشهر علماء المدينة في هذا العصر .(43/20)
ومن علماء المدينة في هذا العصر علماء آخرون لكننا نذكر إجمالا عن بعض ماقدموه منهم الشيخ صالح الزغيبي وهذا كان إماما في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُضرب به المثل في قضية المحافظة على الإمامة صلّى في مسجد رسول الله 25 سنه لم يغب فرضاً واحداً وكان يصلى الفروض الخمسة كلها وذات يوم جرت عادته أنهُ يدخل المسجد قبل الآذان الأول فيُوتر ثم بين الآذان والإقامة ينتظر الإقامة ثم يصلى ووضع وقتا محدد يعرفه الناس متى يقيم الصلاة فلما قام ليتوضأ بين الآذان والإقامة لدغته عقرب فشعر فلما توضأ أخذ يتصبر حتى يصلي بالناس وعجز أن يبعث أحداً إلى الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله الذي أخذا الإمامة بعده إلى أن يصلى بالناس ولم يُرد أن يقدم إقامة الصلاة حتى لا يتضرر من تعود على وقت الإقامة ثم صلى بالناس فلما فرغ من الصلاة خارت قواه وسقط ثم أُسعف رحمة الله تعالى عليه .
ويقولون عنه خلال 25 سنة انه لم يسهو قط في صلاته ولم يُنقل عنه انه سها مرة واحدة وهو يصلي بالناس الفروض الخمسة 25 سنة و زاره ذات مرة إمام الحرم المكي في زمانه وقال أنا ارغب أن أصلى فرض واحداً هنا حتى اشعر إنني صليت في الحرمين إماماً فمنعة وقال لا يُقدم ولا أوثر بهذا المكان احد حتى ضعف في أخر أيامه.
فصلى بعده الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله وقد صليت ويمكن بعض منكم كثيرا صلى وراءه وهو توفي تقريبا قبل حوالي عشر سنوات والشيخ عبد العزيز رحمه الله صلى في حرم رسول الله 45 سنه وهو أكثر أهل زماننا وأكثر أندادنا وأقراننا صلى وراءه وهذا الرجل يقول عنه الشيخ عبدالله آل بسام في ترجمته لعلماء نجد انه رجل غلبت شخصيته على علمه كان قوي الشخصية جدا ًوهذه بين قوسين تحملوها ( كان أحب خلق الله إليّ إلى يومنا هذا)، وأنا نشأت متأثرا ًبه إلى ابعد درجه رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة .(43/21)
وكان فيه قوة شخصيه لا يمكن أن تراها في أحد وله في ذلك أخبار وقصص ليس هذا موردُها لكن منّ كان عالماً عارفاً ببعض الأمور الخاصة يعرُفها عنه رحمةُ الله تعالى عليه رحمةً واسعة كان رجُلاً مُهاباً بشيءٍ لا يكاد يتصورهُ أحد ، إلا أنّ أعظم مزيةٍ فيهِ يقول الشيخ إبراهيم الأخضر القارىء المعروف يقول لو أنّ هُناك جسد خُلي من الحسد لكان الشيخ عبد العزيز بن صالح .
الإنسان جبلّة يا أُخي لا يُحب يحب أن ينافسه احد في شيء عُرف به وهذا الرجل كان إماما في حرم رسول الله فالذي أذن لكثير من المشايخ أن يدرسوا رغم اختلاف أعراقهم وبعدهم بعضهم ليس من السعودية أصلا وسعى في تمكينهم هو الشيخ عبد العزيز بن صالح .
صلى ذات مرة في مسجد قباء وكان الشيخ على الحذيفي حفظه الله الإمام الآن يصلي إماما في قباء فأعجبه أداء الشيخ وصوته فلما فرغ يقول الشيخ علي نفسه يقول قُمت أسلم عليه فلمّا سلّمت قال لي يا بُني إن شاء الله نجيبك في الحرم ثم يقول بعد مدة اتصل بي وقال ترى كلمنا المسؤلين ووافقوا تعال صلي في الحرم .(43/22)
العادة أن الأئمة من جهة ثانيه يُكلفون بالحرم فإن يأتي إنسان مسئول عن الحرم يأتي بأئمة لا حرج لكن إمام الحرم نفسه يبحث عن أئمة حسن الصوت قوي الأداء متقن هذا قليل ثم في عام 1411 هـ أو 1410هـ الشيخ محمد أيوب لم يكن يعرفه أحداً من الناس إلا أهل المدينة في المساجد والشيخ يوم ذاك كان يصلى بالناس التراويح فقال له احد أبنائه إن الشيخ محمد أيوب شيخٌ حسنُ الصوت وهو لا يعرفه قال يا بني اسمعني صوته هذا الكلام 28 شعبان حتى تعرف القوة فلمّا سمعه ارتاح لقرأته قال لابنه أأتني بالشيخ محمد أيوب يقول الشيخ محمد أيوب فاستدعاني يوم 28 شعبان وأنا انتظر التكليف أن أصلي إماما في مسجد القبلتين قال يا بني إن شاء الله تصلي معانا بكره ليلة رمضان تصلي بالناس فأنظر شخص يناديك طبعا أنت تعرف إمامة الحرم هذه تمر بوزارات في الدولة معروفه ويحتاج إلى إذن لكن الشيخ كان من قوتهِ وسلطانة ونفوذ كلمته في البلد واحترام ولاة الأمر له ، له شأن عجيب ولأجل ذلك قلنا لم ترى أعيننا كلنا أهل المدينة رجل في مثل شخصيته قال إن شاء الله بكره تأتي تصلي في الحرم إمام فجاء الشيخ لما نودي برؤية الهلال قدمه يصلي فجاءت بصراحة كذا بعض الاعتذارات من ضعفاء الإيمان أو ضعفاء العلم فأبقاه حتى نهاية الشهر قال له يا بني من صلّى هو الذي يُختّم وهو يستطيع أن يُختّم الشيخ فدعاه لأن يختم القران ويختم بنا وصلينا وراءه تلك العام رحمة الله تعالى عليه ..
وهذه الأمور تدل على عظمه في النفس وجلاله في القدر وحب الخير للناس وأنا ذكرتُ شيئا مما يُستساغُ نشره و إلا ثمّة أمور كثيرة تُبين علو قدر الرجُل وهيبة لا يعلمها إلا الرب تبارك وتعالى في ذلك العبد الصالح وكان الناس يحبونه حبا جمّا لقدرته على تغيير المنكر ولنفوذ أمرة وقوة سلطانه رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة ...(43/23)
من علماء المدينة كذلك الشيخ محمد المختار الشنقيطي رحمه الله والد الشيخ محمد المختار المعاصر الفقية الواعظ هذا والده توفي عام 1405هـ وكان يدرس السُنن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رحمة الله به وهي ذُريه بعضُها من بعض أن الشيخ محمد المختار الآن الأبن يدرس في حرم رسول الله صلى الله علية وسلم .
الشيخ أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى ومتع به وختم له بخير له قرابة 50 عام يدرس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رجل عليه نور الإيمان ولا نُزكي على الله أحدا وله فضل واسع خاصة في وعظه للعامة وله أثرٌ كبير في كل من يحضر دروسه تُرقق القلوب وتُذرف العيون في درسه وقد منّ الله علية بان هدى الله جل وعلا على يديه خلقاً جمّاً رحمه الله تعالى رحمه واسعة....
هذه نتف وشذرات من هنا وهناك عن بعض علماء مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نُريد أن نصل أليه ختاماً أننا لا نريد أن نذكر أقوالا أو تواريخ لكن نقول لكل من يطلب العلم يكون حريصاً في أخلاقه وسيره مع الناس لا يتشوّث بالمال فان المال من أعظم مُهلكات طالب العلم ،، وفي نفس الوقت يحرص على ألا يكون يبتغي الشهرة ولا يلتمسها على أن التأصيل العلمي الذي دوناه في الأول ينفع كذلك هذا ماتيسر إيراده وتهيئ إعداده وأعان الله على قوله..
تم بحمد الله وتوفيقه
اللهم إنّا نسألك القبول في الدُنيا والآخرة(43/24)
فاجعة الفجر
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى لا رب غيره ولا إله سواه وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيا عن أمته اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد
فقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال ذات يوم لنفسه لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ في بيته وخرج يسأل عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكلما سأل عنه في مكان قيل له مر من هاهنا مر من هاهنا حتى علم أن النبي عليه الصلاة والسلام توجه إلى بئر أريس في قباء اليوم. فتبعه، فدخل صلى الله عليه وسلم حائطا أي بستانا، فتوضأ ثم جلس عند بئر أريس جلس على قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر فجلس أبو موسى الأشعري بوابا لرسولنا الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر يستأذن، فأذن له وقال له ائذن له وبشره بالجنة، فدخل أبو بكر وجلس بجوار رسولنا صلواته الله وسلامه عليه وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فاستأذن فأُذن له وقيل له بشره بالجنة، فدخل عمر فصنع ما صنع صاحباه، ثم جاء عثمان فاستأذن فأُذن له وقيل بشره بالجنة على بلوى تصيبه فقال عثمان: الله المستعان، ثم لما أتى البئر وجدهما قد امتلآ في الجهة التي هم فيها، فقابلاهما أي جلس في الجهة المقابلة، وكشف عن ساقيه ودلاهما كما فعل أصحابه من قبل صلى الله على نبيه ورضي الله عن أصحابه.(44/1)
أيها المؤمنون كذلك المؤمنون الأخيار يتبعون سنة وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، كان الصحابة يلتمسونه حيا بين أظهرهم، ونحن اليوم نلتمس حياته وسيرته وهديه، في ما نقله المتقون الأبرار والصالحون الأخيار مما حوته كتب العلماء من سيرته صلوات الله وسلامه عليه. وفي العام التاسع كان عام الوفود، فقدم المدينة خلق كثير كلهم يفد إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم ممثلا لعشيرته وقبيلته وقومه يريد أن يسمو بنفسه ويزكى قلبه ويتطهر من الذنوب بملاقاة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله بسنده أن ممن قدم ذئب قدم حتى أتى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعوى فقال عليه الصلاة والسلام: هذا وافد السباع.
وأنتم أيها المؤمنون الأتقياء الأبرار ما جئنا جميعا إلا لنتلمس بعضا من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فكم في السنة من دلالات ضافية ومعان شامخة وعظات بالغة يفيء المؤمنون إلى فحواها ويقتبسون من سناها وهذا اللقاء إضاءات ثلاث إن نظرت إليها كعناوين وهي في عمومها تأملات وتدبر في سيرة خاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
أبا الزهراء قد جاوزت قدري *** بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان *** إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدرا *** فلما مدحتك اجتزت السحابا
فمن يغتر بالدنيا فإني *** لبست بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيان إلى غبي *** ولي ضحك اللبيب إذا تغابى
جنيت بروضها ورداً وشوكا *** وذقت بكأسها شهداً وصابا
فلم أر مثل حكم الله حكما *** ولم أر مثل باب الله بابا(44/2)
أيها المؤمنون للعلماء في تتبع السيرة العطرة طرائق عدة، منها طرائق الفقهاء في استنباط الأحكام، ومنها ما نشرع فيه اليوم من التتبع العام لهديه صلوات الله وسلامه عليه، فنستضيء قدر ما أمكن ببعض سيرته فيكون العنوان مدخلا لما يريد أن يبث في الناس من الهدي النبوي والسيرة العطرة والأيام النظرة لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الإضاءات على الترتيب :
صلاة الفجر
الريحنتان
الحياة البرزخية
سنبدأ بأولاها صلاة الفجر(44/3)
هدي الأنبياء الأعظم القيام بالعبادات والصلوات ذروة العبادات، وصلاة الفجر ذروة الصلوات وتاجها، أفردها الله جل وعلا في القرآن ذكرا فقال جل جلاله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) فجعل الله جل وعلا الفرائض الأربعة يتبع بعضها بعضا، وأفرد صلاة الفجر لوحدها زمانا وأثرا، صلاة الفجر أحد أعظم الأسباب في رؤية وجه الله تبارك وتعالى، وليس للمؤمنين غاية أعظم من أن يروا وجه ربهم تبارك وتعالى. أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى القمر ليلة البدر فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لأصحابه: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم تلا صلوات الله وسلامه عليه: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) قال العلماء من المفسرين وغيرهم قالوا: قبل طلوع الشمس أي صلاة الفجر وقبل غروبها أي صلاة العصر، صلاة الفجر أيها المؤمنون المحافظة عليها جماعة في مساجد المسلمين للرجال بعض دلالة على البراءة من النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا) صلاة الفجر مع أخواتها مما يؤدى في الظلمة يكسب المؤمن نورا تاما في عرصات يوم القيامة، يوم ما يكون المؤمن أحوج ما يكون إلى النور، قال عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة).(44/4)
صلاة الفجر أيها المؤمنون ارتبطت في تاريخ الأمة بأحداث عظام، إما بفقد عظمائها أو بآمالها أو بآلامها على من تتبع السيرة والتاريخ الإسلامي كله سيجد إرثا كبيرا في قضية صلاة الفجر، صلاة الفجر آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل موقعة يوم بدر، فإنها كانت صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان، فكان آخر عهد من استشهدوا من الصحابة في بدر ومن انتصروا كان آخر عهدهم بالدنيا آنذاك صلاة الفجر خلف رسولنا صلى الله عليه وسلم، صلاة الفجر صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر على مقربة من خيبر قبل أن يصل إليها على أشرافها على أطرافها صلى صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الصبح ثم دخل خيبر، فلما دخل على خيبر بعد أن طلعت الشمس إذا اليهود خارجون إلى أراضيهم ومعهم المساحي والمكاتب، فتفاءل صلى الله عليه وسلم بما في أيديهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة أرض فساء صباح المنذرين).(44/5)
صلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة قبل وفاته، فإنه عليه الصلاة والسلام حج حجة الوداع في العام العاشر ولم يعش بعدها نبينا عليه الصلاة والسلام أكثر من ثلاثة أشهر، ولما كان في اليوم الثالث عشر رمى الجمرات الثلاث وقال قبلها إنا نازلون غدا في خيف بني كنانة فنزل عليه الصلاة والسلام في خيف بني كنانة، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وعند السحر قبل الفجر نزل عليه الصلاة والسلام إلى الحرم، فطاف طواف الوداع ثم صلى صلاة الفجر بأصحابه وبأهل مكة، ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تشرف به المهاد والنجاد يكبر على كل شرف من الأرض، فكانت صلاة الفجر آخر صلاة صلاها نبينا صلى الله عليه وسلم في مكة. و صلاة الفجر آخر صلاة صلاها الصحابة رضوان الله عليهم ونبينا عليه الصلاة والسلام حي بين أظهرهم، فلم يصلوا صلاة بعد صلاة الفجر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد مات وانتقل إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى، فإن الصحابة رضوان الله عليهم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف الستار الذي ما بين المسجد وبين حجرة عائشة وأطل عليهم وهم يصلون خلف أبي بكر صلاة الفجر فقرت عينه واطمأنت نفسه وتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف رغم وطأة الحمى عليه صلوات الله وسلامه عليه. ثم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ارتبطت صلاة الفجر كما بينا بكثير من الأحداث العظام بفقد عظماء الأمة.(44/6)
تقول السيدة الجليلة الصحابية أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنها وأرضاها: مالي ولصلاة الفجر، هذه الصحابية ولدت قرابة سنة ست من الهجرة، رأت النبي عليه الصلاة والسلام لكنها لم ترو عنه لأنه مات وسنها أربع سنين، هذه الصحابية أرادها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لنفسه ليتزوجها حتى يكون بينه وبين آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب، فكلم أباها عليا فاعتذر بصغر سنها فلما رأى إلحاحه قال له: إني سأبعثها إليك، فإن رضيت بها فثم، فأعطاها بردا وقال لها اذهبي به إلى أمير المؤمنين، فذهبت به إلى عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فلما رآها كشف عن ساقها بعد أن لمسه فقالت له وهي لا تعلم ما كان بينه وبين أبيها، قالت لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، فرجعت إلى أبيها فأخبرته الخبر، وقالت: يا أبتاه لقد بعثتني إلى شيخ سوء، فقال رضي الله عنه وأرضاه: يا بنية هذا زوجك، فتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه وأصدقها أربعين ألفا ولم يكن يعطى مهر في ذلك الزمان بمثل هذا القدر لكن عمر رضي الله تعالى عنه فرحا بأنه أصبح على نسب بآل رسولنا صلوات الله وسلامه عليه، فلما تزوجها عمر مكثت عنده ما شاء الله، ثم خرج عمر إلى صلاة الفجر، ثم أعيد به إلى بيته ليقال لها رضي الله عنها طعن زوجك وقتل في صلاة الفجر. ثم بعد عمر رضي الله تعالى عنه تزوجها بعض الصحابة، فخرجت مع أبيها علي بن أبي طالب إلى الكوفة فلما كان يوم السابع عشر من رمضان خرج علي رضي الله تعالى عنه ليصلي بالناس صلاة الفجر فطعن علي وضربت عنقه وهو ذاهب إلى صلاة الفجر فأعيد إلى بيته ليقال لتلك المرأة كرة أخرى إن أباك قد قتل وهو ذاهب إلى صلاة الفجر فقالت رضي الله عنها وأرضاها: سبحان الله مالي ولصلاة الفجر.(44/7)
وفي عصرنا هذا يوم الاثنين الماضي كما لا يجهله أحد اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين رحمه الله شيخ المجاهدين والمرابطين في عصرنا ولا نزكي على الله أحدا، اغتالته وهو خارج من صلاة الفجر حتى قال بعض العلماء في عصرنا وهي كلمة محمودة قال إن أول من يعزى في الشيخ أحمد أهل صلاة الفجر لأن أهل صلاة الفجر في الأمة قوم مميزون فاغتالته إسرائيل تريد أن تعرف الناس بمنطق حق القوة وليأتين عليها يوم بإذن الله يعرفها أهل الإسلام بمنطق قوة الحق وشتان بين الحالتين لمن تدبر اللفظين وما يعقلها إلا العالمون. وقد كان اغتياله رحمه الله تعالى فجيعة على الأمة ينضم مع الفارق إلى سلسلة من فقدتهم الأمة من عظمائها ومجاهديها وأمرائها عبر السنين ممن ارتبط موتهم بصلاة الفجر بعد أن أنشأ جيلا قرآنيا في الدور والمساجد وحلقات التحفيظ خرج أولئك الشباب بعد ذلك بقوة الإيمان التي في قلوبهم يقفون أمام آلة الحرب العسكرية الإسرائيلية وحلفائها بما أورثهم الله جل وعلا من اليقين في قلوبهم وهذا اليقين ربوا من خلاله على سور القرآن وإلا يستحيل عقلا ونقلا أن يقف أولئك الشباب والفتيان شامخين أمام العدو لو لم يكن في قلبهم من الإيمان واليقين والقرآن ما يثبتهم الله جل وعلا به
اضرب تحجرت القلوب وليس لها إلا الحجر
اضرب فمن كفيك ينهمر المطر
في خان يونس في بلاطة في البوادي والحضر
ولى زمان الخوف أثمر في مساجدنا الشرر
في فتية الأنفال والشورى ولقمان وحفاظ الزمر
رضي الله عن كل مؤمن جاهد في سبيل الله(44/8)
أيها المؤمنون يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر فهو في ذمة الله) فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته. إن أعظم ما يقف به المؤمن على هدي محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام مات وهو محافظ على هذه الصلاة وغيرها أعظم حفظ حتى إنه قال في السنة القبلية التي قبلها قال: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) وإن من أعجب العجب أن يفقد الإنسان حياءه من ربه جل وعلا فيسهر على لهو محرم أو يمكث على الفساد أيا كانت صوره الليل كله حتى إذا دنا الفجر نام فإذا أصبح لعمله أو تجارته أو غير ذلك خرج يرجو الرزق ولا رزق إلا من الله يرجو أن يأمن العواقب ولا حافظ إلا الله يرجو أن يوفق ويسدد في ما يقول ويفعل والموفق والمسدد والمعطي والمانع الله فيطلب ما عند الله وقد عصاه من قبل وفرط في أعظم فرائضه يقول الله تبارك وتعالى: (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكفرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عثو ونفور أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم) إن من أعظم النعم ودلائل النجاح وأسباب الفلاح أن يؤدي الإنسان إن كان رجلا صلاة الفجر في جماعة مع المسلمين وأن تؤديها المرأة أو الفتاة في وقتها في بيتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فأداء صلاة الفجر نوع من السكينة والاطمئنان وأمان ويقع المؤمن في ذمة الله وليس المراد أن يكون المؤمن في ذمة الله أنه لا يصيبه أذى هذا لا يمكن أن يثبت لا عقلا ولا نقلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام صلى الفجر يوم أحد ومع ذلك كسرت رباعيته وشج رأسه وأدمي عليه الصلاة والسلام ولكن المقصود أن الإنسان إذا بقي يبقى على خير وعافية وإن قبض يقبض وقد كان في ذمة رب العالمين جل جلاله والله تبارك وتعالى خير الحافظين، وكل سبب أدى إلى المحافظة عليها يجب أن يشرع المؤمن ويسعى إليه وكل سبب أعاق عنها أو حرم منها أو منع إياها(44/9)
فيجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عنه ويتجنبه لأن لا جمع بين الاثنين لا يمكن أن يتم الأمران سويا الله تبارك وتعالى خلق الناس منكم مؤمن ومنكم كافر وبين لعباده النجدين وأداء صلاة الفجر جماعة من أعظم الأسباب التوفيق.
الإضاءة الثانية أيها المؤمنون الريحنتان
وهذا العنوان مقتبس مما رواه البخاري في صحيحة من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا.(44/10)
أيها المؤمنون خلق الله جل وعلا الرسل بشرا فيهم ما في الناس من العواطف والرحمة والألفة وكل ما تقتضيه البشرية من خير وأعطاهم من ذلك النصيب الأوفر والحظ الأمثل ونبينا عليه الصلاة والسلام في الذروة من ذلك كله ولقد كان عليه الصلاة والسلام شفيقا رحيما بالمؤمنين كلهم فإذا تدبر الإنسان كيف كان نبينا عليه الصلاة والسلام رحيما بآل بيته وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين استبان له كثير مما خفي من سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه تزوج نبيكم عليه الصلاة والسلام خديجة ورزق منها الولد مات الأبناء قبل المبعث أو بعد المبعث بقليل وبقي البنات الأربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، تزوجت زينب ابن خالتها أبو العاص وتزوج عثمان رقية ثم مات عنها يوم بدر فتزوج بعدها أختها أم كلثوم، في منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر فدى المسلمون بعض أسراهم فكان من الأسرى أبو العاص أيام كفره زوج ابنته زينب، فأخرجت زينب لتفدي زوجها أخرجت شيئا من المصوغات كان عندها أخذته من أمها خديجة فأخرجته من خبائه لتفدي به زوجها أبا العاص فلما أخرجته ونظر النبي صلى الله وسلم إليه تذكر أيام خديجة فذرفت عيناه صلوات الله وسلامه عليه.(44/11)
حتى بعد ذلك بفترة غير بعيدة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة أحب بناته إليه، وكان يقول كما في البخاري وغيره: (فاطمة بضعة مني) ولذلك لما أراد العلماء أن يعرفوا بفاطمة كما فعل الذهبي في الأعلام قال: هي البضعة النبوية والجهة المصطفوية رضي الله عنها وصلى الله على أبيها، هذه القريبة جدا من رسولنا صلى الله عليه وسلم، جاء علي بن أبي طالب ليطلبها من رسول الله، فلما مكث بين يديه استحيى، أصابته هيبة النبوة، الإجلال، فلم يستطع أن يقول شيئا، فتكلم رسول الله عنه قال: أجئت لتخطب فاطمة قال: نعم، بعد أخذ وعطاء زوجه إياها على درع حطمية كانت عند علي، ثم دخل عليها رضوان الله تعالى عليه وأرضاه، فأنجب منها الحسن فلما أنجب منها الحسن دخل عليه الصلاة والسلام يقول: أين ابني ما سميتموه قال: سميناه حرب قال: بل هو الحسن بعد ( ) واحد حملت بغلام ثان فدخل عليه الصلاة والسلام ينشد أين ابني ما سميتموه قالوا: سميناه حرب قال: بل هو الحسين فحملت بعد ذلك فولدت غلاما فقال عليه الصلاة والسلام : أين ابني ما سميتموه قال: سميناه حرب قال: بل هو محسن ثم قال عليه الصلاة والسلام سميتهم بولد هارون بَشَّر وبُشَيِّر ومبشر أبناء هارون عليه الصلاة والسلام، وهذا أول الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا في سيرته أن يقتفي أثر إخوانه من الأنبياء من قبل امتثالا لقول الله جل وعلا: (أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده) فهو عليه الصلاة والسلام أعظم من يمتثل لأمر ربه فحتى في التسمية والكنى وما أشبه ذلك مما يراه الناس يسيرا سمى صلى الله عليه وسلم على الطريقة التي سمى بها من قبل أخوه هارون والشاهد من هذا كله أن من الناس اليوم من ينأى بنفسه عن هذه الأسماء خوفا من أن يشبه ببعض الطوائف والباطل لا يدفع بترك الحق وإنما يدفع بالمضي على الحق والثبات عليه هذا الذي يدفع الباطل لا بالتخلي عن الحق وسنة وهدي نبينا صلوات(44/12)
الله وسلامه عليه قلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له أبناء فمات محسن وهو الصغير بعد أشهر من ولادته وبقي الحسن والحسين يدرجان يغدوان ويروحان في بيت النبوة فتعلق بهما صلوات الله وسلامه عليه فعرف الملائكة في الملإ الأعلى بعلم الله تعلق النبي عليه الصلاة والسلام بالحسن والحسين فلما كان ذات يوم جاءه حذيفة رضي الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام: يا حذيفة أما شعرت أما رأيت العارض الذي أتاني هذا ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط استأذن ربه في أن يهبط إلى الأرض ويسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، فلما علمت الملائكة عليهم السلام بمقدار ما لهذين الصبيين من مكانة عند رسول الله استأذن أحدهم ربه في أن ينزل إلى الأرض ليبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. المرء إذا أصبح أبا يتغير كثير من حاله يقول عليه الصلاة والسلام: إنهم أي الأبناء مجبنة مبخلة مجهلة تدفع الرجل للجبن يخاف أن يموت عن أبنائه تدفعه للبخل يخاف أن ينفق فيصبح أبناءه من بعده فقراء تدفعه إلى الجهل فيغضب لغضبهم ويرضى لرضاهم.(44/13)
صعد عليه الصلاة والسلام المنبر وأخذ يخطب فدخل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان فيعثران فنزل من المنبر وهو رأس الملة وسيد الأمة ولو أوكل هذا الأمر لغيره لكفاه ثم حملهما ووضعهما بين يديه ثم التفت إلى الناس وقال: صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة لقد نظرت إلى ابناي هذان يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما وكفى به شاهدا دليلا على ما في قلبه صلوات الله وسلامه عليه على ما في قلبه من الرحمة إنك كونك مسؤولا في دائرة ما أو رجلا معروفا أو إماما أو خطيبا أو أو ما إلى ذلك من العطايا الدنيوية هذا لا يغير شيئا من أن تكون أبا في بيتك رؤوفا بزوجتك رؤوفا بأولادك رؤوفا بقرابتك تعطيهم تتقرب إليهم تدنو منهم فلكل مقام مقال كما تقول العرب في أمثالها ومن شواهد هذا أنه عليه الصلاة والسلام كما في المسند بسند صحيح أنه قام من الليل يسقي الحسن والحسين فرأته فاطمة وهو يدفع أحدهما ويقدم الآخر فتعجبت فقال لها يا بنية إن الأول قام قبله فاستسقاني فقمت فأسقيته ثم قام الثاني فأسقاه صلوات الله وسلامه عليه والله يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).(44/14)
من شفقة الأب على أبنائه أنه يخاف عليهم لكن خوفنا على من نحب يشمل أمرين: شيء من محذور نراه ومحذور لا نراه، فالمحذور الذي نراه نعرف كيف ندفعه ونستعين بالله عليه أما المحذور الذي لا نراه لا نعرف كيف ندفعه لأننا لا نراه فيكفينا فقط أن نستعين بالله جل وعلا عليه فكان صلى الله وسلم عليه يضع يديه على رأس الحسن والحسين ويقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة هذه الإستعاذه تربي الأبناء أول الأمر على أن هناك رب وإله يكلأ ويحفظ ويرعى ويفعل ما يريد لا إله إلا هو وأن ثمة شرور لا ترى بالعين ولا يدفعها إلا الرب تبارك وتعالى فالله جل وعلا ولينا في كل نعمة وملاذنا عند كل نقمة كما أن فيها أن المرء يستودع الله جل وعلا ثمرة فؤاده والله تبارك وتعالى كما قال يعقوب في كتاب الله: (فالله خير حافظا وهو أرحم الرحمين) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا استودع شيئا حفظه) ومن دلائل هذا من باب الاستئناس جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكان الرجل معه ابنه ليس هناك فرق ما بين الابن وأبيه فتعجب عمر قائلا: والله ما رأيت مثل هذا اليوم عجبا ما أشبه احد أحدا أنت وابنك إلا كما أشبه الغراب الغراب والعرب تضرب في أمثالها أن الغراب كثير الشبه بقرينه فقال له يا أمير المؤمنين: كيف ولو عرفت أن أمه ولدته وهي ميتة فغير عمر من جلسته وبدل من حالته وكان رضي الله عنه وأرضاه يحب غرائب الأخبار قال: أخبرني قال يا أمير المؤمنين: كانت زوجتي أم هذا الغلام حاملا به فعزمت على السفر فمنعتني فلما وصلت إلى الباب ألحت علي ألا أذهب قالت كيف تتركني وأنا حامل فوضعت يدي على بطنها وقلت اللهم إنني أستودعك غلامي هذا ومضيت وتأمل بقدر الله لم يقل وأستودعك أمه وخرجت فمضيت وقضيت في سفري ما شاء الله لي أن أمضي وأقضي ثم عدت فلما عدت وإذا بالباب مقفل وإذا بأبناء عمومتي يحيطون بي(44/15)
ويخبرونني أن زوجتي قد ماتت فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون فأخذوني ليطعموني عشاء أعدوه لي فبينما أنا على العشاء إذا بدخان يخرج من المقابر فقلت: ما هذا الدخان فقالوا: هذا الدخان يخرج من مقبرة زوجتك كل يوم منذ أن دفناها فقال الرجل: والله إنني لمن أعلم خلق الله بها كانت صوامة قوامة عفيفة لا تقر منكرا وتأمر بالمعروف ولا يخزيها الله أبدا فقام وتوجه إلى المقبرة وتبعه أبناء عمومته قال: فلما وصلت إليها يا أمير المؤمنين أخذت أحفر حتى وصلت إليها فإذا هي ميتة جالسة وابنها هذا الذي معي حي عند قدميها وإذا بمناد ينادي يا من استودعت الله وديعة خذ وديعتك قال العلماء: ولو أنه استودع الله جل وعلا الأم لوجدها كما استودعها لكن ليمضي قدر الله لم يجر الله على لسانه أن يودع الأم اللهم إنا نستودعك ديننا يا رب العالمين فارزقنا الثبات عليه حتى نلقاك يا ذا الجلال والإكرام. نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يعوذ الحسن والحسين بما كان أنبياء الله من قبل خليل الله إبراهيم يعوذ به إسماعيل وإسحاق كما بينا سنته صلى الله عليه وسلم في اقتفاء أثر إخوانه من الأنبياء من قبل، ثم توفي صلوات الله وسلامه عليه والحسن والحسين لم يبلغا الحلم بعد فكانا رضي الله عنهما حفاوة وموئل حفاوة الصديق من بعده من بعد نبيه فكان رضي الله عنه وأرضاه أي أبو بكر يصلي بالناس فيخرج فإذا لقي الحسن بن علي حمله وأخذ ينشد بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي وعلي يسمع ويضحك رضي الله عن الجميع.(44/16)
ثم كانت خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان الحسين يرقى إلى المنبر وعمر عليه فيقول: انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك فيقول عمر: ولكن أبي ليس له منبر ثم يضعه بجواره ويضع عمر يده على رأس الحسين ويقول: والله ما أنبت الشعر على رؤوسنا إلا الله ثم أنتم يا آل محمد ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه تطوع الحسن والحسين أن يدافعا عن داره حتى أمرهما رضي الله عنه وأرضاه فيمن أمر أن يتركا الدار حتى لا يراق دم بسببه وكان عثمان رضي تعالى الله عنه من أحوط الناس ومن أشد الناس ورعا وحيطة من دماء المسلمين. ثم كان الأمر في يوم الفتنة ما بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فكان الحسن والحسين مع أبيهما حتى قتل علي رضي الله عنه وأرضاه فلما قتل سلم بعض المسلمين الخلافة للحسن فلما خاف على المسلمين أن يقتتلوا وتسفك دماؤهم وتتفرق كلمتهم وتضعف شوكتهم تنازل رضي الله تعالى عنه وأرضاه عن أمر الخلافة لمعاوية رضي الله عنه وأرضاه فبقي معاوية أميرا على المؤمنين عشر سنين بعد ذلك وهذا تحقيق لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) وفي بعض الروايات دعواهما واحدة. ثم سكن الحسن المدينة المنورة سكنها وبقي فيها وورد أنه مات مسموما فيها ومات عن سبع وأربعين عاما ودفن بجوار أمه فاطمة.(44/17)
أما الحسين فإنه مكث إلى عام إحدى وستين وهي السنة التي تولى فيها يزيد بن معاوية أمر المسلمين فلما تولى يزيد كان الحسين يرى أن لا ولاية ليزيد وهذه أمور لا تقال لكل أحد ولا تنشر للعامة ولا تعنينا في حديثنا وإنما الذي يعنينا في الحديث مكانة الحسين عند رسولنا صلى الله عليه وسلم فخرج الحسين رضي الله عنه وأرضاه من مكة يريد الكوفة لما بعث له أهل العراق أن ائت إلينا فإنا سننصرك وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقيها فخرج لما علم بخروجه تبعه على مسيرة يومين أو ثلاثة فلما لقيه قال: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم لن ينصروك فلما ألح الحسين على الخروج قال له ابن عمر وهذا من فقهه قال له: إن جبريل أتى النبي عليه الصلاة والسلام فخيره ما بين أمري الدنيا والآخرة فاختار عليه الصلاة والسلام أمر الآخرة وأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن تنال من الدنيا شيئا لكن الحسين لأن يجري قدر الله لم يأخذ بنصيحة ابن عمر ومضى حتى وصل إلى واد الطف في كربلاء من أرض العراق فكان مقتله من يوم الجمعة العاشر من محرم في عام واحد وستين من الهجرة رضي الله عنه وأرضاه قتل بعد أن أحجم الناس عن قتله قليلا قتل إخوته الأربعة ثم قتل اثنان من أبنائه علي الأكبر وعبد الله وبقي علي الأصغر المعروف بزين العابدين كان مريضا لم يستطع أن يخوض المعركة مع أبيه تنحى جانبا ثم أخذ الناس ما بين إقدام وإحجام ثم دلهم أحد الأشرار على أن يقتحموا الأمر فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه وهو صائم في يوم العاشر من المحرم كما بينا
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد *** متزملا في ثيابه تزميلا
و كأنما بك يا ابن بنت محمد *** قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا و لم يترقبوا *** في قتلك التنزيل والتأويلا
و يكبرون بأن قتلت و إنما *** قتلوا بك التكبيرا والتهليلا(44/18)
الذي يعنينا من هذا كله تلك فتن سلمنا الله جل وعلا منها ونعوذ بالله من الفتن كلها ما ظهر منها وما بطن الذي يعنينا في هذا المقام أن تعلم أمرا واحدا من هذه الموقعة كلها أن الأمور تجري بقدر الله وأن الله يقول: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فقد يحرم الإنسان مكانا هو أهل له لكنك لا تدري أين حكمة الله وأين مراد الله قال العلماء في مقتل الحسين لعل الله جل وعلا أراد بمقتله بهذا الوصف أن يرفعه إلى درجة جده صلوات الله وسلامه عليه وأيا كان الأمر فإنك ترى في واقع الناس قد ينال المال من لم يجمع وقد يحصد الثمر من لم يزرع لكن المؤمن العاقل ليس له في الدنيا مطمع يقول الله جل وعلا: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين) المؤمن لا ينشد شيئا أعظم من رضوان الله تبارك وتعالى فما أتى من الدنيا تبعا غير مقصود فاللهم لا مانع أما أن يسعى الإنسان في متاع الدنيا وزخرفها يرتكب من أجل ذلك المحرمات والسرقات والرشوة وما أشبهها ويظلم ويحقد ويحسد ليرتفع فإن الدنيا كلها زهرة حائلة ونعمة زائلة ولو كانت تنال بالعواطف لكان ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بهذا الأمر من يزيد وغيره لكن الأمور كما بينا تجري وتمضي بقدر من الله تعالى.
اللهم إنا نسألك قلوبا تحمدك على نعمائك
وترضى وتصبر على قدرك وقضائك
وتحن وتشتاق إلى يوم لقائك
الإضاءة التالية الحياة البرزخية(44/19)
والمدخل إليها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع قتلى بدر في قليب من المشركين ثم بعد ثلاثة أيام وقف عليهم صلوات الله وسلامه عليه يخاطبهم: يا أبا جهل يا عتبة بن ربيعة يا أمية بن خلف يا فلان بن فلان يذكرهم بأسمائهم هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا فقال له عمر متعجبا: يا رسول الله ماذا تسمع من قوم قد جيفوا فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يملكون جوابا.
ما حياة البرزخ؟(44/20)
خلق الله خلقه أطوارا وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارا وحياة البرزخ طور لا بد أن نمر عليه قال الله جل وعلا في كتابه المبين: (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) والموت أول حياة البرزخ والبعث والنشور نهاية حياة البرزخ والقبر موطن حياة البرزخ. جهل ابن آدم الأول كيف يواري سوءة أخيه ثم لما مات آدم عليه السلام قبل أن يموت قال لبنيه لمن حوله كما ثبت في حديث صحيح: إني اشتهيت ثمار الجنة فخرج أبناءه يلتمسون له ثمار الجنة فإذا بالملائكة نازلون من السماء معهم حنوط وكفن وغسل من الجنة ولم يعرفوهم فسألوهم أين تذهبون قالوا: إن أبانا اشتهى ثمار الجنة فقالوا لهم: عودوا فقد كفيتم فعادت الملائكة إلى آدم فلما رأتهم حواء عرفتهم فتوارت خلف آدم فقبضت الملائكة روحه عليه الصلاة والسلام ثم غسلته ثم كفنته ثم حفروا له ثم ألحدوا له ثم حثوا عليه التراب ثم قالوا لمن حوله من بنيه هذه سنتكم يا ولد آدم فأصبح قبر الميت سنة ماضية كما قال الله جل وعلا: (ثم أماته فأقبره) لكن ثمة أحاديث نؤمن بها يقينا لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى لكن عقولنا في الحياة الدنيا تعجز عن فهمها وهذا العرض إنما هو محاولة للإخبار المجمل أن هناك تشابه بلا شك ما بين سعي الإنسان في الدنيا وحياته في قبره والمعنى بتوضيح أكمل أن الإنسان كلما كان قريبا من العمل الصالح كان قريبا من النعيم في القبر وكلما كان قريبا من العمل السيئ كان قريبا من عذاب القبر أعاذنا الله وإياكم من عذاب القبر يقول صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام مسلم في الصحيح قال: مررت ليلة أسري بي وموسى بن عمران قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، مررت ليلة أسري بي وموسى بن عمران قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، فأشكل على العلماء كيف أن موسى عليه السلام قائم يصلي في قبره هل في القبر تكليف؟ ثم إنه في نفس الحديث أخبر عليه الصلاة والسلام أنه التقى بموسى في السماء السادسة(44/21)
وفي نفس الحديث يخبر صلى الله عليه وسلم أنه صلى إماما بالنبيين في المسجد الأقصى ومن جملتهم موسى والجواب عن هذا كله أن عالم الأرواح أشبه بعالم الملائكة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والصلاة في القبر لبعض الخلق نوع من النعيم يتنعمون به لأنهم تعودوا على الصلاة في الدنيا فيتنعمون بالصلاة في قبورهم كما يتنعم أهل الجنة بالتسبيح وأحوال أهل القبور كما قلت غيب مكنون لا يعلمه إلا الله جل علا وإنما نمضي في الحديث فيه وفق ما دل عليه شرع نبينا صلى الله عليه وسلم قد يكرم المرء في قبره دون أن يشعر الناس العلاء بن الحضرمي رضي الله تعالى عنه صحابي من المهاجرين الأولين خرج في الغزو في الجهاد ثم إنه لما قفل راجعا من غزوة أصابته علة فمات فدفنه أصحابه حفروا له ودفنوه فلما مضوا عنه قليلا إذا برجل من أهل تلك القرية قال: ما هذا الذي دفنتموه قالوا: هذا أحد أصحابنا يقال له العلاء بن الحضرمي فقال لهم محذرا إن هذه الأرض تلفظ الموتى يعني القبر لا يحفظ الموتى يخرجهم إن هذه الأرض تلفظ الموتى فتشاوروا رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا: ما حق العلاء بن الحضرمي علينا أن نتركه فأجمعوا أمرهم بعد تشاور أن يحفروا عنه وينقلوه إلى قرية أخرى فحفروا القبر فلما وصلوا القبر وهم لتوهم دافنوه لم يجدوا شيئا ووجدوا القبر مد البصر نور يتلألأ هذا ثابت ومن دلائل ما يكرم الله جل وعلا به وقد يكون الأثر متعد حتى بعد القبر كما ثبت عن ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه وأرضاه خطيب رسولنا صلى الله عليه وسلم فإنه كان يرفع الصوت في كلامه فلما انزل الله تبارك وتعالى قوله: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) حبس نفسه في الدار فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالأمر قال لهم: قولوا له إنك لست منهم ثم قال له يا ثابت: إنك ستعيش حميدا وتموت شهيدا فلما كانت موقعة اليمامة في حروب الردة خرج ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه لحروب أهل الردة وكان(44/22)
يلبس ذرعا نفيسة ومكث في حفرة يقاتل من خلالها فأصابه سهم فمات فمر به رجل من المسلمين فوجد الدرع فأعجبته فنزعها وأخذها فإذا بثابت يظهر في المنام لرجل آخر من المسلمين ويقول له أنا ثابت بن قيس وإني سأخبرك خبرا ليس بحلم فلا تضيعه إنني استشهدت اليوم وكان لي درع نفيسة أخذها رجل من المسلمين بيته في مكان كذا وكذا وتجد الدرع عليها برمة وعلى البرمة رحل أخفاه تحتها فاذهب إلى خالد أي قائد المسلمين وأخبره الخبر وقل له يأخذ الدرع ويبعث بها إلى الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليقل للصديق بعها واقض ما كان علي من دين فذهب خالد فوجد الدرع كما وصفها ثابت لذلك الرجل في المنام أقره على الأمر وأقر الصديق تصرف خالد وباع الدرع وتصدق بقيمة بيعها وسدد ما كان عليه من دين وقضاه الأمر لا يتجاوز أكثر من ذلك إذا صحح العلماء حديثا بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني رحمه الله عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (إن أعمالكم تعرض على إخوانكم من الموتى يسرون أو يساءون ) (إن أعمالكم تعرض على إخوانكم من الموتى يسرون أو يساءون ) فكان أبو الدرداء رضي الله عنه على علاقة وطيدة بعبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقد كان مات قبله فكان أبو الدرداء يقول: (اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة) (اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة) وفي المسند بسند صحيح كما قال الشيخ ناصر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث أنس: (إن أعمالكم تعرض على قرابتكم وعشيرتكم من الأموات فإن كانت حسنة استبشروا وإن كانت سيئة قالوا اللهم اهدهم كما هديتنا).(44/23)
هذا يا أخي بعض ما دلت عليه السنة ومشكاة النبوة من عالم الأرواح والغاية من إيراده كله أن تنظر أين أنت من أوامر الله ونواهيه في هذه الحياة الدنيا حتى تعرف كيف يكون قبرك، اعرف اليوم وحاسب نفسك قبل أن تموت أين أنت من هدي محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين أنت من توحيد الله؟ أين أنت من الصلوات الخمس؟ أين أنت من القرب من الله تبارك تعالى والبعد عنه؟ أين عينك من النظر إلى المحرمات؟ أين أذنك من سماعها؟ أين قدميك من المشي إليها؟ أين يداك من تناولهما؟ كل ذلك إذا حاسب الإنسان نفسه فقد وطن لنفسه موطنا وثيرا برحمة الله في قبره وإن كان غير ذلك فلا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك وتبعا لهذا الأمر أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيارة القبور وقال عليه الصلاة والسلام يذكر العلة فإنها تذكركم الآخرة فإن القبور تستوي في ظاهرها إن كانت مبنية على منهاج السنة وتختلف في باطنها اختلافا لا يعلمه إلا الله جل وعلا ألا ترى أن الزناة عياذا بالله المحصن منهم وغير المحصن، فالمحصن المتزوج إذا زنى كأنه يقول بلسان حاله أنا أمتع زيادة على زوجتي، وغير المحصن كأنه يقول بلسان حاله أنا أتمتع رغم أنني لم أتزوج بعد والله جل وعلا أجل من أن يخدع يقول عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤيا: (فرأيت عراة رجالا ونساء في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه توقد تحته النار وهم عراة ويتصايحون فقلت للملكين من هؤلاء قالوا: هؤلاء الزناة والزواني) قال الحافظ بن حجر رحمة الله تعالى عليه قال: لما كان وجودهم في الدنيا خلوة يستترون بمعصية الله كان حقهم أن يفضحون عراة في عذاب القبر.(44/24)
يتثاقل الرجل عن الصلاة ويتباطأ في القيام إليها وربما تردد وربما تركها بالمرة عياذا بالله رأى النبي صلى الله عليه وسلم من يرضخ رأسه ويلفأ بالحجارة فقال للملكين من هؤلاء قالا: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة رأى النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا في عذاب البرزخ يسبح في نهر من دم ويلقم الحصى والحجارة واحدا بعد الآخر فقال لملكين: من هؤلاء قالوا: هؤلاء أكلة الربا من أمتك على هذا والحديث طويل يمكن أن تقيس كثيرا من أحوال الناس في الدنيا إن لم الله جل وعلا برحمته ويتوب إلى الله تبارك وتعالى أن يعرف الإنسان ولو بظاهر الأمر ماذا سيكون حاله في قبره.
أيها المؤمنون ختاما نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وما مضى قبسات وإضاءات من سيرة من ختم الله به النبوات وأتم به الرسالات صلوات الله وسلامه عليه.
صلى اللهم على محمد وسلم تسليما كثيرا(44/25)
تفريغ لقاءات سورة الأنعام
ثمان عشر حلقة يومياً في رمضان
من1 / 9 / 1428 هـ الى 18/9 / 1428هـ
اللقاء الأول في رمضان
في سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفرهُ ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له خلق فسوى وقدّر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين ...
أما بعد ..:: فهذه أوبةٌ حميدة وعودةٌ مباركة بإذن الله لبرنامجنا ولقاءاتنا الموسومة بمحاسن التأويل والتي مضت السنة فيها ولله الحمد والفضل والمنة أننا نتأمل كلامُ ربنا جل وعلا ولا مجلس أعظم ولا ملتقى أشد وأكثر بركةً وفضيلة من مجلسٍ وملتقى يُتأمل فيه كلام ربُ العالمين جل جلالة وقد منّ الله علينا بفضله ورحمته بالشفاء وها نحنُ نؤب معكم أيها المباركون سواءً أنتم معشر الأخوة الفضلاء في الأستوديو أو أخواننا وأخواتنا الذين يتابعون هذا البرنامج المبارك فنسأل الله جل وعلا أن لا يكلنا إلى أنفُسنا طرفة عين وأن يجعلنا من الشاكرين لنعمته المثنين به تبارك وتعالى عليها ..
ونقول :: إننا في هذه الأوبة سنأخذ التأمل في سورة الأنعام سنأخذها إن شاء الله تعالى في لقاءاتٍ تكونُ أقل وقتاً مما سبق وجرت العادةُ فيه فسيكون مدة اللقاء عشرين دقيقة نستفتحُ أولى لقاءاتها ..
قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين مستفتحاً سورة الأنعام (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ)(45/1)
نقول مستعينين بالله جل وعلا بدايةً سورة الأنعام سورةٌ مكية وقد ذكرنا أن الانطلاق في الوصول إلى أي غاية يبدأ بالعموم ومن أعم ما يُقال فيها أنها : سورةٌ مكية تضافرت روايات ليس فيهن رواية لها سندٌ صحيح لكنها متنوعة الطرائق ولهذا قبلها المفسرون وهي أن السورة نزلت في مكة جملةً واحدة وشيعها سبعون ألف ملك وهذا لا نجزم به لكن نقول أكثر أهل العلم من المفسرين عليه والصناعةُ الحديثية لا ينبغي أن تُطبق بالكامل في مثل هذا المنحى ما دمنا لم ننسب ولم نرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قول ..
والسورةُ قال أهل العلم إنها أصلٌ في الاحتجاج على المشركين سورة الأنعام أصلٌ في الاحتجاج على المشركين وقد تضمنت أسلوبين :
أسلوب التقرير ،، وأسلوب التلقين ..وسيأتي تفصيلُ ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه .(45/2)
استفتحها ربُنا جل وعلا بحمده والثناء على ذاته العلية فقال جل جلالة : (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) وهنا نقول أنه من باب الاتفاق لا من باب الإلزام جاء في القرآن خمس سور استفتحهن الله بحمده وخمس سور ختمهن الله بحمده ، فأما الخمس السور التي استفتحهن الله جل وعلا بحمده فقد مضت معنا قولها في دروسٍ مرت لكن نعيدها من باب الفائدة سورة الفاتحة ، وسورة الأنعام ، وسورة الكهف ، وسورة سبأ ، وسورة فاطر فهذه السور الخمس الفاتحة والأنعام والكهف وسبأ وفاطر أفتتحهن الله جل وعلا بحمده قال ربُنا في الفاتحة (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وقال تباركت أسماءه في الأنعام (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) وقال جل وعلا في الكهف (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) وقال تبارك اسمه في سبأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) وقال جل وعلا في فاطر (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ... وختم خمس سورٍ بحمده فقال جل وعلا في الإسراء (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وقال جل وعلا في النمل (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ) وقال جل وعلا في الصافات (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ{181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{182}) وقال جل وعلا في الزمر (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وقال جل وعلا في الجاثية (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فهذه خمس سور الإسراء والصافات والزمر والجاثية ختمهن الله جل وعلا بحمده تبارك وتعالى ...(45/3)
نعود لسورة (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )
أهل الصناعة النحوية يقولون إن الألف واللام هنا للجنس فإذا ابتدأ بها تضمنت معنى الحصر فإذا ابتدأ بها تضمنت معنى الحصر فيصبح الألف واللام والحمد هنا على سبيل الحصر أي لا يستحق الحمد أحدٌ غير الله إذا قلنا معنى الحصر أي لا يستحق الحمد أحدٌ غير الله تبارك وتعالى والحمد يمكن تحرير معناه بالقول أنه ما يصدر من فعل على وجه التعظيم للمنعم ما يصدر من فعل أو قولٍ على وجه التعظيم لمن ؟ للمنعم هذا الذي يُسمى حمد وقولهم لتعظيم احترازاً من الإهانة لأن الله جل وعلا قال من باب التهكم لمن عصاه ({ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }الدخان49..) فهذا ليس فيه حمدٌ ولا إجلال وإنما أجراه مجرى التهكم ولهذا قالوا هو فعل أو قول يصدر على وجه التعظيم للمنعم ولا يستحق الحمد أحدٌ غير الله ويمكن صرف الشكر إلى غير الله قال صلى الله عليه وسلم " من لا يشكر الناس لا يشكر الله " .
{ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ{1}
المعنى العام للآية:. أن الله تبارك وتعالى يُثني على ذاته العلية ويُبين أن من عظيم قدرته وجليل حكمته وسعة رحمته خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ومع هذه القرائن الظاهرة والأدلة الباهرة هناك من يعدل معه غيره أي يجعل له نظيراً ومثيلاً ونداً وهو صنيعُ أهل الإشراك هذا المعنى العام للآية ..(45/4)
لكن نحن جرت العادة أننا لا نتوقف عند هذا نبحر في الآية نستنبط ما فيها ونحرر المعنى على الوجه التالي : فهم العلماء من الآية أن الجمع مقابل الإفراد يدل على فضيلة الفرد الجمع مقابل الإفراد يدل على فضيلة الفرد ودليلهم أن الله جمع الظلمات وأفرد النور ومما يؤيدهُ في أسلوب القرآن قول الله جل وعلا في سورة النحل (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ ) أفردها (وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ) النحل48..) فجمع الشمائل مع الاتفاق على فضل اليمين على الشمال هذه واحدة ..
اختلف العلماء هنا في معنى كلمة يعدل فعلها الأصل الجذر عدل عدل أيها المبارك تأتي على معنيين :إذا قلنا عدل عن الشيء أي مال عنه وانحرف ،، وإذا قلنا عدل به أي ساواهُ بغيره .. إذا قلنا عدل عن الشيء يعني انحرف ومال ، وإذا قلنا عدل به أصبح ساواه بغيرهِ وبنظيرهِ وبمثيلهِ جعله نداً ومثيلاً لغيره فأي المعنيين أراد الله ؟؟
مبدئياً حتى لا تتحمل ثقلاً على ظهرك وتخشى أن تقع في محظور أيُ المعنيين اخترت فهو صحيح فهو صحيح لأن أهل الإشراك عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة غيره فهذا المعنى الأول .
وعدلوا مع الله غيره أن جعلوا له شركاء و أنداد فكلا الأمرين وقعا من أهل الإشراك فلا ريب أن الإنسان إذا خشي أن يقع في محظور يدفعه هذا إلى التقدم والمجازفة في الكلام لأنه أمن الوقع في المحظور لكن تحرير الكلام علمياً:: يأتي على كلمة (بِرَبِّهِم ) فالباء هنا هل هي للإلصاق أو بمعنى عن ؟(45/5)
فإذا أخذنا أن عدل بمعنى انحرف ومال تُصبح بمعنى عن يصبح معنى الآية :: ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون ,, وقد جاء في القرآن وفي كلام العرب أن الباء تأتي بمعنى عن جاء في القرآن في قوله جل وعلا في سورة المعارج {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ }المعارج1..) والمعنى سأل سائل عن عذابٍ واقع فالباء هنا بمعنى عن ،وجاء في لغة العرب قال عنترة الشاعر الجاهلي المعروف قال :
هلاّ سألت الخيل يا ابنة مالكٍ ـ ابنة مالك عبلة محبوبته ابنه عمه ـ
إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي
جاهلةً خبر لكان ، لما لم تعلمي أي عمّا لم تعلمي أي بمعنى عن وهو الذي نبحث عنه الآن ..
إذا خرجنا عن هذا الشاهد قليلاً من باب السياحة الثقافية نقول : إنك تلحظ في بيت الشعر هنا الشعور بالخصوصية فعنترة يتكلم عن نفسه ولهذا قال بنفس المعلّقة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها */* قيل الفوارس ويك عنترُ أقدمي
وهذه الفردية والأنانية كانت ذائعةً عند الجاهليين فلّما جاء الإسلام من أثر الإسلام في الخطاب الشعري في العرب أنه وحدهم ولهذا جاء في أبيات حسان :
عدمنا خيلنا إن لم تروها */* تثيرُ النقع موعدها كُداء
وقوله :
فإمّا تعرضوا عنا اعتمرنا */* وكان الفتح وانكشف الغطاء
وقوله :
وجبريلٌ أمينُ الله فينا */*
فروح الجماعة والإتحاد والإخاء موجودة في شعر حسان خلاف ما كان عليه شعر الجاهليين وهذا من أثر الإسلام على العرب ونقلهم من حياة الجاهلية الفردية إلى حياة الإخاء والأخوة في الإسلام وهذا استطردٌ قُلنا أنه سياحةٌ ثقافيةٌ بعض الشيء ..
نعود للآيات :: فنقول إن الله جل وعلا قال (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ) فعدل إذا قلنا أنها بمعنى مال وانحرف تصبح الباء بمعنى عن وإذا قلنا أنهم بأنها في أهل الإشراك يجعلون مع الله نداً فتبقى الباء على أصلها .(45/6)
هناك فرقة خرجت عن المألوف الذي عليه أهل الإشراك فأهل الإشراك وإن كانوا يعبدون مع الله غيره إلا أنهم يعترفون أن الخالق والرازق هو من ؟( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) هذا الأصل في أهل الإشراك فشركهم شرك عباده ليس في شرك الربوبية لكن ليس هذا حال جميع أهل الكفر هناك فرقة تسمى المانويه وهي في العراق أكثر ظهوراً وهؤلاء يقولون ينسبون كل خيرٍ إلى النور وينسبون كل شرٍ وأذىً إلى الظلمة ينسبون كل خيرٍ إلى النور وينسبون كل شرٍ إلى الظلمة ولا يقولون بوجود الله وأحياناً يُرد عليهم لكن ليس كل من يرد عليهم ينتصر لعقيدته وإنما بعض الناس يحكي تجاربه فالمتنبي يرد عليهم يقول :
وكم لظلام الليل عندك من يدٍ */* تُخبّر أن المانوية تكذبُ(45/7)
هو أراد أن يقول أنه كم من نعمة حصل عليها في الليل وكان الليل شفيعاً له في النجاة من محظور وهو بالتجربة يقول إن هذه التجارب التي عشتها وعاشرتها تخبر أن ادعاء المانوية أن الظلمة سبب كل شر لا أصل لهم فالمتنبي رد عليهم لكن من منطلقٍ ذاتي ليس من منطلقٍ عقدي ومشكلة المتنبي أنه يخرج أو يبعث شعرهُ أو يتكلم من مشكاة نفسه لا من مشكاة معتقدات دينيه يحملها وإنما ما تمليه عليه تجاربه أو ما تمليه عليه قراءته يقولها لناس وأنت تعلم أيها المبارك أن الترجمة شاع ذكرها في الأيام العباسية لكن العرب عندا ترجموا عن الكتب اليونانية أكثر ما عنوا به علم المنطق وما يعنى بالأدب فلهذا استفاد الأدباء من تجارب اليونان فظهر في شعرهم وهو في شعر المتنبي أظهر واستفاد النحاة في تحرير النحو وتقسيمه ونشوءه من علم المنطق الذي أخذوه عن اليونانيين فارتقى علم النحو وساد وتفرعت مدارسة وأغفل العرب آنذاك عمداً أو جهلاً علمين في النقل عن اليونانيين كانا شائعين في الحضارة اليونانية وهو الفن والسياسة فلم يترجموا شيئاً في السياسة ولم يترجموا شيئاً في الفن ولهذا الحضارة العباسية بقيت ضعيفة في قضية السياسة لأن علم السياسة لم يؤخذ من اليونانيين ولم يترجم فما ارتفعت حياة العرب السياسية في عهد العباسيين ولهذا لما جاء هولاكو لم يجد دولةً قائمةً على سوقها لا خليفة يأمر وينهى ولا جيش منظم يدافع والخيانة مجرد خيانة وزيرٍ ينتمي إلى مذهبٍ رافضي تُضيعُ دولةً بأكملها ولو كان هناك قوة سياسية منظمة لما يمكن أن يكون لمجرد أن رجلاً خائن يهلك أمةً بكاملها لكن قلنا من أسباب هذا الأمر عدم الارتقاء السياسي من أسبابه آمران : أولاً .. عدم اللجوء إلى الاستفادة من أحداث الصدر الأول وهذا السبب الأعظم .(45/8)
والأمر الثاني .. عدم الاستفادة من الحضارة اليونانية في علم السياسة أما الفن فخيراً فعلوا في أنهم لم ينقلوا أو يترجموا تقدم اليونانيين فنياً ـ هذا استطراد دخلنا عليه من باب قول الله جل وعلا (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) وذكرنا أن المانوية فرقة تؤمن بأن الظلمة أصل كل شر وأن النور أصلُ كل خير ـ .
على التعريج بالظلمة والنور أهل الشرع الباحثون في كلام الله جعلنا الله وإياكم منهم يقولون إنّ الله جل وعلا خلق الليل قبل النهار واستدلوا بآية " يس " قال الله تبارك وتعالى ({وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ }يس37 ...) فأخبر الله جل وعلا أن الليل هو الأصل على ظاهر الآية والعلم عند الله وأن النهار مأخوذٌ منه لكن الآية التي بين أيدينا الآن في سورة الأنعام فاتحة الأنعام لا تدل على هذا تدل على الاقتران قال الله تبارك وتعالى (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ )(45/9)
بقينا أيها المبارك في (ثُمَّ) المستقر ذهنياً وفق صناعة النحو أن ثم لتراخي واضح تقول حضر عبد الرحمن ثم طارق فهذا تراخي تراخي زمني تراخي ماذا ؟ تراخي زمني لكن العلماء يقولون هنا ليس المقصود منه التراخي الزمني لأن هناك بون شاسع ما بين خلق السموات والأرض وما بين كفر من ؟ كفر كفار قريش كفار قريش آخر الأمم والله جل وعلا خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق أبانا آدم فجاء على هذا أن التراخي هنا المقصود به التراخي بين الرتبتين التراخي بين الرتبتين أي المعنى القول على طريق الاستبعاد بمعنى أن الآيات ظاهرة والدلائل قائمة والشواهد واضحة في أن الله لا ينبغي أن يعبد معه غيره ومع ذلك ـ أي وبعد ذلك ـ ثم مع هذا الظهور الجلي والواضح يأتي أهل الإشراك ويعدلون مع الله غيره أو يعدلون عن عبادة ربهم فالتراخي هنا لتراخي بين رتبتين وليس لتراخي الزمني وإن كانت تتضمن التراخي الزمني لزاماً لأن هناك تراخي زمني كبير ما بين خلق السماوات والأرض وكفر كفار قريش .
{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ{1}}(45/10)
قلنا إن يعدل هنا تأتي بالمعنيين وقلنا أنه لا حرج في اتخاذ أحد هاذين المذهبين كذلك في قوله تبارك وتعالى ( وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) هنا جعل بمعنى خلق لكنها ليست دليلاً للمعتزلة في أن جعل تأتي بمعنى خلق على الإطلاق وهذا حررناه في لقاءات سابقة أن المعتزلة الفرقة المعروفة تقول إن جعل في القرآن كلها بمعنى خلق وهذا مما يحاولون به بهذا التقعيد أن يصلوا إلى أن القرآن مخلوق والقرآن قطعيٌ منزل والقرآن قطعاً منزل لكن جعل تأتي أحياناً بمعنى خلق وتأتي أحياناً بغير معنى خلق قال الله تبارك وتعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً) فهي ليست بمعنى خلق اتفاقاً فلا يمكن لأهل الكفر أنهم خلقوا الملائكة لكنهم اعتقدوا هنا أن الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً فقول الله جل وعلا (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) إنما هو تفننٌ في الخطاب تفنن في الخطاب وإلا خلق السماوات والأرض هو عينه خلق الظلمات والنور وجعل الظلمات والنور هو عينه جعل السماوات والأرض...
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله حول الآية الأولى التي افتتح الله جل وعلا بها سورة الأنعام وفي اللقاء المقبل بإذن الله تعالى نستأنف الحديث في هذه السورة المباركة سائلاً الله لي ولكم التوفيق وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ...
اللقاء الثاني الجمعة: 2 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسُوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .... أما بعد ..(45/11)
فهذا اللقاء الثاني المخصص لسورة الأنعام وكنا قد تحدثنا في اللقاء الأول عن فاتحة السورة وهي قول الله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ {1}) الآية الأولى هذه كانت تتحدث عن إثبات الإلوهية عن إثبات الإلوهية انتقلت الآيات الآن إلى إثبات غرضٍ آخر مما يتعلق بعقائد الناس وهو البعث والنشور فقول الله جل وعلا (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {2}) انتقال إلى غرض آخر تُريد السورة إثباته وإقامة الحُجة فيه على أهل الإشراك وهو البعث والنشور ..
بقي في اللقاء الأول أن نعرج على كلمة يعدل تحدثنا عنها تفصيلاً لكن ينبغي أن تعلم أيها المبارك أن كلمة يعدل بمعنى يوازي ويماثل ويجعله نداً إذا كنا نتكلم عن مثيلٍ من نفس الجنس فإنها تُكسر فيُقال عِدل ومنه قول مهلهل ربيعة يعير من قتلوا أخاهً كُليباً يقول:
على أن ليس عِدلً من كُليبِ
عِدلً من كُليبِ أي لا مثيل لكُليب من جنسه ، أما إذا فتحنا العين وقلنا عَدل فهي لا يُقصد بها المثيل من الجنس وإنما يُقصد بها الفدية فالله جل وعلا ذكر الصيد وأنه محرمٌ في حال الإحرام ثم قال ( أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً ) فُتحت العين لأن الصيام ليس من جنس الصيد لأن الصيام ليس من جنس الصيد فُتحت العين (وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) أي لا يؤخذ منها فدية فإذا فتحت العين قُصد بها الفدية وإذا كُسرت قُصد بها المثيل والنظير من نفس الجنس هذا يتبع لما سبق ..(45/12)
نعود الآن لقوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ) هنا يمتن الله جل وعلا عليهم وهو يحاورهم في قضية أنهم ينكرون البعث والنشور قال (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ) والقرآن في خلق الإنسان يأتي على ضربين : إما تذكير بخلق آدم وهنا يقول خلقكم من طين من تراب من صلصال وأحياناً يتكلم عن الإنسان الناشئ عن أبيه آدم فيتكلم الخلق عن ماء أو عن نطفة فيأتي الله بذكر الخلق عن ماء أو عن نطفة لكن ما السر أن الله جل وعلا هنا يقول (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ )؟
قلنا أن الغاية من الآية إثبات البعث والنشور وهؤلاء المخاطبون أهل الإشراك يستبعدون إذا أصبحوا تُراباً أن يُبعثوا فذكرهم ربهم تبارك وتعالى بأن أصل خلقهم من ؟ من طين فهذا الطين أو التراب الذي تزعمون أننا نعجز أن نعيدكم منه أصلاً نحن خلقناكم منه واضح ..( {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }ق15..) وقد حررنا في دروسٍ مضت وأيامٍ خلت الكثير من قضايا البعث والنشور مما لا حاجة لتكراره لكن نؤكد على قضية السر في كلمة طين (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ) وقد مر معنا أن آدم عليه السلام مرّ بثلاثة مراحل : خلق من تراب ،، ثم هذا التراب مزج بالماء فأصبح طيناً ،، ثم هذا الماء الممزوج بالتراب والذي أصبح طيناً تُرك حتى يبس وأصبح فخاراً فهذه المرحلة الفخارية وهي ثلاثة مراحل مرّ بها خلقُ أبينا آدم عليه السلام .
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)(45/13)
ذكر الله أجلين : اختلف العلماء في تحديدهم فجمهور أهل التفسير على أن الأجل الأول في الآية هو الموت والأجل الثاني هو المدة ما بين الموت إلى البعث والنشور ـ أعيد ـ جمهور أهل التفسير على أن الأجلين المذكورين الأجل الأول (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ) جاءت منصوبة لأنها مفعول به المقصود بها الموت (وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ) قصدوا بها مدة البقاء من موت الإنسان إلى بعثه ونشوره إلى يوم القيامة .
وقال آخرون إن المقصود بالأجل الأول النوم والأجل الثاني الموت وقال آخرون إن المقصود بالأجل الأول النوم والأجل الثاني هو ماذا ؟ الموت، حكاه ابن كثير وعقب عليه بقوله قولٌ غريب وعقب ابن كثير رحمة الله تعالى عليه بقوله قولٌ غريب .
((45/14)
ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ) أكثر أهل التفسير يرى أن قضى هنا بمعنى قدر وحكم بمعنى قدر على أصلها واعترض الطاهر بن عاشور رحمة الله تعالى عليه في التحرير والتنوير على هذا المفهوم وقال إن قضى هنا بمعنى أنهى وأمات وقوله وأدلتهُ أظهر من قول من سبقه لماذا ؟ لأن التقدير إن لم يكن مقترناً بالخلق فهو سابقٌ عليه ، التقدير قبل الخلق وإلا في أرفع الأحوال يكون الخلق والتقدير في وقت واحد والآية هنا لا تشعر بهذا لأن الله قال ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ) فجعل في التقدير على اعتبار أن قضى بمعنى قدر متأخرة عن الخلق واضح وهذا غير مقبول وما ذهب إليه ابن عاشور رحمة الله عليه أقرب إلى الصواب فجعل قضى هنا بمعنى أنهى واستدل بأن يأتي هذا في القرآن قال الله جل وعلا (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) أي أنهيناه بالموت والمعنى هنا يستقيم مع الآية (ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ) عند هنا تفيد الحصر (عِندَهُ ) الهاء في عنده عائده على من ؟ عائدة على ربنا جل وعلا والمعنى أن هذا الأجل الثاني لا يعلمه احد لا يعلمه أحد لا ملكٌ مقرب ولا نبيٌ مرسل وحتى تتضح الصورة نقول كالتالي: قلنا أن الأجل الأول بمعنى الموت مثلاً :: نأخذ أنموذج عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحابيٌ جليل لو سألنا أي إنسان مطلعٌ على التاريخ كم سن عمر عندما مات ؟ لقال ثلاثة وستين عاماً فكلنا نعرف بعد موت عمر أن عمر أجله كان 63 واضح فلهذا لم يقل الله في الأجل الأول أنه عنده لأنه أصبح ظاهر لناس لكن من وفاة عمر إلى أن تقوم الساعة بل ومن وفاة كل أحد إلى أن تقوم الساعة هذا لا يعلمه أحد لا ملكٌ مقرب ولا نبيٌ مرسل لأنه لا أحد يعلم متى تقوم الساعة فما دام لا أحد يعلم متى تقوم الساعة لا يمكن أن نعرف ما المدة ما بين موت زيدٍ من الناس وما بين قيام الساعة حتى نحنُ إذا متنا وسنموت حتما لن نعرف ما المدة التي بقينا وحتى(45/15)
الذين يُصعقون لا يدرون متى يصعقون فهذا لأمرٌ أخفاه الله جل وعلى عن كل ؟ عن كل أحد واضح بهذا يتحرر المعنى .
(وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ )
الخطاب هنا انتقل من الغيبة إلى الخطاب يعني من كان يقول (بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ) يتكلم عنهم وكأنهم غير مخاطبون الآن انتقل للخطاب مواجهةً يُسمى الالتفات في الصناعة البلاغية (ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ) لكن ينبغي أن تقيد أن قول الله جل وعلا (ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ) من الامتراء وهو الشك وليست من المماراة وهي الجدال والمحاورة ـ أعيد ـ (ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ) الفعل هنا من الامتراء وهو الشك وليس من المماراة وهي الحوار والجدال ظاهر المعنى في أن الله يقول لهم مع أني خلقتكم من طين وقضيت أجلاً واجل مسمى عندي مع ذلك ما زلتم تشكون في البعث والنشور ورد وصد الإيمان بالبعث والنشور من أعظم ما تلبس به أهل الإشراك (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ).
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ )
نأتي إلى آية في متشابهة القرآن قال الله ({وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ }الأنعام3...
عقلياً نحرر المعنى أولاً الأصلي الذي لا يقبل التبديل ثم نقول أوجه فهم العلماء للآية فالذي يستقر في الذهن وقد مرّ معنا أن من طرائقنا في التفسير أننا نقدم الأصل الثابت ثم لا نبالي أي قولٍ نختار ما دام لا يعارض ذلك الأصل ،، الأصل أننا نؤمن أن الله جل وعلا له علو الذات وانه تبارك وتعالى مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه قال العلاّمة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه: اجمع السلف على إثبات علو الذات لله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل .. فهذا أصل بعد أن أثبتنا هذا الأصل نعود لشرح الآية ..(45/16)
للعلماء في الآية ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن معنى الآية ({وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ } (وَهُوَ اللّهُ) أي وهو المألوه المعبود في السماء والمعبود فين ؟ والمعبود في الأرض أي يعبده أهل السماء ويعبده أهل الأرض وهذا القول عليه جماهير أهل التفسير رجحه العلامة الشنقيطي في أضواء البيان واختاره من قبل الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ومن الآيات التي تؤيد هذا المعنى قول الله جل وعلا (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ) أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض هذا واضح .
القول الثاني : اختاره النحاس النحوي المعروف وهو عندهم المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم أي في السماوات وفي الأرض جعلها متعلقة بـ يعلم متعلقة بماذا ؟ بـ يعلم ما معنى متعلقة بـ يعلم ؟ يصبح معنى الآية وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ماذا يصبح معنى الآية ؟ وهو الله من صفاته يعلم سركم في السماوات وسركم أين ؟ في الأرض قال النحاس وهذا أفضل ما يقال في الآية لكن قلت أن الجمهور على خلاف الجمهور اختار أن الله جل وعلا إله من في السماء وإله من في الأرض واضح الكلام هذا القول قاله النحاس من قبله قال إمام المفسرين ــ طبعاً نعيد القول الثاني ــ نقول انه قال (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ ) جعل في السماوات وفي الأرض متعلقة بما بعدها فيصبح المعنى وهو الله يعلم سركم في السماوات ويعلم سركم في الأرض وهذا مما يؤيده من القرآن قول الله جل وعلا ({قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }الفرقان6 ... ) مما يؤيد المعنى الذي ذهب إليه النحاس ..(45/17)
القول الثالث : قاله من قبل إمام المفسرين ابن جرير رحمة الله تعالى عليه وهو يقول إن هناك وقف تام أين الوقف التام يا ابن جرير ؟ قال عند قول الله تعالى (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ ) واضح ثم نستأنف (وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ ) يعني يعلم سركم وجهركم في الأرض رغم انه مستوٍ على عرشه في السماء .. ومن أدلة هذا القول قول الله تبارك وتعالى ({أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ }الملك16.) واضح .
نعود فنقول ذهب الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه إلى القول الأول لكنه استشهد بصحة الأقوال بما ذكرناه من الآيات ونحن نقول إن هذه الطريقة غير صحيحة غير صحيحة في ماذا ؟ نقول إن ما ذهب إليه هؤلاء الكبار من معنىٍ صحيح لأن القرآن يشهد لهم لكن لا يلزم من صحة المعنى صحة الطريقة لا يلزم من صحة المعنى صحة الطريقة كمن تعطيه مسألةً في الرياضيات فيأتيك بالحل لكنه لم يتخذ الطريق الصحيحة فأنت تقر له أن الحل صحيح لكنك لا تقر له بصحة الطريقة فنقول إن المسلك الذي سلكوه فيه نوع من التكلف والأصل بقاء الآية على معناها الذي يتبادر أول الأمر، والعجب أن ابن جرير رحمة الله تعالى عليه ممن يتخذ أن ظاهر الآية هو الذي يجب أن يسلك ومع ذلك في هذه المسألة لجأ إلى مسألة القول بالوقف التام في قوله تعالى(وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ ) فنعود فنقول إن المعنى الحقيقي للآية في ظننا أن المقصود الله جل وعلا إله من في السماء وإله من في الأرض ، لكن هذا المنحى لمن كان يستوعب التفسير كامل يدخل عليه إشكال يجب الرد عليه أين الإشكال ؟(45/18)
أننا قلنا في قول الله تعالى فيسور كثيرة مثل قول الله جل وعلا ({فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً }الشرح .. ) قلنا إن تكرار اليسر نكرة مرتين يدل على أن اليسر خلاف اليسر الأول . وانتم تقولون أن النكرة إذا تكررت تغايرت ثم من القواعد المشتهرة كما قال السيوطي في منظومته أن النكرة إذا تكررت تغايرت .
فنقول فهو يقول أنكم تقولون على هذا تصبح على المعنى هذا أية الزخرف (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ )... الزخرف ) أن هناك إلهين وفق القاعدة لكن نقول لا يلزم من هذا أبداً أولاً : لوجود الأصل نعم أن الله إلهٌ واحد .
والأمر الثاني : القواعد تقول أن هذا تغيرُ في الصفات لا في الذوات ـ أعيد ـ تغيرٌ في ماذا ؟ في الصفات لا تغيرٌ في الذات فالذات واحدة هي ذات الله ، من صفاته أنه يعبدهُ أهل السماء ومن صفاته الأُخر أنه يعبدهُ أهل ؟ أهل الأرض واضح فيُفرق ما بين التغيير في الذوات والتغيير في الصفات ..
قال ربُنا يمنن على نفسه ({سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى }الأعلى1...) ثم قال ({الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى }الأعلى2..) وقال ({وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى }الأعلى3..) فليس {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } صفةٌ أخرى صفةٌ لغير الله إنما هي صفةٌ لله لكنها صفةٌ أخرى لغير الله ويحتاط المرء عندما يفهم أن التغاير يكون في الصفات لا يكون التغاير في الذوات واضح .
( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ{3})
((45/19)
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ ) ما تخفون وهذا ظاهر ( وَجَهرَكُمْ ) أي ما تظهره الجوارح أما (وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) فإن الكسب هو ما يقع حقيقةً من فعلٍ أو قول وحتى تتضح الصورة قال الله جل وعلا ({إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } ثم قال { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} لم يقل ما تدري نفس ماذا تعملُ غدا لأن الإنسان يبيت سلفاً ماذا سيعمل لكن هل سيقع هذا الفعل هذا العمل الذي بيته هذا الذي يجهله الإنسان ولا يعلمه إلا الله فنحن قبل أن نصل إلى هنا مدركون منذ البارحة أو قبلها بأيام أننا إن شاء الله سنلتقي هاهنا لنؤدي هذه الحلقة المباركة فهذا علم لكن حصولهُ هذا الكسب ،، فما تضمره السرائر وتكنه الضمائر هذا نوعٌ مما تخفيه يعلمه الله ويعلم كذلك إن كان هذا الذي أكننته سيقع أو لا يقع ولهذا قال الله جل وعلا (وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ) وقد مر معنا أن الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون ويعلم جل وعلا ما لم يكن لو كان كيف يكون والمقصود من هذا كله إظهار قدرة الله .
أما الأولى ففيها الآية الأولى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ) ففيها إقامة الحجة على أهل الإشراك في قضية البعث والنشور وقد حررنا أن الله ذكر الطين وأن السر في ذلك حتى يذكرهم بأصل خلقهم .
مما يمكن يقتبس من الآيات :: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ{2} وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ{3})(45/20)
أن الإنسان كلما ازداد علماً ومعرفةً بعظمة ربه جل وعلا كان أقدر على طاعته وابعد عن معصيته وقد حررنا هذا الكلام مراراً في دروسٍ سلفت وأيامٍ خلت لكن التأكيد عليه من أعظم اللوازم لأن ليس المقصود من تفسير القرآن إظهار القدرات وبيان ما يملكه الإنسان من ملكات لكن القرآن في المقام الأول واعظ وهادٍ إلى أعظم سبيل وأحياناً ينبغي الإنسان أن يفرق ما بين الشيء والغاية من الشيء ما بين الشيء والغاية من الشيء نأتي بمثال :: النبي صلى الله عليه وسلم مدحه ربه ومدحه الخلق لكن مدح الخلق لنبي صلى الله عليه وسلم ليس بزائدٍ في مدحه صلى الله عليه وسلم شيء إذ يكفيه مدح ربه له صلى الله عليه وسلم لكن ينجم عن هذا أن هؤلاء الناس الذين مدحوه صلى الله عليه وسلم هم أنفسهم ينتفعون فالإنسان إذا قُدر له أن يعطى علماً جماً في علم الآلة ينبغي أن يوظف ذلك العلم في إظهاره لناس ثم لا ينسى الحقيقة الهامة والغاية الجليلة من الأمر وهي أنه يجب أن تكون تلك الملكات سائقة له قبل أن يعلم الناس في أن ينتفع بالقرآن .
لو كان في العلم غير التقى شرفاً */* لكان أشرف خلق الله إبليسُ
والله نعى على أهل الكفر أنهم يعلمون كاليهود مثلا لكنهم لا ينتفعون بعلمهم
نفعني الله وإياكم بما نقول وهذا ما تحرر إيرادهُ وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين....
اللقاء الثالث السبت 3 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن على العرش استوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن على أثارهم اقتفى ... وبعد ..
فهذا هو اللقاء الثالث حول سورة الإنعام هذه السورة المباركة التي ذكر المفسرون أنها نزلت جملةً واحدة نقول أيها المباركون مستعينين بالله جل وعلا قال الله جل وعلا :
((45/21)
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ{4} فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ{5} )
هذا إخبار عن حال أهل الإشراك والسورة مكية تصور حال أهل مكة ومن حالهم (مَا) نافيه ( مَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) ذُكرت من مرتين (مَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ ) أما من الأولى فهي لاستغراق الجنس حتى تصبح للعموم من الأولى ،والثانية بعضيه والثانية ماذا ؟ بعضيه (مَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ) مثل من تلك الآيات انشقاق القمر (إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أي أننا أظهرنا لهم الآيات ومن أعظمها القرآن ومنها انشقاق القمر.
(إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أي أعرض أهل مكة عنها وهاذي ظاهرة المعنى (فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ) بصنيعهم هذا ردوا الحق وهو ظاهرٌ بيّن (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) على التراخي سوف لأنها للمستقبل البعيد وهذا من وعيد الله لهم بالهلاك في الدنيا والآخرة أو بالثبور في الدنيا والآخرة وقد وقع هذا يوم أحد ووقع يوم الفتح ويوم بدر وسيقع أعظم منه وأشد على من مات كفراً يوم القيامة (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) والنبأ في اللغة: الخبر المفجع الذي تتهول منه النفس وجُمع حتى يُعلم أن الله جل وعلا أخفى لهم شتى أنواع العذاب (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) والآيتان ظاهرتا المعنى ..
ثم قال الله : (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ)(45/22)
الهمزة هنا للاستفهام اتفاقاً لكن اختلفوا في معنى الاستفهام هنا أو الغرض من الاستفهام هنا فقال بعضهم أن الاستفهام هنا إنكاري وهذا ذهب إليه الشوكاني رحمة الله تعالى عليه في فتح القدير وهو خلاف الصواب والصواب أن الاستفهام هنا استفهام تقريري ـ أعيد ـ الهمزة في قوله جل وعلا (أَلَمْ يَرَوْاْ) للاستفهام اتفاقاً لكن اختلفوا في الغرض من الاستفهام هل هو تقريري أو إنكاري فذهب الشوكاني رحمة الله تعالى عليه إلى أنه إنكاري وهو بعيد وإنما هو تقريري من جنس ومن مثيل قول الله جل وعلا ({أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }الشرح1... لأن الاستفهام إذا دخل على نفيٍ يفيد التقرير ولم نافية بالاتفاق .
(أَلَمْ يَرَوْاْ) يروا هنا يعلموا ليست رأى البصرية ومعلومٌ أن رأى إذا جاءت بمعنى علم تُصبح من أخوات ظن وأما إذا جاءت رأى بمعنى أبصر ورأى بعيني رأسه فهذه تتعدى إلى مفعولٍ واحد وأما الأولى رأى بمعنى علم وهي من أخوات ظن تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ والخبر وكلاهما يسمى مفعولين لها مفعول أول ومفعول ثاني ، ما القرينة على أنها علمية وليست بصرية ؟ أننا نعلم جميعاً أن قول الله جل وعلا (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ) أن القرشيين لم يروا بأم أعينهم أحدً ممن قبلهم لم يروا هلاك الأمم لا قوم هود ولا صالح ولا شعيب ولا غيرهم لم يروهم بأم أعينهم فلما أتنفى الثاني وجب صرفها إلى الأول ..
( أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا) وكم هنا خبرية وليست استفهامية وقد تكررت معنى كثيراً وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب أما كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب وإنما يراد بها الإكثار قال الفرزدق يهجو جريراً:
كم عمةٍ لك يا جرير وخالةٍ */* فدعاء قد حلبت علي عشارِ
قصد بها الإكثار ولم يقصد أن يريد جواباً من جرير على سؤاله .
(أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ)
كلمة قرن لها معنيان :(45/23)
إما أن تكون المدة الزمنية ومن قال بهذا أي قال أن القرن بمعنى المدة الزمنية اختلفوا في تحديد هذه المدة فالأشهر على أنها مئة عام ، وقال آخرون إنها ثمانون، وقال آخرون إنها ستون هذا قول.
والقول الثاني : إن القرن كل قومٍ عاشوا في عصرٍ واحدٍ طال أو قصر كل قوم عاشوا مقترنين مع بعضهم البعض في عصر واحد طال هذا العصر أو قصر لا يُحدد ومن الأدلة على صحة هذا القول وهو الثاني قوله صلى الله عليه وسلم " خير القرون قرني " يقصد من عاش معي ومعلومٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش في عمره كله إلا ثلاثة وستين عاما منها ثلاثة وعشرون عاماً نبيا ورسولا واضح ، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم " خير القرون قرني " فالله هنا يقول (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ) والمقصود أهل من ؟ أهل القرن وهذا مما يسميه بعض البلاغيين المجاز المرسل ويجعلون له علاقات سيأتي تحرير الخلاف ما بين الحقيقة والمجاز وعلاقات المجاز المرسل في حينه إن شاء الله تعالى .
((45/24)
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) أي تلك القرون (مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ) أي يا أهل مكة وزيادةً على ذلك (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم ) أي على تلك القرون التي أهلكناها (مِّدْرَاراً) وهذا إيضاح على أن حال تلك القرون كان من حيث المعيشة الظاهرة أفضل من حال أهل مكة لأن مكة بلدٌ شحيح المطر ، (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ) ومكة بلدٌ جبلي (فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ) أي مع ما بسطنا لهم في الأموال والجاه والأجساد والبنين لم يحُل ذلك بيننا وبين إهلاكهم (فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي أوجدنا وخلقنا قوماً آخرين يعمرون الأرض بعدهم ولا ريب أن المسوغ لإهلاكهم ـ أي أهل مكة ـ أعظم من المسوغ لإهلاك من سبق والمسوغ ما علته هنا ؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن قبله من المرسلين فإذا كان أولئك القوم كذبوا برسُلٍ فقد كذبتم أنتم بأعظم رسول فالهلاك في حقكم أكبر لكن الله جل وعلا أبقاهم لقوله تعالى ({وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }الأنفال33...) (فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) والآيات وإن دلت فيها الزجر والوعد والوعيد بأهل الإشراك إلا أنها تضمنت ثناء الله على نفسه جل وعلا وأعلم أن القرآن دل على أن سباب هلاك الأمم أمرين :
الأمر الأول : التكذيب بالرسُل ومعاندتهم والاستكبار هذا واحد .(45/25)
والأمر الثاني : البطر في المعيشة وغمط الحق فغمط الحق وبطر المعيشة من أعظم أسباب هلاك الأمم جماعياً({وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ}القصص58 .. إلى آخر الآية .المقصود أن البطر وغمط الناس أحد سببين يهلك الله جل وعلا بهم الأمم هلاكاً جماعياً .
( فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ{6} ثم قال جل وعلا : (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ{7})
الكفر ملة واحدة ومما توارثه أهل الكفر العناد والاستكبار وادعاء أن ما يقوله الرسل سحر قال الله تعالى عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى ({وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ }الأعراف132... هذا الأمر توارثته الأجيال من عهد نوح (قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(45/26)
نعود للآية: ربنا جل وعلا يقول إن العناد فيهم شيءٌ متأصل وليست القضية فيك أيها النبي أنك لم تحسن عرض الدين عليهم بدليل والله يعلم ما سيكون ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ) الحواس كم ؟ خمس البصر والذوق والسمع والشم واللمس ما أقواها ؟ اللمس ما أقوى الحواس الخمس ؟ اللمس لأن الإنسان قد يعتريه ما يضعف قوة شمه أو يجد مُراً الماء الزلال أو يُسحر سحر تخييل في عينه أو تلتبس عليه الكلمات واللغط في سمعه فأقوى حواسه ما يلمسه لأن المس أضعف شيء في دخول شيء مؤثر عليه يعني يضعف أن يدخل شيء مؤثر على حاسة اللمس بخلاف الحواس الأُخر الأربع هنا ذكر الله أقوى الحواس فقال (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ) يعني لم يقل جل وعلا فرأوه إنما لمسوه لأن لو رأوه لقالوا (لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ) (نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }الحجر15 ) لكن (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ) مع لمسهم إياه (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) واضح .
لماذا ذكر الله جل وعلا اللمس هنا ؟ لأنه أقوى الحواس وهو أراد أن يثبت جل وعلا أن هؤلاء القوم العناد والاستكبار متأصلٌ فيهم فلو أنك يا نبينا أتيت بكتاب من عندنا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا أن هذا إلا سحر مبين على انه ينبغي أن يعلم أن لمس في القرآن تأتي بمعنى لها معنيان : لمس أي لمسه بظاهر بشرته اللمس المعروف لمست المصحف واضح وهو المقصود هنا .(45/27)
وتأتي لمس بمعنى بحث لمس بمعنى بحث أين ؟ قال الله عن مؤمني الجن ({وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً }..الجن8) وقطعاً الجن لم تلمس السماء ..( وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً) فالجن لم تلمس السماء لكنهم بحثوا في السماء وجدوا أن السماء ملئت حرساً شديداً وشهبا ـ أعيد ـ لمس في القرآن تأتي اللمس المعروف بظاهر البشرة تقول لمست المصحف لمست الإناء وما أشبه ذلك وتأتي بمعنى بحث كقوله تعالى في سورة الجن ({وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً }أي بحثنا في السماء فوجدنا ذلك الخبر .
كلمة قرطاس هناك قرطاس هناك طرس وهناك ورق وهناك كاغد كم ؟ أربعة قرطاس وطرس وكاغد وورق ، الورق والطرس والكاغد بمعنىً واحد ما يكتب عليه ، أما إذا كتب عليه يسُمى قرطاس فلا يسمى قرطاس إلا إذا كتب عليه وأما تسميته ورق أو تسميته كاغد أو تسميته طرس كلها فصحى يجوز حتى في حال عدم الكتابة عليها واضح فجاء الله جل وعلا هنا تعبيراً بأرفعها ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ) أي مكتوب في قرطاس من حيث الصناعة الصرفية القاف في قرطاس مثلثة ما معنى مثلثة ؟ يجوز فيها الثلاث حركات يجوز قِرطاس ويجوز قََرطاس بالفتح ويجوز بالضم وهو قُرطاس وأفصحها قطعاً الكسر لأن القرآن جاء بهذا فاللغة فيها فصيح وأفصح ولكن يُعرف الفصاحة بأسلوب ماذا ؟ بأسلوب القرآن فاختيار القرآن هو الأفصح .
( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ{7})(45/28)
فيه مقوله يُستشهد بها وإن كنا في تفسير يقول أنش تاين الفيزيائي المعروف [ إن فلق النواة أيسر من تغيير حكم سابق ] هذه المقولة نستصحبها ونقول إن أنش تاين لم يكن سابقاً فيها هذا معنى كلام الله لماذا ؟ لأن تأصل في أذهانهم وفي قلوبهم أن محمدٌ ساحر فمهما أتى محمدٌ عليه الصلاة والسلام بالآيات والبراهين والواضحات على أنه نبي رب العالمين فإنهم يردونها لما تأصل في أنفسهم بأنه ساحر وهذا التأصل مبنيٌ على العناد فالباحث على الحقيقة يجب عليه أولاً أن يتجرد من الحكم السابق الباحث على الحقيقة يجب عليه أولاً أن يتجرد من الحكم السابق والباحث عن الحقيقة الشرعية يجب عليه كذلك أن يستصحب الخوف من الله والوجل لأن الخوف من الله من أعظم أسباب التوفيق الخوف من الله من أعظم أسباب التوفيق فإن قال لك قائل أين الدليل على أن الخوف من الله من أعظم أسباب التوفيق ؟ قل إن ربنا قال في سورة المائدة لما ذكر جل وعلا أولئك الملأ من بني إسرائيل الذين اعترضوا على الجهاد مع موسى وأخيه قال الله جل وعلا :( {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ }المائدة23..) الله أتى بوصفهما بأنهم يخافون حتى يبين مسوغ التوفيق لقولهم (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) يعني يخافون الله (أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ) بالخوف منه ( ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ) فهدوا لطريقة والقول الحميد والسبيل الأمثل لأنهم كانوا ممن تلبسوا بالخوف من الله . فالخوف من الله جل وعلا من أعظم أسباب التوفيق فمن أراد أن يطلب العلم وهو من أعظم الحوائج التي تطلب من الله لأن الله قال لنبيه ({وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114 ..(45/29)
) حتى يوفق من أعظم أسباب توفيقه أن يصحب ذلك خوفه من الله فأكثر أهل العلم توفيقاً أشدهم خوفاً من الله وهذا ينبهك على حديث شهير عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " أما وأني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية " فقرن صلى الله عليه وسلم ما بين علمه وما بين خشيته من ربه أما من كان قلبه قاسياً وهو بعيدٌ عن الله ولا يرقب الله جل وعلا ولا يخشاه حق الخشية ولا يخافه حق الخوف فهذا أبعد من التوفيق في العلم وفي غيره لكنه في المطالب الشرعية يكون أشد بُعداً لأن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب لكنه جل وعلا لا يعطي الدين إلا لمن يحب رزقني الله وإياكم الخشية منه والعلم من لدنه .
قال الله : (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ{7} ) ثم ذكر الله اقتراحاً ذكره أهل الكفر ( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ{8})(45/30)
من الاقتراحات التي طرحها مشركوا قريش أن ينزل الله جل وعلا ملكاً على نبينا صلى الله عليه وسلم وفي اقتراحٍ آخر طلبوا أن يكون الرسول نفسه ملك أي كم اقتراح ؟ اقتراحان : اقتراح أن يكون هناك ملك يُضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعينه ونراه ،، واقتراح آخر قالوا المفترض أن الله جل وعلا لا يبعث رسولاً منا إنما يبعثُ ملكاً ثم قال الله جل وعلا (وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ) هذا سيأتي تحريرها إن شاء الله في اللقاء القادم لكن بقي أن ننبه إلى أن الله جل وعلا هنا قال (لَوْلا) هي أصلاً هنا للحض لماذا ؟ للحض من الضاد أخت الصاد ليست الحظ يعني النصيب هم يظنون بجهلهم أن هذا معجز يعني يعجز الله أن يبعث ملك معك ولذلك طلبوا هذه الآية على سبيل التعجيز لكن العاقل لا يقبل أن يقع في الفخ الذي نصبه له عدوه فهم أرادوا هذا من باب التعجيز كأن النبي صلى الله عليه وسلم سيلح على ربه أنزل ملك حتى يقتنعوا لا يلزم من هذا أن تقبل ما دعوك إليه ثم رد الله جل وعلا عليهم هذا الاقتراح وسيأتي في اللقاء القادم إن شاء الله كيف رد ربنا جل وعلا على اقتراحهم هذا ،، إلا أنني أعقب على قولنا إن العاقل لا يقع في الفخ الذي نصبه له عدوه أو بتعبيرٍ أوضح إن العاقل لا يسلّم نفسه إلى عدوه أياً كان ذلك الخصم النبي صلى الله عليه وسلم دخل على حمزة قبل أن تُحرم الخمر وحمزة قد ثمل يعاتبه على أنه بقرـ يعني نحر ـ شارفي ـ أي ناقتي علي رضي الله عنه ـ فدخل عليٌ وزيد مع النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة في شربٍ من الأنصار وكانوا سكارى وحمزة قد ثمل بلغت منه الخمر مبلغ فلمّا لام النبي حمزة قال حمزة لنبي صلى الله عليه وسلم .(45/31)
" وهل أنتم ـ أي أنت ومن معك ـ إلا عبيدٌ لأبي " ففهم عليه الصلاة والسلام من العبارة أن حمزة ثمل ماذا فعل؟ خرج كيف خرج ؟ خرج القهقرى يرجع على ورا حتى لا يغتر حمزة فإذا رأى أظهرهم يصيبه نوع من الإثارة فيطعنهم أو يؤذيهم فخرج صلى الله عليه وسلم بوجهه ينظر بوجه إلى حمزة حتى خرج من الدار مع فارق التشبيه طبعاً حمزة مؤمن سيد الشهداء لكن المقصود أن الإنسان يحتاط لنفسه ولا يسلّم نفسه لغيره ممن من أعدائه ...
نسأل الله لنا ولكم التوفيق هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده في هذا اللقاء المبارك حول سورة الأنعام وفي اللقاء القادم إن شاء الله سنعرج على كيفية رد الله جل وعلا في آياتٍ مباركات على اقتراح القرشيين أن ينزل مع النبي صلى الله عليه وسلم ملك وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء الرابع الأحد 4 / 9 / 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجدله ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين ... أما بعد ..
انتهى بنا المطاف في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا : (وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ{8} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ{9})(45/32)
والآيات من سورة الأنعام وكُنا قد قلنا في فواتح تفسيرها أن هذه السورة المباركة أثبتت الأصول الثلاثة الإلوهية لله جل وعلا والرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والإخبار عن البعث والجزاء وأنها تضمنت أسلوبين : هما أسلوب التقرير وأسلوب التلقين والتلقين في الأول وقلنا سنحرر هذا إن شاء الله تعالى في موضعه وانتهينا إلى الآيتين اللتين تلوناهما في أول اللقاء .
المجتمع القرشي آنذاك في مكة ـ وقلنا أن استصحاب السيرة مهم في دراسة القرآن ـ المجتمع القرشي في مكة كان قد طبع على العناد طبُع على الأنفة إضافةٍ إلى حسدهم لنبي صلى الله عليه وسلم ثمة عوامل مجتمعة كلها يدور حول فلكٍ واحد وهو أن الله جل وعلا لم يكتب لهم الهدايه لكن أسباب عدم كتابة الهدايه لهم تدخلت فيها عوامل كثير ة من ذلك نجم عنهم اعتراضات كانوا يعترضون بها على النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الاعتراضات أنهم اقترحوا أن يُضم لنبي صلى الله عليه وسلم ملك أو أنهم قالوا كان من المفترض أن الله إذا أراد أن يبعث يبعث ملكاً يُصدق ويُقبل عند الناس ولا يبعث رسولاً من الناس فجعلوا ما جعله الله رحمة طالبوا بنقضه لأن الله جل وعلا من رحمته بعباده أن جعل الرسُل منهم ولهذا قال الله جل وعلا ممتناً على أهل الإيمان : ({لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ}آل عمران164.. ) والنبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا منّه وهذه رحمة الله جل وعلا بنا لكن أهل الإشراك لما طُبعُوا عليه من العناد اقترحوا أن يكون مع الرسول ملك أو أن يكون الرسول الذي يفترض أنه قد بُعث أن يكون ملكاً ..(45/33)
ماذا رد الله عليهم ؟؟ قال الله حكا قولهم (وَقَالُواْ) أي أهل الإشراك (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ) أي على محمد ملك يعني يعضده ويكون معه حتى نصدقه بزعمهم فقال الله جل وعلا (وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ) (ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ) أي ثم لا يمهلون لكن نبقى ننيخ المطايا عند قول الله جل وعلا (لَّقُضِيَ الأمْرُ ) ما معنى لقضي الأمر ؟ قضي الأمر من حيث الحرفية انتهى الأمر ومنه قول الله جل وعلا على لسان يوسف ({ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ }يوسف41..) أي انتهى الأمر لكن ما معنى قضي الأمر إذا ارتبط بالملك ؟ ما معنى قضي الأمر في الرسالة ؟ لأهل العلم رحمهم الله في تحرير قضي الأمر ثلاثة أوجه كم وجه ؟ ثلاثة أوجه ..
الوجه الأول والأفضل أن يُحرر : الوجه الأول أن يُقال إن سُنة الله جل وعلا في خلقه أن الأمم إذا اقترحت آيةً ثم لم تُؤمن بها جاءهم عذاب استئصال وقد مضى قدر الله أن هذه الأمة باقية لأنها آخر الأمم واضح يعني المانع من كونه ملك لو أوُتي هذا الملك جاء هذا الملك كما اقترحوا ولم يؤمنوا به وقد سبق في علم الله أنهم لن يؤمنوا به فسيدفع ذلك تبعاً للسنن التي سلفت والأيام التي خلت التي لا تتبدل ولا تتغير أنهم سيُستأصلون وهذا يتنافى مع ما قدره الله جل وعلا لهذه الأمة أن تبقى قال الله جل وعلا : ({وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107.. ) وهذه الأمة هي آخر الأمم فلا يُعقل أن تُستأصل لأن هذا يعني منه فناء الناس هذا وجهٌ قاله العلماء في معنى قول الله جل وعلا (لَّقُضِيَ الأمْرُ ).(45/34)
قال آخرون : إن الوجه الآخر أن يُقال إن هؤلاء الناس القرشيون وغيرهم لا تقدر قواهم على رؤية الملائكة فيُصبح (لَّقُضِيَ الأمْرُ ) يعني بمجرد أنهم ما يرون الملائكة سيفنون وهذا القول فيه شيءٌ من الضعف لكن ثمةً قرائن عند من قال به تؤيده ومن قرائن من قال بهذا القول يقولون أن أنبياء الله ورُسله صلوات الله وسلامه عليهم وهم الصفوة من الخلق الذين هم في كنف الله جل وعلا وحفظه ورحمته بهم لما رأوا الملائكة على هيأتهم خافوا و رُعدوا واستدلوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابته رعده عندما رأى جبريل على صورته عندما رآه في أيام الوحي الأولى قد سد الأفق فقالوا إذا كان نبيُ الله والله قال عن داوود ({وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ }ص21..) قالوا لأنهم كانوا ملائكة فقالوا إذا كان بعض أنبياء الله لم يقدر إلا بما أتاه الله أن يلقى الملك فكيف لو مشى الملك بين الناس فهؤلاء سيعجزون عن ستعجز قواهم عن مقابلة الملائكة فجعلوا قول الله جل وعلا أي هذا الفريق من العلماء جعلوا قول الله جل وعلا (لَّقُضِيَ الأمْرُ ) توجيهه عندهم أن هؤلاء الناس لا تطيق قولهم رؤية الملائكة وهذا عندي أضعف توجيهات الأمر .(45/35)
الأمر الثالث ذكرنا منهم الآن اثنان الأمر الثالث : أن التكليف مبنيٌ على الاختيار القاعدة في التكليف مبنية على الاختيار فرؤية الملائكة أيها الأخُ المبارك آية ملجئة ينتفي معها الاختيار آية ماذا ؟ ملجئة ينتفي معها الاختيار وإذا انتفى الاختيار انتفى ماذا ؟انتفى التكليف وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف ـ أعيد ـ التكليف قائم على ماذا على الاختيار إذا لم يكن أمامك خيار لا يسمى تكليف فالملائكة مثلاً لماذا غير مكلفين ؟ لأنه ليس أمامهم إلا الطاعة جُبلوا على الطاعة ( { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }التحريم6.. ) ما هو التكليف ؟ أن تعرض على الإنسان على المكلف أمرين فهو يختار أحدهما هذا التكليف وتخبره بعاقبة هذا وعاقبة هذا فالعلماء يقولون إن رؤية الملائكة آية ملجئة معنى آية ملجئة: الإنسان إذا رأى الملائكة وجاءت وقالت له أنا من عند الله بدهيٌ أنه سيؤمن فانتهى لم يصبح أمامه خيار آخر أن لا يؤمن فإذا انتفى الخيار انتفى أسُ التكليف والأصل أن الجن والإنس مكلفان باعتبار التثنية مكلفون باعتبار الجمع واضح إذاً هذه ثلاثة أمور وجه العلماء فيها قول الله تبارك وتعالى (وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ )
ثم قال الله : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )(45/36)
المعنى أن حكمتي تقتضي ـ هذا معنى كلام الله جل وعلا ـ أن حكتي تقتضي لو أنني أرسلت ملكاً أن أجعله في هيئة رجل فيصبح هؤلاء الأشرار عادوا من حيث بدؤوا لأن الملك إذا جاءهم في صورة رجل يبقى اللبس والاختلاط عليهم كما هو باقٍ عليهم الآن لماذا ؟ لأنهم أرادوا الوصول من غير طريق الحق كيف معنى أرادوا الوصل من غير طريق الحق ؟ هم الآن يرون نبيهم ومع نبيهم آيات ظاهرة ومعجزات باهرة أعظمها القرآن فلم يقبلوها ولم يقتنعوا بها ولم يلتمسوا التدبر فيها فحادوا عن الطريق الذي يصلون به إلى معرفة الله وتكلموا عن شخص الرسول وطالبوا بأن يكون ملكاً فلو أن الرب أجاب اقتراحهم وجعل الملك في هيئة رجل لعادوا من حيث بدؤوا فلا يدرون هل هو ملك أو هو رجل فإذا أتاهم بالبينات وقعوا في نفس اللبس الذي وقعوا فيه مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى توجيه الآية ..
وقال آخرون توجيهين آخرين هما: القول الأول .. (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) أن رؤساء أهل الإشراك يُلبسون على الضعفاء دين محمد صلى الله عليه وسلم فيكون معنى قول الله جل وعلا (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) أي نعاملهم بالمثل فنلبس عليهم الدين كما هم يلبسون الدين على من يتبعهم هذا ظاهر .
وبعض العلماء أخذ اللفظ على بادي الرأي قال (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا ) يقصد الثياب (عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) أي هؤلاء الملائكة لو قدر أننا بعثناهم نبعثهم في هيئة رجال فسيرتدون ويلبسون ما يلبسه الرجال عادةً . هذا مجمل ما دلت عليه الآيتين الكريمتين .
قال الله جل وعلا بعدها ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ{10} قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{11})(45/37)
هذا من تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن تثبيت قلبه ومن تعليمه سُنة الله في الرُسل من قبله فليس أنت أيها المبارك أيها النبي أول من اُستهزأ به والإنسان ـ قد مرّ معنا كثيراً ـ إذا عرف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته تقول الخنساء في رثاء أخيها صخرا :
يذكرني طلوع الشمس صخرا */* وأذكره لكل مغيب شمسِ
ولولا كثرة الباكين حولي */* على أخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن */* أعزّي النفس عنه بالتأسي(45/38)
ولهذا مر معنا في الزخرف أن الله جل وعلا عقاباً لأهل الكفر في النار يمنعهم التأسي بمصائب بعضهم البعض ({وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }الزخرف39.. ) هذه منتفية في الآخرة وهي تنفع في الدنيا لكنها لا تنفع في الآخرة ، فالمقصود من قول الله جل وعلا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ) تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت جنانه وهذا من أغراض القرآن ومقاصده الكبرى وإخباره صلى الله عليه وسلم بسنة الله جل وعلا في الأمم التي قبله ، من يتبع ـ لأن المفسرين أيها المبارك لهم طرائق في تفسير القرآن ـ فمن من تفسيره في القرآن من منهجه من طريقته تفسير القرآن بالقرآن يجد في قول الله جل وعلا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ) ميدان رحباً له لماذا ؟ لأنه سيعرج على الآيات والسور التي ذكر الله جل وعلا فيها استهزاء الأقوام و الأمم برسلهم وهذا طريقة الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أضواء البيان لذلك الشنقيطي نفسه تجده في آيات لا يبحر وبعضها يتركها ويعرض عن تفسيرها أعراض مدح يعني ليس إعراض ذم يعني يترك تفسيرها لأنها تتنافى مع قواعده في التفسير فكتابه اسماه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .(45/39)
ومن الطرائق العلمية في التأليف ـ وهذا استطراد ـ أن الإنسان إذا وضع قاعدة لا يجد أحداً ملاماً عليه لا يستطيع احد أن يلومه ولا طريقاً إليه ثم إنك أيها المبارك إذا أردت أن تقرأ كتاباً لا تبدأ بشيء قبل مقدمته من مقدمة الكتاب يتضحُ لك قدرة المؤلف أو طريقته وستعرف أن يكون بينك وبين القراءة فصل خطاب إما أن تستمر وإما أن تبقى لأنك من المقدمة من المفترض أن تعرف ما الذي أراد صاحب الكتاب أن يبلغك إياه مثلا: السيوطي رحمة الله تعالى عليه من أئمة العربية الكبار ومن أئمة العلم الشرعي فألف كتباً عديدة لا حصر لها ـ من باب المبالغة ـ في نفع الناس ألف كتاباً اسماه جمع الجوامع في هذا الكتاب يعتمد السيوطي على ثقافة من يقرا الكتاب فإذا جاء ببعض الأبيات إما أن يأتي بها مجزوءه أو بعض الأمثال يِأتي بأول المثل ويكتفي به وهو لا يجهله لكنه اعتمد على انه ألف هذا الكتاب لكبار الطلبة وكبار الطلبة مظنة أنهم يحفظون هذا لما ضعفُ العلم بعده وأخذ الناس من يطلب العلم منهم يقرؤون جمع الجوامع يجدون فيه إشكالاً من طريقين : أولاً قلّ في الناس من يحفظ ما كان السيوطي يحفظه ، وبعضهم يقرأه وهو لا يعرف منهج السيوطي في التأليف حتى جاء علاّمة شنقيطي رحمة الله تعالى عليه واسمه الشيخ محمد الشنقيطي توفي قبل حوالي مئة عام إلا ثمانية سنين تقريباً 92 سنة ألف كتاباً أسماه الضوء أللامع على جمع الجوامع فما جزأه السيوطي رحمة الله تعالى عليه ولم يفصل فيه فصّله الشنقيطي رحمة الله في كتابه هذا وأبان في المقدمة أن السيوطي رحمة الله ألف كتابه باعتبار كبار الطلبة وأنا أريد أن أقربه للجميع .
المقصود من هذا كله من هذا الاستطراد كله أن الله جل وعلا أراد أن يُعلم نبيه سنته جل وعلا في خلقه الذين وأنبياءه الذين سبقوا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ )(45/40)
ثم قال الله جل وعلا : (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )
السير في الأرض إما بالأبدان وأما بالقلوب والأبدان فإذا سار الإنسان في الأرض ببدنه لا بقلبه قد تقر عينه بما ترى لكنه لا ينتفع ، أما إذا سار ببدنه وقلبه انتفع فأُولوا الأبصار أولوا الألباب المحمودون والممدوحون شرعاً هؤلاء يسيرون في الأرض سيراً بقلوبهم وأبدانهم وهو المقصود في الخطاب الشرعي هذا (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ) بقلوبكم وأبدانكم (ثُمَّ انظُرُوا ) بأبصاركم (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) فإذا نظرتم بأبصاركم وقلوبكم اعتبرتم مما رأيتم والله قال ({وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ }الحجر..76) ذكر أمةً من قوم صالح وأنهم أهلكوا وذكر قوم لوط وأنهم أهلكوا ثم بين انها ما زالت مقيم بسبيل أي بطريق مقيم أي مازال باقياً . والله جل وعلا بعض الأمم أذهب أثارها بالكلية لتبين ليظهر من ذلك عظيم قدرته وبعضها أبقاها جل وعلا حتى يعرف الناس من الاعتبار بها جليل حكمته فما أثناه جل وعلا بالكلية كم من أمم ذكرها الله في القرآن لا نعلم أين كانت ولا نرى لها أثر وكم من أمة في القرآن ذكرها الله جل وعلا ما زالت باقية ولهذا قال الله في هود ( { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }هود100..(45/41)
) يعني منها ما زال قائماً كآثار الحجر في تبوك والبحر الميت لقوم لوط ومنها حصيد أي لم يدل عليه اثر فما كان حصيداً لا يمكن أن نشير إليه لكن المقصود من الآيتين (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ{10} قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{11}) تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العظة والاعتبار وتسليته هذه مقاصد شرعية تولاها القرآن واعتنى بها ومن ذلك تعليم هؤلاء المخاطبين الأولين بالقرآن وهم كفار قريش (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) والعاقل هذا أمرٌ مشروع متضح من اتعظ بغيره لكن عياذاً بالله غلب عليهم الكبر وطغى عليهم العناد وبقي فيهم الشك والريب في أمور تختلف عواملها من شخصٍ إلى آخر يجمعها كلها ما كتبه الله في الأزل وما خطه الله في القدر وما أراده الله من قبل (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ) من أن الله جل وعلا كتبهم من أهل الشقاوة ومصيرهم إلى النار ومن هنا يعلم العبد أن الهداية بيد الله كما أن الضلال بيده من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له وعلى هذا يبقى في الإنسان أن يكون في قلبه سريرة حسنة يجدد فيها رغبته فيما عند الله تبارك وتعالى ولا يغره علمه ولا ثناء الناس عليه ولا انه يستطيع أن يصل إلى مقصوده أو أن يمنع من يريد أن يؤذيه إنما المرء في باب الهداية على وجه الخصوص يبقى معلقاً قلبه بالله يتقلب ليل نهار يخشى أن يصرف عن صراط الله المستقيم وأحداث الزمان المعاصر والتاريخ الذي شهدتموه كان برهانٍ على كثيرٍ مضوا في هذا الطريق ثم رجعوا وأقوام بدؤوا بدايةً الله أعلم بها ثم ختم لهم بخير وقد قال ابن تيمية رحمة الله [ ليست العبرة بعثرة الباديات وإنما العبرة بكمال النهايات ] وحفظ عن المعصوم أنه صلى(45/42)
الله عليه وسلم انه كان يقول " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "
هذا ما تحرر إيراده وأعان الله على قوله حول الآيات الأربع من سورة الأنعام في اللقاء القادم إن شاء الله تعالى نزدلف إلى ما بعدها سائلين الله لنا ولكم التوفيق وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء الخامس الاثنين 5 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربُنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان على يوم الدين ... أما بعد ..
كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله تبارك وتعالى (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) وقلنا أن السير يكون سير اعتبار إذا كان بالأبدان والقلوب من قبل قال الله جل وعلا بعدها : (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{12} وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ{13} )(45/43)
قلنا في درسٍ خلا إن السورة تتتبع أسلوب التلقين والتقرير من أساليب التقرير السؤال والجواب فالله يقول لنبيه (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) سل هؤلاء ،الجواب تكفل الله به لأنهم سيجيبون به حتماً لكنهم سيمتنعون عن الإجابة حتى لا يقعوا في لوازمها فقال الله جل وعلا (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) اللام هنا لام الملك الملك المطلق قال الله تعالى (قُل لِلّهِ ) فلله اللام هذه وإن كانت جارة في الصناعة النحوية لكنها تعني لام الملك (قُل لِلّهِ ) ثم قال الله (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) وهذا من رحمة الله بعباده يعني اللفظ نفسه مشعر برحمة الله جل وعلا لعباده كيف هو مشعر برحمة الله بعباده ؟ عندما يأتي سؤال قرآني إلهي (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ويأتي الجواب إلهي (قُل لِلّهِ ) هذا يصيب القلوب التي تعرف الله بالخوف فحتى تسكُن تلك القلوب وتطمئن يُبين أن لله جل وعلا رحمة واسعة فأخبر الله جل وعلا بلازم لازم فضلٍ ألزم به نفسه لأن الله لا ملزم عليه فقال (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) وهذه الآية جاءت مصدقةً بالأحاديث قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة " إن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش أن رحمتي تسبقُ غضبي ، أو أن رحمتي غلبت غضبي " والعلماء من المفسرين من منهجهم الكثير منهم إذا جاء إلى هذه الآية يورد الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله جل وعلا غلبت رحمته غضبه فيوردون حديث المرأة التي رأت طفلاً في السبي كلما رأت رضيعاً في السبي ضمته إلى صدرها فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من الصحابة " أتضنون هذه المرأة ملقيةً ولدها في النار وهي قادرةٌ على أن لا تطرحه قالوا : لا يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : لله أرحم بعباده من هذه بولدها ) إلى غيرها من الآثار..(45/44)
المهم بالنسبة لنا المخاطبين بالقرآن أن نفهم ونفقه معنى (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) يدفعك قول الله جل وعلا (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) أول ما يدفعك إلى حسن الظن بالله جل وعلا ومن حسن الظن بالله أن تحسن الظن بالناس أما ترتيب هذا فإن الإنسان أحياناً إذا رأى بعض الناس على معصية أساء الظن به والدافع على سوء الظن هنا ما يغلب على ظنه أن الله جل وعلا لن يرحمه فيأخذ يصور ويتخيل هذا العاصي وهو يعذب لأنه غلب على ظنه أن الله لن يرحمه ويتخيل هذا العاصي وهو يتعذب فيصبح يرى هذا العاصي كالعدو له فتأتي منه ألفاظ وأفعال وأقوال يشعر منها الإنسان الآخر بالغلظة والجفاء وهي ناجمة عن حاله نفسيه تصورها لأن هذا الرجل في الأصل لا يُحسن الظن بربه فلما رأى من تلبس بالمعصية لم يغلب عليه أنه قد يُرحم وإنما قطع جوانب الرحمة كلها ولم يبقى في ذهنه إلا أن هذا الرجل يعذب لا محالة فلما علم في نفسه أن هذا الرجل معذبٌ لا محالة عاداه وهكذا يتبع بعضها بعضا كالفتاوى المركبة حتى يصل إلى ألفاظ وأقوالٍ وأفعالٍ ناجمةٌ في أصلها لو بحثت عنها إلى سوء الظن بالله جل وعلا والله يقول (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )(45/45)
ولهذا أُثر ونقل عن كثيرٍ من السلف عبارات تدل على عظيم حسن ظنهم بالله وقد قيل لأبي حاتم وقد أراد أن يتبع جنازة رجلٍ مدمن خمر فقال له بعض من لا يفقه : أتتبع جنازة هذا ، قال : والله إني لأستحي من الله أن أظن أن رحمته عجزت عن ذنب هذا إني لأستحي من الله أن أظن أن رحمته عجزت عن ذنب عبد ـ ذنب عبد مؤمن ـ.(45/46)
والله جل وعلا يقول هو عن نفسه (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) وهذا أشبه بالتوطئه لما بعدها ما الذي بعدها ؟ بعدها الوعيد (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) إذا بقينا ننيخ المطايا في (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فإذا كان الله قد كتب على نفسه الرحمة فحريٌ بالعبد أن يرحم نفسه وأن يرحم من حوله والإنسان يكون قريباً من الناس إذا شعر الناس أنه موطن رحمة تعلقت قلوبهم به وإذا شعر الناس أن زيدً أو عمرً من الناس ليس فيه رحمه تمنوا خلاصه والانفكاك منه ومما يستطرد في هذا أن الإنسان أحياناً من جهله حتى لا يرحم نفسه ذكر الجاحظ الأديب المعتزلي المعروف في كتاب البخلاء عن رجلٍ اسمه الثوري ـ وهو غير سفيان المعروف ـ هذا الرجل كان فيه بخلٌ شديد فحُمّ صابته حمى هو وأهل بيته وغلمانه فنجم عن هذه الحمى أن أهل بيته أصبحوا لا يستطيعون الأكل فما كان مهيأً مقدراً أن يأكلوه في أيام لم يأكلوه فزاد عنده شيءٌ من الدقيق فوجد أن الحمى نجم عنها غنيمة لأن الدقيق قد زاد فمن عدم رحمته بنفسه أصبح يقول :[ يا ليت منزلي في غور الأهواز أو في نطات خيبر أو في ديار الجحفه] ما غور الأهواز و ما نطات خيبر و ما ديار الجحفه ؟ غور الأهواز:: منطقه في إيران حالياً مشهورة بأنها موبوءة كثيرة الحمى ، ونطات خيبر:: خيبر أصلاً بلد حمى فنطات خيبر موضع في خيبر اشد خيبر حمىً ووباءً ، والجحفة :: بلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أن الحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة فهي أرض موبوءة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم موجودة إلى اليوم خربة وهي أصلاً ميقات ولهذا يحرم الناس من رابغ لأنه لا يوجد أحد يستطيع أن يبقى في الجحفة وان كان فيها سكان قليل ، المقصود أن هذا الرجل لما وجد النفع من الدقيق الذي زاد تمنى أن يكون مسكنة في أحدى هذه الديار الثلاث لأنها ديار حمُى فتكون الحمى فيه وفي أهله طوال العام فينجم(45/47)
عن ذلك زيادةٌ في الطعام فهذه القصة وإن ذكرها الجاحظ بغير ما استشهدنا به ذكرها في كتاب دونه أسماه البخلاء دون فيه أحوال أهل عصره وقد كانت من سير الأدباء آنذاك أنهم يدونون أحوال عصرهم فدون الجاحظ حال البخلاء ودون حال المعلمين ولكلٍ طريقته في الأدب وكان الأدب يوم ذاك أيها المبارك في حالة تأسيس لما يكون الأدب في حالة تأسيس لا تستطيع أن تضبطه لأنه بعد ذلك يأخذ طرائق ومناهج قددا الذي يعنينا هنا أن هذا الرجل أوتي من عدم رحمته بماذا ؟ بنفسه لكن الإنسان إذا رحم نفسه أول ما يختط لها توحيد الله لأن توحيد الله جل وعلا أعظم المنجيات بل لا منجي قبله فيكون من رحمة الإنسان بنفسه توحيد الله ثم بعد ذلك ينتقل الإنسان إلى نفع الغير ويكون رحمة ولهذا لما أراد الله أن ينعت نبيه قال ({وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }الأنبياء107 ) فمن كان في بيته رجلٌ كان أو امرأة معلماً مديراً مسئولاً في إدارة أميراً في مدينته إن لم يرى الناس منه جانب الرحمة تمنوا زواله ومن كان رحيماً سيموت قطعاً الرحيم وغير الرحيم لكن الرحيم في الناس إذا مات بكى الناس عليه دماً قبل أن يبكوا عليه دمعاً وذُكر بخير ، المقصود من هذا أن الله جل وعلا قال (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) وقلنا هذا توطئة لما بعدها .(45/48)
ثم قال (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) من الذي أقسم ؟ ـ لأن اللام لام قسم ـ رب العالمين وهو جل وعلا أصدق القائلين يتحرر من هذا أن أصدق القائلين أقسم أن هناك جمع إذاً من أعظم اليقينيات الكبرى في حياتنا أن هناك بعث ونشور من أعظم اليقينيات الكبرى في حياتنا أن هناك بعث ونشور فإن سألنا سائلٌ لماذا ؟ نقول لأن أصدق القائلين جل جلالة أقسم أن هناك جمع وبعث ونشور للعباد. (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) هذه اللام قلنا لام القسم ـ نعرج على الصناعة النحوية قليلاً لماذا ؟ لا نستطيع أن نشرح النحو كاملاً في درس تفسير ولا يمكن أن نغيب الصناعة النحوية في درس تفسير لتلازمها لكن بما أن الدرس تعليمي في الأول ففي كل لقاء قدر المستطاع نعرج على بعض ما ينفعك في الصناعة النحوية ـ هذه اللام لام القسم هناك لامات أُخر منها: لام الجحود لام الجحود تمر معك في القرآن كثيراً تأتي في خبر كان المنفية أين تأتي ؟ في خبر كان المنفية قال الله ({وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى }هود117..) فكان سُبقت بما النافية فأصبحت كان هنا منفية وربك اسمها الكاف مضاف إليه يهلك هذا خبرها جمله فعليه فسبق الفعل باللام هذه اللام اصطلح أهل النحو على تسميتها بماذا ؟ بلام لام الجحود .(45/49)
هناك لام أخرى اسمها اللام المزحلقة معنى كلمة مزحلقة أصلاً يستقر في الذهن أنها تحركت من مكانٍ إلى مكان فيقولون إن إنّ التوكيدية التي تنصب الاسم وترفع الخبر إذا جاءت اللام في خبرها فإن الأصل أن هذه اللام كانت موجودة في الاسم فانتقلت من الاسم إلى الخبر ولذلك أسموها اللام المزحلقة نفسها اللام المزحلقة أحياناً إنّ هذه لا تعمل تُخفف فإذا خُففت دخلنا في إشكال أين الإشكال ؟ انه يوجد إن نافيه تعمل عمل ليس فأنت إذا خففت إنّ وأصبحت إن تشابهت إن النافية مع إن التي أصلها إنّ تشابهتا فوجب التفريق بينهما فيأتون باللام في خبر إن المهملة ويسمونها اللام الفارقة قال الله وهو أصدق القائلين في القرآن ({وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ }المؤمنون30.. ) فإن هنا ليست نافية وإنما هي مخففة من إنّ ولذلك جاءت اللام في خبرها وأصلها هي اللام المزحلقة لكن لمّا خففت إن أصبحت لام اللام الفارقة . قد يكون هذا فيه شيءٌ من الصعوبة في أوله لكن ثق أنك إذا كررته وحررته وأدمت النظر فيه والتأمل كما قال البخاري ما العلم قال المطالعة والنظر وكثرة التأمل مع الأيام ستصبح شخصيةً علمية شاملة تجمع إلى الفن الذي تحسنه فنون أخرى تدعم ذلك الأمر .(45/50)
قال الله تعالى ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ثم قال ( الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) من جميل ما حرره السعدي هنا في المناسبة ما بين قول الله جل وعلا ( لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) وبين قوله ( الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) انه قال : إن هذا اليوم الذي أقسم الله بوقوعه يؤمن به أهل الطاعة أهل الإيمان ويجحده أهل الكفر ولهذا قال الله بعدها الذين لا يؤمنون بي هم ( الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) أمّا عبارة خسروا أنفسهم فتحرير خسارة النفس من حيث الإجمال في الدنيا فساد الفطرة ما خسران النفس ؟ فساد الفطرة هو أعظم خسرانٍ لنفس وبحسب فساد الفطرة وبلوغ المرء فيه يكون خسراناً لنفس ( الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ).
قال الله بعدها : (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) اللام لام الملك المقصود منها أن جميع العالم علوية وسفلية في قدرة الله تبارك وتعالى وتحت مشيئته ونفعه لكن أين الإشكال ؟ الإشكال أن المخلوقات تعلم أنها ساكن ومتحرك المخلوقات قسمان ساكن ومتحرك والله نص هنا على أحدهما قال (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إذا وجد إشكال لابد يوجد توجيه لهذا الإشكال التوجيه عند العلماء ينقسم هنا كما حكاه ابن العربي إلى ثلاثة أقسام إلى كم قسم ؟ إلى ثلاثة أقسام أقسام ماذا ؟ توجيه قول الله جل وعلا (وَلَهُ مَا سَكَنَ) وعدم ذكر الحركة..(45/51)
قال بعضهم لما كانت المخلوقات الساكنة أكثر من المتحركة اكتفى الله جل وعلا بذكر الساكن فيندرج هذا التوجيه تحت ما يسمى باب التغليب ـ أحسنتم ـ تحت ما يسمى بباب التغليب إذاً النظرة هنا الذين نظروا إليها أصحاب صناعة تعتمد على التغليب ولهم قرائن أن التغليب شيء موجود في اللغة هذا تخريج .
تخريج آخر قالوا : أن الله جل وعلا نص على الساكن لا ن الساكن ليس كل ساكنٍ يتحرك لكن كل متحرك يسكن قال نص الله على الساكن لأنه سيندرج معه المتحرك لزاماً ولهذا الظرفية جاءت وله ما سكن أين؟ في الليل والنهار فما هو كُتب الله له أن يتحرك نهاراً سيسكن ماذا ؟ سيسكُن ليلاً ، وما كُتب الله له أن يتحرك ليلاً سيسكُن نهاراً فقالوا أن الظرفية هذه حلت الإشكال لأنه في إفراد كلمة ساكن لأن كل ساكن لا يلزم منه أن يتحرك لكن كل متحركٍ سيسكُن إن لم يكن ليلاً فسيسكُن نهاراً ـ لكن هذه هل كل متحرك سيسكن تحتاج إلى واضح تحتاج إلى إثبات ـ نحن لا نعلم أن جميع المخلوقات لابد أن تسكن ويبقى الأول إلى الآن أرجح.(45/52)
التوجيه الثالث أنهم قالوا : أن هذا ما يسمى وفق الصناعة البلاغية اكتفاء يسمى ماذا ؟اكتفاء ، ما الاكتفاء؟ أن تقول شيئاًَ تكتفي به فلازمه محرر أصلاً لا حاجة إلى التلفظ به لازمة محرر أصلاً فقالوا إن الله جل وعلا اكتفى بذكر ما سكن اكتفاءً بأن كلمة متحرك ستأتي لا محالة ومن نظائر هذا قالوا في القرآن إن الله قال (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ) ماذا (الْحَرَّ ) ولم يذكر الله البرد والبرد الناس يحتاجون إلى التوقي منه أكثر من الحر فقالوا هذا من الاكتفاء فالله ذكر احد الأمرين واكتفى به ودخول الآخر فيه لازم لا بد منه ، منه قول الله جل وعلا كما قلنا (سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) إذاً تحرر من هذا أن قول الله جل وعلا (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أن إفراد السكون دون الحركة خرج منه العلماء منهم من نحى منحى التغليب ومنهم من نحى أن كل متحركٍ سيسكن واحتج بالظرفية التي بعدها ومنهم من قال أن هذا ما يسمى بباب الاكتفاء .
لكن المقصود من الآية ليست هذه الذي طرقناه من باب اللغة والبلاغة وإنما المقصود من الآية إثبات أن العالم كله تحت مشيئة الله جل وعلا لا يقع فيه إلا ما أراد الله .
ثم قال الله (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) السميع لأقوالهم العليم بما تكن ضمائرهم وسرائرهم وهذا نزدلف به إلى قضية الموعظة العامة وهو أن الإنسان إذا علم أن كل ما سكن في الليل والنهار لله تبارك وتعالى وحده أذعن لله أمره واسلم لله جل وعلا قلبه.(45/53)
ومن حيث التجربة وقد مر معكم أن هناك علم يسمى علم تجريبي العلم التجريبي يقوم على التجربة والدعاء قسمين أو الآيات في القران منها ما يتعبد بهما يعني تعبد محض هذا لا يدخله التجريب وإنما نحن فيه محكومون بالشرع محكومون بالأثر في أمور في القرآن اخبر الله جمله أن الله يقول ({وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ }الإسراء82.. ) دلت تجارب الناس وأهل الصلاح منهم على وجه الخصوص أن هذه الآية (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) لها أثرٌ حميدٌ إذا تُليت على الشيء الذي يؤذي كألم الضرس وأشباهه من ألآم الأعصاب التي تتحرك ولا تجعل المرء يرتاح في مقامه إذا تُلي عليها قول الله جل وعلا (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) يكون في ذلك أثرٌ حميد له ،، قلت هذا يندرج تحت ما يسمى بالطب والطب علم تجريبي فلا يتنافى هذا مع قداسة القران خاصةً مع قول الله جل وعلا (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ ) لكن الآية في مقصودها أعظم من ذلك فتبين لك مع ما بعدها (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ) أموراً كثيرة سيأتي الحديث عنها في مقامها ..
هذا ما تيسر إيراده وتحرر إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء السادس الثلاثاء 6 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربُنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين ...(45/54)
ما زلنا وإياكم أيها المباركون نتفيأ ظلال سورة الأنعام هذه السورة التي ذكر المفسرون أنها نزلت جملةً واحدة وانتهينا إلى قول الحق تبارك وتعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ{14} قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{15} مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ{16})(45/55)
حررنا فيما سبق أن الآية أصلٌ في التوحيد ما دامت أصلٌ في التوحيد الله جل وعلا في تناسب آياتها قال في الآية التي قبلها (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فهو مالك قادر في ذات الوقت رحيم هذا يجعل العبد لا يتخذ ولياً غير الله فبين الله جل وعلا أولاً ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال ثم بعد ذلك بعد أن بين هذا بجلاء وأخبر به خلقه وخوفهم بلقائه قال جل وعلا على لسان نبيه (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ ) والهمزة للاستفهام (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ) المرء في حياته في مسيرة في مسيرته في كينونته لابد له ممن يحفظه ويكلأه ويرعاه ويهديه ويعينه وينفعه وهذا كلها منتفية كلها في حق كل أحد إلا في حق الله لا يقدر عليها إلا الله فمن اتخذ ولياً غير الله فلن ينفعه هذا الذي اتخذه مثقال حبةٍ من خردل فبعد أن بين جل وعلا ما له تبارك وتعالى من نعوت الجمال وكمال الجلال قال لنبيه قُل لهم (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ) وهذا استفهام إنكاري على صنيعهم وأنه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقبل بولي غيره (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ) ثم جاءت بدل منها ويمكن أن تعتبرها صفة لأنها مجرورة (: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ) وكلمة فاطر من الفعل فطر اسم فاعل فهو جل وعلا فاطر السماوات والأرض خلقهما على غير مثالٍ سبق وقد جرت عادة المفسرين إذا أتوا يفسرون قول الله جل وعلا ( {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }فاطر1..(45/56)
أنهم يذكرون خبر ابن عباس أن رجلين اختصما عنده فسأله قال أحدهما ـ في بئرـ قال أحدهما أنا فطرتها ففهم ابن عباس أنني أوجدته وأن ليس أحد سبقني إليها فعرف تفسير الآية وهذا يدل كما قلت في دروسٍ سبقت أن كلمة فطَرَ لم تكن شائعة ذائعة في العرب لأنها لو كانت شائعةً ذائعةً في العرب لما خفيت على الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنه لكن يظهر أنها كانت مستخدمة في بعض البوادي ولهذا فقهها ابن عباس في خبر أُولئك الخصمين .
هنا يقول الله جل وعلا (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ) هذا استفهام إنكاري شديد (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ولا ريب أن الإنسان يجب أن يُسلم قلبه لله ويفرح كل الفرح بولاية الله له وقد جاء في دعاء الصالحين في دعاء الذي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم الحسن ابن علي أنه يقول " اللهم أهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت "
نستطرد هنا قليلاً إلى الحسن ابن علي رضي الله عنه كإطلالة تاريخية :: الحسن ابن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لرسول إلا سبطين الحسن والحسين وله سبطٌ قد مات وهو مُحسّن السبط ابن البنت والحفيد ابن الولد أبن الذكر ابن الابن ــ ابن الابن يسمى حفيد ، وابن البنت يسمى سبط ـ والنبي صلى الله عليه وسلم الانتساب إليه ذاتً لا إلى آل بيته الانتساب إلى آل بيته واسع كل بنو هاشم آل بيته لكن الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الحسن أو الحسين وقد كانا من فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها والحسن الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء القنوت لو تتبعت سيرته تجد منها ما يلي :(45/57)
أولاً أن النبي كان ينشئه على قيام الليل لأن الحسن عندما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان صغيراً جداً لم يتجاوز تسع سنين فمعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه القنوت مبكراً وقيام الليل مبكراً لأن الحسن علي رضي الله عنه ما تزوج فاطمة إلا بعد بدر وبدر في السنة الثانية ثم جاءت بالحسن فلو فرضنا أنها جاءت بالحسن في أخر السنة الثانية على هذا فيكون الحسن حين مات النبي صلى الله عليه وسلم لم يتجاوز ثمان أو تسع سنسن وهو أحد خمسة أي الحسن يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئته وهم الحسن ابن علي ، وقثمٌ ابن العباس ، وفضل ابن العباس ، وأبو سفيان ابن الحارث ابن عم رسول الله وأخوه من الرضاع ، وجعفر ابن أبي طالب فهؤلاء الخمسة جعفر وأبو سفيان ابن الحارث وقثم والفضل والحسن من يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هيئته الخلقية صلوات الله وسلامه عليه .
هذا الحسن أمه من ؟ أمه فاطمة يجري دائماً الخلاف بين العلماء في من هي أفضل نساء العالمين والمسألة فيها أربعة أقوال : القول بأنها فاطمة ، والقول بأنها خديجة ، والقول بأنها عائشة ، والقول بالتوقف والذي يترجح عندنا والعلم عند الله أنها فاطمة وأسباب الترجيح ثلاثة : قال صلى الله عليه وسلم لها " أنت سيدة نساء أهل الجنة " هذه واحدة .
والأمر الثاني : أنه جرى تحرير الحديث النبوي بمجمله في قضية المصائب أن الإنسان إذا فقد أحداً فهذا المفقود يكون في ميزان من فقده يعني يوجد ابن وأب والأب رجلٌ صالح فمات فصبر الابن واحتسبه فيصبح هذا الأب في ميزان من ؟ ميزان الابن ولو فرضنا أن الابن مات قبل أبيه فيصبح الابن في ميزان أبيه ..(45/58)
عمر ابن عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه الخليفة الصالح كان له ابنٌ يقال له عبد الملك وكان أشد صلاحاً من أبيه وأعظم تقوى وورعاً وهو الذي طالب أباه في أول أيام الخلافة أن يرد المظالم فقال له عمر إن قومك بنو هذه المظالم عقدة عقدة ولن أستطيع حلها إلا بفكها عقدةً عقدة ـ يعني كما بنوها ـ موضوع الشاهد : مات عبد الملك في حياة أبيه عمر ابن عبد العزيز فلما وصل إلى قبره ودفنه قال الحمد لله الذي جعلك في ميزاني ولم يجعلني في ميزانك الحمد لله الذي جعلك في ميزاني ـ لأنه ميزان ثقيل باعتبار ظاهرة ـ هذا الأمر إذا قسناه على فاطمة فاطمة رضي الله عنها جميع أبناء وبنات النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا قبله فكل أبناءه وبناته علية الصلاة والسلام في ميزانه أما فاطمة فالنبي صلى الله عليه وسلم في ميزانها فإن قال لك قائل إن النبي في ميزاننا جميعاً قل نعم هذا حق لكن هو في ميزاننا لأننا من أمته وفي ميزان الصحابة لأنهم من أمته وأصحابه وفي ميزان أمهات المؤمنين لأنهم من أمته وزوجاته وفي وميزان فاطمة أشد لأنه نبيها ـ وهذا ينطبق علينا جميعاً ـ وفي المقام الأول هو من ؟ أبوها صلوات الله وسلامة عليه هذا الترجح الثاني .(45/59)
الترجيح الثالث أو السبب الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن فاطمة بضعةٌ مني " ولهذا ذهب بعض المحدثين غير المشهورين في زمن بني العباس إلى أن هذا وحده كافٍ في ترجيح فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها والذهبي تنبه إلى هذه النقطة لما تكلم عن فاطمة رضي الله عنها في الإعلام كتابه الشهير قال [ هي الجهة المصطفوية و البضعةُ النبوية ] الذي يعنينا أن الحسن ابن علي علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء القنوت ونحن نتكلم عن الولاية والله جل وعلا يقول (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ)
(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ) هذا من ثناء الله على ذاته العلية وقد مر معنا كثيراً أن أعظم ما في القرآن ثناء الله على ذاته ولا يوجد شيء والله يرقق القلوب أعظم من أن تقرأ ثناء الله على نفسه لأنه لا أحد أعلم بالله منه ، الله يقول ({وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً }طه110 .. ) هنا يثني على نفسه بقوله (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ) لأن الله منزه مستغنٍ ، قد يقول قائل إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون لكن بالنسبة لهم جبلة خلقهم الله عليها أما الرب تبارك وتعالى فهو مستغنٍ منزه عن مثل هذا فنقول في حق الملائكة ما نقول إن الملائكة منزهون عن الأكل والشرب لا نقول أن الله خلقهم على جبلةٍ لا يطعمون معها لكن في حق الله جل وعلا نقول الله جل وعلا مقدّس منزه عن الصاحبة عن الولد على أن يطعم وهو مع ذلك جل وعلا هو الرزاق ذي القوة المتين كما قال جل وعلا ({وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ{58} }الذاريات.. )
((45/60)
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ ) والكلام لنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) فلم يتحرر عند أحد حقيقة التوحيد كما تحررت عندي ولم يقف أحد على البراهين والملكوت كما وقفت عليها ولم يُعط أحد كرامة في العلم من عند الله كما أعطيت فوجب على هذا أن أكون أول ؟ أن أكون أول من أسلم بدهيٌ جداً أن أكون أول من أسلم لأنني أنا المصطفى من العباد والمقرب من الرُسُل فوقفت على ما لم يقفوا عليه ونظرت فيما لم ينظر فيه أحد بكرامة الله علي فبدهيٌ أن يكون صلى الله عليه وسلم كما قال الله (قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) من هذه الأمة إذا اعتبرنا الترتيب الزمن وإذا اعتبرنا الترتيب أول من أسلم يعني أعلى من أسلم فهذا على كل الدهور إذا اعتبرنا الترتيب الزمني فالمقصود أنه أول من أسلم من هذه الأمة وإذا اعتبرنا العلو فهو عليه الصلاة والسلام أشد الناس وأعظم الخلق إيماناً(قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ) ولما كان الله قد بين أنه لا إيمان إلا بالكفر مقرون بالكفر بالطاغوت قال الله جل وعلا بعدها ( وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ) .( قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ )
ثم قال الله :( قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ) قال العلماء أن المعصية هنا معصية الشرك المعصية هنا معصية الشرك (قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) متى يكون هذا ؟ يوم القيامة .
(مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) أي هو المرحوم حقاً (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) والفوز المبين يتحقق بسببين أو له حالتين:
الحالة الأولى :. النجاة من العقاب ،، والحالة الثانية :. الفوز بالثواب .(45/61)
الحالة الأولى النجاة من العقاب والحالة الثانية بتعبير أوضح نيل الثواب فإذا نال المرء الثواب وظفر بالنعيم المقيم في الجنة وزُحزح عن النار كما حكا الله من قبل هذا هو الفوز المبين الذي لا يعدله فوز قد يكون هناك فوز في الدنيا لكنه يكون إلى أمد يكون إلى حين يكون إلى متاع ثم لا يلبث أن ينقطع .
قال الله جل وعلا (مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) أي فقد رحمه الله (وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) كنا قد نبهنا سلفا إلى أننا ندخل بعض الصناعات العلمية في تفسيرنا قال الله (وَهُوَ يُطْعِمُ ) غيره (وَلاَ يُطْعَمُ ) جل وعلا والفعل أصله ثلاثي طَعم .
الفعل أحد أنواع الكلمة الثلاث : الاسم والفعل والحرف وهوـ أي الفعل ـ ينقسم بكل حالة اعتبار فعندما يطرح أحد سؤال ما أقسام الفعل نقول له ما أقسامة في ماذا ؟ في أي شيء يعني كلمة ما أقسام الفعل يجاوب الإنسان على التعليم المبتدأ مضارع ماضي وأمر لكن هذا جواب محدود لا نقول لطالب مبتدأ بل لطالب في مراحل التعليم الأولى لكن القسم القسمة تعرف إذا عرفنا ما سبب القسمة وهذه يمكن تقسيمها إلى تسع أو حتى إلى عشرة أحوال :
* الحالة الأولى :. قسمته من حيث الزمن.. من حيث الزمن ماضي وحاضر ومستقبل .
* ومن حيث الصيغة غير الزمن هذا تقسيم آخر : ينقسم إلى ماضٍ ومضارع وأمر .
* من حيث التأكيد : ينقسم إلى مؤكد وغير مؤكد يؤكد بالنون .
* ومن حيث الإثبات والنفي : ينقسم إلى منفي ومثبت.
* ومن حيث الصحة والاعتلال : ينقسم إلى صحيح ومعتل وحروف العلة كم ؟ ثلاثة . الألف والواو والياء .
* ومن حيث العمل : ينقسم إلى عمل عامل ومكفوف ما معنى المكفوف؟ تدخل عليه ما ولا تدخل إلا على فعل أو فعلين طالما مثلاً كلمة طالما فعل لكن لا فاعل لها لأن الـ ما كفته عن العمل واضح هذا من حيث العمل .(45/62)
* من حيث الإعراب والبناء : ينقسم إلى معرب ومبني . والنحاة يقولون إن المضارع هو وحده المعرب والأمر والماضي كلاهما مبنيان لكنهم حتى المضارع يبنونه في حالتين : إذا اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة ،وإذا اتصلت به نون النسوة فإذا اتصلت به نون النسوة يبنونه على السكون ({والوالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } سكون على العين لأن النون نون النسوة وإذا اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة بنونه على الفتح وأحياناً ينقلب نون التوكيد إلى تنوين في الرسم الإملائي في القرآن فقط ومنه قول الله تعالى (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ) فأصلها نون ليس التنوين تنوين أسماء لأن التنوين من خصائص الأسماء ولا يدخل على الأفعال .
* والفعل كذلك من حيث كونه مجرد ومزيد: ينقسم إلى مجرد ومزيد مجرد ثلاثي ومجرد رباعي ومزيد ثلاثي ومزيد رباعي .
هذه بعض أقسام الفعل حررناها عاجلاً لأن الإنسان إذا فقه هذا يستطيع بعد ذلك أن يتعامل في هذه الآلة في فهم كلام الله .(45/63)
بقي قولً آخر قريبٌ من الأفعال ما يسميه النحاة اسم الفعل أسم الفعل احتاروا فيه لا يجعلونه فعلاًُ ولا يجعلونه اسماً لقرب خصائصه من السماء حيناً وقرب خصائصه من الأفعال حيناً ومن أسماء الأفعال الشهيرة في القرآن هيهات وقد وردت في قول الله تعالى في سورة المؤمنون ({هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ }المؤمنون36..) لكن ينبغي أن يعلم أن التكرار هنا لزاماً ليس اختياراً ما معنى التكرار لزاماً أو اختياراً ؟ سألنا بعض الطلاب ذات مرة ما الكلمات التي جاءت في القرآن متتابعة من غير فاصل كان في الطلاب شيءٌ من النباهة فقالوا كلمة فيه قال الله جل وعلا ( { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا} التوبة108.. ) قال آخر وكلمة لفظ الجلالة قال الله جل وعلا ({لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }الأنعام124..) طبعاً لفظ الجلالة تكرر مرتين والوقف لازم في الأول إلى هنا قلت أنا معقباً بعد الإجابة وهذان فقط الكلمتان في القرآن اللتان تكررتا من غير فاصل فاعترض أحد الطلاب بأدب وقال لا ، هيهات في سورة المؤمنون تكررت من غير فاصل ، هنا خطأ في الفهم في الصناعة النحوية هنا هيهاتَ الأولى هي الثانية ليست توكيداً لكن العرب لا تلفظ هيهات وحدها واضح لا تقول هيهات وحدها تكررها مرتين وما ورد عنها يعني عن العرب مرة واحدة هذا من باب الاضطرار قال جرير :
هيهات هيهات العقيق ومن به */* وهيهات خلٌ بالعقيق نحاوره(45/64)
فقوله في الأول هيهات هيهات العقيق ومن به ـ هذا جرى على سنن العرب وقوله في الأخرى وهيهات خلٌ بالعقيق نحاوره هذا اضطرار قضية ايش الشاهد على أنه قبل أن انهي الموضوع ينبغي أن يُنبه أن العقيق هنا ليس العقيق الوادي الذي في المدينة لماذا ؟ لأن جرير أصلاً لم يكن يسكن المدينة هذا وادي في نجد تغزل به وبأهله وتشبب جرير فذكره في شعره كثيراً.
فهيهات هيهات العقيق ومن به */* وهيهات خلٌ بالعقيق نحاوره
فليس العقيق هو عقيق أهل المدينة المشهور لكن وادي العقيق إذا أطلق من غير ما تقييد ينصرف إلى وادي العقيق الذي في المدينة والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم " أنه وادٍ مبارك واتاني آتٍ من ربي فقال لي صل ركعتين في هذا الوادي المبارك وان أقول عُمرةً في حجة "
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول قول الله تبارك وتعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ) وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء السابع الأربعاء 7 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد ..(45/65)
فهذا هو اللقاء السابع حول سورة الأنعام وكنا انتهينا عند قول الله جل وعلا (مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) وحررنا أن الفوز يكون بنيل الثواب والنجاة من العقاب ،ثم قال الله جل وعلا بعدها (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ{17} وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ{18} )
الضُر تحريره يمكن أن يقال أنهُ يلحق الإنسان على ثلاثة أوجه الله يقول (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ ) نحرر أولاً معنى كلمة الضُر :
الضُر ما يلحق الإنسان من ثلاثة أوجه : إمّا ضُرٌ في النفس ، وإمّا ضُرٌ في البدن ، وإمّا ضُرٌ في الحال .
الضُر في النفس كالجهل والحُمق وما أشبه ذلك الضُر في النفس كالجهل والحُمق وما أشبه ذلك .. والضُر في البدن كنقص بعض الأعضاء أو مرضها هذا ضرٌ في البدن .. والضُر في الحال كقلة الجاه والمال كقلة الجاه والمال هاذي يُمكن أن يُجمع بها أنواع الضُر وقد يكون هناك ضرٌ قد لا تحويه القاعدة لكن هذه تحوي الأكثر.(45/66)
الله يقول لنبيه بأسلوب شرط (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ ) سبق أن بيّنا أن الجواب الأصل (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ ) هذا هو المعتقد في أن الله جل وعلا هو الولي فلّما كان جل وعلا هو الولي كان لا ينبغي لأحدٍ أن يلجأ في كشف ضُرهِ إلى غير الله لأنه أصلاً لا يكشف الضُر إلا الله ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ ) ولا ريب أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعظم المصدقين بكلام ربه عندما تنزل عليه آيةٌ كهذهِ لن يخشى بعد ذلك ضر أحد من أهل الإشراك لن يخشى ضُر أحدٍ من أهل الإشراك (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ )(45/67)
قال العلماء في بيان مناسبة أن الله ذيل الآية بقوله (فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) قالوا حتى يستقر في قلب المؤمن أن الله إذا أراد بك خيراً وفضلا لا يقدر أحدٌ على منعك منه (وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) وقد قال في سورة أخرى في يونس (فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ) والمعنى واحد والمقصود من هذا كله أن سياق سورة الأنعام يتحدث عن القدرة الإلهية ولذلك جاء التذييل والخطاب فيها يأتي بذكر ما لله من صفات الجلال والجبروت والكمال بخلاف غيرها من السور وكلٌ في سياقه فقال الله ( وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) والمراد والمقصود الأعظم من الآية تربية النفوس على أن لا تتعلق بأحدٍ غير الله جل وعلا وأن الإنسان يرفع إلى الله حاجاته ويبث إلى الله شكواه ويرفع إلى الله نجواه وهو يعلم أن أحداً لا يقدر على نفعه ولا ضره إلا ربُ العزة جل جلالة قال صلى الله عليه وسلم لأبن عمه العباس " يا غلام أحفظ الله يحفظك أحفظ الله تجده تجاهك .." ثم ذكر له أن جفت الأقلام وطويت الصحف وأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضرُك لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك . (فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ) تذييلاً لهذا إيضاحاً فيه قال الله (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) بعض المفسرين يتجنب أن يقول إن الفوقية مكانية والحق الذي لا ميحد عنه أن الآية يُعنى بها تعظيم الله من وجوه ثلاث : فالله جل وعلا عليٌ في ذاته عليٌ في مكانه عليٌ في قهره لعباده وأنه جل وعلا فوق عرشه مستوٍ على عرشه بائنٌ عن خلقه والعرش فوق السماوات واضح ولا مجال لتردد في نفي المكانية عن الله جل وعلا .(45/68)
نعود فنقول الله يقول : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) وقد استدل بعض العلماء في الإسلام إضافة إلى النصوص الظاهرة إلى أنه بالفطرة فإن الإنسان بفطرته كما حرره الهمداني رحمة الله عليه في محاورته لأبي معاذ الجويني في إن الإنسان بفطرته إذا أراد أن يبث شكواه إلى ربه انه يرفع بصره إلى السماء وهذا أمرٌ لا ينبغي أن يكثر النزاع فيه .
نعود فنقول أن الله جل وعلا يقول ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) فهو جل علا حكيمٌ يضع الأمور في مواضعها الصحيحة خبيرٌ في أحوال عباده ومطلعٌ عليها وهذان اسمان من أسماء الله الحسنى والله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلا وقد مر معنا كثيرا تحرير معنى هاذين الاسمين .(45/69)
ثم قال الله جل وعلا يخاطب أولئك الذين أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومر معنا أن السورة أصلاً في إثبات التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقلنا أنها احتملت أسلوبين: التقرير والتلقين ، التلقين كان في أولها،، من التقرير يندرج السؤال والجواب ، من السؤال والجواب (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ) فالله يأمر نبيه أن يسألهم (قُلِ اللّهِ ) وقد علم الله أنهم سيقولون هذا وقالوه أولم يقول والله جل وعلا أعظم الشهداء (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ) وانظر إلى الانتقال والعرض في الحوار (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) انتم تكذبونني وتقولون أن هذا القرآن أساطير الأولين ومختلقٌ من عندك وانك لست برسول وان هناك آلهة مع الله وأنا أقول أنني رسول وان الله أمرني أن أُبلغكم بهذا القرآن وأمرني أن أقول لكم إنما الله اله واحد (قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) شهادة الله لنبيه لها ثلاثة اضرب شهادة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول لها ثلاثة أضرب أي ثلاثة طرائق :(45/70)
الضرب الأول أو الطريقة الأولى : الإخبار في كتابه الكريم بأن محمداً رسول الله قال الله تعالى في سورة الفتح ({مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ }الفتح29 ) وقول الله جل وعلا ({يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }الأحزاب45) هذا في كلام الله جل وعلا شهد الله لنبيه بأنه رسول وقد مر معنا أن مناسبة محمدٌ رسول الله جاءت بعد صلح الحديبية فإن قريشاً لما صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة سهيل ابن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام ـ والنبي لا يكتب ـ قال لعليٍ اكتب فكان عليٌ أحد الكتبة وأُكل إليه كتابة الصلح هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله سهُيل ابن عمر فقال سهيل معترضٌ وكان يوم ذاك مشركا وأسلم بعد ذلك قال لو كنا نعلم انك رسول الله ما قاتلناك اكتب اسمك واسم أبيك فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يمحوها فأبى عليٌ أن يمحوها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أما وأنك ستُدعى لمثلها فتفعل " ثم أمر النبي عليه الصلاة والسلام علياً أن يخبرهُ أين موضعها ،، فأنظُر ! الأمة كلها تتعلم منه عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم أين موضع كلمة رسول الله لا يعلم كيف يستخرجها من الخطاب فالأمية في حقه رفعه ومنقبة وفي حق غيره مذمة .
يا أيها الأميُ حسبُك رتبتاً */* في العلم أن دانت بك العلماء
هذا في الهمزية وفي الميمية :
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له */* وأنت أحييت أجيالاً من الرمم(45/71)
المقصود محاها صلى الله عليه وسلم وكتب اسمه واسم أبيه هذا ما صالح عليه محمد ابن عبد الله سهيل ابن عمر وتمت بعد ذلك كتابة شرائط الصلح وانتهى الصلح فُض الأمر وحلّ النبي من إحرامه وعاد قافلاً إلى المدينة فأنزل الله عليه ماذا ؟ (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) إن لم يشهد الكفار ـ الله يقول ـ أنا اشهد والله خير الشاهدين (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) فهذا إحدى الطرائق في شهادة الله لنبيه بالرسالة هذا الأول .
الطريقة الثانية : تأييده بالمعجزات الظاهرة والله جل وعلا اجل واعلم واحكم من أن يأتي برجلٍ يكذب على الله ويتقول على الله ويقول أنا رسول وهو ليس برسول ويقول أنا نبي وهو ليس بنبي ويقول هذا كلامه وهو ليس بكلامه ويدعوهم إلى شيءٍ يقول إن الله دعاكم إليه وهو غير صحيح ثم بعد ذلك يؤيده بالمعجزات الظاهرة والبراهين القاهرة وينشئه نشأةً حميدة ويمن عليه بعطائه هذا محال يتنافى مع الحكمة فتأييد الله له بالمعجزات الظاهرة والبراهين وإكرامه من دلائل انه رسول الله وهو الطريق الثاني في الشهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لأن الله قال ({لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ{45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46}) هذا الطريق الثاني .
الطريق الثالثة : ما أخبر الله به في كتبه التي سبقت القرآن وما جاء على ألسنة رُسله الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذكر في الكتب وبُشر به صلى الله عليه وسلم على ألسنة الرُسُل وبذلك تمت طرائق ثلاث في شهادة الله لمحمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام بأنه رسولٌ من عند الله .(45/72)
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما قال الله (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ ) فذكر القرآن على أنه أعظم المعجزات فهذه الأمة مُنذرة بماذا ؟ بالقرآن (لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ولهذا نُقل عن بعض السلف أنه قال ـ وأظنه محمد ابن كعب القُرظي ـ قال [ كل من بلغه القرآن فكأنما لقي الرسول ] وهو لا يقصد أنه أصبح صحابياً لكن يقصد أن الحُجة أُقيمت عليه ولهذا قال الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أضواء البيان [ ومن لم يبلغه القرآن ولا دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولو من أهل زماننا فحكمه حكم ماذا ؟ أهل الفترة فحكمة حكم أهل الفترة ] لأن الأمر مبنيً على قضية وصول البلاغ من عدمه ونحن نعلم أن في مجاهيل أفريقيا بعض الدول وأمريكا الجنوبية وغيرها قد يوجد أمم علمها عند ربي لم يصلهم شيءٌ عن الإسلام فلو وجد هذا فيُحكم عليه بأنهم من أهل الفترة لأن الله قال ({ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء15 ..) حتى لا تطنب وتقع في جدال هذه مسائل لا ينبغي أن يخوض أحد فيها في الجدال لكن تكون على يقين أن الله لن يظلم أحد وأن الله جل وعلا أرحم بخلقه منا فكِلهم إلى ربهم كِل العباد إلى ربهم ولا تجعل مثل هذه المسائل تجعلها في مجلسك تخوض فيها ليلاً نهاراً فيقسوا قلبك ويكثر بحثك عن مواضيع لا تقدم ولا تؤخر لن يسألك الله طرفة عينٍ عنها فحسب كل إمرءٍ ما استقر عنده من العلم في النظر في مثل هذه الأمور ولا يتعلق بإدراكها جنة ولا نار .(45/73)
نعود فنقول قال الله تبارك وتعالى (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ ) أيُها القرشيون ( لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى ) فهؤلاء المشركين يقولون أن مع الله آلهة ومعلومٌ أن هذه الآلة من حيث أنها موجودة موجودة لكن من حيث أنها باطلة لا مرية أبداً في أنها باطلة فهي موجودة واقعاً لكنها من حيث الحقيقة لا أصل لها ({إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم }النجم23 )
نعود فنقول قال الله جل وعلا (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ ) وصل الأمر الآن إلى فصل الخطاب إلى طريقين : شهادة الله بأنه لا إله غيره ،، وشهادة هؤلاء المشركين أن مع الله آلهة فقال صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقول قُل لاَّ أَشْهَدُ شهادتكم لا أشهد ماذا ؟ شهادتكم(قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) فشهد النبي صلى الله عليه وسلم اختار شهادة ربه أن الله لا رب غيره ولا إله سواه وفي نفس الوقت تبرأ من صنيعهم (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) .(45/74)
جاء بعد هذا كله الخطاب لي ولك عقلاً ولو لم نخاطب به لفظاً وهو أننا رأينا شهادة الله ورأينا شهادة أهل الإشراك ورأينا ما ارتضاه الله لرسوله فلم يبق لنا إلا أن نتبع رسُولنا ونشهد بشهادة ربنا فنقول نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله حتى تفقه كيف وصل الدين إليك وما هو فصل الخطاب بينك وبين أهل الكفر ولهذا كلمة لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله ومن جميل المقدمات التي يقولها بعضُ المؤلفين أو بعضُ الخطباء انه يقول: { أشهد أن لا إله إلا الله كلمة قامت عليها السماوات والأرض ولأجلها كان الحساب والعرض هي عماد الإسلام ومفتاح دار السلام وهي أساس الفرض والسُنة ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة }حتى يعلم كل أحد عظيم هذه الكلمة عند رب العالمين جل جلاله .
قال الله تبارك وتعالى بعدها : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) من هم ؟ اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ) أمّا التشبيه في (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ) لبيان أن لديهم علماً جماً عن هذا الضمير لكن الخلاف عند العلماء على ماذا يعود الضمير ؟ قال بعضهم على النبي صلى الله عليه وسلم أي أن اليهود والنصارى يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم وهذا حق .
وقال بعضهم أن الهاء عائدة على القرآن يعرفون أن القرآن من عند الله .(45/75)
وقال فريقٌ من العلماء انهُ عائدٌ على الشهادة أي على التوحيد والآية تحتمل المعاني الثلاث كلها والترجيح هنا يصعب لكن ينبغي أن نقول أن إثبات أي واحده منها إثبات للأُخريين فإذا قلنا أنها عائدة على الرسول فهذا إثبات أن الرسول من عند الله وانه جاء بالتوحيد ، وإذا قلنا عائدة على التوحيد فالتوحيد مضمونه أن لا اله إلا الله وان محمد رسول الله ، وإذا قلنا إنها عائدة على ربنا جل وعلا فالله جل وعلا اخبر انه بعث رسوله بالتوحيد واضح ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ)
ثم قال الله جل وعلا في الآية التي بعدها : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )
((45/76)
مَنْ أَظْلَمُ ) استفهام أي لا أحد أظلم وهو استفهام إنكاري (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ) جمع أهل الإشراك خصيصتين مذمومتين وهما : الأولى .. تكذيبهم لرسول ، والفرية الثانية .. كذبهم على من ؟ على الله بزعمهم أن لله ولد بزعمهم أن لله شريك بزعمهم أن الله جل وعلا ما بعث القرآن ما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هذا كذبٌ على الله وفي نفس الوقت من بعثه الله ليُبلغ دينه عليه الصلاة والسلام كذبوه فقال الله (وَمَنْ أَظْلَمُ ) أي لا أحد أشد ظلماً استفهام إنكاري (مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وهذا من أعظم الظلم لكن ينبغي أن يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أمته إلى الصدق وأعظم ما تنال به المراتب العالية أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه أي إذا وصل الإنسان إلى مرحلة استعجال ثمرةٍ دنيوية ولا نقول ثمرة أخروية لان ما عند الله لا ينال بالكذب استعجال ثمرة دنيوية واضطر إلى أن يكذب على نفسه فعمّا قريب سيقع في وبال عمله وسينقطع به السبب لأنه سببٌ لا يمكن أن يُصدق قال صلى الله عليه وسلم أخبر أن الكذب يهدي إلى الفجور وأخبر أن الصدق يهدي إلى الجنة .(45/77)
الصادقون مع أنفسهم جعلني الله وإياكم منهم خُطاهم في الأرض ثابتة وأثرهم في الناس واضح ولا يلتفتون ميمنة ولا ميسرةً إلى ما يقول الناس فيهم ، النبي عليه الصلاة والسلام قال " من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة ) قال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه : وإن زنا وإن سرق ، قال صلى الله عليه وسلم " وإن زنا وإن سرق " . قال : يا رسول الله : وإن زنا وإن سرق ، قال عليه والصلاة والسلام " وإن زنا وإن سرق " ، قال أبو ذرٍ : وإن زنا وإن سرق ، فقال صلى الله عليه وسلم في الثالثة " وإن زنا وإن سرق رغم أنف أبي ذر " ـ إلى الآن ليس للموضوع علاقة بالدرس ـ ما الذي له علاقة بالدرس ؟ أبو ذر من صدقة من جلالة قدره من رفيع مكانته من ثقته بنفسه يحدث بهذا الحديث فإذا أتى عند الثالثة قال ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق رغم أنفِ أبي ذر ) رغم أنفِ أبي ذر هذه زائدة في الخطاب موجهة له ليست لها علاقة بالحكم الشرعي يعني ما يسميه الأصوليون تحقيق المناط ليست في تحقيق المناط هذه خارجه تحقيق المناط في قول لا إله إلا الله لكن هو يقول (وإن زنا وإن سرق رغم أنفِ أبي ذر) لأنه ينقلُها بصدق وينقل للناس شيئاً ينفعهم وأكثر ما نعانيه اليوم أنّا نفتقد الصدق مع أنفسنا فإذا أفتقد الإنسان الصدق مع نفسه والله لا يمكن أن يبني أحداً أو يبني أمةً أو أن يُسهم إسهاماً حقيقياً فإن أسهم فيكون إسهامه و بناءهُ إلى أمد عما قريبٍ يقع وقد لا يصل إلى شيءٍ مما يريد ولو ظهر ذلك شكلياً لنفسه أو لغيره لكن حسن الظن بالله يُعلم به أن ما عند الله ما يوصل إليه إلا بما شرع الله .
هذا ما تيسر إيراده وقد غلبنا الوقت وتهيأ إيراده وأعان الله على قوله وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة من سورة الأنعام وصلى الله محمداً وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء الثامن الخميس 8 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم(45/78)
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مُرشدا وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسُوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد ..(45/79)
فهذا أيُها المباركون اللقاء الثامن من تفسير سورة الأنعام وكانت قد مضت معنا ولله الحمد والمنة سبعُ لقاءات وآخر الآيات التي تأملنا فيها هي قول الله جل وعلا ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) وقُلنا حينها إن الاستفهام هنا استفهام إنكاري والمعنى لا أحد أظلم ممن أفترى على الله كذبا أو كذب بآياته لكنني قبل أن أشرع في الآية التي بعدها ثمة مقولةٌ تُكتب في سويداء القلب قبل أن تكتب في صفحات الورق قال الله تبارك وتعالى في سورة الحجر وهذا ليس تفسيراً لسورة الحجر لكن كما قلت حتى أصل للمقولة في بداية لقاءنا الثامن في تفسير سورة الأنعام قال الله جل وعلا ({وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ }الحجر87.. ) ثم قال جل ذكره ({وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }طه131...) تحرر من هذا الربط والمناسبة بين الآيتين مقولةٌ تقول : [ من أُوتي القرآن ثم ظن أن أحداً أُوتي من الدنيا أعظم مما أُتي فقد صغّر عظيماً وعظمَ صغيراً ] من أُوتي القرآن ثم ظن أن أحداً من أهل الدنيا أُوتي أكثر مما أُوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً . عظّم صغيراً : بمعنى جعل لدنيا أكثر من حقها ، وصغّر عظيماً : لم يعرف قدر القرآن لأن الله قال (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) ثم نهى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يمد عينيه إلى متاع الدنيا يكفيك ماذا ؟ يكفيك القرآن ({أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ }العنكبوت51..(45/80)
) فالقرآن من حملهُ حملاً صحيحاً حفظاً ووعياً وتدبُرا فهو سيد العلماء بلا شك وفي هذا مقولات ذكرها أئمة كما نص عليها الزركشي رحمة الله تعالى عليه في برهان علي الحراري الذي يعنينا هنا استصحاب هذا الأمر يهون على طالب علم التفسير الكثير من المشاق والصعاب إذا تفكر أنه يتدارس كلام الله جل وعلا ومن عظمة كلام الله أنه يمكن لأي رجلٍ على حسب ما أعطاه الله من علم من خلال آيات الكتاب أن يُبحر في شتى الفنون وجميع العلوم لأن القرآن مهيمن وكذلك علم التفسير مهيمن على سائر العلوم وقد قلت مراراً في دروسٍ خلت وأيامٍ سبقت ومحاضراتٍ مضت أن الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه كل العلوم تفيء إلى القرآن ثم قال ما السُنة كلها إلا في آيةٍ واحدة ( { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }الحشر7..
الآن نأتي لما نحن فيه من سور الأنعام في هذا اللقاء الثامن المبارك قال الله تعالى (} وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ{22} ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ{23} انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ{24})(45/81)
التكذيب بالبعث والنشور من أعظم ما تمسك به أهل الإشراك وإذا استصحابنا أن سورة الأنعام سورة ماذا ؟ مكية فما دامت سورة مكية ستعالج الخلل العقدي في أهل مكة ومن أعظمه مع الشرك بالله إنكار البعث والنشور ({زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا}التغابن7..) فالله جل وعلا يقول لنبيه في غيبٍ لا يعلمه عليه الصلاة والسلام اذكر يا محمد نبأ يا محمد هؤلاء القوم أنه سيأتي يوم نحشرهم فيه ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ) بلا استثناء والخلائق يحشرون جميعاً إنساً وجناً وملائكةً ودوابَ (ثُمَّ نَقُولُ ) أي في يوم الحشر (لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) هل يُحشر أصنامهم معهم ويُحال بينهم وبين أصحابها هذا وارد يدل عليه قول الله جل وعلا ({لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ }الأنعام94..) دليل على أنهم كانوا يرونهم لكن لا سبيل للوصول إليهم وقيل أنهم لا يُحشرون لكن الذي أراد القرآن أن يثبته أن تلك الإلهة والأصنام التي كانوا يتعلقون بها ويعدونها لساعةٍ ما تخذلهم يوم القيامة ولهذا قال الله (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) وهذا لا شك أنه استفهام توبيخي قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " كل زعمٍ في القرآن فهو كذب " .(45/82)
ثم قال الله (ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ) نفيٌ بعده استثناء وهذا يسمى أسلوب حصر (ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ) اختلف العلماء في معنى (فِتْنَتُهُمْ ) هنا على أقوال لكننا نبقي ـ حتى لا تتشعب ـ على القول الذي يغلب على الظن: الفتنة هنا بمعنى الشرك الفتنة هنا بمعنى الشرك لكن لابد من تقدير المضاف يُصبح المعنى ثم لم تكن عاقبةٌ فتنتهم ثم لم تكن عاقبة شركهم ـ يُصبح المعنى ـ واضح الفتنة هنا بمعنى الشرك لكن لابد من تقدير المضاف والمضاف يأتي قبل المضاف إليه يُصبح المعنى ثم لم تكن عاقبة شركهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ، من الذي يقول (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) ؟ أهل الشرك وهذا منهم كذب لأنهم كانوا ـ أجب ـ كانوا مشركين .
كيف يجمع الإنسان ما بينه هذه الآية وما بين قول الله جل وعلا ({ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً }النساء42.. ) فقول الله جل وعلا (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) أنهم يُخبرون بكل شيءٍ فعلوه على وجه الحقيقة والصدق والله يقول هنا أنهم يقولون (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) وهذا كذب لأن الله أصلاً قال بعدها (انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) هنا طُرح هذا السؤال على ابن عباس رضي الله تعالى عنه فقال رضي الله عنه وأرضاه في الجواب عن هذا قال " إن أهل الإشراك إذا رأوا منّة الله بالعفو على أهل التوحيد والإسلام ورأوا أن يعفوا ويخُلص أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض لم يبق إلا أن نتبرأ من الشرك لعلّه يُعفى عنّا كما عُفي عن غيرنا عندها يقولون (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) فيختم الله على أفواههم بعدها فتنطق جوارحهم وتشهد فهذا معنى قول الله (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) إذاً جعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على كم مرحلة ؟ على مرحلتين :(45/83)
المرحلة الأولى .. يعاين أهل الإشراك منّة الله على أهل التوحيد بالعفو فيقول بعضهم لبعض إن الشرك حال بيننا وبين العفو فتعالوا نقول لم نكن مشركين فيحلفون (وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ) وفي هذا كذبٌ على أنفسهم لذلك قال الله (انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ) وهذا من باب التعجب (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) بعد ذلك قلنا تُكمم على أفواههم فتشهد جوارحهم فهذا معنى قول الله (وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ) .
قال الله (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) مر معنا أن ضل لها معاني في القرآن : هنا ضل بمعنى غاب واضمحل ضل هنا بمعنى غاب واضمحل أي لم يكن موجوداً (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) أي ما كانوا يفترون ويزعمون من آلهة أنها تنفعهم.
ثم قال الله : (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)
((45/84)
مِنْهُم) أي من أهل الإشراك (مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة وكان الملأ والأشراف كأبي سفيان وأب جهل وأمية ابن أبي خلف والحرث ابن أبي معيط وأمثاله وعقبة ابن أبي معيط وأمثاله النظر ابن الحارث وأمثاله من صناديد قريش أحياناً يستمعون لنبي صلى الله عليه وسلم حيناً سراً وحيناً علانية فالله يقول (وَمِنْهُم) بعضيه (مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) لكن الله جل وعلا قد من أزل وقدر وشاء وفعل أن هذه القلوب لا يمكن أن تتعظ ولا يمكن أن يصل إليها سمع التدبر فقال الله لنبيه (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ) أكنّة جمعُ كنان كأعنّة جمعُ عنان وأزمّة جمعُ زمام وهي في اللغة بمعنى الغطاء والستر (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ) أي حتى لا يفقهوه (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً) والوقر : الثقل والصمم الثقل والصمم إذا كان في الأذن يسمى وقر (وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا) مهما صنعت لهم من آيات وأظهرت لهم من معجزات وأخرجت لهم من براهين لا يمكن لهم أن يؤمنوا لأن الله قد كتب في قدره وأزله أنهم لن يُؤمنوا ويعلم بهذا كل أحد أن الهدايه بيد الله وهذا حررناه كثيراً (حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) لم يكفهم فقط أن يردوا أو لم يقبلوا قولك بل زعموا أن قولك هذا من أساطير ؟ من أساطير الأولين .(45/85)
نعود للآية قُلنا (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً) كان بعضهم يقول لا تأتون إلى هذا الصابئ يقصدون من ؟ النبي صلى الله عليه وسلم ، كلمة صابئ فعلها صبئ والعرب في طيات كلامها تفرق في الشيء الواحد في إطلاق لفظ العبارة عليه فمن خرج من دينٍ إلى دين يُقال له صبأ وقريشٌ كانت تزعم أن محمداً كان على دينها صلى الله عليه وسلم فلمّا رأوه أتى بدينٍ جديد ظنوا أنه قد خرج عن ؟ عن دينهم فلهذا قالوا صابئ أسم فاعل من صبأ لكن العرب في لغتها والقرآن نزل بلغة العرب لا يستخدمون هذا لكل شيء فإذا خرج الرجل من داره يقولون خرج لكن إذا خرج من دينه يقولون صبأ ، فإذا كان الرجل بين قوم كنحن الآن ثم خرج أحدنا لا يقولون خرج يقولون أنسّل يقولون ماذا ؟ أنسّل ،، الآن كم فعل ؟ ثلاثة خرج إذا كان خرج من أين ؟ من الدار وصبأ إذا خرج من الدين وإذا خرج من القوم سُمي أنسّل فلانٌ من المجلس فإذا كان سهماً وخرج من الرمية يقولون ؟ ـ الحديث ـ مرق ، النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج وقال " يمرُق أحدهم من الدين كما يمرق السهمُ من الرمية " فإذا خرج السهم من الرمية لا يقولون خرج السهم من الرمية يقولون مرق السهم من الرمية فإذا صاد صائدٌ سمكةً ثم خرجت من يده أنا مضطر أقول خرجت حتى نصل للمعنى خرجت من يده لا يقولون خرجت من يده يقولون تملّصت يقولون تملّصت من يده وهذا يدل على سعة لغة العرب و بها نزل القرآن قال الله ( { يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً }النور63.. ) يخرجون من المجلس وسيأتي إن شاء الله في دروسٍ قادمة قضايا كثيرة حول هذا الشأن هذه واحدة .
دلت الآية وهو المهم وقد حررناه أن الهداية بيد الله جل وعلا و أعظم الأدلة أن الله يقول ( وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا) الله يحكم أزلاً على أن هؤلاء قلوبهم لا يمكن أن تقبل الحق .(45/86)
ثم قال الله بعدها : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)
هذه الآية قد تستحقُ لقاءً كاملاً لكن نبدأ بخلاف العلماء في معناها أو فيما تنطبق عليه اختار ابن جرير شيخ المفسرين على أن الآية تبع لما سبق فيُصبح (وَهُمْ) عائدة على من ؟ عائدة على من كان الله جل وعلا يتحدث عنهم وان هؤلاء أهل الإشراك ينهون الناس عن الدخول في الدين وفي نفس الوقت هم نفسهم يتباعدون عن الدين واضح ينهون الناس عن الدخول في الدين وفي نفس الوقت هم أنفسهم يتباعدون عن الدين وهذا القول اختاره ابن جرير شيخ المفسرين .
القول الثاني : يُنسب لابن عباس نقله عنه سُفيان الثوري بسنده وحرره ابن كثير في تفسيره وهو أن المقصود بالآية أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا أن أبا طالب هو المقصود بالآية يُصبح معنى الآية (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ينهون الناس أن يُؤذوا نبينا صلى الله عليه وسلم وينأون عنه أي ينأون بأنفسهم أن يدخلوا في الدين واضح فيُصبح الخطاب وان جاء للجمع إلا أن المقصود به فردٌ واحد هو من ؟ هو أبو طالب .
لكن قلنا إن أكثر أهل العلم على أن المقصود بها الأصل العائد على المشركين السابقين يعني ينهون الناس عن الدخول في الدين ويتباعدون بأنفسهم أي بمعنى أوضح جمعوا ما بين الضلال والإضلال جمعوا ما بين الضلال في أنفسهم والإضلال في غيرهم (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)(45/87)
نُبقي على قضية أبي طالب على القول أنه أبو طالب ذكر ابن أبي حاتم ونقله عنه الحافظ ابن كثير ولم يعقب وكان أولى أن يُعقب قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمامٌ عشرة ينصرونه بالعلانية ويعادونه في السر وهذا غيرُ صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم له أعمامٌ عشرة نعم واستصحاب التاريخ مهمٌ في التفسير ستة منهم لم يدركوا بعثته عليه الصلاة والسلام وإنما أدرك البعثة من أعمامه أربعة أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب آمن اثنان حمزة والعباس وكفر اثنان أبو لهبٍ وأبو طالب ، أبو لهبٍ عاداه وأبو طالبٍ والاه هذا مهم جداً استصحابه فما ذكره ابن أبي حاتم بسنده إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمامٌ عشره يعادون النبي صلى الله عليه وسلام في السر وينصرونه في العلانية لا أصل له ولا يمكن أن يصح متناً لمخالفته الروايات التاريخية المشهورة المحفوظة ،، أبو طالب كان بين أمرين و كان شديد المولاة لما يعبد وقد يضرب به المثل في نُصرة الإنسان بما يعتقد شديد المولاة لدين قومه فلذاك لم يُؤمن وشديد الموالاة لمبادئ قومه فرق ما بين الدين وما بين المبادئ دين قومه كان الإشراك ولذلك بقي على الشرك وقال لا أرغب عن ملة عبد المطلب .(45/88)
والأمر الثاني مبادئ قومه التي كانت شائعة ذائعة هي نُصرة القريب تدفعه العصبة وقد كان مخلصاً لهذا المبدأ فلذلك نصر النبي صلى الله عليه وسلم وحماه ودافع عنه رغم انه لم يكن مؤمناً ولهذا تشفع النبي صلى الله عليه وسلم فيه فهو أهون أهل النار عذابا والنبي صلى الله عليه وسلم ـ وهذا استطراد ـ له ثلاثةً شفاعات خاصة به وشفاعات يُشاركه بها غيره وهذه الشفاعة شفاعةٌ في ـ حررناها دائماً ـ شفاعةٌ في أهل الموقف أن يُفصل بينهم وهذه شفاعةٌ في دفع ما ماذا ؟ في دفع ما يضر ، وشفاعةٌ في دخول أهل الجنة الجنة وهذه شفاعة لزاماً تُجيب الآن قُلنا الأولى في دفع ما يضُر والشفاعة في دخول أهل الجنة الجنة وهذه شفاعةٌ في جلب ما يسُر على وزن ما يضُر الأولى في دفع ما يضُر والثانية في ماذا ؟ جلب ما يسُر فدخول أهل الجنة الجنة شيءٌ يسُرهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم قُدم لهم وأهل الموقف في كربٍ عظيم يريدون أن يدفعوه عن أنفُسهم فشفاعته صلى الله عليه وسلم دفعت عنهم الضُر فشفاعةٌ في دفع ما يضُر ـ وهذا من إكرام الله لنبيه ـ وشفاعةٌ في جلب ما يسُر وشفاعةٌ في عمة أبي طالب خصصت مانعاً قرآنياً قال الله جل وعلا ({فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }المدثر48.. ) ومع ذلك يشفع صلى الله عليه وسلم لعمه أب طالب .
يتحرر منها ـ من نفس الآية ـ (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) قضية المبدأ والاعتقاد به وهذا إن شاء الله نزدلف به اللقاء القادم ..
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين .
اللقاء التاسع الجمعة 9 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه .. وبعد ..(45/89)
كنا في اللقاء الثامن قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) وحررنا أن للعلماء رحمة الله تعالى عليهم في المعنيين بهذه الآية على قسمين : اختار جمهور العلماء تقريباً ما اختاره ابن جرير الطبري رحمة الله تعالى عليه أن الآية أشبه بما أسلفناه وأن الحديث ما زال موصولاً بالآيات التي قبلها وهي قول الله جل وعلا: (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وقُلنا إن سفيان الثوري نقل بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المقصود به أي هذا الحديث أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وحررنا حينها نُصرة أبي طالب لنبي عليه الصلاة والسلام وانتهينا إلى أن الآية الأولى تدل على أن ثمة ما لم يزل فريقٌ من الناس ينتصرون لمبادئهم وإن كانت غير صحيحة .
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً */* إن الحياة عقيدةٌ وجهادُ
فأما نُصرة الإنسان لمبادئه فهذا حقٌ لا مرية فيه يجب على العقلاء والفُضلاء أن يتحلوا به لكن تبقى القضية في قضية المعتقد الذي يعتقده الإنسان هل يستحق أن يدافع عنه وإلا التاريخ عرف على مستو الأفراد وعلى مستو الأمم أقوام ضربوا أمثله لا تُصدق في نُصرتهم لمذهبهم حتى وإن كان مذهبهم باطلاً كنُصرة الخوراج لمذهبهم وموتهم في سبيل ذلك حتى إذا كان أحدهم ليعقل خيله قبل الحرب ويأتي ويحارب ويقول ـ وهو على غير هدى ـ ( { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }طه84.. )
كما أن أبا جهل وهو هو عدو الله المعروف لما صعد عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على صدره لم يستعطفه ولم يستدر رحمته وقال قولةُ الشهيرة [ لقد ارتقيت مرتقا صعباً يا رويعِ الغنم] هذا على مستو الأفراد .(45/90)
الأمة اليابانية في العصر الحديث عُرفوا بانتصارهم لمذهبهم لما وقعت الحرب بين روسيا واليابان قديماً قبل أن تُهلك تُضرب اليابان بالقنابل قبل ناجازاكي وقبل هيروشيما أظهر اليابانيون إخلاصً شديداً لمبدئهم والتفاتٍ حول ملكهم كان يُسمى الميكاد وكان يعظمون الوطن فحافظ رحمة الله تعالى عليه الشاعر المصري كان يشكو أن العرب لم يكن فيهم أُلفة ولا اجتماع ولا نُصرة لقضاياهم:
لا تلم كفي إذا السيف نبأ */* صح مني العزم والهر أبا
أمةٌ قد فُت في ساعدها */* بُغضها الأهل وحُب الغرباء
فهو يزعم ـ طبعاً الشعراء يحكون أشياء ليس له واقع فعلي لها واقع في الجملة لكن ليس لها واقع تفصيلي فمثلاً عندما يقول كعب :
هيفاء مقبلٌة عجزاء مدبرةً */ * لا يُشتكى قصراً منها ولا طولُ
ولكن هذه الأشياء خيالية المقصود أن حافظ أراد أن يُبلغ الرسالة للعرب أن اليابانيين ينتصرون لمذاهبهم فتوهم أن هناك امرأةً فتاة يابانية تعيش في مصر وأنه تعلق بها وانه فُتن بها ثم فجأةً يقول :
حملت لي ذات يوم نبأً */* لا رعاك الله يا ذاك النبأ
يعني جاءته فزعه تريد أن تخرج أو تترك ارض مصر فسألها فأخبرته أن الروس يريدون أن يحاربوا اليابان وأنه يستحيل أن أبقى في مصر والروس يحاربون اليابان وهي تقول:
نذبح الدبى ونثري جلده */* أيظن الدُب أن لا يُغلبَ
الدُب رمز للأمة الروسية كما التنين رمز اليابان والنسر رمز لألمانيا والأسد رمز لانجلترا الذي يعنينا صار يذكر قضية ولاء هذه المرأة لمن ؟ لوطنها تقول :
هكذا الميكاد قد علمنا */* أن نرى الأوطان أماً وأبا(45/91)
خلصنا من هذا كله أن الله جل وعلا على القول بأنهم وهم ينهون عنه وينأون عنه نازلة في أبي طالب يُصبح أن أبا طالب كان يحمي مذاهبه واعتقاداته ولهذا كان يحمل وصية عبد المطلب بأن يحفظ هذا اليتيم والحق أن أبا طالب حفظ النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً شديداً مُبالغاً فيه نصر النبي صلى الله عليه وسلم نُصرة عظيمة رغم أنه كافر جلس ثلاث سنين في شعب أبي طالب في شعب بني هاشم يذوق الجوع هو وأبناءه وهو على كفر لا يرجوا من هذا جنة لكنه ينتصر لمبدأ هو نصرة ابن عمه اليتيم وعلى هذا العاقل يستفيد من مثل هذه التقاليد الاجتماعية كما استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من نُصرة عمه أبو طالب له يستفيد من كل الأعراف والتقاليد والموروثات الموجودة في حياته أو حتى التقاليد العالمية أو الأعراف السياسية يستطيع أن يوظفها لمصلحته إذا كان يملك مسكةً من عقل أما من غلب عليه حماسه وجهله ولا ينظر للأمور إلا بنظرة ضيقة أو يقرأ عبارةً أو متناً في ورقة تقويم أو في كتابٍ ثم بعد ذلك يريد أن يُطبقها من غير أن يستصحب ما حولها سيقع في حرجٍ عظيم وسيأتي إن شاء الله في قول الله جل وعلا (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) قضية أهمية معرفة سُنن الله الكونية .
نعود فنقول قال الله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) ثم قال الله : (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(45/92)
الآن هذه لو تحتاج إلى فعلٍ وإلى جواب شرط واضح لكن الله جل وعلا هنا لم يذكر الجواب (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ماذا يحصل لم يذكر ، الجواب حذفه الله مبالغةً في تعظيمه يعني ولو ترى لرأيت أمراً عظيماً شنيعاً يحلُ بهم لرأيت أمراً عظيماً شنيعاً يحلُ بهم .
(وَلَوْ تَرَىَ) بعين البصر (إِذْ وُقِفُواْ) أي حُبسوا (عَلَى النَّارِ ) أي أهل الإشراك (فَقَالُواْ ) حينما يرون النار (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(45/93)
السؤال هنا هل قالوا هذا عن اعتقاد وتوبة وخلوص نية ـ أُعيد ـ السؤال هنا عندما يقول أهل الإشراك (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) هل قالوه عن اعتقاد وتوبة وخلوص نية أم لا ؟ أتفق العلماء على أنهم لم يقولوه على توبة وخلوص نية واعتقاد بدليل أن الله جاء ببل بعدها وبل للإضراب ما معنى الإضراب يا بني الانتقال ما معنى بل ؟ للإضراب ، ما معنى الإضراب ؟ الانتقال قال الله بعدها (بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ) أي الشيء الذي أنكروه وأشركوا به وهو النار ظهر لهم عياناً وقد قال الله بعد ذلك (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) كاذبون في ماذا ؟ كاذبون في دعواهم أنهم لو ردوا لا يشركون واضح ، كاذبون في ماذا ؟ كاذبون في دعواهم أنهم لو ردوا لما أشركوا (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا) والله يقول (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) من هنا تعلم لا يهلك على الله إلا هالك فما دام لا يهلك على الله إلا هالك معنى ذلك أن الله لا يعذب إلا من كان راضياً بكفره معانداً لربه فرحاً بما هو عليه قال الله ({ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}النحل106 ) وهذا يجعلك لا تحمل في قلبك كثيرٌ من اللوم والعتب على من أخطأ من علماء المسلمين لماذا ؟ لأن هذا العالم عندما أخطأ كان يعتقد ويظن انه على صواب قال الشاطبي رحمة الله في الموافقات :
وواجبٌ عند اختلاف الفهم */* إحسانُا الظن بأهل العلمِ
الله جل وعلا يقول (بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ) انقطعت عن الإضافة لذلك ضُمت (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) أي في دعواهم إنهم لو ردوا لما أشركوا .(45/94)
قال الله بعدها : (وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ{29})
عاد لذكر القضية الأساسية وهي قضية إنكار البعث على أن العلماء قبل أن يطو الصفحة الأولى من الآية جرت عادتهم ـ لكنني يعني أكثرت من ذكرها في مناسباتٍ خلت ـ وهي أن الله جل وعلا يعلم ما قد كان وما هو كائن وما سيكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون ،، هذه ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون من الآيات التي استدل بها العلماء على صحة هذا القول هذه الآية لأن الله قال (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) وقد علمنا كما أعلمنا الله أنهم لن يُردوا ولن يعودوا إلى الدنيا مرةً أخرى لكن الله يقول لو ردوا سيحصُل كذا وكذا ويحدث كذا وكذا وهذا لا يقدر على القول به إلا الله لأنه لا يعلم الغيب إلا هو جل ذكره (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {28} وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا)
هذا تأكيدٌ منهم على النظرة التي ينظرون بها إلى الدنيا على أنه لا بعث ولا نشور بعدها فلما غلب على ظنهم أنه لا بعث ولا نشور بعدها لم يذكروا بعد ذلك أن يعني يظهروا يجهروا بعداوتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم ثم قالوا ( وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) وهذا حرره الله في أكثر من آية وقلنا إن الله جل وعلا ساق الأدلة على انه جل وعلا قادرٌ على أن يُحييَ الموتى في مواطن كثيرةً منه في كتابه (وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)
((45/95)
بَلْ بَدَا لَهُم) بدا هنا بمعنى ظهر ـ نعود للغويات ـ (مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ) وقُلنا إن قبلُ بُنيت على الضم لانقطاعها عن الإضافة وهذه الظروف زي قبل وبعد إذا أُضيفت تظهر عليها الحركة (مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ) ({ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء }النور58 ..) من قبلُ من غير مضاف إليه تُبنى على الضم (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ) اللام في لعادوا واقعة في جواب لو وقوله جل وعلا (لَعَادُواْ) هنا أظهر الجواب للو بخلاف الآية التي سبقت (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ) لم يأتي بالجواب فهنا أظهره تأكيداً وهناك قُلنا حذفه ليُبين المبالغة في الأمر الشنيع والعظيم الذي حصلوا عليه .
(وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ) إن هنا بمعنى ماذا ؟ بمعنى ما نافيه إن هنا نافية بمعنى ما يعني ما هي إلا حياتُنا الدٌُنيا وتأتي مثلها في الرسم الإملائي إن شرطية لكن هذا يظهر من سياق الكلام مثل قول الله جل علا ({إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ }المائدة118..) فهذه شرطية أما إن هنا واضح من سياق الكلام أنها نافية (وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) هذه كذلك ظاهرة .
ما قبلها (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا) يا ليت هذه لتمني تُقابلُها لعل لكن لعل أيُها المبارك تستخدما العرب في الذي يغلب على الظن أنه يقع أما ليت في الذي يغلب على الظن أنه لا يقع قال قائلهم :
ألا ليت الشباب يعود يوماً */* فأخبره بما فعل المشيبُ(45/96)
وقد تقرر عقلاً ونقلاً وطبعاً وشرعاً أن الشباب لا يعود ،ولعل قلنا لماذا ؟ للترجي لكن لعل وردت في القرآن في موضع واحد بمعنى كأن لعل على كثرة ذكرها في القرآن وردت في موضع واحد في القرآن بمعنى كأن قال الله جل وعلا ({وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ }الشعراء129..) أي كأنكم تخلدون فلم يقل أحدٌ من الأمم الذين كانوا يتخذون البنيان الفاره أنهم إذا بنو بنيان فارةً أنهم هذا من أسباب بقاءهم لم يقل بهذا الأمر لكن كلما أفرط الإنسان في المسكن وبالغ فيه فكأنه يبني بنيان من يظن أنه سيخلد كأنه سيخلد فلعل في القرآن على بابها في الترجي إلا في موضعٍ واحد وهو قول الله جل وعلا (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) فإنها بمعنى كأن .
(وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(45/97)
آيات ربنا هنا تُطلق على القرآن تُطلق على المعجزات والله جل وعلا أسمى في كتابة أو سمّى في كتابة ما أفائه على الرُسل من معجزات اسماه آيةً (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) الآية تأتي بمعنى العبرة في قوله تعالى ({إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى }النازعات26.. )وقال في آيةٍ أخرى أخبر أنها آية أي عبرة لناس وتأتي بمعنى المعجزة فقول معجزات الرُسُل هذا اصطلاح ذكره أهل التاريخ والسير والمحدثين بعد عصر النبوة أما في عصر ، في القرآن لغة القرآن لا تُطلق على المعجزة على أنها معجزة تسمى ماذا ؟ آية قال الله تعالى ( { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ }النمل12..) أي في تسع معجزات إلى فرعون وملأه ({فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى }النازعات20.. ) أي المعجزة الكبرى فلغة القرآن لا تستخدم المعجزة تستخدم كلمة آية ـ أنا أحاول أن أبحث كثيراً عن الألفاظ في هذا السياق لأن الآية التي بعدها آيةٌ جملتها منفكة عما قبل بمعنى أنها تحتاج إلى لقاءٍ خاصٍ بها ـ
(بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ{28} وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ{29} وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ{30})
الآن وصلوا إلى مرحلة الصدق لما تبين لهم أن الكذب لا يُجدي لجئوا إلى مرحلة الصدق (وَلَوْ تَرَى) نفس الأول (إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ) أي الله جل وعلا (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)(45/98)
هنا نحرر أن لقاء الله جل وعلا حقٌ لا مرية فيه والله سائلٌ كل نفسٍ عما صنعت والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تزول قدما عبدٌ حتى يُسأل عن أربع وذكرها ، وأهلُ الإشراك يقفون بين يدي ربهم ويقرر الله جل وعلا ما كانوا يصنعونه في الدنيا كما جاء في الآية (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا) لا يكون الجواب لهم رحمة قال الله تعالى (فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)
يتحرر من هذا معنى عظيم أن التوحيد أعظم المنجيات وأن من مات على التوحيد فخلودهُ في النار مُحال من مات على التوحيد فخلودهُ في النار مُحال(45/99)
ومن مات على الشرك فدخولهُ للجنة مُحال ، فلا ينبغي لمؤمن أن يُقدم على توحيد الله شيء كائناً ما كان لأن أي عملٍ سُيحبط إن لم يكن مصحوباً بتوحيد الله جل وعلا كما أن كُل عملٍ لا ينفع إذا كان مقروناً بالشرك بالله قال الله في حق أولياؤه الصالحين وعباده المتقين ورُسُله كما سيأتي في نفس السورة (وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) لكن كلمة التوحيد ليست متناً يُحفظ فقط ولا شيئاً تتطاول به على الناس وترقى منبراً فتقوله يجب أن ينطلق من قلبك أن الله جل وعلا عظيم لا رب غيره ولا اله سواه وأنك لا يجوز لك أن تضع جبهتك لأحدٍ غيرهُ جل وعلا وأنت تضع جبهتك له تذكر أنك تضعها بفضلٍ منه ورحمة فالذي هداك لأن تسُجد لهُ هو الذي يُؤمل أن يقبل منك هذا السجود وكلما رأيت شيئاً في الدُنيا عظيماً تذكر أن عظمة الله أعظم فكلما رأيت شيءً في الكون ناقصاً هذا يدُلك على كمال ربك تبارك وتعالى واستصحاب هذا الأمر في حياة الإنسان غدواً ورواحا ذهاباً ومجيئا يزيد من رقة قلبه ويزيده علماً بربه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " أحقُ الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قبله " والإنسان لا يدري أي ساعة يكون فيها مقبولاً عند الله فكلما انقلب على جنبه أو ركب دابةً أو مكث منفرداً بنفسهِ يُردد هذه الكلمة ويُحاول أن تكون ممزوجةً بالإخلاص يواطىء فيها قلبه لسانه حتى يكون ذلك مقبولاً عند الله قال صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة ، قال أبو ذر وإن زنا وإن سرق .(45/100)
ـ والحديث مر معنا ـ قال وإن زنا وإن سرق " لأن لا إله إلا الله كلمة جليلة كريمة عظيمة على الله وكل الذي ذكره الله جل وعلا من آيات سلفت وما سيأتي من آيات في هذا المقام في سورة الأنعام خاصة كلها تتحدث عن قضية أن هؤلاء القوم غُلبت عليهم الذلة وسينالون ما سينالون في الآخرة لأنهم أشركوا مع الله آلهة أُخرى وقد مر معنا قول الله (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى ) فأمر الله نبيه أن يقول ( قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) وقد مر معنا أنه يجب استصحاب الكفر بالطاغوت وعدم أن يقع في القلب ولو مثقال ذرة أن الله جل وعلا معه شريك أو له ند وينجم عن هذا ويلزم منه استصحاب أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه وهذه نفحاتٌ إيمانية يضعها الله جل وعلا في قلب من يشاء من عباده ثم إن مضى الإنسان في مسيرهِ في حياته في مقابلتهِ لناس غدواً ورواحا سيأتيه من الأحداث والوقائع والصنائع ما يُختبر فيه توحيدهُ لربه تبارك وتعالى سيُشفى من مرض فهل سيشكر الله أم يظن أن هذا عائدٌ لنجابة الطبيب ، سيُحرم من خير ويبتلى هل سيلجأ إلى ربه لعلمه أنه لا يقدر على إعطاءهِ إلا الله ، سيرى نعمةً من الله على غيره هل يحسدهم ظناً أن هؤلاء الناس نالوها بقوتهم وينازعهم فيها أم يعلم أن هناك رباً هو لا رب غيره ولا إله سواه يُعطي ويمنع فيغبط الناس ويلجأ إلى ربه يسأله من خيري الدنيا والآخرة ، سيرى ملوك يُتوفون ويرى دول تتهدم ويرى قبور في أسفاره فيتدبر ويتأمل أن هناك ربٌ عظيمٌ جليل لا يحول ولا يزول في ذات الوقت سيرى أنعام وسيقع بعيني بصيرته على أقوام وعلى مناظر وعلى مشاهد أُوتيت حظاً كبيراً من متاع الدُنيا(45/101)
فيقرّ في قلبه أن الله جل وعلا أخبر أنها إلى فناء وأن منتهاها إلى زوال وأنها مهما عظمت وجلّت في العينين إلا أن ما عند الله جل وعلا خيرٌ وأعظم وأنها زهرة ({وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }الكهف45.. ) الله جل وعلا يُخاطب الناس بواقعهم (الْمَالُ وَالْبَنُونَ ) لم يقُل الله كذبٌ وافتراءٌ قال (زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وهذا حق لا يُماري فيه أحد لكن الله لما كان أوجد عباده لعبادته قال ({الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً }الكهف46...).
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان العلي القدير على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ....
اللقاء العاشر السبت 10 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد لهُ ولياً مُرشدا ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ... أما بعد ..
فنستأنف معكم ونتفيأ ضلال سورة الأنعام وكنا قد انتهينا عند قول الله جل وعلا (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ{30})(45/102)
قال الله بعدها : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ{31})
التكذيب بلقاء الله بدهيٌ أن ينجم عنه عدم استعدادٍ للقائه فيُصاب الإنسان الكافر بالخُسران لأنه جاء له يومٌ لم يرقبهُ ولم يُقدم له قال الله ({يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي }الفجر24..) والآيةُ زاخرةٌ بكثيرٍ من المعاني التي يُمكن الإبحار فيها ، لكنها جُملةً تٌبين على ندامة أهل الشرك يوم القيامة وهذا ظاهرٌ في هذه الآية وفي الآيات التي قبلها وسيكون ظاهراً في الآيات التي بعدها ولهذا قد لا يحتاج إلى مزيد بيان في معناهُ الإجمالي لكن يمكن الإبحار فيه علمياً في فن التفسير .
(قَدْ) حرف تحقيق إذا جاء بعده الماضي اتفاقاً لكن الاختلاف إذا جاء بعده المضارع والصواب أن يُقال :
إذا كان الكلام عن اللهِ فهي حرف تحقيق لا محالة في الماضي والمضارع ، أما إذا كان عن غير الله فهي في الماضي لتحقيق وفي المضارع لتقويم .
((45/103)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ) الساعة في اللغة : الوقت القصير المعين الساعة في اللغة الوقت القصير المعين وتُطلق على موت الإنسان نفسه وتُسمّى قيامة صُغرى لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من مات فقد قامت قيامتهُ ، ويُطلق على اليوم الذي قدر الله فيه فناء الخلق ويُطلق كذلك على البعث والنشور وهذه الأحوال الثلاثة موت الإنسان وفناءُ الناس وبعثهُم كل ذلك من الغيبيات التي استأثر الله جل وعلا بها لا تأتي إلا بغتة تأتي فجاءه ( { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }الأعراف187..)
((45/104)
حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ) أي أهل الكُفر (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) الحسرة أيها المبارك أشد الندامة ما الحسرة ؟ أشد الندامة ــ سنُبحر هنا نحوياً وبلاغياً ولغوياً قدر الإمكان ـ أما من حيث الصناعة النحوية : فالياء حرف نداء الياء حرف نداء والمنادى الحسرة والتقدير يا حسرةُ احضري أو يا حسرةُ هذا أوانُك وهذا قول سيبويه تبعه أكثرُ الناس عليه هذا قول من ؟ سيبويه إمام النُحاة وتبعه أكثر الناس عليه والعرب في المنادى يُقسّمون المنادى بعد أن يأتون بحرفه أو لا يأتون يحذفونه تقديرا من أحرفهم الشهيرة الياء وهيا وأي والهمزة ، ثم إن المنادى يُقسمونه في قضية إعرابه وبناءه فيسمونه مفرداً ويقصدون به ما ليس مُضافاً ولا شبيهاً بالمضاف مثل قول الله جل وعلا ( { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا }هود48..) (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وهذا يسمونه منادى مفرد لكن لا يقصدون بالمفرد أنه لا ثاني له ولا جمع لا يقصدون ليس مُضافاً ولا شبيه بالمضاف ويأتون به مُضافاً مثل الآية التي بين أيدينا (يَا حَسْرَتَنَا) فكلمة حسرة مضافة إلى ناء الدالة على الفاعلين ، ويأتي شبيهاً بالمضاف كقول الشاعر :
أيا راكباً أما عرضت فبلغاً */* ... من نجران أن لا تلاقيَ(45/105)
أيا راكباً نونت هذه نكرة مقصودة لكن مثلاً تقول يا ركباً إبلاً أو يا طالعاً جبلاً هذا يسمونه شبيه بالمضاف وهناك عندهم نكرة غير مقصودة مثل قول القائل الذي أسلفناه يا راكباً يعني يا أي راكب ، وإذا كانت النكرة محددة ولو كانت نكرة يسميها النحاة نكرة مقصودة فيبنُونها على الضم ويخرجونها من البناء إلى الإعراب موازنةً لها وتشبيهاً لها بالمنادى المفرد ومنه قول الله تعالى ({قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }الأنبياء69..) فبُنيت على الضم لأن النكرة هنا نكرة مقصودة وهي النار التي كانت قد أُعدت لإحراق إبراهيم ولو قال الله يا ناراً عامة لأُطفئت حينها كل نار ولم تنفع لكن كانت نكرة ماذا ؟ مقصودة هذا بيانٌ في علم النحو لكن ينبغي لطالب العلم الناظر في القرآن السائر في ركب الفقهاء أن يكون على دراية بهذه الأمور ثم لك أن تُراجعها بينك وبين نفسك إذا خلوت من الدرس سواءً كنت حاضراً أو كنت مشاهداً هذا من حيث الصناعة النحوية .(45/106)
الصناعة النحوية العلم مثل السُبحة أو بتعبير أصح مثل السلسة يسوق بعضه إلى بعض اتفقنا على أن حسرة هنا منادى وهذا يُحدث إشكال يُجيب عنه البلاغيون ، ما الإشكال ؟ أن النداء جرى في العادة أن الذي يُنادى يعقل حتى يُجيبك والحسرة نحن متفقون على أنها لا تعقل فكونها لا تعقل ومع ذلك نوديت لا يقبل البلاغيون أن يقولوا أن هذا على الحقيقة يقولون على ماذا ؟ أجيبوا ـ على المجاز يقولون هذا على المجاز ويسمونه ـ أي البلاغيون ـ مجاز مرسل يقولون بأن الحقيقة تدل على أن غير العاقل لا يُنادى وما دامت نوديت مع الاتفاق على أنها غيرُ عاقل فهذا عندهم من المجاز ـ قد تقتنع أنت بأن في القرآن مجاز وقد لا تقتنع بأن في القرآن مجاز ـ لكن الذي يعنيني هنا أن أُبين لك الرأي وأنسبه إلى قائله ـ أما قناعتك أنت بهذه الآراء مسألةُ أخرى لست ملزماً بقولي ولا بما حرره البلاغيون وأنا أصلاً لم أُرجح ولم أختار أنما أنا هنا في دور الناقل ـ نعود فنقول (قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) هذهِ من حيث الصناعة ماذا ؟ البلاغية وقبلها تكلمنا عن الصناعة النحوية .
نبقى في الصناعة اللغوية : الصناعة اللغوية الحسرة قُلت في الأول إنها أشد الندامة والعرب لهم طريقة في الكلام ـ قبل أن أقول طريقة العرب في الكلام ـ الندامة حررت سلفاً وأنا أحاول أن أُحيل إلى أشياء سابقة وأُعيدها فمن كان مُلتحقاً بنا جديداً يستفد ومن كان معنى من قديم يفهم أننا لا نقصد التكرار إلا للفائدة نقول :
الندامة منها ندامة يوم ::كانت العرب لهم وجبة واحدة وربما خرج أحدهم في بيته غداء فقال سأمر في الطريق على زيدٍ أو عمر أتغدى معه فلم يجد زيداً ولا عمر فهذا يندم يوماً كاملاً لأنه لن يتغدى إلا في اليوم التالي فهذه ندامة يوم .(45/107)
هناك أيها المبارك ندامة عام :: ويضربون لها مثلاً يقولون الزرع النبت غالب الزروع لها مواسم ، مواسم تُزرع ومواسم ماذا ؟ تحصد فيزرعون في وقت معين ويحصدون في وقت معين ولذلك ـ إذا استطردنا ـ المزارعين ترى عليهم الكدح والتعب والنصب وهم يزرعون وأيام الحصاد عندهم بالنسبة لهم أيام،أيام عيد لأنهم يجنون فيها ثمرة جهدهم وهي صورة للحياة الدنيا والآخرة تماماً لكنك لو نظرت إلى الكادحين الآن العصر الحديث أضاع أشياء كثيرةً من هذا لكن لو أتيت في المجتمعات القروية كما في صعيد مصر مثلاً والناس تكدح وتزرع ثم أتيت لهؤلاء أنفُسهم فإنهم يكونون في قمة نشوتهم وهم يحصدون ما كانوا قد كدوا فيه .
أنا لستُ أنسى قريتي السمراء في عيد الحصاد
والسُنبل المتجمدُ الشرقي يحلم بالرقاد
وخطى الكُماة الكادحين تروح تضرب في ارتأد
هي ذكرياتٌ لم تزل محفورةٌ في خاطري
هي ذكرياتٌ لم تزل تسقي خريف الشاعري
يا واحة العمر الجديد على الطريق الساحرِ
أنا عائدٌ يوماً إليك مع الربيع الزاخرِ
في نسمة الشمس الوضيئة في النسيم العابرِ
في لهفةٍ خفقت بها روح المحب الذاكرِ
فالمقصود هذا يصور قريته كد الناس تعبهم ثم كيف ذلك الكد يُصبح هباءً إذا جاء موسم الحصاد هذا ندامة ماذا ؟ عام ، فالذي لم يُقدر له أن يزرع إذا جاء الناس يحصدون سيشعر بالندامة وذلك عليه أن ينتظر عاماً كاملاً حتى يلحق بركب الحاصدين .
ندامة عمر ::وهذه يقولون في حق من تزوج امرأة لا تلاؤمه وما زال يشتكي منها ولم يجرأ على طلاقها والفكاك منها فيبقى ما داما أحياء يندمُ عليها ...(45/108)
هذه كم ؟ ثلاث وكُلها هينةٌ لينة لأنها تدور في فلك التعويض الندامة الحقيقة ندامة الكافر والفاسق وهي الندامة الأبدية التي مضت سنة وعمر ويوم وهي ندامة الكفار وأهل الفسق إذا لقوا الله جل وعلا وهي المقصودة بالآية والحديث هنا (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا) أي يا أشد ندامتنا وأنا إلى الآن لم أفتح صفحة قضية الإبحار اللُغوي قُلنا إن الندامة أشد الحسرة ، العرب ـ في هذه الاستشهادات سنجعلها من القرآن ـ يضربون المثل في الشدة يسمون كل شي بالشدة أشد الجزع يسمونه هلع قال الله ـ سامحكم الله ـ ({إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً }المعارج19...) فالهلع أشد الجزع ،، كما أن الحسرة قُلنا أشد الندامة ،، والحَسُ أشد القتل قال الله ( { إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ}آل عمران152..) يعني تقتلونهم قتلاً شديداً بإذنه ، الحس ماذا ؟ أشد القتل والهلع أشد الجزع والحسرة أشد الندامة والنصب أشد التعب ({ لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً }الكهف62..) فأشد التعب يُسمى النصب هذه الأربع تكفي هي التي استحضرها الآن .
((45/109)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا) أي قصرنا فيها (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ) المقصود بالأوزار الذنوب اتفاقاً وعبر الله عنها بأنها تُحمل على الظهر لأن العرب تُسند كل شيء من الأفعال إلى بعض الجوارح فالكسبُ يسندونه إلى اليد ( { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }الشورى30.. ) والحِمل يسندونه إلى الظهر ولهذا قال الله (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ) الحِمل إذا كان مكشوف يُسند لظهر ويُقال له بكسر الحاء حِمل وإذا كان مخفي مغلف يقال له حَمل بفتح الحاء يُقال له حَمل فالجنين في بطن أمه لأنه لا يُرى يُقال له حَمل لأنه شيء مخفي والرطب إذا كان في أكمامه يُقال له حَمل لأنه لا يُرى لكنه إذا كان ظاهراً يُقال له حِمل ( { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }يوسف72..) لأنه شيء ظاهر موضوعٌ على متن الدابة ..
نعود فنقول قال الله تعالى (اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ)(45/110)
ويُقال للوزير وزير لماذا ؟ لأنه يتحمل أعباء وكاهل المُلك عن الملك لكن هذا قديماً لم يكن للملوك قديماً إلا وزير واحد والله جل وعلا يقول في حق موسى ({وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي }طه29.. ) لكن في الحضارة المعاصرة في السياسة المعاصرة تعددت مسألة الوزراء لكن في عهد بني العباس في عهد الدولة العثمانية تقريباً في ما قبلهم من الدول كان الملك ليس له إلا وزيرٌ واحد وكما كان هارون وزيراً لموسى كان من لمن ؟ كان هامان وزيراً لفرعون يتحمل أعباء الخلافة وغالباً هؤلاء الوزراء على النمط القديم يكونون مطلعين اطلاع كثيراً على شخصية الملك فهم أعرف الناس بالملك ولهذا تسمعون بالمثل الدارج قد يكون هذا عندنا في الحجاز أكثر يقولون على هامان يا فرعون ، يقولون أصلُها أن فرعون يكذب على الناس يزعم أنه إله فكلما طلب منه أحدٌ طلب قال دعني حتى أخلقه لك دعني حتى أصنعه لك دعني فذات يوم يقولون إن هامان وزيره طلب منه طلباً فنسي فرعون أنه يكلم هامان فقال له مثل ما يقول للعامة انتظر حتى اخلقها لك فقال له هامان [ على هامان يا فرعون ] يعني هذا المنوال في الحديث لا ينفع معي لأنك أنت بالنسبة لي شخصٌ مكشوف وهذا يقودنا إلى قضية حررتها من قبل وهي قضية أن خديجة رضي الله تعالى عنها سببُ إيمانها أنها من أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم والنبي علية الصلاة والسلام كان الله قد اصطنعه لنفسه قبل أن يبعثه " إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندلٌ في طينته " فكان عليه الصلاة والسلام عظيم الخُلق قبل أن يُنبأ قبل أن يُبعث وخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كانت ترى هذه العظمة قبل النبوة فلما جاءها وقال إنني رأيتُ ملكاً وقال لي الملك أنني نبي وحدثها بالقرآن الذي أُنزل عليه لم تتعجب ولم تستغرب قالت "والله لن يُخزيك الله أبدا " لكن الإنسان إذا كان والعياذُ بالله ما بين خاصته وأهلهِ وذويه ومنه مطلعٌ على أحوالهِ له شأن(45/111)
وله مع العامة شأنٌ آخر هذا لا يُمكن أن يكون يوماً من الأيام شخصاً مرضياً عند الله قد يغلبُ الناس بطريقة تقلبه لكن لن يستطيع أن يغلب ربه لأن الله غالبٌ ليس مغلوب .
نعود فنقول لكن قضية الانبساط في الحديث مسألة أخرى كون الإنسان لا يتحرج أمام خاصته في بعض ألفاظه أو عباراته أو حديثه وينزع الكلفة هذا مما لا حرج فيه لا علاقة له بالعامة والخاصة لكن العبرة بالمبادئ والقيم التي يحملها المرء في نفسه فمن كان يحمل مبادئ وقيم يصنعها في السراء كما يصنعها في الضراء يؤمن بها في السر كما يؤمن بها في العلانية هؤلاء هم الذين يستحقون أن يقودوا الركب ويتبوءوا المناصب العليا في الوظائف وها قد كان النبي صلى الله عليه وسلم مبادئه وقيمه التي يحملها عليه الصلاة والسلام تلقاها من ربه وهي دين قبل أن تُسمى مبادئ وقيم كان عليه الصلاة والسلام يصنعها في الملأ كما يصنعها في الخلأ وقد قال " و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعتُ يدها إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد " فقوله عليه الصلاة والسلام " فاطمة بنت محمد " يقطع الطريق على كل أحد يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بدينٍ يُطبق على قومٍ ولا يُطبق على آخرين ( { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }الحجرات13..) .(45/112)
قال الله تعالى (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) تمثيلٌ لعظمة وشناعة الأمر الذي تقلدوه ، قبل آيات ذكر الله جل وعلا عن أهل الكفر أنهم قالوا عن الحياة الدنيا وأنه لا بعث ولا نشور هنا الله جل وعلا يقول يُبين لهم المعنى الحقيقي للحياة ـ يعني مر معنا من قبل إيمانهم بالحياة الدنيا وانه لا بعث ولا نشورـ هنا يقول الله جل وعلا (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) اللعب ـ التفريق بينه وبين اللهو ـ اللعب ما يشتغل به المرْ ويعلم أن لا عاقبة له كلعب الصبيان فالصبيان يلعبون وهم يعلمون انه ليس وراء هذا عاقبة ، أما اللهو فهو الاشتغال بما لا ينفع عما ينفع وهما متقربان لكن اللهو فيما يبدوا أعم .
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) فبين الله جل وعلا أن الدنيا لعبٌ ولهو ثم قال سُبحانه (وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ) اللام هنا تُشعر أن هناك قسماً أي وعزتي وجلالي إن الدار الحقيقة هي الدار الآخرة (وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ) لكن الله قيد قال خيرٌ لمن ؟ (لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ) لأن الحياة الآخرة وإن كانت في حق الكفار موجودة إلا أنها ليست لهم خير فمقامهم في الدُنيا بالنسبة للأهل الكفر أفضل من مقامهم أين؟ في الآخرة لأن ليس لهم في الآخرة إلا النار ولهذا جاء التقييد وينبغي أن تعلم أن ما أطلقه الله لا يُقيد إلا بالسًُنة وما قيده الله لا يُطلق وما قيده الله لا يمكن لأحدٍ أن يُطلقه ، هنا قيد الله قال الله تعالى (وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ) لمن يا ربنا قال (لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) الهمزة في (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) همزة استفهام والاستفهام هنا للإنكار الهمزة في قول الله تعالى (أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) همزة استفهام والاستفهام هنا للإنكار (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ)(45/113)
لكن هل (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) عامة أو خاصة ؟ للعلماء فيها أقوال أظهرها أنها للكافر لعبٌ ولهو ولا تُوصف حياة المؤمن بأنها لعبٌ ولهو بل هي مزرعةٌ لآخرته فيقول العلماء إن منطوق القرآن في آياتٍ عدة يُبين أن المقصود هنا حياة الكافر الذي لم يعرف ربه أما المؤمن فما حياتهُ الدنيا إلا مزرعةٌ له لآخرته وعونٌ له على لقاء الله
فلم تُخلق لتعمُرها ولكن */* لتعبرها فجد لما خُلقت
وسل من ربك التوفيق فيها */*
أما البيت قد لا أحفظ شطره لكنه في تائيةٍ معروفة
وأكثر ذكره في الأرض ذكرا */* لتذكر في السماء إذا ذكرت
على العموم هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان العلي الكبير على قوله وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ...
اللقاء الحادي عشر الأحد 11/ 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُ ربُنا ويرضى ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعارُ ودثارُ ولواءُ أهل التقوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمدً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين ..
أيها المباركون هذا اللقاء الحادي عشر حول سورة الأنعام قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ{33} وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ{34})(45/114)
نحرر المعاني يقول الله (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) الجحود أيها المبارك تحريره كما يلي : نفي ما في القلب إثباته أو ماذا ؟ ـ أحسنت ـ أو إثبات ما في القلب نفيه ، ما الجحود ؟ نفي ما في القلب إثباته؟ أو إثبات ما في القلب نفيه .
(قَدْ)مرت معنا في اللقاء الماضي أن قد لتحقيق مع الماضي اتفاقاً لكن يجب أن تكون لتحقيق حتى في المضارع إذا كان الحديث عن الله (قَدْ نَعْلَمُ) إذاً هنا لتحقيق (إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) السؤال ما الذي كانوا يقولون ؟ أهل التفسير يقولون أن قريشاً وأبو جهل على وجه الخصوص كان يقول النبي صلى الله عليه وسلم يا محمد لا نُكذبك لكننا لا نُصدق هذه الآيات التي تأتي بها ولا نؤمن بهذه المعجزات ونقول إنها سحر هذا الإشكال أين الإشكال ، الإشكال أن يوجد إثبات ويوجد نفي ، أين النفي ؟ الله يقول (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ) هذا نفي ويقول في نفس السياق (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) هنا حاول العلماء التوفيق بين الأمرين وينقلون دائماً أغلبهم خاصةً المتأخرين عن الفخر الرازي أربعة أوجه في تحرير المسألة اثنان منها ضعيفة جداً لا تُقبل وبعضها يقولون أنه كان ـ أي هذا الأولان القويان ـ أنه قال في الأول أنهم كانوا يجحدونه في العلانية ويؤمنون به في السر وجعلوا هذا نظير قول الله جل وعلا ({وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }النمل14..) لكن الحق هذه حق في قصة فرعون مع موسى ولا يمكن حملُها على العموم لأن هذا يحتاج إلى إثبات خاصةً أن القرشيون لم يكونو يعلمون ما قصة موسى وفرعون لو لم يخبرهم من ؟ القرآن .(45/115)
وقال آخرون : إن المقصود منها أن القُرشيين في صنيعهم هذا بتكذيبهم لك إنما يردون على الله قوله لأن الله هو الذي أعطاك المعجزات وأتاك من هذه الآيات الظاهرات البينات فتكذيبك ورد هذه المعجزات تكذيبٌ لمن ؟ تكذيبٌ لله ، قلتُ ـ والعلم عند الله ـ هذا هو الحق ويجب اطراح أي وجه آخر فإن القرشيين كانوا يزعمون سراً وعلانية أن الرسول كذاب لكن الله أراد أن يقول لنبيه من باب التسلية أن صنيعهم هذا لي تكذيباً لخصك وإنما تكذيبٌ لربك فإذا تجرئوا في تكذيب ربك فلك أن تصبر على أنهم كذبوك لأنك لست بأعظم من الله واضح المعنى لأنك لست بأعظم من الله كما يقول السيد لغلامه عندما يُهان الغلام في السوق أو في أي محفل إنهم لم يُهينوك ولكن أهانوني لأنك أنت غلام لي وهذا واضحٌ مطرد في علم الواقع وحياة الناس وفي كلام العرب واضح وهذا الوجه عندي هو الوجه الذي لا ينبغي أن يحيد المرء إلى غيره .
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) ويمضي السياق في قضية أن الله جل وعلا يُعزي نبيه (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ) فكما أنك لست بدعاً من الرُسُل بدهيٌ أن ينالك ما نال الرُسُل من قبل (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ) أي أولئك الرُسُل (عَلَى مَا كُذِّبُوا) إلى متى ؟ (وَأُوذُواْ) إلى متى ؟ (حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) فنصرُ الله جل وعلا ثابتٌ في نُصرته لرُسُلهِ ثم قال الله (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ }الأنعام34..) وتبديل كلمات الله له وجهان ، تبديل ـ هذه تكتبها ـ تبديل كلام الله له وجهان :(45/116)
الأول :: تغييرُها حرفياً ومنه قول الله جل وعلا: ({فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} ماذا ؟ { قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} يعني أتوا بأحرف وكلمات غيرها { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }البقرة59..) وهذا النوع ليس هو المقصود في هذه الآية في آية الأنعام .
التبديل الثاني وهو الأخير التبديل الأخير :: هو ردها بمعنى الحيلولة بينها وبين أن تقع وهذا لا يقدر عليه أحد وهو المقصود بآية الأنعام إذاً المقصود بكلمات الله في آيات الأنعام وعده ووعيده وعده وماذا ؟ ووعيده واضح المعنى ـ وسأشرحها تفصيلاً حتى يتضح المعنى إذاً فرغتم من الكتابة ـ فالآن تنبه لو جاء إنسان في مجتمع بادية أو مجتمع أمي لا يعرفون القرآن لا يحفظون لا يوجد أحد يحفظ القرآن ثم قال أنا أريد أن أثبت لك أنني أستطيع أن أغير كلام الله فقرأ الآية عمداً خطأ وأدخل آيةً مكان آية أو أتى بأحرف من عنده فهذا بدّل كلام الله لكنه ليس المقصود بآية الأنعام (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) لأن كلمات الله في آيات الأنعام المقصود بها وعده وماذا ؟ ووعيده هذا يندرج في الأول ( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أو ( { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }المائدة41..) كلها داخلة في هذا لكن (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) الله وعد أهل الإيمان بالنصر وتوعد أهل الكفر بالاضمحلال والنهاية والإهلاك هذا الأمر وعد الله ووعيده لا يقدر أحدٌ على تبديله لا يقدر أحدٌ على تبديله ، ثم تطمنة لنبيه صلى الله عليه وسلم قال جل وعلا (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ) أيُها النبي (مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) أي من أخبار المرسلين ما يثبت لك أن الله نصرهم فنفذ في أممهم وعيده وأعطى الأنبياء وعده ولم يقدر أحد أن يُبدل كلمات الله وأضحٌ هذا .
((45/117)
وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ{34} وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ) عظم وشق (إِعْرَاضُهُمْ) أعراض أهل الكفر (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) كانوا يُطالبونه بالآيات والله يقول له ليست القضية قضية آيات هؤلاء كُتب أزلاً أنهم لن يؤمنوا فقال الله لنبيه ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ{35})
لنا مع هذه الآية وقفات نبدأهُ بالآتي :
النفق : السرب في الأرض السرب في الأرض ، والسُلم في اللغة المصعد والمرقاة هذا من حيث التحرير اللغوي ، والآيةُ تُدلل على عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحرصه على هداية الناس والله جل وعلا يقول له إن استطعت أن تفعل ذلك فافعل ولو فعلت لن يُجدي شيئاً لأن الله قد كتب عليهم الكفر وهاذي مر معنا نظيرُها (وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا) لكنها تُبين حرصه صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته .(45/118)
الأمر الثاني : (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) هذا كله من تأديب الله لنبيه أن الله اقتضت حكمته ومشيئته أنه لا يمكن لناس أن يُؤمنوا ولو أراد الله أن يُؤمن الناس جميعاً لجمعهم على الهدى(وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) إذاً أنخ مطاياك ولا تذهب نفسُك عليهم حسرات وكنُ على بينه أنه لابُد أن يكون في الناس مؤمن وكافر وعاصي وطائع وبارٌ وفاجر وقد قلت مراراً أن الإنسان العاقل ينظر إلى من حوله بعيني القدر وبعيني الشرع بعين الشرع وبعين القدر عين الشرع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وبعين القدر يعلم أن الله جل وعلا قد كتب أنه لابُد أن يكون في الناس كافر ومؤمن وقد كان عمر بن عبد العزيز لما كتب في تخفيض الجباية على أهل الذمة كتب له الوالي إن هذا يضر بيت مال المسلمين فقال إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً فكتب إليه مرةً أُخرى فكتب عمر إن عمر ليعدم انه أحقر عند الله من أن يهدي الخلق كلهم على يديه . وهذا يعطي الإنسان تسليه وعدم انزعاج وهو يدعوا إلى الله جل وعلا (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) ثم قال الله : (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ولم يقل فلا تكونن جاهلاً والمعنى إظهار كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم عند ربه ولطف مخاطبة الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإذا جمعت هذا مع ما سلف من حرصه صلى الله عليه وسلم على الشفقة بأمته تبين لك أنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يضره بعد مدح الله وملاطفته له ما يقوله أهل الكفر فيه سواءً ممن سبق وأدرك حياته صلى الله عليه وسلم كفار قريش أو ما تراهُ في عصرنا هذا كل يوم ينعق في إحدى الدول ناعق
والله لن يصلوا إليك ولا إلى */* ذرات رمل من تراب خُطاك
هم كالخشاش على الثرى ومقامكم */* مثل السماء فمن يطول سماك(45/119)
ثم الإنسان بالعقل مدح الناس له صلى الله عليه وسلم لا يحتاجه لأن الله مدحه فكيف بذم الناس يضره والله جل وعلا قد عصمه لكن ثمة نقطة مهمة عقدية عند التحرير نقول إن الله جل وعلا لا يضره ذم أحد ولا ينفعه مدح أحدٍ ولا طاعته لماذا ؟ لأن الله استغنى بذاته ({وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }فاطر15..) واضح .
ونقول أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعه مدح أحد ولا يضره ذم أحد لا لذاته بل لأن الله جل وعلا مدحه ولأن الله جل وعلا حماه واضح فالنبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيقول المادحون فيه وقد مدحه الله وماذا سيذمه الناس وقد عصمه الله فقال له ({إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }الحجر95..) أما الله جل وعلا فإنه لا تبلغ مدحته قول قائل ولا يجزي بألآئه أحد لأن الله هو الغني هو الغني ماذا ؟ الحميد لأن الله هو الغني الحميد وهذا يجب تحريره جيداً وإدراكه عن الله ورسوله .
(وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) قلنا العبارة لم تكن فلا تكونن جاهلاً على هذا ينبغي أن الإنسان إذا خاطب غيره خاصةً من يحب يُجب أن يتأدب في الخطاب معه والمعلومة ستكون واحدة لكن سياقها لناس قد يكون مختلفاً ومر معنا أن أحد أظنه أبا جعفر المنصور رأى في رؤياه أن أسنانه جميعاً سقطت فاستدعى معبراً فجاءه المعبر قال ماذا تقول قال يا أمير المؤمنين كل أهلك سيموتون فاشتاط غضباً قال هل من معبرٍ آخر فجاء بمعبر آخر فقال هنيئاً لك طول العمر يا أمير المؤمنين أنت آخرُ أهلك موتاً ، والمعنى واحد لكن العبارة ماذا ؟ اختلفت .(45/120)
كما نستفيد من الآية أن الإنسان يجب أن يعرف مراد المتكلم قبل أن يتعجل في حكمه بمعنى (وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) يجب الإبحار فيها قبل الحكم عليها لأن الحكم بادي الرأي لا يصلح ، أحد العرب قال في حق غنمه ضيع الغنم ..أقول لها يوما ..ضاعت الغنم فقال:
يا رب سلّط عليها الذئب والضبُعَ
يا رب سلّط عليها على ماذا ؟ على الغنم يا رب سلّط عليها الذئب والضبُعَ السؤال الآن حتى أعلمك السكينة في الحكم هل دعا لها أم دعا عليها ؟
تفرقت غنمه ذات يوم فقال شطر البيت الثاني البيت يا رب سلّط عليها الذئب والضبُعَ ـ طبعاً أُجيب حتى لا أعلق حتى المشاهدين ـ هنا الإنسان يقف بهدوء يقول إن كان قصد أن يُسلط عليها الذئب والضبع في وقت واحد فقد دعا لها لأن الذئب والضبع لا يتفقان فيدفع كلٌ منهما الآخر فإذا التقيا والغنم حاضرة تدافعا وتهالكا ونجت الغنم وإن قصد سلّط عليها الذئب والضبُعَ متفرقين فقد دعا عليها بالهلاك والثبور واضح لكن لا يفهم من الخطاب وحده حتى نفهم ما الذي أراد وهذا كل عاقل يُلقى عليه خطاب يجب أن يتأتى.(45/121)
تبقى فائدة لغوية وهي : أن العرب لها نظمٌ لا يختل وسُننٌ لا تبدل في طريقة أنها تُقدم الذكر على الأنثى يقولون القمران ويقصدون الشمس والقمر وإنما قالوا القمران لماذا ؟ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث إلا في حالتين قدموا فيها الأنثى على الذكر إلا في حالتين ـ هذا من نفائس نفائس العلم ـ قدموا فيها الأنثى على الذكر إذا ثنوا الضبع اسم للأنثى إذا ثنوا الضبع يقدمون الأنثى على الذكر لماذا ؟ لأن الضبعَ اسم للأنثى والذكر يقال له ضبعان اسمه ماذا ؟ ضبعان فإذا ثنوها على اسم الذكر اجتمعت ألف ونون عدة مرات هو اسمه ضبعان وهو فرد فكيف إذا ثني فتحرجوا من هذا التكرار ولجاءوا إلى تثنيته على اسم الأنثى واضح فقالوا ضبُعان ويقصدون الذكر والأنثى اختاروا اسم الأنثى ولم يختاروا اسم الذكر لأن الذكر أصلاً أسمه ضبعان واضح فالضبع إذا أطلقت يراد بها الأنثى والمذكر اسمه ضبعان فاختل هنا نظم كلامهم في أنهم يقدمون الذكر على الأنثى .
والحالة الثانية : في التاريخ فإنهم يقدمون ويؤرخون بالليلة دون اليوم لماذا ؟ لأن الليلة تسبق اليوم ، إذاً جرى سننُ العرب في كلامها أنهم يقدمون المذكر على المؤنث إلا في حالتين : تثنية كلمة ضبع والتاريخ فإنهم يؤرخون الليلة دون اليوم ويقدمون الليلة المؤنثة لأن الليل سابقٌ على اليوم.
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ أعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمداً وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء الثاني عشر الاثنين 12 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين ... أما بعد ..(45/122)
فهذا أيُها المباركون اللقاء الثاني عشر وهو تأملاتٌ في سورة الأنعام إلا أنّ الأحد عشر لقاءً التي مضت كنا نتوخى فيها ترتيب الآيات في السورة أي أننا نُعرج على جميع الآيات دون استثناء أما في هذه المرحلة من التأملات فإننا قد تبين لنا مما سلف أن السورة تُعنى بالجانب العقدي وأن التوحيد أصلٌ عظيمٌ فيها كما هو أصل الدين وعلى هذا فإننا سنختار بعض الآيات التي سنتأمل فيها ولا نلتزمُ الترتيب في عرضها والآيات التي نختارها في هذا اللقاء هما آيتان قال الله جل وعلا ({قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ {65} وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ{66} )
هذه الإطلالة التاريخية هنا تنفعُ كثيراً في فهم مثل هذه الآيات ينبغي أن تعلم أن لله جل وعلا قضاء كوني قدري وقضاء شرعي وقد يجتمعان في آنً واحد لكن لا يلزم اجتماعهما ..(45/123)
مناسبةً هاتين الآيتين بما قبلهما : أن الله جل وعلا ذكر في الآيتين السابقتين لطفهُ وكشفهُ لكربات من يسأله ( قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) فلما ذكر الله لطفه ذكر الله هنا عظيم قدرته ، النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه لما قرأ عليه جبريل هذه الآية (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ) قال أعوذ بوجهه ـ أي استعاذ بوجه الله جل وعلا من هذا ـ ثم تلا جبريل ( أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فقال صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهه ثم تلا جبريل ـ يُكمل الآية ـ (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) فلم يجري الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ كما استعاذ في الأولين وإنما قال هاتين أهون وأيسر ، لما هاتان أهون وأيسر ؟ لأن الأولى كانت تتكلم عن عذاب استئصال تتكلم عن عذاب ماذا ؟ عذاب استئصال بالكلية أي لا يُبقي على الأمة أما الأخرى الثالثة ليست من عذاب استئصال ثم إن الله جل وعلا كتبها في الأزل وستجري لأن الله كتبها فما كان الله ليمنعها لدعوة أحد كائناً من كان ولو كان الداعي نبينا صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره أنه قدم من العالية عالية المدينة حتى أتى مسجد بني معاوية ومسجد و مسجد بني معاوية هو المعروف اليوم بمسجد الإجابة مبنيٌ على طرازٍ حديث شمال غرب الحرم تقريباً وإلى الشمال أقرب أكثر منه إلى الغرب بجوار مستشفى يسمى مستشفى الأنصار مبنيٌ على طراز حديث ويُعرف عند الناس بمسجد الإجابة أما تسميته بمسجد بني معاوية فبنو معاوية بطنٌ من الأوس وكان أكثر البطون من الأوس والخزرج لهم مساجد فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل هذا المسجد ودخل معه أصحابه فصلى صلاةً طويلة ثم دعا دعاءً طويلاً ثم انصرف إلى الناس بوجهه وقال : " إني سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني(45/124)
اثنتين ومنعني واحدة ، سألت الله أن لا يُهلك أمتي بسنه فأعطانيها وسألت الله أن لا يُهلك أمتي بغرق فأعطانيها وسألت الله أن لا يُذيق أمتي بعضها بأس بعض فمنعنيها "
فانظر كيف أن الله جل وعلا ليُجري قدره منع نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة وهذا بلا شك النبي صلى الله عليه وسلم أراد الحدبَ والشفقة على الأمة وكذلك الله جل وعلا أجرى هذا الأمر لحكمةٍ نعلم بعضها أو لا نعلمه لكن الله جل وعلا حكيمٌ عليم وهو أرحم بنا من نبينا صلى الله عليه وسلم ونبينا رحمتهُ من رحمة الله بنا لكن علم الله أعظم وأجل من علم نبينه صلى الله عليه وسلم بل لا علم له صلى الله عليه وسلم إلا ما علمه الله والنبي علية الصلاة والسلام في تربيته لأمته يتوخى أسلوب الوضوح ولهذا قال فمنعنيها ولم يدر بخلده عليه الصلاة والسلام ولم يُعنى بأن الناس سيتكلمون في أنه كيف أن الله جل وعلا يمنعُ نبيه دعوه لأنه عليه الصلاة والسلام عبدٌ لله لربه جل وعلا فهو عبد الله ورسوله فيبلغ دعوة ربه كما أتته وكما قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها { لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مُخفياً شيئاً من القرآن لأخفى قول الله جل وعلا : ( { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ }الأحزاب37..) وهذا عتاب من الله لنبيه لإتباعه خلاف الأولى ومع ذلك تلاه صلى الله عليه وسلم على الناس ومكث شهراً لا ينزل عليه الوحي في أمر عائشة فلم يستطع أن يُدلي بدلوه في إثبات براءتها أو تُهمتها حتى نزل الوحي من السماء ({إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ }النور11..) وهذا يدلُ وضوحاً وبيناً على أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة على الوجه الأتم والنحو الأكمل ..(45/125)
نقف هنا عند هذه الآية :: الله جل وعلا كما بين لطفه في الآيات التي سلفت بين هنا عظيم قدرته (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ) جل جلاله (عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ) كالرجم (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كالخسف والزلازل ونحن لا نتكلم عن الخسف والزلازل المحدودة بمكانٍ ما وإنما نتكلم عن عذاب الاستئصال كما أن الله تبارك وتعالى أهلك قوم نوحٍ بالطوفان فكان استأصلاً وأهلك قوم لوطٍ بأن جعل عاليها سافلها فكان استأصلا لهم هذه الأمة هي آخر الأمم فكان بدهياً قدرياً أن الله جل وعلا يُبقيها وقد مر معنا هذا في لقاءً مضى المهم من ذلك أن بقيت الثالثة وهي أن يذيق بعضكم بأس بعض أي يقع القتل في الأمة فهذه منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُؤتيهُ إياها رغم حرصه صلى الله عليه وسلم على هذا جرى في التاريخ الإسلامي منذُ أن قُتل عمر رضي الله تعالى عنه فبدأت الأمة تذيق بعضها بأس بعض بدأً من يوم الدار فالذين تسوروا يوم الدار يدعون الإسلام مسلمين ولا يستطيع أحدٌ أن يقول إنهم كُفار رغم أنهم قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكما قيل ـ أصوب القول يعني أن يُقال ـ أن عثمان مات وهو أمير البررة أي المؤمنين والذين قتلوه يصعُب أن نقول أنهم كُفار لكن نقول إنهم قتلةٌ فجرة الذين قتلوه قتلةٌ فجرة ومن الصعب أن يُقال أنهم كُفار حتى قيل إن بعضهم كانت له صُحبه كعمر ابن الحنق ثم كانت بعد ذلك بعد قتل عثمان موقعة الجمل لما اجتهدت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها عائشة وخرجت من المدينة ومعها ركبٌ من مكة حتى أتت العراق فكانت المقتلة ما بين فريقين كلاهما مسلم ثم كانت موقعة صفين ما بين عليً وأهل العراق ومعاوية وأهل الشام وقُتل فيها خلقٌ كثير على رأسهم عمارُ ابن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " اهتدوا بهدي عمار " ومع ذلك قُتل رضي الله عنه وأرضاه ليس على يد فارس ولا الروم ولا(45/126)
على يد اليهود والنصارى وإنما على يد المسلمين لأن الله قال (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) فوقعها قدرياً ثم جرت أحداث وأحداث منها موقعة الحرة سلط فيها بعضُ بني أمية يزيد ابن معاوية على المدينة رجلٌ يُقال له مسلم المُري وأهل المدينة آنذاك كانوا يسمونه مسرف فتسور مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودخلها من ناحية الشرق وفعل الأفاعيل في أهلها وقُتل خلقٌ كثير منهم كثيرٌ من الصحابة حتى إنهم دخلوا على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه أحد الداخلين عليه من أهل الشام وهو مسلم ـ وأبو سعيد صحابيٌ جليلٌ معروف القدرـ ومع ذلك كان الرجُل ينزع في لحيته حتى كاد أن ينزعها بالكامل لا يعرف لأبي سعيدٍ قدرا للجهل الذي فيه ،، وثقات تاريخ أهل الشام ـ وهذا خارج الشأن ـ يُقال فيهم أن فيهم ثلاثة أمور : الطعن شدة الطعن ، وشدة الطاعة لمن يتولاهم ، وفي بلدهم الطواعين ـ يعني جمع طاعون ـ فأهل الشام في الغالب أكثرُ الناس طاعةً للأمراء ويُقال أنهم أشد الناس معصيةً للخالق ـ لكن هذه لا أتحملُها ـ إنما يقولها المؤرخون لكن فيهم سمعٌ وطاعة عجيبة لمن يتولى أمرهم ولذلك رضخوا لمعاوية عشرين عاماً في حين كان العراقيون يُخالفون علياً بين الحين والآخر رغم أن علياً أفضل من معاوية وفي كُلٍ خير رضي الله تعالى عنهم أجمعين كما أن فيهم شدة الطعن أي في الحرب والقتال وفيهم ـ أي في بلادهم ـ تكثر الطواعين كما هو معروف طاعون عمواس مات فيه كثيرٌ من الصحابة كأبي عبيدة ومعاذ ابن جبل ..(45/127)
الذي يعنينا هنا أن أهل الشام لما دخلوا المدينة كانوا أشد الناس سمعاً لأمرائهم فكانوا كما يقول لهم الأمراء يفعلون ولم يُرفع الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام هذا كلهُ لقول الله جل وعلا (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ) ثم كانت دولةُ بني العباس وفي أولها دخل عبدُ الله ابن علي عمُ أبي جعفر المنصور دمشق حاضرة بني أمية فقتل في ضحى ذلك اليوم أكثر من أربعين ألفاً كلهم مسلمون والقاتل مسلم مؤسس دولة في الإسلام وهذا كله تحقيقٌ للأمر القدري الذي منع الله نبيه صلى اله عليه وسلم أن يُؤتيهُ إياه وعلى هذا لو قرأت التاريخ حتى في تاريخنا المعاصر آخرها فتحٌ وحماس كلاهما مسلم وقبلها ما يُسمى تاريخياً قبل ثلاثين عاماً تقريباً أحداث أيلول الأسود وقعت في الأردن ما بين الفلسطينيين والأردنيين وقبلها ما حصل بين العراق والكويت وهم بالجملة كلاهما مسلم فهذه كلها تُبين لك أن الله جل وعلا قضى قضاءً وقد قال لنبيه [ إنني لقضيتُ قضاءً فإنهُ لا يُرد ] ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم عاقبة هذا فسأل ربه لكن الله جل وعلا منعه لحكمةٍ أرادها جل وعلا وهو العليم الخبير والعزيز الحكيم جل جلالة والمقصُودُ أن هذه الإطلالة التاريخية تُعين طالب العلم في فهم هذه الآيات وعلى فهم أن لله جل وعلا سُنن لا تتبدل وصبغة لا تتغير والناظر في التاريخ والمتأمل فيه يكون أقدر من غيرهِ على نفع الناس وعلى قيادتهم وعلى توجيههم لأنه من تلك الأحداث والأيام والليالي والصروف التي كانت يستلهم الإنسان العضات والعبر فيكون ما يوجه به أو يُقرره أو يُرشد به أو ينصحُ به الغير يكون متوافقاً في الغالب مع الوجهة الحقيقة لأن هذه ثروات يجبُ اختنازُها وموروثات يجبُ الاطلاع عليها وهذا أمرٌ مُستفيض تصعبُ الإطالة فيه لكنني اقتبستُ منه بعضَا وأنا أتكلم عن قول الله جل وعلا ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ(45/128)
عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)
(يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) الشيعة في الأصل : كل قومٍ اجتمعوا على أمر يُسمون شيعة لكنها في المصطلح العام أصبحت تُطلق على كل من يوالي علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه وآل بيته فالذين والوا علياً وآل بيته مولاة غير شرعية يُطلق عليهم ماذا الشيعة هذا من باب الاصطلاح إذا أُطلقت الكلمة تُصرف على هؤلاء لكن الشيعة في اللغة كل قومٍ اجتمعوا على أمرٍ ما يُسمون شيعة (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) في آخر سورة الأنعام كما سيأتي ، الذي يعنينا هنا أن اللبس الذي عناها الله جل وعلا (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) أي يخلط بعضكم ببعض خلط اختلافٍ وافتراقٍ واضطراب لا خلط اتفاق خلط اختلافٍ واضطراب وفتن لا خلط اتفاق فينجمُ عن ذلك أن تكونوا شيعاً كما قال الله في الروم ( { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }الروم32..)
العاقل هنا إذا استذكر هذا كله يعرف أن رفع السيف على أهل الإسلام من أعظم كبائر الذنوب ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه ومن كمال نُصح المسلم لدين الله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم أن لا يرفع سيفاً على الأمة ولا يتجرأ بأن يتسبب في سفك دمائها ولهذا عثمان رضي الله تعالى عنه رغم أنه كان مظلوماً واجتمع الخوارج على داره وهب كثيرٌ من الصحابة وأبناء الصحابة لدفاع عنه إلا أنه أمرهم أن يتركوا الدار ويخلو بينه وبين أعداءه خوفٌ من أن يُسفك دمٌ بسببه رضي الله تعالى عنه وأرضاه لعلمه أن سفك الدماء شيءٌ شديد غرر الشرعُ به فالعاقل يسمع ويطيع ولا يرغب عن جماعة المسلمين ويكون فرداً منهم له مالهم وعليه ما عليهم ..
قال الله جل وعلا ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )
((45/129)
نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) أي في القرآن يكون هناك تنوع وتفنن في ذكرها بين الانتقال من الوعد والوعيد والأمر والنهي والترغيب والترهيب كل ذلك لعل ذلك أن يكون سبباً في أن يفقهوا عن الله كلامه جل وعلا .
ثم قال الله تبارك وتعالى ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ)
(قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ) أي لا أملك جبركم على اعتقاد أن القرآن حق فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا البلاغ ( { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }الرعد7..) ( { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ }النحل35..) أما ما قبلها (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ) فالأصل ينصرف إلى القرشيين لأن الآية المخاطب بها في المقام الأول كفار مكة وإن كان كل من كذب النبي صلى الله عليه وسلم وردّ على الله قوله يدخل في الأمر (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ) فالآية ترشدنا من حيث الإجمال وهي أمورٌ قد مضت كثيراُ تكررت منا أن الإنسان يعلم أن هذا الكتاب المبين نور جعله الله جل وعلا في الأرض وأن الإنسان حظه من العلم والفهم والإدراك والفوز بقدر حظه من القرآن وهذا مر معنا كثيراً وينبغي أن يُعلم أن إجلال القرآن ليس وقفاً على أهل القرآن وليس وقفاً على العلماء بل على كل مسلمٍ أن يُجل ،،(45/130)
ذكروا أن أبا عثمان المازني واسمه بكر هذا الرجل كان نحوياً شهيراً في البصرة فجاءه رجلٌ عربيٌ من أهل الذمة ـ أي ليس بمسلم نصراني ـ فأراد أن يتعلم كتاب سيبويه وكان أبو عثمان وقلت وأسمه بكر ممن يُحسن شرح كتاب سيبويه وكان ذا فاقة وضيق وقلة ذات يد فجاءه الذميُ وكان موسرا فقال اشرح لي كتاب سيبويه فرفض قال أُعطيك مئة دينار والدينار يا بُني خلاف الدرهم ومائة دينار شيءٌ باهضٌ آنذاك والرجل محتاج فرفض فكلمه أبو العباد أي المبرد أديبٌ في زمانه لماذا لم يقبل ؟ قال إن في كتاب سيبويه ثلاث مئة آية وكذا زيادة ـ يعني أكثر من ثلاث مئة آية ـ وإنني والله لم أُرد أن أُمكن ذمياً منها غيرةً على كتاب الله وحميةً له ثم إنه قُدر أن الواثق الخليفة العباسي كان في مجلسه ثم أنشدتُه إحدى جواريه بيتاً للعرجي ـ العرجي أحد شعراء بني أميه ـ وأوله :
يا غضوم إن مُصابكم رجُلاَ
فلما قال الكلمة هذه اختلف النحاة الموجودون عند الواثق في نصب كلمة رجل وأصرت الجارية على إنشادها بالنصب فلما سُئلت قالت إن أبا عثمان المازني أنشدني إياها هكذا فأمر الواثق بإشخاصه إليه فقُدم أُوتي به من البصرة إلى بغداد فلما وقف بين يدي الواثق أخذ الواثق يسأله والقصة طويلة لكن فيها عرف الواثق حذاقته وأنه متمكنٌ في اللُغة فأُعجب به فقال له عندما خرجت من البصرة ألك أولاد قال نعم لي بُنيه قال ماذا قالت عندما خرجت فذكره بيتٍ للأعشى يذكرُ فيها الوداع ، فقال له الواثق بماذا أجبتها قال أجبتها ببيت جرير :
ثقي بالله ليس له شريكُ */ * ومن عند الخليفة بالنجاحِ(45/131)
فقال له الواثق لقد وفقت وأعطاه ألف دينار فلما عاد إلى البصرة نادى أبا العباس المبرد الذي نصحه بالأول أن يقبل المئة قال انظر يا أبا العباس رددنا لله مئة ـ أي من أجل الله ـ رددنا لله مئة فعوضنا الله ألف دينا ـ أي عوضه الله عشرة أضعاف ـ من هذا تفقه أن المؤمن ينبغي عليه أن يُعظم كلام ربه جل ويجله ولا ينتظر شيئاً من الناس فإنك إن أخلصت النية وأحسنت السريرة فإن الله جل وعلا أعلم بك وربك يقول ( { إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }التوبة120..)
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة الأنعام وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين ...
اللقاء الثالث عشر الثلاثاء 13 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحبُ ربُنا ويرضى وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعارُ ودثارُ ولواء أهل التقوى ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسُولهُ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين ... أما بعد ..(45/132)
ما زلنا وإياكم نتفيأ ظلال سورة الأنعام وكنا قد أرشدنا في اللقاء الماضي إلى أننا توخينا مسألة أن نتتبع الآيات آيةً آية وإنما سنختار آيات من سورة الأنعام حتى نحاول أن نأتي خلال ثلاثين حلقة على أكثر ما فيها من فوائد ومعاني ونبقى مقصرين مهما صنعنا الآيات التي سنتحدث عنها اليوم قول الله جل وعلا : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ{83} وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ{84} وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ{85} وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ{86})(45/133)
هذه الآيات من سورة الأنعام جاءت بعد قول الله جل وعلا في قوله تبارك وتعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ) ما الذي أتى بإبراهيم في سورة الأنعام السورة تتحدث عن التوحيد وإبراهيم أعظم أعظم ماذا ؟ أعظم الموحدين الله نسب الملة إليه ( { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ }الحج78...) فبدهيٌ أن تتحدث السورةُ كثيراً عن من ؟ عن إبراهيم فيما سلف ذكرت الآيات التي مضت ولم نتعرض لها لاشتهارها عند الناس من شرحنا لها ولله الحمد قضية محاجة إبراهيم لأبيه آزر ثم محاجته لقومه ({وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } إلى أن قال إبراهيم عليه السلام وهو يُحاج قومه يُثبت لهم التوحيد (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) هنا نأتي لقضية أساسية وهي أن إبراهيم لم يقُل فأيُنا أحق بالأمن قال فأي الفريقين ::(45/134)
قال العلماء في بيان هذا أراد إبراهيم أن يُبين أن المقابلة مقابلة عامة تشمل كل موحدٍ ومشرك وليست محصورةً في إبراهيم وقومهِ لما قال (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أراد أن يُبين أن المقابلة والمحاجة ما بين كل موحدٍ ومشرك وليست بين إبراهيم فقط وقومه ليست محصورة ، قال الله جل وعلا : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) من الذي فصل وحكم ؟ ـ في أي الفريقين أحقُ بالأمن ـ ربُ العالمين جل جلاله فأنزل الله (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي بشرك (أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) وهذا دفع القرطبي رحمه الله أن يقول إن هذه الآية أرجى آية في كلام الله هذه الآية عند القرطبي أرجى آية في كلام الله لأن الله أثبت فيها أن مات على التوحيد ولم يشرك مع الله شيئاً تكفّل الله له بالأمن يوم القيامة وبالهداية في الدنيا (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) هذا كله قبل الآيات التي تلوناها في الأول نتكلم عن قول الله جل وعلا (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)
معنى (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) أي هذه الحُجة الدامغة المظهرة للحق المضيعة للباطل إنما علّماه الله جل وعلا إبراهيم واتاه الله إياها والكلام عن الأنبياء الذين ذكروا من أوجه متعددة تاريخية وعقدية ولغوية ونحوية سنتكلم على الوجه التالي::
أولاً المذكورون هنا ثمانية عشر نبياً وهم في القرآن خمسةٌ وعشرون نبياً سبعة في غير هذه الآية نضمها الشاعر في بيتين :
في تلك حُجتنا منهم ثمانيةٌ */* من بعد عشرٍ ويبقى سبعةٌ وهمُ
إدريس هود شعيبٌ صالحٌ وكذا */* ذُو الكفل آدم بالمختار قد خُتموا
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين..(45/135)
ففي القرآن خمسةٌ وعشرون نبيا ورسولا ثمانية عشر مذكورون في سورة الأنعام في آيات تلك حُجتنا وسبعة في مواطن متفرقة ولا يمنع أن هؤلاء الثمانية عشر ذكروا كذلك في آياتٍ أُخر هذه واحدة.
قول الله جل وعلا (آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ{83} وَوَهَبْنَا لَهُ) لمن ؟ لإبراهيم ( إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) لم يذكر الله هنا إسماعيل (كُلاًّ هَدَيْنَا) إسحاق ويعقوب (وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) نوح ليس من ذرية إبراهيم إنما جدٌ لهم أراد الله أن يبين أن إبراهيم أُعطي شرف الأجداد وكريم الأبناء وأكرم أبناءه نبيُنا صلى الله عليه وسلم ونبيُنا صلى الله عليه وسلم أفضل من أفضل من إبراهيم رغم أنه منه عليه الصلاة والسلام وأحياناً يكون قبيلة كاملة تفتخر بواحد يقول ابن الرومي ـ وابن الرومي شاعر عاش في عصر بني العباس كان رجُلاً يتقلد الشؤم يتطير وهو القائل :
كما علت برسول الله عدنانُ
فعدنان عزُها من أن النبي صلى الله عليه وسلم منها ولذلك يُقال النبي الهاشمي العدناني .(45/136)
نعود للآية : (كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) أي من ذرية من ؟ تحتمل إبراهيم وتحتمل نوح ،، الذين قالوا أنها تحتمل إبراهيم قالوا إن الكلام أصلاً عن إبراهيم وما قول الله جل وعلا (وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ) إلا جملة اعتراضية ،، والذين قالوا (مِن ذُرِّيَّتِهِ) أن الكلام عن نوح قالوا بدليل من الصناعة النحوية وهو أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور الضمير يعود إلى أقرب مذكور وأقرب مذكور هو من ؟ هو نوح واحتجوا بذلك بأن الله جل وعلا ذكر لوطاً ولوط ليس من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه لكنّ الذين دافعوا عن هذا قالوا إن كون لوطٍ ابن أخٍ له لا يمنع أنه ابن لهُ فإن الله سمّى في كتابه العم أباً فإن الله سمّى في كتابه العم ماذا ؟ العم أباً قال الله جل وعلا ({أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} ماذا قالوا ؟ { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ }البقرة133..) ومعلومٌ أن القائلين هنا هم أبناء يعقوب وإسماعيل عمٌ ليعقوب لأن أباه إسحاق واضح ومع ذلك قالوا (إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) فسمّى الله العم أباً في كتابه العظيم وهذه حجة من قال أن الضمير يعود على إبراهيم ، وعلى العموم لا يوجد مرجح نجزم به في الآية الآية تحتملُ هذا وتحتملُ هذا وإن كان أكثر العلماء على أنها عائد إلى إبراهيم باعتبار أن المقام يتحدث عن إبراهيم .(45/137)
تلحظ في الآيات أن الله ذكرهم كم طائفة ؟ ثلاث .والآيات قطعاً إجماعاً لم تقصد الترتيب الزمني مثلاً قال الله ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً) قبلها قال عيسى ومعلومٌ أن عيسى بعد من ؟ بعد لوط إذاً لم تكن الآيات تُعنى بالترتيب التاريخي ولم تكن الآيات تُعنى بترتيب الفضل ومنازلهم لأن الله جل وعلا ذكر داود وسليمان ثم ذكر عيسى وعيس أفضل من داود وسليمان لأنه من أُولي العزم من الرُسل واضح ، فإمّا أن يُقال إن الآية لم يكن يُقصد منها التصنيف وإمّا أن يُقال كان يُقصد منها التصنيف واضح ، فإن قال قائل لمن يقُصد منها التصنيف حُق له أن يقول لا يقصد منها تصنيف تاريخي لأننا نفيناه ولا تصنيف حسب الفضل لأننا نفيناه ، وإن قال قائل يُقصد منها التصنيف لابُد أن يقول لنا على أي شيءٍ صُنفت واضح.
والأظهر العلمُ عند الله أنها صُنفت على القياس التالي ::
الله يقول في المجموعة الأولى قال (قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ) هؤلاء الخمسة يجمعهم شيء واحد أن الله أعطاهم سيادة في الدُنيا داوود وسليمان كانا حاكمين وموسى وهارون كانا حاكمين لبني إسرائيل دخل بينهما أيوب ، أيوب كان فقيراً مُبتلى ثم أصبح غنياً مُطاعاً قال الله ( { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا }الأنبياء84...) انتهى به الأمر إلى الثراء ، وجاء في الحديث أن الله أنزل عليه رجلا جرادٍ من ذهب فهؤلاء أعطوا حظاً كبيراً من الدُنيا هؤلاء الخمسة واضح ،
قال الله بعدها (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ) هؤلاء يجمعهم ماذا ؟ يجمعهم الزهد وترك الدنيا والانقطاع التام إلى الله الانقطاع التام إلى الله قلبياً حاصل في كل الأنبياء لكن هؤلاء لا يُعرف عنهم ثراء ولا يُعرف عنهم جاهٌ باعتبار أمر ونهي وقضاء بين الناس واضح زكريا ويحي وعيسى وإلياس .(45/138)
بقينا في الطائفة الأخيرة قال الله (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً) هؤلاء ليسوا معدودين فيمن أُوتي حُكماً وسُلطانا وليسوا معدودين في الزهاد من الأنبياء واضح الذين انقطعوا جاءوا في المرحلة الوسط ولهذا أفرد الله لهم ذكراً لوحدهم (وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً) واضح الآن .
إذاً أصبح التقسيم حسب ما أفاء الله جل وعلا عليهم وما خصهم به ليست قضية الفضل ولا بقضية التاريخ واضح التقسيم هذا التقسيم ارتضاه المراغي في تفسيره وهو تقسيمٌ جيد والعلمُ عند الله . هذه قضية ..
قال الله جل وعلا لما قال (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) أي إبراهيم ذكر عيسى ابن مريم ومعلومٌ أن عيسى ابن مريم ابن بنت وليس ابنُ ابن وعلى هذا تحرر مسألة قضية هل ابن البنت يُعدُ ابناً أو لا يعدُ ابناً أما كونه يُعد ابناً من حيث العموم هذا ظاهر دلت عليه الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم في سِبطه الحسن ابن علي " إن ابني هذا سيد " لكن أين يتحرر الخلاف أين يتضح ؟ يتضح في مسائل الوقف فيما لو أوقف موصٍ مالاً على أبناءه هل يدخل ابن البنت أو لا يدخل ـ طبعاً الفصل هنا عند القضاء ـ طائفة من العلماء قالت بدخوله وطائفة من العلماء لم تقُل بدخولهِ
بنونا بنو أبناءنا وبناتُنا */* بنوهن أبناء الرجال الأباعدِ(45/139)
هذا كلامُ العرب تقول إن ابني الحقيقي هو ابن ابني أما ابنُ بنتي ليس ابناً لي هذا بنو رجلٌ بعيد : بنونا بنو أبناءنا ،، يعني أبناءُنا الحقيقيين بنو أبناءنا ، وبناتنا ،، أما بالنسبة لبناتنا ـ معنى الكلام ـ وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد ليس أبناءِ لي واضح مع أن المرأة تُقرب يعني كما هو معلوم لكن من حيث العموم هؤلاء قومٌ يقولون أن ابن البنت لا يُسمى ابناً وقُلت فصل الخطاب في القضايا هاذي المحاكم الشرعية حسب ما تختاره هذه فتوى لكننا نحرر هنا أن الآية لما ذُكر فيها ابن مريم عليه السلام ذُكر فيه مسألة قول الله جل وعلا (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) أنه من ذرية إبراهيم رغم أنه ابن بنت وذكرنا الحديث .
عيسى عليه الصلاة والسلام أتم الله به مسألة أن الله جل وعلا خلق الخلق خلق آدم من غير أبٍ ولا أُم وخلق حواء من آدم وخلقنا من أبٍ وأًم وخلق عيسى ليتم الحالة الرابعة وتكتمل من أمٍ من غير أب .(45/140)
عمر رضي الله تعالى عنه كان عنده ابن اسمه عُبيد الله ابن عُمر فجاءته ذات يومٍ امرأةٌ تقول له أن زوجي لا يطعمني ولا يكسُوني قال ومن زوجك قالت أبو عيسى قال سُبحان الله ـ يمزح معها ـ وهل لعيسى أب لأنه متكني بأبي عيسى ثم قال لها من زوجك قالت ابنُك عُبيد الله فغضب وأرسل أسلم غلامه وقال أذهب إليه وقُل لهٌُ إن أباك يريدك وذهب أسلم إلى عُبيد الله ابن عمر ووجدهُ يتغدى على دجاجةٍ وديك هندي فقال له إن أباك يُريدك وكان عمر إذا بعث أحداً إلى أبناءهِ يقول له لا تقول له فيما يريدك أبوك حتى لا يُلقنهُ الشيطان كذبه ـ يعني إذا عرف ماذا يُريد منه أبوه سيُبيت كيف يُجيب لكنه إذا قَدم بين يدي أبيه وسألهُ أبوه فجاءهً لا يستطيعُ أن يحتال لنفسه ـ لكن عُبيد الله تفطن لهذا فقال لأسلم أخبرني قال إن أمير المؤمنين منعني قال أعطيك الدجاجة والديك فطمع أسلم وهو يومئذٍ غلام فيه قال على ألا تُخبر أمير المؤمنين قال على ألا أُخبر أمير المؤمنين فأخبرهُ بالقصة أن زوجتهُ جاءت تشتكي إلى عمر فذهب عُبيد الله إلى أبيه قبلهُ ذهب أسلم عاد فسألهُ عُمر أوجدتهُ قال نعم فكأن عُمر ـ مُلهم ـ فطن أن أسلم أخبر عُبيد الله قال أخبرته ، من هيبة عمر لم يستطع أسلم أن ينفي قال: نعم يا أمير المؤمنين ، قال : أرشاك ، قال : نعم يا أمير المؤمنين فضربهُ بالدُره ثم لما قدم إليه ابنهُ عُبيد الله عاتبه عمر وقال له: تتكنى بأبي عيسى ـ طبعاً أبٌ يمزح مع ابنه ـ تتكنى بأبي عيسى وهل لعيسى أب لأن الله قال عيسى ابن من ؟ (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) يعني كنيه هنا غير ملائمة غير مناسبة لأن اشتهر إذا قيل اسم عيسى ينصرف مباشرةً ذهنياً إلى كلمة الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ولا ينصرفُ إلى غيره ولهذا قال لهُ وهل لعيسى أب موضوع القصة هذه ذكرها الذهبي رحمة اله تعالى عليه في الأعلام ، الذي يعنينا هنا هذا ما يمكن أن يُقال حول نبي الله عيسى ابن مريم عليه(45/141)
الصلاة والسلام .
أنبياء الله جل وعلا هم سادة الخلق والذروة في الناس وهم أفضل الخلق أجمعين والدليل أن الله جل وعلا قال ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ ) يعني ممن سلف ذكرهم (فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) وكلمة العالمين تُطلق على كل أحدٍ سوى من ؟ سوى الله كلمة العالمين تُطلق على كل أحدٍ سوى الله جل جلاله وعلى هذا فأنبياء الله جل وعلا هم في الذروة من الخلق وأفضلُ من الملائكة صلواتُ الله وسلامهُ عليهم أجمعين .
من هؤلاء الأنبياء الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى هنا وقال (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء) ذكر الله جل وعلا إسحاق وذكر إسماعيل إسحاق عليه الصلاة و السلام أخٌ لإسماعيل وبينهما ـ أي بين إسماعيل وإسحاق ـ يدور الخلاف حول من هو الذبيح لأن الاتفاق على أن الذبيح ابنٌ لإبراهيم لكن هل هو إسماعيل أو إسحاق في المسألة خلافٌ مشهور ولا نريُد أن نُرجح لكن من ذريه إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام ويعقوب هو في القرآن إسرائيل (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي هو يعقوب فبنو إسرائيل أبناء ليعقوب وهم أبناءٌ لإسحاق وإسحاقٌ أخٌ لإسماعيل والعرب من ذرية إسماعيل " أرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا " أصبح اليهود والعرب أبناء ـ أجيبوا ـ أبناء عم أصبحوا أبناء عمومه لأن إسحاق عليه السلام كان أخاً لإسماعيل على الخلاف في أيهما الذبيح وهذا لا يعنينا هنا لكن أردنا أن نُحرر أن يعقوب عليه الصلاة والسلام هو إسرائيل وهو ابن من ؟ ابن إسحاق قال الله ( { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ) أي إبراهيم { وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ }هود71.. ) لكن يظهر أن البشارة الثانية كانت منفكة كما تدل عليه قواعد النحو ـ عن البشارة الأولى يعني ـ لم تكن في آنٍ واحد وإلا لانتفى الخلاف في أيهما الذبيح .(45/142)
ممن ذكر الله جل وعلا هنا داوود وسليمان وهذان نبيان صالحان من أنبياء بني إسرائيل وسليمان ورث عن أبيه المُلك والنبوة كما هو ظاهرٌ ومشاع ـ وأنا أعلق هنا تعليقات يسيرة ـ (وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ) يوسف عليه السلام وصل إلى مرتبة الوزارة لكنه وصل بخلاف وصول داوود وسليمان وصل بعد ابتلاء وصل بعد ابتلاء وحلقات دامية من العناء حتى أجلسه الله جل وعلا على الكرسي فاشتاق إلى ربه ({رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ }يوسف101..)
بقي أن نختم بفائدة:: الفائدة تقول أخوة يوسف صنعوا بيوسف ما صنعوا ثم استعطفوه بذلٍ وانكسار ({وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا }يوسف88..) رغم ما صنعوه معه عفا عنهم وإذا كانت هذه رحمةُ يوسف بمن صنع معه ذلك فكيف برحمة من خلق يوسف لكن المهر هو الذُل والانكسار بين يدي الله الواحد القهار فالذل والانكسار والاعتراف لله بالتوحيد والإذعان له جل وعلا مهرٌ عظيمٌ مع الاستغفار لرحمته تبارك وتعالى قال الله جل وعلا على لسان نبيه صالح ( { لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }النمل46..)
استغفر الله ونتوب إليه هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ إعدادهُ وأعان الله على قولهِ وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمد لله رب العالمين ...
اللقاء الرابع عشر الأربعاء 14/9/1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحبُ ربُنا ويرضى ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثرة وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ... أما بعد ..(45/143)
فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام وكنا قد بينّا في لقاءين ماضيين أن لنا سنناً جديداً في التأمل فيهما سنتعرض للآيات فُرادى أو ثنائيات وندعُ التوخي الفردي للآيات المتتابعة حرصاً على الوقت ومحالةً للوصل إلى أكثر معاني هذه السورة المباركة الآيةُ التي نحنُ بصدد التأمل فيها في هذا اللقاء المبارك قول الله جل وعلا ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ{121}) نعوذ بالله من الشرك ..
من الآية يظهر أن هناك إطلالتين تفرضان نفسيهما علينا ونحنُ نتأمل الإطلالة الفقهية والإطلالة التاريخية .
أما الإطلالة الفقهية : هذا ضربٌ لازم لأننا نتحدث عن قضايا حلالٍ وحرام لأن الله قال (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)( وَلاَ) هنا بالاتفاق ناهية (تَأْكُلُواْ) فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بحذف النون لأنه من الأفعال الخمسة والأفعال الخمسة سُميت بالأفعال الخمسة لأنها تأتي على خمس سور تفعلان ويفعلان وتفعلون ويفعلون والخامسة تفعلين ـ وهذا كله استطراد ـ لكن نأتي لصناعة الفقهية لضرورة الآية صريحة في النهي عن أكل ما لم يُسمّى الله عليه عند ذبحه وتذكيته (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ) وذُيلت تذليل مبدأي بقول الله جل وعلا (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) اختف العلماء رحمة الله تعالى عليهم في اشتراط التسمية عند التذكية على ثلاثة أقوال :(45/144)
القول الأول : ـ ويمكن نسبتهُ إلى الجمهور ـ وهو أن التسمية شرطٌ في التذكية لأن الله جل وعلا قال (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ) وقال هنا (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ) وهذا القول كما قلت يُنسب للجمهور وهم يقولون أن تارك التسمية ـ أي الذابح التارك لتسمية ـ لا يجوز أكل ذبيحته سواء كان ترك التسمية عمداً أو نسياناً فجعلوها تشمل العمد والنسيان لمجرد أن الإنسان لم يذكر اسم الله سواء كان تعمد أو نسي دخل في قول الله جل وعلا (وَلاَ تَأْكُلُواْ) دخلت ذبيحتهُ في قول الله جل وعلا (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ) واضح وهذا مرويٌ عن أكابر السلف وكثيرٍ من الصحابة .(45/145)
قولٌ آخر : وهو قول الشافعي رحمه الله ـ الشافعي تعلمون احد الأئمة الأربعة كان موصوفاً بالذكاء وإليه يُنسب تأسيس علم أصول الفقه ـ الشافعي رحمة الله تعالى عليه حمل هذه الآية على ما ذُبح وأُهلّ به لغير الله فرأى أن التسمية عند التذكية مستحبة وليست شرطاً وما دام قد جعلها مستحبة فالتارك لها عمداً أو سهواً يجوز أكل ذبيحته فمن تركها عند الشافعي عمداً أو سهواً جاز أكلُ ذبيحته لأنه يرى رحمه الله ومن وافقهُ من أصحابه على أن التسمية مستحبة وليست شرطاً كما فهمها الأولون ، والأولون لهم أدلة حديث عدي ابن حاتم وغيره لكن ما دام القرآن نص على المسألة لا حاجة لذكر كثيرٍ من الأحاديث لكن الأحاديث الواردة تعضُدُ القول الأول ، والشافعي قلنا يرى أنها مستحبة ويقول بعض من له إلمام بالتاريخ الفقهي يقولون أن هذا القول لشافعي هو روايةٌ أصلاً كذلك بعده عن أحمد رحمة الله تعالى عليه وأنت تعلم أن الأمام أحمد متأخرٌ زمناً قليلاً عن من ؟ عن الشافعي لكن أحمد رحمه الله أدرك الشافعي كما أنها روايةٌ عن مالك نص عليها أشهب ابنُ عبد العزيز أحدُ تابعي المذهب المالكي إذاً القول بالاستحباب هو قولٌ لمذهب الشافعي وروايةٌ عن من ؟ عن أحمد ذكرها عنه أبنه حنبل وروايةٌ عن مالك ذكرها أشهب ابن عبد العزيز واضح هذا .(45/146)
قولٌ ثالث : وهو أبي حنيفة رحمةُ الله تعالى عليه وأصحابه وهذا القول كذلك مرويٌ عن أكابر الصحابة وهو أنهُ يُنظر إن تركها عمداً فذبيحتهُ لا تحل وإن تركها نسياناً فنسيانهُ لا يضُر ـ أُعيد ـ القول الثالث قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه أولُ الأئمة الأربعة ظهوراً زمنياً قال إن تركها عمداً فذبيحتهُ لا تحل وإن تركها نسياناً فتركهُ لا يضُر واضح السياق ، قول أبي حنيفة هذا أكثر المتأخرين يميل إليه لأنه يجمع ما بين نصوص الآيات وبين قوله صلى الله عليه وسلم " عُفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وعموم قوله تعالى ({ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }البقرة286..) يمكن الاستشهاد بالآية و الحديث في صالح قول أبي حنيفة .
بعضُ الفقهاء لهُ تفريق جيد فيقول ننظر في ما هي الذبيحة فإن كانت الذبيحةُ ذبيحة صيدٍ والمؤمنُ نسي أن يُسمي ـ طبعاً إذا تعمد يرى انه لا يجوز ـ لكنه لو نسي وهي ذبيحة صيد لا يُؤكل منها وإن نسي وهي ذبيحة غير صيد ذكاها تذكية شرعية فهذه يُؤكل منها ، وجه التفريق عنده :. أن الذبيحة العادية ـ إن صح تعبير كلمة العادية هنا ـ فإن اجتمعت فيها الذكاه الشرعية من أولها فنسيان التسمية يجزئ عنه يعني يقلل دورها يقلل الحنق على أنها تُركت مسألة أنها ذُكيت ذكاه شرعية أما الصيد فهو لم يُذكى في أول الأمر ذكاه شرعية قد يكون عن طريق جارحة قد يكون عن طريق كلب عن طريق رصاص في عصرنا الحاضر المقصود أنه يقول فإذا لم يُسمى اجتمع فيه أنه لم يكن في أصله ذكاه شرعية وفي نفس الوقت كذلك تركت التسمية فمن باب أولى أن يُترك ولنص الوارد فيه في حديث عدي ابن حاتم " إذا أطلقت كلبك تصد فسم الله أولاً " فذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديث عدي وغيره عن التسمية واضح حديث رافع بن خديج واضح الفكرة الآن .(45/147)
هذه التقسيمات الذي ينبغي على طالب العلم أن يفهم أن النصوص في الغالب واحده لكن طرائق فهمها والاستنباط منها تختلف والله جل وعلا ما جعل العقول على سننٍ واحد أو جمع الناس في عقولهم على شيءٍ واحد في مثل عند العامة يقولون إن الناس في رزقهم كلهم معترضون كل واحد يرى أنه فقير وأنه يريد زيادة وفي العقول غالب الناس كلٌ بعقلهِ راضٍ ويرى نفسه أنه ما فيه نقص الذي يعنينا هنا أن العلماء رحمة الله تعالى عليهم أرادوا خير وأمةً محمد صلى الله عليه وسلم في جملتها أُمة خير فكيف بعلمائها لكن لهم طرائق في الاستنباط ويُعطى إنسان حظٌ من فهم في مسألةٍ قد لا يُعطاها آخرون وقد قال الله جل وعلا في نبيين كريمين ({فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }الأنبياء79..) فمثلُ هذه المسائل لا إنكار فيها لاختلاف الأكابر من صالح الأسلاف فيها فلا يُنكر أحدٌ على أحد لكن الإنسان يحاول أن يستبصر أدلة كل فريق ويحاول أن يفقه ما النظرة التي يعتمدها الإمام زيد عن الإمام عمر في قضية الوصول إلى المسائل وكيف يجمع بين هذا وهذا .(45/148)
قال الله جل وعلا (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) بعض الفقهاء أراد أن يقول بصحة مذهب الشافعي فجعل الواو هنا واو حال وقال أنه لا يصح مُطلقاً أن تكون الواو واو عطف لماذا أراد أن يقول هذا ؟ لأنا لو قلنا إن الواو هنا واو حالية فيُصبح المعنى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه حال كونه فسقاً أي أهل لغير الله به فيخرج من لوازم أنه المقصود به أن يُسمى على الذبيحة واضح وإنما هذا قصد به يقول أن الله قصد به ما يذبح للأوثان ما يذبح لغير الله وقال (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) لا يصلح أن تكون الواو عاطفة قولاً واحداً عنده واحتج بأن الآية طلبيه لأن قول الله جل وعلا (وَلاَ تَأْكُلُواْ) هذا طلب (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) هذه ليس بطلب هذه خبريه فقال إن الجملة الخبرية لا تُعطف أبداً على الجملة الطلبيه الجملة الخبرية (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) هذا خبر أخبر الله به لا يُعطف على الجملة الطلبيه وهو قول الله جل وعلا (وَلاَ تَأْكُلُواْ) هذا نهي والنهي أحد أنواع الطلب وأنواع الطلب الاستفهام والنهي والأمر لكنه يحتج عليه هو لو صبر الآية التي بعدها فإن الله جل وعلا قال (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ) وهذه قطعاً هو يقول إنها معطوفه فإذا كانت هذه التي قبل حالية فوجب أن تكون (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ) معطوفه على الجملة التي قبلها وهي قوله (وَلاَ تَأْكُلُواْ) فوقع في نقيض قوله لأنا متفقون على أن جملة (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ) خبرية ومتفقون على أنها لا يمكن أن تكون حالاً فالاستدلال هنا بالطريقة النحوية طريقة غيرُ صحيحة ، وأحياناً الإنسان يُنقض مباشرةً .(45/149)
الذي يعنينا قال الله جل وعلا ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ) وهذه يُبين لك جلالة وفضيلة وبركة ذكر اسم الله على الأشياء بصرف النظر عن وجوب التسمية وعدم وجوبها وقد قال صلى الله عليه وسلم عندما ذكر حديث البطاقة وينشر له تسعة وتسعون سجلا قال في آخر الحديث " ولا يثقل مع اسم الله شيء " وضع التسمية كما قال عليه الصلاة والسلام في عمر ابن سلمه " سم الله وكُل مما يليك " وعمر ابن سلمه تاريخياً من هو ؟ ربيب النبي صلى الله عليه وسلم معنى ربيب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أمه أم سلمه والمقصود أن التسمية بركه وشيءٌ عظيمٌ جليل ذلك فليبدأ ويُصدر باسم الله الرحمن الرحيم .
قال الله جل وعلا بعدها (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ{121})
الآيات التي سلفت في سورة الأنعام سورة مكية حرمت الميتة وأوجبت التذكية وذكر اسم الله لما علم بعض الكفار في فارس كان العرب يترددون على العراق قالوا لكفار قريش جادلوا محمداً وقولوا له ما ذبحتهُ أنت وأصحابك وقتلتموه حلال وما قتله الله غير حلال ـ يعني الميتة إذا ماتت لوحدها من قتلها؟ قتلها ـ قالوا كيف يكون ما قتله الله حرام وما قتلته أنت وأصحابك حلال هذا نسبه الله جل وعلا إلى الشياطين قد يكون شياطين أنس وقد يكون شياطين جن لكنه ألقمهُ القرشيون ليحاجوا به النبي صلى الله عليه وسلم والجواب عنه ظاهر أن ما قتلناه بأيدينا ذكرنا اسم الله عليه فسوغ لنا أكله وما قتل رغم أنفه ومات رغم انفه لم يُذكر اسم الله عليه فالذي سوغ الأكل ليست قضية الموت وكيفيته إنما سوغ الأكل أن ذلك ذُبح وذكر عليه اسم الله وأما الأول لم يذكر عليه اسم الله واضح فالفاصل والفرق هو ذكرُ اسم الله .(45/150)
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حبر الأمة جاءه رجل ـ بعد مقتل الحُسين أيهُا المبارك ـ حدث في الأمة فتن لأن قتل الحُسين ليس بالشيء اليسير أمرٌ جلل وخطبٌ عظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجل الحُسين إجلالاً عظيماً وقطع خطبتهُ من أجل الحسن والحُسين مع ذلك قُتل الحُسين ظلماً وعدواناً بلا شك
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمداً */* متزملاً بثيابه تزميلا
وكأنما بك يا ابن بنت محمدٍ */* قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا */* في قتلك التنزيل والتأويلَ
ويكبرون بأن قُتلت وإنما */* قتلوا بك التكبير والتهليلَ(45/151)
المتابع الآن لي وأنا أتكلم يقولون أنت تقول ابن عباس ثم تقول مات الحُسين بعد مقتل الحُسين ـ دائماً عندما تأتي مظلمة يأتي حدث يتسلق في الحدث عشرات الناس هذا يريد الحق وهذا يريد الباطل ـ واضح فجاء رجلٌ اسمهُ المختار ابنُ أبي عُبيد الثقفي وأوهم الناس أنه يُدافع عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ينتقم لقتله الحُسين وما زال يُشيع في الناس حتى زعم أنهُ يُوحى إليه حتى زارهُ بعض الناس كان عندهُ وساده وهذا ينظُر إليه يُريد أن يرمي له بالوسادة حديث عدي ابن حاتم الوسادة قال والله لولا أن جبريل توه قام منها كان أعطيتك إياها ـ يعني إنها طاهرة مقدسة ما تصلح إلا للأنبياء فقيل هذا لأبن عباس ـ أنا بدأت بمن ؟ بابن عباس قلت ابن عباس جاءه رجل ثم قلت الحُسين ـ فجاء رجل لأبن عباس فقال له إن المختار ابن أبي عبُيد يزعم أنهُ يوحى إليه هذا الرجل تصور أن ابن عباس سيقوم قال صدق فانتفض الرجُل قال أقول لك أن المختار ابن أبي عُبيد يزعم أنه يأتيه الوحي ، قال نعم صدق الوحيُ يا بُني وحيان : وحيُ رحمان ووحيُ شيطان فوحي الرحمن على محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين ، ووحيُ شيطان على المختار ابن عُبيد وأمثاله ثم تلا ما نحنُ فيه (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(45/152)
في علم التفسير في شيء خفي ما يمكن تدرُسه ولا يوجد أحد يُدرسه لأنه لا يُمكن إلهام من الله وهو قضية الاستحضار كيف تربط بين الواقع والآية هذه الآية (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ) كل من يحفظ سورة الأنعام يحفظُها وابن عباس مجرد ما قال له الرجُل إن المختار ابن أبي عُبيد الثقفي يزعم أنهُ يوحى إليه مباشرةً استحضر الآية وأجاب فلما نفر الرجُل وتعجب هدأ ابن عباسٍ من روعهِ بالقرآن وقال له ـ لأن ابن عباس متلبس بهذه الخصيصة فهو حبر الأمة والنبي صلى الله عليه وسلم دعا له ـ فتلا الآية ليسكُن الرجُل ويقتنع بكلامهِ الله يقول (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) لماذا (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ؟ لأنهم ذكروا قضية تحليل وتحريم وسيأتي بيانها إن شاء الله في لقاءٍ آخر قضية تحليل وتحريم وطاعة الناس في قضايا التحليل والتحريم إشراكٌ مع الله جل وعلا أحد في أن يُحلل ويُحرم والتحليل والتحريم ليس لأحدٍ إلا لمن؟ إلا الله .(45/153)
فالمقصود أن المختار ابن أبي عُبيد فتن الناس في زمنه طبعاً إذا رجعنا لسياق التاريخي أُناس يقولون يجب محاربة بني أمية لآل لبيت وهم يريدون حكماً وآخرون أصبحت الأمة أشتات فظهر عبد الله ابن الزبير وظهر مصعب ابن الزبير قبله وظهر المختار المختار ابن أبي عبيد كان متزوج بنت النعمان ابن بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه ثم أن مصعب ابن الزبير لما هزم المختار ابن أبي عُبيد جاء لقصره ـ وهذه مما عوتب فيها رحمه الله تعالى ـ فأمن أهله ثم قتلهم وكان ممن قُتل بنت النعمان ابن بشير زوجة المختار ابن أبي عُبيد ثم قُدر أن رجُلاً يأتي فيقتُل مصعب ابن الزبير ويحمل رأسه إلى عبد الملك ابن مروان ، عبد الملك ابن مروان كان خليفة بني أميه طبعاً أنا قلت في أُناس يتاجرون في الأحداث حتى يأتي حدث هذا في علم السياسة لا وقت لتفصيله يأتي ناس يتاجرون بأي حدث فعندما قُتل مصب ابن الزبير جاء الرجل وحمل رأس ابن الزبير ليأتي به هديه لعبد الملك ابن مروان فعبد ابن الملك ابن مروان كان مصعب ابن الزبير بالنسبة له خصم ينافسه في الملك فلما رأى رأس مصعب خرّ ساجداً لأنه يبحث عن الملك وانفرد به هذا الذي قتل مصعباً ما قتلهُ حباً في عبد الملك ابن مروان بس يعني بالعامية بين قوسين ( فاضي ) فلما سجد عبد الملك ابن مروان جاء في باله أن يقتل عبد الملك ابن مروان هو الآن أتى به ليفرحهُ جاء في باله أن يقتل عبد الملك ابن مروان علشان يقول لناس أني قتلت ملكي العرب في يومٍ واحد وقال أبيات شعر لا أستحضرها الآن :
أفا ألقيتها في النار بكر ابن وائلِ */* وألحقتُ من قد خر شكراً بصاحبه
يعني ألحقت هذا الذي يسجد شاكر ألحقته بصاحبة أيش الأول لكن قام عبد الملك ابن مروان من سجوده قبل أن يعزم هذا على نيته.(45/154)
المقصود أن الفتنة إذا جاءت يأتي معها أُناس كثيرون هذا حقيقةً يريد الإصلاح وهذا يريد أن يتكسب وهذا يريد أن ينتفع وهذا غوغاء لا يدري أين الله رامٍ به فالعاقل لا يقبل أن كل ما ارتفعت راية تحمس لها وجرى وراءها .
ولستُ بقاتلٍ رجُلاً يُصلي */* على سُلطان آخر من قُرشيِ
لهُ سُلطانهُ وعلي إثمي */* معاذ الله من جهلٍ وطيشيِ
وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً علمه السكينة والروية وتدبر القرآن جعلني الله وإياكم من أهل ذلك .
هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين
اللقاء الخامس عشر الخميس 15/9/1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى . وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شعار ودثار أهل التقوى .وصلى الله على محمد وعلى آله . أما بعد :
فمازلنا وإياكم كما جرت العادة أن نتفيء ظلال سورة الأنعام ,
والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا اللقاء المبارك (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ* وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ( سورة الأنعام: 141-142)
نقول والله المستعان :
القرشيون قالوا فيما سلف كما حكا الله عنهم (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ ) أي زرع
( حِجْرٌ ) يعني ممنوعة ( لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ ) (سورة الأنعام: من الآية 138)(45/155)
وحكا الله عنهم أنهم قالوا : (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا ) (سورة الأنعام: من الآية 139)
وهذا فيه ظاهر نزاع الله جل وعلا في ربوبيته ، والسورة تتكلم عن التوحيد ، فهم أشركوا مع الله جل وعلا غيره بأن شرعوا، حتى أقحموا أنفسهم في الأمر ، فأراد الله جل وعلا هنا أن يقيم عليهم الحجة ويثبت أن وحده هو الخالق . وبما أن هو وحده هو الخالق ,هو وحده المشرع .
فقال الله جل وعلا ردا عليهم ـ حتى يصبح الارتباط بين هذه الآية وما سلف ـ قال : ( وهو الذي أنشأ ) أي خلق من غير اقتداء ولا احتذاء (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ) المعروشات : ما لا يقوم على سوقه ما يحتاج إلى عيدان وقصب يلتف عليها ودعائم , كالعنب . وغير المعروشات : ما يستغني بنفسه , كالنخل
فقال الله جل وعلا : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ )
النخل يدخل في غير المعروشات ؛ لكن هذا من باب ذكر الخاص بعد العام ، ولأن النخل كان أكثر ثمر أو زرع عند العرب مبجل.
( وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ )
متشابها في منظره وغير متشابه في طعمه وهذه كلها ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق, سأعلق التعليق المناسب بعد إنهاء الآية .
(كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ) دلالة أن على الإذن بالأكل يبدأ من أوّل النضوج ، ولهذا التمر يُؤكل بسرا في أوله , ويُؤكل رطبا في وسطه , ويُؤكل تمرا . نتاج النخل : يُؤكل بسرا , ويُؤكل رطبا , ويُؤكل تمرا . وليس الأكل مقتصرا على واحدة من هذه الثلاث .
لأن الله قال (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ) مجرد ما أثمر لكم الحق أن تأكلوا منه.
((45/156)
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) السورة ماذا ؟ مكية والفقهاء يقولون إن الزكاة لم تكن إلاّ في المدينة ، على هذا اختلفوا في قوله الله جل وعلا : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)
فمن قائل أنها الزكاة وهذا قيل عن كافل السلف كسعيد بن المسيب , ومن قائل أنها الصدقة .
والحق أن يقال- والعلم عند الله – واختاره ابن جرير , وإليه نذهب في أنّ هذه الآية مكية وأنها أصلت للزكاة تعميماً , وجاء التفصيل متى ؟ في المدينة وجاء التفصيل في المدينة .
نُعطي قواعد عامة في قضايا الزكاة : ـ ولو كتبت لكان أكمل ـ .
من الزكاة ما يجب فيه رُبع العشر , وهذا في زكاة النقدين وعروض التجارة ، في زكاة النقدين وعروض التجارة ربع العشر .
الثاني : في الثمار المدخرة الزكاة فيها : العشر إن كانت تُسقى بلا مؤنه , بدهي مدام قلنا بلا مؤنه, في قسم يُسقى بمؤنه .
يصبح الثالث : الثمار والمدخرات أي الحبوب, التي تسقى بمؤنه فيها نصف العشر .
الركاز : فيه الخمس لأنه أُلحق بالزكاة إلحاقا .
الخامس : المواشي، هذه المواشي الزكاة فيها ليست مشاعة , وإنما مقدرة شرعاً .
ما معنى ليست مشاعة ؟ يعني كلمة عشر نصف عشر هذا مشاع ما يعرف تحديده ، لكنها الزكاة فيها مشاعة كما هي مفصلة في كتب الفقهاء ـ واضح ـ .
ينجم عن هذا تقسيم المواشي في الزكاة .
هذي الخمس في أقسام لوحدها ؛ لكن يتفرع منها ( نأخذ من كلمة المواشي )
تقسم المواشي إلى ثلاثة أقسام :
قسم فيه زكاة :. وهو ما اتُخذ للدر , والنسل , والتسمين هذه الزكاة فيها في كل نصاب كذا وكذا . في الإبل والغنم والبقر .
الحالة الثانية :. ما اتخذ لعروض التجارة من بهيمة الأنعام التي هي المواشي ، ما اُتخذ لعروض التجارة فهذا الزكاة فيه تُقدر . بمعنى أنهُ نعرف قيمته ثم نستخرج ربع ماذا ؟ ربع العشر . ـ واضحة الفكرة ـ نعرف قيمته نقدرها ثم نستخرج ربع العشر . فيعامل معاملة عروض التجارة .(45/157)
الثالثة :. مالا زكاة فيه من المواشي : وهو ما اتخذ للعمل والاستعمال .
رجل عنده بقرات يحرث عليها فهذا ليس للدر والنسل والتسمين وليس عروض تجارة يبيع ويشتري فهذا لا زكاة فيه .واضح المسألة هذا التصور العام .
وهذا الذي دفعنا إلى هذا التقسيم قول الله جل وعلا (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) نهى الله جل وعلا عن الإسراف وهذا مرت معنا كثيرا .
ثم قال الله جل وعلا:
(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً )
الحمولة من الأنعام : هي ما يركب عليه كالخيل والبغال والإبل .
والفرش : قال ابن جرير -رحمه الله- إنها الغنم .
ووجهُ تسميتها فرشاً عند ابن جرير ماذا ؟ لدنوها من الأرض ، ووجهُ تسميتها فرشاً عند ابن جرير -رحمة الله تعالى عليه- لدنوها من الأرض .
لكنه مؤدب لما قالها قال : وجه تسميتها فرشاً -والله أعلم - لدنوها من الأرض ـ واضح ـ .
نُقل عن عبد الرحمن ابن زيد ابن أسلم أحد المفسرين من السلف ـ أُكتب ـ نُقل عن عبد الرحمن ابن زيد ابن أسلم أحد المفسرين من السلف ( أن الحمولة ما اُتخذ للركوب , و الفرش من بهيمة الأنعام ما اُتخذ للأكل والحلب )
قال ابن كثير رحمة الله عليه معقبا على قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وهذا القول يشهد له ظاهر القرآن ) ،، أين يشهد له ظاهر القرآن ؟
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) (سورة يس: 71 - 72)
فالآيتان من سورة يس تشهدُ بقوة لما ذهب إليه عبد ارحمن ابن زيد ابن أسلم في قضية أن الحمولة ما اتُخذ للركوب أياً كان وأن الفرش ما اتخذ للأكل والحلب . وظاهر القرآن يشهد له .(45/158)
قال الله :(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ) أي كما أنه جل وعلا أنشأ الجنات فليس لكم حق في حجرها على أحد , أنشأ الأنعام وخلقها فليس لكم حق في حجرها على أحد .
(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ) فلا وجه لتحريم ما أباحه الله جل وعلا من الطيبات لعباده .
ثم قال سبحانه : ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) فبين سبحانه أن القرشين بتحريمهم اتبعوا طرائق الشيطان لأنهم افتروا على الله الكذب ووضعوا أنفسهم مقام المشرّع فمنعوا أقواما وأعطوا آخرين وجعلوا السائبة والوصيلة والحام و سموا أشياء ما أنزل الله بها من سُلطان وقالوا : هذه لأزواجنا وهذه لنا وهذه فيها شركاء وهذه فيها غير شركاء , وأخذوا يشرعون ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون
لهذا نهى الله المؤمنين عن ذلك وقال ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) مر معنا في دروس خلت وأيام سلفت أنّ الشيطان يخفي عداوته ويقول لأزين , ولا يأتي بطريق أنه يقول لك أنا عدو , ومع ذلك سماه الله
عدو مبين وقد أجبنا عن هذا أن الشيطان يأتي خُفية للناس ؛ لكن الله جل وعلا كشف أمره وفضحه لعباده وأخبرنا أن الشيطان عدو مبين حتى نكون على حذر منه .
ومع هذا كله يقع الكثير منا إن لم نكن كُلنا هذا يستقل وهذا يكثر في مسائل الوقوع في خطوات الشيطان وقد نهى الله عن ذلك قال سبحانه ( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(45/159)
نأتي لقول الله جل وعلا (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ) ما يتخذ للركوب هذا كان في الزمن الماضي يحمل أثقال الناس إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس كما قال الله جل وعلا والنبي صلى الله عليه وسلم – هذا استطراد في السيرة - كانت له ناقة تسمى العضباء وتسمى القصواء وهي التي حج عليها صلى الله عليه وسلم وكان قد هاجر عليها ، وقال يوم الهجرة : " خلو سيبلها فإنها مأمورة " .
في يوم الحديبية بركت, فقال الناس : خلأت القصواء , فقال صلى الله عليه وسلم : " والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل .
ففهم صلى الله عليه وسلم أن هذه الناقة ما خلأت إلاّ لأمر عظيم
فقال قبل أن يأتيه وفد قريش : والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أجبتهم إليها . ولهذا قبل صلى الله عليه وسلم بالصلح .
كان له فرس اسمه السكب ، اسمه ماذا ؟ السكب له صلى الله عليه وسلم .
وكانت له بغلة تسمى دولدل أهداها إليه المقوقس حاكم مصر صلوات ربي وسلامه عليه .
ومازال الناس في ذلك العصر بالذات يركبون الإبل والخيل والبغال حتى ظهرت دولة بني أمية وصار نوع من التلاقي الحضاري بين الشام وفارس فعرف الناس البراري ولم يكونوا يعرفونها والبغال الشهب ولم تكن مشهورة في الحجاز فلما دخل معاوية رضي الله عنه المدينة كان على بغلة شهباء فتن الناس بها .
كمن يركب اليوم سيارة غير مألوفة فالناس يتعلقون بها . ومعاوية رضي الله عنه دخل المدينة على بغلة شهباء .
وذلك يقال أن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه يقول أن ابن الزبير أنما أعجبته الخلافة منذ أن رأى معاوية رضي الله تعالى عنه على بغلته الشهباء .
وإن كان في إسناده لابن عباس نظر . الذي يعنينا أن الناس جبلوا على حب المتاع الدنيوي .(45/160)
وقد مر معنا في دروس سالفة أن الإنسان يستطيع أن يستغني عن هذا بأن يُربي نفسه على حب القرآن , فإذا تمكن القرآن من قلبه فإن أمثال هؤلاء من المباركين ينفضون أيديهم عما في أيدي الناس قال الله جل وعلا كما مر معنا (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ *لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ )
(سورة الحِجْر 87 - 88) والآيات في هذا المعنى كثيرة في الحجر وفي طه .
كذلك نتكلم من قضايا صناعات عدة حول هذه الآية.
( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أوغل بعض العلماء وإن كانوا من قدامى المفسرين قالوا هذا في الزكاة ونسبوا إلى أحد الصحابة من الأنصار أنه كان إذا جاء يوم حصاده تصدق بماله كله وبقي فقيراً ، وهذا القول مردود من باب أن هذه الآية مكية ولم تكن وقت إسلام الأنصار في المدينة , فلا يمكن حملها على الأنصار .
ثم أنها ليس لها علاقة بما يؤتى الفقراء من الزكاة ليست متعلقة بقوله جل وعلا (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) إنما هي متعلقة بقول الله جل وعلا (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ) . وقد بينا في دروس خلت الإسراف والتبذير :
وقلنا إن الإسراف : الزيادة في الشيء الذي له أصل .
أما التبذير : هو الزيادة في الشيء الذي لا أصل له .
والتبذير أعظم من الإسراف ولهذا قال الله جل وعلا ( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)... وقال في حق التبذير (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (سورة الإسراء: من الآية 27)
وإذا أردت دائما أن تعرف الفرق بين أمرين فانظر وصف الله جل وعلا لعاقبتهما .
فمثلا : الزنا ونكاح زوجة الأب , كلاهما محرم شنيع .
لكن الزنا أهون من نكاح زوجة الأب . الزنا أهون من نكاح زوجة الأب .
فإن قال قائل أين الدليل ؟(45/161)
قلنا التفريق القرآني , قال الله جل وعلا (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (سورة الإسراء: 32) ... ولما ذكر الله نكاح زوجة الأب قال : (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً) (سورة النساء: 22)
فزاد جل وعلا (مقتاً ) . و هذا التدبر في القرآن والنظر في الفوارق بين آياته يُضفي على كلامك عندما تنصح أو ترشد علماً جماً.
يعني يورثك قناعة في نفسك هذا مهم جدا أن تنطلق من قناعة عن نفسك ( لأن فاقد الشيء لا يعطيه )
فإذا كان من يتصدر في البحث العلمي وللكلام هو نفسه مزعزع لا يقف على أرضية صلبة, فمحال أن يقتنع الناس به , ومحال أن يملك تأثيراً في القلوب اللهم إلاّ في الضعفاء.
لكن فلتبدأ قوتك من ذاتك ,والحصانة العلمية تعطيك القدرة على التصدر ومعرفة الشيء وإدراكه قبل التفوه به للناس يورثك أرضاً صلبة تقف عليها .
لكن لا تتعجل في كل شيء تسمعه أن تنقله إلى غيرك قبل أن تمحصه , لأنك إن لم تمحصه لم تزل في دائرة التقليد, لكنك إن محّصته وعرضته على عقلك المستند
على شرع الله جل وعلا كنت قوياً حين عرضه حتى لا يرد الناس عليك كلامك.
وهذه هي حقيقة العلم .
وهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده في اللقاء الخامس عشر حول سورة الأنعام
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسني الله وإياكم لباسي العافية والتقوى.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد الله رب العالمين
-
اللقاء السادس عشر الجمعة 16/9/1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم(45/162)
أن الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسُنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد لهُ ولياً مرشدا وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعوه جميعاً لأطاعوه ، وأشهُدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا ... أما بعد ..
هذا أيُها المباركون لقاءٌ يتبع ما سبق من النظر والتأمُل في كلام الله جل وعلا في سورة الأنعام تحديداً وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا تبارك اسمه وجل ثناؤه (وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) واليوم نتدارس قول الله جل وعلا (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{143} وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{144})
هاتان الآيتان على وجه التحديد يلتبس معناها على الناس كثيراً خاصةً إذا قُرأت في صلاة التراويح لأن الناس في هذه الآيات بعض الألفاظ غير الواضحة للعامة لكنها بلا شك واضحةٌ لطُلاب العلم لأن هذا وعدٌ قرآني ({وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }القمر17.. ) على أننا نبدأ بما يلي :(45/163)
نبدأ بالمفاتيح كلمة زوج في اللُغة تُطلق على الفرد الذي هو متعلقٌ بغيره ولا يُقصد بها بالزوج التثنية ولا يُقصد بالزوج التثنية ابتدأً قول الله جل وعلا (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) ليس المقصود منه أن العدد ستة عشر ليس المقصود أن العدد ستة عشر الإشكال يأتي عند فهم هذه الآية أن الناس عندما يقرئون أو يُتلى عليهم صدرُها (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) ينتظرون بعد ذلك أن يكون العدد ستة عشر فالله جل وعلا يقول : ({وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ }النجم45..) فيفهم الناس أنها أربعة لكن ماذا قال جل وعلا بعدها ({وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى }النجم45..) فالذكر لوحده لارتباطه بالأنثى يُقال لهُ زوج والأنثى لوحدها لارتباطها بالذكر يُقال لها زوج فتحصل من هذا زوجين مع أن العدد كلهُ اثنان واضح هذه مهمٌ جداً تحريرها .
فالإبل يُقال للجمل زوج لأنه لابُد له من ناقة والناقة يُقال لها زوج لأنها لابُد لها من جمل واضح واضح هذا ، هذا مهم في العبور إلى فهم الآية ..(45/164)
أما الآية من حيث العموم الله قال قبلها ( وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) هذا إجمال ثم فصل ، كُل هذه القضايا قبل أن نشرع في بيانها لماذا أُتي بها ؟ لأن العرب كان فيه رجُل يُقال له عمرٌ ابنُ لُحي قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلمٌ في الصحيح " رأيت عمر ابن لُحي أخا بني كعبٍ يجرُ قُصبهُ في النار " أي أمعاءهُ هذا عمرٌ ابنُ لُحي كان مكياً أيام ولاية خُزاعة على مكة قبل قُريش وكانت لهم السيادة والإمرة والعرب تقول الناسُ على دين ملوكها على دين سادتها على دين من لهم الشرف والملأ خرج إلى الشام فاتصل بالعماليق ورآهم يعبدون الأصنام ورأى عندهم عادات في الأنعام تلك الحضارة التي بُنيت على ضلال في الشام نقلها عمرٌ ابنُ لُحي إلى مكة فلّما نقلها إلى مكة جاء لناقة فبحرها ـ بحرها بمعنى جدع أنفها ـ فسُميت بحيرة ثم حرّم لبنها ثم جاء للفحل من الإبل مثلاً فإذا طرق الأنثى مراراً وتكراراً حتى توالد منهُ كثير حرّم أكله وسماه حام واضح ثم جاء لبعض بهيمة الأنعام فسيبها أطلقها ومنع الناس من أن يأكلوا منها فسيب السوائب المهم أنهُ أتى بشرائع من عنده مزاجها بحضارة من لقيهم من أهل الضلالة ثم قننها وجعلها شرعاً وقد قُلنا إن التشريع والتحليل والتحريم لا يكون إلا لمن ؟ إلا لله فهذا عينُ الشرك قال الله تعالى ({اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ}التوبة31..(45/165)
) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحللون ما حرم الله فتحلونه فتلك عبادتهم " فأقام حضارة في مكة على هذا المنوال توارثها القُرشيون عنهُ فيأتون لذكر من الإبل أحياناً فيحرمونهُ في مرحلة ويُبيحونهُ في مرحلة ويأتون للأُنثى ويصنعون معها مثل هذا الصنيع ويقولون (مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) هذه الشرائع التي سنوها جاء الشرع بإبطالها رغم أن سورة الأنعام سورة مكية لكن لما كان هذا الخطأ خطأ عقدي لم يُؤجل إلى المدينة لم يُؤجل إلى العهد المدني وإنما جاء التحريم أين؟ في العهد المكي لأن هذا نوعٌ من العقائد والنبي صلى الله عليه وسلم ـ نحنُ درسنا جميعاً في السيرة أنهُ ثلاثة عشر عاماً يبني العقيدة في مكة وهذا حق ـ من العقيدة هي قضية أنهُ لا أحد يملك التحليل والتحريم إلا من ؟ إلا الله هنا إذا فقه المؤمن هذا يفهم لماذا قال الله هذه الآيات ؟ وإلا بعض الناس يقول لولا أنها قرآن لم أفهم شيء لولا أنها قُرآن أعجب من إيرادها في سورةٍ مكية ويقولون لنا أن السورة المكية تُعنى بالعقائد هذا من أعظم ما يتعلق بالعقائد لأنهم شرّعوا وحللوا وحرموا وليس لهم ذلك ، أراد الله بهذه الآية أن يُبطل ما ذهبوا إليه فجاءهم بما يُسمى بالسبر ثم التقسيم بمعنى أنه يُستقصى الموضوع ثم يُبين بُطلان كل شيء فقال الله لهم جُملةً ـ وأنا الآن أشرح الآية جملة ثم أزدلف إلى تفصيلها ـ قال الله لهم جُملةً أنه لا سبيل إلى صحة قولكم لا عقلاً ولا نقلاً : ونبدأ بالنقل .(45/166)
النقل : واحدٌ من اثنين هذا كلام ربنا لهم ـ المعنى ـ إما أن يكون نبيٌ من أنبيائي أخبركم بهذا التحريم هذا أين ذكر الله ذكرها الله في قوله ( نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) أتوني بنبي أنتم لا تألون بأخذ خير الأنبياء فكيف تؤمنون بأنبياء قبلهُ وأصلاً لم يأتكم نبي فلا سبيل انتفى واحد منها وانه لم يأتكم نبيٌ منكم بهذا التشريع الذي ابتدعتموه .
بقيت حالة واحده من ناحية النقل : أنكم أخذتم هذا عن الله مشافهةً وهذه ذكرها الله في قوله جل وعلا (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا) يعني انتفى مسألة أن النبي واسطة بينكم وبين الله لم يبقى إلا أنكم أخذتموه عن الله مشافهةً وهذا لم يقع فانتفى بهاذين الدليل النقلي على ما ذهبتموه .
بقي الدليل العقلي : وهو أن الله جل وعلا قال إن الأنعام ثمانية (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) ثم فصلها قال من الضأن اثنين من المعز اثنين من البقر اثنين من الإبل اثنين فهذه الثمانية لم يُحرم الله جل وعلا شيءً منها ثم ما في بطون لا يخلوا أن يكون إما ذكراً وإما أُنثى ولم يُحرم الله جل وعلا شيءً منها فإن حرمتم ذكراً وجب أن تحرموا جميع الذُكران وأنتم لا تحرمون جميعاً الذُكران تارةً الذكر تُبيحونه وتارةً تحرمونه وإن حرمتم أنثى سواءً كانت في البطن أو خارج البطن خارج الرحم وجب أن تحرموا جميع الإناث لأن الزوج لا يخلوا أن يكون إما ذكر أو أنثى وأنتم تحرمون نوعاً من الأنثى غيره فانتفى بذلك كل دليل لهم عقلياً أو نقلياً على صحة ما ذهبوا إليه ، فلم يبقى إلا شيء واحد وهو أنهم كذبوا على ربهم ومادام كذبوا على ربهم أصبحوا ظلمة والظلمة لا يفلحون ولهذا ختم الله الآيتين بقولهِ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) واضح الآن .(45/167)
هذا جملة يا أُخي ما أراد الله بيانه من قوله (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)
بعد ذلك الآن ننتقل إلى ما كُنا عليه عادةً من السياحة العلمية والأدبية والنظر في الصناعات التاريخية وغيرها في الآية ..
قال الله جل وعلا (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) بيّنا مسألة الذبح (مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ) الضأن الذكر منه يُسمى كبش والأنثى منه تسمى نعجة نبدأ بالنعجة : النعجة يقول بعضُ من لهُ علاقة بمثل هذه العلوم إنها من أكرم الحيوانات على الله بدليلٍ عقلي وهو أن الله ستر عورتها النعجة من أكرم الحيوانات على الله بدليل عقلي لا ننسبُ إلى اله ولا إلى رسولهِ شيء لكن لأن الله جل وعلا ستر عورتها ورد في شعر العرب ذكر تسمية المرأة على أنها نعجة وهذا لم يرد إلا في بيت أو بيتين أي لم يكن شائعاً على الصحيح وهذا تمسك بهِ من يقول إن آية ص ({إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ }ص23..) على أنهُ كان يقصد النساء وعندي هذا بعيد والأصلُ إجراء القرآن على ظاهره والأصلُ إجراء القرآن على ظاهره لا يُمكن لأن بيت أو مثلهُ قيل في الجاهلية على أن النعجة تُطلق على المرأة يُحمل ظاهر القرآن على هذا ، هذا لا يتفق مع سنن فهم القرآن واضح هذهِ النعجة .
أما الكبش : فيُطلق أحياناً على السيد والرئيس يقول عمرُ ابنُ معد يكرم :
نازلتُ كبشهُمُ ولم أرى من نزال الكبش بُدا
هم يُنذرون دمي وأُنذر إن لقيت بأن أشُد
كم من أخٍ لي صالحٍ بوئتهُ بيدي لحدا
ما أن جزعتُ ولا هلعتُ ولا يردُ بُكاي زندا(45/168)
موضوع الشاهد : نازلت كبشهمُ أي سيدهم وفارسهم والقائم على أمرهم فيُطلق على السيد والرئيس وهو الكبشُ ما فدا الله به من ؟ إسماعيل على القول الشائع أن إسماعيل هو الذبيح والله جل وعلا يقول ({وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }الصافات107.. ) وهنا جاء خلاف بين العلماء في قضية أيُ الأضاحي أفضل الكبش أم الإبل أم البقر ؟
مذهب مالكٍ أنهُ الكبش لأن الله أختار أن يفدي به إسماعيل وهذا قولٌ قوي ويدل عليه من السُنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة يُضحي عشر سنين لم يُضحي إلا بالكبش من الضأن واضح هذا كله الكلام عم الضأن ذكراها وأُنثاها .
((45/169)
َمِنَ الْمَعْزِ) المعز التيس معروف ذكراه والعنزُ هي الأنثى منه وقد جاءت العنز في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على أعرابي فأكرمه ـ أي أن الأعرابي أكرم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفره ـ فقال عليه الصلاة والسلام وهو يعلم الأمة في كيفيه رد صنائع المعروف قال للأعرابي " تعاهدنا " أأتنا يعني إن جاءت فرصة تأتي المدينة تعال حتى نُكرمك قُدّر للأعرابي أن يدخل المدينة فاحتفى به صلى الله عليه وسلم وقال له " سلني حاجتك " ثقافة الأعرابي محدودة والعلم والإيمان عندهُ لم يكُن بذلك الشأن لبعُده على موطن العلم فقال أعنُزاً يحلبُها أهلي فقال صلى الله عليه وسلم " عجز هذا الأعرابي أن يكون كعجوز بني إسرائيل " قالوا : يا رسول الله وما عجوز بني إسرائيل ؟ فقال عليه الصلاة والسلام " إن موسى لما أراد أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر قال لهُ علمائُها إن يوسف أخذ علينا العهد اتفاقاً إذا خرجنا أنّ نخرجه معنا ـ مع أن يوسف وقتها ميت ـ قال ومن يدلني على قبر يوسف قالوا لا يعرفهُ إلا عجوزٌ في بني إسرائيل فأتى موسى عليه السلام إلا تلك العجوز قالت لا أدلك حتى تؤتيني سؤلي أو شرطي قال وما ٍسُؤلك ما شرطُكِ قالت أن أكون مرافقتك في الجنة " فالنبي عليه الصلاة والسلام ضرب هذا كمثل واقعي على أن الإنسان يجب أن ترتفع همتهُ كما ارتفعت همة عجوز بني إسرائيل وهذا الأعرابي لبساطته وقلت علمه لم يكن يطلب إلا أعنُزاً يحلبُها أهلهُ .
قال الله تعالى ( وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ)
والله جل وعلا لم يحرم لا الذكر من الضأن ولا الذكر من المعز ولا الأنثى من الضأن ولا الأنثى من المعز .
((45/170)
أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ) وليس في الرحم إلا ذكر أو أنثى (نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) هذا بيّنا أنها دليل نقلي ممتنعٌ عندهم أنهم لم يكن لديهم نبي يأخذون عنه علما .
ثم قال الله جل وعلا : (وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) الإبل لا مفرد لها من جنسها والذكر منها يُسمى جمل والأنثى منها تسُمى ناقة وقد مرّ معنا في اللقاء الماضي أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ناقة تُسمى القصواء وحررنا الحديث عنها .
قال الله جل وعلا (وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) والبقر الثور ذكرهُ والبقرةُ أُنثاه وهناك سورة في القرآن عظيمة جليلة تُسمى سورة البقرة ، ومن تدبر القرآن إجمالاً ولم أنتهي من هذا نهايةً تامة لكن غالبُ الظن أن الحيوان إذا ذُكر في سورة تُسمى السورة به غالبُ الأمر أن الحيوان إذا ذُكر في سورةٍ تٍُسمى السورة به فالبقرة مع أن البقرة لم ترد إلا في آياتٍ معدودات في سورة البقرة على طول السورة ، العنكبوت لم ترد إلا في آية ({مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }العنكبوت41..) والفيل سُميت به سورة ، والنحل لم يرد إلا في ({وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً }النحل68..) فسُميت سورة النحل بسورة النحل ومثل هذا يعني يوجد غيره لكن هذه الأربع شهيرة بأن القرآن إذا ذكر حيوان في سورة أن السورة غالباً تُطلق عليها ذلك الاسم .(45/171)
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثور في الحديث في أشراط الساعة في أنه يرتفعُ ثمنه ويقل ثمن الخيل لأن الأرض يعُمها الإيمان فلا حاجة للجهاد وما دام لا حاجة للجهاد فالناس في نعيمٍ يأكلون ويطعمون أكثر مما يركبون فلا حاجة لشراء الخيل فيقل تهافت الناس عليها وشرائها ويقلُ ثمنها ويتهافت الناس ـ تهافت قد لا تكون كلمةً محمودة ـ ويتسابق الناس على شراء ما يطعمون فيرتفعُ ويغلوا ويصيب الغلاء ثمن الثور هذا أرشد له النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى (وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(45/172)
نعود إلى كلمة ثمانية ، كلمة ثمانية غالباً ما تُقال في الأشياء المعدودة والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبواب الجنة ثمانية بحين أن أبواب النار سبعة كما هو معلوم ، الخليفة العباسي المعتصم ارتبط هذا الرقم به كثيراً فأيُ صاحب صنعة تاريخية إذا ذُكر لهُ اسم ثمانية يتذكر الخليفة العباسي المعتصم ، المعتصم ثامن أولاد الرشيد وثامن خلفاء بني العباس وحكم ثمانية سنين وثمانية أيام وثمانية أشهر وولد في بُرج العقرب والعقرب ثامن ثامن ماذا؟ ثامن البروج ولد في برج العقرب وهو ثامن البروج وخلّف ثمانية ذكور وثمانية إناث وكان عمره عندما مات ثمانية وأربعين سنة فرقم ثمانية تعلق بحياته تعلقاً غريباً بقدر الله وفي اليوم الذي مات فيه كان قد بقي على نهاية شهر ربيع ثمانية أيام أي لثمانية أيامٍ بقين من شهر ربيعٍ الأول وهذا كلهُ يدل على أن هذا الرجل سُمي بالمٌثمن والمثمَن لارتباطه برقم ثمانية قال دعبل ـ دعبل خزاعي هذا ـ هجا ، كان على خلاف طويل مع المعتصم فقال دعبلٌ يهجو المعتصم :
ملوكُ بني العباسِ في الكُتب سبعةٌ */* ولم تأتنا عن ثامنٍ لهمُ كُتبُ
كذلك أهلُ الكهف في الكهف سبعةٌ */* خيارٌ إذا عدُو وثامنهم كلبُ
وإني لأعلي كلبهم عنك رتبُةً */* لأنك ذو ذنبٍ وليس لهُ ذنبُ
هذا ما قالهُ دعبل الخزاعي في هجاء المعتصم هذا يدخلنا على قضية الشعر السياسي ولا أدري هل بقي في البرنامج وقت أو نُؤجلهُ إلى بداية اللقاء القادم.(45/173)
المهم أن دعبل هذا كان خُزاعياً أصابهُ الغبن لأن بني العباس وهم يريدون أن ينزعوا الخلافة من الأمويين كانوا يدعون إلى الرضا من آل البيت دون تحديد فلما آلت الخلافة إليهم نحّو أبناء علي وجعلوها في أبناء العباس بُحجة أن أبناء العمومة يعني النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أبناء البنت لأن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصاب العلويين عموماً بالحنق ومن أشهرهم من والاهم دعبل هذا الذي هجا المُعتصم وأهدر دمه وأخذ يدور في الفيافي والشيعة يعظمون دعبلاً تعظيماً شديداً متأخر الشيعة الذين عاشوا في عصر بني العباس يعظمون دعبلاً تعظيماً شديداً لما قاله من أبيات في مدح آل البيت وهو القائل:
ديارُ عليٍ والحُسين وجعفرٍ */* وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ
أرى فيئهم في غيرهم متقسماً */* وأيديهمُ من فيئهم صفراتِ
بناتُ الزيات في القصور مصونةٌ */* وآلُ رسول الله في الفلواتِ
ألم ترى أني من الثلاثين حجُةً */* أروح وأغدو دائما الحسراتِ
وكوفئ على هذه القصيدة هذا قلنا يفتح إلى باب ما يُسمى بالشعر السياسي وأول من فتحهُ قبلهُ الكُميت الأسدي في مدحه للآل البيت واحتجاجه على بني أميه بأن الحُكم يُمكن أن يُورث وهذا إن شاء الله تعالى نُبقي على هذه الآية نفتتح بهِ اللقاء القادم ثم نُتم قول الله جل وعلا (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً)
إلى ذلك إن شاء الله نقول هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ..
اللقاء السابع عشر 17 / 9 / 1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم(45/174)
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جامع الناس ليوم لا ريب فيه .. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من اتبع منهجه وأقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها المباركون : مازلنا في سورة الأنعام وكنا قد تحدثنا في اللقاء الذي سبق عن قول الله جل وعلا : {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (143 سورة الأنعام)
وقد بينا حينها أن من المهم أن تفهم أن الزوج هنا بمعنى الفرد الذي لا انفكاك له عن غيره وأنه لا تحصل من هذا ستة عشر فردا وقد حررنا هذا يوم أمس تحريرا أرجوا أن يكون وافيا ثم انتقلنا إلى قضية الضأن والمعز وقضية الإبل والبقر وحررنا الذكر والأنثى فيها وعلقنا على فوائد لغوية بعد أن حررناه شرعا وذكرنا عمرو بن لحي وقلنا أن الثمانية عددٌ يُتفاءل به والدليل على ذلك أن أبواب الجنة ثمانية ثم تطرقنا إلى قضية المعتصم خليف الخليفة العباسي المعروف وانه ثامن خلفاء بني العباس وأنه كان على نزاع مع شيعة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأن دعبلا الخزاعي قال فيه :
ملوك بني العباس في الكتب سبعة */* ولم تأتنا في ثامن منهم الكتب
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة */* خيار إذا عدوا وثامنهم كلب
هذا ماحررناه بالأمس وقلته الآن سردا على عجل لأني انتهيت إلى قضية الشعر السياسي قبل أن أدخل في قول الله جل وعلا :
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ }(45/175)
نقول والله المعين الكميت الأسدي له شعر يسمى بالهاشميات قالها في بني هاشم جملة قبل أن ينقسم الناس إلى آل علي وآل عباس لأن هذا مُتقدم في دولة بني أمية يقول الجاحظ الأديب المعروف يقول إن الكميت ـ طبعاً أخذنا الوسادة دليل لتحمس ـ إن الكُميت فتح للشيعة باب الاحتجاج بالشعر قال :
طربتُ وما شوقاً إلى البيض أطربُ */* ولا لعباً مني وذو الشيب يلعبُ
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى */* وخير بني حواء والخير يُطلب
بني هاشم رهط النبي فإنني */* بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
ثم أتى في قضايا الجدل :
يقولون لم يورث ولولا تراثه */* وقد طمعت فيه بكير وأرحبُ
إلى أن قال عجز بيت :
فإن ذوي القربى أحق وأقرب
وهذا هو شطر البيت الذي تتمسك به الشيعة في حق علي رضي الله تعالى عنه بالخلافة و صدره :
فإن هي لم تصلح لحي سواهم */* فإن ذوي القربى أحق وأقرب
يعني يقول لبني أمية أنتم تقولون أن الإمامة في قريش وأخذتم الحكم من هذا الباب فإن كانت الإمامة في قريش ، لماذا في قريش ؟ قالوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم من ماذا ؟ من قريش فيجب أن يكون الحكم والإمامة في قريش فالكميت من أي أتاهم ؟ أتاهم من نفس دليلهم ..(45/176)
قال لو كان هذا صحيح وأن الأئمة في قريش لأن النبي من قريش إذا هي في بني هاشم أولى لأن النبي من قريش عامة ومن بني هاشم خاصة فسُميت هذه القصائد بالهاشميات وهذه الثغرة فتحها الكميت على مصراعيها شعرا للشيعة لأن يحتجوا على غيرهم بأحقية بني هاشم في الخلافة لكن الرد يكون ،، من احتج عليك بدليل عقلي رده أولا للنقل لأنه لا مقام للعقل مع النقل في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأئمة من قريش نعم لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ودلوا بالقرآن والسنة من حيث الإجمال لا من حيث النص على أحقية الصديق رضي الله عنه بالخلافة واضح ؟ هذا أشبه بالنقل لأن الله قال {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } من الذين أنعم الله عليهم ؟ الله يقول :{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم } من يا ربنا الذين أنعمت عليهم { مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } النبوة انتهت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ندخل في أي باب ؟ الصديقين وقد اتفقت الأمة على أن صديقها الأكبر أبو بكر فتقديم أبو بكر هنا بموجب القرآن واضح ؟ بموجب القرآن{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } لا يعدل الإنسان عنه بل ندعو الله سرا وعلانية نقرأ الفاتحة نطلب من الله أن يدخلنا في صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ } والله يقول {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم} ونحن لا ندري من هم الذين أنعم الله عليهم لكن ربُنا حدد {مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} 69) سورة النساء فجعل الصديقين بعد الأنبياء وأبو بكر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم سماه صديقا و ولاه الصلاة أيام حياته فصلى أبو بكر بالناس والنبي صلى الله عليه وسلم حي فلم ينكر الرسول لماذا لم ينكر ؟ لأنه لم ينزل شي من(45/177)
القرآن ينكر فما أقره الله أقره رسوله ولما أقره الرسول أقره الصحابة وقبلوا ثم بدهي بعد ذلك أن يُسند الأمر إليه رضي الله عنه وأرضاه فبطلت حجة الكميت هنا على الناس لكن حجته على بني أميه صحيحة واضح ؟ من باب الإنصاف ..
قلنا إن الكميت هذه القصائد تسمى بماذا ؟ بالهاشميات على منوالها في عهد بني العباس ظهرت الكافوريات ما الكافوريات ؟ قصائد قالها المتنبي في مدح كافور الإخشيدي تعلم أن المتنبي ظهر شأوه وعلا كعبه في بلاط سيف الدولة لكن كثرة الحساد وهذه سنة الله في خلقه ما يظهر أحد إلا يكثر حساده فيلزمه التغريب ( الخروج ) كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فخرج المتنبي من بلاط سيف الدولة بعد أن قال :
واحر قلباه ممن قلبه شبم */* ومن بجسمي وحالي عنده سقم
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي */* وتدعي حب سيف الدولة الأمم
إن كان يجمعنا حب لغرته */* فليت أنا بقدر الحب نقتسم
ما أبعد العيب و النقصان من شرفي */* أنا الثريا و ذان الشيب و الهرم
الخيل والليل والبيداء تعرفني */* والسيف والرمح والقرطاس والقلم
يقولون أن المتنبي حكيم !!! وأنا أقول والله ما عنده من الحكمة ذرة !! حكيم في أقواله ليس حكيم في أفعاله .. يمُدح المتنبي بأنه حكيم !! حكيم في نفعه للناس !! لكن لم ينفع نفسه أي ملك هذا أو أي والي أو أي أمير الذي يقبل أن يأتي شاعر يجلس على الكرسي ليس واقفا ويقول أمام الملك أمام الوالي أمام سيف الدولة أمام السلطان أمام الأمير :
الخيل والليل والبيداء تعرفني */* والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ما أبعد العيب والنقصان من شرف */* أنا الثريا وذان الشيب والهرم
صحبت في الفلوات الوحش منفردا */* حتى تعجب مني القور والأكم(45/178)
ثم يريد منه أن يبقيه ويعطيه ولاية إذا قال هذا وجلس واستكبر أن يقف وهو شاعر كيف لو أصبح أميراً ؟! فلا يُعقل أن ذا سلطان يقبل أن ينازعه أحد فلم يكن سيف الدولة ليتحسر على فراق المتنبي له لأن المتنبي أضر بنفسه عندما أعلا نفسه أمام سيف الدولة فوجد الحساد مدخلا على شخصيته واضح ؟ خرج إلى مصر مدح كافور الأخشيدي ولم يكن كافور إلا مثل سيف الدولة في الذكاء مدحه مدحه ينتظر الولاية
أبا المسك .. هذه كنية كافور
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله */* فإني أغني منذ حين وتشرب
يعني ما استفدت شي أنا أمدحك ولم تعطيني ولاية وبقي على هذا حتى ترك كافور الذي يعنيني أنا هنا تشبيها بالهاشميات الكافوريات .
هنالك الروميات هذه لمن ؟ لأبي فراس الحمداني قالها في أسره في الروم ، أسرته الروم فقال قصائد سميت بالروميات لأته قالها في أسره أين ؟ في الروم
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر */* أما للهوى نهي عليك ولا أمر
وقال أصحيابي الفرار أو الردى */* فقلت هما أمران أحلاهما مر
إلى أن قال :
سيذكرني قومي إذا جد جدهم */* وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
أطنبنا كثيرا في الأدب وإن كان هذا غير لائق أمام كتاب الله لكن أنا أريد أن أفتق أذهان نعود الآن على قول الله جل وعلا :
{قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (145) سورة الأنعام
من هذه الآيات يفهم ما يلي :
يمكن تقسيم الحيوانات فقهيا من حيث أكلها حلاً وحُرمه إلى ثلاثة أقسام : ـ هذه أكتب لزاما ـ .
1- قسم حلال طيب حيا وميتا وهو طعام البحر والجراد .(45/179)
2- قسم حرام سواء ذُكي أو لم يُذكى ـ ( طبعا نتكلم عن الأحياء من الحيوانات الآن ) ـ وهو كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير بين قوسين ( على قول الأكثرين من أهل العلم ) احتياطا ، وكل ذي مخلب من الطير لأن هذا ليس عليها إجماع لكن هذا نعتقده نحن لذلك أدخلناه في التقسيم .
3- قسم حلال إذا ذُكي تذكية شرعية . وهو بهيمة الأنعام وما سواها من الحيوانات غير الخبائث المتفق على فسقها وتحريمها .
هذا تقسيم فقهي انتهينا من الصناعة الأدبية مازلنا في الفقهيات طبعا الآية واضحة جدا {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } لا نحتاج أن أتكلم عن معاني الكلمات نأخذ تقسيم آخر ذكر الله جل وعلا هنا الدم وقيده بأنه مسفوح معنى دم مسفوح أي دم مُهراق لكن نقول وردت كلمة الدم ـ أكتب ـ وردت كلمة الدم في اصطلاح الفقهاء ويعبرون بها عن الذبح كمثلاً : يقولون لمن ترك واجبا في الحج عليك ماذا ؟ أجيبوا .. عليك دم .. هذا الاصطلاح يمكن تقسيم ما يؤكل منه وما لا يؤكل منه إلى قسمين :(45/180)
1- دماء يجوز بل يُستحب الأكل منها ـ حتى نُلزمك يجوز هذه عشان تعرف أنه ما هي ملزمة فيُستحب واضح ـ مثل . ـ هذه عندكم مثل ماذا؟! ـ ذبائح يذبحها الإنسان مثل الأضحية ، العقيقة ـ باقي !! أتكلم في الأشياء الشرعية المحضة ـ. دم القران أو هدي القران ، وهدي التمتع ،، القران والتمتع من باب أولى هدي ماذا ؟ من باب أولى هدي .. ـ حاولوا !! خرجنا الآن عن النمط الحقيقي للدرس ! ـ إذا هدي القران وهدي التمتع وهما واجبان يجوز الأكل منهما فمن باب أولى هدي ... ؟ ـ عفا الله عنكم ـ إذا هدي القران واجب وهدي التمتع واجب فإذا هدي القران وهدي التمتع يجوز الأكل منهما ويستحب فمن باب أولى هدي ....؟؟ أنا قلت واجب ما ضده ؟؟ عفا الله عنكم هدي التطوع إذا كان ما أوجبه الله علي من هدي كالقران والتمتع يجوز الأكل منه فمن باب أولى إنسان حج مفردا ليس عليه هدي لكن أراد أن يتطوع له أن يتطوع فإذا كان هدي القران والتمتع وهما واجبان عليه لمن كان متمتعا أو كان قارنا ولا يجتمعان فمن باب أولى أن يكون يجوز الأكل من هدي التطوع واضح الفكرة ؟
هذا الدم الذي يجوز الأكل منه .
الآن ننتقل الدم الذي ثانياً : 2- الدماء التي لا يجوز الأكل منها ، دم ترك الواجب ودم فعل المحظور والعلة في ذلك : أنها تجري مجرى الكفارات ـ طيب ندخل في الفقهيات مازلنا في الفقهيات قلنا الآن ـ أن الدماء التي لا يؤكل منها دم ترك الواجب ودم فعل المحظور الفرق بينهما في الوجوب :
أن دم ترك الواجب لا يجوز الانتقال منه على غيره إلا إذا لم تجد .
أما فعل المحظور فأنت مكلف به على التخيير لا على الوجوب. واضح ؟(45/181)
يعني نأتي بمثال : إنسان احرم من غير ميقاته أنا من المدينة ميقاتنا ذو الحليفة تجاوزتها عمدا أو نسيانا ولم أستطع أن أعود إليها فأنا تركت واجبا أي أنني لم أحرم من ميقاتي ترك الواجب هنا ما الذي يترتب عليه ؟ دم هذا الدم لا خيار لي عنه فإن عجزت لقلة مادة انتقلت إلى صيام عشرة أيام واضح ؟ وأخذها العلماء من هدي التمتع واضحة الفكرة الآن ؟؟ أحرمت من ذي الحليفة فأنا لم أترك واجبا لكنني في الطريق اشتكيت من صداع في رأسي فوضعت على رأسي غطاء فغطاء الرأس محظور من محظورات الإحرام هنا لا نقول انه يجب عليك لزاما دم وإنما نقول أن الدم واحد من خيارات ثلاث ما هما ؟
الخيار الأول : الدم .
الخيار الثاني : الصيام ثلاث أيام .
والخيار الثالث : إطعام ست مساكين .
واضح ؟ فظهر هناك فرق جلي مابين الدم الذي ينجم عن ترك واجب والدم الذي ينجم عن فعل محظور واضح ؟
نعود لآيتنا المباركة {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} يعني آكل {يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} الميتة : ما مات حتف أنفه حرمه الله ويدخل في المنخنقة والموقوذه والنطيحة كلها تدخل في الميتة ، قال الله ( أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) لحم خنزير هنا تسميته ببعض أجزائه وإلا المقصود الخنزير كله لحما وشحما وغيرهما والخنزير حيوان معروف عياذا بالله حرّمه الله جل وعلا وإن كان شائعا أكله في بعض البلدان عياذا بالله هذا الخنزير الصغير منه يسمى خنّوص تسمعون بالنقائض مابين جرير والأخطل ، الأخطل كان شاعرا نصرانيا تغلبي القبيلة وكانت بينه وبين جرير نقائض أي شعر يهدم كل منهما ما قاله الآخر فكانت الثغرة في شعر الأخطل أوفي شخصية الأخطل على تعبير أوضح هي أنه نصراني فكان جرير يتعمد قدحه بدينه أي بالنصرانية وله عجز بيت يقول :
لحم الخنانيص يغلي فوقه السُكَرُ(45/182)
يعني أنتم تعيشون على لحم الخنانيص على لحم صغار الخنازير وهذا تعيير .
ما كان يرضي رسول الله فعلهم */* والطيبان أبو بكر ولا عمرُ
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرضيه ولا أبو بكر ولا عمر صنيع تغلب وهذه إقحام أبو بكر وعمر لأجل القافية يعني من يعرف الصناعة الشعرية يجد أن جريرا دفعه إليهما القافية الذي يعنينا أن الخنوص صغار الخنازير وكان النصارى يُعيرون بها وقد جاء في الحديث أن عيسى ابن مريم عندما يأتي يكسر الصليب أو ينزل يكسر الصليب ويقتل الخنزير قال الله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ } أي أهل لغير الله به أي لم يذبح لله أو لم يذكر عليه اسم الله ..
ثم قال ربنا {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا من رحمة الله بعباده أن مواقف الاضطرار لا تجري عليها أحكام مواقف الاختيار فحالات الضرورة لها أحكامها والضرورات تبيح المحظورات كما أن الواجب يسقط مع العجز وهذا كله من رحمة الله جل وعلا بعباده .. جعلنا الله وإياكم من أولياؤه ..
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده حول قول الله تعالى في سورة الأنعام {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا }
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ..
اللقاء الثامن عشر والأخير من سورة الأنعام 18 / 9 /1428 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم(45/183)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهُد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ ربُ الأرض والسماوات وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمدٌ عبدهُ ورسوله صلى الله عليه وعلى آله و أصحابة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد أيُها المباركون ..
لئن كانت الصناعة النحوية والتاريخية والفقهية ألقت بظلالها فيما سلف من لقاءات فإن الصناعة الإيمانية ـ إن صح التعبير ـ تُلقي بظلالها على ما نحنُ بين أيديه اليوم من آيات قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين : {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{151} وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{152} وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{153}}(45/184)
في هذه الآيات الثلاث ذكر الله جل وعلا فيهن أمُهات الفضائل وأُصول الرذائل فأصول الرذائل ذُكرت لنجتنبها وأُمهات الفضائل ذُكرت ولو بمفهوم المخالفة حتى نتبعها وخُتمت هذه الآيات بأنها وصايا من رب العالمين جل جلاله لعبادة وتضمنت كل ما فيه تهذيب النفوس وتزكيتها ولو كانت سورة ألأنعام سورةً مكية كذلك لا يعني أبداً أن القرآن أغفل تزكية النفس وتهذيبها في أيام المجتمع المكي خاصةً وأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث بين قومٍ كانت الضلالة قد ضربت أطنابها في حياتهم وعلى مسيرة حياتهم الاجتماعية خاصة فجاء القرآن كما بينّا يأتي بأمهات الفضائل ليتبعها الناس وأصول جوامع الرذائل ليتركها الناس ويحذرُها.
هنا سنتكلم إطلالة عامة لن نتكلم آيةً آيةً أو لفظةً لفظة أو حرفاً حرفاً لأن المسائل هنا ظاهرة بينة ليست وصايا فقهية استغرق فهمها تحتاجُ إلى تحرير وذكر أقولٍ لُلعلماء وأئمة المحاريب وإنما هي وصايا ظاهرة بينة من رب العالمين جل جلالة .
الشركُ بالله أعظم الذنوب وأجلُها وأكبرُها " قال أيُ الذنب أعظم قال أن تجعل للهِ نداً وقد خلقك " وهو من أعظم سوء الأدب مع رب العالين جل جلالة ومن عرف الله حق المعرفة لم يُشرك مع الله مثقال ذرة يحبطُ به العمل ويُلفى به العبد ويُحرم به دخول الجنة أبد الآبدين ولذلك صدره الله جل وعلا.
الوالدان جعلهما الله سببٌ في وجودك وعظم الله جل وعلا حقهما ومن تعظيم الله تعظيم من عظمة الله جل وعلا .
سوء الظن بالله والخوف من الفقر لا ينبغي لمؤمنٍ أن يتحلى به ولهذا قال الله { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق }.(45/185)
حرم ربُنا جل وعلا الفواحش ما ظهر منها وما بطن والناس في زماننا والعياذُ بالله صُرفوا إلى الفواحش ، التقنية الحديثة ساعدتهم في توثيق ما يسمعون فيلجئون إلى حدثٍ من الفتيان أو إلى فتاةٍ من الفتيات فينتهزون من مؤمنٍ غر أو مؤمنةٍ غرّة خطأً وقعوا فيه فيوثقونهُ ثم يجعلون من ذاك التوثيق سواءً كان تسجيلاً صوتياً أو تصويراً يُعرض يجعلونهُ سبيلاً إلى تكرار تلك الفاحشة يهددون به من وقع في زللٍ أو خلل من المؤمنين وهؤلاء الذين يجنحون إلى هذا إضافةً إلى دلالة شبه انتفاء الإيمان منهم إيمانهم ضعيف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن " هؤلاء كما أن صنيعهم هذا يدلُ على أنهم ضعفت إيمانهم ويقينهم يظنون أنهم أحكموا الصنعة وتناسوا أن هُناك ربً رقيباً لا يخفى عليه شيء ، لماذا قدم الله النهي عن الشرك ؟ لأن التوحيد من أعظم ما يغرس في القلوب تعظيم الله ، ومن تعظيم الله أن تتذكر أن الله رقيبٌ عليك فأصحابُ هذا المنحى عياذاً بالله يتناسون هذا ويتناسون بطشه وجبروته وعظيم انتقامه وسنذكر الآن قصةً وقعت ذكرها الشيخ صالح الخضيري في كتابة العبر في حوداث الدهر وهو أنه قبل 52عاماً تقريباً من عامنا هذا أي عام 376هـ للهجرة بعد الثلاث مئة تقريباً في إحدى أقاليم بلادنا المباركة كان هناك مطرٌ غزير استمر أياماً حتى تعطلت مصالح الناس وقصروا عن الذهاب والإياب والبيوت يوم ذاك في ذلك الإقليم كان أكثرُها من طين فخاف أهلُها أن تسقُط عليهم ففروا إلا قليلا وخرجوا من بيوتهم ، يوجدُ أحدُ الناس احتاج إلى مال فذهب إلى جاره يستقرضه فلما دخل على جاره كان الرجل طيب النفس ـ أي الجار ـ سليم السريرة سألهُ مالاً وكان مريضاً فرفع الوسادة وأخرج صُرةً فيها جنيهات وأعطاهُ ما احتاجه وطلبه ثم رد الوسادة على الصُرة هذا الطالب المُقترض كان خبيث الطوية فطمع في المال فلما جاء الليل وحل الظلام وأمسى الناس تسور(45/186)
البيت ولا حاجة لأن يتكلف في تسوره فالمطر ينزل والبيوت من طين ثم جاء فوجد صاحبهُ نائماً وزوجتهُ معهُ وطفله رضيعة لهما على الفراش فأحكم الصنعة وحمل الطفلة بلحافها وغطائها و وطائها ووضعها في فناء الدار ـ تُسمية العامة حوش ـ وضعها في فناء الدار والمطر ينزل تنحى قليلاً واختفى وكان يُؤمل أن يزداد تساقُط المطر فتستيقظ الطفلة فتبكي فتسمعها الأُم فتأتي إليها فيخلوا الوضع فيأتي هو للوسادة والرجلُ مريضٌ نائم فيأخُذ المال ووقع كما رسم استيقظت الطفلة أخذت تبكي وتوالى بُكاءها استيقظت الأُم لكن الأم تعجبت من أن الطفلة ليست قادرةً على المشي كيف انتقلت إلى فناء الدار وزادها خوفاً أنها لم تجد وطاء ولا لحاف ولا فراش ابنتها تقول في نفسها لو قدرنا أن الطفلة تقلبت وهذا قد يُعقل أن يحدُث لكن ما الذي ذهب بالغطاء والفراش إلى هناك فازداد خوفها وأيقظت زوجها فلما أيقظتهُ قال لها اذهبي الآن إلى الطفلة فقالت لهُ وعبرت لهُ عن خوفها وأصرت أن يذهب معها فقام يتمالك نفسهُ ولم يكن به كسر إنما مرض حمى فقام وخرج مع زوجتهِ يبحثان عن البنت لما ذهبا إلى فناء الدار جاء هذا الذي خبُثت نيتهُ وقد خلا لهُ الأمر فرفع الوسادة وأخذ الصُرة وقبل أن يخرج سقط البيت كلهُ عليه فنجا الثلاثة بقدر الله وانتقم الله منه فتأمل أيُها المُبارك عظيم القُدرة وعظيم اللُطف في آنٍ واحد ، نجّا الله بعض أولياءه بلُطفهِ وبنفس القضاء جل وعلا واللهُ عزيزٌ ذو انتقام انتقم الله جل وعلا من شخصٍ آخر نحنُ لا نقول أن هذا الرجُل كافر أو غيرُ كافر الأصل أنهُ مسلم ونعلم أن هذا الذنب لا يُخرج من الملة فلا نتكلم عن عقاب أُخروي فلا نُكلف أنفُسنا ما لا تطيق لكن نقول إن هذا عبرة لمن يعتبر ومن يتعرض لحياة الناس ومن يتعرض لمظالم العباد ومن يشتغل بأنهُ لو ملَك صوت فتاةٍ أو صورتها أو صورة حدث أو صورة عورةٍ مكشوفة أنهُ يستطيع أن يساوم بها جنسياً أو مالياً أنهُ(45/187)
قادر وقد تسلط قد يكونُ خصمُك ضعيف جداً لكن هناك قويٌ عزيز جليلٌ عظيم لا تخفى عليه من عبادهِ خافيه { إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }إبراهيم47.. ، فتأمل في الخبر الذي سُقناه .
أما كيف عرف الناس هذا الأمر فإنهُ لما سقط البيت فزع الجيران وهم لا يشكون لحظةً أن صاحبهم وجارهم قد هلك لكنهم وجدوهم الثلاثة مُجتمعين خارج الدار حتى قال الشيخ صالح الخضيري في كتابهِ أن بعض الجيران قالوا أن الملائكة نجتكم ، هم لا يدرون عن الصاحب الأول فهنئوهم بالسلامة وقالوا إذا أصبحنا وطلع النهار نحملُ الأنقاض التي سقطت ونُخرج المتاع والأثاث فلما استيقظوا صباحاً وطلع النهار كان هناك شيء من الضوء وإن كانت الشمس محجوبة بالغيوم فلما حملوا الأنقاض إذا بذلك الرجل الجار الذي يعرفونهُ ميت وفي يده الصُرة فهو أحكم الصنعة لكنهُ نسي قُدرة الجبار جل جلالة .(45/188)
فمثلُ هذه الآيات التي تحملُ وصايا إلهية وتحمل توجيهات ربانية ويقول الله في خاتمتها { ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ } يجبُ أن يُصغي الإنسانُ لها قلبهُ قبل أُذُنه فنحنُ لا بأس نُعرج في بعض تفسيرنا على قضايا فقهية على قضايا تاريخية على قضايا أدبية لنُدلّل أن القرآن عظيم ولأن كُل العلوم تفيء إلى القرآن ، لكن تبقى آيات لا يحلُ لمؤمنٍ أن يقرأها أو يسمها أو تُتلى عليهِ في صلاةٍ أو غير صلاة ثم يمُر كأن لم يسمعها ينبغي أن تُؤثر فيهِ ويحذر ، فإذا أُخبرت بخبرٍ كالقصة التي سردناها نقلاً فتذكر ما ذكره الله جل وعلا في كلامهِ في كتابهِ العظيم من إهلاكٍ للأُمم قد خلت وقرون قد سبقت نازعوا ربهم فأوردهم الله جل وعلا طريق الثبور و الوبار والهلاك قال الله جل وعلا عن تلك القُرى { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ }هود100 .. فما كان حصيداً دلّ على قوتهِ وما جعلهُ الله جل وعلا قائماً حتى يتعظ غيرهم بهِ قال ربُنا :{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ }الحجر76 .. أي في طريقٍ قائم يرآهُ من ينظرُ بعيني بصيرتهِ قبل أن ينظُر بعيني بصرة .
والمقصود الاتعاظ من كلام الله جل وعلا والخوف منه وأن الإنسان لا يجعل حياته ومسيرهُ معلقة بالخلائق وإنما يجعلها معلقة بربهِ تبارك وتعالى .
فأنظُر إلى لُطف الله بذلك الرجل وزوجتهِ وابنتهِ كيف أن الله جل وعلا جعل من أراد بهم مكرا سبيلاً إلى نجاتهم ومن أراد ما حرم الله بطريقةٍ حرّمها الله كيف أوردهُ الله طريق المهالك وعلى هذا قد يغترُ بعض الناس لأنهُ قد يصنع الأمر تلو الأمر ولا يقع لكن الله جل وعلا يقول {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ }إبراهيم42 ..(45/189)
فالربُ تبارك وتعالى عظيمٌ جليلٌ ذو قُدرة وفي نفس الوقت لا يلزم إن شاء الله تعالى ولله الحمد على فضلهِ لا يلزم أن تكون رجُلاً ذو شر متلبس بالفواحش يعني قد تُبتلى أنت بنوعٍ من الابتلاءات في جسدك أو في مالك فتيقن أن الله لطيف وأن الله تبارك وتعالى لا ينفكُ قدرهُ من لُطفهِ قال الله على لسان نبيه يوسف : {إن الله لطيف لما يشاء }فالله تبارك وتعالى يجتمعُ لطفهُ وقدرهُ في آنٍ واحد فيُعلق الإنسان قلبهُ بالله ويبني على تعلقهُ بربهِ أمالاً عظيماً وحُق له لأن من فتح الله عليه وتولاه هذا لا يمُكن أن يخسر أو يحبط شأنهُ ولهذا الإنسان وهو في صلاة الليل إذا ـ في رمضان أو في غيره ـ إذا سمع الإمام يدعو أو هو دعا إذا صلى لوحده [ اللهم تولني فيمن توليت ] يستشعر معنى تولني فيمن توليت وأنهُ يعلم أن الله جل وعلا إذا تولاك لا يُمكن أن تُخذل أبداً لأنهُ ليس بعد ولاية الله ولاية .
والعاقلُ يستصحب في دُعاءهِ أن يقول [ اللهم إنس أسالُك رضاك فلا يضرُ مع رضاك سخطُ أحد وأسألكُ ولايتك فلا يذلُ من واليت وأسألكُ خيرتك فإنهُ لا يعلمُ الغيب والشهادة إلا أنت ] فإذا كان الله جل وعلا منحك رضاه وأعطاك ولايتهُ وأختار لك فحُق لك بعد ذلك أن تسير غير مُبالٍ بما يكون وراءك أو حولك أو أمامك ،، من أين تُؤتى وقد تولاك الله ، ومن أين تهلك وقد اختار الله لك ، وأيُ شيءٍ تخافه وقد رضي الله عنك فهذه أمور يحسنُ للمؤمن التقي النقي الذي يُريدوا ما عند الله أن يستصحبها ليل نهاراً غدواً ورواحاً سفراً وإقامة .
قال الله جل وعلا فيما ذكرهُ في هذه الآيات { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}(45/190)
العدل وإنصافُ الناس مما أمرنا الله جل وعلا بهِ وقد ذكروا أن علياً رضي الله عنهُ وأرضاه فقد درعاً حُطماً لهُ يوم صفين فلقيها يهودي فلما رآه عليٌ بعد المعركة مع اليهودي طلبها منه فأنكر اليهودي فاحتكما إلى شريحٌ القاضي أمير المؤمنين ورجلٌ يهودي فقال شريحٌ لعلي هل معك من شهود أُريدُ شاهدين فقال نعم ابني الحسن وغلامي وفتاي قُنبر فقبل شريحٌ شهادة الفتى الغلام ولم يقبل شهادة الحسن فاستنكر عليه عليٌ قائلاً : ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي قال :" إن الحسن والحُسين سيدا شباب أهل الجنة " أترُد شهادة رجُلٍ من أهل الجنة ، قال نعم يا أمير المؤمنين هو من أهل الجنة بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لكني لا أقبلُ شهادة ولدٍ لوالدة . فقال ما عندي غيرهما فأبقى القاضي الدرع مع اليهودي فقال اليهودي بعد أن تبين له الأمر واستفسر الوضع نطق بالشهادتين وأسلم قائلاً أمير المؤمنين يًُقاضيني إلى قاضية ويحكم لي عليه إن هذا لدينٌ حق .وهو دين حق فهمهُ اليهودي أو لم يفهمه لأكن لما وجد جيل يحمل الدين الحق على الوجه الأكمل زاد إيمانُ الناس وكان سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجا ، وإذا وجد جيل لا يحملُ دين الله على الوجه الأكمل لا ريب أن ذلك من احد أسباب نفور الناس غير المسلمين من الدين لكن ذلك لا ينفي من إقامة الحُجة عليهم .
أبيت اللعن ما أدركت ديني */* ولو أدركتهُ لرأيت دينَ
وكم يُعزى إلى الإسلام ذنبٌ */* وكُل الذنب ذنبٌ المُسلمينَ
و المقصود أن الإنسان يعدل في قولهِ في شهاداتهِ ويراقبُ الله كما حررنا في اللقاء الأول .(45/191)
أما وقد جاء ذكرُ قُنبر فإن قُنبر كما قُلنا كان غلاماً لعلي وقد ذكروا وهذا قد مر معنا في لقاءٍ مضى في حلقات هذا البرنامج المبارك أن ابن مسكويه كان يُؤدب ابني أحد الخلفاء وذات يومٍ كان جالساً عند الخليفة فدخلا ابنا الخليفة فأعجبا أباهما وكان الخليفة لأبن مسكوية وكان عن يمينهِ ذا حضوهٍ عندهُ أيُهما أحبُ إليك أو أيُهما أفضل ابناي أم الحسن والحُسين ـ وهذا فيها جُرأة في السؤال أصلاً ـ فلم يملك ابن مسكويه نفسهُ وغاب عنه رشدهُ قال والله لنعلي قُنبر أفضلُ من ابنيك ـ ليس الحسن والحُسين قُنبر الغلام غلام علي ـ لنعلا قُنبر أفضلُ من ابنيك فأصاب الخليفةُ الحنق فقتلهُ بأن أمر الحرس أن ينزعوا لسانهُ من قفاه انتقاماً منه .
موضوع الشاهدة : لأن هذا خبرٌ تاريخي ، لأن الإنسان قد يُبتلى بالسؤال في موطنٍ لا يملكُ فيهِ الإجابة فيواري و يُجيب إجابةً كما يقولها العامة اليوم دبلوماسيه يخلُص بها من بطش الجبارين وليس لهُ سبيل إلى أن يُهلك نفسهُ لكن أحياناً يغيب الوعي يغيب الرُشد إذا أراد اللهُ جل وعلا أن يتم أمرهُ قال الله تعالى { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ } الرعد11 .. قال ابن عباس [ إذا جاء أمرُ الله تخلت عنه الملائكة ] لأن قدر الله ماضي ماضيِ لا محالة.
هذه الوصايا كما قُلت يجعلها المؤمن نبراسا فيتوخى أُمهات الفضائل ويسير عليها وينظر في أُمهات الرذائل وجوامعها عياذاً بالله فيجتنبُها والموفق من وفقه الله والإلحاح على الله بالدُعاء وإخلاص النية مما ينال بهِ المرء مطلوبهُ ويُحقق المؤمن بهِ غايتهُ ، جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعدادهُ حول هذه الثلاث الآيات المباركات من سورة الأنعام والله تعالى أعز وأعلى وأعلم وصلى الله على محمدٍ وعلى آلهِ والحمد لله رب العالمين ..
تم الانتهاء من سورة الأنعام ولله الحمد والمنة ..(45/192)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله عدد ما غرد بلبل وصدح وما اهتدى قلب وانشرح ، الحمد لله ما ارتفع نور الحق وظهر وما تراجع الباطل وانقهر ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين عدد قطر السماء وذرات الرمال وما طلع عليه ليل ونهار صلاة وسلام دائمين الى يوم الدين .
كرم حاتم ما اجزيتمونا به شيخنا الفاضل وضيافة تشرف بها عشاق الجنة ننهل ما لديكم من ثمرة مطالعات في اقوال السلف وافعال الصالحين في اطار بديع الهمة و الحماسة ويشعل روح التنافس بين شباب الامة وييسر لنا فهم القران العظيم في سباق نحو جنان رب العالمين
الشيخ:
حياكم الله واسال الله جل وعلا ان يبارك فيكم وفي القائمين على هذا المنتدى
?????????????????????????
المذيع :
السائل بريق الأمل يسال عن حياة الشيخ العلميية فيقول
لديكـ تمكن وقدرة كبيرة في الطرحـ ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، كيف ألممت بتفسير كتاب الله جل وعلا بهذهـ القدرة التي قلت في زمانا هذا ..؟! فنحن نحتاجـ الهمة العالية من لدنكمـ وفقكمـ الله وسدد على طريق الحق خطاكمـ ..،
الشيخ :
اشكر له حسن ظنه بنا واسال الله جل وعلا ان يغفر لنا ما لا يعلمه الناس عنا واقول والله المستعان هذا اولا واخيرا وقبل كل شيء فضل من الله تبارك وتعالى . ومع ذلك اظن ان ما مككني الله فيه من البلاغة ظن الناس من خلاله انني املك علما جما كثيرا وانا اريد ان اكون منصفا مع نفسي قبل ان اكون منصفا مع الناس ، فربما القدرة البلاغية جعلت الناس يظنون اني املك علما كثيرا جدا ولكن لا اعتقد اني كذلك فيوجد بالناس من هو اعلم مني كثيرا ولكن لا يعطي الرجل قدرة بلاغية كبيرة فيظن الناس انه غير ذي علم .(46/1)
على العموم الذي استطيع ان اقوله لاخي المبارك اشكره على حسن ظنه واسال الله ان يرزقنا واياه من الخيرات واقوله له انني من الله علي منذ الصغر بالقدرة على القاء الكلمات واذكر ان اول كلمة القيتها كنت الصف الرابع الابتدائي، ثم اني اكثرت من قراءة ادب العرب شعرا ونثرا وكنت اقرأ بصوت عال .
اما القران فقد انصرفت اليه دون غيره من العلوم ولا يعني ذلك انني لا اقرا فنونا اخرى بل اقرا فيها كثير لكن اجعل القران كاصل وافيء بالعلوم من القران .
ومع ما من الله به علينا من كثرة القراءة والانصراف اليها وقلة الصواحب ولله الحمد جعلتنا في هذه المنزلة التي نحمد الله جل وعلا عليها ونطمع من فضله تبارك وتعالى ما هو اكبر .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل ابو اسامة يقول
قال الله تعالى (يا اخت هرون ماكان ابوك امرا سوء وماكانت امك بغيا) السؤال هل مريم هي اخت هارون عليه السلام وهل هارون هو اخو موسى عليه السلام؟
الشيخ :
هارون الوارد ذكره بالاية ليس هارون ابن عمران اخا موسى انما كان الناس يتسمون باسماء الصالحين فكانت لمريم عليها السلام اخ يقال له هارون فقالوا لها يا اخت هارون . هذا قول
وقيل انهم قصدوا بقولهم يا اخت هارون اي يا شبيهة هارون في العبادة ولكن المقطوع به ان هارون ابن عمران اخو موسى لم يكن اخا شقيقا او غير شقيق لمريم بنت عمران بل بينهما قرابة 600 عام يعني في مرحلة زمنية طويلة 600 عام او اكثر ما بين موسى عليه الصلاة والسلام وما بين مريم بنت عمران. نعم
المذيع :
احسن الله اليك ، سؤال ابو اسامة الثاني يقول
مارأي الشيخ صالح في تفسير (في ظلال القرآن ) لسيد قطب رحمه الله؟
الشيخ :(46/2)
رحمة الله على السيد قطب هو رجل مفكر واديب اكثر منه مفسرا لكن ممكن ان يستفاد من كتابه لكن ينبغي ان نعلم انه لا يصلح للمبتدئين لكن المتمكن عقديا وفكريا ممكن ان يقرا فيه ويتاثر ببلاغه لكن ثمة امور خالف فيها غفر الله له ورحمه وتلقاها بعض الطلاب تلق خاطيء فنجم عنها امور غير محمودة . على العموم الرجل له محاسنه وله بعض اخطائه اسال الله ان يتجاوز عنا وعنه فالمبتدئون لا انصحهم به اما من كان متمكنا شريعة وفكرا فحسن ان يقرا في كتاب سيد قطب في ظلال القران .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل ابن الاسلام يقول
(( ماسبب والحكمه من تكرار الايه مرتين في سورة الكافرون ))
ايضا ماسبب والحكمه من تكرار (( االايه_ فبأي ألاء ربكما تكذبان)) في سورة الرحمن
الشيخ :
الاصل في التكرار انه ينجب عنه التاكيد يعني المقصود الاسمى من التكرار التاكيد ، فالمسالة عقدية في قضية (قل يا ايها الكافرون ) وحتى يكون الامر جليا وليس عارضا وانما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم انا اقول لكم واعني ما اقول واؤكد على قولي واكرره ان المفاصلة بيننا وبينكم لا بد منها لان القضية قضية عقدية .
اما قضية ( فباي الاء ربكما تكذبان ) ففيها تكرار للنعم الالهية على الجن والانس في الدنيا والاخرة و كل مرة وفي كل مقطع يذكر الله عز وجل عباده بهذه النعم وفي كل نعمة حجة قائمة على الخلق فلذلك قال الله تعالى في كل مقطع في اكثره ( فباي الاء ربكما تكذبان ) .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل بدر الظلام وكذلك السائل قرناس يسئلان عن
كيف يوفّق الشخص بين طلب العلم الدنيوي وطلب العلم الشرعي ؟ خصوصاً ان العلم الدنيوي يأخذ من الشخص الوقت الكثير .. كالدراسة في الجامعة مثلا .. وبارك الله في علمكم
الشيخ :(46/3)
لا ادري ما المقصود في العلم الدنيوي فان قصد العلم الشرعي الذي يدرس في الجامعات فهذا لا يسمى علما دنيويا وان كان في التخصصات غير العلمية مثل الهندسة والطب فهذه المسلمون يحتاجونها كثيرا
وبالطبع ولنكن واقعيين من درس العلم الدنيوي كالهندسة والطب لا يمكن ان يكون اماما وعلما في العلم الشرعي . الجمع بينهما محال لكن قد يكون ذا باع طويل في فن من الفنون الشرعية قد يكون لديه ثقافة عامة شاملة في دين الله . نعم يتاتى هذا . يتاتى ان يحفظ القران ان يصلي بالناس نعم يقع وقد رايناه لكن ان يصبح صدرا وامام اظنه صعبا جدا لان العلم الشرعي يحتاج الى تفرغ تام .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل صوت القلم يقول
نشهد الله على حبكم في الله ونسأل الله لكم التوفبق والسداد وأن يغفر لك ولوالديك ونتمنى منك ياشيخ أن لا تنس أهل حائل ونصيبهم منك إما بدورة شرعية أو محاضرات دورية ومتكررة ...
الشيخ :
نعم اتفقت مع الاخ الشيخ نايف الغبيني اظنه عضو مركز الدعوة في حائل على ان اقيم ان شاء الله تعالى دورة لمدة ثلاثة ايام او اربعة في حائل في الصيف في التفسير ونسال الله التوفيق.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل ابو يوسف يقول
قال الله تعالى في سورة النور الاية 31 ( .... أو ما ملكت أيمّنهم أو التّبعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ... الاية )_
في قوله -الطفل- جاءت مفرده خلاف ما كان قبلها من الجمع - ( لبعولتهن -ابائهن نسائهن .....الخ ) هل في ذالك حكمة ...؟
الشيخ :
هذا الطفل هنا اسم جنس ولم اقف على شيء يشف الغليل في هذه المسالة فان من الله علينا به اخبرناك .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة جويريه تقول(46/4)
نرى عزوف الكثير من الناس عن تعلم اصول القران الكريم والحديث كعلم شرعي..وعدم السعي في تعلم التفسير والاطلاع عليه فنرى بعدا ظاهر جدا في الابتعاد عن فهم القران.... فما هو رأي فضيلتكم في هذا؟
الشيخ :
ما ذكرته الاخت الكريمة صحيح واذكر انني عندما بدات اول دروس التفسير تقريبا كان 1908 كانت اجمالا و1416 كانت تخصيصا نفر كثير من الناس وعارضني كثير من المشايخ واحجم عني بعض التسجيلات . لكنني كنت اقول انه يجب ان تعود الامة الى القران ثم ولله الحمد نرى الان اقبالا كثيرا على التفسير . نعم الصحوة عندما بدات اغفلت العناية بكلام الله جل وعلا اذ تصدر الناس لتدريس الفقة والمتون الشرعية وهذا امر حميد لكن خيرا منه وافضل واحسن ان يكون هناك توجه لعلوم القران وتاصيليه ودراسة علوم القران والتفسير وهذا لله الحمد بدا الان تظهر جمعيات في علوم القران والذي اعلمه ان هذا المنتدى المبارك لديهم زاوية او صفحة او اشبه ذلك تتخصص بعلوم القران . هذا كله محمود ونسال للناس التوفيق في هذا الباب العظيم.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة حنين
تتمنى ان تجعل لهن في احد المساجد درسا في الاجازة لتفسير القران
وان يكون هذا الدرس مدعما بالامتحانات حتى يتقن تفسير وفهم كلام الرحمن
الشيخ :
هذا ان شاء الله سافعله لكن لم تذكر الاخت الكريمة اين تقطن او تسكن لكنني ساحاول في القسيم وفي حائل وفي جدة الطريقة التي اشارت بها وسنجعل هناك امتحانات ان شاء الله تعالى .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل رحيل22 يقول
سؤالي الاول هو : قال الله تعالى في سورة البقرة الاية 17
(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ )
بداءت الاية بجمع وهو ( مَثَلُهُمْ )(46/5)
ثم اصبح سياق الاية عن مفرد ( الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
ثم عاد السياق مرة اخرى للجمع (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ )
السؤال : ما الحكمة من ذلك وارجو من فضيلتكم توضيح وشرح للاية
الشيخ :
نعم . الله جل وعلا يتكلم عن ان القران ينزل فيكون فيه شيء كما ياتي البرق ويضيء هذا يكون لاهل الايمان . اما اذا فيه صواعق فهذا يكون فضح لاهل النفاق وسورة البقرة من اوائل ما انزل ونزلت في المدينة وكان المجتمع المدني انذاك لا يعرف النفاق في اموره فاما مسلمون كالاوس والخرزج اكثرهم واما يهود واما غير داخل في الاسلام من اهل المدينة فلما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ظهرت شوكة المسلمين فخاف بعض اهل الكفر على انفسهم فاظهروا الايمان وابطنوا الكفر فعرفوا بالمنافقين والله جل وعلا هنا يسير حالهم ويبين ان هذه الايات التي تنزل عليهم تنزل عليهم بالمقدار الذي لا ينتفعون منه . قال الله جل وعلا (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ) قامت عليهم الحجو وهي نور القران
(ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) اي ان الله تعالى اعمى قلوبهم ان يصلوا الى المقصود في سوء سريرتهم ف (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ) هم يتخبطون في غيهم وضلالهم او ك ( الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) فضرب الله تعالى مثلا الرجل المنقطع الذي يستوقد النار او كالذي استوقد نارا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ )
ذكر الله تعالى بعدها ما يقع من الصواعق وغيرها من الامور . هذا الانتقال من الجمع والافراد يسميه بعض العلماء التفات فالمقصود منه بيان الحجة الجماعية والحجة الفردية في ان واحد . ولئن تاملت يا اخي المبارك ما ذكره الشنقيطي في انوار البيان وابن سعدي في تفسيره تفسير الكريم المنان فقد اجاب هناك اجابة شافية حول هذا الموضوع.(46/6)
المذيع :
احسن الله اليك ، السؤال الثاني لرحيل22 يقول
انا ياشيخ سمعت في احد البرامج الدينية والذي كان يعرض لقاء بين شيخين من مصر ......سمعت منهما جملة استوقفتني كثيرا واردت منك ان توضح لنا ماهو الصحيح والجملة هي ان احدهما قال للاخر ( اخيرا صار بيننا نقطة توافق وهي ان ابونا ادم وامنا حواء كانا في جنة في الارض وليست في السماء ) وكانوا يقصدون بكلمة جنة انها مشتقة من كلمة ( جنينة ) بمعنى حديقة فما صحة هذا القول؟؟؟؟ وان كان خطاء........ فما هو تفسيركم للاية الكريمة
{35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36}
هل الشيطان كان مع ابوينا في الجنة ؟؟؟
ام انه وسوس لهما من خارجها ؟؟؟
الشيخ :
نعم تفسير هذا يا اخي المبارك على الوجه التالي . اختلف الناس في الجنة التي امر الله ادم ان يسكنها وجمهور اهل العلم و هو الصواب انها جنة عدن التي وعدنا الله اياها بعد البعث والنشور والدليل على انها جنة عدن انه ورد في الحديث الصحيح ان الناس يقولون لادم استفتح لنا الجنة يوم القيامة فيقول وهل اخرجكم من الجنة الا خطيئة ابيكم . فهذا دليل صريح واضح على ان جنة عدن هي التي سكنها ادم.
نعم قال بعض الناس المنتسب للعلم وغيرهم قالوا انها –الجنة- لم تكن في السماء، ليست جنة عدن وحجتهم تنحصر فيما يلي :-
اولا دخول ابليس اليها
والامر الثاني انه وقع فيه ان ادم اخرج منها والجنة الانسان يخلد فيها وانه امر بالتكليف فيها والجنة لا تكليف فيها . هذه حجتهم
واجابوا عن قول الله جل وعلا اخرجوا منها قالوا لا يلزم ان تكون في السماء
والمعلوم ان الله هبطوا مصرا والمعلوم ان مصر لم تكن ا في السماء كانوا في ارض اخرى(46/7)
الذي يعنينا من هذا ان الصواب انها جنة عدن ، اما كيف دخل ابليس فالمشهور عند اهل التفسير والتاريخ ان ابليس دخل في خياشيم الحية وانه اعطاها ذمته ان يدافع عنها ولذلك ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما انه كان اذا راى الحية يقول اغفروا ذمة ابليس اي اقتلوا الحية لان ابليس تكفل لها بالحفظ
المرجى من هذا كله ايها المبارك ان الجنة التي ادخلها ابانا ادم واخرج منها هي جنة عدن التي وعدنا الله اياها
اما قولهم جنينة باللهجة المصرية هذا صحيح . ان لفظ جنة باللغة يدل على الشيء المستتر الخفي قال الله ( فلما جن عليه الليل ) اي اظلم ويسمى الجنين الطفل في بطن امه يسمى جنينا لانه لا يرى ، والجن يسمون جنا لانهم لا يرون
لكن المصريين اخذوا هذا اللفظ واطلقوه على الحديقة وهذا اصلا جاء به الشرع قال الله تبارك وتعالى ( انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة ) اي اصحاب الحديقة , ولكن اخواننا المصريين يدخلون على اللفظ القليل من التغيير الكسرة والتقديم والتاخير فيسمونها بلهجتهم الدارجة جنينة لكن اصلها اللغوي صحيح .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة شموع الظلام تقول
ماهي أفضل كتب التفسير التي تنصح بقراءتها .. للمبتدئين ؟!
الشيخ :
كتاب تفسير ابن كثير والمحرر الوجيز لابن عطية والتسهيل لابن جزيء الكلبي
المذيع :
احسن الله اليك ، سؤالها الاخر
ماهي أفضل الطرق لمراجعة القرآن الكريم .. وتثبيته ؟! وجزاكم الله خيرا
الشيخ :
اولا القيام يه في الليل
فهذا اعظم ما يثبت القران ايتها الاخت المباركة في الصدر
ثم تحري الاوقات التي ترين نفسك فيها مقبلة على الحفظ فلتحفظي مع المراجعة مع الغير
هذه واغرارها تعين ان شاء الله على حفظ القران .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل المعيون يقول انا شاب لم اكن اصلي وكنت من المعاندين مع الاسف... وتبت الى الله منذ حوالي 8 سنوات...(46/8)
وانظلقت احفظ كتاب الله عند احد الشباب الملتزمين وكنت من المتفوقين جدا عنده في سرعة الحفظ واتقان التلاوة بالاضافة الى الصوت الجميل الذي وهبني اياه الله...
وكذلك التزمت بحلقات لتعليم الفقه عند احد طلاب العلم ايضا وكنت من المثابرين المتميزين ايضا..
واستمريت لفترة على ذلك ...الا ان احوالي بعدها ساءت واصبحت لا اطيق ان اجلس لاقرأ القران وكذلك الدروس اصبح عندي شعور داخلي يبغضي بها مع انها والله مفيدة جدا...
واستمرت هذه الحالة معي الى الان ...حيث انني احيانا اقترف بعض المعاصي مع الاسف مع انني انكر على غيري اشد الانكار واكره نفسي بعد ممارستها..
هل من الممكن ان يكون ما جرى معي عينا اصبت بها؟؟؟حيث انه كان لي منافسين وكان لي اعداء في نفس الوقت....
وما هو العلاج ان كانت عينا ...حيث انني لا اعرف من اصابني بالعين ولا اشك في احد... فارجو مساعدتي شيخي الفاضل . حفظك الله
الشيخ :
*اسال الله العظيم الذي في السماء عرشه وفي كل مكان رحمته وسلطانه ان يصلي على محمد واله وان يرفع عنك الضر وان يردك احسن مما كنت وان يهبك توبة نصوحة تفيء بها الى ربك وان يهبك علما تنفع به نفسك وامتك وكونك تظن انه عين لا يعفيك من العمل على ان تقرا على نفسك المعوذات واية الكرسي وخواتيم سورة البقرة وخواتيم سورة المؤمنون كما انه ينبغي عليك الا تجازف في قضايا المعاصي بحجة انك معيون وتتقي الله في خلواتك وتعمل جاهدا على رفع الضر والمعاصي عن نفسك.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة ام البراء لديها مجموعة من الاسئلة
السؤال الاول :
•شرطا قبول العمل الإخلاص والمتابعة ، فكيف يحقق طالب العلم المتابعة في طلبه للعلم ؟
الشيخ :(46/9)
المقصود بالمتابعة هنا ان يفقه العلم الشرعي على المنهاج النبوي بمعنى ان هناك قواعد قعدها العلماء براعة الوصول الى الحقائق الشرعية . المتابعة عليها هي نوع من المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم لان هذه القواعد مستقاة من احاديثه صلوات الله وسلامه عليه.
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الثاني تقول:
•كيف ينظر العبد الموحد حال الأمة الإسلامية نظرةً قرآنية ربانية ، لتهدأ نفسه ويطمئن قلبه ؟
الشيخ :
لله جل وعلا ايتها الاخت المباركة سنن لا تتبدل ولا تتغير ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ) لكن ينبغي علينا جميعا ان نحرص على رفع الضر عن الامة والمسؤولية يوم القيامة في هذا هي مسؤولية فردية لكن لا ينبغي ان يطغى حماسنا على علمنا ولا ان نكتفي بالعلم فقط ولا نعمل فان الانسان اذا جمع حماس الشباب وعقل الكهول وعلم الفضلاء قدر بعد ذلك على ان ينفع الامة . على ان الله جل وعلا جعل الايام دول بين الناس وجعل لاهل التقوى سلطانا وقال ( والعاقبة للمتقين) لكن الخطوات تبنى خطوة خطوة والعمل ينبغى ان يكون عملا في المجتمع كله الا ينازع ولي امر اهله اهله عملا بدين اله جل وعلا . نسعى باصلاح انفسنا اولا . نسعى باصلاح من حولنا
اذا قام كل واحد منا بهذا الواجب على على النحو الاتم والجهة الكملى وصلنا جميعا الى مرادنا باذن الله .
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الثالث تقول:
•ما السبل الموصلة ليكون العبد ذاكراً لله تعالى ، خاشعاً ذليلاً له ؟
الشيخ :
العلم بالله ، العلم بالله من اعظم ما يتاح للعبد . والله نهى نبيه عن الغفلة ( ولا تكن من الغافلين ) . وذكر الله انس السرائر وحياة الضمائر واقوى الظهائر قال الله ( اذكروني اذكركم واشكرولي ولا تكفرون )
ومن اجل النعم ان يهب الله جل وعلا عبدا قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا . قال عليه الصلاة والسلام في بعض وصاياه ( لا يزال لسانك رطبا بذكر الله )(46/10)
فمن تدبر القران وقف على ثناء الله العلي جل جلاله وما اثنى الله به على نفسه والنموذج الاعلى في ثنائه في الثناء الالهية . وما له جل وعلا من جلال النعم وكمال الصفات فهو جل وعلا رب كل شيء ومليكه . بيده مقاليد كل شيء ومال كل حي
فاذا وقع بالقلب الايمان بعظمة الله جاء على اللسان الاكثار من ذكره تبارك وتعالى والتسبيح بحمده وهذه عبادة الملائكة في الملاء الاعلى قال الله جل وعلا ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين امنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة منك ).
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الرابع تقول:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن سورة الحج :
(وفيها من التوحيد والحِكَم والمواعظ على اختصارها ما هو بَيِّنٌ لمن تَدَبَّرَه، وفيها ذكر الواجبات والمستحبات كلها توحيدًا وصلاة وزكاة وحجًا وصيامًا، قد تضمن ذلك كله في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] ،فيدخل فى قوله : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } كل واجب ومستحب؛ فخصص فى هذه الآية وعمم، ثم قال : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه } [ الحج : 78 ] ،فهذه الآية وما بعدها لم تترك خيرًا إلا جمعته ولا شرًا إلا نفته . )
السؤال : تبين لنا أنها جمعت الخير ، لكن كيف نفت الشر ، ولم يذكر الشر في الآية ؟
الشيخ :
نعم هذا ما يسمى مفهوم المخالفة لان الله هنا يوصي ولما اوصى الله جل وعلا في فعل الخيرات دل على انه جل وعلا ينهى عن اتيان الشر . وما كان ربك نسيا فلما امر الله بالخير دل ذلك على انه جل وعلا ينفي ان نصل الى الشر باي وجه كان.
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الخامس تقول:(46/11)
* يقول الله تعالى في سورة يس ( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54) ) ،
و عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى - قال :
( إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك : فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ) رواه البخاري ومسلم.
كيف الجمع بين : قوله سبحانه ( وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) و قوله ( فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ) ؟
الشيخ :
تفصيل هذا في التالي
العمل احيانا يا اختاه يكون بالنية فمثلا انسان نوى ان يسرق ثم بدا له ان يترك هذا لا يعاقب لكن انسانا بدا له ان يسرق وما منعه ان يسرق الا ان النور اضيء او ان الحارس قدم او ان الناس جلبوا باصواتهم فمنعه عارض غير اختياري منه . عارض اجباري هذا ياثم على نيته لكن من نوى ولم يفعل فهذا لا يعاقب على نيته وهذا من رحمة الله جل وعلا على عباده ويدل عليه قول صلى الله عليه وسلم ( اذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل ما بال المقتول. قال انه كان حريصا على دفع صاحبه) فكونه عجل له بالمنية هذا مانع اضطراري فلهذا اثم كما اخبر صلى الله عليه وسلم
اما اذا كان المانع اختياريا فلا ياثم .
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها السادس تقول:(46/12)
* قال تعالى في سورة هود ، في سياق قصة قوم نوح ( وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) ) ،
وقال في سياق قصة قوم هود ( يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) ) ،
السؤال: لماذا قال نوح ( مالاً ) وقال هود ( أجراً ) ؟
الشيخ :
هذه اساليب قرانية الله جل وعلا نوح عليه الصلاة والسلام وهود لم يقولا هذا في يوم واحد ونوح لم يكن متكلم عربي بخلافه عليه السلام فهود يتكلم العربي
الله جل وعلا ذكر كلمة اجر ربما لان الناس في قوم هود كان لديهم اشياء اخرى غير المال يتعاملون به وقد يكون الغالب في عهد نوح انهم كانوا يتعاملون بالمال لكن المعنى هنا المعنى التام الكامل المقصود انهم لا ياخذون عوضا عن الدعوة الى الله جل وعلا.
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها السابع تقول:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
(ماأصاب عبد هم ولاحزن فقال :" اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضِ في حكمك ، عدل في قضاؤك أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي " . إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً ).
السؤال يا شيخ .. ما مفهوم "ربيع " في الدعاء ؟
وهل المهموم الحزين الذي قليلاً مايقرأ القرآن الكريم ، يذهب حزنه إذا قال الدعاء ؟
الشيخ :(46/13)
المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن تجعل القرآن ربيع قلبي . الربيع هنا المقصود به الفصل المعروف من فصول السنة والمراد به ان النفوس تطمئن الى منظر ما يكون في الربيع فكذلك الانسان المقصود منه كناية عن رضاه التام بالقران . اي ان القران يورث فيه نفسا طيبة راضية بقضاء الله جل وعلا مطمئنة الى حكمه مذعنة الى امره ونهية جل وعلا.
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الثامن تقول:
إذا العبد مستمر في عبادة ، وانشغل عنها في بعض أحيانه، كيف يعرف أن هذا حرمان من الله جل جلاله ؟
مثال/ عبد يقوم الليل ، وفاته ورده بسبب النوم ، كيف يعرف أن هذا حرمان من الله ، أو النوم من الله كما في الحديث...
الشيخ :
قد يكون احيانا رحمة من الله جل وعلا وقد يكون احيانا بسبب حاله فيتفقد نفسه فان غلب على ظنه انه لم يفعل شيئا كعقوق الوالدين هذا غالبا يكون فضل من الله يعني راحة له في بدنه ويكتب له الاجر واما ان تكرر كثيرا وتتابع وراجع نفسه وعلم انه قد اضر باحد من الناس وظلم اجيرة او عق والدا او خان صديقا او ما اشبه ذلك من المعاصي فهذه تكون حرمان من الله . لان الوقوف بين يدي الله منقبة عظيمة قد يحرم منها العبد وهذا بسبب سوء نيته او سوء عمله.
المذيع : سؤالها التاسع تقول:
نجد طالبات الدُور ومراكز تحفيظ القرآن، مجتهدات في الحفظ وطلب العلم طوال العام والحمد لله، لكن إذا جاءت العطلات تقل الهمة، وربما تركن حفظ أو مراجعة القرآن الكريم، فهل هذا يقدح في الإخلاص ؟
بمعنى / كأنهنّ حفظن من أجل الدرجات والنجاح، ثم ينتهي الأمر ..!!
الشيخ :(46/14)
لا ان شاء الله لا يقدح بالاخلاص فالنفوس تسام وتمل ولا باس ان يكون الانسان له وقت مع اقرانه واهل بيته وخواص اصحابه يغدو ويروح معهم ويطرد السامة عن نفسه لا ان يرتكب محرما . نرجو الله انه لا حرج لكن لاسباب نحاول ان نراجعها ولو قليلا ولا يتركوا قيام الليل وهذا كله ان شاء الله يدل على ان الانسان يريد لنفسه خيرا
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها العاشر تقول:
كيف نعالج نية الطلبة ؟
والشيء بالشيء يذكر .. نجد بعض معلمات القرآن الكريم مخلصات في التعليم ، وفي نهاية الشهر ينتظرن الراتب ويفرحنّ به، ويحزن إذا نقص هل يعني هذا أنها لم تكن مخلصة لله جل جلاله ؟
الشيخ :
لا استطيع ان احكم على احد بعينه لكن قال صلى الله عليه وسلم ( ان احق ما اتخذتم عليه اجرا كلام الله ) وهذه الامور تقع تابعة لا تقع اصلا . ما دامت الامور تقع تبعا فيجوز تبعا ما لا يجوز استقلالا ولا اود ان نتكلم عن احد عن معلم عن معلمة بعينه ولكن نقول يجب الا يهتم الانسان للمال وان شاء الله يؤجرون على تدريسهم وتعليمهم لبنات المسلمين
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الحادي عشر تقول:
قال تعالى: ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
آمنّا بالله ،، نجد بعض المسلمين يصلون والحمد لله ، لكنهم يفعلون الفحشاء والمنكر بعد الصلاة ،
كيف يُفسر هذا ؟ ومن المنتفع من الآية ؟
الشيخ :
نعم . كل من نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر بالكلية انتفع بصلاته وحققها على الوجه الاتم الاكمل وكلما كان هناك نقص في التعامل مع الفحشاء والمنكر اي اقترف الانسان منها بعضا من قلة او كثرة دل ذلك انه لم ينتفع بصلاته على الوجه الاكمل وهذا يدل على انه لم يكتب له اجرها كاملة
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالها الاخير تقول:
ما مذهب الشيخ أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي الحنبلي الصوفي .
صاحب كتاب " منازل السائرين " ؟
الشيخ :(46/15)
هذا الكتاب شرحه ابن القيم رحمه الله تعالى عليه في مدارج السالكين والشيخ ابو اسماعيل ينبغي ان نعلم.
كلمة الصوفية كلمة واسعة فضفاضة فاحيانا احسن بها بعض الناس كالجنود وابو اسماعيل الهروي وغيرهما وبعض الناس حادوا فيها حيدة سيئة جدا كالمنخارط وبعضهم توسط فيها له حيدة قليلة كالغزالي . لكنني لا اجد نفسي حكما على الناس لكني اقول الرجل في مجمله رجل صالح.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة محبه ابن باز تقول:
هل حادثه عمر بن الخطاب عند دفنه ابنته صحيحه او خاطئه ( من روايه الرافضه )
الشيخ :
لا اعلمها صحيحة لكني لا استطيع ان اجزم هل هي من رواية الرافضة ام لا
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل التميمي يقول:
شيخنا الفاضل نريد منك من خلال سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفات لمن يدعو إلى الله ، تناسب حالنا التي نحن نعايشها الآن .
الشيخ :
هذا ما سافعله ان شاء الله تعالى ولا استطيع الاجابة عن الوقت الان لانه قد يحتاج الى فترة زمنية اكبر واعدك ان اقدم اما محاضرة كاملة او جزءا من محاضرة حول هذا الموضوع سائل الله ان يكتب لي ولك الاجر.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل الفاهم يقول:
يعتقد بعض الناس أن معاقبة الزاني بوقوع أحد من محارمه بشيء من هذا مثل دقة بدقة مناقض لقوله تعالى ( ولا ترز وازرة وزر أخرى ) فكيف التوجيه في هذه المسألة ؟
الشيخ :
نعم لا ينبغي ان يقال ان مسالة دقة بدقة هذه قصة والاحكام الشرعية لا تبنى على القصص . الله يقول ( ولا تزر وازرة وزر اخرى) وقد يكون لرجل زان ابنة حقيقية يعني من صلبه بزواج شرعي صالحة تقية
لانه قد وجد للكفار ابناء صالحين وهم اعظم من الزنا فالاولى ان يوجد للزناة والزواني لكن نقول للانسان ان يتقي الله جل وعلا في اعراض المسلمين واعراض المسلمات(46/16)
واطلاق الامر بقول دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا قد تكون الرواية صحيحة ولكن لا يستنبط منهالا قاعدة ابدا
فيفرق بين القصة التي يؤتى بها استئناسا هذه لا حرج والقصة التي يؤتى بها لنستنبط منها قاعدة لا يجوز
الاستباط يكون من الوحيين من الكتاب والسنة لا من القصص والاخبار .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة أمجاد الامة تقول:
1ـ مالفرق بين النبي والرسول و ماأخر أية أنزلت
الشيخ :
الفرق بين النبي والرسول قد اختلف العلماء فيه وقد قال بعضهم ان النبي من يسوس امته يوحى اليه لكن يسوس امته بشرع من قبله كما كانت بنو اسرائيل تسوسهم الانبياء بعد موسى فلما اعطي عيسى شرعا جديدا في الانجيل سمي رسولا هذا اظهر ما قيل في التفريق بين النبي والرسول
اما أخر أية أنزلت فالمشهور انها قول الله ( واتقوا يوما ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) البقرة. وقال بعضهم انها ( اليوم اكملت لكم دينكم ) لكن الاولى ارجح والعلم عند الله.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل ابو حصة يقول:
حقيقة يصاب المرء بالدهشة .... حينما يدخل احدى المكتبات ... لكثرة مايرى ... من الكتب والمؤلفات التي تتحدث عن الثوم .. فقد قالوا في الثوم .. مالا يقولوه في العسل .. أو الحبة السوداء .. فقد الفوا في هذا الباب ... ربما الآف نحن لاننكر العلم .... او تقدم الطب ... ولكن ..كتاب الله وسنة نبيه .. اصدق عندنا وأعلم ..... هل يعقل ان تكون كل هذ الفوائد في شجرة منع رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلها من الاقتراب من المسجد ... ؟؟
بل يؤخذ بيده حتى يُخرج من المسجد ... وقد اسماها الفاروق رضي الله عنه .. بالخبيثة ... ما رأيكم يا شيخ ؟؟
الشيخ :(46/17)
انا اقف معاك لكن لا استطيع ان اجزم والنبي صلى الله عليه وسلم كان لا ياكل الثوم اصلا لحديث ابي ايوب لما قرب اليه طعاما عندما كان يقطن في احدى حجراته قبل ان تبنى حجرات امهات المؤمنين قدم له ابو ايوب طعاما كان به ثوما فلم ياكل منه صلى الله عليه وسلم فعلم بعدها بانه لا ياكل الثوم وهو من سماه خبيثة صلوات الله وسلامه عليه سمى شجرة الثوم شجرة خبيثة او طعم الثوم طعما خبيثا
اما قولك اقل نعم في كلامك قربا من النظر لكني لا استطيع ان اجزم واقول لك انا لم ادخل الثوم بيتي بحياتي كلها .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل قرناس يقول:
وبودي لو تحدد لنا طريقاً نسلكه في طلب العلم .. مع ذكر الكتب بترتيب اولويتها ؟ وجزاكم الله كل خير وبارك بعلمكم
الشيخ :
اقول اطلب العلم شمولية اقرا بعليتها ، شيخ تاخذ عنه الفقه ، شيخ تاخذ عنه العقيدة ، شيخ تاخذ عنه الحديث شيخ تاخذ عنه التفسير .
ثم انظر اي احب هذا العلوم اليك فاكثر من قراءة كتبه وسؤال المشايخ عنها والباقي لا تهملها مع العناية باللغة والقراءة في اشعار العرب واخبارهم .
سادلك على الكتب اجمالا : ابن جزيء الكلبي في التفسير ، تفسير ابن كثير ، سلسلة عمر الاشقر في العقيدة الرسل والرسالات ، الملائكة الابرار ، الجنة والنار ، القيامة الكبرى ، القيامة الصغرى ، عالم الجن والشياطين .. هذه كلها لعمر الاشقر اقراها جيدا
في الفقهيات تيسير العلام شرح عمدة الأحكام للبسام ان كنت مبتدئا ، في التاريخ تاريخ الخلفاء للسيوطي ، العقد الفريد في اللغة والادب ، شرح الزوزني في المعلقات العشر .
هذه بعض ما ينفعك في حياتك اجلس عاما كاملا عليها تستفد شيئا كثيرا.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل محب الصحابة يقول: لماذا وصف الله بالدخول للجنة يقوله (داخرين) .
الشيخ :(46/18)
ذكر ابن كثير عن الدخول المعروف لكني لا اذكر الساعة قولا بينا فيه .
?????????????????????????
المذيع :
السائلة رزان تقول: فضيلة الشيخ ماهي المدارس التي درست فيها مرحلة الإبتدئي والمتوسط والثانوي ، وهل درست على يد الشيخ العلامه ومفتي أهل المدينه الشيخ عبدالمحسن بن حمد العباد البدر .
الشيخ :
الشيخ العلامة عبد المحسن البدر شرفت بالحج مع التوعية ثلاث او اربع سنوات وكان هو وفقه الله على راس تلك الحملة – حملة التوعية الاسلامية التي تنطلق من المدينة- عام 1415 و16 و17 و18 ان لم انسى وقد كنت انصت كثيرا لدروسه وشروحة التي كان يساله الناس ونحن نسمع بالحج ، واما قضية المدارس فلا اظن تعني احدا شيئا العلم بها كالجهل .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة الرحيل تقول: كيف بدأت حياتك بطلب العلم ؟ ووصلت إلى هذه الدرجة ؟ ومَن مِن المشائخ الذين تكن لهم المحبة ؟
الشيخ :
احب كل من يدعو الى الله جل وعلا . لكن كان للشيخ بن صالح رحمة الله تعالى عليه اثر كبير في حياتي وقد كنت احاكيه من الصغر منذ الابتدائية بقراءة القران وفي الخطب اي بطريقة الالقاء
كان مميزا لديه في قضية التاثير بالناس وكانت له القدرة على التاثير . قرات الكثير من الكتب منذ الصغر . سمعت لكثير من العلماء اللي كانوا ياتون للحرم النبوي وكما قلت في مقدمة اللقاء المسالة كلها فضل من الله .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائل صدى الصوت يقول: عُرف عن فضيلتكم تبحركم في علم القرآن والتفسير .
السؤال الأول : في أي مرحلة تعليميه بدأت في طلب هذا العلم والخوض فيه ، وهل لشيخ ما أو كتاب ما أو موقف كان سبباً في هذا دراسة هذا العلم .
الشيخ :(46/19)
ذات مرة دخل احد الزائرين الى بيتنا وكان يحمل كتاب تفسير واظن اني كنت في الصف الثاني ثانوي في المعهد العلمي انذاك كنت ادرس فقرات الكتاب بعدها بدا شيء من التعلق بعلم التفسير وثم من الله علي بالتخصص باللغة فلما استويت على العهودي وشب العمر وكما يقول اخذت بهذه الالة النظر بكلام الله وهذا مهم جدا ان ياخذ الانسان علم الالة بالمقام الاول .
المذيع : احسن الله اليك، سؤالي الثاني : ورد في أحد الأسئلة السابقة من هم المشائخ الذين تكن لهم المحبة و أنا أسأل من هم العلماء والمشائخ الذين طلبت العلم عليهم .
الشيخ :
انا قلت مرار المسجد الحرم النبوي كان مليئا بالمشائخ الشيخ عطية حمد السالم الشيخ ابو بكر وغيرهما ، وانا اقول لطلبة العلم السؤال بهذه الطريقة لا اظنه ينفع المهم جدا تكون مقتنعا بمن يتكلم وكم من طالب علم جلس لم يرى شيئا اللهم الا الاجر . لكن انت الذي تريد ان تبني نفسك عش عصرك بمعنى ان طرائق التعليم تختلف لكن اهم شيء بذل الغاية .
هذا الزمان ظهر قضية نشر السي دي تجمع كتب في شريط واحد وهذا لم يكن يتاتى بالزمن القديم فانا اقول للناس اتركوا هذه الطريقة نحن الان نلتقي في هذا الموقع المبارك موقع عشاق الجنة ولم يكن مثل هذا يتاتى لمن سبقنا . المهم ان الانسان يكون لديه نية صادقة ورغبة وتوكل على الله والاخذ بالاسباب.
المذيع : احسن الله اليك ، سؤالي الثالث : شيخي يرعاك الله ذكرت في محاظرة لك بعنوان { التشويق لحج البيت العتيق } وتحديداً فضل مكة على غيرها من الأماكن أنه إذا أجتمع الماء واللحم في مكة فإنها لاتضر لدعوة إبراهيم عليه السلام لأهل اسماعيل عندما زارهم و لكن إذا اجتمعت خارج مكة فإنها تضر وأنا فهمتها بهذا الشكل فهل لك أن توضح هذا النقطة بتفصيل أكثر .
الشيخ :(46/20)
نعم هذا حديث للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر حكاية ان خليل الله ابراهيم انه سال ما طعامكم قالت اللحم والماء فقال عليه الصلاة والسلام اللهم بارك لهم في اللحم والماء وجاء في الحديث كي يعلل انه من اجبر على اكل اللحم والماء فقط هنا في مكة فلن تضره لدعاء الخليل صلى الله عليه وسلم . لكن اللحم والماء لوحدهما ليست طعاما كافيا في غير مكة بمعنى انها تضر والاصل انها تضر حتى في مكة لكن المضرة ارتفعت لدعاء الخليل صلوات الله وسلامه عليه.
المذيع : احسن الله اليك ،سؤالي الرابع : فضيلة الشيخ ذكرت في الإجابة على سؤال في أكثر من موضع أن سبب جرأة العبد على عصيان ربه والأستمرار عليها بسبب جهله بالله سبحانه وتعالى .
سؤالي ياشيخ : كيف للعبد أن يعلم الله أو يزيل الجهل بربه حتى لا يتجرأ على المعصية أو يصبح لديه مناعه ذاتيه من معصية ربه بعد علمه به .
الشيخ :
نعم كل من اطاع الله فقد خشي الله بمقدار تلك الطاعة وكل من عصى الله فقد جهل القدر بالله بقدر تلك المعصية
قال ابن عباس كل من عصى الله فهو جاهل . على هذا ينبغى بالانسان كما قلنا باول اللقاء ان يكون يزدد علما بربه ان اظلم الله بقلبه فيقل جراته على المعصية.
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك ، السائلة اخت فيصل تقول: قال تعالى في سورة يس ( قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا000)والايه تتكلم عن الكفار ، وورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه حال المؤمن والكافر في القبر وكيف ان الكافر يعذب في قبره فكيف الجمع بين الآيه والحديث .
الشيخ :(46/21)
لا يوجد تعارض هذا القبر ونعيمه يتصل حينا وينقطع احيانا وهو مسالة غيب لا يستطيع احد ان يتكلم فيها الا بمقدار ما جاءت به النصوص ، فالنصوص دلت على ان اهل القبور اما يتنعمون واما يتعذبون وظاهرها ان هذا يتصل وينقطع وانهم يشعرون بالرقاد ومنه قول الله جل وعلا قال ( قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ) والعلم عند الله ويجب ان ننبه ان الكلام بالغيبيات بمقدار ما اوضحه النص حتى تبقى جلالة الغيب شاملة عامة ولهذا قال الله ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) مع انه كان يسمع القران لكن المعاينة ليست كالخبر .
?????????????????????????
المذيع :
احسن الله اليك، شيخنا الفاضل رعاك الله ليس لدي سؤال بقدر ما طلب اتمنى من فضيلتكم ان تدعو للمنتدى واعضائه والقائمين عليه وكل من ساهم في بناء هذا المنتدى وكل من ساهم في هذه الاستضافة واحسن الله اليكم ورفع الله قدركم ونفع بكم الامة وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
الشيخ :
اولا اشكر اخي الكريم الشيخ خالد الشبرمي واخي الكريم الشيخ عبد الله الخثعمي على اجراء هذه المقابلة التي اسال الله ان ينفع بها .(46/22)
اما الدعاء فانني اقول اللهم انك انت الله لا اله الا انت عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم في السماء عرشك في كل مكان رحمتك وسلطانك لا رب غيرك ولا اله سواك انت ربنا وخالقنا ورازقنا ومولانا بك نستعين وعليك نتوكل واليك نلجا . نعلم يقينا انك انت الله لا اله الا انت الغني عن طاعتنا ونحن عبادك الفقراء اليك كل الفقر . اللهم انا نسالك بعظيم غناك عنا وعظيم فقرنا اليك ونصلي على محمد وعلى اله وان تغفر لنا جميعا اعضاء هذا المنتدى منتدى عشاق الجنة ومن اطلع على هذا المنتدى وانتفع به وللمؤمنين وللمؤمنات وان تستر اللهم عيوبنا وتزيدنا اعمالا صالحة واعمارا مضيئة وان توفقنا لما تحب وترضى وان تلبسنا اللهم برحمتك لباسي العافية والتقوى وان تجعلنا من عبادك الصالحين الذين رضيت عنهم وارضيتهم انك انت الله لا اله الا انت سميع الدعاء . وصلى اللهم على محمد وعلى اله واتلحمد لله رب العالمين . ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار
?????????????????????????
المذيع :
ومن هذا المقام المبارك نسال الله بمنه وكرمه ان يجزي كل من ساهم خير الجزاء وان يفقهنا في الدين وان يعلي منزلتنا في المراتب العلى ، و الحقية لا نجد ختاما لمنامضى عمره معلما ومفسرا لكتاب الله جل وعلا الا ان ندعو له بدعوة صادقة في ظهر الغيب في ان يجعل الله ما قدمه في موازين حسناته لتكرمه بالاجابة على اسئلة الاعضاء الكرام كما نساله جل شانه ان يرزقنا العلم والعمل والسير على دروب علمائنا الافاضل واعف عنا وعنهم كل خطا وزلل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الشيخ:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
?????????????????????????
*
* * *
* * * * *
منتديات عشاق الجنة الإسلامي
منبر دعوي لرواد التميز الإسلامي
www.aljanh.net
www.aljanh.com
* * * * *
* * *
*(46/23)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
لمسة وفاء
خطبة من قديم الشيخ:
صالح المغامسي.
الحمد لله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وهو على كل شئ شهيد ، يعلم مايلج في الأرض وما يخرج منها ، وهو الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرته من خلقه وصفوته من رسله ، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة ، حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المؤمنون فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم وأكرم ما ادخرتم وأفضل ما أسررتم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ((ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساؤلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا)).(47/1)
ثم اعلموا عباد الله أن من سنن الله الماضيه وحكمته البالغه ومشيئته النافذه أنه جعل الدار الآخرة دار محاسبة وجزاء وجعل هذه الدار دار الحياة الدنيا جعلها دار عمل واختبار وبلاء ...جعلها تبارك وتعالى داراً يبتلي فيها عباده ويختبر فيها خلقه ألا وإن الصبر أزين ما تزين به المؤمنون فهو الذي أمر الله به خير خلقه وصفوة رسله (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) وأخبر الله تبارك وتعالى أنه يجزي علية جزاء لا منتهى له (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ولما كانت هذه الدار دار ابتلاء كان لابد للمؤمن أن يتجمل برداء الصبر وإن رداء الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء لهو رداء عظيم طال ما تزين به الأنبياء واكتسى به الأصفياء والأولياء على مر الدهور وكر العصور... صح عنه صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قلت يارسول الله" أي الناس أشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد عليه بلاءه وإن كان في دينه رقه ابتلى على حسب دينه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومايزال البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة "
أيها المؤمنون:إن طرق البلاء تتباين وأنواعه تختلف من شخص إلى آخر وهي على كل حال تظهر مدى صبر العبد ومدى يقينه بفرج رب الأرض والسماء ومدى إيمانه بقضاء الله وقدرة خيره وشره لا إله إلا الله سبحان الله وبحمده .
كم من زوجين كريمين صالحين مرت عليهم سنين عديده في الزواج وهما يطمعان في ولد تقر به الأعين وتزال به الوحشه وتملأ به الغبطه لطالما اشتروا دواء بعد داواء... ولطالما طرقوا أبواب الأطباء ...ومع ذلك لم ينالوا شيئاً ولحظا.(47/2)
أيها الزواجان الكريمان: إن انتظار فرج رب الأرباب جل جلاله والصبر على البلاء مما أمركم الله به وإن لكما في نبي الله زكريا عليه الصلاة السلام أسوة حسنه بعد أن بلغ من الكبر عتياً فلما رأى آيات الله القاهره وأعطياته المجزلة على مريم ابنة عمران طمع ذلك النبي والعبد الصالح في فرج أرحم الراحمين جل جلاله فدعا الله بقلب نقي وصوت خفي في مكان خلي( رب هب لي من لدنك ولياً يرثي ويرث من آل يعقوب واجعله ربي رضيا )توسل إلى الله بضعفه وعجزه ووخط الشيب في رأسه تبرأ من حوله وقوته ولجأ إلى حول وقوة رب العالمين جل جلاله( قال ربي إني وهن العظم منى واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعاك ربي شقيا) توسل إلى الله الذي أنعم عليه سابقا أن ينعم عليه لاحقا(47/3)
أيها المؤمنون: إن التوسل إلى الله بإظهار العبد لفقره وتبرئه من حوله وقوته وطوله واستناده إلى حول وقوة جبار السموات والأرض جل جلاله لهو من أعظم الوسائل عند الله جلا وعلى فإن ذلك مما يرزق الله به العباد ويفرج الله تبارك وتعالى به الشدائد واعلموا أن مايدفع الله أعظم وأن ماعند الله من خير هو وأبر وأتقى وأكرم. سبحان الله وبحمده كم من أب رزق مولود قرت به عينه حتى إذا زالت به الوحشة واطمأنت إليه النفس وتمنى عليه الأماني وازدادت فيه الرغبات فجع بموته وأخبر بفقده.(47/4)
أيها المؤمن: تعز بهذا البشارة العظيمه عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فقد "أخرج الإمام الحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث قرة بن إياس بن معاويه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل ذات يوم ومعه ابن له فقال عليه الصلاةوالسلام لذلك الرجل :أتحبه فقال الرجل: يارسول الله أحبك الله كما أحبه" يبين من شدة حبه لولده ثم فقده صلى الله عليه وسلم أياماً فسأل أصحابه قال: مافعل فلان قالوا: يارسول الله مات ابنه فلما صادفه صلى الله عليه وسلم قال له: أما يسرك أن لا تأتي باباً من أبواب الجنه إلا وجدته أمامك، فقال الصحابة: يارسول الله أله خاصة أم لنا كلنا فقال صلى الله عليه وسلم ـ وهو المخبر عن ربه ـ قال: بل لكم كلكم "إن في هذا أعظم العزاء لمن ابتلي بفقد الولد وإن لله جل وعلا ما أعطى ولله ماأخذ فالله الله في الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء لا إله إلا الله كم من مؤمن قعيد فراشه أسير بيته قد يئس منه الأطباء أقعده المرض وأشفق عليه الأحبه إن له في قول رسول الله صلى عليه وسلم "إن الرجل لتكتب له عند الله المنزله فلا يبلغها بعمله فما يزال الله يبتليه حتى يبلغ به منتهاه وله في أيوب عيه الصلاة والسلام وما فرج الله عنه وماحكا الله عنه في كتابه أجزل القدوة وأعظم الأسوة وله في أبي بكر رضي الله تعالىعنه يوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله :كيف الصلاح في الأمه وقد أنزل الله جل وعلا قوله (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به) فقال صلى الله عليه وسلم :يا أبا بكر ألست تحزن ألست تمرض ألست يصيبك الأواء فذلك ماتجزون به" إن في هذا تفريج كبير لمن ابتلي بكرب أو مرض من المؤمنين على أنه ينبغي للعبد أن لايقنط من رحمة الله وأن لاييأس من عفوه وفرجه فليسأل كاشف الغم وفارج الهم مجيب دعوة المضطرين أن يرحمه فإن الله أرحم من سؤل وأكرم من أعطى لا إله إلا الله كم من مؤمن كثير(47/5)
العيال قليل المال رقيق الحال تحتبس الدمعة في عينه إذا رأى منظر أولاده مع أولاد الجبران لما يرى من فرق بينهما لكنه لا يملك حول ولا قوة.
أيها المؤمن:إن الله بنى هذه الدنيا على غنا وفقر ...على شدة ورخاء... على عسر ويسر...
واعلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاماً و لك أيها المؤمن في قول صلى الله عليه وسلم :لما ذكر أهل الجنة قال أهل الجنة ثلاثة: وقال في آخرهم وعفيف متعفف ذو عيال .
أيها المؤمنون :إن الصبر على المكاره وانتظار فرج الله تبارك وتعالى منقبة عظيمه وخصلة حميدة واعلموا أنه لا يتم إيمان عبد بقضاء الله وقدره خيره وشره حتى يتم له الإيمان بأصول أربعة أولها:
علم الله جل وعلا علم الله للمعدوم والموجود وعلم الله للممكن والمستحيل وأن الله علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً).
وثانيها :الإيمان بأن الله كتب كل شي قبل أن يخلق الخلائق .كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر وبن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه" فما من مصيبة تقع إلا وقد كتبها الله أزلا في اللوح المحفوظ.
وثالث ذلك:الإيمان بمشيئة الله الشاملة وقدرته النافذة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(وماتشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين) .
أما خاتمها :فهو الإيمان بأن الله خالق كل شيء أوجده وكونه وصيره على هيئته (الله خالق كل شيئ وهو على كل شيء وكيل ) .
وصفوة القول/ أن الصبر رداءُُُُ جميل تزينوا به في العسر واليسر تزينوا به في السراء والضراء جعلني الله وإياكم ممن إذا أنعم عليه شكر وإذا ابتلي صبر.(47/6)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق الخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الأيات والذكر الحكيم... أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروة إنه هو الغفور الرحيم .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشد وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتبع سنتهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ...
أيها المؤمنين :فإن أعظم ما يمكن أن تصاب به الأمة أن تفقد خيار رجالاتها وأهل العلم والمروءة الكاملة فيها ولقد فجع الأمة عامه وأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بفقد رجل طالما وقف في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله على بصيرة كذلك نحسبه ولا نزكي على الله أحدا فجعت أمة المسلمين بوفاة شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن صالح رحمة الله تعالى عليه.
وإن في الموت لعبرة لمن يعتبر ذلك أن ذلك الشيخ طالما وقف في المحراب يصلي على أموت المسلمين ويدعو لهم بالمعفره والرحمه وقبل أيام معدودة يقدمه الناس فيصلون عليه ويدعون لهم بالمغفرة و الرحمه إنها سنة الله الماضية في الخلق فسبحان الحي الذي لا يموت سبحان من يفنا خلقه ويبقى وجه ،رحل ذلك الشيخ بعد أن ترك مآثر خالده وترك معالم بينه بعد أن دوب في محراب رسول الله عليه وسلم أكثر من أربعين عاماً يتلوا كتاب الله جل وعلا.
بلد الرسول قباؤه وعقيقه
قبر أبر على عظامك حاني
بلد الرسول قباؤه وعقيقه
قبر أبر على عظامك حاني
يبكيك فيه شيوخه ورجاله
عند الصلاة وحين كل أذان
يبكيك فيه منائر وأهلة(47/7)
والمنبر الشرقي ذو الأركان
أنا لست أبكي فيك شخصا غائبا
بل أبكي فيك معاقل الإيمان
أبكي الإمامة والخاطبة والتقى
أبكي القضاء ونبرة القرآن
في ذمة الله الكريم وحفظه
وظللا خلد وارف وآمان
آلا وصلوا وسلموا على أعظم من أصبتم بفقده على نبي الهدى ورسول الرحمه فقد أمركم الله بذلك في كتابهك" إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"
اللهم صلي وسلم على صفيك من خلقك وخليك من عبادك اللهم وارض عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي اللهم وأرضى عن هذا الجمع المبارك معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم اللهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم وخص شيخنا بمزيد من الرحمة يا حي ياقيوم اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين،وابرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك،فيؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر...
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
والحمد لله أولاًوأخيراً
أخواتكم
ALOKHBTAT(47/8)
"بسم الله الرحمن الرحيم"
حلقات برنامج
مجمع البحرين
للشيخ صالح المغامسي حفظه الله
فهرس المحتوى
الأوس والخزرج.........................................................3
الإسراء والمعراج.........................................................13
الحسن والحسين.......................................................22
الروح والجسد..........................................................33
آدم وحواء..............................................................44
شوقي وحافظ...........................................................52
القمران(الشمس والقمر).................................................64
موسى وهارون عليهما السلام...........................................74
الأمين والمأمون.........................................................84
الجن والإنس..........................................................93
جبريل وميكال........................................................113
"الأوس والخزرج"
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد(48/1)
فهذا هو اللقاء الثالث من المنتدى العلمي المسمى ببرنامج " مجمع البحرين" وقد سبقت الإشارة في الحلقتين السابقتين إلى أن البرنامج يعنى بأعلام ثنائية إذا ذكر أحدهما استدعى الآخر ندرس ذلك العلمين دراسة نرجوا من الله جل وعلا أن نوفق في أن نجعلها ذات صبغة عقدية وإيمانية وفقهية وتاريخية وثقافية وما إلى ذلك من الجوانب المتعددة والنواحي المختلفة والعلمان اللذان نحن بصدد دراستهما الليلة هما " الأوس والخزرج " وكثيرا ماردد أصحاب الصحوة وشبابها قول الشاعر:
فإن عرفت التاريخ أوساً وخزرجا * * فالله أوس قادمون وخزرج
فالأوس والخزرج هما / أبناء قيله هذا اسم أمهما واسم أبو الأوس الأوس بن حارثه والخزرج ابن حارثه فالأوس والخزرج يجتمعان في أب واحد هو حارثة ابن عقل ويجتمعان في أم واحده هي قيله ولذلك أحيانا ينادون بأبناء قيله وقد ورد هذا النداء في عدة نواحي في تاريخنا وتراثنا فقد جاء في حادثة الهجرة النبوية أن اليهودي الذي كان يقف على أطم من آطام المدينة لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه قادمين إلى المدينة نادى بأعلى صوته يا أبناء قيله هذا جدكم أي حظكم الذي تنتظرون فهذا مما ورد في تسميتهما بذلك.(48/2)
ـ كما ورد كذلك في صحيح السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه عامر بن الطفيل وعرض عليه النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان فأبي وأراد الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى عليه النبي ذلك قال أي عامر يهدد ويتوعد النبي صلى الله عليه وسلم قال لأملنها عليك أي المدينة خيلا جردا وشبابا مردا أو فتيانا مردا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه قال:" يأبى الله ذلك وأبناء قيلة" يأبى الله ذلك وأبناء قيله أي الأوس والخزرج هذا هو اسمهما لكن الله جل وعلا أبدلهما باسم خيرا منه ألا وهو الأنصار وقد جاء هذا بنص القرآن قال الله جل وعلا { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } وهذه من بيانية {مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} أي سابقون أولون من المهاجرين و سابقون أولون من الأنصار {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } فأبدل الله ذلك الاسم بقوله جل وعلا { الأَنصَارِ } فبهذا الاسم عرفوا في الكتاب وعرفوا في السنة وعرفوا في التاريخ الإسلامي كله.
ـ وقد جاء في فضلهم أمور عديدة وأحاديث كثيرة منها قول النبي عليه الصلاة والسلام { لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار } وأخبر عنهم كما في حديث البراء عند البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام { لايحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق } وكان كثيرا مايدعوا لهم ومما أثر من دعائه صلى الله عليه وسلم لهم قوله { اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار }.(48/3)
ـ أصلهم من اليمن نزحوا إلى المدينة بعد حادثة انهيار سد مأرب المعروفة بعد أن تفرق أهل اليمن أيادي سبأ ولعلهم من ذلك ورثوا الرقة التي في قلوبهم فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أهل اليمن قال : { أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية } الذي يعنينا هنا أن الأوس والخزرج هذا هو السبب التاريخي في نزوحهم وسكناهم في مدينته صلى الله عليه وسلم التي كانت تسمى يثرب.
هؤلاء القوم أعظم مايتميزوا به من حيث الإجمال:
ـ نصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالله جل وعلا اختار المدينة أن تكون مهاجرا و مأوى ومثوى لنبينا صلى الله عليه وسلم وهم رضي الله عنهم وأرضاهم أمنوا قبل أن يهاجر النبي عليه الصلاة والسلام إليهم آمن جم غفير منهم قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ثم أذن الله لنبيه عليه السلام ولأصحابه معه أن يهاجروا إلى المدينة فهاجروا إليها في قصة معروفة هؤلاء الكرام والصفوة العظام خصهم الله جل وعلا بخصائص بها نصروا الدين وهذا هو الغاية من هذا الدرس ليس الغاية السرد التاريخي ليس الغاية السرد التاريخي فقط .(48/4)
ـ فأول ماامتازوا به أولئك الأخيار رقة قلوبهم رقة القلب لينه وإيمانه وخشوعه وخضوعه عند ذكر الله جل وعلا وهذا من أعظم ماكان يميز أولئك الأنصار يقول العرباض بن سارية " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون " في غزوة حنين وقع في قلوبهم شئ لأن النبي عليه الصلاة والسلام منح غيرهم ولم يمنحهم فلما جمعهم النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم في آخر خطبته يستدر مافي قلوبهم من الرقة والإيمان والمحبة لله وللرسوله قال لهم صلوات الله وسلامه عليه {يامعشر الأنصار أما ترضون أن يعود النساء بالشاء والبعير وتعودون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم} فبكى القوم حتى بللوا لحاهم رضي اله عنهم وأرضاهم لكن ينبغي أن يعلم أنه لاتعارض مابين رقة القلب والحزم والشجاعة كما سيأتي وأخذ الأمور في نصابها فلا تعارض بين هذين أبدا إنما رقة القلب أمر يجده الإنسان عند ذكر الله عند ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم وليس كما يفهمه البعض اليوم جهلا أن رقة القلب دلالة على ضعف الشخصية هذا من تلبيس إبليس على الناس والمؤمن يفرق في الحالة التي يخاطب فيها الله ويناجي فيها ربه ويقرأ فيها القرآن ويتذكر فيها السنة والحالة الأخرى في عمله ووظيفته وبين أهله وقيادته للجيوش وقيامه بالأمارة وشأن ذلك مما يوكل الإنسان إليه هذا أعظم ماميز الله جل وعلا به أولئك الأنصار .(48/5)
ـ كما ميزهم تبارك وتعالى بالسخاء وقد أثنى الله عليهم بهذه الصفة بنص كتابه قال الله جل وعلا بعد أن ذكر الفقراء المهاجرين قال:{ والَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل المهاجرين{ والَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر : 9] هؤلاء الأخيار هاجر إليهم المهاجرون وقدموا إليهم في مدينتهم فاقتسموا المدينة والطعام والشراب والزرع والثمار معهم رضي الله عنهم وأرضاهم وتلك منقبة لهم يقول صلى الله عليه وسلم يبين فضلهم { أدوا الذي لهم } أي الأنصار { وبقي الذي عليهم } رضوان الله تعالى عليهم ومع ذلك لم يعطوا حقهم قدرا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أمر ألمح النبي عليه الصلاة والسلام إليه وقد قال للأنصار قبل أن يموت { إنكم ستجدون أثرة بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض } وكان ذلك الأمر وقع كما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا وبقيت الآخرة أن النبي عليه الصلاة والسلام فرطهم وسابقهم إلى الحوض صلوات الله وسلامه عليه هذا السخاء يذكر المؤرخون أن تبع الملك اليمني المعروف لما جال في الديار والأمصار والأقطار يغدوا مر على المدينة وكان آنذاك اسمها يثرب فجعل عليها ابنا من أبنائه ثم إنه غادرها فلما غادرها قام هذا اللابن الذي هو لتبع فرقى نخلة لأحد سكان المدينة آنذاك فلما ارتقاها أخذ الثمرة الذي فيها فجاء صاحب النخلة المدني أصلا فقتله وقال المثل المشهور " إنما الثمر لمن أبر " فلما قتله بلغ تبع مقتل ابنه فأتى وحاصر المدينة فأخذ يقتتل مع أهل المدينة نهارا فإذا جاء الليل تسكن الحروب آنذاك على عادة الناس وأعرافهم في ذلك(48/6)
الزمان لأنه لاضوء من خلاله يتقاتلون فكان أهل المدينة يبعثون له بالطعام في الليل فيقاتلونه في النهار فكان يقول أي تبع عجبت لأهل هذه القرية يحاربونني نهارا ويطعمونني ليلا ثم كأنه حس أن في الأمر شيئا فاستشار اثنين من الرهبان كانا معه لهما علم فقالوا له إنه لاسبيل إلى تلك القرية إلى هذه المدينة لاسبيل لك إليها فإنها مهاجر نبي يكون في أخر الزمان قال ماتشيرنا علي فأشارا عليه أن يبني فيها دارا فبنى فيها دارا مازالت هذه الدار يتوارثها أهلها تباع تشترى تورث حتى وصلت إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه وأرضاه وهي الدار اللتي سكنها نبينا صلى الله عليه وسلم أول هجرته بعد أن نزل في دار أبي أيوب قبل أن يتخذ صلى الله عليه وسلم ويبني مسجده ويبني دوره وحجرات أمهات المؤمنين حول مسجده الذي يعنينا في هذا المقام أن من أعظم دلائل الكرم والفضل وعلو الهمة وقرب العبد من الناس وهذا أمر محمود والإنسان لايمكن أن يطالب الناس بأن يعطوه دون أن يعطوا فإذا كان الإنسان شحيحا بخيلا لايمكن أن يكون ذا سيادة قال عليه الصلاة والسلام للأنصار:" من سيدكم ؟ قالوا : الجد بن قيس على بخل فيه . فقال : وأي داء أدوء من البخل هو ليس بسيدكم ولا يكون البخيل سيدا أبدا ولا يكون السيد بخيلا أبدا . نقول المتنبي يقول :
لولا المشقة ساد الناس كلهم **الجود يفقر والإقدام قتال(48/7)
من أعظم أسباب السيادة في الخلق أن يكون الإنسان سخيا يجاهد في ماله في معروفه في بدنه في كل مايقدر عليه هذا الذي يوطن الإنسان في مجتمعه ومكانته لكن إذا صاحب ذلك السخاء رغبة فيما عند الله والدار الآخرة رغبة فيما عند الله من الجنان وخوفا من النار كان ذلك أبر وأفضل وهو الذي كان عليه الأنصار يوم أن نعتهم الله جل وعلا بقوله :{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً *ِ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً }.(48/8)
ـ مما امتاز به أولئك الأخيار شجاعتهم وقلنا سلفا إنه لا تناقض مابين رقة القلب ومابين الشجاعة الأنصار هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام يستثير الهمم ويستشير الناس ويجيبه أبوبكر ثم عمر وهو عليه الصلاة والسلام يكرر خطابه الأول:" أشيروا علي أيها الناس" ففقهه الأنصار أنه يعنيهم فقام سعد بن معاذ وقام غيره كالمقداد وغيرهم يخبرون عن شجاعتهم ويقول لنبينا صلى الله عليه وسلم لو خضت بنا برك الغماد لذهبنا معك وهذا كناية عن نهاية المعمورة وأحدهم يقول لو خضت بنا هذا البحر وأحدهم يقول إنا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ومن دلائل شجاعتهم ذلك التصرف الفردي إذا كان هذا تصرف جماعي كذلك التصرف الفردي من أبي دجانة رضي الله عنه وأرضاه يوم أخرج النبي صلى الله عليه وسلم سيفه يوم أحد وقال من يأخذ هذا السيف بحقه قالوا وماحقه يارسول الله قال أن يفعل به كذا وكذا أي أن يكسر في يد صاحبه فجاء أبودجانة رضي الله عنه وأخذه وكان يلبس عصابة حمراء فمشى يختال بين الصفوف وقال صلوات الله وسلامه عليه { والله إنها لمشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن } وحدث في المعركة أن أبادجانة كان يدرء بذلك السيف كل من يقاتله فيقتله حتى سمع صوتا رأى خيالا فهم أن يضرب به السيف فلما هم بأن يضرب بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بالمضروب يحدث صوتا فعلم أنها امرأة فأوقف سيفه وقال " أكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة "(48/9)
ـ مما امتاز به أولئك القوم الصلاح والتقوى جملة ومن أعظم من اشتهر منهم بالصلاح والتقوى سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه سيد الأوس وهو الذي دفنه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد جنازته ونزل سبعون ألف ملك من السماء يشيعونه رضوان الله تعالى عليه وأرضاه ولقد ذكر الذهبي رحمه الله في " الأعلام " وذكره غيره أنه عليه الصلاة والسلام لما ذهب بسعد إلى البقيع وكان أصحاب سعد وأهله يباشرون دفنة تغير وجهه عليه الصلاة والسلام ثم مالبث أن كبر فكبر معه أهل البقيع ثم قال صلوات الله وسلامه عليه {إن للقبر ضمة لو نجى منها أحد لنجى منها سعد بن معاذ } وفي رواية { لنجى منها هذا العبد الصالح } فهذه شهادة من نبي الأمة ورأس الملة صلوات الله وسلامه عليه لسعد لأنه كان عبدا صالحا وإنما ذكرناه أنموذجا وإلا كلهم صالحون رضي الله عنهم وأرضاهم إلا أنهم يتفاوتون في الصلاح .
ـ مما نصر به أولئك الأخيار نبينا صلى الله عليه وسلم البيان وقد كان الأنصار ذا بيان أوسا وخزرجا وممن اشتهر منهم كعب بن مالك وعبد الله ابن رواحه لكن الذي برع في البيان الشعري على الوجه الخصوص منهم حسان بن ثابت وهو من الخزرج رضي الله عنه وأرضاه وحسان أدرك الإسلام يوم دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان سن حسان آنذاك ستين عاما وقد عمر حتى بلغ مائة وعشرين سنة فعاش ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام كان يفد على الغساسنة والمناذرة في الجاهلية وهو القائل يمدحهم أي الغساسنة :
لله در عصابة نادمتهم ** يوم بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ** قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ماتهر كلابهم ** لايسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ** شم الأنوف من الطراز الأول
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آمن حسان ونصر الإسلام والرسول بشعره ومما قاله في مدح نبينا صلى الله عليه وسلم:(48/10)
عدمنا خيلنا إن لم تروها ** تثير النقع موعدها كداء
ثم أخذ يقول فيمن يهجوا النبي صلى الله عليه وسلم:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء
فإن أبي ووالده وعرضي **لعرض محمد منكم وقاء
وجبريل أمين الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء
في همزيةٍ شهيرة كان يذود بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه استأذن النبي عليه الصلاة والسلام أن يرد على القرشيين فقال عليه الصلاة والسلام:" كيف تهجوهم وأنا منهم" فقال حسان رضي الله عنه يارسول الله :وأي والله إني لأسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين" فأشار عليه النبي عليه السلام أن يذهب إلى أبي بكر لعلمه بأنساب قريش حتى يبين له أنساب القرشيين حتى لايقع في آل يكون في هجائهم هجاء لنبينا صلوات الله وسلامه عليه وبقي حسان وفيا لنبينا عليه السلام حتى بعد وفاته فلما مات النبي عليه الصلاة والسلام وارتجت المدينة وأظلم منها كل شئ وأنكر الناس قلوبهم قال حسان يرثي النبي عليه السلام:
بطيبة رسم للنبي ومعهد ** منير وهل تعف الرسوم وتحمد
بها حجرات كان ينزل وسطها ** من الله نور يستضاء ويوقد
معالم لم تطمس على العهد آيها ** أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وصحبه ** وقبرا به واراه في الترب ملحد
فبوركت ياقبر الرسول وبوركت ** بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
ومافقد الماضون مثل محمد ** ولا مثله حتى القيامة يفقد(48/11)
صلوات الله وسلامه عليه . كما برع حسان في الشعر برع ثابت بن قيس رضي الله تعالى عنه في النقد فكان يعرف بخطيب النبي صلى الله عليه وسلم ولما قدمت بعض وفود العرب في عام الوفود في العام التاسع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك الوفود من أراد أن يباعث النبي عليه الصلاة والسلام في الشعر والنثر فقالوا أخرج إلينا شاعرك وأخرج إلينا خطيبك فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم حسانا واستدعى ثابت بن قيس فكان ثابت رضي الله عنه وأرضاه فصيحا بليغا فقام يخطب فلما فرغ حسان وفرغ ثابت قال أولئك الوفد قالوا أيها الناس إن هذا الرجل لمنصور والله إن شاعره لأفضل من شاعرنا وإن خطيبه لأفضل من خطيبنا.
هؤلاء هم أنصار رسول الله صلوات الله وسلامه عليه جملة وقد قلنا إن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنهم سيجدون أثرة بعده وقد كان وواعدهم النبي عليه الصلاة والسلام الحوض.
على هذا نقول يحسن بالمؤمن أن يحب أولئك القوم كلما ذكروا وأن يذكرهم بخير وأن يثني على صنائعهم وأن ينشرها بين الناس ولو أحب أهل المدينة جملة من هذا الباب لكان موفقا مسددا بأنهم جيران نبينا صلى الله عليه وسلم .(48/12)
وهؤلاء الأنصار كان النبي عليه الصلاة والسلام يأتيهم في دورهم إكراما لهم فقد أتى بني عبد الأشهل وهم قوم من الخزرج وصلى بهم صلى الله عليه وسلم المغرب فلما صلى المغرب انفرق الناس يؤدون ركعتين المغرب فقال عليه الصلاة والسلام معلما لهم هذه صلاة البيوت أي أن ركعتي المغرب الأصل فيها أن تكون في البيوت . كما زار النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله بن...... رضي الله تعالى عنه وزار أباه وزار غيرهم يتفقد أحوالهم وكان حتى صبيانهم يداعبهم عليه الصلاة والسلام وهو القائل لأحدهم مافعل النغير يا أبا عمير فالمخاطب بهذا الحديث صبي صغير من الأنصار ولكن النبي عليه الصلاة والسلام يكنيه ثم يداعبه ويمازحه ويسأله عن طيره الذي يؤويه وحمامه الذي يربيه وهذا كله من محبته عليه الصلاة والسلام إلى أولئك القوم حتى ورد أنه عليه السلام لما دخل المدينة في أول الأمر وابتدروا يكرمونه ويعظمونه ويقولون يارسول الله هلم إلى العدد والعدة هلم إلى العز والمنعة نظر عليه الصلاة والسلام إلى جواري من بني النجار يضربن بالدف ويقلن:
ياحبذا محمدا من جار ** نحن جواري من بني النجار(48/13)
فقال صلى الله عليه وسلم وقد التفت إليهن أتحببنني قلن نعم يارسول الله قال وأنا والله أحبكن .فهؤلاء هم أنصار رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ونحن مطالبون بأن نقتفي آثار الأخيار ومسالك الأبرار فيجب أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعلم أنه عليه الصلاة السلام ميت وروحه في الملأ الأعلى و المحل الأسنى لكن ننصر سنته ننصر هديه نقتفي أثره نتبع ماكان عليه عليه الصلاة والسلام من الهدي القويم والصراط القريب ذلك ما أردنا بيانه وتهيأ إعداده ختاما نقول كما قال البر جل وعلا {وََالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء هم الثلة الأخيار منهم الأوس والخزرج سكان المدينة في غابر الأزمان وأوائل الدهر ممن نصروا الله ورسوله ألحقنا الله بهم في الصالحين وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه وبارك لنا ولكم فيما نقول ونسمع والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.،
"الإسراء والمعراج"
"بسم الله الرحمن الرحيم"
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
فهذا هو اللقاء الثاني من برنامجنا " مجمع البحرين " وموضوع حلقة اليوم " الإسراء والمعراج " ومعلوم لكل أحد أن هذا الحدث يرتبط بشخصية نبينا صلى الله عليه وسلم فهو جزء من سيرته العطرة وأيامه النظرة صلوات الله وسلامه عليه .
والإسراء والمعراج:(48/14)
حادثة وقعت قبل الهجرة بثلاث سنوات إلا أنه لا يعلم صراحة بسند صحيح اليوم أو الليلة التي حدثت فيها وإن كان بعض العلماء يقول : إنها ليلة السابع والعشرين من شهر رجب لكن الاتفاق على أنها قبل الهجرة بثلاث سنوات أما تحديد ذلك ففيه خلاف بين العلماء لكن كما قلت رجح بعضهم أن يكون ليلة السابع والعشرين وهذا هو المستقر عند جماهير الناس ولذلك نرى في بعض الدول من يحتفل بليلة الإسراء والمعراج في ذلك الوقت بالتحديد ونحن وإن كنا لا نرى شرعية تلك الاحتفالات التعبدية إلا أننا نقول إن الذي جعله يستقر في الأذهان ويعظم ليلة سبع وعشرين من شهر رجب عند الناس أنها وافقة أحداث تاريخية مرتبطة بالمسجد الأقصى فمثلا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى القائد المظفر المعروف فتح القدس بعد معركة حطين ودخل بيت المقدس في ليلة السابع والعشرين في شهر رجب فهذا أكد عند فئام من الناس أنها هي ليلة الإسراء والمعراج وكان ذلك عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة من هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وكان المسجد الأقصى بذلك قد مضى له إحدى وتسعين سنة وهو رهين الحروب الصليبية أو الأسر الصليبي عند النصارى . الذي يعنينا من هذا كله أن هذا التاريخ الزمني للإسراء والمعراج.
الإسراء والمعراج:(48/15)
جاء في مرحلة أحوج ماكان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يحتفي به ربه والأنبياء لهم عند الله المقام العظيم والمنزل الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فقد خديجة بنت خويلد زوجته وفقد عمه أبوطالب ثم خرج إلى الطائف رده أهلها فجاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد هذه الأحداث الثلاث التي أثرت شيئا ما على معنوياته عليه الصلاة والسلام لكنه في كنف الله في رحمة الله ورعايته فجاءت رحلة الإسراء والمعراج أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهذا جاء ثابت بنص القرآن وجاءت رحلة المعراج ثابتة في السنة متواترة تواتر لفظيا أو معنويا على أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من المسجد الأقصى إلى السموات السبع غسل صدره عليه الصلاة والسلام بماء زمزم ربط دابته البراق عند الحائط صلى بالنبيين إماما عرج به إلى السماء السابعة قابل إخوانه من النبيين في السماء الأولى أباه آدم في السماء الثانية ابني خاله يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم في السماء الثالثة أخاه يوسف في الرابعة إدريس في الخامسة هارون في السادسة موسى في السابعة أباه إبراهيم هذا كله لا نفصل فيه لأنه معروف لكننا الحلقة أو البرنامج أصلا لا يعنى بالسرد التاريخي المحض وإنما يعنى بالفوائد التي تنجم عن هذه الأعيان التي نذكرها الزمانية والمكانية والتاريخية والأشخاص .
فنقول في الإسراء والمعراج ثمة فوائد جمة لا تكاد تحصى من أولها:
ـ فضل بيت المقدس , فضل المسجد الأقصى فإن الله جل وعلا جعل المحطة الأخيرة لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يعرج به إلى السماء جعله بيت المقدس جعله بالمسجد الأقصى فقال سبحانه : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} ومن المسجد الأقصى كان المعراج وهذا يدل على فضيلة بيت المقدس وقد دلت آثار كثيرة على هذا منها:(48/16)
ـ أن نبي الله موسى عليه السلام قلنا مرارا في دروس عدة أنه مات وبنو إسرائيل في التيه قبل أن يدخل الأرض المقدسة فسأل الله جل وعلا أن يدنيه من بيت المقدس ولو رميت حجر حتى يكون قريبا من تلك الأرض المباركة عليه الصلاة والسلام.
ـ والله لما ذكر المسجد الأقصى قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ} فعمت بركة الله جل وعلا على تلك الأرض لأنها مأوى الأنبياء ومثواهم ومنازلهم ومواطنهم أكثر أنبياء الله كانوا من أرض فلسطين.
ـ والصحابة رضي الله عنهم كانوا يعلمون ذلك كانوا يتدارسون فضل الصلاة في المسجد الأقصى ويوم ذاك لم يكن المسجد الأقصى قد دخل أصلا في حوزة المسلمين فكانوا يتدارسونه كما في حديث أبي ذر وهو حديث بسند صحيح عند الحاكم وعند غيره فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم فسألوه أي الصلاة أفضل في المسجد النبوي أم في المسجد الأقصى ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : { صلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو } ومن هنا يتبين لنا أن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة خلافا للمشهور عند كثير من الناس أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة نعم في هذا حديث لكن الحديث الوارد في أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة حديث ضعيف السند أما الحديث الذي ذكرناه آنفا حديث أبي ذر فهو حديث صحيح رواه الحاكم في مستدركه بسند صحيح فنقول إن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة .
الصورة التاريخية المنقولة الآن عن المسجد الأقصى:(48/17)
تظهر المسجد وتظهر في جواره مسجدا آخر عليه قبة ذهبية اللون هذا المسجد ليس المسجد الأقصى الذي عليه القبة هذا مسجد قبة الصخرة وهذه القبة الذي بناها عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف لما كان في حروبه مع ابن الزبير فكان الناس يقدمون في الحج إلى الحجاز إلى مكة وكان الزبير في مكة فأراد عبدالملك أن يصرف وجوه الناس عن ابن الزبير فاعتنى ببيت المقدس وصنع القبة على الصخرة على مسجد الصخرة ووضع هذه القبة التي نراها الآن وقد جددت بعضه كثيرا وضع هذه القبة حتى يصرف الناس عن إتيان مكة ويأتون إلى بيت المقدس كل ذلك رغبة في إضعاف خصمه السياسي ألا وهو عبدالله بن الزبير هذا للتفريق في الصور التي نراها ونشاهدها الآن عن المسجد الأقصى بيت المقدس في كل آنٍ وحين في مكاتبنا ودورنا وغير ذلك و في الصحف والمجلات وأمثالها ،الذي يعنينا أن هذا المكان مكان مبارك صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم إماما.
ـ لما صلى به النبي صلى الله عليه وسلم إماما ؟
يقول العلماء كلنا يعلم أن النبي علية الصلاة والسلام آخر الأنبياء عصرا آخرهم دهرا آخرهم مبعثا فصلوا وراءه حتى يبين الله لهم أي الأنبياء ولغيرهم من الناس مكانة هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه فهو وإن كان آخر الأنبياء عصرا إلا أنه أولهم وأرفعهم وأجلهم قدرا وذكرا صلوات الله وسلامه عليه .(48/18)
في احتفاء الله جل وعلا بنبيه في السموات السبع وصعوده عليه الصلاة والسلام والعروج به من السماء إلى سماء هذا رد على أهل الأرض الذين ضيقوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته وكذلك كل أنبياء الله لا يتركهم الله جل وعلا لخصومهم وأعدائهم إنما يتولاهم الله ويرعاهم ويعوضهم خيرا وإن كان التعويض وولاية الله تتفاوت من شخص إلى شخص ومن عبد صالح إلى عبد صالح سنة الله في الذين خلوا من قبل لكن النبي صلى الله عليه وسلم يمثل الذروة العليا من عباد الله الصالحين فهو عليه الصلاة والسلام يقول لما ذكر الآذان قال:" سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة للجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد" ـ أي لا تحتمل اثنين ـ "وأرجوا أن أكون أنا هو" صلوات الله وسلامه عليه والمقصود من هذا أن حفاوة أهل السموات لنبينا صلى الله عليه وسلم دليل على رفيع مقامه و علو مكانته عند ربه صلوات الله وسلامه عليه وصل عليه الصلاة والسلام إلى أن تجاوز السدرة المنتهى،(48/19)
وأهل العلم يقولون : إنها سميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها مايعرج من الأرض وظاهر الأمر أن هذه السدرة لا يتعداها أحد أي لا يتعدى مقامها أحد لا يتخطاها أحد فالنبي عليه الصلاة والسلام تجاوزها بقليل حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام وهناك كلمه ربه وناجاه وقربه وأدناه وأفاء عليه من نعمه وأعطاه الصلوات الخمس فرض عليه الصلوات الخمس لكنه لم يؤتي أوقاتها لم يبين له تفصيلا مواطن الصلوات فلما أسمع صلى الله عليه وسلم وبانت الشمس جاء جبريل من رب العالمين جل جلاله جاء بمواقيت الصلاة فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال صلاة الظهر ثم أخذ يعلمه الصلوات في يومين متتابعين يصلي به في أول الأمر في أول الوقت ويصلي به في اليوم التالي في آخر الوقت ثم يقول له : " إن الصلاة مابين هذين " على هذا نقول إن صلاة الظهر هي أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كفريضة في حياته أول صلاة فرضت على هذا الأمة إن صح التعبير.(48/20)
ـ في رحلة الإسراء والمعراج يطالعنا ماء زمزم فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم وقد جاء في حديث حسنه بعض العلماء { أن ماء زمزم لما شرب له} ولهذا كان سلف الأمة من العلماء والقواد وغيرهم يحرصون على الشرب من ماء زمزم بنية فعبدالله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث رحمة الله تعالى عليه الفقيه المعروف لما قدم مكة أخذ ماء زمزم ثم ذكر السند الموصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عليه الصلاة والسلام { ماء زمزم لما شرب له } فقال إن نبيك صلى الله عليه وسلم قال :{ ماء زمزم لما شرب له } اللهم إني أشربه لهول أو لعطش يوم القيامة فشربه . والشافعي رحمه الله كان في أول حياته قبل أن يتفرغ للعلم كان يحب الرمي فلما شرب ماء زمزم غلبت عليه طبيعته آنذاك فشربه رحمه الله للرمي أي حتى يوفق في الرمي فيقول بعدها أبوعبدالله أي الشافعي يقول : كنت إذا رميت عشرة أسهم أصيب في تسع فلربما أصبت في العشرة كلها إذا رميت عشرة أسهم أصيب في تسع منها ولربما أصبت في العشرة كلها . الخطيب البغدادي رحمه الله جاء مكة فشرب ماء زمزم وقال اللهم إني أشربه لثلاث فذكرها الرق يحدث بتاريخه فيها وكان يملي حديثه في جامع المنصور بأسوان ويدفن بجوار قبر بشر الحارث فحقق الله جل وعلا له هذه الثلاث كلها . قال العلماء : فحقق له الطلب العلمي الذي ذكره ثم دفن بجوار قبر بشر الحارث .الذي يعنينا من هذا كله أن ماء زمزم ماء لما شرب له وماء فضله الله جل وعلا فهو همزة جبريل وسقيا إسماعيل وماء أفاء الله به على أهل بيته وعلى أهل بلده الحرام وعلى حجاج كعبته كل ذلك فضل من الله ورحمه وبهذا خص الله جل وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يغسل قلبه بماء زمزم دون غيره من المياه.
كذلك أصبحت حادثة الإسراء والمعراج:(48/21)
ماده خصبة في عالم المدائح النبوية وفي عالم الأدب والحق أن المدائح النبوية في أصلها الجواز بلاشك وإن كان المدح في عمومه جائز إن لم يكن فيه غلو ولاريب أنه لاأحد أولى ولا أحق بالمدح من رسولنا صلى الله عليه وسلم وقد بعض الشعراء عفا الله عنا وعنهم غلو في هذا غلوا ذميما لا يحسن أن نذكره لكن نقف عند بعض من وفق من الشعراء ونخص شوقي بالذكر في حديثه عن رحلة الإسراء والمعراج وقد تكلم شوقي رحمه الله عن الإسراء والمعراج في قصيدتين من شعره أولاهما في الميمية والأخرى في الهمزية وبكل وفق وقال خيرا ونستأنس ببعض قال رحمه الله في ميميته في مطلعها جزل عفيف رائع:
ريم على القاع بين البان والعلم *** أحل سفك دمى في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا *** يا ساكن القاع، أدرك ساكن الأجم
لما رنا حدثتني النفس قائلة *** يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها و كتمت السر في كبدي *** جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
يا لائمي في هواه، والهوى قدر *** لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
ثم ذكر الإسراء والمعراج:
أسرى بك الله ليلا في الملائكة *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك به التفوا بسيدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر *** ومن يفز بحبيب الله يأتمم
جبت السماوات أو ما فوقهن جداً *** على منورة درية اللجم
ركوبة لك من عز ومن شرف *** لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته *** وقدرة الله فوق الشك والتهم
هذا ماقاله شوقي رحمه الله في الميميه،أما ما قاله في الهمزيه :
يا أَيُّها المُسرَى به شرفاً إلى * ما لا تنال الشمسُ والجوْزاءُ
يتساءَلون وأنتَ أَطهرُ هيكل * بالروح أم بالهيكل الإِسراءُ
بهما سَموْتَ مُطَهَّرَيْن كلاهما * روحٌ وريحانِيَّة وبهاءُ
تغشى الغُيوبَ من العوالم كلَّما* طُويَتْ سماءٌ قُلِّدَتْكَ سماءُ(48/22)
أَنت الذي نَظمَ البريَّةَ دينُهُ * ماذا يَقول ويَنظم الشعراءُ
المُصلِحون أصابعٌ جُمِعت يَداً * هي أَنت بَلْ أنت اليدُ البيضاءُ
صلى عليك اللهُ ما صحِب الدُّجى * حادٍ وحَنَّت بالفلا وَجناءُ
واستقبل الرِّضْوانَ في غُرفاتِهم * بجِنان عَدْنٍ آلُك السُّمحَاءُ
صلوات الله وسلامه عليه بكرة وأصيلا . وإن كان لشوقي هفوات وزلات عظيمة جدا في باب العقيدة في بعض أشعاره لكن هذه الأبيات التي ذكرناها من جيد شعره وهي سلسلة في لفظها جيدة في معناها موفقة فيمن قيلت فيه وهل يحسن الشعر في أحد كما يحسن في نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ـ تبقى مسألة فقهيه قليلا بعض العلماء يناقش قضية أيهما أفضل ليلة الإسراء والمعراج أم ليلة القدر؟(48/23)
ونرى أنه لا ينبغي أن نجمع النقاش بين هاتين الليلتين لأن ليلة الإسراء والمعراج ليس للأمة علاقة بهما اللهم إلا من فرحهم لإكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهي ليست ليلة تعبديه لم يتعبدنا الله جل وعلا فيها بعمل ولذلك لم يقل الله عن وقتها لم يخبرنا الله عنها ولم يخبرنا في أي شهر هي ولم يتعبدنا بأن نسعى أن نترقبها بخلاف ليلة القدر فإن ليلة القدر أعطيت لنتدارك أنفسنا ونتوب إلى الله ونتقرب إلى الله بصالح أعمالنا جعلها الله جل وعلا ميزان الرحمة يتنافس فيه المصلحون ويتقرب فيه العابدون ويقوم فيه الصائمون وأمثال ذلك من طرائق الوصول إلى رضوان الله الذي هو قائم في أساسه كله على قيام تلك الليلة {من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه } على هذا نقول إن ليلة الإسراء والمعراج بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر بلا شك لأنه في ليلة الإسراء والمعراج كلم ربه أما ليلة القدر بالنسبة لنا كأتباع لهذا النبي الكريم أفضل من ليلة الإسراء والمعراج لأن ليلة الإسراء والمعراج غاية الأمر فيها أن نفرح فيها لما كان من تعظيم الله وإكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أما ليلة القدر فقد جعلها الله جل وعلا طريقا موصلا إلى رحمته وإلى جنانه وإلى غفران الذنوب وتعبدنا تبارك وتعالى في أن نسعى للاجتهاد التعبدي فيها وأن نترقبها وأن نتحراها كما دلت على ذلك الآثار الصحاح عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
ـ بقي أن نقول معشر الأحبة أن بعض العلماء يناقشون قضية هل أسري بالجسد أو بالروح بالنبي صلى الله عليه وسلم؟(48/24)
وهذا الأمر ظاهر بين كنت لا أحب أن أتكلم فيه لكنني أتكلم فيه من باب سد الذرائع أو قطع الباب وهو أن نقول لا يعقل أن يقال إن الإسراء كان بالروح فقط أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط وهو لو كان كذلك لما كبر وعظم على القرشيين ولما ردوه ولما عنفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله هذا ولا سخروا منه لأن كل إنسان يستطيع أن ينام فيرى ما يرى ويحلق به روحه فيما شاء من العوالم والأفلاك لكن الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح ولهذا قال الله جل وعلا {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ولفظ عبد يدخل فيه إذا أطلق الروح والجسد قطعا مجتمعتين والمقصود به هنا العبد النبي صلى الله عليه وسلم صلوات الله وسلامه عليه هذا ما تيسر إرادة وتهيأ إعداده عن ليلة الإسراء والمعراج قلناه على بينة من الأمر وقفنا في الأمور التي يغلب على الظن أنها غير مشتهرة أما غير ذلك من الفوائد فقد ضربنا عنه الذكر صفحا لاشتهاره وكنا قد بيناه في دروس شتى ومواطن متعددة والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
" الحسن و الحسين "
"بسم الله الرحمن الرحيم"
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذا بحمد الله وفضله اللقاء التاسع من برنامجنا " مجمع البحرين " وموضوع حلقة هذا اليوم هو " الحسن والحسين " سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وندرك جميعا أن الحديث عن هذين السبطين الكريمين حديث ذوشجون لما يعتريه من التفكير بسبطين كانا حبيبين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبادئ الأمر نقول :(48/25)
إن الرب تبارك وتعالى رزق نبينا عليه الصلاة والسلام زوجة آلته وكفته هي خديجة بنت خويلد ولهذا كان أول قلب دخله الإيمان من هذه الأمة قلب امرأة هي خديجة وأول مال أنفق في سبيل الله في هذه الأمة كان مال امرأة وهو مال خديجة وأول دم أهرق في سبيل الله في هذه الأمة كان دم امرأة هو دم سمية زوجة ياسر أبي عمار .
خديجة هذه كان لها الولد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان له الولد منها ذكرانا وإناثا أنجبت له القاسم وعبدالله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة أما عبدالله والقاسم قبله فماتا صغيرين القاسم مات قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم وعبدالله مات بعد البعثة لكن أكبرهما لم يعمر إلى ست سنين في حين بقيت رقية وأم كلثوم وزينب عاشوا حياة النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عثمان رقية ثم تزوج أم كلثوم وماتتا جميعا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام أما زينب فقد كان لها ابن خالة يقال له العاص بن أبي الربيع فرغبت خديجة خالته أن تزوجه من ابنتها زينب فكلمت النبي صلى الله عليه وسلم فقبل فلما أكرم الله نبيه بالبعثة والرسالة آمنت زينب بأبيها ولم يؤمن العاص وبقي كافرا حتى كانت معركة بدر فلما كانت معركة بدر كان العاص من الأسرى الذين أسرهم المسلمون من أسارى بدر فلما أذن النبي و الصحابة في فدية الأسرى بعث القرشيون بالفدية بالأموال يفدون أسراهم فبعثت زينب بفدية كان في تلك الفدية قلادة أعطتها إياها أمها خديجة وقت دخولها على زوجها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة رق لابنته وقال إن شئتوا أن تتركوا لها أسيرها فافعلوا فرجع العاص بن الربيع إلى زوجته زينب في مكة هي مؤمنة وهو كافر لما رجعوا كان العاص يقولون إنه واعد النبي عليه السلام أن يرد له ابنته.(48/26)
قريش الحدث كان عظيما عليها فمنعت النياحة على القتلى حتى كان منهم رجل مات له ثلاثة من الأبناء فأصابه حنق في صدره مكتوم لأنه لايستطيع أن يعبر عن حزنه ، قريش منعت البكاء منعت النحيب منعت النواح ، فسمع امرأة تبكي فظن أن قريشا أذنت فبعث ابنا له يسأل يتحدث الخبر فجاءه الابن الرابع هذا ليقول له يا أبتاه لم تأذن قريش وإنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته يعني أضاعته فقال الرجل :
أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص ومخزوم ** ورهط أبي الوليد(48/27)
الذي يعنينا هنا أن زينب خرج بها كنانة بن الربيع أخو من ؟ أخو العاص خرج بها يريد أن يردها للنبي عليه الصلاة والسلام وكان النبي قد بعث زيدا بن حارثة ورجلا معه حتى يأخذوا ابنته من أطراف مكة ويردوها إليه عليه الصلاة والسلام في المدينة تبعهم بعض القرشيين سفهاء قريش يريدون أن يمنعوا زينب أن تغدوا إلى أبيها فردهم كنانة وهو مشرك ردهم أن يأذوا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى اتفاق بين الطرفين بتدخل أبي سفيان على أن يؤخر خروج زينب إلى المدينة فترة حتى تسكن جراح قريش ثم بعد ذلك عادة إلى المدينة إنفاذا لوعد أبي العاص للنبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج أبوالعاص بن الربيع هذا خرج في تجارة بأموال قريش فصادف سرية من الصحابة ففر منهم وهو ذاهب إلى الشام يمر على المدينة على أطراف المدينة ففر منهم خوفا على نفسه حتى دخل المدينة فبدأ ببيت النبي ودخل على زينب امرأته يطلبها أن تجيره من المسلمين هذا كله في الليل لما أصبحوا والنبي عليه الصلاة والسلام يكبر لصلاة الفجر وإذا بزينب تصرخ للناس أيها الناس إنني قد أجرت أباالعاص بن الربيع فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاته قال : أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت قالوا نعم يارسول الله قال : أما والله إني لا علم لي بهذا إلا الساعة ثم إنه دخل على ابنته وقال : قد أجرنا من أجرتي لكن لا يقرعنك ثم رجع العاص إلى مكة فرد الأموال إلى القرشيين وهناك أعلن إسلامه ثم مالبثت أن ماتت زينب .(48/28)
فمن بقي إذا من أبناء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ؟ لم تبقى إلا فاطمة ، فاطمة زوجها النبي صلى الله عليه وسلم من علي ابن عمها فأنجبت له الحسن والحسين ومحسن محسن مات وهو صغير أما الحسن والحسين فقد كانا أبوهما يريد أن يسميهما حربا لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأول بل هو الحسن وقال في الثاني بل هو الحسين وقال في الثالث بل هو محسن وقال فيهم أجمعين سميتهم بولد هارون بشار ومبشر وبشير .
الحسن والحسين أضحيا سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرجان في بيته وقد حرم نعمة الولد عليه الصلاة والسلام بعد أن رآها وهو قد حرم عليه السلام نعمة الأبوة والأمومة وإنه مات أبوه وهو حمل وفقد أمه عليه الصلاة والسلام وسنه ست سنوات هذا كله جعل تلك العاطفة البشرية الموجودة فيه صلوات الله وسلامه عليه تنصرف أكثر ماتنصرف إلى هذين السبطين صلوات الله وسلامه عليه .
ـ جاء في روايات متعددة كلها تشهد بمدى محبة النبي الكريم لهذين السبطين:
حديث بريدة فيه أنه كان على المنبر يخطب في الناس عليه السلام فدخل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان فيعثرا فقطع الخطبة ونزل من المنبر وحملهما ووضعهما بين يديه ثم التفت إلى الناس وقال صدق الله ورسوله { إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} لقد نظرت إلى ابني هذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما ويقول:{ هما ريحانتاي من الدنيا } من الدنيا ويقول : { اللهم إني أحبهما فأحبهما } إلى غير ذلك من الآثار ويقول عنهما { الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة } رضوان الله تعالى عليهما .
*مالذي يمكن أن نستنبطه من خبر الحسن والحسين أمور عدة :(48/29)
ـ أولها أننا نجد أنفسنا قلبيا نحب من يحبه الله ورسوله والنبي صلى الله عليه وسلم أحب هذين السبطين فنحن نتعبد الله بمحبتهما تبعا لمحبة نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا أمر لا ينبغي أن يكون فيه ثمة خلاف فإن الإنسان إذا أحب أحدا أحب كل مايتعلق به ونبينا عليه الصلاة والسلام تعلق قلبه محبة شرعية منظبطة لحب السبطين رضوان الله تعالى عليهم حتى إنه كان يضع يديه الطاهرتين على رؤوسهما ويقول :{ أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة } ثم يقول:{ إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق} يعني أباه إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .(48/30)
ـ هذان السبطان مع أبيهما وأمهما كانا شيئا عظيما بالنسبة للنبي عليه السلام لما جاء وفد نصارى نجران إلى النبي عليه السلام في عام الوفود ودعوه إلى المباهلة وذكروا له أن عيسى ابن الله ودافعهم إلى هذا أنه ولد من غير أب فأنزل الله جل وعلا قوله { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ*الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنَ مِنَ الْمُمْتَرِينَ*فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} فاتفق النبي عليه السلام مع وفد نصارى نجران على المباهلة فلما أصبح عليه الصلاة والسلام دعا من ؟ دعا فاطمة وعلياً والحسن والحسين وأخذهما وقال:" إذا أنا دعوت فأمنوا" فلما رأى وفد نصارى نجران النبي عليه السلام وهذه الوجوه النيرة التي معه من آل بيته فاطمة وعلي والحسن والحسين قال بعضهم لبعض: إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيل الجبال من مواطنها لأزالها والله إن باهلتموه لا يسلمن منكم ولا ينجون منكم أحد فامتنعوا على أن يباهلوه وقبلوا أن يصالحوه على أعطيات مذكورة منصوص عليها في كتب السيرة والفقه ليس هذا موطنها الذي يعنينا هذا هو مقام الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .(48/31)
ـ قام مرة في الليل كما في المسند يريد أن يسقي أحدهما فقام الآخر فدفعه فتعجبت فاطمة كيف يدفع الحسن ويسقي الحسين فقال عليه الصلاة والسلام إنه استسقى قبله أي قام قبله وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم وهو نبي الأمة ورأس الملة وأحق من خدم يقوم في الليل يسقي هذين السبطين سقى الحسن أولا ثم سقى الحسين ثم قال يا فاطمة :"إني وأنت وهذان وهذا الراقد ـ وأشار إلى علي ـ لفي مكان واحد يوم القيامة" خرجه الإمام أحمد بسند صحيح "لفي مكان واحد يوم القيامة" ثم مات صلى الله عليه وسلم وهو راض كل الرضى عنهما وقد قال في حقهما { الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة }.
آل الأمر إلى أبي بكر ثم إلى عمر ثم إلى عثمان رضوان الله عليهم أجمعين ثم آل الأمر إلى علي رضي الله عنه وأرضاه باتفاق أهل زمانه عليه إلا معاوية أهل الشام ثم حدث ماحدث مابين علي ومعاوية رضوان الله تعالى على الجميع وغفر الله لمن أخطأ منهما وإن كان الحق كله مع علي شارك الحسن والحسين مع أبيهما في أثناء تلك المعارك سقطت من علي درع درع أثيرة عنده التقطه يهودي لعله من سكان الكوفة ثم رآها علي أي أدرع مع اليهودي فقال : هذه درعي واليهودي ينكر اختصما ذهبا إلى القاضي شريح فلما جلسا بين يديه قال:يا أمير المؤمنين من يشهد أنها درعك قال : فلان وابني الحسن قال أما وإني لا أجيز شهادة الابن لوالده قال :علي سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تقبل شهادته فقال : شريح والله إني لأعلم أن الحسن من أهل الجنة لكني لا أقبل شهادة ولد لوالده فلما رأى اليهودي هذا الموقف بين يديه كان ذلك سبب في إسلامه وقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله .(48/32)
مات علي رضي الله عنه قتل شهيدا ومظلوما على يد عبدالرحمن بن ملجم عبدالرحمن بن ملجم من مراد مرادي كان في أول أمره محبا لامرأة من الخوارج لكن تلك المرأة الخارجية كان علي قد قتل بعض قرابتها في حروبه ضد الخوارج فلما وجدت في عبدالرحمن حب لها طلبت منه أن يكون مهرها قتل علي رضي الله عنه فااتخذ سيفا ويعرضه على الناس ثم يقومه كلما ذكر له أحد اعوجاج أصلحه ثم وضعه في سم حتى لفظ الحديد السم ثم انبرى لعلي رضي الله عنه وهو خارج لصلاة الفجر يغدوا الناس إلى الصلاة فضربه بها وفصل رقبته عن رأسه وقد قال صلى الله عليه وسلم { أشقى الأولين أحيمر ثمود الذي عقر الناقة وأشقى الآخرين من يخضب هذه عن هذه } وأشار إلى رقبة علي رضي الله عنه وأرضاه، هنا بايع الناس الحسن بعد أبيه فلما اجتمع الجيوش جيوش العراق من جهة الحسن وقد بايعوه وجيوش الشام بقيادة معاوية وقد سلموا له أراد الحسن رضي الله عنه وأرضاه أن يكف دماء المسلمين فسلم الأمر لمعاوية وتنازل عن الخلافة ليتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: { إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحده } وهنا يتنبه إلى أن الحسن لم يسمع هذا من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعقله لما قاله النبي عليه السلام كان الحسن صغيرا لكن سمعه أبوبكره أحد الصحابة وهو الذي أخبر الحسن بسماع هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد صدق في نقله.(48/33)
فالإصلاح بين الناس عموما: من أعظم خلائق الرجال ومن أعظم القربات وأفضل الطاعات {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} والله يقول:{و َالصُّلْحُ خَيْرٌ} والسعي بالصلح من أعظم القربات والنبي عليه الصلاة والسلام ذات مرة خرج في صلاة العصر إلى بني عمرو بن عوف جنوب المدينة يصلح بينهم حتى إن صلاة العصر صلى بهم أبوبكر فتأخر صلى الله عليه وسلم عن إمامة المسلمين كل ذلك حتى يسعى في الصلح فالسعي في الإصلاح بين الناس وفق ضوابط الشرع والمقصود من الصلح جمع الكلمة و.........وحفظ دماء المسلمين أن تسفك هذا هو الصلح الشرعي أي دمائهم أو أعراضهم كل مافرق بين الناس وجمع شتاتهم وأدنى منهم ووحد بينهم هذا هو الإصلاح الخير سواء كان على مستوى الأفراد أو كان على مستوى الأمة أو على مستوى الدول هذا هو الصلح الذي دعا الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم إليه والذي تمثله الحسن في صلحه مع أهل الشام .(48/34)
أما الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه فإنه لم يشأ أن يخرج عن قول أخيه ثم إن معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه كتب البيعة من بعده لابنه يزيد فلم يكن يزيد في سيرته مرضيا عند الناس وعند أكثر الأمة فلم يقبل أن يبايعه فئام من الصحابة منهم الحسين بن علي فبعث أهل العراق إلى الحسين يطلبونه فخرج إليهم بعد أن نصحه كثير من الصحابة أن لا يخرج ومن أشهر من نصحه عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال له وهو يودعه : " أستودعك الله من قتيل " لكن ليمضي قدر الله خرج الحسين لما خرج الحسين وصل إلى كربلاء الموضوع المعروف ، الآن في العراق فلما وصل بجيشه ومعه قرابة الثمانين من آل بيته قال في أي موطن نحن قالوا: في كربلاء قال بل هي كرب وبلاء فكان الأمر كما قال ، أتاهم عبدالله بن زياد حدثت المعركة كان يوم العاشر من شهر الله المحرم قتل الحسين ظلما شهيدا هذا كله لاريب فيه ولاغضاضة أن يقوله الإنسان بل الحق أن يقال لكن الناس في تعاملهم مع مقتل الحسين يختلفون اختلافا كبيرا بعض العلماء أسرف في القتل فقال إن الحسين قتل بسيف جده يعني النبي صلى الله عليه وسلم والحق وإن كنا نحتفظ بقائلها لماكنته لكن هذه الكلمة لا تقبل في حق رجل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ويزيد ليس ممن يقارن بالحسين أصلا أين يزيد من الحسين رضي الله تعالى عنه وأرضاه لكن الحسين بالحسابات السياسية لم يحسن إتقان المسألة سياسيا لأن أهل العراق قد خذلوا أباه من قبل وليس هو عندهم بأكرم من أبيه فكان ينبغي عليه قدريا أن يتبين له أن يعلم أنهم ماداموا قد خذلوا أباه من قبل فلن يكونوا معه في نصرته على أهل الشام الذي يعنينا هنا أن الحسين قتل.
ـ الذين قتلوا الحسين في الجنود يعني في المعركة كان أكثرهم واحد من اثنين:
إما رجل يعلم منزلة الحسين عند الله لكنه يريد الحظ الدنيوي وبهذا يقول قائلهم:
أوقر إنائي فضة وذهبا
إني قتلت الملك المحجبا(48/35)
قتلت خير الناس أما وأبا
هذا أحد الذين باشروا قتل الحسين يدخل على زوجته قال :جئتك بغنى الدهر هذا رأس الحسين وكانت المرأة عاقلة قالت: ذهب الناس بالذهب والفضة وتأتيني برأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا يجتمع رأسي ورأسه في بيت واحد أبدا فتركته وحسنت فعلت .
وآخرون كانوا من أهل الشام غرر بهم ويقال لهم إن قتل الحسين قربة لأنه كذا و كذا فكيف يصبح قتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم المشهود له بالجنة كيف يصبح قربة يقول أحد الصالحين :
جاؤا برأسك ياابن بنت محمد ** متزملا في ثيابه تزميلا
وكأننا بك ياابن بنت محمد ** قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا ولم يترقبوا ** في قتلك التنزيلا و التأويلا
ويكبروه بأن قتلت وإنما ** قتلوا بك التكبير والتهليلا
ونقول ختاما حول هذه القصة:(48/36)
نقول إن قتل الحسين رحمه الله كان ظلما ومات شهيدا وهو خير ممن قتله أو أشار بقتله أو رضي قتله بلاشك لكن نقول: هذه أمور مضت وانقضت والحديث عنها اليوم ممكن أن يستفيد منه كعبرة أن لا نقع في نفس الأخطاء فيما بيننا لكن لا يمكن أن يقال كما تزعم بعض الطوائف أن تدفع الأمة إلى اليوم ثمن مقتل الحسين هذا أمر لا يقبل ولا ينفع الأمة بشئ ولا يقدم ولا يؤخر في سلطان الأمة وعلو مجدها أو في تمسكها بكتاب الله أو سنة رسوله جميع جوانب الحياة العقدية والاجتماعية والعلمية لا يتعلق بالانتصار للحسين اليوم لأن الذين قتلوا الحسين أصلا وأسهموا في قتله ورضوا قتله غير موجودين حتى يحاكموا إنما نستلهم العظة والدروس لكن لا نكرر المأساة ويضرب بعضنا أعناق بعض ونشمت بعض البعض ونغالي ونقول من العبارات مالم ينزل الله به من سلطان مالم يقل في حق الأنبياء ثم إن قتل الحسين لن يكون أعظم مصيبة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكون أعظم من مقتل أبيه علي رضي الله عنه فكيف ينسى أولئك موت النبي صلى الله عليه وسلم ومقتل علي رضي الله عنه وأرضاه وهم يشهدون بإمامة علي ثم يجعلون الأمر منصبا أو محصورا في قتل الحسين رضي الله عنه وأرضاه هذا أمر يخالف العقل فضلا على أنه أصلا يخالف النقل .(48/37)
كان مع الحسين بعض أهل بيته كما بينا وماتوا جميعا يعني ذريته إلا ابن أصغر له يقال له علي ابن الحسين كنيته زين العابدين وهذا كان صغيرا لم يشهد المعركة فاستصغره جند الشام فلم يقتلوه فكل ذرية اليوم تسمى الحسينية منسوبة إلى الحسين بن علي فهي من ذرية علي بن الحسين المعروف بزين العابدين وهذا علي هو الذي كان يطوف بالبيت أيام عبدالملك بن مروان في الحجة هشام بن عبدالملك في أيام أبيه فلما أراد هشام وهو ابن الخليفة أن يطوف بالبيت صعب عليه أن يصل إلى الحجر فاتخذ كرسيا في ناحية البيت ينظر إلى الناس فجاء زين العابدين الذي هو علي بن الحسين ليطوف بالبيت فتنحى الناس إكراما وإجلالا لسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على الحجر وطاف فكأن هشام أراد أن يصرف وجوه الناس عنه قال من هذا؟ لعله من باب الإيهام والإستصغار أو نقول كلمة قريبة منها فقال الفرزدق الشاعر الأموي المعروف وكان حاضرا :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
و البيت يعرفه و الحلّ و الحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم
و ليس قولك: من هذا؟ بضائره
العرب تعرف من أنكرت و العجم
كلتا يديه غياث عمّ نفعهما
يستو كفان و لا يعروهما عدم
سهل الخليقة لاتخشى بوادره
يزينه اثنان: حسن الخلق والشيم
ما قال: «لا» قطّ إلاّ في تشهّده
لولا التشهّد كانت لاءه نعم
عمّ البريّة بالإحسان فانقشعت
عنها الغياهب و الإملاق و العدم
مشتقّة من رسول الله نبعته
طابت مغارسه و الخيم و الشيم
هذا ابن فاطمة إن كنت تجهله
بجدّه أنبياء الله قد ختموا
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم(48/38)
أهل السنة يقولون : إن المهدي المنتظر الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج في آخر الزمان ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا هو شديد الشبهة باسمه بنبينا صلى الله عليه وسلم فهو اسمه محمد بن عبدالله أقنى الأنف إلى غير ذلك من بعض الصفات الجسدية التي جاءت في الصحاح وغيرها واردة فيه يقولون أي أهل السنة إنه من ذرية الحسن لا من ذرية الحسين ويزعم آخرون أنه من ذرية الحسين .
على هذا نقول إن من ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونا إلا واحد من الحسنيين أو الحسنيين مامن ذرية الحسين أو من ذرية الحسن وذرية الحسين محصورة في ابنه علي بن الحسين الذي هو زين العابدين أما الحسن فقد ترك جما غفيرا من الأبناء والأولاد الذكران الذين ينسبون بعد ذلك إليه .
هذا ماتيسر إيراده وتهيأ إعداده حول سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأل الله أن يعف عنا وعنكم وأن يتقبل منا ماقلناه وأن ينفعنا بما علمنا سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
"الروح و الجسد"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد مالعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :(48/39)
فموضوع حلقه هذا اليوم من برنامجنا مجمع البحرين"الروح والجسد" على أننا نقصر الحديث في الحديث عنهما عن روح وجسد بني آدم ولا نعرض لغيرهما من الكائنات الحية فنقول وبالله التوفيق إن الله تبارك وتعالى هو خالق الروح وهو خالق الجسد بل هو جل وعلا خالق كل شيء كما قال سبحانه ذلك في كتابه العظيم { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ومما خلقه الله جل وعلا أرواحنا وأجسادنا والروح والجسد الكلام فيهما والحديث عنهما حديث ذو شجون بداية نقول إن كلمة الروح: في القرآن يطلق على أشياء كثيرة لكنها إذا أطلقت وعرفت إنما يراد بها ماء يمتزج مع الجسد ويشكل منه النفس الإنسانية فإن الروح وهو بداخل الجسد كما سيأتي تفصيله لا يقال لها روح وإنما يقال لها جسد قال الله جل وعلا { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } هذا إجماعا على أن المقصود به جبريل عليه السلام وقال جل وعلا { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وإنما المقصود به ما فيه حياة الناس وهو الإسلام أو القرآن على أحد التفسيرين.(48/40)
ـ أما الروح التي هي مرتبطة بالجسد: وهو التي نحن معنيون بالحديث عنها الآن هي الروح التي لا يدري أحد كنه ذلك عنها شيئا إلا الله تبارك وتعالى قال الله جل وعلا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[الإسراء : 85] يقول العلماء من المفسرين عند تفسير هذه الآية إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة مر على ملأ من يهود ومعه عبد الله بن مسعود فقال بعضهم لبعض أي اليهود سلوه لا تسألوه سلوه ترددوا ثم قالوا يا أبا القاسم مالروح ؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل قال عبد الله بن مسعود فعلمت أنه يوحى إليه ثم تلا عليهم قول الله جل وعلا في سورة الإسراء{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 85] فجاء الجواب القرآني أن علم الروح أمر كنه الروح أمر اختص الله جل وعلا به فرده تبارك وتعالى إلى علم ذاته العلية ولم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا وإلى اليوم رغم التقدم العلمي كما هو معلوم لكل أحد إلا أن كنه هذه الروح لا يعلم عنه شيء ، نقول :(48/41)
ـ أما الجسد: فإنه ذلك التكوين البدني الذي يحمله بني آدم كله على اختلاف في هيئه ذلك الجسد من الطول والقصر وما إلى ذلك لكن لفظ الجسد في القرآن إذا أطلق الله جل وعلا الكلام عن البدن مقرون بالروح فإنه لغة القرآن تسميه جسم وإن كان معزولا عن الروح لا روح فيه فإنه لغة القرآن تسميه جسد وبيان هذا أن الله جل وعلا ذكر طالوت فلما تكلم الله جل وعلا عنه قال {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } ولم يقل بسطة في العلم والجسد وإنما قال في الجسم لأنه يتكلم عن جسد مقرون بالروح فعبر عنه في لغة القرآن بالجسم وقال الله جل وعلا عن المنافقين {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} فعبر الله جل وعلا عن أجسام هؤلاء المنافقين بالجسم ولم يقل أجساد لأنها آنذاك ممزوجة بالروح في حين أنه جل وعلا لما ذكر الإله المصنوع المفترى الذي صنعه السامري لقوم موسى قال الله جل وعلا {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } فعبر عنه بكلمه جسد لأنه لا روح فيه وقال الله جل وعلا عن النبيين في معرض نفي أن لا يكونوا بلا أرواح قال : {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [الأنبياء : 8] والمقصود من هذا كله أن لغة القرآن تفرق ما بين الجسد والجسم باعتبار اتصالها بالروح أو عدم اتصالها بالروح كذلك الروح إذا اتصلت بالجسد لا يقال لها روح الروح إذا اتصلت بالجسد فلغة القرآن تسميها نفس فإذا انفصلت الروح عن الجسد تسمى روح وقد أسند الله لهذه النفس القول {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أسند الله إليها العلم{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} والإنسان يتكون من جسد وروح إذا مزجت روحه بجسده تسمى نفس تسمى نفس وهذه النفس هي التي أقسم الله جل وعلا بها وقال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا(48/42)
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }[الشمس : 7] وتعبدنا الله جل وعلا بتزكيتها.
ـ أيهما أسبق خلقا الروح أم الجسد ؟
بالنسبة لأبينا آدم جسده قبل روحه بالنسبة لأبينا آدم جسده خلق قبل روحه أما بالنسبة لنا فإن أرواحنا خلقت قبل أجسادنا وبيان ذلك أن الله جل وعلا خلق آدم كما مر معنا في برنامج سابق كان عنوانه آدم وحواء أن الله جل وعلا خلق أبانا آدم من قبضة قبضت من الأرض خلق جسدا ثم بعد أن خلق جسدا عليه السلام نفخ الله جل وعلا فيه من روحه بعد أن نفخ الله جل وعلا فيه من روحه امتزجت تلك الروح التي خلقها الله في جسد آدم فأصبح آدم كائنا حيا ينطق خلق منه بعد ذلك منه زوجته وأدخل الجنة كما هو معلوم الذي يعنينا أن خلق آدم كجسد مقدم على خلقه كروح أما بالنسبة لنا معشر بني آدم فإن أرواحنا خلقت قبل أجسادنا ذلك أن أجسادنا إنما خلقت ونحن أجنة في بطون أمهاتنا أما أرواحنا فقد خلقت من قبل والله جل وعلا مسح على ظهر آدم فأخرج من ظهر آدم كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة كما في الحديث فرأى في أحدهم وبيصا من نور بين عينيه فكان هذا داود كما سيأتي في الحديث إن شاء الله تعالى عن داود وسليمان الذي يعنينا الله جل وعلا يدل ظاهر القرآن على أنه أخذ العهد والميثاق من بني آدم وهم في عالم الأرواح ويدل عليه قول الله جل وعلا {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } .(48/43)
ـ فبعض أهل العلم يقول: إن هذا العهد والميثاق الذي أخذه الله جل وعلا من بني آدم في عالم الأرواح الأول ألقن في الحجر أي الحجر الأسود ولذلك شرع وهذا من الآثار المنقولة أن الإنسان يقول عند طوافه بالبيت {اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك} فالعلماء بعضهم يقول إن هذا راجع إلى ذلك العهد الذي قطعه بنو آدم على أنفسهم يوم خلقهم الله جل وعلا في عالم الأرواح ثم يكملون الحديث فيقولون إن هذا الحجر كما يدل صحيح السنة له يوم القيامة لسانا ينطق به فيشهد بمن استلمه بصدق وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم والجمع مابين الحديث الصحيح والآثار المنقولة وآيات الكتاب جمع هذه المادة العلمية بعضها إلى بعض يجعلنا نقرب إلى أن نقول إن هذا ممكن أن يكون حقا كله ولا نجزم به لعدم وجود دليلا صريحا صحيحا في ذات الموضوع لكن هذه من النقول التي تقبلها النفس لوجود كثير من الأدلة التي تعضدها من هنا وهناك من كتاب أو سنة أو أثر عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.(48/44)
ـ يأتي ثمة إشكال: هنا يقول النصارى دائما إن من حججهم على أن عيسى ابن الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا يقولون إن الله قال في قرءانكم {وَرُوحٌ مِّنْهُ} لما تكلم عن عيسى جل وعلا قال { وَرُوحٌ مِّنْهُ} ومنه الهاء في منه عائدة إلى رب الجلالة من أحسن الأجوبة هنا أن يقال إن الله لما خلق آدم في عالم الأرواح الأول وخلقنا في عالم الأرواح الأول وأخرجنا من ظهر أبينا ورآنا أبونا آدم بين يديه فينا الصحيح والمعافى والمبتلى فقال أي رب لوسويت بين عبادك قال الله جل وعلا { أحب أن أشكر } المقصود الأجوبة على هذا السؤال الذي طرحه النصارى أن يقال : إن الله رد هذه الأرواح في ظهر آدم ليكون منه بعد ذلك الذرية إلا روح عيسى عليه السلام استبقاها الله جل وعلا عنده ثم إن الله أعطى هذه الروح أي روح عيسى أعطاها جبريل لينفخ بها في درع أو في جيب درع مريم عليها السلام ليكون بعد ذلك حملها وولادتها لعيسى ابن مريم فيصبح يقطع بهذا القول الطريق على النصارى في قولهم أن المسيح ابن الله وإن كان الطريق مقطوع بذاته لأن الله قال عنهم {إ نَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران : 59] وافتراء النصارى ولو غيرهم من الأمم على الله الولد من أعظم الفرية وهذا نزه الله جل وعلا ذاته العلية عنه قال تبارك وتعالى { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً *إن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } فالخلق جميعا عبيد له تبارك وتعالى والله جل وعلا مستغن عن كل أحد منزه عن الصاحبة والولد مقدس لم يلد ولم يولد تبارك(48/45)
وتعالى .
ـ نعود للحديث عن الجسد والروح وإنما استطرادنا فيه للحديث على أن هذا من الأجوبة التي نراها مستحسنة والعلم عند الله في القطع على النصارى بعض حججهم في زعمهم أن المسيح ابن الله فنقول أما اتصال الأجساد بالأرواح فإن الله جل وعلا كتب للجسد أن ينشأ أولا قبل الروح ونحن أجنة في بطون أمهاتنا فالنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي عبدالرحمن عبدالله ابن مسعود بين أن الإنسان يكون في بطن أمه أربعين يوما نطفة وأربعين يوما علقة وأربعين يوما مضغة ثم يأتيه ملك فينفخ فيه الروح التي هي مخلوقة من قبل فإذا اتصلت الروح بالجسد دبت الحياة في ذلك الجنين فيتحرك فتشعر به الأم وهي حامل فإذا اشتملت الروح بالجسد أصبح ماذا ؟ أصبح نفس ولا يقال لها روح فهذه النفس الإنسانية وإن كانت جنينا في بطن الأم فإنها نفس معصومة لا يجوز قتلها بأي حال كان نفس معصومة لا يجوز قتلها بأي سبب كان فنقول هذه النفس المعصومة يختلط فيها الروح بالبدن فتصبح نفسا يحصل نوع من الامتزاج حتى يخرج الإنسان من بطن أمه قال الله جل وعلا { ُثمَّّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 14] ثم يمكث الإنسان ماشاء الله له أن يمكث في هذه الحياة هذا يطول عمره وهذا يقصر أي كان الأمر طال العمر أم قصر فإن هناك امتزاجا مابين الروح والجسد الذي اصطلحنا على تسميته نفس.
ـ ومن الأدلة على أن تسميته نفس: قلنا قول الله جل وعلا { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وأمر الله جل وعلا لعباده بأن يزكوا أنفسهم.(48/46)
ـ أما الأدلة على أنها إذا صعدت تسمى روح: فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أحد أصحابه وقد توفي وهو عثمان بن مظعون فأغمض بصره أي النبي أغمض بصر عثمان ثم قال لمن حوله من أهل الدار إن الروح إذا صعد يتبعه البصر فسماها صلى الله عليه وسلم روحا ولم يسمها نفسا لانفصالها من الروح ولهذا هذه الروح لا يختارها الإنسان وإنما تمتزج ببدنه والله جل وعلا خلق الأرواح كما قلنا ثم يأتي الملك فينفخ الروح في الجسد ولهذا في قصيدة فلسفية لابن سينا وهو الطبيب المعروف يقول:
هبطت إليك من المحل الأرفع ***و ارقَاءُ ذات تعزز وتمنع
هبطت على كره إليك وربما***كرِهت فراقك وهي ذات توجع
يتحدث عن امتزاج الجسد بالروح وعن كرها لفراق الجسد لأنها ألفته عند الممات وهذه قصيدة عليها صبغة فلسفية بحتة وقد عارضها شوقي ببيت مشهور :
ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي *** هذه المحاسن ما خلقنا لبرقع(48/47)
ـ لكننا إذا أردنا أن نتكلم شرعيا عن اتصال الروح بالجسد فنقول: الاتصال الأول في عالم الأجنة ثم الاتصال الثاني في عالم الحياة الدنيا يستمر حتى يكون الانفكاك فإذا انفكت الروح عن الجسد وخرجت تخرج من الحلقوم وهذا نص الله جل وعلا عليه قال الله تبارك وتعالى :{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}أي الروح { وَأَنتُمْ } أي من حول الميت { حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } تنظرون إلى الميت { وَنَحْنُ } هذا قرب الله بملائكته { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }أي لا تبصرون الملائكة حال قربها من الميت ثم يتحدى الله سائر البشر {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } تقولون لاجزاء لا بعث لا نشور{فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أعيدوا الروح إن كنتم صادقين هذا الانفكاك بين الجسد والروح وخروج الروح من الجسد هو الذي اصطلح على تسميته بالموت وهو الذي قال جل وعلا عنه {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فالإنسان إذا فارق نفسه جسده وخرجت روحه منه سمي ذلك موت يتعلق به أحكام لا تخفى منها غسله ومواراته كفرض كفاية وانفكاك حبل الزوجية بينه وبين زوجته وتقسيم الميراث وما إلى ذلك من الأحكام التي تتعلق بالإنسان بعد موته ولا يقال هذه الأحكام لا تمشي ولا تمضي حال كون الروح متصلة بالجسد ولو اتصالا لاحركة فيه لكن مادامت متصلة بالجسد ولو اتصالا ضعيفا عن مرض أو وهن أو غيرها وإنما الموت هو خروج الجسد من الروح هذا الانفكاك الأول بين الجسد والروح ثم تعود الروح مرة أخرى إلى الجسد وظاهر السنة أنها تعود أول ماتعود والجسد محمول على أعناق الرجال ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم { إن الجنازة إذا حملت على أعناق الرجال تنادي إن كانت صالحة قدموني قدموني وإن كانت غير ذلك ـ عياذا بالله ـ تقول(48/48)
ياويلاه أين يذهبون بي } وهذا لايكون إلا في اتصال الجسد بالروح كما أنه يتم الاتصال بصورة أكبر فيما يبدو والعلم عند الله عندما يأتي الملكان ليسأل المقبور من ربك ؟ مادينك ؟ من نبيك ؟ فهذه الثلاثة التي هي أصول الدين عندما يسألها الميت يجيب عليها وقد اتصلت روحه بجسده وهذا يدل عليه حديث البراء بن عازب أن الروح ترتفع وإن كانت صالحة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت غير ذلك تغلق وعليه يحمل قول الله جل وعلا:{ ِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } ـ نعوذ بالله من ذلك كله ـ والمقصود أن الروح تعود إلى الجسد لأن الله يقول لها لملائكته فإني قد وعدتهم :ِ{منْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه : 55] فتعود الروح إلى الجسد حتى تكون قادرة على إيجابة الملكين سواء وفقت في الإجابة أو لم توفق ـ عياذا بالله ـ نعود فنقول ثم يقع على الروح والجسد على مذهب أهل السنة يقع النعيم أو العذاب يقع النعيم والعذاب هذا النعيم والعذاب نحن لا نعلم كنهه ولا يمكن لي ولا لغيري أن يصفه لأننا لا نعلم عنه إلا بمقدار ماصح نقله عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم وقد دل القرآن والسنة على وقوعه فالنبي عليه الصلاة والسلام لما كان في المدينة كان ذات يوم على بغلته فمر على أرض بستان عند الأنصار فالبغلة تحركت به عليه الصلاة والسلام حتى كادت أن تسقطه فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله "أثمة قبور هنا قالوا يارسول الله إنها قبور خمس أو ست وفي رواية أربعة في قوله ماتوا في زمن الإشراك فقال عليه الصلاة والسلام :{ لولا أن تدافنوا لدعوت الله يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع }.
ـ وقوله عليه الصلاة والسلام :{ لولا أن تدافنوا } فيه تربية عظيمة للأمة:(48/49)
أن الإنسان لا يحسن به أن يطلع على عورات أخيه لأنك لو اطلعت على أي إنسان نقبت كثيرا عنه عثراته بحثت عن أخطائه بكثرة سيصغر في عينيك فإذا قدر أنك بلغت بموته ستجد في نفسك غضاضة في أنك تشارك في موته لأنه يغلب عليك سيطرة تلك الفكرة السيئة عن أخيك ولذلك يبقى الأفضل في أحوال الناس أن تبقى مستورة وحتى من علمنا عنه شيئا من خطأ أو زلل أو وقوع فاحشة أو ما إلى ذلك لا يمنعنا ذلك من أن نشارك في دفنه والصلاة عليه ومواراته طلبا للأجر ورحمة لأخينا مادام لم يخرجه ذنبه من الملة .ومحمد بن المنكدر أحد التابعين تبع جنازة رجل كان مدمن خمر فكأنه عوتب فقال رحمه الله قولة عالم فذ قال : " إني لا ستحيي من الله أن أجد في نفسي أن رحمته جل وعلا قد ضاقت عن أحد " والله جل وعلا يقول عن رحمته {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ثم نحن نطلب الأجر من الله نطلب القراط القراطين في تتبعنا للجنائز والصلاة عليها بصرف النظر عن أحوال أصحابها وإنما نخشى على هذا العاصي النار ونرجوا للمؤمن الجنة ومرد الجميع إلى الله وحده يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ، نقول هذه نوع من الاتصال بين الروح والجسد في عذاب القبر .
ـ لكن هل يستمر هل ينقطع إذا استمر ماحاله؟(48/50)
هذا كله علمه عند الله جل وعلا ،لكن نقول جملة إن أصحاب القبور تتساوى قبورهم في ظاهرها لكن أرواحهم وأجسادهم الله أعلم بها أما الأجساد ونحن نقطع أنها تبلى من أين نقطع في قوله عليه الصلاة والسلام { كل جسد ابن آدم يبلى } وانظر إلى تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { كل جسد } لأن الروح قد خرجت { كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب } فمنه يركب يوم القيامة ومشهور عند الناس أن أجساد الشهداء لا تبلى وهذا لا يدل عليه حديث هذا الحديث العام {كل جسد ابن آدم يبلى} يخصص فقط بأجساد الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام { إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } لما قيل له يارسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت ؟ وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم استقر في أذهانهم في علمهم وهم ربيبوا مدرسة النبوة استقر في علمهم أن الأجساد جميعا تبلى ولذلك "قالوا يارسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت أي جسدا فقال : { إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } نعم نقول قد يعطى الجسد فترة من الدهر طويلة أو قصيرة دون أن يبلى إكراما من الله لذلك المقبور وهذا ربما اطلع بعضنا على وقوعه لكن لا نجزم بأن هذا يبقى إلى أبد الدهر وقد قال أبو العلاء المعري على مافي أبو العلاء من زندقة في شعره على الأقل يقول :
غير مجد في ملة واعتقاد ** نوح باك ولا ترنم شادي
فر إن استطعت في الهواء رويدا ** لا اختيالا على رفات العباد
رب قبر صار قبرا مرارا ** ضاحك من تزاحم الأقباري(48/51)
وهو يقول إن أكثر الثرى الأرض كلها أصلها أجساد قبور تدفن وتبلى وهذا يوضع وهذا يمتحن لكن ثمة اتصال بين الروح والجسد يكون يوم القيامة هذا الاتصال بعد أن ينفخ اسرافيل في الصور يقوم الناس لرب العالمين فإذا قام الناس لرب العالمين الذي يحصل قبل ذلك القيام أن الأرواح تفارق عليين إن كانت أرواح مؤمنة وتفارق سجين إن كانت أرواحا كافرة وتصل إلى الأجساد في قبورها فيتصل الروح بالجسد وتدب الحياة تعود نفس كما كانت تسمى نفس ،الآن يبعث الناس يحشرون حفاة عراة غرلا قال الله جل وعلا عن أهل طاعته {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقال :{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وقال وهو الأهم{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} الاتصال هنا بين الروح والجسد هو الاتصال الكامل التام جدا لأن أهل الجنة ـ جعلنا الله وإياكم من أهلها ـ إذا دخلوها واطمأنوا فيها وأهل النار إذا دخلوها ووجدوا مافيها من العناء ينادي مناد يا أهل الجنة فيطلعون خوفا من أن يقال أخرجوا منها ويطلع أهل النار رجاء أن يقال لهم أخرجوا منها فيؤتى بالموت على صورة كبش أملح فيذبح الموت أو هو على صورة كبش أملح مابين الجنة والنار فينادي مناد ياأهل الجنة أن خلود بلا موت وأن ياأهل النار خلود بلا موت ولو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة فرحا ولو أن أحد مات حسرة لمات أهل النار حسرة .(48/52)
الذي يعنينا هذا هو الاتصال الأبدي بين الجسد والروح قال الله عن أهل الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود : 108] وقال قبلها عن أهل النار { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود : 107]
والسؤال الأهم قبل نهاية الحلقة ؟
هو أن نسعى في تزكية أنفسنا بالإيمان والعمل الصالح والخوف من الله ومراقبته تبارك وتعالى سرا وجهارا وليلا ونهارا عل الله جل وعلا أن ينقلها أي أنفسنا إلى عالم الطهر والنقاء نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم حسن الوفادة عليه وأن يكتب لنا حسن المنقلب وحسن المآب إنه ولي ذلك والقادر عليه
سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
" آدم وحواء "
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد .(48/53)
فهذا بحمد الله وتوفيقه ومنته وكرمه اللقاء الرابع من برنامجنا " مجمع البحرين " ولقاء اليوم حول علمين كريمين هما " آدم وحواء عليهما السلام " ومعلوم لكل أحد أن آدم هو أبوالبشر الذي نسبنا الله جل وعلا في كثير من آيات القرآن إليه فقال جل ذكره { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وقال جل وعلا { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } فالأبوان هنا هما آدم وحواء عليهما السلام وإنما قيل لهما الأبوان تغليبا للذكر على الأنثى صلوات الله وسلامه عليهما الحديث عن آدم حديث ذو شجون لكننا سنحاول أن نجمع شتاته ونلم أطرافه وفق التالي فنقول : إن الله جل وعلا أخبر الملائكة قبل أن يخلق آدم بأنه سيخلقه قائلا {إ ِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } فقالت الملائكة { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فالله جل وعلا له العلم التام والحكمة البالغة فكان خلق أبينا آدم من قبضة قبضت من الأرض جاء في بعض الآثار أن الله بعث ملكا يقبض تلك القبضة فلما وصل إلى الأرض قالت له الأرض أعوذ بالله منك فرجع إلى ربه فسأله الله وهو أعلم قال يارب استعاذت بك فأعذتها فبعث الله وهو أعلم ملكا آخر غيره فقالت له الأرض مثل ماقالت لصاحبه فرجع إلى ربه فقال له مثل ماقال الأول فبعث الله ملكا ثالثا فلما جاء أن يقبض من الأرض قالت الأرض كما قالت لصاحبيه أعوذ بالله منك قال وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره ثم أخذ قبضة من الأرض هذه القبضة جاءت مجتمعه مخلوطة ممزوجة فلما رفعت إلى ربنا جل جلاله خلطت بماء فأضحت طينا ثم تركت فترة فأضحت صلصالا من فخار بحيث أنه لو قرع يحدت صوتا على هذا هذه المراحل الثلاث كلها ذكرها الله جل وعلا في كتابه فقال جل ذكره {(48/54)
خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } وقال خلقناكم من طين وقال جل وعلا { مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} لأن هذه هذه المراحل الثلاث كلها مر بها خلق أبينا آدم.من ضلع آدم خلقت أمنا حواء قال عليه الصلاة والسلام { استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج مافي الضلع أعلاه فإن أنت أردت أن تقيمه كسرته وإن استمتعت فيه استمتعت فيه على عوج } هذه الوصية النبوية فيها شاهد على أن حواء خلقت من ضلع آدم،
ـ بخلق حواء من ضلع آدم يكون الخلق قد مر بمراحل أربعة في تنوعه :
فمثلا خلق آدم من غير أب ولا أم هذه واحدة من الأربع وخلقت حواء من آدم من غير أم هذه الحالة الثانية والحالة الثالثة خلق عيسى بن مريم على النقيض من حواء خلق من أم من غير أب والحالة الرابعة هي خلق سائر الناس كل الناس يولدون من أم وأب ولا يتصور عقلا أبدا أن يكون خلق بغير هذه الطريقة،المقصود الله جل وعلا أمر الملائكة أن تسجد لآدم وسنقف في درسنا لآدم وحواء عبر آيات القرآن لعله أكمل لأن الله جل وعلا ذكر قصة آدم وحواء وخلقهما في كثير من آياته قال الله جل وعلا:{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }.
ـ القضية ندرسها وفق التالي :
السجود يقع على حالتين :إما سجود عبادة وإما سجود تحية
فأما سجود العبادة فلا يقع شرعا إلا لله لا يمكن أن يأمر الله أحدا أن يسجد لأحد شرعا فالسجود عبادة عظيمة لا تقع إلا لله شرعا ودينا يتقبل قد يسجد أحد لأحد على هواه لكن هذا كفر نحن نتكلم عن الشرع .(48/55)
الحالة الثانية: سجود التحية وهو نوع من الثناء نوع من التبجيل وهذا كان موجودا في شرع من قبلنا ومنه قول الله جل وعلا عن إخوة يوسف وأمه وأبيه لما ذكر الرؤيا قال الله جل وعلا {و َخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } ومنه سجود الملائكة لآدم فإن الملائكة بسجودها لآدم إنما تحي آدم وتعبد ربها لأن الله هو الذي أمرها بالسجود تعبد ربها وتحي آدم فنحن عندما نسجد نستقبل ماذا ؟ نستقبل الكعبة لكننا لا نسجد للكعبة نسجد لرب الكعبة وإنما نستقبل الكعبة لأن الله أمرنا أن نستقبل الكعبة نوجه وجهنا للبيت العتيق لأن الله أمر أن نوجه وجوهنا عند الصلاة في السجود للبيت العتيق لكننا لا نسجد للكعبة ولا للحجر ولا للبيت أصلا ولا للحرم المكي ولا لمكة عموما إنما نسجد لله رب العالمين جل جلاله ولذلك إذا تعذر معرفة القبلة أو كان الإنسان على دابة يسجد كيفما اتفق لأن المقصود السجود لرب العالمين جل جلاله
ـ يتعلق بالسجود كذلك التعبير القرآني:
الله جل وعلا يقول :{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } ونحن نعلم نحويا أن كل وأجمع من ألفاظ التوكيد المعنوي
ـ لكن مالذي أفادته كل ومالذي أفادته أجمعون ؟
نقول والعلم عند الله إن قوله جل وعلا { فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ } إشعار بأنه لم يبقى أحد من الملائكة لم يسجد أي لم يتخلف أحد من الملائكة فإن قيل إن إبليس تخلف ؟ قلنا إبليس ليس من الملائكة
ـ ومالذي أفادته كلمة { أَجْمَعُونَ} ؟ أفادته كلمة أجمعون هنا وأنا لم أجرها بناء على الحكاية أفادته كلمة أجمعون هنا أنهم في وقت واحد في وقت واحد كلهم أي لم يتخلف أحد { أَجْمَعُونَ} أي في وقت واحد عليهم السلام.(48/56)
قال الله{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }و إبليس نص الله على أنه من الجن قال الله تبارك وتعالى { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } السجود هذا ندرسه الآن لتعلق بعمل في حياتنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال :{ إن المؤمن إذا تلى القرآن ومر بآية سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول ياويلاه أمر بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار } ـ عياذا بالله ـ وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يسجد عند قراءة و تلاوة آية السجدة في كتاب الله أو عندما يسمعها تتلى عليه أو يسمعها بتمعن أو إن كان سامعا برغبة أما السامع العارض المار فهذا لا يلزمه سجود في أصح أقوال العلماء لكنه لو سجد لفعل خيرا والأول لا يعني ذلك أنه يلزمه لكنه أشد في حقه .نعود فنقول : هذا مايتعلق بسجود الملائكة لآدم عليه السلام وهذا نوع من التكريم الذي كرم الله جل وعلا به أبانا آدم وفي تكريم آدم تكريم لذريته ولهذا قال الله جل وعلا { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }.
ـ جاء في قصة آدم وحواء قول الله جل وعلا في الأعراف:
{(48/57)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.(48/58)
نقول هذه الآية بعض المفسرين ـ عفا الله عنا وعنهم وعن كل مؤمن ـ وقع في وهم كبير نقلا عن إسرائيليات و أحاديث لا يمكن أن تصح عن نبي الله آدم فآدم نبي مكلم والله جل وعلا يقول { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ } فلا يمكن أن يقال بعد ذلك ماقاله بعض المفسرين من أن الشيطان طاف بحواء وهي حامل فسألها مالذي في بطنها فقالت لا أدري قال يمكن أن يكون بهيمة هذا الشيطان يقول لها في تلك الرواية فأن أدعوا الله أن يكون إنسانا على أن تسميه باسمي وقال لها أنا الحارث فلما ولد أسمته عبدالحارث يقولون هذا معنى قوله الله {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } ورواية أخرى هي عندهم أصح تقول أنه كان كلما ولد لآدم مولود مات فجاءهم الشيطان فقال اسموه عبدالحارث فإنه يأتي فأسموه عبدالحارث فعاش هذا لا يمكن هذا القول مهما قلنا في السند صحة أو ضعفا أن ينسب هذا الكلم إلى نبي من أنبياء الله جل وعلا وهناك قاعدة في العلم ذكرها الشيخ ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في مواطن كثيرة من كتبه " أن الإنسان يبقي الأصل يأخذ بأصله ماعارض ذلك الأصل من الشبهات والعوارض الأخر يردها بناء على ذلك الأصل " فما الأصل عندنا ؟ الأصل أن آدم نبي مكلم موحد فإذا كان لم يقع الشرك في كثير من آحاد الأمة لم يشركوا كيف ينسب الشرك إلى نبي مكلم عليه السلام هذا يستحيل عقلا ونقلا فهذا الأصل الذي نستمسك به فما جاءنا من قصص أو روايات أو أخبار أيا كان موضعها تعارض هذا الأصل الذي نحن بصدده نردها بملء القين ونحن واثقون أن هذا لا يمكن أن يكون حقيقة قال عليه الصلاة والسلام { سئل عن آدم أنبي هو ؟ قال : نعم نبي مكلم } والله جل وعلا يقول { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} والله أخبره أنه اجتباه عليه السلام صحيح وقع من آدم قضية الأكل من الشجرة نعم لكن تلك معصية صغيرة تقع من أي أحد لكن لا يمكن نسبة الشرك إلى نبي الله آدم .(48/59)
ـ نعود إلى موقف آخر في قصة آدم وحواء: الموقف الآخر أن الله جل وعلا أخبر أنه لما وسوس لهما الشيطان بدا لهما ماوري من سؤاتهما وعلى هذا يقال : إن ستر العورة واجب بل من دلائل الإيمان وقرائن الحياء والبعد عن الفواحش والرذائل وأعداء الملة اليوم ماسعوا إلى شيئ بدؤا به في زعزعة أخلاق هذه الأمة كسعيهم إلى أن ينزع الحياء منها إلى أن يكشف من العورات أكثر مما ينبغي هذا الطريق الذي نهجه أعداء الملة اليوم فكما أن إبليس مقدمهم في كل شر هو الذي وسوس لأبينا وأمنا قال الله جل وعلا { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا }{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ و َعَصَى آدَمُ رَبَّهُ َفغَوَى }(48/60)
هذا الأمر هو الذي ينبغي للمؤمن: أن يتداركه وثمة برامج الآن تقدم عبر بعض القنوات يقصد من خلالها إضعاف هذا الجانب القوي وهو جانب الحياء في الأمة في الدعوة إلى كشف العورات والجمع في مكان واحد مابين الفتيان والفتيات و الرجال والنساء بدعاوى باطلة كتعليم الموسيقى أو تعليم الفنون أو ما أشبهه ذلك التي تتخذ غطاء لتقام المنكرات على الملأ فيستملؤها الناس وتألفها العيون ويصبح الرجل والمرأة لا ينكر أحدهما عن الآخر والعياذ بالله قد تجتمع أسرة أب وأم وأفراد الأسرة كلها على التلفاز على الشاشة ليرون تلك الأمور وكلهم راض مقتنع بما يراه قد يقول قائل أين الذنب هنا الذنب على القائمين على تلك القنوات وهذا غير صحيح فإن الذنب ليس محصورا على القائمين والمنتجين والمنفقين على تلك القنوات وإنما عام في كل من أسهم ولو بخيط إبرة في بقاء تلك الأمور على النحو الذي تقع فكيف تقع تقع بالاتصالات الممزوج الناري الذي تموه به تلك البرامج إنما هو ناجم عن تلك الاتصالات المتكررة من جماهير الناس في العالم العربي كله وهؤلاء عياذا بالله وليعذرني السامع والمشاهد في هذا التشبيه أشبه أولئك القوم أنفسهم بالوزغ الذي كان ينفخ في نار إبراهيم فستر العورة من أعظم دلائل التقوى وفي أفراحنا للأسف ظهر في زماننا هذا تكشف للعورات في مجامع النساء بحجة أنهن نساء بعضهن يقابل بعض وليس في هذا حجة فإن المرأة مأمورة أن تستر عورتها في أي مكان وإنما يظهر لأختها أو من معاشر النساء اللاتي يصاحبنها ماجرت العادة بإظهاره من المرفق إلى الكفين من الركبة إلى القدمين العنق والرأس هذا لا بأس به مما جرت العادة أن تظهره المرأة في خدمتها في بيتها أما غير ذلك فلا يجوز شرعا إظهاره ولا التغني به ولا التمدح فليتق الله كل في نفسه وأسرته وماله وولده(48/61)
نعود للحديث عن آدم وحواء عليهما السلام آدم وحواء عليهما السلام أهبطا إلى الأرض من شؤم المعصية وهذا دلالة على أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب والله يقول عن قوم نوح : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً } [نوح : 25] أي بسبب خطيئاتهم {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} وهذا آدم نبي مكلم لما عصى الله ونهاه ربه عن الأكل من تلك الشجرة وأكل أخرجه الله جل وعلا من جنته لكنه لم يقابل ربه بالندية وإنما قابله بذل العبودية وهذا الفرق مابين آدم وإبليس فإبليس امتنع عن السجود لما أمر بالسجود وآدم نهي عن أن يأكل من الشجرة فأكل من الشجرة فكلاهما أخطأ مع تفاوت الخطأ لكن إبليس والعياذ بالله لم تقع منه توبة أما آدم سارع إلى التوبة{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بل جاء في بعض الآثار أن آدم لما أهبط إلى الأرض لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه جل وعلا عليه السلام،
ـ وفاة آدم:(48/62)
عمر آدم ماشاء الله له أن يعمر حتى شعر بدنو الموت فسأل بنيه أنه يشتهي ثمار الجنة فخرجوا من عنده فلما خرجوا من عنده إذا بالملائكة قد نزلت ومعهم أكفانه وحنوطه ومعهم الفؤوس و المساحي والمكاتل وهذا حديث صحيح إلى أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه فلما رأوهم قالوا ما تريدون يا بني آدم قالوا : إن أبانا اشتهى ثمار الجنة فقالت الملائكة قضي أمر أبيكم وعادوا معهم فلما دخلت الملائكة على آدم عرفتهم حواء فلما عرفتهم توارت خلف آدم فقال إليك عني فإنما أوتيت من قبلك وهذا فيه إشارة إلى أن حواء هي التي أشارت على آدم أن يأكل من الشجرة في الجنة فلما رأتهم توارت خلف آدم قال إليك عني فإنما أوتيت من قبلك ثم إن الملائكة قبضت روحه بعد أن خيرته لأن الأنبياء يخيرون ثم غسلته وحنطته وكفنته ثم حفروا له قبرا ثم ألحدوا له ثم نزلوا في قبره ثم نصبوا عليه اللبن ثم حثوا عليه التراب ثم التفتوا إلى بنيه فقالوا هذه سنتكم يا بني آدم قال الله جل وعلا { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } فدفن الموتى ومواراتهم سنه بلا ريب ولا شك وهي نص الله عليها في كتابه وذكرت في الأحاديث وهي الذي عليها ولله الحمد والمنة عمل المسلمين إلى يومنا هذا بقي أن نقول إن آدم عليه السلام قبض لكن روحه في الملأ الأعلى والنبي عليه الصلاة والسلام رأى أبانا آدم في رحلة الإسراء والمعراج رآه في السماء الدنيا وحوله أنسمه " أنفس " أسوده عن يمينه وأسوده عن شماله وهو عليه الصلاة والسلام لا يعرف أباه آدم فكان آدم إذا التفت إلى اليمين استبشر وضحك وإذا التفت إلى الشمال حزن وبكى فسأل النبي عليه الصلاة والسلام جبريل من هذا قال هذا أبوك آدم والأسوده التي عن يمينه نسم بنيه ممن كتب الله لهم الجنة إذا رآهم استبشر وضحك والأسوده التي عن شماله نسم بنيه ممن كتب الله عليهم النار إذا رآهم بكى وحزن ثم إنه آدم سلم على نبينا صلى الله عليه وسلم قائلا أهلا بالابن الصالح والنبي(48/63)
الصالح أهلا بالابن لأنه من ذريته قطعا أهلا بالابن الصالح والنبي الصالح والله جل وعلا أخبرنا في كتابه أنه جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف ثم قال { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.
ـ وهذا المبدأ العظيم: قرره النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في خطبه الوداع يوم أن قال أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى فجعل الله تبارك وتعالى أعظم المعايير معيار التقوى الذي يتفاضل به بين الناس عندما يقوم الأشهاد ويحشر العباد بين يدي ربهم تبارك وتعالى فقد آدم في حياته أحد أبنائه وهو هابيل قتله أخاه قابيل وهذا رويت أشعار تنسب لآدم:
تغير وجه الأرض....... وما إلى ذلك
وهذا لا يصح إنما ذكره ابن إسحاق رحمة الله تعالى عليه المؤرخ المعروف لكنه لم يتبين فيه أن هذا لا يمكن نسبته إلى أبينا آدم ولذلك تتبع النقاد ابن إسحاق كما تتبعه ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء وقال إن ابن إسحاق كان مؤرخا وليس من بضاعته الشعر وإنما نقله لتلك الأخبار لا يصح أبدا ولا يمكن نسب تلك الأبيات إلى أبينا آدم.
ـ بقي أن نقول معشر الأخوة:
أن أبانا آدم عليه السلام نبي مكلم أحد أنبياء الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقع في المعصية بقدر الله جل وعلا ثم تاب فتاب الله عليه فأعظم ما يوصى به الناس وينصح به الخلق أن يتوبوا إلى الله جميعا في كل آن وحين فالتوبة وظيفة العمر والله جل وعلا يقول { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.(48/64)
والشيطان عدو جعله الله جل وعلا عدوا لأبينا ولا يمكن له أن يدلنا على خير أو أن يرشدنا إلى بر وهو سيتبرأ من كل من اتبعه يوم القيامة كما حكى الله جل وعلا عنه رزقنا الله وإياكم التوبة النصوح والعمل الصالح والفوز في الدارين والسعادة في الحياتين هذا ما تهيأ إيراده وتيسير إعداده جمعنا الله وإياكم بالأخيار يوم الأشهاد هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ،،
شوقي وحافظ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فموضوع حلقة هذا اليوم من برنامجنا مجمع البحرين هو" شوقي وحافظ " وقد يظهر بادي الرأي لأول مرة أن في هذا العنوان خروج عن النص ذلك أن الأعلام التي اخترناها سابقا إنما كانت غالبا ذات صبغة شرعية في الغالب لكننا قلنا في هذا البرنامج إنه برنامج موسوعي والمقصود منه الإثراء العام شرعيا وثقافيا وأدبيا وغير ذلك،
ـ من شوقي وحافظ ؟(48/65)
معلوم أن الشعر العربي هو ديوان العرب وقد عنيا العرب بشعرهم أيما عناية وعرف الناس المعلقات وزعم بعضهم أنها كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على الكعبة كما أن العرب بعد ذلك جاء الإسلام فهذب كثيرا من صفاتهم وانقلب هذا التهذيب شمل حتى عالم الشعر وعالم النثر، الذي يعنينا كان شعر حسان مهذبا غير الذي كان يقوله في الجاهلية وجاء العصر الأموي ثم العباسي وهناك عند الأمويين والعباسيين كان للشعر منزلته الكبيرة وكان هناك الشعراء الفحول الذين أثروا الساحة الأدبية في عصرها ثم الانحطاط السياسي التي مرت به الأمة نجم عن ذلك حتى في عالم الأدب شئ من الرقاد حتى كان العصر الحديث فكان محمود سامي البارودي الشاعر المصري المعروف الذي يطلق عليه المعنيون بالأدب يطلقون عليه أنه رائد مدرسة الإحياء وينسبون إليه أنه أحيا الشعر العربي من مرقده ومحمود سامي البارودي أديب مصري كان يعمل عسكريا نفي إلى سرنديب وإلى غيرها وله دور كبير في بعث الشعر من مرقده نتيجة أنه كان قد اطلع على كثير من شعر السابقين خاصة العباسيون منهم ثم حاكاها وقلدها ثم ارتقى بالأدب العربي كله فقاد مايسمى بمدرسة الإحياء من تلاميذ البارودي في مدرسته الشاملة شوقي وحافظ رحمة الله تعالى عليهما وهما علمان شهيران من أعلام الشعر العربي المعاصر بلا شك، أما شوقي فاسمه أحمد شوقي وأما حافظ فاسمه حافظ إبراهيم وكلاهما كان له حظ كبير من الشهرة في عالم الشعر وهذا اللقاء نقف عند بعض شعرهما معلقين قدر الإمكان دينيا وشرعيا وثقافيا وعقديا كما قلت .(48/66)
ـ شوقي رحمه الله عاش حياة الثراء منذ أن ولد ولد في قصر الخديوي إسماعيل وكان يقولون أنه لما ولد كان بصره شاخصا إلى السماء إلى أعلى فجاء الخديوي بالذهب بالدنانير وكان يضعها بين يديه يعبث يلعب بها فاضطره هذا إلى أن يحدق بها هذا التحديق جعل بصره يشخص إلى الأرض فبرئ من تلك العاهة التي كانت فيه أول ماولد تقلب في الثراء حتى في أيام نفيه نفي إلى الأندلس إلى أسبانيا وكان محل حفاوة كثير من الناس فلما عاد إلى مصر :
ويا وطني لقيتك بعد يأس **** كأني قد لقيت بك الشبابا
زادت حفاوة الناس به وكان شعره وصيته قد ذاع في العالم العربي كله زار سوريا ولبنان واحتفوا به أيما احتفال وبويع بأمارة الشعر وقلما أن يوجد إنسان يتفق أقرانه عليه وأهل عصره وهو حي فإن نحن نرى الناس يحتفون بالإنسان بعد موته هذا مشهور فكثير عندما يموت منا عالم أو أديب أو فقيه أو واعظ أو أحد المشاهير في الخير يسمى بعض الأحياء باسمه أو بعض الشوارع أو بعض المكتبات أو بعض الصالات الثقافية هذا يقع لكثير لكنه يقع بعد الموت أما شوقي فقد نال المجد كله وهو حي ينظر إلى مجد رزقه الله جل وعلا إياه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فبويع بأمارة الشعر في حفل أقيم له وكان من أول المبايعين له قرينه ومعاصره حافظ إبراهيم:
أمير القوافي قد أتيت مبايعًا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
هذا حافظ يقول في مدح شوقي ، شوقي حياة الترف هذه جعلته ـ عفا الله عنا وعنه ـ يميل إلى الخمرة كثيرا وقد ذكرها في شعره ويقول:
حَفَّ كَأسَها الحَبَبُ *** فَهيَ فِضَّةٌ ذَهَبُ
رمضان ولى هاتها ياساقي ****مشتاقة تسعى إلى مشتاقي(48/67)