هذه الآية التي صّدر الله جل وعلا بها هذه السورة هذه توطئه وتمهيد فبدأ الله بالأحكام قال ( فرضناها ) وأجل الحديث عن الآيات ولهذا جاء ما بعدها مناسبً لتمهيد فبدأ الله بالأحكام قبل أن يبدأ بأمور العقائد في هذه السورة لا أن العقائدُ أهم من الأحكام لكن نحنُ نتكلمُ عن سورة مدنيه وقد استقرت العقائدُ شيئاً كثيراً في أنفس المسلمين ولا غنى للخلق عنها لكن هنا في هذه السورة المدنية بدأ الله جل وعلا بالأحكام بعد أن وطأ ومهّد .
قال سُبحانه ( الزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلدةٍ ولا تأخُذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين )
دائماً يا أُخي تصور الأشياء تصوراً كُلياً يُعينُ على فهمها والمدخلُ في هذه الآية تتحدثُ عن حدّ الزنى ، الآية تتحدث عن حدّ الزنى وقبل أن أشرع في الحديث عن تفسير الآية أُأصل المسألة فنقول إنّ الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس : الدين ، والعقل ، والمال ، والنفس ، والعرض ثُم شرع حدوداً تحفظُ هذه الخمس فبحد السرقة أيُها الأخُ المُبارك ماذا يُحفظ ؟ يُحفظ المال ، وبالقصاص وأمور الجنايات تُحفظ الأنفُس ، وبحدّ الزنى والقذف تُحفظ الأعراض ، وبحدّ السُكر يُحفظ العقل وبهذه الأربعة جميعاً بإقامتها كُلها يُحفظ الدين . هذا التحرير الأول .
الحدُ : عقوبةٌ مُقررةٌ شرعاً في معصيةٍ استيفاءً لحق الله جل وعلا ومما يجري معها القصاص ، لكنّ ثمة فارق ما بين القَصاص وما بين الحد .
القصاص ترك الله جل وعلا أمره لأولياء الدم أو الجناية فلا يُصبح وضع ولي الأمر إلا بتنفيذه .
ومثالهُ
أن رجلاً قتل رجلاً فإنه يتعلقُ بقتل ذلك الرجل ثلاثة حقوق :
حقٌ لله العلي الكبير وهذا يسقطُ بالتوبة .
و حقٌ للمقتول عينه لذات المقتول وهذا لا يسقط أبداً يكون يوم القيامة .
و حقٌ لأولياء الدم وهذا هو الذي يدور كلام الفُقهاء في فلكه.(8/3)
حدُ أولياء الدم مُخيرون هؤلاء أولياء الدم مُخيرون في القصاص أو القبول في الدية زادت أو نقصت بحسب التراضي أو العفو ، فيُصبح ما دور ولي الأمر؟ تنفيذُ القِصاص أو عدمُ تنفيذه أو إجراء آلية قبضُ الدية لكن الحدود تختلف عن القِصاص في هذا المعنى أن الحدود حقٌ لله لا تسقطُ لا بعوض ولا بدون عوض ولا تجوز الشفاعةُ فيها بينما تجوز الشفاعة أين ؟ في القِصاص كما نسمعُ ونرى في صُحفنا ونقرأ أنه قد يأتي ثريٌ أو وجيه لأولياء دم فيُرضيهم بأموال تزيدُ عن الدية رغبةً في حفظ دم الآخر فها يجوز شرعاً يقول ربُنا (فمن عُفي لهُ من أخيه شيء ) وهذه الأمور اتفق أهلُ العلم على أنها تكون بعوض أو بدون عوض زاد أم نقُص المقصود منه التراضي ، لكن الحدود في منأى عن هذا فلا حد الزنى ولا حدُ القذف ولا حدُ الخمر ولا حدُ السرقة يدخلُ فيها شيءٌ من هذا يجبُ استيفاؤها إذا رُفع الأمر إلى السُلطان ولا تجوز الشفاعةُ فيها . هذا التمهيد موطأٌ ممهد مهمٌ لك قبل أن تشرع في فهم الحدود هذا الذي بين أيدينا الآن حدُّ الزنى ، و الزنى أمرٌ معروف ويقولون إن من أكبر المُعضلات توضيحُ الواضحات والله لم يُعرّف الزنى لأن الزنى معروف ولم يُعرّف القتل لأن القتل معروف من قبل أن يُنزّل القرآن لكن قبل أن أشرع أنا في الفهم الفقهي لهم أُريد أن أُبين لك مسألة مهمة ثمة أمور ..(8/4)
هناك حديثٌ يقول يُسمونها بغير اسمها في شُرب الخمر يتعلق بعضُ من لا باع عالي له في الفقه فيأتي للأشياء فقط ينظرُ إلى جوهرها ويحتجُ بهذا الحديث ولا يجوز بحال إمرار الحديث إمراراً كُلياً وإنما الفقه أوسع من ذلك وحتى تتضح الصورة لك ولمن يرانا نقول مثلاً إن الرجل له وطرٌ يقضيه من النساء والنساء لهُنّ وطر تقضيه من الرجال هذا الوطر وهو الجماع الوطء إذا تحقق عن طريق إيجاب وقبول ومهرٍ ووليٍ وشاهدين وأُعلن سُمي ماذا ؟ سُمي نكاحً شرعياً من سُنن الأنبياء والمرسلين والغاية منه الوطء وقضاء الوطر ،
وإذا تحقق عن طريق أن الرجل أرغم المرأة تحت تهديد السلاح مثلاً امرأة لا تحل له فأرغمها تحت تهديد السلاح فإن الرجل هذا يُسمى مُغتصباً زانياً يُقام علية الحد و المرأة لا يلحقها شيءٌ من الشرع لأنها مُجبرة مُكرهه لا خيار لها ،
في حالة أن يتم نفس الحالة وهو قضاء الوطر الجماع الوطء تتم بالتراضي ما بين امرأة ورجلٍ بالتراضي سراً هذا يُسمى زنى جاء فيه الحد .(8/5)
نفس القضية يتم التراضي ويتم من غير إعلان نكاحٍ ولا غيره ولا يُسمى نكاحاً لكن المرأة تشترط مالاً يُسمى بغاء فتُعتبر المرأة التي تصنع هذا الصنيع بغيّ أما الأولى تُعتبر زانية فالزانية من لا تطلُب أجرا لأنها تستفيد من قضاء وطرها وأما من تشترط الأجر وتتخذهُ مهنة تُسمى بغيّ . أين موضع الشاهد في هذا كُله ؟ أن المقصود في الأحوال الأربعة المُتعة الجنسية في المقام الأول ومع ذلك أحدُهُما من أعظم السُنن و أحدُهُما لا يلحق المرأة شيء و أحدُهُما زنى يجلبُ الحد ولآخر والرابع زنىً يجلبُ الحد لكن المرأة تُسمى فيه بغيّ ، والمقصود من هذا أن الإنسان قبل أن يحكُم على الشيء فلينظر واديه في الشرع مجراهُ في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله علية وسلم ولا يصحُ أن يُعملَ بنصً ويُهمل آخر أو أن ينظر إنسانٌ إلى نصوص الشرع نظرة جُزئية فيجعل بعض النصوص مُهيمناً على النصوص كُلها هذا خطأ منهجي وإنما قبل أن يتفوه الإنسانُ بالحكم الشرعي يجلبُ كل الأحاديث التي في الباب وينظرُ في الشرعية إجمالاً فيتبين له بعد ذلك الحق من غيره والله يقول : ( وما كان الله ليُضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يُبين لهم ما يتقون ) هذا مدخل .
الحد هُنا حد الزنى أو حد الزنى الذي يتعلق بالزاني أو الزانية البكر غير المُحصن وإنما أخرجنا المُحصن من هذه الآية لأن حد الزاني أو الزانية المُحصن إنما هو الرجمُ بالسنة المتواترة التي لا تقبل الدفع عن رسول الله صلى الله علية وسلم رواه أبو بكرٍ وعمرُ وعليٌ وأبن مسعود وخالدٌ وغيرهم من الصحابة فلا تقبل الدفع خلافاً لمذهب الخوارج الذي لا يرون إقامة الرجم ويحتجون بأنه لم يوجد في كلام الله ونحنُ لا نُريدُ أن ننحى بالتفسير منحىً فقهياً تاماً فهذا خطأ منهجي في النظر إلى الآيات لكننا نُعرج على ما نحتاجُ من كلام الفُقهاء فنقول بدايةً:(8/6)
إن الحد المقصود به هُنا هو حد الزاني أو الزانية البكر غير المُحصن إن كان رجُلاً وغير المُحصنة إن كانت امرأة هذا حدده الله نصاً ولم يترُك لحد تحديده قال ربُنا ( فاجلدوا كُل واحدٍ منهما مئةً جلده ) وهذا أعلى حدود الجلد في الإسلام والجلدُ مئة جلدهَ أعلى حدود الجلد في الإسلام يأتي بعدهُ حدُ القذف سيأتي وقدرهُ ثمانون جلده .
قال ربُنا ( الزانيةُ والزاني )
بدأ الله بالمرأة هُنا لأن الزنى لا يتمُ لو لم توافق المرأة فقُلنا يُفرّ
ق ما بين الزنى و الاغتصاب فالاغتصاب زنىً في حق الرجل ليس زنىً في حق المرأة لا يُقامُ عليها حد ، لكن الزنى الذي بالتراضي هذا لا يُمكن أن يُقام ويقع بدون رضاً من المرأة فهي المُطاوعة ولهذا قدمها الله ( والزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلده ) والجلدُ يكون بسوطٍ لا جديد و لا خلِق لأن المقصود التأديب وليس المقصود الإهلاك فلا يكون السوط جديداً حتى لا يكون سبباً في هلاك الرجل أو المجلود ولا يكون خلقٍ فلا يتضرر منه فلا يُصبح هناك معنى لإقامة الجلد وفي نفس الوقت من يقوم بعملية الجلد لا يرفعُ يدهُ عالياً و بالذي يُرخيها وإنما وسط ،
كذلك ما الذي يُجلد ؟
الأصل أن يُجلد الظهر لقول النبي صلى الله علية وسلم " أو حدٌ في ظهرك " لكن جُملة قال أهل العلم يتجنب مواطن المَقاتِل ويتجنب الرأس والعورة وما يُخشى أن يُؤدى إلى إهلاك فيضربُ في البطن مثلاً أو يضربُ في أعلى الظهر وأسفله وأوسطه وما أشبه ذلك وفي أسفل رجليه هذا كُلها مواطن يتمُّ فيها الجلد .
قال الله تعالى (فاجلدوا كل واحدٍ منهما مئة جلده ولا تأخُذكم بهما رأفةٌ في دين الله)
الرأفة مصدرٌ من رأفَ وهي حالةٌ تنتابُ الشخص إذا رأى ما يُحزنهُ في المرؤف به والمعنى أن إقامة حد الله جل وعلا وما ينجُم عن ذلك من مصالح أعظمُ من المصلحة عن الرفق بذالك الذي سيُحد .
((8/7)
ولا تأخُذكُم بهما رأفةٌ في دين الله إن كُنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر )
هذا قيدٌ المقصود منه إثارة ما في القلب من نُصرة لدين لكنه(( لا يُطبقُ حرفياً)) وهذه ضعها بين قوسين ما معنى لا يُطبقُ حرفياً ؟ بمعنى لا يأتينا أحد فيقول لمن أصابته رأفة على مجلود أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فيُخرجه من الملة [ واضح ] لا يُمكن أن يقول عاقلٌ بهذا فلا نأتي نفهم القلب وهذه نُقطه يقع فيها كثيرٌ من الفُضلاء فيأتون للقيد فيقلبُونه فيحتجّون به على مسائل عديدة ولو استقام القلبُ لاستقام في كُل شيء لكنه لا يستقيم لابد أن يُنظر في قرائن أُخر حول النص [ واضح ] وهذا مُهم جداً لأن الآية هنا لا يُمكن أن يؤخذ مفهوم مُخالفتها .. أن إذا أخذتنا رأفةٌ في ذلك المجلود أننا معنى ذلك أننا لا نؤمن بالله واليوم الآخر مُحال .. لكن نقول أن كمال الإيمان مُنتفيٍ لوجود قرائن أُخر تمنع أن نقول بكُفر من يصنعُ ذلك وأنا أقول المقصود من هذا التريُث قبل إطلاق الحكم هذا الذي دلّ علية كتاب الله وسنة نبيه صلى الله علية وسلم .
( ولا تأخُذكُم بهما رأفةٌ في دين الله إن كُنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر و ليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين )(8/8)
إنما المقصود بإقامة الحدود زجرُ الناس و إيجادُ مجتمع مُسلم يمتثلُ أفراده وآحاده لشرع الله فإن كانت الحدود تُطبق في الستر وفي الخفاء فلا معنى لإقامتها لأن المقصود من إقامتها لن يتحقق ولهذا نصّ الله أمر وجوبيهً قال (ليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين ) واختُلف في مقدار هذه الطائفة حتى قيل يكفي واحد ويكفي اثنان وأعدل الأقوال والعلمُ عند الله أن يُقال عشرة أقل شيء أن يراهُ عشره وأحسبُ والعلمُ عند الله أن هذا يختلف باختلاف الجماعة التي يُقام فيها الحد فما يُقام في المُدن غير الذي يُقام في المحافظات غير الذي يُقام في القرى القليلة السُكان هذا كلٌ بحسبه فأحياناً الكثرة تُعتبرُ كثرة في مكان وتُعتبرُ قلة في مكانٍ آخر .
لم يذكُر اللِه هُنا إلا الجلد فهل يُكتفا به ؟
** جمهور أهل العلم و الخُلفاء الراشدون على أن يُضافُ إليه تغريب عام لنُطقه صلى الله علية وسلم بهذا في قضية ذلك الرجل الذي كان يقول له إن ابني كان أجير عند هذا فزنى بامرأة فالنبي علية الصلاة والسلام قال " على ابنك جَلد مئة وتغريب عام " تغريب عام بمعنى النفي هذا قول جمهور أهل العلم .(8/9)
** وقال بعضهم إن هذا يعود إلى الإمام وهذا قول أبي حنيفة قضية التغريب جعلوها تعود للإمام والسبب عنهم في ذلك أصول مذهب أبي حنيفة الذي يرى أن الزيادة في النص تعني النسخ وهذه حاكمة للمذهب ثُم إنهم بعد ذلك اختلفوا فإذا كان الزاني أو الزانية الذي يُقام علية الحد امرأة هل يُغرّب أو لا يُغرّب فذهب مالكٌ رحمه الله إلى أن التغريب لا يقع على المرأة والحجة عنده ما جاء من النصوص أنه لا يوجد جبرٌ على أن النبي صلى الله علية وسلم قال" لا يحلُ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُسافر مع غير ذي محرم " أو بدون محرم النصوص الحاكمة من هذا الباب وقد يقول قائل نُجبر المحرم وهذا لا دليل علية أن نُلزم المحرم أن يتغرب من محارمها معها والأظهر والعلم عند الله أن التغريب يقع على الرجال دون النساء لأنه يُخشى من تغريب النساء مفسدة أكثر من الشيء الذي جلدناه من تغريبه لكن إذا ثبت أن أحد الشيخين أبا بكر أو عمر فعله فلا ريب أن رأيهما أو رأى أحدهما مُقدم على رأى من بعدهم وهذه مسألة أصلً في الأصول .
هل إذا اتفق الشيخان أبو بكر و عمر يُعتبر اجماعهما حجة أو لا و أظُنّها مرت معنا وقُلنا أنه لا يُعد قولهما حجه لكن نقول من ذا الذي يقدر على أن يُعارض قولاً اتفق عليه الشيخان قال جرير يسخر من الأخطل :
ما كان يرضى رسول الله فِعلهُمُ *** والطيبان أبو بكر ولا عمر
الذي يعنينا هذا ما يُتحدثُ فيه عن التغريب وهو قضية الزنى وتكلمنا عن الزاني المُحصن قُلنا خارج عن المسألة لأنه يتكلم ويتحدثُ فيه عن الرجم .
ثُم قال ربُنا جل وعلا في الآية التي بعدها
( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا ينكحها إلا زانٍ أو مُشرك وحُرّم ذلك عن المؤمنين )(8/10)
بدايةً نقول هذه الآية من آياتٍ معدودات اضطربت فيها أقوال أهل العلم اضطراباً شديداً بل هي من أعظم آيات القرآن إشكالا هذه الآية من أعظم آيات القرآن إشكالاً باتفاق المفسرين كل من نحى في تفسيرها لا يستقيم كلامه على إطلاقها ويُمكن أن تُبحث بعدة طرائق لكن الترقيم البحثي واحد ، اثنين ، ثلاثة لا أوده ولا أراهُ سائغاً قد ينفعُ في مكان ولا ينفعُ في مكانٍ آخر لكن نقول إن الإشكال الوارد عندهم أي الأكابر الذين نظروا لكتاب الله من قبلنا أنهم يعني اختلف عليهم فهمُ قول الله جل وعلا ( الزاني لا ينكح ) كلمة النكاح هل المقصود بها عقد النكاح أو المقصود بها الجماع والوطء ؟ بمعنى هل الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا زانية أو مُشركة أو المقصود أن الزاني لا يُجامع ولا يطأ إلا زانية أو مُشركة من غير زواج ؟ يعني لا يزني إلا بزانية أو مُشركة ... قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما صح عنه في نقل صحيح أن المقصود بالنكاح هُنا الوطء قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المقصود بالنكاح في هذه الآية الوطء والسند إليه صحيح . قال ابن القيم رحمه الله وينبغي أن يُنزّه كلام الله عن مثل هذا ــ الآن انظروا إلى التعارضُ إلى القولين . قال ابن القيم رحمه الله وينبغي أن يُنزّه كلام الله عن مثل هذا وقال الزجاج أن القول بأن النكاح هنا بمعنى الوطء مُخالفٌ لكلام الله بمعنى أنه لا يُعرف في القرآن لكن الآخرين الذين لم يذكروا هذا دافعُ عن قول ابن عباس بحُجج عده :
أولها : قالوا رداً على الزجاج ثبت في كلام الله ما يُثبت أن النكاح يُراد به الوطء لقول الله تعالى ( حتى تنكح زوجاً غيره ) فسرتها السنة حتى تذوقي عُسيّلته فعبّر عنها بالوطء والجماع هذا واحد .(8/11)
وأجابُ عن كلام ابن القيم رحمه الله إن هذا القول يجبُ أن يُنزّه عنه كلام الله ، قال الشنقيطي رحمه الله وقال غيره من قبل قالوا إن القائل بهذا القول هو تُرجمان القرآن وحبرُ الأمة وهو من أعلم الناس بكلام العرب، و الذي دفع ابن القيم رحمه الله إلى أن يقول ينبغي أن يُنزّه كلام الله عن مثل هذا ،أنه يرى كما رأى غيره أنه لا تتأتى أي فائدة من الآية لأنه يُصبح معنى الآية أن الزاني أصلاً لا يزني ولا يطأ إلا بزانية أو مُشركة والزانيةُ لا يطأُها إلا زانٍ مُثلها أو مُشرك فقالوا أين الجديد في المعنى ؟ هذا شيء مألوف شيء معروف هذا الذي دفع ابن القيم أن يقول يُنزه كلام الله عن مثل هذا ، الذي دفع ابن عباس وأمثاله لهذا القول منعهم القول أنه النكاح الاتفاق على انه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج مُشركة ولا يجوز للمرأة المُسلمة الزانية أن تتزوج مُشركاً هذا الذي دفعهم على القول بعدم أن المُراد به العقد المعروف [ فهمتم ] هذا الذي منعهم جعلهم يفرون عن هذا المعنى .(8/12)
بعضُ أهل الفضل من العُلماء يقول إن الآية مسوقة في ما يجري مجرى الغايات والمعنى من الآية أن الله أراد أن يقول أن الزاني لا يرغب في نكاح إلا الزانية مثله أو مُشركة و الزانيةٌ لا يرغب في نكاحها إلا رجلً زانياً مثلها أو رجل مُشرك لا يؤمن بالله واليوم الآخر فقالوا هذا يجري مجرى الغالب لأنه يحاجّون بأنه يوجد من الزناة من يرغب في الحرائر العفيفات وتوجد من النساء الزواني من ترغب في الرجل العفيف بل إننا نقول إن هذا هو العكس .(8/13)
إن الذين يكثُر فيهم الشك فقي بيوتهم هم الذين كانوا على طرائق مُحرمة من قبل فقول هؤلاء الأفاضل في هذا المعنى يُنافي الواقع طبعاً لابد من حل قال ابن تيمية رحمه الله فيما نُقل عنه إن القضية يأتون بما يُسمى بالمشترك الفظي ، المشترك الفظي يقولون إذا يحتملُ معنيين نقبلهما جميعاً فنجعل بعضهما على أمر والآخر على شيء أخر [ واضح ] فيقولون إن النكاح هنا بمعنيين بمعنى العقدِ وبمعنى الوطء فيقولون الوطء نحمله على المُشركات والمشركين لأن النكاح ما يجوز والنكاح نحمله على المؤمنين والمؤمنات وهذا القول قال الشنقيطي مُعقبً علية قال وإن كُنا نميل إليها ـ أو كلمة نحوها ـ إلا أن فيه من التعسُف وهذا المثال له مثال في العربية الجائز هذا يقولون تقول في كلامك " أغارَ اللصوص على عين زيد " يُطبقون الآن المُشترك اللفظي يقولون تقصد أن اللصوص فقأُ إحدى عينيه فأغاروا على عينه الباصرة وطموا أو أبروا بماء عينه ماء العين التي يُشرب منها جعلوها غائرة يعني وضعوا فيها ما لا يُستفاد منها وفي نفس الوقت سلبوه الذهب والفضة أي عينُ ماله والحقُ إن هذا القول بعيدٌ جداً الله يقول ( ولقد يسرنا القُرآن لذكرِ فهل من مُدكر ) وحمل المُشترك اللفظي بهذه الأمثلة على كلام الله بعيدٌ جداً خاصة أن القرآن مُخاطبٌ به عموم الناس والله يتكلم عن مسألة اجتماعية يحتاجها البر والفاجر وسائر الناس لا يتكلم عن مسألةٍ عظيمة التعقيد وإنما يتكلم عن مسألةٍ اجتماعية يُهذب بها المجتمع رجالاً ونساء فيبعُد أن يكون هذا هو الحل .(8/14)
بقي قولٌ فيما يبدوا لنا أنه أقرب الأقوال إلى الصواب لكن الذين ردوه لم يتأنوا والله في الرد ولو تأنوا لأبصروه جيداً هذا القولُ هو قول سعيد ابن المسيب رحمه الله وأخذه عنه الشافعي وأيده وهو أن الآية منسوخة الله يقول ( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا ينكحها إلا زانٍ أو مُشرك وحُرّم ذلك عن المؤمنين ) قالوا ــ الذين لم يرضوا بأنها منسوخة ـ قالوا الآية في الخاص لأن وصف الزنى المرأة والرجل هذا وصف خاص وقول الله جل وعلا ( وانكحوا الأيامى ) هذه آية عامة وقد اتفقوا جمهور على أٌصل مذهبِ أحمد ومالك والشافعي على أن العام لا ينسخ الخاص فقالوا ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم إمائكم ) لا تنسخ آية الزاني لأن آية( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً ) آية خاصة والعام لا ينسخ هذا من حيث الأصل نعم لكن من حيث قرائن أُخر تدلُ على صدق الأمر لكن تحتاج إلى تريُث تأخذها عقده عُقده ــ سأحاول قدر الإمكان أن أُبينها لك ــ ينبغي أن يُفهم أن هذه السورة الأصلُ أنها نزلت في العام الخامس والعام الخامس كانت فيه حادثت الإفك غزوة المريسين وسورة النور تكلمت عن حديث الإفك ، إذا أردت زمن السورة في الغالب تأخذ أن النكاح وقت نكاح المُشركين من المؤمنات كان قائماً ونكاح المؤمنات من المُشركين كان قائماً أين الدليل ؟ الدليل أن الآية التي نسخت نكاح المؤمنات من المشركين في سورة المُمتحنة وسورة المُمتحنة بالاتفاق نزلت بعد الحُديبية ( فإن علمتموهنّ مؤمنات فلا ترجعوهم إلا الكُفار لا هنّ حلٌ لهم وهم يحلون لهنّ ) فالله عندما تكلم في سورة النور لم يكن في ذلك الوقت قد حرم الله جل وعلا نكاح المؤمنات من المُشركات وأما نكاح المؤمن من المُشركة فإننا نقول حرمتها آية البقرة ( ولا تنكحوا المُشركات حتى يؤمن ) وهذه نقول أوجه الأقوال أن نقول إنها نزلت بعد سورة النور فيُصبح على هذا إننا نقول إن النكاح هنا(8/15)
بمعنى العقد ، بمعنى ماذا ؟ بمعنى العقد وهو الكثيرُ المُستعمل في اللغة فيُصبح معنى الآيات أنه لا يليقُِِ بالمؤمن ولا يجوز له ــ هذا في أول الأمر ـ أن ينكح زانيةً ولا يجوز للمؤمنة أن تنكح زانٍ بل الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً مثله أو مُشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ مثلها أو مُشرك ثُم هذا الأمر جُملة نُسخ ، نُسخ قضية نكاح المؤمنات من المشركين بآية المُمتحنة ، ونُسخ نكاح المؤمنين من المُشركات بآية البقرة ، ونُسخ نكاح الزواني أنه مُحرم يعني الدليل على أنه جائز عموم قوله تعالى ( وأُحل لكم ما وراء ذلكم فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله جل وعلا (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم إمائكم ) [ واضح ] هذا القول في ظني والعلمُ عند الله أظهرُ أدلة من غيره لأن غيره يحتاجُ إلى مزيد تعسف قد يكون صعب القبول به وقد قُلتُ إن هذا مذهبُ الشافعي لسعيد ابن المسيب ويؤيده عقلاً أننا نقول:
|| أنه ينبغي أن يُرى في حال القائم فإن لحال القائم دورٌ في القبول لا يصح إلغاؤه بالجملة وسعيد ابن المسيب أحدُ أجلاء التابعين وكان يحفظُ كثيراً من الآثار المنقولة عن عُمر بل احتج بمراسيله الشافعي وبعضُ العلماء خاصة إذا حدث عن عمر فهو ــ سعيد ابن المسيب ــ يُقبل قوله ونقول إن الذي دفع سعيدً بالقول بأنها منسوخة علمه بالآثار وقد تكون هذه الآثار ليست موجودة لديه لكنه نقول غالبُ الظن أن يتجرأ سعيدٌ رحمه الله على القول بأنها منسوخة دون أن يعضدهُ أثر ٌقد سمعه لما عُلم من تقوى الرجل هذه واحده .(8/16)
|| كذلك قُلنا إن الآخرين من الفُضلاء الذين ردوا هذا النسخَ ردوه بالقواعد التي سبق أن بينّها أن العامة لا تنسخُ الخاص لكن هذه حررنا أن العامة ليس آية واحده لكن عدة آيات تكاتفت على أنا أخذنا بها تنسخ الخاص هذا واحد ، وبينا أنه ينبغي النظرُ في زمن نزول السورة تقريباً قدر الإمكان ففهمنا من سورة المُمتحنة أن نسخ نكاح المؤمنات من المُشركين كان بعد الحديبية والأول صحيح أننا في آية البقرة لا نملكُ زمنه لكن نستطيع أن نقول به من حيث الإجمال العام الذي يتفقُ مع تفسير هذه الآية هذا ما يُمكن أن يُحرر عن قول الله جل وعلا (( الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً والزانيةُ لا ينكحها إلا زانٍ أو مُشرك وحُرّم ذلك عن المؤمنين )
قال بعضُهم إنما هذا هو خبرٌ أُريد به تشنيعُ الأمر وبيان قضية الزنى و فضاعته عند الله هذا كُله يسوقنا إلى أن نقول ما يلي :(8/17)
ما تكلمنا عنه سابقاً كان يُعنى بتذليل المسألة فقهياً والقرآن لا يُخاطب العقل فقط يُخاطب العقل والقلب فإن الله جلا وعلا لم يتعبدنا بالمعرفة فقط وإنما تعبدنا بالعلم بالمعرفة ، فكل الناس يعلمون أن الخمر تُسكر لكن الإنسان لا يُثاب على علمه أن الخمر تُسكر و لا يُعاقب على علمه أن الخمر تُسكر لكنه إذا تركها من أجل الله وإذا فرّط فيها وشرب منها ولم يُعظم حُرمة الله لها يُعاقب فالله لا يتعبد أحدٌ بالمعرفة الآن ما بين أيدينا كانت معارف فلابد من مخاطبة القلوب ، مُخاطبة القلوب تُفهم من سياق الآية أن الله يبدأُ بسورة ينزل بها ملكٌ عظيمٌ مثل جبريل من السماوات السبع ويقول في التمهيد لها (سورةٌ أنزلناها وفرضناها ) ويُمهدُ للقول بها ثم يٌشنعُ على أصحاب هذه المعاصي فيقول ( الزانيةُ والزاني فاجلدوا ) وهو أرأفُ بنا من أنفُسنا ويقول (الزاني لا ينكحُ إلا زانيةً أو مُشركةً) ويقول في خاتمتها (وحُرّم ذلك عن المؤمنين ) كل ذلك يُبصر المؤمن إذا جمعه مع غيره من الآيات على عظيم هذه الفاحشة قال الله في الإسراء ( و لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساء سبيلا ) وقد قال أهل العلم إن هناك ثلاثة معاصي حرمها الله جل وعلا في جميع الشرائع والأديان : الشركُ بالله ، وقتل النفسُ بغير حق ، و الزنى وجمعها الله في سورة الفرقان ( والذين لا يدعون مع الله إلهً آخر و لا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقى آثاما )(8/18)
على الوجه الثاني في قضية تعظيم الزنى تأتي نصوص شرعية تُرغب في العفاف وتُبين عظيم أجره ومآل أهله عند الله ترغيباً لهم في تركِ هذه الفاحشة يقول صلى الله علية وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هُريرة " سبعةٌ يُضلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .. وذكر منهم رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله " ويقول الله جل وعلا عن نبيه يوسف ابن يعقوب علية السلام ( وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يُفلحُ الظالمون وقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى بُرهان ربه ) قال الله ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) أشتهر عند العلماء إن الزنى أشبه بالدين وأن الإنسان إذا صنعه في أهل بيت رُد ذلك في أهل بيته وهذا يُنس للشافعي :
إن الزنى دينٌ فإن أقرضته ** كان الوفاءُ من أهل بيتك فأعلمِ
والحقُ هذا برنامجٌ يراهُ الكثيرون أننا لا نؤمنُ بقول الشافعي هذا على عظيم إجلالنا له وحُبنا إياه لأن الله يقول ( و لا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى ) ثم إن القول هذا يدفع الناس إلى باب شرٍ عظيم فقد يوجد أحدُ الناس كانت له سابقةٌ في الزنى في الفواحش عياذاً بالله ثم يمن الله جل وعلا علية بالتوبة بعد أن ستره فإذا قررنا ما قاله الشافعي رحمه الله إن صحت نسبة الأبيات إليه أضحى ذلك الرجلُ شاكً مُرتابً لزوجته أو بناته وهذا غير حق غير عدل لكن نقول من حيث الجملة إن الزنى والعياذُ بالله من أعظم الفواحش وأجل الكبائر حرّمه الله وحرمه رسوله صلى الله علية وسلم ومما جاء في التغليظ فيه أن النبي علية الصلاة والسلام رأى الزواني والزُناة رآهنّ رجالاً ونساءً في تنور تحت نارٌ تُقد من أسفله ضيقٌ من أسفله واسعٌ من أعلاه وهم فيه عُراة قال بعضُ العلماء كالحافظ وغيره قال إن هذا من جنس صنيعه فكما هتكُ ستر الله عنهم في الدنيا هتك الله عنهم الستر في حياة البرزخ .(8/19)
هذا الزنى له طرائق و أسباب تؤدي له من أعظمها كثرةُ رؤية الرجل للمرأة أو كثرةُ مُخالطة المرأة للرجال وستر المرأة مقررٌ شرعا ً لكن يقدر فلا يُترك على إطلاقه ويُنفى ولا يُغلق أبداً لكن الأمور تختلف من بيئةٍ إلى بيئة و من مكانٍ إلى مكان وتُقيد بقيود الشرع لكن :
إن السلامة من سلمى وجارتها ** أن لا تمر على سلمى وواديها
وهذه الفضائيات والقنوات وما تبثهُ الشاشات من صور خليعة وأفلام ماجنة وغيرها لا ريب إنها من أعظم أسباب انتشار الفاحشة بين الناس عياذاً بالله فالذي يُكثر من النظر إليها يكون أقرب للوقوع في الحرام والنبيُ صلى الله علية وسلم يقول : ذكر الحمى وقال أنه من يرعى حولهُ يوشكُ أن يقع فيه وهذا حقٌ لا ريب أو قول النبي صلى الله علية وسلم ثم إن الواقع يشهد له شهادةً عظيمة هذه الثلاث آيات ذكرت حد الزنى في فواتح سورة النور كما بينها وذكرنا في أولها الفرق ما بين الحد والقصاص ،
من الفوارق كذالك إن الله جل وعلا وإن جعل الحد لا يسقط ولا تجوز فيه الشفاعة لكن يسر الله على لسان رسوله أن يُدفع الحد بالشُبهات قال صلى الله علية وسلم :" إدرأوا الحدود بالشُبهات " ويقولون إن جماعة من الناس جاءوا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وكان يوم ذاك رجلاٌ ماجنٌ شاعر يُقال له النجاشي والنجاشيُ هذا غير النجاشي صاحب الحبشة وإنما هو رجلٌ من العرب كان يقول الشعر فاسقٌ في لسانه فهجا قوماً يتهمهم بما ليس فيهم فكان عمر يدرأُ الحد عنه بالشبهة ، البت يُقصد به شيء وعمر رضي الله عنه مع أنه ضلعٌ في لغة العرب لكنه يفهمه فهماً آخر فالرجل يقول :
قو قبيلةٌ لا يخفرون بذمةٍ ** ولا يظلمون الناس حبة خردلِ
فقال عمر ليت آل الخطاب كانوا كذلك طبعاً قصد الرجل شيئاً وقصد عمر شيئاً آخر فقالوا يا أمير المؤمنين إنه يقول :
ولا يردون الماء إلا عشية ** إذا صدر الو رادُ عن كل منهل ِ(8/20)
فقال عمر هذا أخف عن النّكاك وأصفى للماء وهو أراد ضعفهم وعجزهم وأراد عمر أن يُغير الوضع فقالوا يا أمير المؤمنين إنه يقول :
تعافُ الكلابُ الضارياتُ لحومهم ** وتأكلُ من كعب ابن عوفٍ و نهشل ِ
فقال عُمر" أجن القوم موتاهم" يعني هؤلاء قومٌ طيبون يدفنون موتاهم فلا تصل الكلاب إليهم ، قالوا يا أمير المؤمنين إنه يقول :
وما سُمي العجلان إلا لقولهم ** خُذ القعب واحلق أيها العبد وأعجل ِ
فقال عمر رضي الله تعالى عنه و أرضاه "خادم القوم سيدهم" وكلما ذكروا بيتً خرج به عمر منحى آخر وهو يعلم مقصدهم لكن هذا من باب" إدرؤا الحدود بالشُبهات " والذي يعنينا أن الإنسان قدر الإمكان يدرءوا الحدود بالشبهات ومن أجل هذا أيضاً رفع عمر أو علق عمر حد السرقة في عام الرمادة لأن شُبهة الجوع والفقر وحاجة الناس كانت طاغية عامه من البلاء العام فلم يقام ذلك الحد في ذلك العام علّقه عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ولا يُقالُ ألغى عمر فهذا ليس لعمر ولا لغيره لكن علّقه رضي الله عنه وأرضاه اجتهادً لحاجة الناس آنذاك من باب قوله صلى الله علية وسلم " إدرؤا الحدود بالشُبهات " هذا أيها الأخُ المُبارك ما تيسر قوله حول الثلاث الآيات الأول من سورة النور ،في اللقاء القدم إن شاء الله سنُعرّجُ على حدين آخرين أو على قضيتين أُخريين وهي قضية حدُ القاذف وقضية المُلاعنة ونكتفي بهما في لقاءٍ موسعٍ مثل هذا بإذن الله تبارك وتعالى ...
[size="5"]هذا ما تيسر إيرادهُ وتهيأ قوله وأعان الله على أن نُمليه وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين.......
بسم الله الرحمن الرجيم(8/21)
أن الحمد لله نحمدهُ و نستعينهُ ونستغفرهُ ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مُرشدا وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له اعترافا بفضله وإذعانً لأمره وأشهدُ أن سيدنا ونبينا مُحمدً عبدهُ ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصاحبه وعلى سائر من اقتفى أثره وأتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد ..........
فغنيٌ عن القول أن يُقال إن هذا اللقاء له ارتباط ٌ وثيقٌ بالذي سبق ونحنُ قد شرعنا في اللقاء الأول في تفسير فواتح النور وأخذنا الثلاث الآيات الأُول منهُنّ وبيّنا أن الله جل وعلا قال ( وفرضناها ) إشارةً إلى الأحكام وتكلم الله جل وعلا فيها عن حد الزنى والآن ينتقلُ بنا القُرآن إلى حُكمٍ آخر وهو حدُ القذف قال الله جل وعلا :
( و الذين يرمون المُحصنات )
وذكر أنه طلب منهم أربعة شُهداء ثُمّ قال
( ثُمّ لم يأتوا بأربعة شُهداء فاجلدوهم ثمانين جلده ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأُولئك هم الفاسقون )
هذا الحدُ شرعاً يُسمى حد القذف ، في حد الزنى كان الرجلُ يتلبس بالمعصية فتثبُت عليه ويثبُت الزنى بواحد من ثلاث : إما باعتراف المرء بنفسه وهذا الذي ثبت به الزنى في عهد النبوة كقصة ماعز و المرأة التي من غامد ، ويثبُت بشهود أربعة وهذا لم يقع في عهد النبوة ، ويثبُت بأن تكون المرأةُ ذات حملٍ وليس لها زوجٌ معروف ، وهذا الثالث ليس محل اتفاقٍ بين العلماء هذا ما يتعلقُ بحد الزنى .
أما الآيةُ التي بين أيدينا فتتكلمُ عن حد القذف والله جل وعلا أمر من قذف أن يأتي بأربعة شُهداء فإن لم يقع تلك الشهادة على الوجه الذي أمر الله جل وعلا به ترتب على هذا الأمر ثلاثة أحكام :
الحلُ الأول : أن يُجلد القاذف ثمانين جلدة .
الأمر الثاني : أن لا تُقبل لهُ شهادةٌ أبدا .
والأمر الثالث : أن يُعتبر فاسقً . هذه الثلاثة
ثُمّ جاءت استثناء
((8/22)
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا )
وقبل أن نشرعُ فيها نصلٌ هذا اللقاء باللقاء الأول وهو قضية ـ قُلنا في اللقاء الأول الذي حررنا الآن الكلام عنه أن الزنى يثبُت بواحدٍ من ثلاث وذكرنا اعتراف المرء هذا الاعتراف على إطلاقه إلا بقيد واحد فيمن إذا اعترف الشاعرُ شعراً أنهُ ارتكبَ ما يوجب علية الحد هل يُقام علية الحد أو لا ؟ وهذا الكلام ليس مُرتبطاً بالآية التي بين أيدينا الآن وإنما مُرتبطة بالأولى لكن قناعةً أن هذه الآية مُرتبطة بما قبلها لأن الزنى والقذف يدوران في فلكٍ واحد حول فاحشة الزنى أكثرُ العلماء من أهل التحقيق على أن الشاعر إذا اعترف في شعره ما من خلاله يوجب الحد علية لا يُقام الحد علية لأن الله جل وعلا برأهم بقوله ( ألم ترى أنهم في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) ومما يُستأنسُ به خبراً أن عُمر رضي الله تعالى عنه ولى رجُلاً يُقال له النعمان ابن عدي ولاهُ ميسان من أرض البصرة وذات يوم خلى النُعمان الوالي هذا بنفسه وكان يُحب الشعر ويقوله فطفح به الكيل وفق تعبيره فقال يتغنى شعراً :
ألا هل أتى الحسناء أن حليلُها ** بميسان يُسقى من زُجاجً و حنتمِ
فإن كُنت ندمانً فبالأكبر اسقني ** ولا تسقني بالأصغر المُتثلمِ
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ** تنادُمنا بالعوسج المُتهدمِ
بلغ عُمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ما قاله النعمان فقال والله إنهُ ليسوؤني ومن لقيهُ فليُخبرهُ أنني عزلته ثم كتب له " بسم الله الرحمن الرحيم .. ( حم * تنزيلُ الكتاب من اله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إلية المصير ) أما بعد فلقد بلغني قولك
لعل أمير المؤمنين يسوؤه ** تنادُمنا بالعوسج المُتهدمِ(8/23)
و والله إنهُ ليسوؤني وقد عزلتُك فقدم النُعمان من أرض ميسان من أرض البصرة إلى المدينة فواجههُ عُمر بالشعر الذي بلغه فقال يا أمير المؤمنين يعلم الله أنني ما شربتُها قط ولكنه شيءٌ طفح به شعري ــ يعني قُلته قولاً ــ فقال عُمر رضي الله عنه وأرضاه وأنا أظنّ ذلك ـ أي أعتقدُ صحة قولك في أنك لم تشرب ـ لكنك لن تليِ لي عملاً لأنك تحدثت في شعرك عن الخمر " موضعُ الشاهد منه قال أهلُ العلم أن عُمر رضي الله عنه وأرضاه وهو عُمر مكانتهِ المعروفة لم يُقم الحد عليه رغم أن هذا الوالي في شعره كان صريحاً في أنه شرب الخمر فهذا الاستثناء يخرُج من قولنا أن الزاني إذا اعترف بزناة يُقام عليه الحد ما لم يكن قد قاله شعراً وثمة روايةٌ أُخرى تؤيدُ هذا المنحى للفرزدق مع سُليمان ابن عبد الملك لكنّ الذي قالهُ الفرزدق ظاهرُ الفُحش عظيمُ البذاءة لا يمكن أن يُقال في محفلٍ كهذا .
هذا تحرير قضية استثناء الشُعراء من الاعتراف .
نعود لمسألة القذف(8/24)
الله جل وعلا هنا يتكلمُ عن ما يحفظ المُجتمع المُسلم والله جعل لنا أعيُن وألسُن والإنسانُ بمقدار سترهِ لمعايب الناس يكونُ ستر الله جل وعلا لمعايبه وقد نصّ أهلُ العلم كما قال سعيد ابن المُسيب وغيرهُ أنه لا يخلوا أحدٌ من أهل الفضل مهما بلغت درجته من معايب فيه لكن لا يحسُنُ إشهارُها لناس على هذا يجب أن تفهم أن كثيراً ممن أعلى الله قدرهم إنما أوقعهم الله على معايب لغيرهم فلمّا ستروها وقد وقعوا عليها ورأوها ولو قدراً ستر الله جل وعلا عليهم معايبهم وكثيرٌ ممن تسلط على أخطاء الناس وعوراتهم سلط الله جل وعلا عليه ، بل إنهُ قد لا يصلُ أحياناً إلى حد الفواحش لكن حتى في النهج العلمي فابن حزمٍ رحمة الله تعالى عليه كان يُقال" إن لسان ابن حزمٍ وسيف الحجاج صنوان " فابنُ حزمٍ في المحلا أجلب بخيله ورجله على الأمة الأربعة وعلى مالك على وجه الخصوص يُقال إن السبب في إعراض الناس عن مذهب الظاهرية ــ من حيثُ الجملة ــ وكُتب ابن حزم على وجه الخصوص ما جعلهُ فيها من جلبٍ على غيرهُ من الأمة ولو كان مُنصفاً رحمه الله مع أُولئك لجعل الله له إنصافاً عند الناس هذه سُنة لله جل وعلا ماضية و إلا لا يختلفُ اثنان ممن ذاقوا رحيق العلم في أن ابن حزمٍ كان إماماً عظيماً جليلاً لكن غلبت عليه هذه الصفة فنجم عنها نُفرة الناس عن كُتبه وهذه لله جل وعلا سُنن لو تأملتها بتأوده وتريُث لوجدت أمُّراً عظيمة وخبايا عديدة يمُنّ الله علينا وعليك بفقهها .
نعود للآية الآيات التي قبلها حدُ الزنى الآن حدُ القذف(8/25)
حدُ الزنى حددهُ الله بمائه ، حدُ القذف قال الله ( فاجلِدوهم ثمانين جلدة ) فلا يُمكن أن يُغير هذا حدٌ شرعي فجعل الله حد القذف ثمانين وجعل الله تعالى حد الزنى مئة جلده (والمُحصنات) أي العفيفات وليس ذكرُ النساء هُنا المقصود منه الحصر فقذف الرجال كقذف النساء ، قذفُ المُحصنين كقذفُ المُحصنات لكن لما جرت غالب القذف أنه يُقالوا في حق النساء جعلهنّ الله جل وعلا هنا مذكورين دون الرجال فإن حآجك أحد في أن الرجال لم يُذكروا فقُل له أجمعت الأُمة على أن الرجالَ داخلين وما دامت قد أجمعت الأُمة لا سبيل إلى نقل ذلك الإجماع ولهذا من العلم عندما تُريدُ أن تبحث لا تبحث في مسألة أجمع الناسُ عليها ولكن أُنظر في مسائل الخلاف علّك تجدُ دليلاً تُرجحُ به قولاً تختارُه أما ما اتفق الناسُ عليه فليس به مجال لبحثً أبدا "لا تجتمعوا أُمتي على ضلاله " خاصة إذا كان الإجماعُ مُشتهراً معروفاً مُقرراً كإجماعهم هُنا على أن القذف يقعُ في حق الرجل كما يقعُ في حق المرأة وإن لم يُسمي الله الرجل على أن بعض أهل التأويل يقول ( والمُحصناتُ ) هنا ليس المقصود بها النساء وإنما المُحصناتُ من الأنفُس رجالاً ونساءَ وهذا تخريجٌ جيد لكن لو فرضنا بعدم قبوله فإننا محكُمون بالإجماع الذي حررناهُ من قبل .
( والذين يرمون المُحصنات ثُمّ لم يأتوا بأربعة شُهداء فاجلدوهم ثمانين جلده)
وقد حررنا عملية الجلد من قبل ، هذه الثمانون هي الحدُ الثاني بعد حدُ الجلد أما الترتيب الآخر قال الله ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) وأبدا تأتي في نفي المُستقبل ويُقابِلُها في نفي الماضي قط تقولُ { لن أفعلهُ أبداً } وتقولُ عن شيءً محكي { ما فعلته قط } وقط أحياناً تُزاد بفاء التزيين فتُكتب فقط
(ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأُولئك هم الفاسقون ) .
ثُمّ قال ربُنا ( إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفورٌ رحيم )(8/26)
وقع الإشكالُ بين العلماء في هذا الاستثناء مرّت ثلاثة أحكام أيُها يرفع الاستثناء ؟ ــ يعني إذا تاب الإنسان أيُها المرفوع من الاستثناء ـ
اتفقوا على أنه لا يُرفع الجلد لماذا ؟ لأن الجلد حقٌ لمن ؟ حقٌ للمقذوف فإذا رفعناهُ ما استفاد المقذوف من توبة القاذف فلو جاء رجُلاً وقذف رجُلاً بالزنى فكونه يتوب بينهُ وبين الله لا ينتفعوا هذا المقذوف بشيء لابد من إقامة الحد هذه واحده .
واتفقوا على أن الفسق يخُرج يعني إذا تاب لا يُعدُ فاسق .
لكن أين وقع الإشكال وقع في قول الله (ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً ) فإذا تاب هذا الذي قذف بعد أن أُقيم الحدُ عليه هل إقامتُنا للحد عليه ثم توبته بعد إقامة الحد تجعلُنا نقبل شهادته بعد ذلك أو لا ؟
هذا المثار في الاستثناء هل يشملهُ قول الله جل وعلا ( ألا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفورٌ رحيم ) أو لا يشملهُ ؟
قُلنا اتفقوا على أنه يشمله في أنه يُخرجه من دائرة الفسق لأنه أخر المذكورات لكن هل يدخُل في ما قبلها أو لا يدخُل ؟ للعُلماء فيها قولان :
مذهبُ الجمهور أنه تُقبلُ شهادته .
ومذهبُ أبي حنيفة رحمه الله أن شهادتهُ لا تُقبل وجعل الاستثناء فقط مُخرجاً له من دائرة الفسق .
قال الله جل وعلا بعدها :
( والذين يرمون أزواجهم ولم يكُن لهم شُهداءُ إلا أنفُسهم )
تعال في الأول وقارنها بالآخر هذه الثانية التي للأزواج جعلها الله مخرج للأزواج لماذا ؟(8/27)
لأن الإنسان إذا رأى امرأة مع رجُل غير زوجته فإنه قد يُصيبهُ شيءٌ من الغيظ لكن لا يصلُ إلى مرحلة أنه يرى زوجته فأقل ما يقول الله يستر علينا وعليكم ويذهب ، لأنه يلزم منه حتى يُقام الحد أن يأتي بكم شاهد ؟ بأربعة شهود وقد يتعذر عليه ذلك ويقول الرجُل أخرُجُ منها أنا لا أستطيعُ أن أأتي بشهود وهذا أمرٌ لا يخُصني فهذه ظاهره لكن أين الحرج عياذاً بالله وعافانا الله وإياكُم ومن يسمع ويرى ، القضية قضية لو رأى الرجُل رجُلاً مع زوجته فهو في أحدِ ثلاثة أحوال :
إن قتل قُتل ، وإن تكلم على الأول طُلب بأربعة شُهداء ، وإن سكت سكت على غيظ .
أُعيد
إن سكت سكت على ماذا ؟ على غيظ ، وقتل قُتل ، وإن تكلم ـ الآن لم تنزل آية المُلاعنة علشان تعرف الارتباط ـ وإن تكلم وقذف هذا الرجُل زوجته طُلب بأربعة شُهداء مثلُ الأوُلى فيُقام عليه الحد لأنه لا يجدُ أربعةٌ شُهداء ، حتى يأتي بأربعة شُهداء فرّت الزوجة وفرّ الرجُل هذا الأمر ضيق على الرجُل فوجد الله جل وعلا المخرج بقوله (والذين يرمون أزواجهم ) هذا تخصيصٌ عن التعميم السابق .
(الذين يرمون أزواجهم ولم يكُن لهم شُهداءُ إلا أنفُسهم )(8/28)
أما إذا كان لهم شهود آخرين فالمسألة مُنتفية حُلّت من قبل في آية القذف لكن هذه آيةُ المُلاعنة وليست آيةُ القذف فجعل الله جل وعلا آية المُلاعنة فك خناقٍ عن من ؟ عن الأزواج لأنها لمّا نزلت آية القذف وطُلبوا بأربعة شُهداء وإنهم إذ لم يأتوا بهؤلاء الأربعة تحصُل عليهم تلك الأحكامُ الثلاثة ضيق ذلك على الناس ويُقال أن هلال ابن أُمية ـ وفي رواية ـ عويمر العجلاني واختلف الناس هل هي قصةُ عويمر أو هي قصة هلال أو أنها قصة اختلاف الرواة في تشعُب رجالها أم قصتان مُنعزلتان بكلٍ قيل ، لكن ليس هذا مقام التحرير مقام التحرير أن تعلم أن أحد الصحابة والأظهرُ والعلمُ عند الله أنه عويمر العجلاني هذا عويمر أرسل رجُلاً يُقال له عاصم ابن عدي من الصاحبة يسأله بعد نزول آية القذف كيف يصنعُ الإنسان لو رأى رجُلاً مع امرأته فذهب عاصمٌ لنبي صلى الله علية وسلم وطرح علية التساؤل فأغلظ عليه النبيُ عليه السلام في الجواب فلمّا رجع عاصمٌ إلى عويمر وسأله عويمر ما الخبر أخبره عاصمٌ بأنه لم يلق خيراً من سؤاله هذا لكن عويمر لم يصبر وكأنه يرتابُ في زوجته فأتى لنبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال علية الصلاةُ والسلام " البينةٌ أو حدٌ في ظهرك " فلما رجع وجد الذي كان يخشاه فعاد لنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله جل وعلا هذه الآية المعرفة بآية المُلاعنة فيها نُصرة لعويمر من حيث الإجمال لأن الأنصار لما قال عويمر أتهم زوجتهُ لم تنزل الآية في نفس الليلة بات الأنصارُ وهي تقول ليُقامنّ غداً حدُ القذف على من؟ على عويمر لأنهم الآن على الآية الني قبلها آية حدُ القذف فلما نزلت هذه الآية قُلنا فكُ خناق قال الحقُ سُبحانه (الذين يرمون أزواجهم ولم يكُن لهم شُهداءُ ) من غير أنفُسهم (إلا أنفُسهم ) يعني إلا هُم.
( فشهادةُ أحدهم أربعةُ شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسةٌ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين )(8/29)
جيء بعويمر وجيء بزوجته بعد أن نزلت الآية فأقسم عويمر قائلاً : أشهدُ بالله أنني لمن الصادقين فيما رميتُه بها والخامسة وهي الموُجبة قال أشهدُ أن لعنة الله عليّ إن كُنتُ من الكاذبين فيما رميتُه بها .
وجيء بالمرأة فقالت أشهدُ بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به وأشهدُ بالله أن غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به .
نُقل أنها قبل أن تقول الخامسة خُوفت لأن هذه الموجبة فتلكأت ثُمّ قالت والله لا أفضحُ قومي سائر اليوم ومضت في يمينها فقال صلى الله علية وسلم كما روى أنس " قال إن جاءت به كذا وكذا و كذا ذكر أوصافً في عويمر فقد ظلمها وإن جاءت به سابغ الإليتين خُدلّج الساقين أكحل العينين فهو لما رماها به لأن شريك ابن سحماء الذي رماها عويمرٌ به كانت هذه صفاته ثُمّ إنها وضعت ـ لأنها كانت ذات حمل ـ وضعت على الصيغة التي خوّف منها النبي صلى الله علية وسلم فجاء الوليدُ شبيهاً بمن رماه به فقال صلى الله علية وسلم " لولا كتابٌ من الله كان لكان لي معها شأن " ومعنى هذا أن الحدود إذا أُقيمت ينتفي والقضاء إذا تمّ تنتهي المسائل والمقصود إقامةٌ حد الله أما إصابةٌ عين الحق هذا ليس في كُنه البشر جميعاً إنما المقصود إقامة الحد .
هذه الآية يا أيُها الأخُ المُبارك تُسمى آية المُلاعنة ، ما الذي ينجمُ عنها ؟
ينجمُ عنها أنك تعلم أن الإنسان إذا طلق زوجته فإن الطلاق يقع على ثلاث صور :
إما أن يقع طلاقاً رجعياً ، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة صُغرى ، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة كُبرى . فأما إذا طلّقها طلاقاً رجعياً طلقتين أو واحده أقل من ثلاث فله أن يُراجعها ما دامت في العدة و هو أولى بها وهذا لا خلاف فيه فإن طلّقها طلقة أو طلقتين وقُضيت العدة ولم يُراجعها بانت منه لكنّ هذه البينونة يا بُني تُسمى بينونة صُغرى بمعنى أنه لهُ أن يعود إليها لكن بعقدٍ جديد ومهرٍ جديد.(8/30)
الحالة الثالثة أن يُطلقها ثلاثاً فتبين منه بينونة كُبرى فهذه قال الربُ فيها
( فلا تحلُ لهُ حتى تنكح زوجاً غيره )
فلابُد أن تتزوج غيرهُ ثم تتزوجه لماذا عرّجنا على الطلاق هُنا لنقول لك أن المُلاعنة إذا وقعت بعدها لا تحلُّ المرأةُ لزوج أبداً ولا يحلُ لها ولا يُمكن أن يجتمعا مرةً أخرى ولو تزوجت عشرات الأزواج بعدهُ فلهذا حررنا الكلام في الطلاق حتى يُفرق ما بين قضية الطلاق وما بين قضية المُلاعنة لأنه إذا وصل الأمرُ بهما إلى أن يُشكك أحدُهما بالآخر أو أن ينتفي الرجُل من ابنة فإن هذا معناهُ قطعاً أنه مُحال أن تعود المياهُ بعد ذلك إلى مجراها بينهم هذا الذي ينجُم عن آية المُلاعنة ، هذا الصغيرُ الذي تمت المُلاعنةٌُ من أجله يُلحق بأمه ولا يُنسب إلى أبيه .
بعضُ الفُضلاء من أهل العلم يستعجل في فهم قضية اللعن والغضب فيقول حتى بعضُ المعاصرين ممن ـ يعني ـ هم إلى الثقافة أقرب منهم إلى التأصيل فيقولون إن الإسلام يُشدد على المرأة فالله قال هنا في حق الرجُل
( والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ) وقال في حق المرأة ( ويدرأُ عنه العذاب أن تشهد أربعة شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسةٌ أن غضب الله عليها )
فقال في حق المرأة الغضب وهو السُخط وهو أشدُ من اللعن فهم يفهمون بادي الرأي أن المسألة تتكلم ميلاً لرجُل ضد المرأة وليس الأمرُ كذلك لو تأملته كيف تتأملهُ؟
تتأملهُ دائماً أعكس الأمور كيف تعكسُها؟ الآن الرجُل قذف امرأته فلو قدرنا أنه كان كاذباً ما غايةُ ما يُمكن أن يوصف به الرجل
أُعيد
أنتظرُ جواباً ؟
لو قدرنا أن الرجُل قذف امرأته وكان كاذباً ما غايةُ أن يوصف به ؟ أنه كاذب قاذف فما الحدُ في حقه حد القذف يعني موازٍ لحد القذف(8/31)
لكن المرأة لو قدرنا أن الرجُ ل كان صادقاً في ما رماه به وكاذبة في البراءة ما غاية الأمرُ عنده تُصبح ماذا ؟ ما تُصبح قاذفه تُصبح زانية [ واضح ] المرأة إذا كان صادقاً في ما رماها به فهي زانية لكن هو إذا كان كاذباً فهو غاية الأمر إنه قاذف و أيُهما أعظم القذفُ أو الزنى ؟ الزنى فاللعن مُناسباً للقذف ليس للرجُل والغضب مُناسبٌ لزنى ليس للمرأة [ واضح ] فليست القضية قضية تفريق ما بين رجُلٍ وامرأة إنما القضية الموقف أن الرجُل هذا إذا كان كاذباً في دعواه فغايةُ الأمر أنه قذف زوجته بما ليس فيها فهو وصل إلى مرحلة القذف فهذا حقهُ اللعن لكن المرأة إذا كانت كاذبة في دعواها البراءة فهي لا تُصبح قاذفة كزوجها لا تُصبح قطعاً يقيناً زانية فإذا أصبحت زانية الزنى أشدُ من القذف هاذاك مئة وهذا ثمانين فاللعن يوافق الثمانين والغضب يوافق المئة فليست القضية قضية مُمالئة رجُل ضد امرأة وإنما القضية قضية أن الغضب يوافق الزنى واللعن يوافق القذف [ واضح ] وهذا أمرٌ يحسُنُ تحريرهُ .
من القضايا التي يُتكلم عنها في هذه الآيات المُباركة جُملةً يعني قضايا نحوية يقول الله (فاجلدوهم ثمانين جلدةً ) هذه جلدةً تُعربُ تمييز لماذا تُعربُ تمييزاً ؟ لأنها تُزيلُ الإبهام المُتصل بالعدد ويُسمى عند النحويين تمييزٌ ملحوظ والشقُ الآخر له ما يُسمى بالتمييز الملفوظ ،التمييز الملحوظ يُزيلُ إبهاماً عددياً يُبينُ عدداً مساحةً كيلاً ، أما الثاني يدخُل في باب المعاني غالباً تقول { ازدانت المدينةُ مدخلاً } { طاب محمدٌ نفساً } وهذا التمييز الملفوظ يصحُ فيه القذف تقول طابت نفسُ محمد وازدان مدخل المدينة هذه القضايا النحوية نراها ضرورة في فهم كلام الله تبارك وتعالى .
نعود للآيات قُلنا أن الله تبارك وتعالى تكلم في الأولى عن حد القذف وتكلم في الثانية عن حد المُلاعنة وقُلنا إن المُلاعنة إنما هي تخصيصٌ عن حد القذف .(8/32)
ماذا لو قذف الوالدُ ولده ؟
هذه المسألة تتعلق بالقضية حق الوالد على الولد شيءٌ عظيم كأصل للمسألة " أنت ومالُكَ لأبيك " لما ذكر البيوت قال بيوت آبائكُم وقال إخوانكم و عماتكم وخالاتكم وصديقُكم وليس في الآية ذكرُ بيوت الأبناء لماذا ؟ لأن هذا حق مُشاع بالنسبة لك لم يذكُرهُ الله جل وعلا يندرج تحت بيتك فحقُ الابن شيء عظيم فإذا قذف الوالدُ ولدهُ فمن الذي يُطالبُ بالحد الولد فهل له أن يُطالب بالحد أو ليس لهُ على قولين للعُلماء ؟
من قال بأنه يُطالب أخذ بعموم الآيات .
ومن قال أنه لا يُطالب أخذ بالآيات الدالة على وجوب الإحسان للوالدين ولا شك أن إقامة حدٍ على والد بسبب ولده يُعارض الإحسان لكن يبقى الناس خلق فتسمع أحياناً أو تقرأ أقوالاً تتعجبُ كيف تُقال لكنك لا تعجب إذا علمت أن الله كتب النقص على عباده قال بعضُ المالكية قالوا إنه له أن يُطالب بالحد حد القذف للابن أن يُطالب بحد القذف ثم إذا أُقيم الحدُ على الوالد يُعتبروا الولدُ عاقاً والعقوق كبيرة فهل يُعقل أن يقول قائل إن حدود الله إذا نُفذت تقود إلى الكبائر ؟ هذا مُحال فالقول هنا لا يستقيم تفهم من هذا أن الإنسان إذا أراد أن يُملي قولاً أو أن يُظهر رأياً أو أن يُحرر مسألة قبل أن يعرضها على الناس يعرضُها على نفسهم فيُدخل عليها خوارم ويُحاكم نفسهُ بنفسه وينصب العداء لنفسه في هذه المسألة ويأتيها من كُل شق ويرميها بكُل نبل فإن ثبتت وتحررت وبقيت أخرجها لناس خيرٌ له من أن تُرمى والناس جبلة يصنعون هذا من غير أن يشعروا يصنعونه فقلّما يركبُ أحدً دابةً أو يأخُذ قلماً إلا وقد حررهُ أو جربه قبل أن يأتيه فما يُقالُ في الأمور المحسوسة ينبغي أن يُقال في الأمور العلمية .(8/33)
تأتي قضية أُخرى في قضية القذف وهي قضيةُ أنه العلماء ذكروا أن العبد إذا زنى ـ إذا كان بكراً ـ يُقام الحد نصف الجلد المئة تُصبح خمسين فإذا قذف العبدُ أحداً هل تُصبح الثمانين أربعين أم لا ؟ الجمهور أخذوا بالقياس قاسوها على الأول ونُقل عن عُمر ابن عبد العزيز وأختارهُ الإمام الشنقيطي في تفسيره أن القياس هُنا غير صحيح وأنه لا يُقاس حدُ القذف على حد الزنى أما الزنى فلأنهم قالوا إن الله قال في الإماء ( فعليهنّ نصفُ ما على المُحصنات من العذاب ) فقالوا هذا قسناه على حد الزنى أو هو نفسهُ الأصلُ في حد الزنى فقسنا عليه الرجال لكن قالوا إن حد القذف غيرُ حدُ الزنى فلا يرى بعضُهم ـ وقُلنا هذا رأي عُمر ابن عبد العزيز ـ لا يرى أن حد القذف يُقسم وإنما يُجلدُ العبد إذا وقع منه القذفُ ثمانون جلدة كما يقعُ على الحُر هذه المسألة تتعلق بمسألة حد القذف .
نأتي لقضية الوليد الذي ينشأ من زواجٍ غير شرعي أو من جماعٍ غير شرعي هذه مسألة تكثُر في كل زمانٍ ومكان وقد ساد أقوام أُختلف فيهم ومن أشهرهم تاريخياً تسمعون بزياد ابن أبيه هذا زيادٌ أحد أُمراء العرب في عصر بني أُمية استعملهُ عليٌ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكان جباراً فتاكاً فلما آل الأمرُ إلى معاوية طلبه وألحقه به وقال إن أبى سُفيان أبوه هو الذي كان سبباً في ولادته من امرأة كان يأتيها في الطائف فكان يُعرف بزياد ابن أبيه لأنه لا يُعرف له أب ثم عُرف بزياد ابن أبي سُفيان هذا زيادٌ ولي البصرة ولي العراق في أيامِ بني أُمية وهو صاحبُ الخطبة المشهورة بالبتراء والبتراء بمعنى الأقطع ( إن شانئك هو الأبتر ) فصعد على المنبر دون أن يحمد الله ويُثني علية ويُصلي على الرسول فقال أما بعد إن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء ما عليه سُفهائكم وأشتمل عليه عُلمائكم وأخذ يُهددُ ويوعدُ ويزبد هذه تُسمى عند اللغويين ــ هذه الخطبة ـ تُسمى موقف لغوي كامل.(8/34)
ما معنى موقف لغوي كامل ؟
ــ هذا استطراد ــ
المواقف اللغوية تتكون من ثلاثة عناصر :
مُرسل ، ورسالة ، ومُستقبل
يكون الموقف اللغوي مُتكاملاً إذا أدت الرسالة غرضها استطاع المُرسل أن يُتقن الرسالة وصلت الرسالةُ إلى المرسل إليه ففهموها فالرجلُ صعد عند قومٍ ذوي ثورة ذوي تمرُد على ولاتهم لا يحسُن معه الشفقة فالموقف اللغوي يتطلب منه أن يُقدم رسالة يُظهرُ فيها حزمهُ فلهذا بدأها من غير أن يحمد الله ولا يُثني عليه ولهذا لو قستها حتى في الشرع فإن المرء منّا يتقربُ إلى الله يوم العيد بالأضاحي فلا يقول باسم الله الرحمن الرحيم لأننا لو قُلنا باسم الله الرحمن الرحيم ما ذبحناها وما نحرنا ما بين أيدينا من الضأن لكن نقول باسم الله ، الله أكبر لمُناسبة الموقف ويزعمون فيما يزعمون أن أبا عمر ابن العلاء أحدُ النحويين كان على دابته فمرّ على السوق سوق النخاسية فجُملة من في السوق قومٌ لا يفقهون من اللغة إلا اليسير وكان قد اختلط العرب بالعجم وهو ضليعٌ في النحو مُغرقٌ في مسائل الألفاظ العويصة فلما سقط من دابته أجتمع الناسُ عليه خوفاً أن يكون قد أصابه مكروه فقال لهم ما لكُم تكأكأتُم عليّ كتأكأكُم على ذي جنة افرنقعوا لا أبا لكم بالطبع لم يقُم أحد لماذا ؟ لأن الموقف اللغوي هنا ناقص لأن النحويين بعسى ولعل يفهمون مُرادهم فكيف يفهمُها العامة هو أراد أن يقول ما لكم تجمعتم عليّ كتجمعُكم على رجلٌ مجنون انصرفوا ـ هذا الذي أراد أن يقوله ـ لكن الناس لم ينصرفوا ولم يتحركوا ولم يُسعوا له الأمر لأنهم لم يفقهوا شيئاً مما يقول ـ غاية ما أردتُ أنا بيانه وخرجتُ عن زياد وأتيت إلى قضية ـ حتى هذه القصة التي بين أيدينا عويمر العجلاني هذا قيل إن هذا الصبي الذي حصلت فيه المُلاعنة جاء في المُسند بسندٍ فيه ضعف لكن يُقبل في مسائل الأخبار أنه رؤيا أميراً على إحدى الولايات في مصر أن هذا الابن رؤيا أميراً على إحدى الولايات في مصر(8/35)
بعضُ العلماء حتى وهو يُفسر القرآن يعني يبدأ يُلاحظ هذه القضية فجاء عند قول الله تعالى ( يوم ندعوا كُل أُناسٍ بإمامهم ) هي طبعاً بكتابهم لأن الإمام ورد في اللغة بمعنى الكتاب ورد في القرآن ( وكُل شيءً أحصيناهُ في إمامٍ مُبين ) فقال بعضُ المُفسرين وأظنّه محُمد ابن كعبُ القرُضي قال بإمامٍ يعني بأُمهاتهم فقيل له لماذا بأُمهاتهم لماذا لا يدعون بآبائهم قال حفظاً على أبناء الزنى عدمُ إحراجٍ لأبناء الزنى لأنه لا يُعرفُ لهم أباء وإظهاراً لشرف الحسن والحُسين في نسبتهم إلى فاطمة لأن فاطمة بنت نبيُنا صلى الله علية وسلم المقصود هذه الاستحضارات يستحضرُها الناس أحياناً في الكلام عن القواعد والتفسير علمٌ مفتوح تلتقط أوراقه من هاهنا وهناك هذا كُله يدخُل فيما قُلته في اللقاء الأول في باب المعرفة .
بقي الآن ما أراده الله من تحريك القلوب لماذا ذكر الله القذف وأوجب فيه الحد لماذا ذكر الله جل وعلا المُلاعنة نقولُ جملةً ما حررناهُ في الأول لكننا لا نعود نقول عوداً على بدء إن الإنسان كُلما منّ الله عليه بحفظ لسانه من الخوض في أعراض الناس كان أقرب إلى ربه وأدنى إلى شرف المعالي و لا يليقُ برجُلًٍ يؤملُ يوماً أن يكون ذا شأن يشغل نفسهُ بالآخرين .
وليس زعيم القوم من يحملُ الحقدَ
الذين يحملون الحقد والحسد هم أكثر الناسُ حديثاً عن الغير لأنه يُضيرهم ما يرون من نعم الله جل وعلا على غيرهم فيدفعهم ذلك الحسدُ الذي في قلوبهم إلى أن يُلفقوا الأخبار ويصطنعوا الأحاديث على سواهم فينجُم عن ذالك انقاصُ الناس فيُسلط الله جل وعلا عليهم كما حررنا في أول اللقاء من يكشفُ لهم عيوباً لكن العظيم الشأن الذي أرجوا الله أن تكونوا منهم العظيم الشأن من الرجال يترفع عن مثل هذه الأمور ولا يعبأُ بها ولا ينظُر وإنك لن تُغيظ عدوك بأكثر من أن تُظهر عدم مُبالاتك بهم يقول المتنبي :(8/36)
أفي كل يوم تحت إبطِ شويعرٌ ** ضعيفً يقاويني قصيرٌ يطاولُ
وأتعب من ناداك من لا تُجيبه ** وأغيظُ من عاداك من لا تُشاكله
فالإنسانُ إذا أراد أن يقهر عدوهُ لا يجدُ شيئاً يقهر به عدوه من مثل ترفُعه عن مُجاراته وقد قال أبو تمام :
إذا جاريت في خُلقٍ دنيءٍ ** فأنت ومن تُجاريه سواءُ
رأيتُ الحُر يجتنب المخازي ** ويحميه عن الغدر الوفاءُ
هذه جُملة بعضُ الآداب و أللفتات المعرفية والعلمية حول هذه الآيتين المُباركتين من سورة النور .
يسر الله جل وعلا أن نقولها ونُمليها والله المُستعان وعليه البلاغ وصلى الله على آله والحمدُ لله رب العالمين ...........
بسم الله الرحمن الرحيم
أن المحمود هو الله جلّ جلاله والمُصلى والمُسلم علية محُمدٌ وآلهُ(8/37)
أما بعد .........فهذا لقاءٌ مُمتد تبعاً لما كُنا قد تكلمنا فيه عن سورة النور وقد ذكرنا في لقاءين سابقين ما كان فيهما من أحكام في صدر السورة والآن ننتقلُ إلى الآيات المعنية بقصة الإفك وهي آياتٌ تنتهي عند الآية السادسة والعشرين من هذه السورة المُباركة وقصةٌ الإفك تناولها أصحابُ السيرة كما تناولها المُفسرون لعلاقتهما بالأمرين بالنبي صلى الله علية وسلم ولأن القُرآن هو الذي نزل ببراءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها وقبل أن أشرع في التأمُلات والتفسير وبيان ما ذكرهُ العليٌ الكبير في كلامه نقول أن النبي علية الصلاة والسلام جاء بدينً جديد على خلاف ما كان عليه قومه فواجههُ قومهُ بأن اتهموه بالسحر والكهانة والجنون وغير ذلك ومثلُ هذه الاتهامات وطنّ النبي صلى الله علية وسلم نفسهُ على مُقابلتها فهي من جنس ما كان يتوقع من أذى وصدود ورد لدعوته من لم يؤمن بها لكنّ حديث الإفك ابتلاءٌ من نوعً آخر ولا يوجد ابتلاءٌ في السيرة العطرة والأيام النظرة في حياته صلى الله علية وسلم مثيلٌ لهُ ولهذا قال الله ( يعظكُم الله أن تعودوا لمثله أبداً) فهو حدثٌ فريدٌ لم يتكرر كنوعٌ من البلاء لم يقع إلا مرةً واحده في غزوة المُرسيع واستصحابُ هذا عند تفسير القرآن أو تفسير هذه الآيات المعنية بحديث الإفك أمرٌ مُهمٌ جداً لطالب العلم في التأمُل في كلام الله جل وعلا فبعضُ الآيات الأحداث أو القضية تتكرر لأن نوع الابتلاء ينضوي تحت خيمة واحده أما هذا الابتلاء الذي بين أيدينا لا ينضوي تحت أي خيمة إنما هو مُستقلٌ فردٌ لوحده لم يعهدهُ النبيُ في مكة ولم يعهدهُ في المدينة إلا ذالك الحين ثُمّ انجلى بعد شهرٍ من الأسى بإنزال الله جل وعلا قوله
( إن الذين جاءوا بالإفك عُصبة منكم ) وهو أولُ ما سنُفسرهُ إلى قوله سُبحانه وتعالى
( أولئك مُبرءون مما يقولون لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريم )
هذا التأصيل الأول .(8/38)
الأمر الثاني : أن الناظر في القرآن لا ينبغي عليه أن يحكُمهُ شيءٌ واحد وإنما هي معاني تُقرب لناس بحسب فهمنا لكلام الله و إلا لن يصلَ فهمُنا أو تعبيرُنا عن مُراد الله إلى المعنى المقصود الأسمى لأن تعبيرنا وفهمنا لكلام الله لن يصل أبداً إلى نص القرآن نفسه فنصُ القرآن مُقدس و مُقاربةٌ العُلماء لذالك النص غير مُقدسه.
ستكلم ابتداءً عن الشخصيات التي تتعلقُ بقصة الإفك حتى إذا شرعنا بعد ذالك في تفسير الآيات تكون الصورة واضحة جلية لك :
@ أولها : بالطبع رسول الله صلى الله علية وسلم وهو غنيٌ عن التعريف .
@ ثُمّ الصديق بوصفه والدٌ لعائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها .
@ وأُم رُمان أُمُ عائشة رضي الله عنها وزوجةُ من ؟ زوجةٌ أبي بكر
وهؤلاء الثلاثة قد لا يكونون مقصودين أصلاً بالأمر وإنما الأمر أول ما ينصرف إلى عائشة وإلى صفوان ابن المُعطلّ .
@ عائشة هي الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها وهي كذالك أشهرُ من أن يُعرف بها لكن ّ نُعرّف بالشيء الذي يتعلق بالقضية رُزق النبي صلى الله علية وسلم حُبها وآتاهُ جبريل بصورتها ــ يعني وضع في رواية سرقة من حرير وفي رواية كفهُ ـ وفي تلك القطعة من الحرير كانت صورة عائشة فعرف النبي صلى الله علية وسلم أنها ستكون زوجتهُ أو شيءً من هذا وقال " إن يُرد الله خيراً يُمضه " أو " إن يُرد الله شيءً يُمضه " ثُمّ كانت زوجته رضي اله تعالى عنها وأرضاها بعد الهجرة بنى بها النبيُ في شوال هذه المُباركة أنزل الله جل وعلا فيها هذه الآيات بيانً ببراءتها وتوفي النبي علية الصلاة والسلام بين سحرها ونحرها ودُفن في حُجرتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها .(8/39)
@ أما من رُمي بها أو رُميت به فهو صفوان ابن المُعطلّ السُلمي أحدُ خيار الصحابة ومما يدلُ على أن الله جل وعلا أراد به خيراً أنه مات شهيداً والظفرُ بالموت شهادة ليس بالأمر الهين فقلما يُعطاهُ كُل أحد والله يقول ( ويتخذ منكُم شُهداء ) ليس كُل الناسُ يُتخذ شهيداً فصفوان ابن المُعطل لمّا رآها قال " إنا لله وإنا إلية راجعون " فكان ذالك سبباً جعلهُ الله في نجاته كما سيأتي .
من الشخصيات شخصياتٌ خاضت في الأمر بشدة وبعضُها دخلهُ مُقارنة
@ تولى كبر الأمر على الصحيح عبدُ الله ابن أُبي منافق خزرجي النسب قدم النبيُ علية الصلاة والسلام المدينة وكان القومُ من الأوس والخزرج قد أجمعوا أمرهم على أن يولوه أن يكون ملكاً عليهم اصطلحوا على أن يولوه ملكاً ولهذا اغتاظ من قدوم النبي علية الصلاة والسلام إلى المدينة.
@ حسان ابن ثابت شاعر رسول الله صلى الله علية وسلم والمشهور عند العُلماء أنه وقع في الأمر وشارك في نشرة .
@ و حمنةٌ بنتُ جحش و حمنة أًُختُ زينب من زينب ؟ زينب بنتُ جحش زوجة النبي صلى الله علية وسلم المُنافسة لعائشة حضوةً عند رسول الله علية الصلاة والسلام فلو قُدر أن زينب هي التي شاركت لكان الأمرُ فيه بعضُ العُذر لا بعضُ الجواز لكونها مُنافسة لعائشة لكن الورع عصمها ولم تقُل كلمةً واحده في عائشة لكن حمنة أُختها انتصرت لها وأحياناً الإنسان تغلبُ عليه العاطفة فيُريدُ أن ينفع غيره فيضرُ نفسهُ ويضرُّ غيرهُ وربما لا يصلُ إلى ضرر غيره كما فعلت حمنة فحمنة لا علاقة لها بعائشة هي زوجةٌ لطلحة لكنها أرادت أن تنصُر أُختها أمام عائشة فشاركت في النقلِ لعلها تُصيبُ من ذالك نقصً في عائشة وهي لا تعتقدُ صحة ذالك لأن الله قال ( إذ تلّقونه بألسنتكُم وتقولون بأفواهكُم ) لا يوجد شيءٌ مُستقرٌ في القلب لكن المُراد أنها أردت نُصرة أُختها فنُصرتُها لأُختها أعمت بصيرتها عما تنظُرُ إليه .(8/40)
@ مسِطح ابنُ اثاثة ابنُ خالة لأبي بكر فقير مُستضعف كان أبو بكر يُنفق علية هذا شارك في قضية إشاعة الأمر كان أبو بكر يُنفق عليه وهو بدريٌ والنبيُ صلى الله علية وسلم قال لأهل بدر قال الله جل وعلا اطلع على أهل بدر فقال { اعملوا ما شئتُم فإني قد غفرتُ لكُم } وليس المعنى أنني قد أذنتُ لكُم بالمعاصي لو كان المقصود هذا لما عُتبَ مسطح وغيره ولا ما حُد على قول أهل العلم وأُقيم عليه الحد هذا مسطح أحدُ الذين شاركوا .
@ أبو أيوب الأنصاري أحدُ الذين عصمهُم الله هو وزوجتهُ وقالوا خيراً وقالوا عن ذالك الإفك هو الكذبُ بعينه .
@ الجارية التي سألها النبي علية الصلاة والسلام بعضُ أهل العلم يقول إنها بريرة وبعضُهم ينفي يقول إن بريرة لك تكُن بعدُ في عُهدت عائشة و أياً كانت تلك الجارية فإنها امرأةٌ عصمها الله قالت يا رسول الله " أهلُك ولا أعلمُ إلا خيرا " وذكرت إنها امرأةٌ ــ عن عائشة ـ أنها امرأةٌ تغفلُ عن عجين أهلها فيأتي الداجن فتأكُله .
@ أُسامة ابنُ زيد مولى رسول الله صلى الله علية وسلم من الشخصيات الحاضرة في القصة استشارهُ النبي علية الصلاة والسلام فقال يا رسول الله "أهلُك ولا نعلمُ إلا خيرا " وعبارة ولا نعلمُ إلا خيرا تدلُ على كمال عقله فهي ليست مُفرطة في المدح ولا تُقارب الذمّ أبدا لكنها في نفس الوقت فيها شيءٌ من التزكية وهي عبارةٌ استخدمها المزكون اليوم تكونُ جيدةً .(8/41)
@ علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه خاتم الخُلفاء ورابعُ الحُنفاء رضي الله عنه وأرضاه هذا الصحابيُ الجليل قال يا رسول الله " النساءُ غيرُها كثير " وليس المقصود اتهام عائشة لكن ّ علياً ليس كأُسامة أُسامة مولى لا يلحقهُ عيب لو وقع الأمرُ حقاً أمّا عليٌ ابنُ عمٍ لرسول الله صلى الله علية وسلم كلاهُما ينتسب إلى بني هاشم فهو عصبة لرسول والرسول صلى الله علية وسلم عصبةٌ لهُ فهو ينظُر من باب أن الأمر يتعلق ببني هاشم وزوجاتهم وهو يُريدُ أن يُغلق الباب ويسُد على الناس طرائق أقوالهم ولم يُرد أن يتهم عائشة لكنهُ ملفٌ يُريدُ أن يُغلقه وقضيةٌ لا يُريدُ لها أن تُثار هذا المقصود من قول عليٌ رضي الله تعالى عنه " النساءُ غيرُها كثير " يعني تعلق قلبُك بها حُباً تزوج غيرها يُنسيك إياها وأنفك من مسألة أن يقدح الناسُ فيها هذا مقصود قول عليٌ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقد قال في الصديقة بنتُ الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها بعد سنين من هذه الحادثة أن عليٌ لم يكُن بيني وبينهُ إلا ما يكون ما بين المرأةِ و أحمائها أي من قرابة زوجها .
هذه الشخصيات التي يأتي خبرُها في قصة الإفك.
ثُمّ شخصيات غير مُسماة وهم عامة المؤمنين وعامة المُنافقين لكن هذه أحاد ذُكرت وأفراد مُميزون جاء ذكرهم في القصة .
هذا كُله قبل أن نعرف ما هي القصة قبل أن ندخُل على التفسير.
ــ تاريخياً كانت في غزوة المُريسيع غزوة بني المُصطلق في السنة الخامسة تقريباً .
ــ المكان قبل دخول المدينة في منطقة تُسمى اليوم العشيرة إلى الآن حوالي عشرين ثلاثين كيلو بعد الخروج من المدينة بطريق الهجرة الجديد .
هذا الزمان وهذا المكان وهؤلاء هُم أفرادُ القصة(8/42)
أما القصة إجمالاً على وجه الإجمال لأنني أُفسر لا أشرحُ سيرتُها قبل أن أدخُل في الآيات ... النبي صلى الله علية وسلم أقرع بين نساءه ابتغاءً للعدل يذهبُ إلى غزوة جاءت القُرعة على عائشة بقدر الله خرج علية الصلاةٌ والسلام بعائشة أتى المريسيع حصل ما حصل سبيٌ ، بعضُ قتال ، اقتتالٌ على الماء ، مناوشة بين المُهاجرين والأنصار أراد أن يُثيرها عبد الله ابن أُبي أراد النبي صلى الله علية وسلم أن يُنهي القضية أمر الركب بالرحيل بغير ساعة يرحلون فيها تفقدُ أُم المؤمنين عقدً كان عليها العقد أي شيء يُحيط بالعُنق يُرادُ به الزينة يُسمى عقد فإذا أُحيط بالمعصم يُسمى سوار فإذا أُحيط بالإصبع يُسمى خاتم هذا في حالة كسر العين وإذا فتحتها قُلت عَقد فهو أيُ اتفاقً بين طرفين ــ هذه لغويات ـــ ذهبت إلى ذالك المكان الذي يُرجى فيه ِ أن تكون فقدت فيه عقدها في تلك اللحظات رحل الجيش هُناك مسؤلون عن هودج أُم المؤمنين امرأةٌ نحيلة آنذاك حوالي في الرابعة عشرة من عُمرها قليلاً ما تأكُل اللحم لا يُقد في بيت رسول الله صلى الله علية وسلم نار ليس لها متزوجة إياها إلا ثلاث سنين أو أربع على الأكثر مازالت خفيفة اللحم فالهودج هي فيه أو غير فيه لا يكادُ يتغير على أشداء الرجال عندما يكون الذي يحملُ ضعيفاً يُميز لكن أشداءُ الرجال حتى يحملوا امرأة في الرابعة عشر لن يظهر لهم فرق حملوا الهودج وهم لا يشكون لحظة أن أُم المؤمنين فيه وهي خارجه عادت لم تجد نبي الله علية الصلاة والسلام لم تجد القوم جميعاً ماذا تصنع لا يُمكن أن تغدوا وتروح لا يوجد وسائل اتصال ذهبت إلى شجرة في نفس المكان أخذت عليها لثامها وغطائها وجلست غلبها النوم بقدر الله ، صفوان ابن المُعطل كُلّف بساقة القوم على الأظهر تأخر عن الجيش لأي سبب ليمضي قدرُ الله ولا نوغلِ في البحث عن هذه الأسباب لأنه تأخر تأخُر بصرف النظر عن سبب تأخُره أتى إلى المكان الذي فيه الجيشُ(8/43)
أصلاً وجد الجيش قد ذهب هو يعلمُ ذالك أصلا لكنهُ وجد شبحاً خيالاً اقترب منه فإذا هي أُم المؤمنين مع نومها أُنيط اللثام عن وجهها فعرفها وكان يرها قبل الحجاب فلما عرفها ولن تخفى عليه فمجتمع المدينة مُجتمع صغير قد لا يعرفُ كُل صغيرة وكبيرة فيها لكن الإنسان لا يجهلُ إن هذه امرأة فُلان إذا رآها مرة أو مرتين فاقترب منها بقدر الله أُلهم أن يقول " إنا لله وإنا إليه راجعون " وإذا أراد اللهُ شيئاً هيأ أسبابه ومن أراد اللهُ أن يرحمهُ فتح له طرائق الرحمة وألهمهُ ما يقول وأعانه على ما يفعل وينبغي أن تعلم أنه ما يُرفع شيء من الأرض إلى السماء أعظم من الإخلاص ولا ينفذ شيء من السماء إلى الأرض أعظم من التوفيق المقصود قال رضي الله عنه وأرضاه إنا لله وإنا إلية راجعون سمعت عائشة استرجاع صفوان أفاقت على استرجاعه فلم تتكلم أناخ الناقة ركبت أُم المؤمنين ركبت ــ وسأقول بعد ذالك ماذا قالت عندما ركبت لكن في آخر الأمر ــ ثُمّ أخذها لم يُكلمها ولم تكُلمه وهو يعلمُ قطعاً أنه سيتعرضُ للبلاء أما هي صغيرة في الرابعة عشرة رُبما لم يدُر في خلدها هذا الجيش قبل أن يصلوا إلى المدينة أناخوا المطايا في عزّ الظهيرة قُلت في منطقة تُسمى العشيرة الآن لما أناخ الجيش وقت الظهيرة وقت مكشوف ومنطقة أصلاً وادٍ مكشوف فإذا بصفوان يُقبل وأُم المؤمنين على ناقته وهو يسوق الناقة رآهم عبدُ الله ابن أُبي فطار بها فرحاً فقال بصوتٍ يُسمع ولا يُسمع ـ يعني يسمعهُ الضُعفاء الذين لا يُمكن أن يُثبتوا أمام الشهادة وقادرون على أن ينقلوه ــ ولا يسمعهُ من يستطيع أن يأتي شاهدً عليهم فوقف يقول امرأةُ نبيُكم مع رجُل والله ما نجت منه ولا نجى منها كلمة تكادُ تُسقط بعض الجبال ولا أقول الجبال كُلها لآن هذا يُقال في حق الله فقط فلما قال انتشرت الكلمة كُل هذا وأٌُم المؤمنين لا تدري فلما رجعت إلى بيتها أصابتها وعكة في بيت رسول الله صلى الله علية وسلم(8/44)
رُبما كونها عائدة من سفر لكن الأمر أُذيع وأُشيع وبلغ النبي علية الصلاة والسلام فرأت في النبي علية السلام تغيُراً في مُعاملته وذالك اللُطف الذي كانت تعهدهُ منه قلّ أو ارتخى قليلاً لكن لم يدُر بخلدها أن يكون ذالك بسبب شيءٌ سمعهُ عنها قُدّر لها أن تتعافى تدريجياً خرجت مع أُم مسطح أحدُ الذين أسهموا في نشر الأمر خرجوا إلى الصحراء إلى الكُنف لقضاء الحاجات ولم يكُن العرب يوم ذاك عهدٌ بتلك الأمور فلما خرجتا هذه المرأة الأُم تُريد أن تُدخل عائشة في القضية علمت أن عائشة لا تعلم بدليل أنها لو كانت تعلم لسألتها لماذا ابنُها يخوضُ فيّ لكنها لم تسألها فأرادت أن تُشركها في القضية فأصبحت تتعمد السقوط فإذا سقطت ـ الإنسان جبلِة إذا سقط تصدُر منه كلمات يُعبر ردة فعل ـ فلما تسقُط قالت تعس مسطح ولا يوجد ارتباط بين تعس مسطح وما بين سقوطها في البرية فعائشة أنكرت ولو قالت كلمةً مألوفة لما أنكرت عائشة وهي لا تُريدُ أن تقول كلمةً مألوفة تُريدُ أن تُقحم عائشة في القضية تُريدُ أن تفتح بابً للحديث رددتها مرة مرتين تعجبت أُم المؤمنين قالت سُبحان الله رجلٌ شهد بدراً تدعين علية أو كلمة نحوها قالت يا هنتاه ـ هي أين عائشة عنها ـ بجوارها هنتاه كلمة تُقال للبعيد لكن تُريد أن تُبين لها أنها امرأة تعيش في عالم آخر لا تدري ماذا يحصُل في الساحة والمفروض تقول يا هذه فقال يا هنتاه أما علمتي ثُمّ أخبرتها قالت سُبحان الله وتحدث الناسُ بهذا قالت نعم فرجعت تزدادُ بكاءً كان مرضاً جسدياً الآن أصبح هماً أصبح غماً أصبح مرضاً قلبياً فرجعت فسألت أُمها فقالت لها أُمها تُريدُ أن تُخفف وطأ الأمر عليها " يا بُني إنه قلّ أن تكون امرأة وضيئة ـ يعني مثلُك ـ لها حضوة عند زوجها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها فقالت هُنا ــ رُبما نسيتُ في الأول ـ أوتحدث الناسُ بهذا قالت نعم فازدادت حُزناً على حُزن رضي الله عنها وأرضاها كُلُ هذا يحصُل(8/45)
والوحي لا يتدخلُ بشيء ولا ينزلُ قرآناً من السماء ونبي الأمة ورأسُ الملة يُتهم في زوجته لكن أراد الله جلّ وعلا أن يُمحص بشريتهُ علية السلام من نبوته .
أي شيء عظيم تُريد أن تكشفه إذا كان مُختلط بغيره وتُريد لمعانه الحق أخرجهُ عن غيره حتى يظهر جلياً بيناً لكنه وسط الأشياء التي تشوبه وتختلط معهُ لا يظهر(8/46)
فالله جل وعلا أراد أن يُميز نعمة النبوة على رسول الله صلى الله علية وسلم بأن تكون مُنفكة بعض الشيء عن بشريته ففي بشريته ذهب يستشير دعا الجارية دعا أُسامة دعا علياً يغدوا ويروح صعد المنبر من يعذُرني في رجُل أذاني في أهلي يختصم الحيان الأوس والخزرج فلا يلبُث أن ينزل ويحاول إسكاتهُما علية الصلاة والسلام ويقولُ في حق صفوان ـ والأمور عند الحكُم لابد أن تكون هناك خلفية سابقة في الظن الحسن أو في الظن السيئ ـ فقال لقد ذكروا لي رجُلاً ـ يقصد صفوان ـ لا أعلم عنهُ إلا خيراً ولا يدخُل على أهلي إلا معي هم لا يتحدثون عن رجُل اغتبتُ فيه مرة أو ارتبتُ فيه مرتين أو وجدتهُ مرة وأنا غير موجود أو رأيتهُ لحظات يتحسسُ على أهلي يتكلمون عن رجُل لا أعلم عنه إلا خيراً لا يدخُل على أهلي إلا معي يتجنب أن يأتي البيت وأنا غير موجود فبعيدٌ جداً أن يُتهم وهذا كُله كلام بشر كلام يحصُل في أي مُجتمع يقولهُ أي فرد لأن هنا مُحمد ابن عبد الله ليس محمدٌ النبي الرسول النبي الأُمي الوحي الآن مُنفك في القضية هذه ليس النبي صلى الله علية وسلم ليس نبياً تلك الفترة مُحال هو نبيٌ على كُل حال لكن نكلم في مُعاملته مع هذا الحدث هنا يتعامل على كونه بشر علية الصلاة والسلام فلما استُفرغ الجُهد البشري جاء الوحيُ الرباني والتنزيلُ الإلهي ليفصل في القضية دخل علية الصلاة والسلام على عائشة وقد استأذنت منه من قبل أن تُمرّض عند أبويها ولك أن تتصور خيرُ الأصحاب يعرفُ النبي منذُ أن كان عُمرهُ ثمانية عشر عاماً وصديقٌ له اثنين وعشرين عاماً أو عشرين عاماً لما جاء الإسلام كان الصديق عمره ثمانية وثلاثين سنة ثُمّ بعد ذالك ليس صديقاً صاحباً بتعبير الشرع ومعهُ كل سنين العذاب في مكة بالدعوة بمرحلتيها السرية و الجهرية ثم معه المدينة في بدرٍ وأُحد والخندق ثُمّ زوجة ذالك الصاحب النبي تعود إليك بوصفك أباً لها مُتهمة بأنها خانتهُ في عرضها شيءٌ(8/47)
مُذهلٌ بالنسبة لصديق لكن الأدب لما سكت الله من الذي سكت ؟ سكن النبي فلما سكت النبي سكت أبو بكر لما سكت الله ما أنزل شيئاً سكت رسول الله ما حكم بشيء فلما سكت رسول الله سكت أبو بكر ما أستطاع أن يُدافع عن ابنته وقطعاً لن يتهمها لكنه سكت بسكوت رسول الله صلى الله علية سلم تعود إليه أبنتهُ فلا يزالُ يبكي رضي الله عنه وأرضاها حتى ورد في بعض الروايات أنهُ كان يقرأ القرآن على سطح المنزل يسمع ابنتهُ تبكي وهو يبكي فوق لكن الأدب منعهُ أن يتكلم بكلمة واحده دخل نبيُنا صلى الله علية وسلم يعرض الأمر مكشوفاً على عائشة إن كُنت أذنبتي فاستغفري وإن كُنت كذا فكذا وهي لا تزيدُ على أن تقول فصبرٌ جميل تقول كما قال أبو يوسف نسيت اسم يعقوب في هذه اللحظات انقطعت كُل الطرائق الدنيوية فمن حول النبي قال مشورته وأبو بكر سكت والنبي صلى الله علية وسلم لا يدري كيف يفصلُ في القضية و المرأةُ تبكي فأنزل الله جل وعلا قوله
( إن الذين جاءوا بالإفك عُصبةٌ منكم )
وما زال الوحيُ يتنزلُ علية حتى انفصم عنه صلوات الله وسلامه عليه وإن جبينهُ لينزلُ عرقاً مع أنه في يوم شات هذه كانت براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها ونهاية شهر الأسى في حياة سيد الخلق صلى الله علية وسلم فقال لها احمدي الله ففرح الأبوان أبو بكر وأُم رومان قومي إلى رسول الله قالت والله ما أقوم إليه ولا أحمدُ إلا الله.
طبعاً ليس المقصود أنها تغيرت على نبي الله صلى الله علية وسلم حاشاها هذا لا يقعُ في قلب أي أحد من المسلمين الصادقين لكنها أرادت أن تُبين دلالها وفضلها وحقها على رسول الله صلوات الله وسلامهُ عليه المُهمُ أن النبي صلى الله علية وسلم تلا القرآن وأظهر بما تلاهُ من كلام الله براءة أُم المؤمنين وصفوان ابن المُعطل رضوان اله تعالى عليهم .
هذا مُجمل حديث الإفك كما هو قائم في صحيح الأخبار وصريح الآثار
الآن نعودُ إلى التفسير(8/48)
طبعاً هذه المرة خلاف للعادة سنحمل المصحف وربما يعني من باب الفوائد قد يكونُ هيأة الإنسان وهو يفسر و ليس في يده قرآن في عين الناس أعظم لكن ربما يكون ونحن نحمل القرآن عند الله أفضل
والمقصود ما عند الله ما عند الناس وقد أشار علينا بعض الفضلاء بفعله وامتثلنا له لأن فيه خير فيما نحسب
نقول قال الحق تبارك وتعالى
(إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم )
جاءوا بالإفك ابتدعوه لأنه ليس له أصل والإفك ليس له أصل وهو أقبح الكذب لأن الإفك القلب قال الله جل وعلا ( والمؤتفكة أهوى )
من المؤتفكة قوم لوط وسموا المؤتفكة لأن الله قلب عليهم الأمر جعل عاليها سافلها فالصديقة رضي الله عنها وأرضاها أهلٌ لكل فضيلة فكيف يُنسب إليها أعظمُ شيء في الرذيلة هذا قلبٌ للحقائق ولهذا سماه الله جل وعلا إفكاً
( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم )
العصبة قالوا الجماعة دون الأربعين
(لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم )
الله يقول في سورة القمر ( وكل أمرٍ مستقر ) العبرة يا أُخي بالنهايات فالنقص في البدايات لا يضر في النهايات على ما استقر الأمر هو المطلوب هو المقصود وقد استقر الأمر على براءة عائشة وصفوان قال الله ( لا تحسبوه ) والعلماء هنا رحمهم الله بعض منهم يقول إن المقصود صفوان وعائشة لكن الله جمع من باب أساليب لغة العرب هذا بعيد صحيح أن هذا الأسلوب موجود في لغة العرب لكن لا يُمكن حمل المعنى عليه بل المعنى أن الأمة كلها تستفيد من هذا وكيف تستفيد؟ أما الذين ظلموا في الإفك فهو رفع درجات لهم وشرف لهم أن يذكروا في القرآن وأن تنزل براءتهم في القرآن ، وأما الذين لم يذكروا من المؤمنين المعاصرين للحدث أو المؤمنين التالين للآيات كأهل عصرنا فإن في ذلك موعظة وأدب و كمالات لهم باختيار طرائق الله جل وعلا في تربية المجتمع على أنه ينبغي أن يُعلم(8/49)
أنه لا يوجد خيرٌ محض ولا شرٌ محض بل الأمور بالغالب الخير المحض في الجنة والشر المحض في النار ( لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرُ لكم لكل امرئ منهم ) من الذين خاضوا في الإفك ( ما أكتسب من الإثم ) وأكتسب توافق كسب إلا أن العرب تستعمل أكتسب في الآثام وكسب في الخيرات ، العربُ في فصيح كلامها تستعملُ كسب في الخيرات وأكتسب في الآثام ( لكُل امرئً منهم ما أكتسب من الإثم والذي تولى كبره ) تولى أصل القضية حرص على إذاعتها تبنى إشاعتها ( لهُ عذابٌ عظيم ) وهو المقصود به عبد الله ابن أُبي ابن سلول هذا ذكرٌ للحدث .
أما الآداب الناجمة عن الحدث فجاء تفصيلُها بعد أن ذكر الله الحدث جُملةً وبين أن الأصل فيه أنه خير للناس.
قال جل ذكره
( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا )
كلمة أنفُس هنا تعبير على أن المجتمع المسلم مجتمع واحد و هذه طريقة القران ( ولا تلمزوا أنفسكم ) ( اقتلوا أنفسكم ) تكررت في أكثر من مرة أن مجتمع المؤمنين كالمجتمع الواحد ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) وهذا الذي وقع من ماذا ؟ من أبي أيوب الأنصاري كما بينا ولهذا أنا حرصت على أن أُقدم شخصيات القصة قبل أن اشرح حتى يصبح الشرح مجرد تحرير ألفاظ يسيرة ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) فإذا كان الإنسانُ أصلاً يظن بنفسه الخير فكيف الظن بأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها
( وقالو هذا إفك مبين )
يعني كان الواجب أن يُقال إن هذا إفك واضح ظاهر بيّن لا أن نخوض فيه بعد أن خاطب الله جل وعلا المؤمنين فيما ينبغي عليهم أن يفعلوا خاطب جل وعلا أولئك الذين تولوا الأمر.
قال الله تبارك وتعالى
( لولا جاءوا علية بأربعة شُهداء فإذا لم يأتوا بالشُهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون )(8/50)
وقد بينا أن هذا مرتبط بأول القصة لأن الله ذكر في أول السورة قضايا القذف وأن القذف يُشترط فيه أربعةٌ من الشهود وإنما استثنى الله جل وعلا من هذا الإجمال الزوج إذا رمى زوجته أما هُنا فليس هناك زوج يرمي زوجته وإنما أُناس خارجون عن القضية يرمون زوجة نبيهم فالإعتبارات والمعايير الشرعية المطلوبة هنا أربعة شهداء قال الله ( فإذا لم يأتوا بالشُهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) والكذب على الله أعظم الذنوب ثم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الكذب على الناس.
قال الله جل وعلا
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا و الآخرة لمسكم فيما أفضتُم فيه عذاب عظيم )
هذه لولا حرف إمتناع لوجود وهي عند سيبويه يوجدُ اسمها أي يوجد المبتدأ بعدها ولا يُقال اسمها وخبرها يُحذف وجوبا حرّرهُ ابن مالك بقوله :
وبعد لولا واجبا حذف الخبر *** كما تقول لولا زيدٌ في هجر
يعني لولا زيد موجود في هجر
المعنى هنا أن فضل هي مُبتدأ لكن جواب لولا قول الله تعالى ( لمسكم فيما أفضتُم فيه عذابٌ عظيم ) أي أن الله جل وعلا رحمكم وأعطاكُم مُهلة لتوبة وعفا عنكُم كونكم لم تُنكروا إنكاراً جلياً واضحاً على من خاض في الإفك و إلا ما وقعتُم فيه أمرٌ يستوجبُ أشد العذاب لكن أشد العذاب رُفع عنكُم بسبب فضل الله جل وعلا ورحمته لكم .
( إذ تلقونه بألسنتكُم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونهُ هيناً وهو عند الله عظيم )(8/51)
قُلنا في الابتداء في أول الدرس ( إذ تلقّونهُ بألسنتكُم ) ومعلومٌ أن الإنسان يتكلم بفمه ( وتقولون بأفواهكُم ) لكن الله جل وعلا لم يُرد أن يُبين الجارحة التي نتكلم بها إنما أراد أن يتكلم أن هذا الأمر لم يكُن مُستقراً في القلوب ولا توجد لهُ حقيقة أصلاً حتى يستقر وإنما شخصٌ ينقُل وشخصٌ يحملهُ وشخصٌ يُذيعُ وشخصٌ يزيدُ علية شأنُ أكثر الضُعفاء أكثر الناس وقد خاض في هذا الأمر كبار المُنافقين وبعضُ الصحابة وقد عفا الله تبارك وتعالى عنهم والكلام عن الصحابة حتى لو أخطأوا يجبُ أن يكون مُقيداً بوفق تعبير القرآن ولا نقذف أنفُسنا في أمواج لا نستطيعُ أن نواجهُها ونترضى عليهم أجمعين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم .
( ولولا إذ سمعتموه ) هذا تأديبٌ لناس ( قُلتُم ما يكون لنا أنا نتكلم بهذا سُبحانك هذا بُهتانٌ عظيم )
الأصل فيه تنزيه الله جل وعلا عما لا يليقُ به فلماذا قيل التسبيحُ هنا قيل التسبيحُ هنا أي سُبحانك أن تكون زوجة نبيُك فاجرة المقصود من ذكر سُبحانك هنا أي سُبحانك ربُنا أن تكون زوجة نبيك امرأةً فاجرة
قال ربُنا تبارك وتعالى ( ولولا إذ سمعتموه قُلتُم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا )
أي بهذا الإفك
( سُبحانك هذا بُهتانٌ عظيم يعظُكم الله أن تعودوا لمثله أبداً )
لا يكون العود لمثله إلا بشيءً واحد إما قذفُ عائشة أو قذفُ من ؟ إحدى أُمهات المؤمنين لا يكون العود لمثله إلا بشيءً واحد إما قذفُ عائشة مرةً أخُرى أو بقذف إحدى أُمهات المؤمنين .
(يعظُكم الله أن تعودوا لمثله أبداً ) هل (إن كُنتم مؤمنين) هنا يجري عليها الحُكم الذي يجري على ما ورد في السُنة " من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفة " فلو لم يُكرم ضيفهُ لا ينفي عنه كُل الإيمان " ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " فلو زنى مؤمن لكن ليس كامل الإيمان فهل هذا هو المقصود بالآية ؟(8/52)
هذا الذي علية جمهور أهلُ التفسير وذهب بعضُهم إلى أن العودة إلى قذف أحدٍ من أُمهات المؤمنين كُفرٌ بالله جعلوا الشرط على مفهومه الواضح .
قال الله تعالى بعدها
( ويُبينُ الله لكم الآياتِ والله عليمٌ حكيم إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين أمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرة والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون )
أولاً نربط ما بين ذيل الآية وما بين صدر الآية أو ما ختم الله به الآية بتعبير أوضح وما بين صدر الآية ( إن الذين يُحبون ) المحبة شيء أين يقع ؟ في القلب شيء خفي كامن فناسب أن يقول الله جل وعلا بعدها ( والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون ) قد يُجدُ بيننا من يُحبُ الفاحشة من يُحبُ أن تنتشر لكنهُ لا يتصرف تصرُفاً يدلُ على تلك المحبة المستوطنة في قلبه فلا سبيل لنا علية أن نُنكر أو نؤدب أو نُعزر أو نمنع ربُما بوأناه مكاناً قيماً فنجم عن تبويئه ذالك المكان مفسدة في الأمر لذالك قال الله جل وعلا ( والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون ) فإذا كان الذين في قُلوبهم محبة لإشاعة الفاحشة في المؤمنين توعدهم الله جل وعلا بهذا فكيف بمن يحملُ الأمر برُمته ويسعى في الناس والعياذُ بالله في إشاعة الفاحشة كأرباب القنوات التي تبعثُ الشرور وتنشُر الفجور أو أصحابُ المجلات أو أصحابُ الصُحف التي تبُث شيئاً مُحرماً يدخلون في هذا من بابً أولى أو الذين يُحبون أن يُجدوا أو يُقيموا أسواقً أو أي أمورٍ يقصدون من ورائها أن يكون هنالك نوعٌ من الفاحشة ظاهر واختلاطٌ بين الرجال والنساء و دعواتٌ في الفجور هؤلاء يدخلون بصورة أوليه في قول الله جل وعلا (إن الذين يُحبون أن تشيع الفاحشةُ في الذين أمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُنيا والآخرة والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون ) .
ثُمّ قال الله جل وعلا
( ولولا فضُل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم )(8/53)
الآن عُد إلى الأولى قال في الأولى ( ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته في الدُنيا والآخرة لمسّكُم ) هنا لم يقُل شيئاً فجواب لولا هنا مُصرّح به أو محذوف ؟ محذوف لم يذكُرهُ الله جل وعلا وأختلف العُلماء في تقديره والأظهر ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتهُ لهلكتُم ، هذه واحده لكنها عامة .
وبعضُ أهل العلم يقول ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لشاعة الفاحشة وذاعت لكن الله جل وعلا برحمته لكم منع الفاحشة أن تذيع وتشيع.
ثُم قال جل شأنهُ
( يا أيُها الذين أمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خُطوات الشيطان فإنه يأمرُ بالفحشاء والمنكُر ولولا فضلُ الله عليكُم ورحمته ما زكى منكُم من أحدٍ أبدا ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميعٌ عليم )
هذه دعوة بعد أن بين الله جل وعلا أن الفاحشة لا يجوز نشرُها ولا محبةٌ نشرها بين جل وعلا أن السبيل إلى الخلاص من إشاعة الفاحشة عدمُ إتباع خطُوات الشيطان لأن في إتباع خطوات الشيطان والمقصود بخطوات الشيطان طرائقهُ مسالكُهُ ما يدعوا إلية الشيطان هذا المقصود بخطواته وخَطوة بفتح الخاء إذا كانت مُفرده فإذا جمعت تضُم الخاء
أُعيد
إذا أردت الإفراد تقول خَطوة خطوتُ خَطوةً بفتح الخاء وإذا جمعت تقول خُطوات كما هو نصُ القرآن
( لا تتبعوا خُطوات الشيطان ) لماذا ؟ لأن الشيطان أصلاً لا يدعوا إلا إلى الفحشاء والفحشاءُ تُطلق على العمل الرذيل إذا كان فعلاً أما إذا كان قولاً يُسمى عورات ومنه قول بعضهم :
ولا استعذب العوراء يوماً فقالها
في مدح أحد الفُضلاء الصالحين .
قال ربُنا جل شأنهُ (ولولا فضلُ الله عليكُم ورحمته ما زكى منكُم من أحدٍ أبدا ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميعٌ عليم )(8/54)
باختصار العملُ الزاكي هو العمل الذي يرضى الله عنه العملُ الزاكي هو العمل الذي يجلبُ رضوان الله فمن هو الشخصُ المُزكى ؟ من عملِ عملاً رضي الله عنه به ولا سبيل إلى معرفة هذا فلهذا لا نستطيع أن نُزكيَ أحدً ولا سبيل إلى معرفة هل رضي الله عن صاحب هذا العمل بذالك العمل وعلى هذا يمتنع أن نُزكي أحدً تزكية باطنةً وظاهرة لكن عندما نُحرر ورقةً أو نقول قولاً في تزكية أحد فإنما نُزكي ماذا ؟ ظاهرهُ ونكلُ سرائرهُ إلى الله جل وعلا .
ثُم قال جل شأنهُ
( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة أن يُؤتوا أُلي القُربى والمساكين )
أجمع المُفسرون على أنها نازلةً في حقِ أبي بكر وهذه الآية تأخر نزولها لم تنزل هذه الآيات الست عشر جُملةً واحده هذه الآيات لم تنزل جُملة واحده فماذا صنع أبو بكر سكت ولم يتصرف فلما نزلت الآيات ببراءة عائشة ـ وهذا من فرائد العلم ما ينجُم عنه ـ لما نزلت الآيات ببراءة عائشة تصرف أبو بكر كيف تصرف ؟ منع إنفاقً ورزقً كان يسوقهُ على من ؟ على مسطح لأن مسطح ممن شارك في المسألة ـ هذا ظاهر الكُل يعرفه ـ أين فرائد العلم عاتب الله الصديق لما منع مسطح من رزقه قال أهلُ العلم حررها بسجعها ما صنعهُ مسطح يُنزل النجم من أُفقه فمنعهُ الصديقُ من رزقه فعاتب الله الصديق في حقه .
أُعيد
ما صنعه مسطح وتقول به يُنزل النجم من أُفقه يعني يحطُ من أي شرف من أي شيء فمنعهُ الصديق من رزقه أيُ رزق ؟ الذي كان يُنفق به علية ماذا جرى بعد ذالك ؟ عاتب الله الصديق في حقه في حق من ؟ في حق مسطح
[ واضح ]ٍ(8/55)
ماذا تستفيد ؟ تستفيد لا تكُن سبباً في منع أرزاق الناس إذا أردت أن تؤدب أحدً أدبه بأي طريقً كانت إلا أن تمنعهُ رزقه لأنهُ لو كان منعُ الرزق سائغاً لساغ في حق مسطح لكن الله جل وعلا عاتب الصديق فيه . ماذا قال الصديق أقسم حلف يمين أنهُ لا يُنفق على مسطح ماذا قال ربُِنا ( ولا يأتلِ ) جمهورُ المُفسرين على أن يأتلِ هُنا بمعنى يحلف (( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة) وهذه تزكيةٌ من الله لصديق لأن الله سمّاهُ بأُولي الفضل ، لكن لاحظ تعبير القرآن قال الله ( ( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة ) ما قال والنعيم والترف والثراء والغنى كُلها مُفردات رُبما تؤدي نفس المعنى لكن قال ( والسعة ) لأنه يُسعُ على نفسه ويُسعُ على غيره وقد قال العُلماء وسيأتي هذا إن التقوى قرينةٌ العفو فالناسُ الذين فيهم خصيصةٌ العفو قريبون من التقوى يقولون إن التقوى والعفو مُتلازمان سيأتي تحرير هذا .
قال الله جل وعلا
( ولا يأتلِ أُلي الفضلِ منكُم والسعة أن يُؤتوا أُلي القُربى والمساكين والمُهاجرين )
والمقصود مسطح وهذا دليلٌ ظاهرٌ بينُ بالإجماع على أن الكبائر لا تُحبطُ العمل الصالح إذ لو كانت الكبائر تُحبُط العمل الصالح لكان أولى أن يُحبط عملُ مسطح لأنه خاض في عرض أُم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها ومع ذالك أسماهُ الله جل وعلا مُهاجرا فأبقى الله جل وعلا على هجرةً مسطح وجعلها عملاً صالحاً زاكياً لهُ وأقرها ولم يحبطها دلالة على أن الكبائر مهما بلغت لا تُحبطُ العمل الصالح .
قال الله تعالى
( وليعفوا وليصفحوا )(8/56)
الخطابُ لمن ؟ في المقام الأول أجيبوا ؟ لأبي بكر ( وليعفوا وليصفحوا ) الخطاب لمن لأبي بكر وقال الله لنبيه في سورة أُخرى في غير هذه القضية قال ( فاعفوا عنهم وأصفح ) قال العُلماء خاطب الله أبا بكرٍ بما خاطب به نبيه حتى يُبين للخلق أن الصديق فعلاً ثانيَ اثنين [ واضح ] هذه استنبطها العُلماء لكنني لا أجزمُ بها .
( وليعفوا وليصفحوا ألا تُحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم )
هذه فيها مُلاطفة من الله لأبي بكر فيها دعوة وفيها حُجة كما أنت تُريدُ العفو من الله والمغفرة من الله كذالك الناس يُريدون منك أن تعفوا عنهم ويُريدون منك أن ترزُقهم فعامل الناس بما يُحبُ أن يُعاملوك به وقد قُلنا مراراً إنك إذا أردت أن تتعامل مع أحد وخرجت قضية الحدود الشرعية فعاملهُ بما تُحبُ أن يُعاملك الله جل وعلا به ولا تُسدرُ رحمة الله بشيءً أعظم من هذا .
ثُم قال جل شأنه
(إن الذين يرمون المُحصنات الغافلات المؤمنات لُعنُوا في الدُنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم )
العُلماء في هذه الآية على قسمين هل هذه الآية عامة ؟
وهذا قول الجمهور و هو الأظهر في كُل قاذف (إن الذين يرمون المُحصنات الغافلات المؤمنات لُعنُوا في الدُنيا والآخرة ) فإذا قُلنا بهذا القول إنها عامة لكُل قاذف فيُصبح معنى اللعن هنا إقامةٌ حد القذف عليهم وأما إذا قُلنا بالمعنى الآخر الذي قالهُ العُلماء وهو أن المعنى الآخر: أن الآية في عائشة وأُمهات المؤمنين وإن المُخاطبين في هذه الآية المُنافقون فقالوا لعنهم في الدُنيا بطردهم من رحمة الله ولعنهم في الآخرة بعذاب النار فجعلوا إن هذه الآية خاصة فيمن قذف أُمهات المؤمنين ولذالك قالوا لم يذكُر الله جل وعلا بعدها توبة فكون الله لم يذُكر بعدها توبة قرينة لمن قال إنها في أُمهات المؤمنين ومن قال إنها عامة هذا الأصلُ في الخطاب الشرعي .
((8/57)
لُعنُوا في الدُنيا والآخرة ) نبقى في اللعن ــ كفائدة ــ يعني اختلف الناس كثيراً تسمع هذا جيداً في قضية لعنً مُعين لكن أرجح الأقوال ما قالهُ الحافظُ ابن حجر رحمة الله تعالى علية وحرره وهو قول جيدٌ لمن تدبرهُ وهو أن اللعن إذا أُريد به الدُعاء وإخرجُ الإنسان من رحمة الله فهذا لا يقعُ على مُعين إلا على كافرٍ مات أما إذا أُريد به شدة النكال شدة التضييق عليه فيجوز لعنُ المُعين [ واضح ]
نأتي بمثال
مثلاً أأُتونا برجُلً آذى المُسلمين كثيراً في العصر من الكُفار ـ مثلاً شارون ـ شارون لم يمُت بعد فإذا أردت باللعن التشديد عليه والتضييق وشدة النكال جاز وإذا أردت بأنك تدعوا بأن لا يرحمهُ الله بمعنى أنه يموت على الكُفر لا يجوز لأن ليس لأحد أن يتدخلّ في أين تقع رحمة الله [ واضح ] وهذا القول لأبن حجر قولٌ مُحرر علمياً يحلُ إشكالاً قائماً في القضية جزاهُ الله خيراً وعفا الله تبارك وتعالى عنه .
نقول قال الله تعالى بعدها
( إن الذين يرمون المُحصنات الغافلات لُعنوا في الدُنيا والآخرة ولهم عذابٌ عظيم * يوم تشهدُ عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجُلهم بما كانوا يعملون )
هذا يكون يوم القيامة وقد حررنا قرائن له كثيرة من قبل
( يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق )
مُحال أن يكون دين الكُفار حق فكلمة دين هُنا ما معناها ؟
الجزاء كلمة دين هُنا معناها الجزاء فيئُصبح المعنى يومئذٍ يوفيهم الله جزائُهم الحق وكيف يكون جزائهم الحق ؟ إن مُعاقبة المُسيء على إساءته عينُ ماذا ؟ عينُ الحق ، إن مُعاقبة المُسيء على إساءته عينُ الحق كما أن الإحسان إلى المُحسن لإحسانه كذالك هو عينُ الحق .
( يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحقُ المُبين الخبيثاتُ للخبيثين و الخبيثون للخبيثات والطيباتُ لطيبين والطيبون للطيبات )
للعُلماء فيها قولان :(8/58)
قولٌ يقول إنها في الأقوال وقولٌ يقول إنها في المُشاكلة ومعنى أنها في الأقوال المقصود من الآية أن الخبيثات من الأقوال تليق بالخبيثين والخبيثات من الرجال والطيبات من الجُمل المادحة المُعبرة تعبيراً حسن تليق بماذا ؟ بالطيبين من الرجال والطيبين من النساء هذا قول الجُمهور .
وقال آخرون إن من سُنن الله الإلهية المُلائمة ما بين كُل مُتفق فالخبيثات من النساء لا تُلائم إلا الخبيث من الرجال والخبيث من الرجال لا تُلائمهُ إلا الخبيثة من النساء وعلى الضد الطيبات من النساء لا يُلائمُها إلا الطيبات من الرجال والطيبُ من الرجال لا تُلائمهُ إلا الطيبات من النساء وحملُ هذا المعنى عندي أقرب ولكن يرد إشكال عند الناس منعهم من هذا القول إذا خالطتهم يقولون إنك ترى الآن امرأة صالحة صوامة قوامة مُحسنة إلى أولادها وزوجها الله أعلمُ به فيه من الخُبث والشرور بل رُبما يُتاجر في المخدرات ويسعى في المُسكرات وكيف تقول لي ( الطيباتُ لطيبين) بهذا المعنى نقول يجب أن تُفرق ــــ وهذا القول فيه نوع من المُجازفة لأني لا أعلمُ أحدً نصّ عليه بهذا التعبيرـ نقول ينبغي أن يُفرق ما بين الحياة المُعايشة وحياة المُلائمة فالزوجات الطيبات الصالحات المُقترنات بأزواج مُرتكبون للكبائر لا يكون هناك تلاءُم روحي وإنما المرأة هنا صابرة إما لبنيها أو تحتسب تغيير زوجها والعكس إذا كان الرجُل هو الطيب و المرأة هي السيئة ويمنعهُ من طلاقها خوفه على شتات أبنائها ولا توجد مُلائمة روحية أما ما كان ما بين رسول الله صلى الله علية وسلم وعائشة فقد كان تآلفٌ جمّ وتلائمٌ تام ومحبةٌ قائمةٌ بين الطرفين ولهذا قيل لهُ من أحبُ الناس إليك قال عائشة واضح الفرق بهذا الأمر يعني استبعد الإشكال القائم على أن الذي منعهم كونه أن الواقع وهو أعظم الشهود كما يقولون يمنع أن يكون المعنى التلاؤم لكن قُلنا يُفرق ما بين التعايُش ما بين التلاؤم وقد قال المُتنبي :(8/59)
ومن نكد الدُنيا على الحرّ أن يرى *** عدوً له ما من صداقته بُردُ
هذا ما تيسر قولهُ وتهيأ إيراده وأنا قُلت سأُأُجل الكلام عن ماذا قالت عائشة عندما ركبت هذه فائدة لمن يُشاهدُنا لنا في المقام الأول وهو أمرٌ لا يحتاجُ إلى أن نُجّربه يقولون إن زينب بنت جحش رضي الله عنها تُنافس عائشة كما مرّ معنا وأحياناً يحصُل بينهما تفاخرٌ محمود وعندما أُمهات المؤمنين يحصل بينهما تحاور ينجُم عن ذالك علم نشأن في بيت النبوة فقالت حفصه أنا التي أنزل الله تزويجي من فوق سبع سنوات فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها وأنا الذي أنزل الله براءتي لما حملني صفوانٌ ابن المُعطل على راحلته هُنا نسيت زينب قضية المُحاورة صارت تتكلم بالفائتة قالت يا عائشة ماذا قُلتي عندما ركبتي الراحلة ؟ قالت قُلت حسبي الله ونعم الوكيل ماذا قالت ؟ حسبي الله ونعم الوكيل قُلنا هذا الأمر لا يحتاجُ إلى تجربة والله الذي لا إله غيره جبال تعرفون جبال تهُدها كلمة حسبُنا الله ونعم الوكيل وكُلما أُغلق عليك أمر لم تجد مثلَ حسبُنا الله ونعم الوكيل .
أنا أعرفُ رجُلاً صالحاً كان عندهُ طالب علم فكان دائماً يوصيه بحسبُنا الله ونعم الوكيل فذات يوم كأن الطالب يعني استقلّها فعاتبهُ قائلاً : يا بُني حسبُنا الله ونعم الوكيل هذه تهُد جبال فكُلّ أحدٍ منّا إذا وقع في مُعضلة أو رأى شيئاً أقبل عليه مما لا يُطاق فليعتصم بقول حسبي الله ونعم الوكيل فإنه لن يكفيك أحدٌ مثلَ الله ولا وكيل بعد الله .
جعلنا الله وإياكم ممّن توكل عليه فكفاه واستهدى به فهداه
هذا ما تيسر إيرادُه وأعان الله على إملائه وصلى الله على مُحمدٌ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ................
بسم الله الرحمن الرحيم(8/60)
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أم لا إله إلا الله وحده لا شريك له وارد ما لعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعوه جميعاً لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدً عبده ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من إقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . وبعدُ
فهذا هو اللقاء الرابع من لقاءاتنا في تأمُلنا في سورة النور ، وسورة النور قد بينا من قبلُ أنها سورة قد جمعت أحكامًا وأدابا وكان الصحابة كما هو المنقول عن عمرَ وعائشة أنهم يوصون الناس بتلاوتها وتدبرها وقد مضى الحديث في اللقاءات الأول أكثر ما كان يتعلق عن قضية فاحشة الزنا . فتعرض الله جلّ وعلا لأحكام فاعليها ، ومآلهم ، وحد القذف
ثم ذكر الله بعد ذلك كما شرحنا في اللقاء الماضي براءة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها .(8/61)
الكلام عن الزنا والفواحش ناسب أن يكون بعده آداب تبين للمؤمنين الطرائق المثلى لنجاة من تلك الفواحش والقرآن مرسى أهل الملة يلجئون إليه لأن الله جلّ وعلا جعل فيه خبر الغابرين وأنباء السابقين و أحكام أنزلها على سيد المرسلين صلى الله علية وسلم فلما كان الزنا بريده الخلوات والنظر والإطلاع على العورات ناسب بعد ذلك أن يبين الله جلّ وعلا الطرائق المُثلى والسبل العليا في غض البصر وحفظ الفرج وسلامة البيوت وستر العورات حتى يكون المؤمنون على بصيرة من أمرهم . والرب جل ّ وعلا يقول في كتابه العظيم ( إِنَّ اللهَ لاَ يَستَحىِ أن يضرب مثلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوقَهَا ) ومن أراد أن يبين لناس الحق ويدلهم على الرشد لا يستحي من أمر دون آخر وإنما يكشف الأمور بجلاء وكذلك القرآن وكذلك تنزيل ربُ العالمين جل ّ جلاله . وقد يقول قائل عُني بالتاريخ وما فيه من أحداث كيف يتكلم الله عن العورات ، كيف يتكلم الله عن البيوت ، كيف يتكلم الله عن المحيض هذا الكتاب جعله الله جلّ وعلا هُدى بين فيه لناس ما يهمهم في أمر دينهم ودنياهم ، ولما كان يوم القيامة يوم حساب ويوم يُعرض الأعمال فيه على الله كان حقاً على الله من قبل ذلك ولا ملزم على الله أن يبين لخلَقَِه كل أمر حتى يكون الحساب على بينةً من الأمر قال الله جلّ وعلا ( وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون )
الآيات التي نحنُ بصددها اليوم قول الله جلّ وعلا
( يا أيُها الذين ءآمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بُيوُتكم حتّى تستأنسُوا وتُسلموا على أهلها ذلكم خَيرٌ لكم لعلّكُم تذكرون )
الياء هُنا حرف ماذا ؟ حرف نداء ، من المنادى ؟ الذين أمنوا ،(8/62)
وقد مر معنا أن النداء للذين أمنوا يُسمى نداء كرامه في حين" يا أيها الناس "أو" يا بني آدم" هذا نداء علامة بحسب ما أتصفُ به فيا" أيها الذين أمنوا" نداء كرامه والمؤمنُ كريمٌ على الله ومن أعظم الدلائل على أن المؤمن كريمٌ على الله مُستنبط من كلام الرب جلّ وعلا قالوا أن خلف ابن عمر قراء على أحد الصالحين القرآن فلما وصل إلى قول اللهِ جلّ وعلا
( الذين يحملون العرش ومن حولهُ يُسبحون بحمدِ ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين أمنوا ) بكى الرجل الذي يٌقرأ علية القرآن فقُلتٌ له ما يُبكيك ـ هذا خلف المقول ـ قال يا خلف أُنظر كرامة المؤمن عند الله نائمٌ على فراشه وتستغفر له حملة العرش أو ويستغفرُ لهُ حملةً العرش فيا أيُها الذين أمنوا نداء كرامة والياء حرفُ نداء وهي من عدة أحرف تقولها العرب في النداء .
( لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم )
الملكية هُنا يا أُخي جنّبها
فغير بُيوتكم أي غير التي تسكنون وهذا واقعٌ في العصر والمعنى البيت هُنا مضاف ليست إضافة تمليك وإن كان جرى مجرى الغالب لكن المقصود البيت الذي تسكنه فالبيت الذي تملكه وقد أجرته على غيرك ويسكنه غيرك لا يُعتبرُ في عُرف الآية الآن بيتً لك لا يُعتبر في عُرف الآية ودلالتها بيتً لك ، الله يُخاطبك ، يُكلمك ، ينهاك عن البيوت التي لا تسكنها بصرف النظر عن تملكها أو لا تملكها أو أنت في بيت ملك أو بيت أجار العبرة هُنا بالسكنى
( يا أيُها الذين أمنوا لا تدخلوا بُيوتاً غير بيوتكم حتى )
هذه حتى تأتي لإبتداء الغاية وتأتي لإنتهاء الغاية والنحويون يقولون على لسان أحدهم " أموت وفي نفسي شيءٌ من حتى " ــ أظنها ــ لأبي عمر بن العلاء أحدُ النحويين درس النحو وتعمق فيه وهذا من الأقدمين من شيعة سيبويه الأولين يقول أموت وفي نفسي شيءٌ من حتى لأن ما بعدها يصلح له كل شيْ فلم يستبن له الأمر فيها نعود فنقول حتى هُنا لإنتهاء الغاية أو إبتدائها هذا كُله حسب سياق القرآن
((8/63)
لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها )
هذا أدبٌ رباني يُعلم الله به المؤمنين لكن الإشكال قائمٌ عند العلماء ما معنى الاستئناس السلام معروف لكنهم إختلفوا في الاستئناس
فقال قومٌ الاستئناس هو الاستئذان نفسه .
وقال آخرون إن الاستئناس أن تُحدث صوتاً قبل أن تستأذن كأن تتنحنح أو ترفع من صوت سيارتك إذا قرُبت أو تُقفلها بقوة تُشعر أن هُناك رجل ٌ قادم .
والعلماء يقولون إن الاستئذان ثلاث أطوار المرة الأولى حتى يُنصتوا ــ يعني أهل الدار ــ
والمرة الثانية حتى يستصلحوا يُغيروا في أوضاع البيت
والمرة الثالثة حتى يأذنوا أو يقولوا لك أرجعِ يأذنوا أو لا يأذنوا والمرة الثالثة حتى يُقرروا يأذنوا لك أو لا يأذنوا.
فقلنا تحرر أن الاستئناس فيه خلاف هل هو الاستئذان أو هو إحداثُ صوت ، بعض العلماء يقول لا هذا ولا ذاك الاستئناس ما ضُدها قالوا الاستيحاش والاستيحاش معناه الوحشة والقادم على أي دار يجد في نفسه وحشة وغربة هل سيقبله ُ أهلها أو لم يقبلوه فإذا قُبلا زالت عنه تلك الوحشة ولذلك حريٌ بمن يستقبل أن يقول مرحباً ، أهلاً وسهلاً فغُربتك تُشفى بكلمة "أهلاً " يعني وجدت لك أهلاً يُذهبون عنك الوحشة هذا الذي دفع أقواماً أن يقولوا أن الاستئناس هو من الأنس وإبعاد الوحشة يعني لابد أن يتبين لك هل أهل الدار راغبون بإستقبالك أو غيرُ راغبين ، فإن فهمت منهم ولو أذنوا أنهم غير راغبين فالأولى والأحرى ــ وهذا لم تتعرض له الآية لكن هذا استنباطات العلماء ــ نُفرق ما بين النص وما بين تعليق العلماء على النص ، التقديس أين يذهب ؟ لنص . وعدم التقديس يذهب لغير النص .(8/64)
نقول ويدل علية قول الله جلّ وعلا ( آنس من جانب الطور نارا ) فإن موسى علية السلام كان في حالة وحشة فلما رأى النار ورأى النور زالت تلك الوحشة كإنسان غريب ضائع ، تائه في صحراء مظلمة يخشى ، يخاف ، يستوحش فلما يرى عن بعد شيء ما تزول عنه تلك الوحشة تدريجياً
( حتى تستأنسوا وتُسلموا على أهلها )
أهلُ من ؟ أهل الدار وقد قُلنا أن الاستئذان دلت السنة على أنه ثلاث كما في حديث عمر لما أستأذن على النبي صلى الله علية وسلم وقد اختزن النبي علية الصلاة والسلام نساؤه في تلك المشرهه فإنه بعث عبداً يستأذنُ النبي علية الصلاة والسلام فردهُ مرتين لم يُجب وفي الثالثة قبلهُ . ودلت نصوص أُخر تدل على أن الاستئذان يكون ثلاث مرات وسيأتي في حالة عدم الرفض لكن في حينه .
( ذلكم خيرٌ لكم لعلكم تذكرون )
أي هذا التشريع الرباني والنص الإلهي والأدب القرآني خيرٌ لكم ولابد أن يكون فيه خير لأنه من عند اللهِ والتذكر والتبصر لا يكون إلا لتعاليم الكتاب وتعاليم السنة .
مر معنا كثيراً قضية عمر رضي الله تعالى عنه في قضية الاستئناس والاستئذان واحتجاج بعض من سمعه لقول الله تعالى هاهُنا ـــ وقُلنا من باب الفائدة لتكرار ــ أن عمر رضي الله تعالى عنه مر على حائط فيه فتية من الأنصار يشربون الراح والراح هي الخمر فسور الحائط بعد أن تبين له أن هُناك سُكارى خلفهُ فداهمه و أنكر عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين ــ إن صحت الرواية ــ جئنا بواحدة وهي شُرب الخمر وجئتنا بثلاث وهي أنك تجسست والله قد نهى عنه ، ولم تستأنس تستأذن ، والله يقول (و أتو البيوت من أبوابها ) وأنت تسورت علينا الحائط فرجع عنهم وهو يقول " كل الناس أفقه منك يا عمر " وقد قيل أن عمر رضي الله تعالى عنه ــ وهذا هو الأظهر ــ قبل قولهم من باب أنهم إستندوا على القرآن .(8/65)
قُلنا من علامة التقوى أن يقبل الإنسان الأمر الرباني ولو جاء من أقل منه وقد قال حافظٌ رحمه الله تعالى يصور هذا الموقف :
وفتيةٍ ــ الواو واو ربُ ، لذلك جاء ما بعدها مجرور ــ
وفتيةٍ أُلعوا بالراح وانتبذوا
لهم مكانً وجدُّ في تعاطيها
ظهرت حائطهم ــ علوته ــ لما علمت بهم
والليل معتكرُ الأرجاء ساجيها ـ في الظلام ـ
قالوا مكانك ـ يعني اثبت لا تتقدم ـ قد جئنا بواحدة
وجئتنا بثلاث لا تُباليها
فآت البيوت من الأبواب يا عمر
فقد يُزن من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت
بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
ثم قال حافظ ــ وتدخل الشاعر هُنا هو الذي يدل على قُدرته ــ قال :
فعدت عنهم وقد أكبرت حُجتهم
لما رأيت كتاب الله يُمليها
يُملي ماذا ؟ أجيبوا .. يُملي الحجة
وما أنفت وإن كانوا على حرجِ
من أن يحجك بالآيات عاصيها
ما دام من يُخاطبك ويجادلك يُخاطبك بهذا النور المبين يجب أن تقبلهُ ولو كان هو لا يعمل به لأنه ما دام أقام الحُجة إليك ودعاك بهذا القُرآن وهذه القصيدة تُسمى " بالعُمريه " وهي موجودة في ديوان حافظ أكثر من مأتي بيت ـــ كُنا نحفظها في زمن الصبا ـــ قسمها حافظ قسمها بإعتبارات أحداث ، تسمعون بنصر ابن الحجاج نصر ابن الحجاج كان وسيماً نفاه عمر إلى الكوفة أو إلى البصرة أتى بالقضية قال في أولها :
جنى الجمالُ على نصرٍ فغربهُ
عن المدينة تبكيهِ ويبكيها
ثم ذكر الأبيات وذكر قضية رسول كسرى لما قدم على عمر قال في أولها :
وراع صاحب كسرى أن رأى عمر
بين الرعية عُطلاً وهو راعيها
ثم لمّا قال صاحب كسرى حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر قال حافظ بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهمُ
فنمت نوم قرير العين هانيها
مر معكم تاريخياً قضية عمر وعزلهُ لمن؟ عزلهُ لخالد فقال :
سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت
لهُ الفتوح وهل أغنت تواليها
وذكر قضية عزل عمر ، ذكر عمر وجوعهُ في عام أيُ عام؟ عام الرمادة فذكرها قال :(8/66)
يا من صدفت عن الدُنيا وزينتها
فلم يغُرك من دُنياك مُغريها
ذكر قضايا عديدة ونحنُ استطردنا وإن كُنا في كتاب تفسير لكن قُلنا أن المنهج في تعليمنا لناس أننا نتفرع ُ كثيراً حتى نُبين أن جماع التفسير العلم بشتى الفنون يقودك لأن تكون إماماً في التفسير لكن من كان معتمداً على فنً واحدٍ دون سواه قلّما يستطيع أن يجري أو يمضي في مضمار علم التفسير لأن ما دام القُرآن أُمٌ للعلوم كُلها لابد أن يكون القائمُ به مطلع على شتى الفنون قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله " بل السنة كُلها في آية واحده ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)
نعود فنقول على قضية الاستئناس والاستئذان كما بينا
قال ربُنا جلّ وعلا بعدها ( فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم )إن لم تجدوا فيها ما هي ؟ البيوت لم يقلُ الِله فإن لم يكن ، قال ( فإن لم تجدوا ) وفرق ما بين فإن لم تجدوا وما بين فإن لم يكن لماذا ؟
لو قال جلّ وعلا فإن لم يكن معناها أن البيت لا يوجد أحدٌ فيه أصلاً لكن لما قال ( فإن لم تجدوا ) قد يكون فيها أحد لكنه لم يتبين لك هل فيها أحد أو لا
** مثاله ... أتيت إلى بيت أحد أصدقائك فطرقت الباب وهم موجودون فهم إما نائمون أو منشغلون أو أنهم سمعوا الطرق ولا يُريدوا أن يُجيبوا لكن ماذا يحصل بالنسبة لك لا تدري هل هم موجودون أو لا ما الذي يحصل لك بعد طرقه أو طرقتين أو ثلاث تكاد تقتنع أنهم غير موجودين فهذا الفرق ما بين قوله جلّ وعلا ( فإن لم تجدوا ) وهو نصُ الكلام لربنا وبين لو قال فإن لم يكونوا فالفرق ظاهرٌ بين .
( فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها )(8/67)
لو قُدر رأيناها مفتوحة هل ندخل أو لا ندخل ؟ أجيبوا ، لا ندخل . لماذا ؟ لأنها مفلقةٌ بأمر الشرع لا بالمفتاح لأن ما هي مغلقةٌ بالمفتاح ٌ قُلنا مفتوحة لكنها مغلقةٌ بماذا ؟ بأمر الشرع وهو قول الله جلّ وعلا ( فلا تدخلوها حتى يُؤذن لكم ) ولهذا البيوت عورات لا يجوز أحداً أن يقتحمها حتى إذا أُظطر بعضُ من استضافك أن يُدخلك بيتهُ ويُقدم لك طعاماً في قعر البيت فلا تلتفت ميمنة ولا ميسرة ولا تنظر فيما لا يُعنيك وإنما أُدخل مطأطأً رأسك غاضً بصرك حتى تصل إلى المكان الذي أدخلك فيه والإنسان إذا كان في سُلطان أحد من الأدب الإلهي والنبوي أن يستأمر بأمر ذلك الذي بيده السُلطان بمعنى أنّ صاحب البيت أدرى أين يضعُك فلو وضعك في صدر المجلس أِجلس ، لو وضعك ميمنة ً أو ميسرةً داخل أو قعر أِجلس حيث وضعك لأنهُ هو أدرى بالمكان الذي يضعك فيه .
فنعود فنقول قال ربُنا ( فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم أرجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ) قبل أن أُفسر أقول قال أحد الصالحين كما ذكر الحافظ ابن كثير يقول قضيت عمري كُله أطرق أبواب الناس أُريد أن يقول لي أحدٌ من أصحابي أِرجع حتى أظفر بقول الله ( هو أزكى لكم ) ولا يوجد أحدٌ قال له أِرجع ،
وبعض الناس اليوم لا يفقهُ هذه المعاني العظيمة في القرآن لو قيل لهُ أِِرجع لأخرج جوالهُ وبعث عشرات الرسائل لأصدقائه كيف أن فلان ابن فلان طرقتُ بابه وقال لي أِرجع مع أن رب العزة يقول .
( وإن قيل لكم أِرجعوا فارجعوا هو أزكى لكم )
أزكى لكم من أي شيء ؟ لأن ترجع خيرٌ من أن تقف بباب أحدٍ لا يُريد منك أن تدخل ، فالكريم لا يدخل إلا في مجالس لهُ فيها مقام ومكانه أما الأماكن التي لا تليق به أو لا يُريد أصحابه أن يدخلها أو يأتيها أو يزورها فهو من باب أولى أن ينأ عنها .
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
وفي بيت آخر لأحد علماء شنقيط
وما حرٌ يُقيم بأرض هونٍ(8/68)
ولو كانت مقر الوالدينِ
لأن الإنسان العزيز النفس المتأدب بآداب القرآن لا يقبل أن يدخل مكاناً ليس له ُ فيه مقام ، والعامة يقولون في أمثالهم الدارجة المقبولة يقولون " من يأتي بلا عزومة يقعد بلا فراش " والمقصود بيان أن الإنسان لا يذهب إلا على بينة لكن هذا يختلف في العادات والتقاليد والأعراف ومدى أصحابك وخلانك .
نعود للآية قال الله تعالى ( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم )
كيف يُقال لك أِرجع ؟ لها ثلاثة أحوال ، لها ماذا ؟ ثلاثة أحوال :
## الحالة الأولى : الحالة الصريحة التي نص عليها القرآن وهي أن يقول لك أِرجع صريح الخطاب ، أن يُقال لك أِرجع بصريح الخطاب وهي التي نص عليها القرآن .
## الحالة الثانية : تكون ظمنية أن تستأذن فلا يُؤذن لك فيأتيك من بعثتهُ ويقول أنا قُلت لهم فلان عند الباب ما ردوا [ واضح ] هذه أقل من الأولى .
## الحالة الثالثة : ظمنية وهو أن يكونوا موجودين فلا يجيبونك[ واضح ].
الحالة الثانية قد يكون فيها غموض تجد حارس على باب العمارة تبعثهُ يعود يقول قُلت والله فلان عند الباب ما حد رد ، هل قالوا لك أنا أذهب ، يقول لك لا لم يقولوا هذا .
الحالة الثالثة تطرق الباب مره بعد مره ثلاث قُلنا الاسئذان ثلاث فهم يكونون موجودين ــ خبر يكون ــ لكنهم لا يُريدون ، فهذا رد ماذا ؟ ظمني
أما الرد الصريح وهو أن يقول لك أرجع أو لا أستطيع أن أستقبلك هذه التي قال الله فيها
( وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ) وقُلنا ما معنى أزكى هُنا
(والله بما تعملون عليم )
والمقصود من ( بما تعملون عليم ) إن الله جلّ وعلا مُطلعٌ على كل شيء لماذا هذا رُد ، ولماذا هذا صُد ، ولماذا هذا قَبل ، ولماذا هذا رفض .
((8/69)
ليس عليكم جُناحٌ أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم )عندما تُريد أن تُفسر القرآن إإتي بالآية ــ إذا كُنت تُفسرها لغيرك وأبعد المعنى غير الصحيح المتبادر ، أحياناً يستقر معنى غير صحيح هذا المعنى غير الصحيح يسيطر عليك فإذا سيطر عليك حتى تقترب من الآية أبعد المعنى غير الصحيح فإذا أبعدته ستفكر تفكيراً جديداً أولياً ستغير النظرة ، الله يقول ( ليس عليكم جُناحٌ ) أي إثم طبعاً
( أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم ) الإشكال في كلمة متاع لا تفهم من كلمة ( متاع ) المتاع المعروف يعني أغراض موجودة لك في المنزل ليس المقصود متاع يعني أغراض بالعامية بين قوسين يعذرني المشاهد وأنتم ليس المقصود " عفش" المتاع هُنا بمعنى المنفعة على إطلاقها ( قُل متاع الدنيا قليل ) اش معنى متاع الدنيا قليل ؟ منفعة الدنيا هذا معنى المتاع . إذا تحرر هذا يتحرر بعد ذلك معنى قول الله جلّ وعلا ( ليس عليكم جُناحٌ أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم )غير مسكونة : أي غير مسكونة سُكناً أهلياً بتعبير قريب مراعاة للمشاهدين يعني ليست فيها عوائل ، ليس فيه أُسر ، ليس فيها قوم يسكنونها متخذينها بيوت .(8/70)
إذاً يبقى السؤال إلى الآن وأنا أبعد أبعد لابد نُقرّب شي حتى تتضح الصورة . أنت تُسافر فيه دورات مياه ، فيه فنادق ، فيه إستراحات في الطريق هذه بيوت غير مسكونة لا يُلزم الاستئذان لا يُلزم فيها الاستئذان [ واضح ] هذا معنى الآية . وقد كانت العرب في تاريخها القديم تضع دور وخانات يرتاح فيها المسافرون ليست ملكاً لأحد تقيهم البرد والحر يبنيها أرباب الأموال وهذي ليست ملكاً لأحد لا تحتاج إلى استئذان ومثلُها في عصرنا إنسان مرّ على فندق أراد الاستراحة فطبعاً لا يحتاج إلى أن يدق ـ يطرق ـ باب الفندق حتى يستأذن أدخل أو لا أدخل لأنهُ أصلاً ما وضعِ إلا لطريقة هذه أنك تدخل من غير إذن لأن هذا المقصود من بنائها أو دورات المياة أو ما أشبه ذلك لذلك قُلنا كلمة منفعة على ماذا ؟ على إطلاقها
وحتى يبقى المعنى صالحٌ لكل زمان ومكان أيّ مكان فيه منفعة لك فالغالب يحتاجه الناس أنه لا يُلزم فيه الاستئذان ( ليس عليكم جُناحٌ ) قُلنا جُناح بمعنى أثم
( أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاعٌ لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) قال العلماء لتذييل هُنا ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون )
قالوا هذا وعيدٌ شديد من الرب تبارك وتعالى لأصحاب النوايا الخبيثة والسرائر البغيضة المحبين لتطلّع على عورات المسلمين ،هذا وعيدٌ شديدٌ من الله لأصحاب النوايا الخبيثة وما أشبههم من السرائر البغيضة الذين يُحبون أن يتطلعوا على عورات الناس فقال ربُنا مهدداً لهم ولغيرهم ( والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ) بدا الشيء بمعنى ظهر ، والكتمان ضد البدو . قال اله تعالى ( يوم تجدُ كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينهُ أمداً بعيدا ) والمقصود الأشياء القلبية والأشياء الظاهرة .
ثم قال ربُنا تبارك وتعالى ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما تصنعون )(8/71)
انتقل الآن الرب جلّ وعلا في تأديب العباد إلى مرحلة أعلى منعنا ربُنا من دخول البيوت من غير استئذان فلما كانت الأبصار هي السبب هلاك القلوب،
وأنت متى أرسلت طرفُك رائداً
في ا لقلوب أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا أنت كُلهُ أنت قادرٌ
عليه ولا عن بعضهِ أنت صابرُ
المقصود أن النظرة سهمٌ من سهام إبليس فأراد الله أن يؤدب عباده فانتقل معهم إلى مرحلة أُخرى فقال ( قُل ) أي محمد ( للمؤمنين ) الممتثلين لأمر ربهم ( يغضوا من أبصارهم ) لكن ما قال ويحفظوا من فروجهم لماذا ؟
* ما أُذن لك أن تراه أكثر مما حرّم عليك أن تراه " فمن" على الصحيح بعضيه ــ أُعيد ــ ما شرعه الله لك وأباحهُ أن تراه أكثر مما حرّمهُ الله عليك أن تراه فالمحرم } العورات { لكن النظر إلى غير العورات جائز
أما الفروج فإنما الأصل فيها أنها حرام فما أباحهُ الله لنا من الفروج أكثر مما حرمهُ علينا فلهذا قال ( ويحفظوا فروجهم ) هذه واحده .
* غض البصر أخبر النبي صلى الله علية وسلم " أن العين تزني وزناها النظر " ولا ريب أن النظر أُولى المهلكات والإنسان إذا أكثر من النظر تعب قلبهُ لأنهُ لا يملأُ فمُ ابن آدم إلا التراب ، والإنسان ما يزال يتنقل في المناظر ويرى ميمنة وميسرة ولا ريب أنهُ لا توجد امرأة إلا وفي من هو أجمل منها وهذا خيطٌ أو سلسةٌ لا تنتهي فالعاكفون مثلاً في زماننا على القنوات في كل حقبه أو مده أو يوم أو ليله يظهر له شيء آخر ويبقى لاهثاً ولن يرتوي ولهذا منع الشرع العباد من إطلاق العنان لنظر بل إن الرجل عياذاً بالله عافانا الله وإياكم إذا أكثر من النظر كالذين يذهبون إلى بلاد للسياحة العاجلة فيذهبون في شواطىء العُراة وأمثالها فيرى منظراً تلو منظراً تلو منظر يذهب إليه عمداً هذا ينجم عنهُ مفسدتان :
المفسدة الأولى : سيزهد في أهله وهذا خلاف المقصود شرعاً .(8/72)
الأمر الثاني : هذا يجعل قوتهُ فيها نوعٌ من التشتيت لا يجمع عليه ذهنه لإنفكاكه وتفرقه في مجامع ما يراه على أنه ينبغي أن يُعلم ــ وهذا استطراد ــ ينبغي للعاقل وهذا الخطاب للرجال الآن ينبغي للعُقلاء من الرجال أن يعلموا أن القضية في جمال المرأة ــ ولا أدري إن كان قد بينتُ هذا من قبل أو لا حتى لو كان مكرراً أرجوا قَبُله ــ نقول أن القضية الأساسية قائمة على أن المرأة حسب ما تكون زينة في عين زوجها بمعنى أن الإنسان قد لا تكون إمرأتهُ ذات جمال يُضرب به المثل لكن الله جلّ وعلا يُزينها في عينيه كما أن الله يُزينهُ ولو لم يكن مسلماً في عينيها وأنا كُنتُ أُوصي الشباب إذا سألوني ماذا نقول إذا تزوجوا أقول لهُ " قُل اللهم زيني في عينيها وزينها في عيني" فإنها إذا زانت في عينيك وزانك الله في عينيها أفلحتما وهذه أمور بصرف النظر عن الأشياء الجمالية البدنية الخلقية لها علاقة كذلك بالأخلاق بالجمال الروحي فإن هذا مما يُزين به لصاحبه وأنت تعلم أن قيس ابن الملوح الذي فُتن بليلى العامرية وجُن بها حتى هام على وجهه في الصحراء كل أهل زمانه يقطعون بأن ليلى هذه لم تكُن أجمل نساء الدنيا لو كانت أجمل نساء الدنيا ما تركها الأُمراء والملوك وأهلُ الثراء له قاتلوه عليها لكن القضية أن الله جلّ وعلا زيّن ليلى في عيني من ؟ في عيني قيس وهو قال المؤنسة إحدى قصائده قال :
فيارب إن صيرت ليلى هي المُنى
فزنيّ بعينيها كما زنتها ليَّ
وقد خبروني أن تيماء منزلٌ
لليلى إذا ما الليل ألقى المراسيَ
فهذي شهور الصيف عنا قد إنقضت
فما لنوى ترمي بليلاً مراسيَ
طبعاً تيماء ديارٌ معروفه ، متى الليل يُلقي مراسيه في الصيف و إلا الشتاء ؟ في الشتاء الليل يطول
فهو يقول فهذي شهور الصيف عنا قد أنقضت(8/73)
يعني جاء الليل الطويل ومع ذلك لم تعد ليلى إلى تيماء . المقصود من هذا أن الإنسان بهذه النظرة يفهم الشرع فلا يأتيك من يأتيك يُزهدُك في أهلك أو في فتاة خطبتها أو في قبيلة بعينها القضية قضية ما يُرثهُ الله جلّ وعلا في قلبك من زينة تلك المرأة هُنا قال الله جلّ وعلا ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) لأن هذا وادً مُهلك وأنت ترى من حولك ممن يتيهُ والعياذُ بالله فيه ويضيع وليتهُ يغنم شيء محسوس شيء يعقد عليه أنامله أو إصبعه لا يوجد لأن هذا أمر ما ينتهي وقُلنا قال علية الصلاة والسلام "ولا يملأ فمُ ابن آدم إلا التراب " فهو بطريقته هذه لن ينتهي ولن يبني قلباً خاشعاً ولا لساناً ذاكراً أبداً .
( ويحفظوا فروجهم ) اختلف العلماء في المعنى :
فقال بعضهم يحفظوها عن النظر إليها ، وقال بعضهم يحفظوها عن الزنا والصواب أن يُقال يحفظوها عن النظر إليها وعن الزنا كما في قوله تعالى ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم ) هذا الطريق الذي رسمه الله جلّ وعلا لعباده وهو حفظ الفرج مع غض البصر هو السبيل إلى نقاء النفس وطهارتها وسموها بدليل القُرآن ( ذلك أزكى لهم ) أي المؤمنين . ( إن الله خبير بما يصنعون )
كما أمر الله الرجال أمر النساء وهذا قطعاً خلاف أسلوب القرآن لأن القرآن يجمع ففي البيوت الآن ما قال الله للمؤمنات لأنهم دخلوا في الذين أمنوا ولكن لما كان أمر النظر أمرٌ عظيم تُبنى علية مفاسد إذا تُرك خاطب الله الرجال والنساء كُلاً لوحده فقال جلّ وعلا ( وقُل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ) وهذا قد مضى القول فيه كما قيل في الرجال.
( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمورهن على جيوبهن ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) هذا فيه تفصيل على ما يأتي : نتكلم في المفردات أولاً .
الخمار تُجمع على خُمر وهي ما تُغطي به المرأة رأسها كقولنا كتاب تُجمع على كُتب .(8/74)
طيب بقينا في الجيوب ما الجيوب ؟ الجيب هذا ــ تلفاز ما نقدر نفتح ــ مقدمة النحر والصدر هذا يُسمى جيب الموضع الذي تدخل منه ثوبك ، الفتحة هذه تُسمى جيب طبعاً لم يكن بالطريقة هذه آنذاك , طيب ما الجيب الذي نضع فيه دراهمنا هذا ليس في كلام العرب صحيحٌ من حيث المعنى لكنه ليس مقصود القرآن ليس من كلام العرب الذين أُخذ عنهم اللغة أن الجيب ما يوضع على جوار الثوب أو أعلاه يوضع فيه ما يُحفظ هذا ليس من كلام العرب وإن كان صحيحاً في المعنى ، الجيب في القرآن الفتحة التي منها يُلبس الثوب والرداء.
فجبريل علية السلام نفخ في جيب درع من ؟ مريم درعها أشبه بالعامية اليوم يقولون روب تلبسه والأخوة الموريتانيون يقولون الدراعه وهذه كلمةٌ فصيحة فهذا الجيب .
( وليضربن بخمورهن) قال الرب تبارك وتعالى ( على جيوبهن ) فهي كانت تُغطي رأسها فأمرها الله أن يشمل ماذا ؟ مع الرأس الجيب فلا تُظهر شعرها ولا صدرها ولا نحرها .
هذا من حيث الإجمال أنا إلى الآن أتكلم إجمالاً
(ولا يُبدين زينتهن ) القرطبي يقول رحمة الله تعالى علية المفسر المعروف الزينة قسمان : خلقية ومكتسبه . كم قسم ؟ قسمان خلقية ومكتسبه فيقول رحمه الله و تبعهُ على ذلك بعض الفقهاء أن الخلقية أصلها الوجه و المكتسبة ما يوضع من زينة خارجة عن أصل الخلقة [ هذا واضح ]
قسمها القرطبي قسمان إلى كم قسم ؟ قسمين قال خلقية وأصلها الوجه ومكتسبه وهو ما يوضع من زينة وهو معروف .
نقول والعلم عند الله اللغة لا تُساعد على هذا لأن كلام الله دلّ على أن الزينة إذا أُريدت في القرآن يُراد بها غير الشيء المُزين ـــ أُعيد ـــ(8/75)
الزينة في القرآن يُراد بها غير الشيء المُزيّن بمعنى أنها منفكة خارجة عنه قال الله تعالى ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) ما زينة الأرض ؟ ما عليها من النبات فهذا النبات لا يُقال له أرض فالمزيّن غير الزينة منفك عن الزينة فكلام القرطبي له وجه من النظر لكن كما قُلت اللغة لا تُساعد عليه .
( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) إلى الآن نتكلم في الآية ما معناها
( وليضربن ) هذا أمرٌ من الله ( بخمورهن ) قُلنا الخمار الغطاء ( على جيوبهن ولا يُبدين زينتهن )
ثم حدد الله من يرين الزينة . هذه الآية الإشكال فيها في قول الله تعالى
( ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها )
واختلف العلماء في هذا اختلافً كثيراً جداً لكن أنا أُحرر ما أدين الله جلّ وعلا به فنقول ما قاله ابن عطية رحمه الله تعالى عليه ــ معنى كلامه ــ إن ظاهر الآيات يدل على أن الله جلّ وعلا أمر المرأة بإخفاء نفسها بالكلية إلا ما ظهر منها بسبب حركة ضرورة فذلك المعفو عنه لنساء ــ بتعبير أوضح ــ نحنُ نعتقد أن وجه المرأة لا يجوز إظهاره وإن قال فضلاءُ علماءُ أجلاء من الأمة لهم باعٌ في العلم من السلف والخلف عبروا عن قول الله ( إلا ما ظهر منها ) بأنه الوجه لكننا نقول إستدراكاً لا يُمكن لنا ولا لغيرنا أن يرفع الخلاف في الأمة لكن نُعقب تعقيبات لابد منها لأن الأخيار من العلماء من السلف والخلف الذين قالوا أنه يجوز ظهور الوجه لم يقولوا بما حدث في مثل هذا العصر ــ وحتى تتضح الصورة ــ
* الذين قالو بجوازه لم يقولوا بأن سترهُ محرم ولم يقولوا أن سترهُ بدعه ولم يقولوا إن كشف الوجه سنة هذا واحد .(8/76)
* ولم يقولوا أنه يجوز أن تتزين المرأة في وجهها كما يحصل بحجة أنه في قول بأن وجه المرأة جائز إظهارهُ والأهم من هذا كله وهذا بيت القصيد لم يقل أحد ممن يقول بجواز أن تكشف المرأة وجهها أنه يجوز النظر إليها [ واضح ] وهذا يُبطل صنيع كثير مما تراه امرأة تقرأ الأخبار ولا يظهر إلا وجهها فإذا سُئلت قال هذا حجاب شرعي على قول طائفة من العلماء نقول نعم هو حجابٌ شرعيٌ على قول طائفة من العلماء لكن أولئك الأخيار الذين قالوا بهذا إما أن يُؤخذ قولهم جملة أو يُترك جملة فلم يقولوا بجواز أن تظهر المرأة بهذا الوجه على الناس جميعاً فيرونهُ هذا لم يقل به أحد [واضح ] و إلا أصبح لا معنى لقول الله ( قُل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم )[ فهمتم ]
هذا الذي يجب أن يُنتبه إليه ، لكن الإنسان أحياناً يغلب عليه هواه فلا يأخذ الشرع بمأخذٍ حسنٍ عن أهل العلم على الجانب الآخر هذه المبالغات أو عدم الفهم الصحيح لشرع الله قد يُقابلهُ أحيانا أقوامٌ يأتون لفضلاء من العلماء قالوا بأنهُ يجوز كشف الوجه فيقولون فيهم قولاً شنيعاً من غير برهان وهذا خطأٌ ليس ببعيد عن خطأ ماذا ؟ الأولين فقد قال بالجواز عُلماء أجلاء لا مطعن في دينهم ولا في علمهم ولا في عقيدتهم وإن كُنا نرى فقهياً خلاف الذي يقولون لكن لا نتهم مؤمنً في دينه بأنهُ استبان لهُ من دين الله أو من كتاب الله شيء لم يستبن لنا على أن تكاد تكون الكلمة مجتمعة اليوم على أن الفتن التي يعيشها أهل العصر تُنبأ على أنهُ من الخطأ العظيم أن يقول أحدٌ اليوم بجواز نقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول فلا شك أن تغطية الوجه أمرٌ فاضل بالاتفاق وأن على القول عند من يقول بجواز كشف الوجه أمرٌ مفضول وليس من النصح لا لله ولا لرسوله صلى الله علية وسلم ولا للمسلمين أن يحاول أحدٌ أن ينقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول على القول بأنهُ يجوز [ واضح ](8/77)
ثم قال ربُنا جلّ وعلا ( ولا يُبدين زينتهُن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أُلي الأربة من الرجال أو الطفل )
في نقطة هُنا مهمة جداً .. القرآن حتى تفهمه لابد أن تستصحب أمور عقلية ونقليه فالتمسك فقط بالحرفية لا يُؤدي إلى علم بدليل : لو جاء إنسان هُنا وقال يجوز للمرأة أن تظهر شبه عارية أمام أبيها هل يقول بجواز هذا أحد ؟ تكلموا أنتم . لا يقول بهذا أحد قال يا أخي الله يقول جعل الزوج كماذا ؟ كالأب.
لكن لابد أن نفرق ما أذن الله به للبعل غير الذي أذن الله به للأب وما أذن الله به للأب غير الذي أذن الله به للخال والعم وابن الأخ وما أذن الله به للخال والعم وابن الأخ غير الذي أذن الله به للأربة والطفل [ واضح ] فكلٌ بحسبه وإلا تجرأ على كلام الله من لا يفقه فيه لكن الإنسان يستصحب أشياء عديده ولذلك الشرع يُؤخذ بنظرة كُلية تُعرف مداركه وطرائق العلم فيه قبل أن يتكلم الإنسان فيه بدين الله . ليس القرآن معاني كلمات تُقرأ وينتهي الأمر .
القرآن أجلّ وأعظم من ذلك وإلا لغاص في هذا العلم كلُ أحد ، فنقول هذه قضية يجب استصحابها وفهمُها
استثنى الله جلّ وعلا . قُلنا البعل في لغة العرب هو السيد ويُطلق على الزوج والآباء وغيرهم معروفون لكن تُلاحظ أن الله ما ذكر طائفتان ، ما ذكر الله طائفتين من هما ؟ الأعمام والأخوال وقد قال العلماء أنهم يجرون مجرى الآباء وهذا اتفاق يعني الأمة أجمعت على جواز إبداء الزينة للأعمام والأخوال(8/78)
استثنى الله جلّ وعلا كذلك ( أو ما ملكت أيمانهنّ أو التابعين غير أُلي الأربة من الرجال )وأهل العلم يقولون أنهُ يجوز لرجل ــ لعلي ارجع المعنى بتعبير أصح ــ يجوز لذكر أن يرى أمتُه لكن لا يجوز للمرأة أن ترى عبدها [ واضح ] يعني المرأة الأمه تُبدي زينتها لسيدها [ واضح ] لكن المرأة الحُره لا تُبدي زينتها لعبدها [ فهمتم ] وإن قال بهذا طائفة لكن هذا بعيد
( أو التابعين غير أُلي الأربة من الرجال ) شوف من كلمة التابعين يعني هؤلاء ناس لا يدرون أين يذهبون ضُعفاء إما عقلياً أو جسدياً لأن أصلاً أيُ تابعٍ فيه ضعف طبعاً يأتي إنسان يقول أنل تابعٌ لله فيّ ضعف نعم فيك ضعف ، ضعف بشري خلقي لأن لولا الله لهلكنا ، تابعٌ لنبي صلى الله علية وسلم نعم تابعٌ لنبي صلى الله علية وسلم لماذا ؟ لأنه ضعيفون نحن ُهدياً لأنه لولا سنتهُ ما عرفنا الدين مع غيرهما ضعف عقلي لا يكون الإنسان تابعً في كل شيْ محال لا يوجد أحد نمشي ورائه في كل شيء إلا إذا كان هذا المضي مقيد بكتاب وسنة.
هؤلاء الله يقول ( أو التابعين غير أُلي الأربة ) قومٌ يتبعون ، يدخلون معك الدار ضُعفاء عقليا وجسدياً ليس لهم رغبةٌ في النساء . قد تأتي عشرات الكلمات الآن العامية في لسانك لكنها لا تُقال في محفلٍ مثل هذا لكن نكتفي بتعبير القرآن ( أو التابعين غير أُلي الأربة ) ما الأربة ؟ الحاجة ( وليَ فيها مآرب أُخرى ) أي حاجات أُخر يعني ليس له مطلب في النساء لا من قريب ولا من بعيد بصرف النظر عن السبب .
((8/79)
غير أُلي الأربة من الرجال أو الطفل ) هذا اسم جنس ( الذين لم يظهروا على عورات النساء ) هذا قيد لا بد منه الذين لم يظهروا على عورات النساء ليس مجرد الطفل فلا تأتي لإنسان قبل البلوغ بثلاث أيام تُكشف المرأة عنده تأخذ راحتها في المضي أمامه والغدو وإذا سألناها تقول هذا ما بلغ خمسة عشر هذا يميز ، يفهم وإنما قال الله ( الذين لم يظهروا على عورات النساء ) وهذا تقديرهُ في السابعة ، في الثامنة ، في التاسعة على الأكثر لكن إذا كان الفتى والصبي يميز ويفهم ويصف وينقل فلا يجوز للمرأة أن تُبدي زينتها أمامه .
( أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجُلهنّ ليُعلم ما يُخفين من زينتهنّ) هذا كلام رب العزة وهو دليل عظيم وظاهر لمن قال بأن تغطية الوجه عوره فإذا كان الساق وهو ساق أمر الله بإخفائها ولم يأمر فقط بإخفائها أمر بعدم إحداث صوت، ما يوضع في القدم يُسمى خلخال وما يُوضع في اليد يُسمى سوار وما يُوضع في الأصبع يُسمى خاتم وما يُوضع في الرقبة يُسمى عقد ، هذه الأصوات لا يجوز أن تُخرجها المرأة فيُعلم فيكون ذلك سبباً في تحريك شهوة الرجال إليها . والدين ـ قاعدة ـ لا يُفرق بين متماثلين ولا يجمع بين نقيضين . الدين الشرع لا يُفرق بين متماثلين ولا يجمع بين نقيضين فلا يُعقل أن يمنع الله المرأة أن تُحدث صوتاً من خلخال قدمها ثم يأذن لها أن تكشف وجهها وإن كُنا نقول يعني كلامنا هذا كلام المفسرين كلام العُلماء ليس كلام الله عشان نتحرز .
( وتوبوا إلى الله جميعاً أيُها المؤمنون لعلكم تُفلحون )
صدرُ الآية لمن ؟ أجيبوا . ( قُل ) الخطاب لمن ؟ لنبي صلى الله علية وسلم ( وتوبوا ) الخطاب لمن ؟ للمؤمنين والمؤمنات هذا الانتقال في الخطاب من المفرد إلى الجمع تُسمى عند البلاغيين / الإلتفات / ماذا يُسمى ؟ الالتفات . ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيُها المؤمنون لعلكم تُفلحون )(8/80)
التوبة وظيفة العُمر ولهذا قال الله ( جميعاً ) ولم يستثني أحداً ولما ذكر الله تبارك وتعالى هذه الأحكام علِم جلّ وعلا أن عباده وأن حرصوا على الإمتثال بها إلا أنه لن يخلوا أن يقع منهم شيء فدلهم جلّ وعلا على ما يجبر ذلك الكسر وهو التوبة إلى الله جلّ وعلا كما كررتُ مراراً وظيفة العُمر وأفضل القُربات وهي مشروعة في كُل آن وحين بها يُزدلف إلى الله ويُتقرب إليه رزقنا الله وإياكم الاستغفار والتوبة والإنابة إليه أينما كُنا وحيثُما ارتحلنا
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يُحبه ويرضى وأن يُلبسنا لباسيِ العافية والتقوى وصلى الله على محمد وعلى آله . والحمد لله رب العالمين ......
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأراد ما لعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدً عبده ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
ما زلنا نشرع بعون الله تعالى في تفسير سورة النور سائلين الله أن يرزقنا وإياكم نوراً نهتدي به . قال الله جلّ وعلا وهو أصدق القائلين ( و أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمآئكم إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ واللهُ واسعٌ عليم )(8/81)
هذه الآية جاءت تبعاً لما قبلها، وما قبلها ذكر الباري جلّ وعلا فيه ما يدعوا إلى غض البصر وحفظ الفرج وتحصين العورات وقد جاء القُرآن مسلسلاً ذلك الأمر تسلسلاً منطقياً حسب أحوال الناس فمنع الله جلّ وعلا دخول البيوت بلا استئذان وأمر بغض البصر ثم أمر بحفظ الفرج ثم حتى تكون هُناك نواة لمجتمع مسلم لابد من وجود أسرة ، وبعض أهل العلم والفضل يقول إن هُناك أمرين لابد للإنسان أن يطّلع شرعياً عليهما وهما : أحكام النكاح وأحكام البيوع لأن الإنسان في حاجة إلى الغذاء الذي يتحصل علية عن طريق الأخذ والعطاء وبحاجة إلى أن يكون لهُ أسرة ويعبرون عنه بالنكاح أو بالزواج أو بالأنثى فيحتاج إلى أن يكون ذا علم بأحكام النكاح وهذا من باب الجملة .
الرب جلّ وعلا هُنا يقول
(وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمائكم ) هذا أمر ووجود فعل أمر لابد أن يكون هُناك مأمور فالسؤال من المأمور أولاً بهذه الآية ؟
المأمور بهذه الآية قطعاً وفق قواعد اللغة هم الأولياء والسادة وليس كل خصيصة أحدٍ نفسه لأنه لو كان المأمور كلُ أحد بنفسه لجاء الفعل" وانكحوا " من غير همزة قطع لكنّهُ جاء هُنا بهمزة قطع ( و أنكحوا ) وهذا في المقام الأول يُخاطب به الولي ويُخاطب به السيد من لديه عبيدٌ وإماء .
قال ربُنا (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمائكم )
الأيامى يدخلُ فيه الرجال والنساء والأصل أن الأيّم هي من لا زوج لها أو فقدت زوجها ثم اُستخدمت مجازاً أو استعارة أنتقل الأمرُ إلى الرجال فأصبح يُطلق على الرجل أ و المرأة إذا كان أحدهما لا أُنثى له إن كان ذكراً ولا ذكر لها إن كانت أُنثى يُطلق عليها أو عليه أيّم أي أنه خالٍ من فراش الزوجية والأصلُ إطلاقه على النساء وهو الأكثر وقد جاء في أبيات شعر :
وأزواج سعدٍ ليس فيهنّ أيّمُ(8/82)
وهو بيت قُدح فيه بسعدٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه ابن أبي وقاص فدعا على من قال فيه هذا البيت فداهمهُ جملٌ شاردٌ فقتله ، موضوع الشاهد كلمة
" أيّم " فالأيامى جمع أيّم وهذا خطابٌ للأحرار والدليل أنه خطاب للأحرار أن الله قال بعده ما يتعلق بالأرقاء والمماليك من العبيد و الإماء فقال جلّ ذكرهُ ( وانكحوا الأيامى منكم ) أي زوجوهم والنكاح اتفقت كلمة العُقلاء على أنه أفضل وأعظم المباحات ظهوراً فالمباحات يُتردد فيها منها ما اُتفق على أنه مباح ، ومنها ما اُختلف فيهن ومنها ما يدور حول الكراهة ، لكن الإجماع منعقد على أن النكاح من أفضل المباحات ظهوراً من حيث الحكم الشرعي جعله الله سنة من سُنن الأنبياء والمرسلين كما قال جلّ وعلا
( وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ) والنبي علية الصلاة والسلام يقول في حق من تبنى هدياً غير هديه أو استحدث هدياً غير هديه قال علية الصلاة والسلام
" وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " قال قائل من العرب في شواهد شعرية نحوية شهيرة الذي يُعنينا منها هُنا ليس قواعد الشعر القواعد النحوية لكن قوله :
سلام الله يا مطرٌ عليها
وليس عليك يا مطرُ السلام ُ
فإن كان النكاحُ أحلّ شيءٍ
فإن نكاحها عمراً حرامُ
فطلقها فلست لها بكفءٍ
و إلا يعلو مفرقك الحسامُ
موضوع الشاهد قوله : فإن كان النكاحُ أحلّ شيءٍ .
النكاح أعظم ما أباحه الله جلّ وعلا لعبادة يترتب علية مصالح عظيمة وقد قال بعض الفقهاء إن النكاح تدور علية الأحكام الفقهية الخمسة والعلم عند الله .
قال الله ( وانكحوا الأيامى منكم ) نكاح الإماء والعبيد جاء مقروناً مقيداً بقوله جلّ وعلا ( والصالحين ) واختلفت كلمة المفسرين في المقصود بمعنى الصالحين هُنا على قولين :
قولٌ أن الصلاح المقصود به الصلاح الإيماني الصلاح بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات وهذا ظاهر الرأي .(8/83)
وقال آخرون وهو الذي أُرجحه أن المقصود أنهم صالحون لنكاح صالحون لأن يفتحوا أُسرا صالحون لبيت الزوجية لأن الصلاح الأول عام لا يُمكن تخصيص الإماء والعبيد فيه دون الأحرار لكن الثاني يحسُن التخصيص لماذا ؟
لأن الإنسان إذا رأى في عبده أو أمته قُدرة على النكاح وإقامة بيت زوجية رغّبه في ذلك الأمر و إلا فالأصل يُبقيه على ما هو عليه من نطاق الرق له.
قال الله جلّ وعلا :
(و أنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكُم وإمآئكم إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ )
هذه الآيات توافق ما كان عليه الناس آنذاك فالنبي علية الصلاة والسلام ورث إبراهيم علية الصلاة والسلام نبوته ، على هذا العرب في جاهليتها كانت تخشى الفقر وكانت تظن أن من أسباب الفقر كثرة العيال . قال الله تعالى ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحنُ نرزقهم وإياكم ) والمقصود في ظل هذا الجو المشحون الخائف من الفقر عند فتح باب الزوجية إذا كثر العيال وتغير الحال
قال الله جلّ وعلا
(إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ )
والمعنى أيُها الولي إن أتاك فقيراً يطلبُ نكاحاً وكُنت تثق في دينه وأمانته فلا يردنك كونه فقير ، فلا يجعلنك كونه فقيراً أن تردهُ وإنما أعطه . قال الله (إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ ) والنظر في قول الله جلّ وعلا (إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ ) لا خلاف على أن الجملة شرطيه وإن أداة شرط وأدوات الشرط تنقسم إلى قسمين إلى أحرف وهي(8/84)
" إن " وإلى أسماء مثل " متى، وأين ، وأنّ ، ومن " هذه أدوات شرط لكنها أسماء أما إن فهي حرف ، هذا الشرط ُ اختلف الناس في فهمه هل المعنى أنه وعد من الله جلّ وعلا أن المنكح المتزوج إذا كان فقيراً يُغنيه الله قطعاً أو أن المقصود منه لا يمنعنكم كونه فقيرٌ من أن تردوه وهذا الذي تميل إليه النفس وإن كان الأكثرون على الأول من أهل التفسير ولهم حُججٌ ظاهرة بينه أظهرها أن النبي صلى الله علية وسلم ذكر الذين حقٌ على الله أن يُغنيهم ويُعينهم وذكر منهم الناكح الذي يُريد العفاف وذكر منهم المكاتب وذكر منهم المجاهد هذا قول نبيُنا صلى الله علية وسلم وقد أجاب القائلون بهذا القول عن ما وجّه لهم من سؤال أننا نرى واقعاً والواقع لا يُمكن رده لأن الواقع في كل عُرف أهل العقل في كل ذي عرف الفضلاء والعُقلاء الواقع أعظم الشروط والجيل لا يُمكن أن يُصادم الواقع أبداً وقد ألف شيخ الإسلام } درء تعارض العقل والنقل { والمقصود بالعقل في المقام الأول الشيء المشهود ــ الواقع ـ لأنه لا يُمكن أن يُطالب الناس بأن يتخلّوا عن أعينهم وبصيرتهم ويمتنعوا عن قبول الشواهد التي يرونها عياناً فأجاب هؤلاء الفُضلاء عن القول بأننا نرى ممن ينكح وهو فقير ولا يغتني ؟ قالوا إن هذا مقيد ، الإطلاق في سورة النور مقيد بنظائره في سور أُخرى ( وسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) في سورة التوبة فقالوا هذا القيد يسري على هذا لكن صناعة الأصول تقتضي عدم حمل هذا التقييد في هذا الإطلاق لاختلافهما في السبب واختلاف السبب لا يجري أحكام الإطلاق والتقييد على منحىً واحد وإن كان المسألة أخذٌ وردٌ بين العُلماء لكننا هُنا نُثير القضية بمجملها ولا يُلزمنا الفصل لكنني قُلت أختارُ أن المسألة المقصودة من الآية أن المخاطب الولي والمراد لا يمنعنك فقر ذلك الرجل الطالب النكاح أن تردهُ لفقره لأن الدنيا عرض زائل ولا ينبغي أن يمنعك ذلك .
ثانياً : إن فضل الله واسع .(8/85)
لا يعني هذا أنه لا يُعان لكن من الصعب أن نقول إن هذا وعدً ربانيناً من الرب تبارك وتعالى لكن نقول إن أسلوب المقطع هذا في نفس الآية لا يُساعد على القول أن يكون وعدً من الله (إن يكونوا فُقراء يُغنيهِم ُ الله ُ من فضلِهِ واللهُ واسعٌ عليم ) .
ثم قال جلّ شأنه :
( و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يُغنيهم الله ُ من فضله )
الألف والسين والتاء لطلب ( وليستعفف) يطلبون العفة في حالة عجزهم عن تحقيق أمر النكاح . ما سبب العجز ؟
هُنا المقصود به السبب في الوصول إلى فتح باب الزوجية إما لفقر وهو الأظهر وإما لحالة اجتماعية يمنع من خلالها الناس أن ينكحوه وأمثال ذلك .
ولا يمكن لنا أن نقيد ما أطلقه القرآن لأننا إذا قيدنا ما أطلقه القرآن لم نجعل هذا القرآن حاكماً على كل زمن والأصل أن القرآن حاكمٌ على كل زمن ومهيمنٌ على كل كتاب ومثال ذلك :
قد يخرج إنسان من السجن وهو مُتيأُ شباباً وثري عنده مال ومع ذلك لا يُنكح ولا يُعطى من أهله أو من قبيلته أو أبناء جلدته فلو حاصرنا أن عدم الوصول في النكاح محصوراٌ في المال. ماذا سنقول في هذه الصورة ؟ هل نقول أنها غير موجودة في القرآن ، لكن قول الله ( فسوف يُغنيهم الله من فضله ) كلمة واسعة بمعنى إن كانوا فقراء سيغنيهم وإن كان عارضٌ آخر سيزيل الله جلّ وعلا ذلك العارض وقد قُلنا مراراً أن المفسر للقرآن يحتاج إلى تأني وتريث وإطلاع على أحوال الناس قبل أن يخوض في الحكم على آيات الله ويبين مراد الرب تبارك وتعالى منها .
( وليستعفف) ما الطريقة في الاستعفاف ؟
مفتوحة أي أن الناس تختلف لكن هُناك طريقة منصوصاً عليها وهي ما أخبر بها النبي صلى الله علية وسلم عندما قال " فمن لم يستطع منكم فعليه بالصوم فِإنه له وجاء" أي مانع والمقصود أن الإنسان أدرى بنفسه فكل ما يستطيع أن يعفّ به نفسه فليفعله .(8/86)
قال الله تعالى ( و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يُغنيهم الله ُ من فضله ) ثم قال ربُنا ( والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً )
هذا استطراد لمّا ذكر الله العبيد والإماء في المقام الأول نبّه جلّ وعلا على أحد الأساليب التي يكون بها العبيد والإماء أحراراً ، فقال ربُنا (والذين يبتغون) يطلبون ( الكتاب ) أي يطلبون الحرية عن طريق المكاتبة والأصلُ أن العبد وما ملك ملكٌ لسيده فإذا كان هذا العبدُ صاحب حرفة تدرّ عليه مالاً فإن الله جلّ وعلا يضع صورة من صور المكاتبة ألا وهي أن يطلب العبد من سيده أن يُكاتبه والمكاتبة على وزن مفاعله وهي أمرٌ يخصُ بين اثنين فيقوم هذا العبد بصنعته تلك يجمع مالاً في المقام الأول ويمكن أن يستفيد مالياً من طرائق أُخر ثم يجعل هذه الأموال منجمة على أقساط تُقدم لسيده على أقساط يتفقون عليها وقتاً وزمناً ويحددونها مالاً فإذا أتم العبدُ ما أشترطه عليه سيده أصبح بعد ذلك حُراً
قال ربُنا يُفصّل ذلك كله (والذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم) .
( ممّا) مدغمه من زائد وما أي من ما ملكت أيمانكم و( ملكت ) ملك اليمين يُكنى به عن الأرقاء الذين تحت أيدينا ( ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ) .
( إن علمتم فيهم خيراً )
أي إن علمتم أن لديهم حرفة يستطيعون بعدها إذا أصبحوا أحراراً أن يدرّوا بها على أنفسهم أما إن لم تعلموا فيهم الخير فلا تجعلوهم عُرضةً لأن يكونوا أحراراً فيتكلوا على أوساخ الناس ويأخذوا من الصدقات وأمثالها ويمتهنوا التوسل ، لكن قال أهل العلم ولا أعلم في هذا خلاف " لو فرضنا أنه لم يعلم فيه خيراً لا يوجد مانعاً من أن يُكاتبه " .
(فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ) ثم قال ربُنا ( وءاتوهم من مال الله الّذي ءاتاكم ) اختلفت كلمة المفسرين في من المخاطب بقوله جلّ وعلا
((8/87)
وءاتوهم ) على ثلاثة أقوال واجمعها أن نجمع بين الأقوال الثلاثة لأن الآية تحتمل ذلك كله فنقول إن المخاطب به
* ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات من المسلمين
ـــ أُعيد ــ
ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات
تنزيل الأمر عليهم يكون على النحو التالي :
أما ولي الأمر فيعين العبد المكاتب من بيت مال المسلمين
وأما السيد فهذا يُعينه بأن يُسقط عليه أحد ما اتفقوا عليه من التنجيم أو أكثر
وأما أصحاب الثراء والمال فإنهم يعطونه من الزكوات أومن الصدقات
وإجراء الكلام على هذا المنوال أفضل من تخصيصه لأن الله أطلقه وقد قُلتُ من الصعب أن نُقيد ما أطلق الله .
( وءاتوهم من مال الله الّذي ءاتاكم )
ثم قال ربُنا ( ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناًً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يُكرههّن فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم ) .
نقول أولاً لا يأتين في ذهنك أن مجتمع المدينة في عهد النبوة كان البغاء فيه ظاهر فحريٌ بتلك الحقبة زماناً ومكاناً أن تتحرر في أذهاننا أنها أفضل حقبة وأن ذلك الجيل أمثل جيل وأكمل رعيل لكن هذه فئة من المنافقين كانت تسكن المدينة على رأسهم عبد الله ابن أُبي وكان لدية جاريتين يُكرههّن على البغاء وورد أنهنّ اشتكينهُ إلى النبي صلى الله علية وسلم فأنزل الله جلّ وعلا هذه الآية رحمة بالفتاتين وتوبيخاً لعبد الله ابن أُبي . فالله يقول له كيف تقبل وأنت سيد ، الأصل فيك أن تُحافظ على من تحت يديك على أن تُكرههّن على البغاء وهن أنفسهن لا يُردنه وإنما يُردن التحصّن و إلا لو طلبت المرأة البغاء بذاتها فهذا أصلاً لا يُسمى إكراه(8/88)
فالقيد هُنا جاء مخاطباً للواقع والقيد إذا جاء مخاطب للواقع يُصبح لا مفهوم له لا ننظر إلى ما يُخالفه كيف ننظر إلى ما يُخالفه ؟ لو اعتبرناه قيد له مفهوم لأصبح لزاماً أن نقول يجوز أن يكون هناك بغاء من غير إكراه لكن هذا القيد لا مفهوم له كقول الله جلّ وعلا في حق ذاته العلية ( ومن يدعوا مع الله إله آخر لا بُرهان له به فإنما حسابه عند ربه ) لا يعني ذلك أنه يجوز أن تدعوا إله آخر لك فيه بُرهان لماذا؟
.لأنه لا يوجد إله غير الرب تبارك وتعالى [ واضح ] هذا قيدٌ مخاطب للواقع .
(ومن يُكرهُنّ فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم )
قُلنا المخاطب بهذا هاتين الفتاتين على وجه الخصوص من كان مثلهما ممن لم يأتي النبي علية الصلاة والسلام و يشكي إليه ودخول المخاطب بسبب النزول يدخلُ دخولاً أولياً عند الجمهور ومالكٌ يرى أن دخولهم من نزلت بسببهم الآية يدخلُ دخولاً ظنيناً وهذا لا يتضحُ هُنا لكن سيتضح في آية الأحزاب في قول الله جلّ وعلا ( إنما يُريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيرا) هل تدخل أُمهات المؤمنين أو لا يدخلن هُنا يتضح المسألة قال في المراقي:
واجزم بإدخالٍ ذوات السببِ
وانقل عن الإمام ظناً تُصبِ
واجزم بإدخالٍ ذوات السبب هذا مذهب الجمهور
وانقل عن الإمام ظنا تُصبِ يقصد مالك
أي أن الإمام يرى أن دخولهم دخولا ظنياً في حين أن الجمهور يرى أن دخولهم دخولا قطعيا وقد قلت أن هذا لا يتضحُ لك هنا بجلاء يتضحُ لك إن شاء الله في حينه بسورة الأحزاب
ثم قال الله تبارك وتعالى
( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلو من قبلكم وموعظةً للمتقين)(8/89)
نقف عند قول الله جل وعلا (ومثل من الذين خلو من قبلكم ) القران ذكر الله فيه جل وعلا براءتان براءة مريم وبراءة يوسف ثم ذكر الله في هذه السورة الكريمة براءة عائشة فهذا معنى قول الله على الأظهر ( ومثلا من الذين خلو من قبلكم ) أما قول ربنا قبلها ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ) و قوله جل وعلا (و موعظةً للمتقين) هذا مضطرد موعظة القرآن موعظة لكل مؤمن في أي زمان وفي أي مكان وهذا ظاهر
ثم قال الله جل وعلا
( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زُجاجه الزُجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تمسسه نار نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ الله الأمثال لناس والله بكل شيء عليم )
نقول هنا نستصحب قولا أو نستشهد بقولا لابن القيم رحمة الله والكلام إذا كان نفيسا حسنٌ أن يُستشهد به بصرف النظر عن قائلة فمن عُرف فضلهُ و إمامتهُ زاد ذلك الأمر قبولا عندك وعند الناس
قال ابن القيم رحمة الله : قال الله جل وعلا من أسمائه النور ومن أوصافة النور و حجابة النور وكتابة النور وشرعه النور ورسوله النور والجنة التي وعدها عبادة نورا يتلألأ هذا فتح باب في القبول (واضح)
( الله نور السموات و الأرض ) قال العلامة ابن السعدي رحمة الله علية في تفسيره نور السموات و الأرض حسا ومعنى ( الذين اهتدوا) اهتدوا بماذا ؟ بنور الله
و الأرض والسماوات إنما تشرقان بنور الله واستنار بنور الله حتى العرش و أركان العرش فا الله جل وعلا نور السموات و الأرض حسا ومعناً
ثم ضرب الله المثل والمثل جرت العرب في كلامها أنها تضرب الأمثال بثلاثة اسباب :
ــ اكتبها لان هذا يعني لزاما من غير أمر ــ
الثلاثة الأسباب التي من أجلها ذكرت العرب أمثالها في كلامها شعراً ونثرا
اصابة المعنى
إيجاز اللفظ
وحُسن التشبيه
وبتعبير أصح ـ نالت العرب بالأمثال أموراً ثلاثة :J(8/90)
إصابة المعنى وإيجاز اللفظ وحُسن التشبيه ، على أن من نظم العرب في كلامها أنها إذا قالت المثلَ لا ترى أن أحد يملك الحق غي تغييره فالمثلُ يُقال كما قيل أول مره تسمعون بالمثل = الصيف ضيعت اللبن=
هذا المثل يُقال بهذه الطريقة خاطبت به ذكراً أو خاطبت به أُنثى خاطبت به فرداً أو خاطبت به مثنىً أو خاطبت به جماعه ويقولون أصلهُ أن امرأة كانت تحت رجلٌ طاعن مسنً لكنه ذا مال فأصرت علية أن يُطلقها فطلقها في الصيف فتزوجها شابٌ من بني قومها لكنهُ كان فقيراً فذات يومٍ أمسيا هي وزوجها فقيرين فرغبت في اللبن فبعثت إلى زوجها الأول تطلبهُ لبناً فلما وصل المبعوث المرسول إلى الزوج الأول قال له إن فلانه تطلبُك لبناً فأجابه = الصيف ضيعت اللبن = لماذا قال الصيف لأن الطلاق كان في الصيف وهو نظر الزمان لأجل ذلك جاء مبني أياً كان المثل يُقال كما هو والعرب لها أمثالها والله جلّ وعلا ساق الأمثال في القرآن وقال في خاتمة هذه الآية ( ويضرب الله الأمثال لناس والله بكل شيء عليم ) وضرب الله أمثله كثيرة في القرآن وقال جلّ وعلا ( إن الله لا يستحيى أن يضرب مثل ما بعوضةً فما فوقها ) نعود لنور قال ربُنا (الله نور السموات والأرض ) وبينا كلام ابن القيم في القضية والنبي صلى الله علية وسلم نورٌ بنص القرآن ذكر الله جلّ وعلا في كتابه أنه نور وقد جاء في مدحه علية الصلاة والسلام عند من يقول بصحة نسبة قصيدة كعب ابن زُهير وهي قصيدةٌ لا يملك أحدٌ الجزم بصحة سندها لكن تواترها وانتقالها ما بين أهل السير والأخبار والآثار وقبولهم لها يدلُ على أن لها أصلً عظيماً وكعبٌ هذا من عائلةً أصلاً ذاتُ شعر كانت بينه وبين النبي صلى الله علية وسلم عداوة أهدر النبي علية والسلام دمهُ دخل المدينة وأنشد بين يدي رسول الله :
بانت سُعادٌ فقلبي اليوم متبول ُ
متيمٌ إثرها لم يُفدى مكبولُ
وما سُعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغنوا غضيض الطرف مكحولُ(8/91)
تجلوا عوراض ذي ظنً إذا ابتسمت
كأنه منهلٌ لراح معلولُ
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا
وما مواعيدهُ إلا الأباطيلُ
إلى أن قال :
إن الرسول لنورٌ يُستضاءُ به
مهندٌ من سيوف الله مسلولُ
هذه روايات ابن قُتيبه وأمثاله ، في روايات أُخر :
إن الرسول لسيفٌ يُستضاءُ به
الذي يعنينا الرواية الأولى لأنها هي التي تتفق مع ما نحنُ فيه :
إن الرسول لنورٌ يُستضاءُ به
فالنبي صلى الله علية وسلم نورٌ قطعاً وما جاء به النور وكان يسأل من ربه النور خاصةً إذا خرج في ممشاه إلى الصلاة وإذا قام من الليل كل ذلك ثابتٌ عنه صلوات الله وسلامه عليه
.(8/92)
قال الله ( مثل نوره ) هذا تقريب ( كمشكاة فيها مصباح ) المشكاة على الأظهر تكاد تجتمع الكلمة عليها أنها الكوة التي في الجدار ( المصباحُ في زجاجة ) لكننا في زماننا نُطلق المصباح عليه كله على الجرم كامل لكن الآية لا تقصد الجرم كامل لماذا؟ لو كان يقصد الجرم كامل لا يصُح أن يُقال المصباح أين؟ في الزجاجة ما يصح أن يقال المصباح في زجاجة لكنفي زماننا هذا نحنُ نُطلق المصباح على الجرم كامل أما في لغة القرآن فالمصباح المراد به الفتيلة وهذا ظاهر لأن الله قال بعدها ( كمشكاة فيها مصباح المصباحُ في زُجاجة ) والزجاجة أين تقع أو الفتيلة أين تقع ؟ داخل الزجاجة ( المصباحُ في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبٌ دري ) لصفائه لنقائه ( يوقد من شجرة مباركة ) فالله يشهد أن هذه الشجرة مباركة أي كثيرة الانتفاع ( زيتونة ) هذا تبيين لنوع ماذا ؟ الشجرة لأن الشجر المبارك كثير لكن لما قال الله ( زيتونة ) عرفنا أنها شجرة الزيتون وأهل التاريخ يقولون إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ودعا لها بالبركة سبعون نبياً وموطنها الأرض المقدسة في الأرض المباركة في موطن الأنبياء موطنها الأول في الشام الله يقول هذا الزيتُ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ) والشجرة الشرقية ) هي التي لا تتعرض لشمس في حالة الغروب والغربية عكسها وأما الشجرة التي تتعرض لشمس دائماً فهذه تُسمى لا شرقية ولا غربية
قال الله تعالى ( لا شرقية ولا غربية يكادُ زيتُها يضيء ولو لم تمسسهُ نار ) ثم قال الله ( نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء )(8/93)
وأظهر جملة خاصة الأمر الكوة قلب المؤمن المشكاة قلب المؤمن ويجتمع فيه نوران نور الفطرة ونور الوحي والعلم من عند الله ففطرتهُ ظاهرة عليه وهذا معنى قوله جلّ وعلا ( يكادُ زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار )( نور على نور ) نور العلم الوحي الإيمان على نور الفطرة ( يهدي الله لنوره من يشاء ) لماذا قال الله ( يهدي الله لنوره من يشاء ؟ حتى لو قال قائل إن الأمر جاري واضح فنحن نهتدي بأن الأمر واضح فأخبر الله جلّ وعلا بأن ليس الأمر كذلك وإن كان واضحاً جلياً قال بعدها ( يهدي الله لنوره من يشاء ) وقد قدمنا في عدة دروس لنا أن الإنسان ينبغي علية أن يُدرك أن أي مقصود لا يُطلب إلا بالرب تبارك وتعالى ( يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ الله الأمثال لناس والله بكل شيء عليم )هذا مُجمل ما دلت علية الآية بعض أهل العلم ينحى منحىً أخر في تفسير الآية فيعدل عن ظاهر القرآن ويقول أن المقصود به النبي علية الصلاة والسلام وأن المشكاة هو إبراهيم علية الصلاة والسلام وأن قول الله جلّ وعلا ( لا شرقية ولا غربية ) اليهود يُصلون جهة المغرب والنصارى يُصلون جهة المشرق ويقولون قصد بقوله ( لا شرقية ولا غربية ) أي لا يهودياً ولا نصرانياً وأن النبي علية الصلاة والسلام أخذ هذا من الشجرة المباركة التي هي إبراهيم بوصفه أباً لأكثر الأنبياء ، هذا القول من حيث معناه صحيح أن النبي علية الصلاة والسلام ليس يهودياً ولا نصرانياً ووارث إبراهيم ومتبعهُ هذا لا خلاف فيه لكن القول إن هو المقصود بالآية بعيدٌ جداً لابد أن تكون هُناك آله متفق عليها في التعاون مع آيات الكتاب ولا يحقُ لنا ولا لغيرنا أن نُغير من الآلة التي نتعامل بها في آيات الكتاب حتى نصل إلى مقصودنا على أنه ينبغي أن يُعلم أن المعاني أحياناً تكون صحيحة لكن الوصول إليها يكون بطريقة خطأ فلو أصاب إنسانٌ في المعنى لا يعني ذلك ضرورة أنه أصاب في الطريقة التي يتوصل بها إلى المعنى(8/94)
قال ربُنا ( الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح ُفي زُجاجة الزجاجةُ كأنها كوكب ُدريٌ يوقد من شجرة مباركةٍ زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتُها يُضيء ولو لم تمسسهُ نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم )
بينّا قضية المثل في القرآن وأن الله جلّ وعلا ذكرهُ في أكثر من آية في كتابه هذا النور أين مضانّهُ أين أجده قال الله بعدها ( في بيوت أذن الله أن تُرفع ) أتضح المعنى الآن ، بعض العلماء أخذها حرفياً وجعل( في بيوت ) معلقة بالمشكاة وتكلم عن المصابيح ثم قال هذا الكلام منتقض تاريخياً لأن مسجد النبي صلى الله علية وسلم لم يكن فيه مصابيح وهذا كلهُ نرى أنه لا حاجة لنا به وإنما الآية تتكلم عن نور الهداية ولهذا قال الله (يهدي الله لنوره من يشاء ) فإذا كان الإنسان بعد ذلك رغب فيما عند اللع وعلم أن الله هو الهادي حُق له أن يبحث عن الأمكنة التي يجد فيها نفحات الله ونوره وهدايته فأجاب الله جلّ وعلا ( في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه يُسبح له فيها بالغدو و الآصال ) وهي المساجد ، والعُلماء بعضهم يقول إن هذه المساجد كلمة ( بيوت ) محصورة في المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء وما المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء ؟ المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي ــ بقي واحد لا تذهبوا بعيداً ـ مسجد قباء فهذه الأربعة بناها الأنبياء والصواب أن يُقال الأمر على إطلاقه فالمساجد كُلها بيوت الله سواءً بناها الأنبياء أم لم يبنها الأنبياء (في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه ) نبّه الله جلّ وعلا على قسمين : عمارتُها مادياً وعمارتُها معنوياً
عمارتُها مادياً بتشييدها وبنائها وحفظها مما يضر بها . **
وعمارتُها معنوياً بإقامة ذكر الله جلّ وعلا فيها . **(8/95)
والثاني هُنا أشرف من الأول وفي كلٍ خير من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاه بنى الله له بيتاً في الجنة وأول بيت وضع في الأرض المسجد الحرام ثم وضع المسجد الأقصى ثم جدده أي المسجد الأقصى سُليمان ابن داود علية السلام وهو الذي تزعم إسرائيل اليوم أن تحته هيكل سُليمان ثم كانت بعثة النبي صلى الله علية وسلم فدخل المدينة من جهة الجنوب فبنى مسجد قباء في بني عمر ابن عوف فكان أول مسجد أُسس في الإسلام ثم أتى بطن المدينة فبنى مسجده علية الصلاة والسلام ولم تكن تُقام الجمعة إلا أين ؟ في المسجد النبوي ثم جاءه وفد علية الصلاة والسلام من الإحساء من هجر بحرين سابقاً ثم ارتحلوا عنه فصلوا في محافظة في الإحساء الآن تُسمى جواثا هذه جواثا صلوا فيها ماذا ؟ صلوا فيها الجمعة فالكثير من الفقهاء على أن ثاني جمعة أُقيمت في الإسلام أُقيمت في جواثا لأنه لم تكن تُقام الجمعة إلا في المدينة في مسجده صلى الله علية وسلم وأُقيمت بعد ذلك في جواثا في الإحساء ــ مررتُ عليها قبل شهرين لكنني لم يتيسر لي أن أدخُلها لكن مررتُ مجاوراً لها ـ وهي ديارُ علمٍ وفضل يقول أهلُهل مفتخرون :
والمسجد الثالثُ الشرقي كان لنا
والمنبران وفصل القول في الخُطب
أيام لا مسجداً لله نعرفهُ
إلا بطيبة و المحجوجُ ذو الحُجب
يقصدون المسجد الحرام ، والمقصود من ذلك هذه ـ يعني ـ تفصيل تاريخي عام عن المساجد في الأرض ثم بُنيت لله جلّ وعلا مساجد في كل مكان قال النبي صلى الله علية وسلم " من بنى لله مسجداً " هذه دعوةٌ صريحة صحيحة لتسابق أهل الخير والفضل في بناء المساجد.
الحالة الثانية عِمارتُها شرعياً ودينياً وأعظمُ ذلك إقامة ذكر الله جلّ وعلا فيها وهذا الذي قال الله فيه (في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه يُسبح له فيها) جلّ جلاله ( بالغدو والآصال ) يُنزه عما لا يليق به ويحمده الحمد الذي يستحقه ويُثني علية أقوامٌ رُكع سُجد(8/96)
قال الله عنهم ( رجالاٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )
كلمة رجال هُنا وإن جاءت نكرة إلا أنها مخصوصةٌ بالوصف الذي بعدها فالجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات وكلمة رجال نكرات فجملة ( لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع ) وصفٌ لكلمة رجال وقد قال بعض السلف ويُنسب لابن مسعود أن المقصود بالآية في المقام الأول أصحاب الأسواق قال الله (لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع ) ما الفرق بين التجارة والبيع ؟
التجارة العمل برؤوس الأموال بحثاً عن الربح فلما يُقال فلان تاجر عنده رأس مال ينجم أن يتضاعف أما البيعُ أخصُ من التجارة فلا يلزم في كل أحد يبيع أنه يُريدًُ ربحاً فالإنسان قد تضطره ظروف أحياناً لأن يبيع شيء غالٍ نفيساً عليه له عنده مقام أو ذكرى حميدة فيبيعهُ بأقل من قيمته وهو لا يُريدُ ربحاً وإنما يُريدُ أصلاً مالاً
وقد تُخرج الحاجات يا أم مالكٍ
كرائمُ من ربٍ بهنّ ظنيني
والمقصود هذا الفرق ما بين التجارة والبيع والمشهدُ يتحقق إذا رأيت أهل سوق فإذا سمعوا المؤذن تركوا ما في أيديهم وتسابقوا إلى المسجد وقد ورد أن ابن مسعود رأى أقواماً بهذه الصنيعة فقال هؤلاء الذين عنى الله بقوله (رجالاٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) لكننا نعود للقاعدة التي أصلناها قبل قليل أن وإن دخل فيها هؤلاء الرجال دخولاً أولياً وهم أهل الأسواق إلا أنه لا يمنع من دخولِ غيرهم فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وما عُمّرت المساجد بأكثر من أن يُذكر الله جلّ وعلا فيها.
و الغدو والآصال وقتان لكنه يظهرُ لي أنه ليس المقصود حقيقة الوقتين وإنما المقصود جملة الأناء من أطراف الليل والنهار
((8/97)
يُسبح له فيها بالغدو والآصال* رجالٌ لا تُلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار * ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيد هم من فضلِهِ والله يرزُق من يشاء بغير حساب )
أعمال الناسُ يا بُني على ثلاثة أقسام :
عملٌ أذن الله به وأباحه ولم يأمر به فهذا يُسمى حسن
وعملٌ أمر الله به وتعبد خلقهُ به فهذا يُسمى أحسن
الأول حسن وهذا يُسمى أحسن
وعملٌ نهى الله عنه وحرّمه وهذا يُسمى قبيحٌ مستهجن(8/98)
فإذا كان يوم القيامة على أي الثلاثة يُجازون ؟ على الأوسط على الأحسن هُنا تفهم معنى الله ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) فلا يأتين أحد فيقول إن العبد يعملُ عملاً حسناً وعملاً أحسن منه والله جلّ وعلا يُكافئه على الأحسن فهذا من غير أن يشعُر نسب إلى الله الظلم والله يقول ( إن الله لا يظلم الناس مثقال ذره ) لكن نقول إن هذا الذي صنفناه على أنه أحسن هو في ذاته ماذا؟ مراتب عده [ واضح ] ـ أرجوا أن تكون قد وعيت المسألة ــ الذي في الوسط الذي حررنا على أنه أحسن هو في نفسه يكون مراتب ( ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ) ولا يقتصر فضل الله على المجازاة على ما وعد أو على أعمالنا قال الله ( ويزيد هم من فضلِهِ ) جاءت منصوبة لأنها معطوفة على الفعل يجزي والفعل يجزي جاء منصوباً لأنه جاء مسبوقاً بلام التعليل (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا و يزيد هم من فضلِهِ والله يرزُق من يشاء بغير حساب)هذا بيان فيه لفضل الرب تبارك وتعالى وأن الله جلّ وعلا لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وقد تحرر معنا كثيراً أننا نقول إن الله جلّ وعلا يُقدم من يشاء بفضلِهِ ويُؤخر من يشاء بعدله ولا يسأله مخلوقٌ عن علة فعله ولا يعترضُ عليه ذو عقلٍ بعقله .. ما بعدها من آيات تتكلم عن أعمال الكُفار لا يتسع الوقتُ للحديث عنها فنجملُ ما قد حررناهُ في تفسير الليلة فنقول ما سلف في الأول كانت آيات أحكام تكلمت عن النكاح وأحكام المكاتبة ثم بين الله جلّ وعلا بآية فصلت ما بين القضايا الفقهية والقضايا الإيمانية بأن الله أنزل هذه القرآن موعظة ومثلاً ثم تكلم الرب جلّ وعلا عن نوره الذي ملأ أركان عرشه ثم قرب هذا المثال لناس بشيء يرونهُ بين أيديهم ويقولون وقد مرّ معنا هذا فيما أذكر أن أبا تمام الشاعر العباسي المسمى حبيب ابن أوس الطائي دخل على أحد الخُلفاء فمدحه بقوله :
إقامُ عمر في سماحةُ حاتمٍ
في حلم أحنف في ذكاءِ إياسِ ِ(8/99)
هؤلاء مشاهير من العرب أحنف في حلمه وإياس القاضي في ذكائه وعمر في شجاعته وحاتمٌ في كرمه ، أي إنسان يظهر خاصةً في بلاط الأُمراء يكون له حُساد فقام أحد الناس يحسُد أبا تمام وقد أصبح له موضع عند الخليفة فقال إن الأمير أكبر وأشرفُ ممن ذكرت تصفُ أمير المؤمنين بأجلاف العرب طبعاً من الآن يُدافعُ عن أجلاف العرب من يستطيع أن يقول في مجلس الأمير أن هؤلاء ليسُ أجلافً ! لا يستطيعون فقال أبو تمام مبشرةً يُدافع عن نفسه :
لا تُنكروا ضربي له من دونهُ
مثلاً شروداً في الندى والبأس ِ
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس ِ(8/100)
وهذه تدلُ على توقد ذكائه ويقولون أن الطبيب الكندي كان حاضرا فلما فتشوا في أوراق أبي تمام لم يجدوا فيها هذين البيتين بمعنى أن أبا تمام ارتجلهما مباشرة ليُدافع عن نفسه فقال هذا رجلٌ سيأكل الذكاء دماغه أو كلمة نحوها فمات أبو تمام صغيراً في الأربعينات أي ما شارف على الخمسينات عندما مات قد يكون هذا بسبب ذكائه كما يزعم هذا الطبيب والأصلُ أنه بقدر الله وقد يكون هُناك أسباب أُخرى لم يطّلع عليها الطبيب وآياً كان فتخلص أبو تمام هُنا تخلص عظيم لهذا وإن كان المقام مقام تفسير تعجب من يأتيك أحياناً من يحاول أن يكتُبَ شعراً وهو لم يقرأ شيئاً لا قرآناً ولا حديثاً ولا شعر العرب فمن أين تأتي دُرر ومعلومات وألفاظ حتى تستطيع أن تُحررها إلى أبيات هذا مُحال هذا كمن ـ لا أدري ماذا أقول ــ ماذا يطلبُ في أي شيء أخر أي علمٍ له صناعه له طرائق تدلُ عليه عدم الأخذ بأسبابها يحول بينه وبين الوصول والله يقول عن ذي القرنين ( وأتيناهُ من كل شيء سببا) فماذا فعل هذا الملك الصالح قال الله ( فأتبع سببا)فمن رام مجداً لابد أن يعلم أن لكل مجدٍ طرائق وسُبل تُوصل إليه فيأخذ بها متوكلاً على الله جلّ وعلا يرجوا من الله لتوفيق والسداد ، نقول إن الله جلّ وعلا ذكر المساجد وحُرمتها وأن أعظم ما يمكن أن يُقال فيها هو ذكر الله تبارك وتعالى .
فطر اللهُ قلبي وقلبكم على توحيده وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده ، في اللقاء القادم بإذن الله تعالى نُعرج على أعمال الذين كفروا ثم نذكر ما ذكر الله بعد ذلك من دلائل قُدرته وجليل صنعته في قوله تعالى ( ألم ترى أن الله يُجزي سحاباً ثم يُؤلف بينه ) إلى ذلك الوقت نسأل الله التوفيق والسداد والعون والقبول وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ......
بسم الله الرحمن الرحيم(8/101)
أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيرهُ ولم يسعِ الناس غيرهُ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسله شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره ووضع الله عنه وزره وجعل الذلةً والصغار على من خالف أمره
صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين .........
أما بعد
فنشرعُ في تكملة ما كنا قد بدأناه في اللقاء الماضي في سورة النور وكنا قد انتهينا عن نعت الله جل وعلا لعبادهِ المؤمنين ووعده إياهم بقوله ( والله يرزق من يشاء بغير حساب ) وفي هذا اللقاء المبارك يقول الربُ تبارك وتعالى ( والذين كفروا أعمالهم كسرابً بقيعة يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه لم يجدهُ شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب )هذه أمثال وقد مرّ معنا حاجة الناس إلى المثل وقُلنا أن العرب أرادت به ثلاثة أمور :
إصابة المعنى ، وإيجاز اللفظ ، وحسن التشبيه(8/102)
هذا مثل ضربه الله جل وعلا لأعمال الكفار أنهم لا ينتفعون بها فهؤلاء المشركون صحيحٌ أنهم كفره لكن لديهم قُدرة في المجادلة ، فمن مُجادلتهم يقولون نحن لم نعكف في بيوتنا نحن لدينا أصنام نعبُدها ( ما نعبُدهم إلا ليُقربونا إلى الله زُلفى ) فإذا كان هناك موعد يوم القيامة سنجدُ حصيلة أعمالنا . نحن نُطعم كما تُطعمون ، نحن نُسقي كما تُسقون ، نحن نفعل الخيرات ، نحن نقوم بالواجبات فالله جل وعلا يُصور الآن تلك الأعمال التي اتكلوا عليها فقال ربُنا ( والين كفروا أعمالهم ) من حيث الصناعة النحوية هذا يُسمى بدل و أصلُ الكلام ـأعمال الذين كفروا و البدل من أي الأنواع هنا ؟ بدل اشتمال ، والبدل ينقسم إلى بدل اشتمال وبدل كل بدل بعض ، والبدل في ذاته أيها الأخ المبارك واحدً من التوابع ما معنى توابع ؟ تتبع ما قبلها ، فالصفة تُعرب إعراب الموصوف والبدل يُعرب إعراب المُبدل منه ، و المعطوف يُعرب إعراب المعطوف علية .(8/103)
نحنُ الآن أمام بدل اشتمال ( والذين كفروا ) مُبتدأ ( أعمالهم ) مرفوعة مثلها لأنها بدل اشتمال (والذين كفروا أعمالهم كسرابً بقيعة ) القيعة جمع ، جمعٌ لماذا ؟ جمعٌ لقاع ، ما القاع ؟ الأرض المنبسطة التي تنافر عنها الجبال والآكام أصبحت واضحة مرئية ، السراب إذا لاحت الظهيرة يُسمى سراب إذا لاح في أول النهار أو في أخر النهار لا يُسمى سرابا ماذا يُسمى ؟ يُسمى الآل وإذا كان في الظهيرة يُسمى سراب والمعنى واحد ها السراب يلوح لرائية كأنه ماء فإذا كان الرأي ظاميء فإنه سيتعطشُ للوصول إلية ولها قال الله حل وعلا (يحسبه الظمآنُ ماء ) أما غير الظمآن فهو سيرى السراب كما يراه غيره لكن لعدم وجود تعلق به لا يلتفت إليه ولا يُعطيه كبير اهتمام ولها قال جل وعلا (والذين كفروا أعمالهم كسرابً بقيعة يحسبه الظمآنُ ماء حتى إذا جاءه ) جاء إلى ماذا ؟ جاء إلى ما كان يعتقد أنه ماء ( فلم يجدهُ شيئاً ) وليته خلص لا له ولا علية ولم يتكلف إلا المجيء لكن الله قال موبخاً لهم ( ووجد الله عنده) وهو يزعم أنه لا رب لا إله وأن هذه الأعمال هي التي تنفعه فيفعل الكافر المشرك تلك الأعمال حتى إذا كان يوم القيامة لم يجد تلك الأعمال نظيره نظير من كان يبحث عن السراب لكن من كان يبحث عن السراب غاية الأمر عند انه لم يجد شيئاً لكن ها قال عنه ( ووجد الله عنده ) أي يوم القيامة ( فوفاه حسابه والله سريع الحساب أي أن الله جل وعلا لا يبطئ في حسابه إذا ظهر مُقتضاه والحساب قد وقته الله جل وعلا أن يكون يوم موعود محدود ( وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأتي لا تكلم نفسٌ إلا بإذنه فمنهم شقيٌ وسعيد ).(8/104)
ثم قال ربُنا ( أو كظُلمات ) أو حرف عطف بالاتفاق لكن هل هي لتنويع أو لتخيير ؟ الصواب عندنا أنها لتنويع فإذا قُلنا أنها لتنويع تُصبح لابد من إيجاد طرف ثانً فنقول إن المثال الأول للأمة من أهل الكفر والمثال الثاني فلإتباعهم ومُقلديهم ، المثال الأول لمن ؟ للأمة من أهل الكفر وأما المثال الثاني فإنه لأتباعه ومقلديهم.
قال الله جل وعلا (أو كظلُمات في بحر لُجي ) هُناك يا بُني لُجة بضم اللام وهناك لَجة بفتح اللام اللجة بالفتح كثرة الأصوات وارتفاعها فهذه لا علاقة لها بالآية و أما اللُجة فهي مُعظم البحر، والبحر اللجي هو البحر الكثير الماء البعيد القعر.
( أو كظلمات في بحر لُجيٍ يغشاه موجٌ من فوقه موج من فوقه سحاب ) ظلم جهل وكفر وعناد
مثاله
رجلٌ في قاع البحار موج فوقه موج الفرق بين الموج . والّلجة هي البحر نفسه أما الموج ما يخرجُ عن البحر ويرتفع يُسمى موج وهو شهيرٌ ظاهر
( من فوقه موجٌ من فوقه سحاب) قال ربُنا ( ظُلُماتُ بعضها فوق بعض ) ليست الظُلمات في الموج والسحاب وإنما هذا نظير مثال وإنما الظلمات الحق هي ماذا ؟ كُفرهُ وجهلهُ وعنادهُ .
( إذا أخرج يدهُ لم يكد يراها )
في هذه الظلمات كُلها يحاول أن يُخرج يده فيُخرجها لأنها تتعلقُ بقدرته الذهنية بقدرته الحركية لا يتعلق بالرؤيا لكنه هل يراها أو لا يراها قال ربُنا (لم يكد يراها )
تحرير المسألة كاد فعلٌ عند النحويين يُسمى فعل من أفعال المقاربة أكثرُ المفسرين يقول إن المعنى ( لم يكد يراها ) أي لم يقرب أن يرها فكيف يراها.
ــ أُعيد ــ
أكثرُ المفسرين يقول إن المعنى ( لم يكد يراها ) أي لم يقرب أن يرها فكيف يراها. [ واضح ]
ولهم في هذا أدلة لأبيات عند ذي الرمة وغيرة لكن الصواب أن يُقال إن كاد فعلٌ إذا أُثبت دلّ على النفي وإذا نُفي دلّ على الإثبات :
أنحوي َ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ *** جرت في لساني جرهم وثمود ِ(8/105)
إذا استُعملت في صورة النفي أثبتت *** وإن أثبتت قامت مقام جحود ِ
لماذا قال جرهم وثمود ؟ لأنهم عرب أقحاح لا نزاع فيهم ، وإن أثبتت قامت مقام جحودِ أي مقام النفي والنُكران ما هي هذه اللفظة ؟ هي الفعل كاد . قال الله جلّ وعلا ( أكادُ أُخفيها ) هل أخفاها ؟ أجيبوا . لم يُخفيها مع أن الفعل مُثبت وإنما الله جلّ وعلا أخفاها عيناً وقتاً وقال ( فقد جاء أشراطُها ) الدجال ، المهدي ، عيسى، شروق الشمس و لهذا قال( أكاد أُخفيها) هُنا قال ( لم يكد يراها ) بحسب فهمنا للغة أنهُ يرى شيئاً يسيراً منها وهذه مُعضلة لماذا يرى شيئاً يسيراً منها ؟ كيف يُثبت الله جلّ وعلا لهُ قُدرة على النور ؟ هذا الذي منع الناس أن يقولوا بهذا المعنى [ واضح ] يعني الذي جعلهم يقولون أي المُفسرون أنهُ لم يقرُب أن يراها كيف يراها؟ لأنهم يقولون هذه ظُلمات هذا جاهل هذا كافر هذا عناد فقد كُنتُ والله أبحثُ عن جواب وأظنُ والعلمُ عند الله أن المقصود هذا الإظهار البين في النور اليسير هو من باب إقامة الحُجة أما الذي لا يرى بالكلية كالمجنون والصغير وأمثالهم فهؤلاء أصلاً لا حساب عليهم لأنهُ لم تقم عليهم حُجة والعلم عند الله .
( أو كظُلمات في بحرٍ لُجيّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب ظُلماتٌ بعضُها فوق بعض إذا أخرج يدهُ لم يكد يراها ومن لم يجعلِ اللهِ لهُ نوراً فما لهُ من نور ) كيف يراها ، كيف يهتدي ، كيف يصل ، كيف يبلُغ مُرادهُ أنى لهُ ذلك والربُ جلّ وعلا لم يجعل لهُ نوراً تجدُ رجُلين من أبٍ وأُم واحده يوفق أحدُهما لأعظم الطاعات ويغيبُ أحدهما عنها بالكلية وقد اتفقا في منشأهما وتربيتهما و أُصولهما و أعراقهما بل والرحم التي خرجا منها لكن جعل الله لأحدهما نور ولم يجعلِ اللهِ للأخر نورا فمن جعل الله له نوراً اهتدى ومن لم يجعل الله له نوراً عياذاً بالله ظلّ وغوي عن سواء السبيل .(8/106)
ثم قال الله جلّ وعلا ( ألم ترى أن الله يُسبحُ لهُ ما في السماوات والأرض والطيرُ صافات كلٌ قد علم صلاتهُ وتسبيحه والله عليمٌ بما يفعلون ) هذا شيءٌ مُشاهد "من" للعاقل و هنا أُدخلت مقام التغليب من في السماوات ماذا تشمل ؟ الملائكة في المقام الأول و من في الأرض ؟ بنوا آدم وكلُ من يدب على الأرض ماذا بقي ؟ بقي الذي بينهما لهذا قال الله ماذا ؟ ( والطيرُ صافات ) [ واضح ] لماذا ذكر الله الطير ؟ لأنهما ليسَ في السماء وليسَ في الأرض هذا تخريج .
وآخرون قالوا لا هذا ليس بتخريج وإنما الطير يدخل في قوله جلّ وعلا ( من في السماوات والأرض ) يدخل عندهم قطعاً طب لماذا خرّجها الله ؟ قالوا أراد أن يُبين أنها تُسبح حال كونها صافات ولهذا قال ( والطير صافات ) قالوا لو قال" ألم ترى أن الله يُسبحُ لهُ من في السماوات والأرض والطير" من غير صافات لقُلنا بالأول لكن مادام قال ( صافات ) أراد حال كونهما صافات ولكلٍ من القولين ما يؤيدهُ من حيث النظر أما من حيث النقل لا يوجد بين أيدينا شيء .
((8/107)
ألم ترى أن الله يُسبحُ لهُ ما في السماوات والأرض والطيرُ صافات كلٌ قد علم صلاتهُ وتسبيحه ) الخلاف عند العُلماء أين فاعل علم ؟ و الأكثرون على أن فاعل علِم هو عائدٌ على كلمة "كل" أي كُل واحدٍ من هؤلاء علِم ماذا؟ علِم صلاته وتسبيحه وأما الربُ جلّ وعلا فهذا ذيلُ الآية قال الله جلّ وعلا ( والله عليمٌ بما يفعلون ) علمُ الله ذكرهُ الله جلّ وعلا في ذيل الآية قال ربُنا ( واللهُ عليمٌ بما يفعلون ) ثم بين جلّ وعلا عظيم مُلكه ( ولله مُلكُ السماوات والأرض ) أي ليس الأمر مُقتصراً على أن أُمة في السماء تُسبح وأُمة في الأرض تُسبح والطير هذا وحدهُ ليس حدودُ مُلك الله لكن كلُ ما في الكون لهُ قال الله ( ولله مُلكُ السماوات والأرض ) ويجبًُ أن يستقر في قلب كلٍ أحد أن الله جلّ وعلا مقاليدُ كُل شيء بيديه ورزقُ كُل أحدٍ عليه ومصيرُ كُل شيء إليه هذه القناعات اليقينيات المستنبطة من الكتاب والسنة هي التي تُرثُ قلب حياً ويقينياً راسخاً فينجمُ عن ذلك عملٌ صالح ( ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ) والآيات مازالت تُبين عظيم القُدرةُ الإلهية .
( ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً ) تسمعون إنسان أحياناً عندما يُقدم لهُ في احتفال فيريدُ أن يتواضع فيقول أصلاً أنا بضاعتي مُزجاه ـ مأخوذة من سورة يوسف ــ معنى مزجاه مدفوعة البضاعة المُزجاة هي التي لا يقبلها أحد كُلما عرضتها على تاجر يعترض عليك يعتذرُ لك ويعترضُ عن القبول فيعتذر ويقول اذهب إلى فُلان لعلهُ يأخُذها.(8/108)
فهذا معنى قولهم بضاعةٌ مُزجاه إذاً المُزجاة مأخوذة من السوق الدفع ( ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً ) من الذي يسوقه تسوقهُ الملائكة بواسطة الرياح (ألم ترى أن الله يُزجي سحاباً * ثم يؤلفُ بينهُ ) الأصلُ أنه كان قطع وقطع السحاب تُسمى قزع ( ثم يجعلهُ رُكاماً ) مُتراكماً بعضهُ فوق بعض ( فترى الودق ) أي المطر ( يخرُج من خلاله ويُنزلُ من السماء من جبالٍ فيها من برد ) كم من ؟ ثلاثة
ـــ أُعيد ــ
ثلاثة كُلهنّ جاره بالاتفاق لكن ما معنى من الأولى وما معنى من الثانية وما معنى من الثالثة ؟
( ويُنزل من السماء ) هذه من لابتداء الغاية ( من جبال ) هذه لتبعيض هذه لماذا ؟ هذه لتبعيض ليس كُلها ينزل ( ن برد ) هذه لبيان النوع والجنس ما الذي ينزل ؟ البرد
الثالثة لبيان النوع والجنس والثانية لتبعيض والأولى لابتداء الغاية
( ويُنزل من السماء من جبال فيها من برد فيُصيب به من يشاء ويصرفهُ عن من يشاء ) يُصيب بماذا ؟ بالبرد بالمطر بالصواعق بكل ما يخرُج من البرق والرعد
( يكادُ سنا برقه يذهب بالأبصار )(8/109)
هُناك سنا وهُناك سناء بالهمز السناء يا بُني الرفعة والعلو المعنوي والحسي والسنا اللمعان والضوء والنور والمقصود به هُنا أيهما ؟ اللمعان والبرق والنور (يكادُ سنا برقه يذهب بالأبصار ) أحياناً تجتمع الكلمتان السنا المعنوي المقصود به الرفعة والمقصود به اللمعان فأما إجتماعهما فقد وردت في شعر ابن زيدون من ابن زيدون ؟ شاعر أندلُسي عاصر انتقال الحكم من بني أُمية إلى ملوك الطوائف وبنوا أمية أسسوا مُلكهم في الأندلس على يد من عبد الرحمن الداخل المُلقب بصقر قُريش من الذي لقبهُ بصقر قُريش عدوه أبو جعفر المنصور و هذا من إنصاف أبي جعفر هذا عبد الرحمن ابن الداخل استمر الحكم الأموي في الأندلس ثم انتقل من بني أُميه إلى ملوك الطوائف يعني إلى مُسلمين من غير ذُرية بني أُميه في تلك الفترة ظهر ابن زيدون أصبح وزيراً وهو في الثلاثين من عُمره شخصٌ يُصبح وزيراً في الثلاثين ينجُم عنه ماذا ؟ الحُساد تعلق بامرأة اسمها ولادة بنت المستكفي قال فيها أطيب شعره الذي يعنينا من شعره هُنا لأجل الشاهد في قوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) قال :
ودّع الصبر مُحبٌ ودّعك *** ذائعٌ من سره ما استودعك
يقرعُ السن على إن لم يكن *** زاد في تلك الخُطى إذ شيعك
يا أخ البدر سناءً وسناً *** رحم الله زماناً أطلعك
فقصد بأخ البدر ماذا ؟ البدر القمر وقصد بأخ البدر معشُوقته ، سناءً وسناً أي أنت مثل القمر في برقه ونوره ولمعانه ومثل البرق في علوه وارتفاعه [ واضح ]
الله هُنا يقول ( يكادُ سنا برقه ) والعامة تُلغز تقول ما الشيء الذي يُسمع ولا يُرى وما الشيء الذي يُرى ولا يُسمع فيقصدون بالذي يُسمع ولا يُرى الرعد و يقصدون بالذي يُرى ولا يُسمع البرق والعرب قد جرت عادتُها أنها تشيم ما معنى تشيم ؟ تنظُرُ في البرق تقولُ أين صوبه أين سينزل هذا العمل إذا أردت من أحدٍ أن يعملهُ تقول له شم ومُضارعهُ يشيم قال الأعشى :(8/110)
فقُلتُ لشرب في درنا وقد ثملوا *** شيمُوا وكيف يشيمُ الشاربُ الثملُ
يقول أنا مع مجموعة سُكارى فرأيتُ بارقً
هل يا ترى بارقاً عارضً قد بتُ أرقبة *** كأنما البرقُ في حافاته شُعلُ
فقال لمجموعته شيمُ أي أنظروا إلى هذا البرق إلى أين سيسقُط ثم يقول مُستنكراً على نفسه كيف يسألهم هذا السؤال قال وكيف يشيمُ الشارب الثملُ يعني من كان غلبه السُكر أنى له أن يشيم ويعرف مواطن البرق المقصود من هذا هذا في لُغة العرب واصطلاحها .
( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) أهمُ ما يجبُ أن تعرفهُ أن الألف واللام في قوله جلّ وعلا ( الأبصار ) لا م الحقيقة قد تكون هذه أول مرة تمرُّ عليك لام ماذا؟ لام الحقيقة ما ضُدها ؟ لام المجاز ما المعنى لماذا قُلنا لام حقيقة ولام مجاز ؟ نقول الله جلّ وعلا يا بُني قال في سورة البقرة ( يكاد البرق يَخطف أبصارهم كُلما أضاء لهم مشوا فيه ) فرقٌ تام ما بين الآيتين
الآية الأولى أراد الله بها ضرب مثل عن هؤلاء المنافقين الذين يسكنون مدينتك ويرون تنزل الآيات فلا ينتفعون بها [ واضح ] ولهذا قال ( يكاد البرق يَخطف أبصارهم) أضاف الأبصار إليهم وليس المقصود إلا إظهارُ عدم انتفاعهم بالكتاب والسنة هذه آية البقرة .
أما آية النور هُنا فالله يتكلم عن لام الحقيقة عن البصر الحقيقي الذي هو مُخاطبٌ به كل أحد فكلُ إنسانٍ إذا تأمل البرق ونظر فيه وأمعن وحدق يكاد سنا البرق أن يذهب ببصره ولم يذهب ببصره لأنها جاءت مُثبته يكاد قد مرت معنا فهي الآن تُعتبر في حُكم المنفية ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) ولهذا قُلنا أن هذه اللام لام الحقيقة(8/111)
ثم قال الله جلّ وعلا ( يُقلبُ الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار ) هذا من دلائل قُدرته وكمال صنعته جلّ وعلا أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل والله يقول في سورة آل عمران ( قُل اللهم مالك الملك تؤتي الملم من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزُ من تشاء وتُذل من تشاء بيدك الخير إنك على كُل شيء قدير تولجُ الليل في النهار و تولجُ النهار في الليل وتُخرجُ الحي من الميت وتُخرجُ الميت من الحي وترزُق من تشاءُ بغير حساب ) قال بعضُ السلف هذه الآيتان من آل عمران هي التي صدّر الله جلّ وعلا بها التوراة التي أعطاها موسى علية السلام ويقولون إن آخر آية في التوراة هي آخر آية في سورة الإسراء ( وقُل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريكٌ في الملك ولم يكن له وليٌ من الذل وكبره تكبيرا) يقول الله جلّ وعلا هُنا ( يُقلب الله الليل والنهار ) فما الليل والنهار إلا مطيتان وهما مسخرتان بأمر الرب تبارك وتعالى فلما ذكر الله جلّ وعلا قُدرتهُ على تقلبُهما وعلى أنه جلّ وعلا يجعلُ هذا حيناً أطولُ من الآخر والآخر أطول من الأول قال سُبحانه جل ّ وعلا بعد ذلك ( إن في ذلك ) أي في هذا الأمر الذي يحصلُ ويُرى ( لعبرة للأولي الأبصار ) والمؤمن حريٌ به أن يتأمل ما خلق الله جلّ وعلا من حوله حتى يقودهُ ذلك إلى معرفة ربه .
ثم قال ربُنا وهو أصدق القائلين ( والله خلق كُل دابة من ماء )(8/112)
كُل من يميز ومن لا يُميز ويمشي على الأرض يُسمى دابة . قال الله ( والله خلق كُل دابة من ماء ) أهم ما ينبغي أن يُعرف في الآية أن الحُجة العظيمة الأُولى التي أقامها الله جلّ وعلا على أهل الإشراك كونهُ جلّ وعلا خالق وما سواه مخلوق هذه أهمُ قضيةً ناقشها القرآن قال الله ( أفمن يخلُق كمن لا يخلُق ) وقال ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ) وقال ( هذا خلقُ الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ) وأراد الله من هذا كُله أ، يقول لهم إن العبادة ألحقه لا يستحقُها إلا من يخلُق فما دام أنه لا أحد يخلُق إلا الله فقطعيٌ أن يكون الأمرُ أن لا يُعبد أحدٌ بحق إلا الله . هذا الذي أرادهُ الله من إثبات قُدرة الخلق له حتى يُقيم الحُجة علة عبادة كيف تلتفتون إلى من لا يخلق وتعبدونهُ وتتركون من يخلُق وقد قال الله جلّ وعلا ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) هذه قالها في الحجر وقال العُلماء ( إلا بالحق ) أي لإثبات أن الله وحدهُ هو الخلاّق فبطبيعة الحال ينبغي أن لا يستحق العبادة إلا هو .
((8/113)
والله خلق كُل دابة من ماء ) قال في الأنبياء ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) الماء في الأنبياء اسم جنس أما الماء هُنا ليس اسم جنس ولهذا جاء نكرة . في الأنبياء كلن يتكلم عن جنس المخلوقات أما هُنا لم يتكلم عن جنس المخلوقات كان يُحدد ما هي المخلوقات ( والله خلق كُل دابة من ماء ) بدليل قوله بعدها ( فمنهم من يمشي على بطنه ) ومن تُستخدم للعاقل فكيف صوّر استخدامُها لغير العاقل أن الله جلّ وعلا تكلم عن الدواب والدواب يدخلُ فيها العاقل مثلُ بني آدم فغلب ، فبالتغليب أُدخل غير العاقل قال الله تعالى ( فمنهم من يمشي على بطنه ) مثل الحيايا ( ومنهم من يمشي على رجلين ) مثلُ بني آدم وبعضُ الحيوانات ( ومنهم من يمشي على أربع ) فيأتي للإنسان مباشرة العنكبوت والعقرب وكونها ليست على بطنها ولا على اثنتين وعلى أربع فتُجيبهُ الآية ( يخلُق الله ما يشاء )
كأن الله يقول لك بل هُناك غير العنكبوت والعقرب لم ترهُ عيناك لا يحتاج أن تستدل علينا بعنكبوت وعقرب لذلك فصل الله الخطاب أو الأمر بقوله ( يخلُق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير وهذا التذييل بقول ألعلي الكبير( إن الله على كل شيء قدير) مُناسب لقول الله جلّ وعلا (يخلُق الله ما يشاء ) .(8/114)
وهذه (يخلُق الله ما يشاء ) هي في ذاتها درسٌ قائمٌ بذاتة أن الإنسان تعترضُ تساؤلات وتكون له أماني ورغبات فيمنعه من دعاء الله أن يُحققها له استحالةُ أن تقع فمما يحلُ الإشكال اليقيني هُنا قول الله جلّ وعلا ( يخلُق الله ما يشاء ) وهذه حصلت في الصديقة مريم فإن الملائكة بشرتها بعيسى ابن مريم ولم تقل لها عيسى ابن فُلان فعرفت أنه سيأتي من غير زوج لأنها لو قالت عيسى ابن فُلان لعرفت أن الأمر بدهي ستتزوج هذا المذكور وتُنجب منه ولدً ( إذ قالت الملائكةُ يا مريم إن الله يُبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدُنيا والآخرة ومن المقربين ) فلما أرادة أن تعترض قالت ( ربِ أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) فعرفت أنه سيأتي من غير مساس لأنه لو كان سيأتي بمساس لنُسب الابنُ إلى أبيه فأجابها الله جلّ وعلا بقوله ( قال كذالك اللهِ يخلق ما يشاء ) ولهذا سُقناها هُنا في رد هذا الاعتراض الذي توهمته مريم عليها السلام فحين أن الله جلّ وعلا أجاب زكريا بغير هذا ( قال ربِ أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبرُ وامرأتي عاقر * قال كذالك الله يفعلُ ما يشاء ) لأن القضية في زكريا وجد السبب لكن وجد عارض لحق أحد السببين وهو كبر الوالد وكون المرأة عاقر فكان إزالة ذالك العارض فعبّر الله عنه بقوله( كذالك الله يفعلُ ما يشاء ) .(8/115)
أما هُنا فليس هُناك أصلاً سبب آخر قائم حتى نقول به عارضٌ يحتاجُ إلى أن يُزال وإنما لا يوجدُ سببٌ يُعينُ على الولادة على الإنجاب لانفصال أحد السببين فقال الله جلّ وعلا ( قال كذالك اللهِ يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كُن فيكون ) وأنت أيُها الأخُ في هذه الحلقة أو في غيرها تقف في عرفات وهو موطن إجابة تُصلي في الليل تسجُد وهو موضعُ إجابة تدخلُ أحد الحرمين وهي مواطن فاضلة تقف عند باب الكعبة وهو موطنٌ عظيم تمر عليك أوقات تُقدم فيها طاعات تشعرُ فيها بقربك من الله فأزدلف إلى الله جلّ وعلا قبل أن تسأله بكلامه ردد ما أخبر الله جلّ وعلا فيه أنه قادرٌ على كُل شيء قُل اللهم إنك قُلت وقولك الحق ( كذلك الله يخلُق ما يشاء )
،(8/116)
قُلت وقولك الحق ( إن الله على كُل شيء قدير ) ، قُلت وقولك الحق ( إنما أمرُنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كُن فيكون ) أنت الذي أرجعت يوسف إلى أبيه ورددت موسى على أُمه وجمعت ليعقوب بنية وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم أنت الله لا إله إلا أنت لا تُسألُ عما تفعل وهم يُسألون أنت الله لا إله إلا أنت تنزهة عن الصاحبة والولد تقدست فلم تلد ولم تولد تذكر هذه المعاني العظيمة التي حررها الله في كتابه و إلا لا معنى لأن تقرأ القرآن ثم لا تُطبقه تقول عائشة " كان النبي يتأول القرآن يقول في دُعائه يا برُّ يا رحيم قني عذاب السموم " مُستنبطٌ من القرآن ( إذا جاء نصرُ الله والفتح ) فكان يستغفر الله جلّ وعلا يأخُذها من الآية يتأول القرآن فالمقصود هذه المعاني العظيمة المقررة في قلبك أولاً وأخرا تستحضرُها ثم تقولها لأن الإنسان إذا كرر شيئاً يعتقدهُ بلسانه وأسمعهُ نفسهُ قلّما ألاّ يترُك هذا أثراً في قلبه فسيترُك هذا أثراً في قلبك وأثراً في عينك فإذا وصلت إلى مرحلة الإستكانة والانكسار والتذلل بين يدي الله هُناك أعرض على الله جلّ وعلا حاجتك وسلِ الرب تبارك وتعالى بُغيتك وألح عليها تبارك وتعالى في الطلب ثم أختم ذلك بعظيم حُسن ظنك وعظيم رغبتك في ما عند الله تبارك وتعالى فاذكر من أسمائه الحُسنى وصفاته العُلى ما يغلبُ على ظنك أنها مناسب بدُعائك حتى يكون ذلك أرفع لدعوتك وأسمع لصوتك والله جلّ وعلا بعد ذلك كُلهِ أرحمُ منك بنفسك وأقربُ إجابة ( إذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة ألداع إذا دعان ِ) .(8/117)
والمقصود من هذا أننا وأن كُنا نُحرر أحياناً مسائل علمية ونُعرج على أقوال النُحاة ونذكُر ما دونهُ الشُعراء لكن هذا إنما ندفعُ به سأم ويُطرد به ملل ويُقرب به بعيد و يتضحُ به معنى لكن الغاية الأولى من القرآن كُلهِ أن تلين قلوب العباد لربهم تبارك وتعالى ، أن يكون فيه موعظة ، أن يكون فيه مثاني تُحرك هذا القلب المسلم ، أن تكون فيه أشياء تجعلُ الإنسان قريبٌ من ربه ، تدفعهُ إلى الطاعة ، تُحجم به عن المعصية ، تُبين لهُ عظمة الله جلّ وعلا وجلالهُ ومن لم يهتدي بالقرآن فلن يهتدي بغيره قال الله ( ومن لم يجعلِ اللهِ لهُ نوراً فما لهُ من نور ) .
اللهم إنا نسألك نوراً نهتدي به ورزقاً حلالً طيباً مباركاً نكتفي به هذا ما تهيأ إيرادهُ وأعان اللهُ جلّ وعلا على قوله وصلى الله على مُحمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ...........
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي أظهر لنا من فضله وكرمه ووهبنا من آلاءه ونعمه وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله علية وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد
فما زلنا نرتعُ في رياض الجنة وأعظمُ مقاماتُ الدنيا قال أهل العلم مقام التدبر في كتاب الله جل وعلا والسورةُ التي نحنُ بصددها ما زالت سورة النور.(8/118)
لكننا كُنّا قد وقفنا عند قول الله جل وعلا ( لقد أنزلنا آيات مُبينات والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم ) وأُحبُ قبل أن أشرع وأبدأ بها أن أعود قليلاً إلى الآيات التي سلفت وكُنا قد جعلنا ذلك الدرس له حظٌ كبير من قضية الوعظ وهذا الأصل في القرآن فإن الله جل وعلا جعلهُ موعظة كما بين في كتابه لكن مرّ معنا قول الله جل وعلا ( ألم ترى أن الله يُجزي سحاباً ثمّ يؤلفُ بينه ثمّ يجعلهُ ركاماً فترى الودق يخرُج من خلاله ويُنزلُ من السماء من جبالٍ فيها من برد فيُصيب به من يشاء ويصرفهُ عن من يشاء يكادُ سنا برقه يذهبُ بالأبصار )(8/119)
الذي أُريدُ أن أقوله هُنا فيما لم أقولهُ من قبل هذه الآية من أعظم الآيات الدالة على قُدرة الله جل وعلا فالله جل وعلا ذكر مخلوقاً واحدا هو السحاب وضمنه أربعةً أضداد لا يُمكن أن تجتمع في مخلوقٍ واحد ولا يقدرُ على ذلك إلا الله ، فالسحابُ يكون منه الودق أي المطر الغيث وهو في كُل تحصيله ماء ، ويكون منه في نفس الوقت الصواعق التي تحرق وهي في تحصيلها جملة نار والماءُ والنار ضدان لا يجتمعان فجمعهُما الربُ في مخلوقٍ واحد وفي ذات الوقت الله جل وعلا يقول ثُمّ ( يجعلهُ ركاما) والسحابُ إذا تراكمَ وأطبق بعضهُ على بعض حجب نور القمر وضوء الكواكب وأصبحت الدُنيا ظُلمة ومع ذلك قرنهُ الله جل وعلا بالبرق قال سُبحانه ( يكادُ سنا برقه يذهبُ بالأبصار ) والبرق نور وضياء والنور والظُلمة لا يجتمعان فينجُم عن السحاب أربعةٌ أضداد : الماء والنار وهما ضدان ، والنور والظلمة وهما ضدان وهذا من دلائل قُدرة الله تبارك وتعالى والمؤمنُ إن كان موفقا ينظرُ إلى القرآن بمثل هذه الرؤية وإن كُنا ننهجُ في تفسيرنا تفسيراً موسوعياً ونُعرجُ على قضايا نحوية وبلاغية ومعرفية فهذا من باب أن يستفيد السامع والمُشاهدُ مما نقول وحتى تستقيم الطريقُ العلمية والمعرفية لكن قبل أن يُؤصل الإنسان نفسهُ معرفياً ليبُزّ أقرانهُ ويصل إلى مقصودة ، المقصود الأسمى أن تثبتُ القدم يوم العرض على الله ولن تثبُت القدم يوم العرض على الله إلا إذا مُلأت بموعظة وضياء القرآن فننظُر إلى القرآن نظر تدبُر وإيمان يستدلُ به العبدُ من خلال تدبُر الآيات على عظمة الواحد القهار جل جلاله فهذه الآيةُ كما حررنا من قبل من أعظم الآيات الدالة على عظيم قُدرة الرب جل وعلا .
ثُمّ نعودُ إلى ما كُنا قد وقفنا عنده قال ربُنا وهو أصدقُ القائلين
( لقد أنزلنا آياتٍ مُبينات والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم )(8/120)
لاحظ يا أُخي التتابعُ في الآيتين يقول الله (لقد أنزلنا آياتٍ ) ظاهره جليّة تُخبرُ عن عظمتنا وتدلُ على وحدانيتنا وتُرشدُ إلى عبادتنا وحتى لا يتعلق الناسُ بها . ماذا قال الربُ بعدها قال (والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم ) فليس النظرُ فقط في الآيات المُبينات والتدبرُ فيها كافٍ لماذا ؟ كافٍ للهداية فلا بُد مع التدبُر والنظر في هذه الآيات التي أُنزلت أن يُصاحب ذلك توفيقٌ من الرب جل وعلا ولهذا قال الله (والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم ) و قد مرّ معنا تحريرُ ذلك في أكثر من موقف.
ثُمّ قال الله جل وعلا
( ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثُم يتولى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين )
بقدر الله جل وعلا أراد الله أن تكون المدينة المُجتمع الإسلامي الأول أراد الله لها أن تكون تجمعُ أخلاطً عده ويُنظر حُكم رسول الله صلى الله علية وسلم وتفاعلهُ مع تلك الأخلاط حتى لا يكُننّ مُجتمعٌ بعد ذلك بمعزلٍ عن مُجتمع المدينة الأول فيحقُ لكُل أحد أن يتأسى بهدية علية الصلاة والسلام فالمدينة كانت زاخرةً أكثر الأمر بالمُهاجرين والأنصار أعظمُ الناس إيماناً وكان هناك من دونهم في الإيمان ليسُ منافقين لكنهم دونهم في الإيمان من الأعراب وبعض الصحابة وكان هناك مُنافقون يُظهرون ما لا يُبطنون وكان هناك يهود وكان هناك نصارى يؤون إليها كما حصل من نصارى نجران وكان هناك أعراب جُفاه ينظرون إلى مصالحهم وكان هناك دول تُحيطُ بها تتربصُ بها تُعبر عنها عن قبائل وأبعدُ منها فارس والروم وقد حصلَ بعضُ المنازعات مع الروم كما هو معلوم ، هذا المُجتمع قرأتهُ قرأه صحيحة من الكتاب والسنة والسيرة الصحيحة يُعينُ الإنسان في أي موئل أو منصب يصلُ إليه أن يعرف حُكم الله وحُكم رسوله صلى الله علية وسلم في الحدث .(8/121)
الآن هنا يُخبرُ الله جل وعلا عن طائفة من المُنافقين لكن الخبر هنا جُزئي يتعلق بالحكُومات والناسُ تحتكم في ثلاث أمور : في الفروج والدماء والأموال ولا يوجدُ حُكمٌ في غير هذا أي مسألة فيها قضايا بين الناس إما في أمولهم يتنازعون وإما في فروجهم وإما في دمائهم يقول بعضُ أهل التفسير إن مُنافقً يُقال له بشر اختصم مع يهودي فطلب اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله صلى الله علية وسلم فأبا بشرٌ هذا الذي هو في الأصل يدّعي الإيمان فأبى الاحتكام إلى رسول الله صلى الله علية وسلم و أرشد إلى كعب ابن الأشرف لعلمه أن النبي يقضي بالحق وهو يعلم أنه على الباطل قال الله عنهم ( ويقولون ) أي طائفة من المنافقين (أمنا بالله و بالرسول ) أي بألسنتهم ( وأطعنا ) ثم قال ( ثُمّ يتولى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين ) قال العلماء نفي الإيمان عنهم يدل على أن الإيمان لا يُقبل فقط من غير عمل لأن الله أثبت لهم أنهم قالوا الإيمان بألسنتهم ونفى عنهم العمل بقوله جل وعلا (ثُمّ يتولى فريقٌ منهم ) فقال بعد ذلك مُعقبا قال (وما أُولئك بالمؤمنين ) فالإيمانُ إيمانٌ بالقلب ونطقٌ باللسان وعملٌ بالأركان ، هذه الطائفة من المنافقين كانت تسكُن المدينة و الله جل وعلا من سُننه التمحيص فتأتي الطوارق والحوادث تتابع مرة على هيئة أفراد كما حصل مع قضية بشر ومرة على مستوى الأمة كما يحدث تكليف بالجهاد أو يحدثُ أمراً عام هذا يميز طائفة من طائفة وأحياناً أحداثٌ جزئية تُميز أفراداً عن أفراد ومع ذلك لم يأتي في القرآن اسم منافق واحد لأن القرآن أكبر من أن يتحدث عن أفراد فإذا تحدث عن أفراد إنما يتحدث عنهم لمصلحةٍ أرجح من كون إخفاءً فمريم مثلاً هي المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن لأنه حتى لا يقولنّ قائل في أن المقصود في النفي أن يكون إبناً لله ليس عيسى ابن مريم إنما شخصٌ آخر فذكره الله ـ أي عيسى ـ وذكر اسم أمه حتى لا يبقى تأويلُ ولا(8/122)
احتمالٌ يفزعُ إليه من يريد أن ينحى بالآية عما تقصده وهنا حديثٌ جزئي.
( ويقولون أمنا بالله و بالرسول وأطعنا ثُمّ يتولى فريقٌ منهم من بعد ذلك وما أُولئك بالمؤمنين ) من حيث الصناعة النحوية هذه ما الحجازية تعمل عمل ليس تنفي وعمل ليس وما مُتفق على أن كلاهما أداة نفي لكنّ الاختلاف في العمل ومعنى العمل الحرف أو الفعل له معنىً وله عمل فكلُ الحروف لها معنى إلا الحروف الأبجدية الجُزئية لا تُعرف إلا إذا اتصلت أما الحروف العادية كلها لها معنى لكن الخلاف هل هي عاملة أو مهملة لا تعمل ؟ فالحجازيون يُعملونها عمل ليسَ فترفع المبتدأ ويُسمى اسمها وتنصب الخبر ويُسمى خبرها ومن آية عملها أن يكون خبرها مُقترناً بالباء كما هو بين يديك ( وما أولئك بالمؤمنين ).
ثمّ قال ربُنا
( وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون )
كم إذا بين يديك الآن ؟ اثنتان الأولى يا بُني إذا الشرطية ، وإذا الأُخرى إذا الفُجائية . ما الرابط بينهما ؟ إذا الفُجائية يأتي ما بعدها فجأة ولهذا سُميت إذا الفُجائية والمعنى أن هؤلاء القوم إذا دعوا ليحكم الله ورسوله بينهم لا يقبلون هذا العرض قبول مُتأني مُتريث ثمّ يُصدرون حُكما . لكن لما انطوت عليه سرائرهم من بُغض الله وبُغض رسوله وعدم قبول الله وعدم قبول رسوله يفاجئونك مُباشرة بالجواب دون حتى أن تُكمل أنت عرضك إلا وهم قد بادروا بالجواب هذا المنزع البلاغي المقصود من الإتيان بإذا الفُجائية في هذا الموطن .
((8/123)
وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم ) قال بعضُ العلماء ليحكُم جاءت بصيغة الإفراد وقد دعوا إلى الله ورسوله ومعلومٌ مقرر أن الدعوة إلى الله دعوةٌ إلى كتابه والدعوة إلى الرسول دعوةٌ إلى سُنته ، لكن يُقال إن الدعوةٌ هنا الدعوة إلى حُكم رسول الله الميداني العملي وإنما ذُكر اسم الله قبل اسم رسوله تشريفاً ومباركةً قبل اسم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ( وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريقٌ منهم مُعرضون ).
ثمّ قال سُبحانه
( وإن يكُن لهم الحقُ يأتوا إليه مُذعنين )
الإذعان : الانقياد فلماذا يأتون عندما يكون لهم الحق يأتون لعلمهم أن النبي صلى الله علية وسلم سيقضي بالحق فإذا علموا أزلاً أنهم على الحق لم يجدوا بُداً من أن يذهبوا لرسول الله صلى الله علية وسلم ليأتوه وهذا إتباعُ هوى لا إتباعُ دين وقد يتلبسُ به بعضُ الناس من حيث لا يشُعر فيأتي إلى العالم يسأله يبتغي جواباً قد بيّته قبل أن يعرض سؤاله وهو يُريد أن يسمع جواباً يرتضيه ولا يُريد الحق هذا يحدُث في مسائل الحُكومات كما هو في الآية و يحدثُ في المسائل العامة .
ومن طرائف ما يُروى في هذا الباب أن رجلاً اختصم مع زوجته إلى الشعبي و الشعبي أحدُ رجال الصحيح يعني مُتفق عند جمهرة الناس على جلالته وتقواه وورعه وكان يقضي بين الناس فلما عرض الرجل وعرضت الزوجة خبرهما حكم الشعبي للمرأة لا للرجل فلما وجد الرجل أن الشعبي لم يحكُم إليه جعل ذلك مثلبةً في الشافعي قال :
فئُتن الشعبي لما رفع الطرف إليها ** سحرتهُ ببنانٍ و خِضابٍ في يديها
كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها ** لا جثا حتى تراهُ راكعً بين يديها(8/124)
هذه العبارات سرت في الناس والناس يفرحون بمثل هذه الأراجيز لأنها سهلة الحفظ وتُغطي أغراضاً اجتماعياً لديهم فانتشرت بين الناس فلما انتشرت قال الشعبي : والله ما حكمتُ إلا بالحق وما رفعت إليّ بنانً ولا خضاب ، والبنان رؤوس الأصابع ، و الخضاب كالحناء وأمثاله لكن الرجل لما شعر أنه مغلوب جعلها في القاضي فهذه صورة قبيحةٌ في الناس لكنها صورة مُتأصلة عند المنافقين قال الله جل وعلا ( وإن يكُن لهم الحقُ يأتوا إليه مُذعنين ) يأتوا إليه قُلنا مُهمٌّ جداً أن تعرف القيد أنهم يأتوا إليه لعلمهم أنهم على الحق لا ليقينهم أن النبي يحكم بالحق .
قال الله جل وعلا بعد ذلك في الآيات تُدّرج في أخلاقهم
( أفي قلوبهم مرضٌ أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله)
هذا الثلاث مُجتمعه فيها وليس المقصود تساؤل هل فيهم مرض ، هل فيهم ارتياب ، هل فيهم خوفً من حيث الله هذا غير مقصود إنما هذه الصفات الثلاث كلها موجودةٌ فيهم في قلوبهم علل ، أمراض ، شك وأعظم علتهم أنهم غيرُ موقنين أن رسول الله صلى الله علية وسلم رسولٌ من عند الله ونجم عن هذا ريب ونجم عن هذا الريب خوفهم من أن يجور النبي صلى الله علية وسلم عليهم لأنهم ماداموا غير مُقتنعين بنبوته فبدهيٌ أن يرموه علية الصلاة والسلام بالجور و الظُلم لأن ـ يعني ـ القول بأنه عدلٌ علية الصلاة والسلام تبعٌ على القول بأنه نبي وهم لا يقولون بنبوته أصلاً فبذلك لم يقولوا بعدله علية الصلاة والسلام لأنهم إذا كانوا مُقتنعين أنه كذب على الله فمن باب أولى أن يكذب على الناس لكن المهم أن الآية ليس المقصود منها إلا ذكر التدرُج في وصف أخلاقهم.
ثمّ أراد الله جل وعلا أن يقول قال
( بل أولئك هم الظالمون )(8/125)
والمعنى أن هذه الأخلاق جملة فيهم والتفصيل الدقيق في القضية ــ يعني بصورة مُبسطه ــ قد يكون في الإنسان عدة أمور: يحسدك ، بينك وبينه عداوة ، هو في الأصل كاذب ، فعندما يحيف عليك في أمر لا تدري لأي الثلاثة صنع بك ذلك الأمر هل حسداً أم للعداوة المتأججة أو لكذبه الذي أعتاد علية [ واضح ] لكن لا يعني نفي أحد هذه الثلاث الصفات لكن السؤال أين الباعث على هذا الأمر فجاء الجواب القرآني قال الله تعالى ( بل أولئك هم الظالمون ) نأتي لأمر قبل أن ننتقل إليها من باب الصناعة النحوية أم شبيهة العمل بأو فيقول أهل النحو إن بينهما منزِعاً دقيقاً تفصيلُ ذلك على ما يأتي :
ــ بين أو وأم ــ
إذا قدم قادم ترتقبهُ تؤمل أنّ أحدً يبعثُ لك أحد ً من طرفه يُشاركُك فرحُك سيبعثُ لك أخاه زيد أو أخاه عمر فأنت كُل الذي يهمك أو يأتي أحدهما لمُناسبتك فعندما يتأخرون وتغيب أنت عن الحفل لحظات وتعود تسأل تقول أجاء زيدٌ أو عمر ؟ وأنت لا تُريد أن تسأل من الذي جاء وإنما تُريد أن تسأل هل كان هُناك مجيءٌ أم لا ؟ فيكون الجواب هنا بماذا .. بنعم في حالة الإثبات ولا في حالة النفي ـ هذا في استخدام أو .
أما في استخدام أم فإنك على يقينٍ أنت أحدهما جاء لكنك لا تدري من الذي جاء فتقول أجاء زيدٌ أم عمر فيكون الجواب بحسبِ من جاء زيدٌ بحسب حالة إتيانه وعمرٌ إن كان هو الذي أتى [ واضح ] هذا المنزل الفارق ما بين أم وبين أو .(8/126)
هذه كُلها جاءت بعدها بل ، بل عند النحويين للإضراب ما معنى الإضراب ؟ الانتقال و الانتقال هذا أحياناً يكون استئناف كلام جديد وأحياناً تجمع بل ما بين الإضراب والإبطال ، ما بين ماذا وماذا ؟ ما بين الإضراب والإبطال فالإضراب مُتأصلٌ فيه أما الإبطال قد يقع وقد لا يقع ، ما معنى الإبطال ؟ أن تأتي فتنقل الجملة على أنها تستوعب إبطال الذي سبق ( وانطلق الملأُ منهم أن أمشوا و أصبروا على آلهتكم إن هذا لشيءٌ يُراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أأُنزل علية الذكر من بيننا ) كل الذي مضى كلام صناديد قُريش. قال الله ( بل هم في شكٍ من ذكري )
هذا انتقالٌ وماذا ؟ وإبطال لما قد مضى انتقال في الحديث لأن ( بل هم في شكٍ من ذكري ) كلام الله حُكمه وإبطال لما قد سلف من قولهم لكنها لا تأتي على كل حال للإبطالِ وتأتي على كل حالٍ للانتقال.
( بل أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا )
بديةً نحوياً تُلاحظ أن( قول) عليها فتحه قد تُستدرك تُسأل كيف يُنصب اسم كان وهي هنا ليست اسم كان ، خبرُها مقدم فإذا قررنا أن قول هنا خبر كان مُقدم كان لابد من الإجابة أين اسمُ كانَ من قواعد العلم إذا دفعت شيئاً تأتي ببديله وإذا أخذت شيء تضع عوضً عنه حتى تستقيم الأمور أما الترك والغفلة لا يصنعُ منك عالماً فقول خبر كان مُقدم ولذلك نُصبت وأما اسم كان فالمصدر المأول من أن وما دخلت عليه وهي قول الله جل وعلا ( أن يقولوا سمعنا وأطعنا )
أما من حيث الصناعة التفسيرية فإن الله لما ذكر حال أهل النفاق ذكر حال أهل الإيمان وهذا من سنن وأسلوب القرآن المُتكرر في أكثر من موضع ( إ نما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأُولئك هم المُفلحون )(8/127)
ما الفلاح ؟ الفلاح تحقق المرغوب ودفع المرهوب فالإنسان إذا حصل على ما يؤمل وزال عنه الذي يخشاه ويكره تحقق له الفلاح فالله جل وعلا ربط الفلاح وقيده بطاعته وطاعة رسوله صلى الله علية وسلم .
ثمّ قال بعد ذلك تذييلا
( ومن يُطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون )
هنا نُفصل هناك حقٌ لله وهناك حقٌ للرسول وهناك حق مُشترك بين الله ورسوله
أعيد
هناك حقٌ لله وهناك حقٌ للرسول وهناك حق مُشترك بين الله ورسوله
فالإيمان والطاعة حقٌ مُشترك لله ولرسوله ، والخشية والتقوى حقٌ لماذا ؟ حق ٌلله، والتوقير بهذا اللفظ حقٌ لمن ؟ حقٌ لرسول . فالله لا يُقال لحقه توقيرا يُقال أعظم من ذلك يُقال عرف فُلانٌ قدر ربه [ واضح ] أما كلمة توقير تُستخدم في أسلوب التعامل مع المخلوقين ( وتُعزّروه وتوقروه ) وتوقروه هذا حق لمن ؟ حقٌ لرسول فالله جل وعلا هنا قال ( ومن يُطع الله ورسوله ) هذا حقٌ مُشترك ثمّ بعد أن ذكر الحق المُشترك قال الحق الخاص له جل وعلا الذي لا يرقى إليه النبي صلى الله علية وسلم فقال ( ويخشى الله ويتقه )
التقوى مرّ معنا تعريفها كثيراً لكنها من حيث الجملة فعلُ المأمور وترك المحظور ، من حيثُ الجملة ما التقوى ؟ فعل المأمور وترك المحظور لكن هذا الإطلاق لا يبقى على حاله تُصبح معنى التقوى أحياناً ترك المحظور وتوقي عذاب الله متى نقول إن التقوى يُصبحُ معناها ترك المحظور وتوقي عذاب الله إذا جاءت مقرونةً قبلها بالبرّ والإحسان والطاعة تنصرف التقوى إلى ماذا ؟ إلى ترك المحظور كما في الآية ( ومن يخشى الله ويتقه ) هذا تخريج بعض العلماء .
وبعض العلماء يقول يخشى في مسألة بمعنى الخوف من التقصير فيما مضى والتقوى الخوف من التقصير فيما يُستقبل (فأولئك هم الفائزون ) عاد الحديثُ بعد ذلك بعد أن ذكر الله جل وعلا النماذج الإيمانية العظيمة عاد الحديث إلى المنافقين فقال سُبحانه
((8/128)
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لأن أمرتهم ليخرجنّ قُل لا تُقسموا طاعةٌ معروفه إن الله خبيرٌ بما تعملون )
من الذي أقسم المنافقين (جهد أيمانهم ) أي منتهى ما يبلغُنه من الحلف والأيمان ( لأن أمرتهم ) أيُها النبي ( ليُخرجنّ ) إذا قصصت عليهم وخصصتهم أو دعوتهم إلى قتالٍ عام أنهم سينفذون أجابهم الله ( قل ) الخطاب لمن ؟ لنبي وهذا يُسمى تلقينٌ إلهي لنبي وهذا أول التلقين من هذا النوع وسيأتي تلقينٌ آخر ( قُل أطيعوا الله ) ( قُل لا تُقسموا ) لا خلاف أن لا ناهية لكن ما المقصود بقوله جل وعلا ( لا تُقسموا ) هذا لا يتضح حتى يتضح ما بعدها
قال الله بعدها
( طاعةٌ معروفة )
إذا حُرر معناه يتحرر معنى قول الله جل وعلا ( لا تُقسموا ) قال بعضُ العلماء وهذا الذي علية الجمهور وهو الأظهر ونبدأُ به .
طاعةٌ معروفة أي أن لكم سوابق ونعلم من حالكم ونعرف من أخباركم ومع صنيعكم بنبينا صلى الله علية وسلم ما نعلم من خلاله بمُقتضى ما سبق منكم زيادة على مُقتضى علم الله الأزلي أن طاعتكم معروفة فليس منكم إلا الخُذلان والترك وعدمُ الاستجابة لأمر الله ورسوله فيصبح بعد هذا التحرير معنى قول الله جل وعلا ( لا تقسموا ) أي لا حُرمة لقسمكم لا داعي له ولا يتعلق به حرمه لأن طاعتكم معروفه لها سوابق من قبل . هذا التحرير الأول للمسأله .
التحرير الثاني : أن تُصبح طاعةٌ معروفه مبتدأٌ محذوف الخبر ما تقديرُ خبره يُصبح تقدير الخبر طاعةٌ معروفه أولى من الأيمان يعني لا حاجة لأن تُقسموا فلا يُصبح تهكُم مثل الأول ، الأول يجري مجرى التهكم هنا لا يُصبح مجرى التهكم إذا قلنا بهذا المعنى يُصبح المعنى لا داعي للأيمان لا نُريدُ منك أيمانً مُغلظة و لا جهد أيمان نُريدُ منكم أن تُظهروا طاعةً عمليه تُثبت بها صدق اتبعكم لنبيكم صلى الله علية وسلم.(8/129)
هذا المعنى يتحرر علية معنى أخر وهو كلمة معروفه من أين مُشتقه من العلم أو من العرف ؟ من ماذا أو ماذا ، من العلم أو من العُرف ؟ إذا قُلنا من العلم فيُصبح المعنى طاعةٌ معروفه أي طاعةٌ معلومةٌ ظاهرةٌ بينه تُثبتُ لنا صدق توجههم وأما إذ قُلنا من العرف فالمعنى أن الله جل وعلا لا يُريدُ منكم إلا شيءً معروفاً تعارف الناسُ علية أي أمراً يسيراً هيناً لا يُريدُ منكم أيماناً مُغلظة ومنه قول الله جل وعلا ( ولا يعصينك في معروف )
( قُل لا تُقسموا طاعةٌ معروفه إن الله خبيرٌ بما تعملون ) ونُرجح أن المقصود الأول مما ذكرناه .
ثمّ قال سُبحانه
( قُل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول )
هذا التلقين الثاني من الله لنبيه
( فإن تولوا فإنما عليه ما حُمّل وعليكم ما حُمّلتم وإن تُطيعوه تهتدوا )
وهذه أسلوب شرط فربط الله الهداية بماذا ؟ بالطاعة ، ربط الله الهداية بالطاعة وقد قُلنا مراراً في درسنا هذا وفي غيره إن السيادة دُنيويأ لأهل الملة مُرتبطة بإتباع النبي صلى الله علية وسلم فأبو بكر وعمر وعُثمان وعلي وخالد وصلاح و غيرهما مجاهيل في الأصل وإنما سادوا لما منّ الله عليهم بإتباع نبيه صلى الله علية وسلم
فمن أبو بكر قبل الوحي من عُمر ** ومن عليٌ ومن عُثمان ذو الرحمِ
من خالدٌ من صلاح الدين قبلك من ** أنت الإمامُ لأهل الفضلِ كلهم ِ
وهذا رددناها مراراً لكن الحاجة تتأكدُ إليها أيُ سيادة دينيه إنما هي مقرونة بإتباع هدية صلى الله علية وسلم قال ابن القيم رحمه الله في نونيته :
وكمالُ شرع الله دينُ محمدٍ *** صلى علية مُنزل القرآنِ
[ واضح]
( وإن تطيعوه تهتدوا ) ثم قال ( وما على الرسول إلا البلاغُ المُبين )(8/130)
واكبرُ دليل أنه ليس على الرسول إلا البلاغُ المُبين أن الله قال له قبل قليل ( قُل أطيعوا الله الرسول ) فهو علية الصلاة والسلام مُبلغ ولما كان علية الصلاة والسلام يعلم أنه مُبلغ لما شعر بدنو الأجل وقُرب الرحيل كان لا همّ له إلا أن يتأكد هل أدى الأمانة وبلغ أم لم يؤدها ولم يُبلغ فاستشهد الناس بيوم عرفه " ألا هل بلغت " فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم ونعم الشاهدون هم قالوا { نشهدُ أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة } .
( وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليُبدلنّم من بعد خوفهم أمناً )
هذه قبل أن أشرع في القضايا التاريخية أُحرر بعض المسائل العلمية المُباشرة(8/131)
ما المقصود بالأرض هنا؟ ( ليستخلفنهم في الأرض ) قال بعضُ العلماء إن المقصود بالأرض هُنا مكة لأن المُهاجرين أُخرجوا منها فكانوا يسألون الله إياها وقد تم فتحُ مكة فتحقق الوعدُ الرباني . هذا قول لطائفة من العلماء ( ليُمكننّ دينهُم الذي ارتضى لهم ) قبلها (ليستخلفنهم في الأرض ) فقالوا إن المقصود مكة (كما استخلف الذين من قبلهم ) أي بنو إسرائيل و لا خلاف في أن الذين من قبلهم هم بني إسرائيل لكن الخلاف أين الأرض ؟ وذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بالأرض هنا عموم الأرض أرضُ العرب وأرض العجم بل قالوا أن مكة بعيده وأجابوا لماذا قالوا إن مكة بعيده قالوا إن الأصل إن الله منع المُهاجرين أن يعودوا إلى أين ؟ إلى مكة وأين الدليلُ من السنة أن الله جل وعلا منع المُهاجرين أن يعودوا إلى مكة أن سعد ابن أبي وقاص لما مرض في عام الفتح زارهُ النبي صلى الله علية وسلم وكان يخشى سعدٌ أن يموت في مكة وقد هاجر منها فقال صلى الله علية وسلم " اللهم أمضي لأصحابي هجرتهم ، ثمّ قال لكنّ البائس سعدُ ابن خوله " جاء في تعقيب الراوي يرثي له صلى الله علية وسلم أنه مات بمكة ، سعد ابن خوله غير سعد ابن أبي وقاص فهذا دليلٌ على أنها ليس مقصود مكة وهذا القول رجّحهُ ابن العربي ومال إليه القُرطبُي رحمه الله في تفسيره هذا مدخلٌ للموضوع .(8/132)
من الموعود في الآية ؟ ذهب بعضُ العلماء إلى أن الموعود بالآية هم المُهاجرون الأولون وقالوا إن الآية أول ما تنطبق على الأربعة الراشدين الصديق ، والفاروق ، وعُثمان ، وعلي لأن هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا مغلوبين فأصبحوا غالبين وكانوا مقهورين فأصبحوا قاهرين وكانوا مطلوبين فأصبحوا طالبين وحقق الله لهم الوعد ويوم نزلت هذه الآية المباركة لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي أحدٌ منهم خليفة هذا وعد وإنما كانوا من المهاجرين الأولين يخافون فلما منّ الله عليهم بعد ذلك كُلهم هؤلاء الأربع الراشدون نالوا الخلافة ومكن الله جل وعلا لهم في الأرض وقد أخبر النبي صلى الله علية وسلم أن الخلاقة بعدهُ ثلاثون عاما ثُمّ تكون مُلكً عضوضا فمُعاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه أول مُلوك المسلمين أما الأربعة الراشدون فمُتفق على أنهم أبو بكر وعمر وعُثمان وعلي لكننا نقول أن هؤلاء الأربعة وإن دخلوا دخولاً أولياً في معنى الآية كما تحرر في التأصيل العلمي في دخول ذوات الأسباب نقول هُنا لكن المُخاطب بها كُل مؤمن .
لكننا إذا نزلّنا الآية على أصلنا يجبُ أن نعلم أن الله ربط العزة والقوة والظهور بالإيمان وعمل الصالحات ولم يربطها بالأعداء فبعضُ الناس اليوم يقول يتمنى أن يُهلك الله أعدائنا وهذا من حيثُ الجملة لا حرج فيه لكن ليس رِفعةُ شئننا مردُها إلى قوة عدونا ليس ضعفُنا اليوم مرده إلى قوة عدونا ولكن لبُعدنا عن الإيمان والعمل الصالح .(8/133)
ومن الطرائف السياسية يقولون إن أحد رؤساء أمريكا الجنوبية سُؤل لماذا أنتم مُتخلفون قال لسببين ؟ لقُربنا من أمريكا وبُعدنا عن الله ــ طبعاً بُعدنا عن الله وفق المنظور المسيحي ــ الذي يعنينا أن ليس الهم أن يذهب جُهدنا في الدُعاء على الأعداء بالهلاك وإنما الهم يجبُ أن ينصرف في أن نبني الأُمة بناءً صحيحاً فإذا بُنيت الأُمة بناءً صحيحا مهما بلغت قوة العدو فإن الله وعدنا بالنصر والتمكين والاستخلاف لكنه قرنه جل وعلا بقوله ( وعد الله الذين ءامنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) فالصحابة الأولون السابقون المهاجرون لما آمنوا و عملوا الصالحات مكنّ الله جل وعلا لهم
في الأرض (وليُبدلنّم من بعد خوفهم أمناً )
وهذا حصل لهم كُلهم رضي الله عنهم وأرضاهم ( يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً ) فإقامة التوحيد أعظمُ مقاصد الدين. ثم قرنها الله جل وعلا بالآيات ( وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم تُرحمون ) فأعظم أسباب الرحمة دلّ عليها القرآن منها : الإستغفار كما في سورة النمل ، ومنها التوحيد وهو أعظمُها ، ومنها العملُ الصالح كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .
وقبل أن أعود لقضية التاريخ وأُكمل ما تبقى من آيات
( لا تحسبنّ الذين كفروا مُعجزين في الأرض ومأواهمُ النارُ و لبئسَ المصيرُ )(8/134)
وهذا إستدركٌ ربانيٌ عظيم فإن الإنسان وهو يقرأُ الآيات يُقلب الطرف فيما يراه من حوله من بعض الأُمم فالله جل وعلا يُطمئنك ويُخبرك ويقول لك لا يُصيبنك جزعٌ ولا شكٌ ولا ارتيابٌ في دينك أن ترى علّو أهل الكُفر وأن يكون لهم أيامٌ ودول وهم مهما علو وقهروا ليس بمعجزين لرب تبارك وتعالى ويكفيهم بؤسا أن مصيرهم إلى جهنم قال الله تعالى (ومأواهمُ النارُ و لبئسَ المصيرُ ) نختم بأنهُ ينبغي للمؤمن خاصةً من يتصدر لطلب العلم أن يُدرك التاريخ العلم لأُمته وأن يكون لديه إلمام شامل لهذا الوعد الرباني والناس اليوم ما بين حاضرٍ مشهود ووعدٍ منشود ـ أو بتعبير أصح ـ غيب منشود يرتقبونه وهو علو المسلم وواقعٌ مشهود وهو ما فيه الأُمة من ضعف .(8/135)
هذه الأُمة مات النبي صلى الله علية وسلم والصحيح أنه لم يستخلف فاتفقت كلمة المُهاجرين والأنصار على الصديق رضي الله عنه و أرضاه فساس الأُمة عامين وأكثر قليلاً واستخلف بعدهُ عُمر فساس عمر الأُمة وفي عهده تمت الكثيرُ من الفتوحات ثم مات رضي الله عنه وأرضاه فأوصى أن تُجعل الخلافة في ستة وأشرك معهم عبد الله ابن عمر على ألا يكون له في الأمر شيء من هيئة التعزية لأبنه لأنه كان أكبر أبنائه هؤلاء الستة انتهى أمرهم إلى عُثمان قُتل عثمان غدراً دون أن يستخلف فأهلُ الحل والعقد في المدينة استخلفوا علياً ثم قُتل عليٌ رضي الله تعالى عنه على يد الخوارج تنازل الحسنُ ابن عليٌ رضي الله عنه بعد ذلك عن الخلافة لمعاوية فاجتمعت كلمة المسلمين على إمام واحد وهو معاوية رضي الله عنه وأرضاه فأسس معاوية المُلك الأموي وقد مرّ معنا أنه أول مُلوك المسلمين في عهده تمت كثير من الفتوحات جاء بعدهُ ابنه يزيد ابن معاوية ثم معاوية ابن يزيد ولم يكن له رغبة في الخلافة ثم استُخلف مروان ابن الحكم لما استُخلف مروان قُتل بعد ذلك على يد زوجته فتفرق البت الأموي بعده آل الأمر إلى أبنه عبد الملك والساسة والمؤرخون يعدونه المؤسس الثاني لدولة بني أُمية في ولاية عبد الملك انتقلت الخلافة من الفرع السُفياني إلى الفرع المرواني ومعنى انتقلت الخلافة من الفرع السُفياني إلى الفرع المرواني أن يزيد ومعاوية ابن يزيد ينتسبان إلى مُعاوية رضي الله تعالى عنه ابن أبي سُفيان الذي هو من بني أُمية أما مروان ابن الحكم فليس من ذُرية أبي سُفيان لكنه من ذُرية أُميه ابن عبد شمس هؤلاء وصلوا الخلافة إلى عبد الملك فرأى أنه يبول في محراب رسول الله صلى الله علية وسلم فعرض رؤياه على سعيد ابن المُسيب فأولها أن أربعة من أبنائه يحكمون فحكم بعده الوليد وسُليمان ثم انقطعت خلافته في النسب لولاية عمر ابن عبد العزيز ابنُ أخيه ثم عادت الخلافةُ إلى نسبه رجعت إلى يزيد(8/136)
ثم هشام ثم تتابعت دولةُ بني أُمية إلى تلك الفترة اضطهد الأمويون الموالي واضطهدوا آل البيت كثيراً فنشأ حنق في الناس عليهم وبالذات الموالي الذين دخلوا في الدين وكان منهم علماء وكان أكثرهم يسكن في خرسان فلجأت الدعوة إلى ما يُسمى من غير تحديد إلى الرضا من أهل البيت عموماً فقويت الدولة في خُرسان وخرج أبو مسلم الخرساني داعية لبني العباس في عهد مروان ابن محمد الملقّب بالحمار لصبره كان أخر خلفاء بني أُمية سقطت دولة ُ بني أُمية وقامت بعده دولة بنو العباس وأول خلفائهم أبو العباس السفاح ثم كانت خلاقة أبي جعفر المنصور والعباسيون يتفاولون بهذا اللقب بهذه الكنية كنية أبو جعفر فأكثر خلفاء بني العباس يُسمي ابنه الأكبر جعفر تيمُناً بأن أبا جعفر كان له صولة و جولة في خلافة بني العباس المقصود من هذا التاريخ الإسلامي.(8/137)
ثم تولى الكثيرُ منهم هارون قبلهُ الهادي والمهدي ثم هارون نشأ من هارون ذُرية الأمين والمأمون والمعتصم ثم انحصرت الخلافة انحصرت في ذُرية المعتصم ثم سقطت دولة بني العباس في أواسط القرن السابع ثم بعد ذلك ظهرت دول دولة المماليك كانت معاصرة تقريباُ لدولة بني العباس في أخرها في مصر و أصلهم كانوا أرقاء ثم اعتقوا ثم سادوا ولهم قضايا عديدة مع العز ابن عبد السلام ولهذا سُمي العز ابن عبد السلام سُلطان العلماء لوقوفه في بعض القضايا الفقهية المتعلقة بحكم المماليك ثم كانت دولة آل عثمان واستمرت قروناً على الشق الآخر في الأندلس خرج عبد الرحمن ابن معاوية المعروف بعبد الرحمن الداخل وهو من بني اُمية فرّ هارباً من الاضطهاد الذي أصاب بني أُمية على يد بني العباس وهناك أسس دولة إسلامية في الأندلس مكثت هذه الدولة قروناً طويلة ثم انتقلت من حكم الأموين إلى حكم ملوك الطوائف كما تكلمنا عنها في قضية ابن زيدون ثم ضعُفت دولة بني عثمان وظهر الغرب وجاءت حروب عده من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية ثم هؤلاء تسلطوا على دول الإسلام بعد أسقطت الخلافة على يد الأتراك أنفُسهم على يد كمال التتُرك الملقب بأبي الأتراك فسقطت الدولة حصلت مُعاهده تُسمى سايسبيكوا مُصطلح لوزيرين خارجيتين لدول الكُبرى تقاسموا العالم الإسلامي ثم منّ الله جل وعلا على هذه الجزيرة ظهر الملك عبد العزيز رحمة الله تعالى علية أعاد مُلكً سابقً لأجداده دعوة الإمامين محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن سعود هذا مُجمل تاريخ العالم الإسلامي.(8/138)
في فلسطين كانت معروفة تحت الاحتلال البريطاني ثم حصل كلمة خرجت من فم عمداً وزير الخارجية يًُقال له بلفور أن يُمكنّ لليهود في فلسطين فحصل ما حصل من قيام دولة إسرائيل أُقيمت دولة إسرائيل أو ظهرت عام 1948 م ثم دخلت الضفة الغربية وقطاع غزة والقُدس عام 67 الحرب المعروفة بنكسة حُزيران والأحوال المُعاصرة لا يحتاج الكلام عنها لأنها مشهودة معروفه لديكم هذا تاريخ الدولة الإسلامية من حيث الجملة .
الاستخلاف الرباني مربوط بالإيمان والعمل الصالح لكن ليس مربوط بتقوى خليفة أو تقوى عامة وإنما من تقوى الجملة أن تعود الأُمة من حيث الجُملة إلى دينها هذا الآن السبب الأول والرئيس في نُصرتها وعزها.
وعد النبي صلى الله علية وسلم أخبر بظهور المهدي فالضُعفاء من الناس ركنوا إلى ظهور المهدي ورضوا بالذُل ينتظرون أن يخُرج المهدي والمهدي لن يكون أقوى شكيمة ولا أشد علماً من رسول الله صلى الله علية وسلم ورسول بنى الأُمة في ثلاثة وعشرين عاماً فلا يُعقل أن يبنيها المهديُ في ليلة فالسعيُ والعمل و الحثّ في سبيل نُصرة الأمة أمرٌ دلّ علية القرآن ودلّ علية السُنة ونحنُ بين أيدينا آية فيها وعدٌ ربانيٌ بالاستخلاف فهي وإن كانت وعداً إلا أنه لا ينجمُ عنه أن نركن إلى الخمول بل الوعدُ يجبُ أن يحُث على العمل مثله تماماً في الآخرة وعدنا الله الجنة فهذا حتى يحُثنا ربُنا على أن نعمل من أجلِ أن نصل إلى الجنة .
نسأل الله أن يُقر أعيُننا وأعيُنكم بالاثنتين تحقيق وعد الاستخلاف في الأرض و وعد دخول الجنة هذا والله تعالى أعزُ وأعلى وأعلم وصلى الله على محمدٍ وعلى آله والحمدُ لله رب العالمين ...........(8/139)
..:: الروح و الجسد ::..
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد مالعباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد :
فموضوع حلقه هذا اليوم من برنامجنا مجمع البحرين"الروح والجسد" على أننا نقصر الحديث في الحديث عنهما عن روح وجسد بني آدم ولا نعرض لغيرهما من الكائنات الحية فنقول وبالله التوفيق إن الله تبارك وتعالى هو خالق الروح وهو خالق الجسد بل هو جل وعلا خالق كل شيء كما قال سبحانه ذلك في كتابه العظيم { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ومما خلقه الله جل وعلا أرواحنا وأجسادنا والروح والجسد الكلام فيهما والحديث عنهما حديث ذو شجون بداية نقول إن كلمة الروح: في القرآن يطلق على أشياء كثيرة لكنها إذا أطلقت وعرفت إنما يراد بها ماء يمتزج مع الجسد ويشكل منه النفس الإنسانية فإن الروح وهو بداخل الجسد كما سيأتي تفصيله لا يقال لها روح وإنما يقال لها جسد قال الله جل وعلا { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } هذا إجماعا على أن المقصود به جبريل عليه السلام وقال جل وعلا { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ } وإنما المقصود به ما فيه حياة الناس وهو الإسلام أو القرآن على أحد التفسيرين.(9/1)
ـ أما الروح التي هي مرتبطة بالجسد: وهو التي نحن معنيون بالحديث عنها الآن هي الروح التي لا يدري أحد كنه ذلك عنها شيئا إلا الله تبارك وتعالى قال الله جل وعلا { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[الإسراء : 85] يقول العلماء من المفسرين عند تفسير هذه الآية إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة مر على ملأ من يهود ومعه عبد الله بن مسعود فقال بعضهم لبعض أي اليهود سلوه لا تسألوه سلوه ترددوا ثم قالوا يا أبا القاسم مالروح ؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل قال عبد الله بن مسعود فعلمت أنه يوحى إليه ثم تلا عليهم قول الله جل وعلا في سورة الإسراء{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء : 85] فجاء الجواب القرآني أن علم الروح أمر كنه الروح أمر اختص الله جل وعلا به فرده تبارك وتعالى إلى علم ذاته العلية ولم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا وإلى اليوم رغم التقدم العلمي كما هو معلوم لكل أحد إلا أن كنه هذه الروح لا يعلم عنه شيء ، نقول :(9/2)
ـ أما الجسد: فإنه ذلك التكوين البدني الذي يحمله بني آدم كله على اختلاف في هيئه ذلك الجسد من الطول والقصر وما إلى ذلك لكن لفظ الجسد في القرآن إذا أطلق الله جل وعلا الكلام عن البدن مقرون بالروح فإنه لغة القرآن تسميه جسم وإن كان معزولا عن الروح لا روح فيه فإنه لغة القرآن تسميه جسد وبيان هذا أن الله جل وعلا ذكر طالوت فلما تكلم الله جل وعلا عنه قال {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } ولم يقل بسطة في العلم والجسد وإنما قال في الجسم لأنه يتكلم عن جسد مقرون بالروح فعبر عنه في لغة القرآن بالجسم وقال الله جل وعلا عن المنافقين {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} فعبر الله جل وعلا عن أجسام هؤلاء المنافقين بالجسم ولم يقل أجساد لأنها آنذاك ممزوجة بالروح في حين أنه جل وعلا لما ذكر الإله المصنوع المفترى الذي صنعه السامري لقوم موسى قال الله جل وعلا {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } فعبر عنه بكلمه جسد لأنه لا روح فيه وقال الله جل وعلا عن النبيين في معرض نفي أن لا يكونوا بلا أرواح قال : {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [الأنبياء : 8] والمقصود من هذا كله أن لغة القرآن تفرق ما بين الجسد والجسم باعتبار اتصالها بالروح أو عدم اتصالها بالروح كذلك الروح إذا اتصلت بالجسد لا يقال لها روح الروح إذا اتصلت بالجسد فلغة القرآن تسميها نفس فإذا انفصلت الروح عن الجسد تسمى روح وقد أسند الله لهذه النفس القول {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أسند الله إليها العلم{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} والإنسان يتكون من جسد وروح إذا مزجت روحه بجسده تسمى نفس تسمى نفس وهذه النفس هي التي أقسم الله جل وعلا بها وقال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا(9/3)
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }[الشمس : 7] وتعبدنا الله جل وعلا بتزكيتها.
ـ أيهما أسبق خلقا الروح أم الجسد ؟
بالنسبة لأبينا آدم جسده قبل روحه بالنسبة لأبينا آدم جسده خلق قبل روحه أما بالنسبة لنا فإن أرواحنا خلقت قبل أجسادنا وبيان ذلك أن الله جل وعلا خلق آدم كما مر معنا في برنامج سابق كان عنوانه آدم وحواء أن الله جل وعلا خلق أبانا آدم من قبضة قبضت من الأرض خلق جسدا ثم بعد أن خلق جسدا عليه السلام نفخ الله جل وعلا فيه من روحه بعد أن نفخ الله جل وعلا فيه من روحه امتزجت تلك الروح التي خلقها الله في جسد آدم فأصبح آدم كائنا حيا ينطق خلق منه بعد ذلك منه زوجته وأدخل الجنة كما هو معلوم الذي يعنينا أن خلق آدم كجسد مقدم على خلقه كروح أما بالنسبة لنا معشر بني آدم فإن أرواحنا خلقت قبل أجسادنا ذلك أن أجسادنا إنما خلقت ونحن أجنة في بطون أمهاتنا أما أرواحنا فقد خلقت من قبل والله جل وعلا مسح على ظهر آدم فأخرج من ظهر آدم كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة كما في الحديث فرأى في أحدهم وبيصا من نور بين عينيه فكان هذا داود كما سيأتي في الحديث إن شاء الله تعالى عن داود وسليمان الذي يعنينا الله جل وعلا يدل ظاهر القرآن على أنه أخذ العهد والميثاق من بني آدم وهم في عالم الأرواح ويدل عليه قول الله جل وعلا {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } .(9/4)
ـ فبعض أهل العلم يقول: إن هذا العهد والميثاق الذي أخذه الله جل وعلا من بني آدم في عالم الأرواح الأول ألقن في الحجر أي الحجر الأسود ولذلك شرع وهذا من الآثار المنقولة أن الإنسان يقول عند طوافه بالبيت {اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك} فالعلماء بعضهم يقول إن هذا راجع إلى ذلك العهد الذي قطعه بنو آدم على أنفسهم يوم خلقهم الله جل وعلا في عالم الأرواح ثم يكملون الحديث فيقولون إن هذا الحجر كما يدل صحيح السنة له يوم القيامة لسانا ينطق به فيشهد بمن استلمه بصدق وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم والجمع مابين الحديث الصحيح والآثار المنقولة وآيات الكتاب جمع هذه المادة العلمية بعضها إلى بعض يجعلنا نقرب إلى أن نقول إن هذا ممكن أن يكون حقا كله ولا نجزم به لعدم وجود دليلا صريحا صحيحا في ذات الموضوع لكن هذه من النقول التي تقبلها النفس لوجود كثير من الأدلة التي تعضدها من هنا وهناك من كتاب أو سنة أو أثر عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.(9/5)
ـ يأتي ثمة إشكال: هنا يقول النصارى دائما إن من حججهم على أن عيسى ابن الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا يقولون إن الله قال في قرءانكم {وَرُوحٌ مِّنْهُ} لما تكلم عن عيسى جل وعلا قال { وَرُوحٌ مِّنْهُ} ومنه الهاء في منه عائدة إلى رب الجلالة من أحسن الأجوبة هنا أن يقال إن الله لما خلق آدم في عالم الأرواح الأول وخلقنا في عالم الأرواح الأول وأخرجنا من ظهر أبينا ورآنا أبونا آدم بين يديه فينا الصحيح والمعافى والمبتلى فقال أي رب لوسويت بين عبادك قال الله جل وعلا { أحب أن أشكر } المقصود الأجوبة على هذا السؤال الذي طرحه النصارى أن يقال : إن الله رد هذه الأرواح في ظهر آدم ليكون منه بعد ذلك الذرية إلا روح عيسى عليه السلام استبقاها الله جل وعلا عنده ثم إن الله أعطى هذه الروح أي روح عيسى أعطاها جبريل لينفخ بها في درع أو في جيب درع مريم عليها السلام ليكون بعد ذلك حملها وولادتها لعيسى ابن مريم فيصبح يقطع بهذا القول الطريق على النصارى في قولهم أن المسيح ابن الله وإن كان الطريق مقطوع بذاته لأن الله قال عنهم {إ نَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران : 59] وافتراء النصارى ولو غيرهم من الأمم على الله الولد من أعظم الفرية وهذا نزه الله جل وعلا ذاته العلية عنه قال تبارك وتعالى { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً* لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً *إن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً } فالخلق جميعا عبيد له تبارك وتعالى والله جل وعلا مستغن عن كل أحد منزه عن الصاحبة والولد مقدس لم يلد ولم يولد تبارك(9/6)
وتعالى .
ـ نعود للحديث عن الجسد والروح وإنما استطرادنا فيه للحديث على أن هذا من الأجوبة التي نراها مستحسنة والعلم عند الله في القطع على النصارى بعض حججهم في زعمهم أن المسيح ابن الله فنقول أما اتصال الأجساد بالأرواح فإن الله جل وعلا كتب للجسد أن ينشأ أولا قبل الروح ونحن أجنة في بطون أمهاتنا فالنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي عبدالرحمن عبدالله ابن مسعود بين أن الإنسان يكون في بطن أمه أربعين يوما نطفة وأربعين يوما علقة وأربعين يوما مضغة ثم يأتيه ملك فينفخ فيه الروح التي هي مخلوقة من قبل فإذا اتصلت الروح بالجسد دبت الحياة في ذلك الجنين فيتحرك فتشعر به الأم وهي حامل فإذا اشتملت الروح بالجسد أصبح ماذا ؟ أصبح نفس ولا يقال لها روح فهذه النفس الإنسانية وإن كانت جنينا في بطن الأم فإنها نفس معصومة لا يجوز قتلها بأي حال كان نفس معصومة لا يجوز قتلها بأي سبب كان فنقول هذه النفس المعصومة يختلط فيها الروح بالبدن فتصبح نفسا يحصل نوع من الامتزاج حتى يخرج الإنسان من بطن أمه قال الله جل وعلا { ُثمَّّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 14] ثم يمكث الإنسان ماشاء الله له أن يمكث في هذه الحياة هذا يطول عمره وهذا يقصر أي كان الأمر طال العمر أم قصر فإن هناك امتزاجا مابين الروح والجسد الذي اصطلحنا على تسميته نفس.
ـ ومن الأدلة على أن تسميته نفس: قلنا قول الله جل وعلا { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وأمر الله جل وعلا لعباده بأن يزكوا أنفسهم.(9/7)
ـ أما الأدلة على أنها إذا صعدت تسمى روح: فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أحد أصحابه وقد توفي وهو عثمان بن مظعون فأغمض بصره أي النبي أغمض بصر عثمان ثم قال لمن حوله من أهل الدار إن الروح إذا صعد يتبعه البصر فسماها صلى الله عليه وسلم روحا ولم يسمها نفسا لانفصالها من الروح ولهذا هذه الروح لا يختارها الإنسان وإنما تمتزج ببدنه والله جل وعلا خلق الأرواح كما قلنا ثم يأتي الملك فينفخ الروح في الجسد ولهذا في قصيدة فلسفية لابن سينا وهو الطبيب المعروف يقول:
هبطت إليك من المحل الأرفع ***و ارقَاءُ ذات تعزز وتمنع
هبطت على كره إليك وربما***كرِهت فراقك وهي ذات توجع
يتحدث عن امتزاج الجسد بالروح وعن كرها لفراق الجسد لأنها ألفته عند الممات وهذه قصيدة عليها صبغة فلسفية بحتة وقد عارضها شوقي ببيت مشهور :
ضمي قناعك يا سعاد أو ارفعي *** هذه المحاسن ما خلقنا لبرقع(9/8)
ـ لكننا إذا أردنا أن نتكلم شرعيا عن اتصال الروح بالجسد فنقول: الاتصال الأول في عالم الأجنة ثم الاتصال الثاني في عالم الحياة الدنيا يستمر حتى يكون الانفكاك فإذا انفكت الروح عن الجسد وخرجت تخرج من الحلقوم وهذا نص الله جل وعلا عليه قال الله تبارك وتعالى :{ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}أي الروح { وَأَنتُمْ } أي من حول الميت { حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } تنظرون إلى الميت { وَنَحْنُ } هذا قرب الله بملائكته { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ }أي لا تبصرون الملائكة حال قربها من الميت ثم يتحدى الله سائر البشر {فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } تقولون لاجزاء لا بعث لا نشور{فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أعيدوا الروح إن كنتم صادقين هذا الانفكاك بين الجسد والروح وخروج الروح من الجسد هو الذي اصطلح على تسميته بالموت وهو الذي قال جل وعلا عنه {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فالإنسان إذا فارق نفسه جسده وخرجت روحه منه سمي ذلك موت يتعلق به أحكام لا تخفى منها غسله ومواراته كفرض كفاية وانفكاك حبل الزوجية بينه وبين زوجته وتقسيم الميراث وما إلى ذلك من الأحكام التي تتعلق بالإنسان بعد موته ولا يقال هذه الأحكام لا تمشي ولا تمضي حال كون الروح متصلة بالجسد ولو اتصالا لاحركة فيه لكن مادامت متصلة بالجسد ولو اتصالا ضعيفا عن مرض أو وهن أو غيرها وإنما الموت هو خروج الجسد من الروح هذا الانفكاك الأول بين الجسد والروح ثم تعود الروح مرة أخرى إلى الجسد وظاهر السنة أنها تعود أول ماتعود والجسد محمول على أعناق الرجال ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم { إن الجنازة إذا حملت على أعناق الرجال تنادي إن كانت صالحة قدموني قدموني وإن كانت غير ذلك ـ عياذا بالله ـ تقول(9/9)
ياويلاه أين يذهبون بي } وهذا لايكون إلا في اتصال الجسد بالروح كما أنه يتم الاتصال بصورة أكبر فيما يبدو والعلم عند الله عندما يأتي الملكان ليسأل المقبور من ربك ؟ مادينك ؟ من نبيك ؟ فهذه الثلاثة التي هي أصول الدين عندما يسألها الميت يجيب عليها وقد اتصلت روحه بجسده وهذا يدل عليه حديث البراء بن عازب أن الروح ترتفع وإن كانت صالحة تفتح لها أبواب السماء وإن كانت غير ذلك تغلق وعليه يحمل قول الله جل وعلا:{ ِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } ـ نعوذ بالله من ذلك كله ـ والمقصود أن الروح تعود إلى الجسد لأن الله يقول لها لملائكته فإني قد وعدتهم :ِ{منْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [طه : 55] فتعود الروح إلى الجسد حتى تكون قادرة على إيجابة الملكين سواء وفقت في الإجابة أو لم توفق ـ عياذا بالله ـ نعود فنقول ثم يقع على الروح والجسد على مذهب أهل السنة يقع النعيم أو العذاب يقع النعيم والعذاب هذا النعيم والعذاب نحن لا نعلم كنهه ولا يمكن لي ولا لغيري أن يصفه لأننا لا نعلم عنه إلا بمقدار ماصح نقله عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم وقد دل القرآن والسنة على وقوعه فالنبي عليه الصلاة والسلام لما كان في المدينة كان ذات يوم على بغلته فمر على أرض بستان عند الأنصار فالبغلة تحركت به عليه الصلاة والسلام حتى كادت أن تسقطه فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله "أثمة قبور هنا قالوا يارسول الله إنها قبور خمس أو ست وفي رواية أربعة في قوله ماتوا في زمن الإشراك فقال عليه الصلاة والسلام :{ لولا أن تدافنوا لدعوت الله يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع }.
ـ وقوله عليه الصلاة والسلام :{ لولا أن تدافنوا } فيه تربية عظيمة للأمة:(9/10)
أن الإنسان لا يحسن به أن يطلع على عورات أخيه لأنك لو اطلعت على أي إنسان نقبت كثيرا عنه عثراته بحثت عن أخطائه بكثرة سيصغر في عينيك فإذا قدر أنك بلغت بموته ستجد في نفسك غضاضة في أنك تشارك في موته لأنه يغلب عليك سيطرة تلك الفكرة السيئة عن أخيك ولذلك يبقى الأفضل في أحوال الناس أن تبقى مستورة وحتى من علمنا عنه شيئا من خطأ أو زلل أو وقوع فاحشة أو ما إلى ذلك لا يمنعنا ذلك من أن نشارك في دفنه والصلاة عليه ومواراته طلبا للأجر ورحمة لأخينا مادام لم يخرجه ذنبه من الملة .ومحمد بن المنكدر أحد التابعين تبع جنازة رجل كان مدمن خمر فكأنه عوتب فقال رحمه الله قولة عالم فذ قال : " إني لا ستحيي من الله أن أجد في نفسي أن رحمته جل وعلا قد ضاقت عن أحد " والله جل وعلا يقول عن رحمته {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ثم نحن نطلب الأجر من الله نطلب القراط القراطين في تتبعنا للجنائز والصلاة عليها بصرف النظر عن أحوال أصحابها وإنما نخشى على هذا العاصي النار ونرجوا للمؤمن الجنة ومرد الجميع إلى الله وحده يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ، نقول هذه نوع من الاتصال بين الروح والجسد في عذاب القبر .
ـ لكن هل يستمر هل ينقطع إذا استمر ماحاله؟(9/11)
هذا كله علمه عند الله جل وعلا ،لكن نقول جملة إن أصحاب القبور تتساوى قبورهم في ظاهرها لكن أرواحهم وأجسادهم الله أعلم بها أما الأجساد ونحن نقطع أنها تبلى من أين نقطع في قوله عليه الصلاة والسلام { كل جسد ابن آدم يبلى } وانظر إلى تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { كل جسد } لأن الروح قد خرجت { كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب } فمنه يركب يوم القيامة ومشهور عند الناس أن أجساد الشهداء لا تبلى وهذا لا يدل عليه حديث هذا الحديث العام {كل جسد ابن آدم يبلى} يخصص فقط بأجساد الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام { إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } لما قيل له يارسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت ؟ وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم استقر في أذهانهم في علمهم وهم ربيبوا مدرسة النبوة استقر في علمهم أن الأجساد جميعا تبلى ولذلك "قالوا يارسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت أي جسدا فقال : { إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء } نعم نقول قد يعطى الجسد فترة من الدهر طويلة أو قصيرة دون أن يبلى إكراما من الله لذلك المقبور وهذا ربما اطلع بعضنا على وقوعه لكن لا نجزم بأن هذا يبقى إلى أبد الدهر وقد قال أبو العلاء المعري على مافي أبو العلاء من زندقة في شعره على الأقل يقول :
غير مجد في ملة واعتقاد ** نوح باك ولا ترنم شادي
فر إن استطعت في الهواء رويدا ** لا اختيالا على رفات العباد
رب قبر صار قبرا مرارا ** ضاحك من تزاحم الأقباري(9/12)
وهو يقول إن أكثر الثرى الأرض كلها أصلها أجساد قبور تدفن وتبلى وهذا يوضع وهذا يمتحن لكن ثمة اتصال بين الروح والجسد يكون يوم القيامة هذا الاتصال بعد أن ينفخ اسرافيل في الصور يقوم الناس لرب العالمين فإذا قام الناس لرب العالمين الذي يحصل قبل ذلك القيام أن الأرواح تفارق عليين إن كانت أرواح مؤمنة وتفارق سجين إن كانت أرواحا كافرة وتصل إلى الأجساد في قبورها فيتصل الروح بالجسد وتدب الحياة تعود نفس كما كانت تسمى نفس ،الآن يبعث الناس يحشرون حفاة عراة غرلا قال الله جل وعلا عن أهل طاعته {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وقال :{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وقال وهو الأهم{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} الاتصال هنا بين الروح والجسد هو الاتصال الكامل التام جدا لأن أهل الجنة ـ جعلنا الله وإياكم من أهلها ـ إذا دخلوها واطمأنوا فيها وأهل النار إذا دخلوها ووجدوا مافيها من العناء ينادي مناد يا أهل الجنة فيطلعون خوفا من أن يقال أخرجوا منها ويطلع أهل النار رجاء أن يقال لهم أخرجوا منها فيؤتى بالموت على صورة كبش أملح فيذبح الموت أو هو على صورة كبش أملح مابين الجنة والنار فينادي مناد ياأهل الجنة أن خلود بلا موت وأن ياأهل النار خلود بلا موت ولو أن أحدا مات فرحا لمات أهل الجنة فرحا ولو أن أحد مات حسرة لمات أهل النار حسرة .(9/13)
الذي يعنينا هذا هو الاتصال الأبدي بين الجسد والروح قال الله عن أهل الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود : 108] وقال قبلها عن أهل النار { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود : 107] والسؤال الأهم قبل نهاية الحلقة ؟
هو أن نسعى في تزكية أنفسنا بالإيمان والعمل الصالح والخوف من الله ومراقبته تبارك وتعالى سرا وجهارا وليلا ونهارا عل الله جل وعلا أن ينقلها أي أنفسنا إلى عالم الطهر والنقاء نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم حسن الوفادة عليه وأن يكتب لنا حسن المنقلب وحسن المآب إنه ولي ذلك والقادر عليه
سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تم بحمد الله
*** المخبتات ***(9/14)
" آدم وحواء "
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد .(9/1)
فهذا بحمد الله وتوفيقه ومنته وكرمه اللقاء الرابع من برنامجنا " مجمع البحرين " ولقاء اليوم حول علمين كريمين هما " آدم وحواء عليهما السلام " ومعلوم لكل أحد أن آدم هو أبوالبشر الذي نسبنا الله جل وعلا في كثير من آيات القرآن إليه فقال جل ذكره { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وقال جل وعلا { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } فالأبوان هنا هما آدم وحواء عليهما السلام وإنما قيل لهما الأبوان تغليبا للذكر على الأنثى صلوات الله وسلامه عليهما الحديث عن آدم حديث ذو شجون لكننا سنحاول أن نجمع شتاته ونلم أطرافه وفق التالي فنقول : إن الله جل وعلا أخبر الملائكة قبل أن يخلق آدم بأنه سيخلقه قائلا {إ ِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } فقالت الملائكة { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فالله جل وعلا له العلم التام والحكمة البالغة فكان خلق أبينا آدم من قبضة قبضت من الأرض جاء في بعض الآثار أن الله بعث ملكا يقبض تلك القبضة فلما وصل إلى الأرض قالت له الأرض أعوذ بالله منك فرجع إلى ربه فسأله الله وهو أعلم قال يارب استعاذت بك فأعذتها فبعث الله وهو أعلم ملكا آخر غيره فقالت له الأرض مثل ماقالت لصاحبه فرجع إلى ربه فقال له مثل ماقال الأول فبعث الله ملكا ثالثا فلما جاء أن يقبض من الأرض قالت الأرض كما قالت لصاحبيه أعوذ بالله منك قال وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره ثم أخذ قبضة من الأرض هذه القبضة جاءت مجتمعه مخلوطة ممزوجة فلما رفعت إلى ربنا جل جلاله خلطت بماء فأضحت طينا ثم تركت فترة فأضحت صلصالا من فخار بحيث أنه لو قرع يحدت صوتا على هذا هذه المراحل الثلاث كلها ذكرها الله جل وعلا في كتابه فقال جل ذكره {(9/2)
خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } وقال خلقناكم من طين وقال جل وعلا { مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} لأن هذه هذه المراحل الثلاث كلها مر بها خلق أبينا آدم.من ضلع آدم خلقت أمنا حواء قال عليه الصلاة والسلام { استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج مافي الضلع أعلاه فإن أنت أردت أن تقيمه كسرته وإن استمتعت فيه استمتعت فيه على عوج } هذه الوصية النبوية فيها شاهد على أن حواء خلقت من ضلع آدم،
ـ بخلق حواء من ضلع آدم يكون الخلق قد مر بمراحل أربعة في تنوعه :
فمثلا خلق آدم من غير أب ولا أم هذه واحدة من الأربع وخلقت حواء من آدم من غير أم هذه الحالة الثانية والحالة الثالثة خلق عيسى بن مريم على النقيض من حواء خلق من أم من غير أب والحالة الرابعة هي خلق سائر الناس كل الناس يولدون من أم وأب ولا يتصور عقلا أبدا أن يكون خلق بغير هذه الطريقة،المقصود الله جل وعلا أمر الملائكة أن تسجد لآدم وسنقف في درسنا لآدم وحواء عبر آيات القرآن لعله أكمل لأن الله جل وعلا ذكر قصة آدم وحواء وخلقهما في كثير من آياته قال الله جل وعلا:{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }.
ـ القضية ندرسها وفق التالي :
السجود يقع على حالتين :إما سجود عبادة وإما سجود تحية
فأما سجود العبادة فلا يقع شرعا إلا لله لا يمكن أن يأمر الله أحدا أن يسجد لأحد شرعا فالسجود عبادة عظيمة لا تقع إلا لله شرعا ودينا يتقبل قد يسجد أحد لأحد على هواه لكن هذا كفر نحن نتكلم عن الشرع .(9/3)
الحالة الثانية: سجود التحية وهو نوع من الثناء نوع من التبجيل وهذا كان موجودا في شرع من قبلنا ومنه قول الله جل وعلا عن إخوة يوسف وأمه وأبيه لما ذكر الرؤيا قال الله جل وعلا {و َخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } ومنه سجود الملائكة لآدم فإن الملائكة بسجودها لآدم إنما تحي آدم وتعبد ربها لأن الله هو الذي أمرها بالسجود تعبد ربها وتحي آدم فنحن عندما نسجد نستقبل ماذا ؟ نستقبل الكعبة لكننا لا نسجد للكعبة نسجد لرب الكعبة وإنما نستقبل الكعبة لأن الله أمرنا أن نستقبل الكعبة نوجه وجهنا للبيت العتيق لأن الله أمر أن نوجه وجوهنا عند الصلاة في السجود للبيت العتيق لكننا لا نسجد للكعبة ولا للحجر ولا للبيت أصلا ولا للحرم المكي ولا لمكة عموما إنما نسجد لله رب العالمين جل جلاله ولذلك إذا تعذر معرفة القبلة أو كان الإنسان على دابة يسجد كيفما اتفق لأن المقصود السجود لرب العالمين جل جلاله
ـ يتعلق بالسجود كذلك التعبير القرآني:
الله جل وعلا يقول :{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } ونحن نعلم نحويا أن كل وأجمع من ألفاظ التوكيد المعنوي
ـ لكن مالذي أفادته كل ومالذي أفادته أجمعون ؟
نقول والعلم عند الله إن قوله جل وعلا { فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ } إشعار بأنه لم يبقى أحد من الملائكة لم يسجد أي لم يتخلف أحد من الملائكة فإن قيل إن إبليس تخلف ؟ قلنا إبليس ليس من الملائكة
ـ ومالذي أفادته كلمة { أَجْمَعُونَ} ؟ أفادته كلمة أجمعون هنا وأنا لم أجرها بناء على الحكاية أفادته كلمة أجمعون هنا أنهم في وقت واحد في وقت واحد كلهم أي لم يتخلف أحد { أَجْمَعُونَ} أي في وقت واحد عليهم السلام.(9/4)
قال الله{ فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }و إبليس نص الله على أنه من الجن قال الله تبارك وتعالى { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } السجود هذا ندرسه الآن لتعلق بعمل في حياتنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال :{ إن المؤمن إذا تلى القرآن ومر بآية سجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول ياويلاه أمر بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فلم أسجد فلي النار } ـ عياذا بالله ـ وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للمؤمن أن يحرص على أن يسجد عند قراءة و تلاوة آية السجدة في كتاب الله أو عندما يسمعها تتلى عليه أو يسمعها بتمعن أو إن كان سامعا برغبة أما السامع العارض المار فهذا لا يلزمه سجود في أصح أقوال العلماء لكنه لو سجد لفعل خيرا والأول لا يعني ذلك أنه يلزمه لكنه أشد في حقه .نعود فنقول : هذا مايتعلق بسجود الملائكة لآدم عليه السلام وهذا نوع من التكريم الذي كرم الله جل وعلا به أبانا آدم وفي تكريم آدم تكريم لذريته ولهذا قال الله جل وعلا { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }.
ـ جاء في قصة آدم وحواء قول الله جل وعلا في الأعراف:
{(9/5)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ *فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }.(9/6)
نقول هذه الآية بعض المفسرين ـ عفا الله عنا وعنهم وعن كل مؤمن ـ وقع في وهم كبير نقلا عن إسرائيليات و أحاديث لا يمكن أن تصح عن نبي الله آدم فآدم نبي مكلم والله جل وعلا يقول { إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ } فلا يمكن أن يقال بعد ذلك ماقاله بعض المفسرين من أن الشيطان طاف بحواء وهي حامل فسألها مالذي في بطنها فقالت لا أدري قال يمكن أن يكون بهيمة هذا الشيطان يقول لها في تلك الرواية فأن أدعوا الله أن يكون إنسانا على أن تسميه باسمي وقال لها أنا الحارث فلما ولد أسمته عبدالحارث يقولون هذا معنى قوله الله {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } ورواية أخرى هي عندهم أصح تقول أنه كان كلما ولد لآدم مولود مات فجاءهم الشيطان فقال اسموه عبدالحارث فإنه يأتي فأسموه عبدالحارث فعاش هذا لا يمكن هذا القول مهما قلنا في السند صحة أو ضعفا أن ينسب هذا الكلم إلى نبي من أنبياء الله جل وعلا وهناك قاعدة في العلم ذكرها الشيخ ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في مواطن كثيرة من كتبه " أن الإنسان يبقي الأصل يأخذ بأصله ماعارض ذلك الأصل من الشبهات والعوارض الأخر يردها بناء على ذلك الأصل " فما الأصل عندنا ؟ الأصل أن آدم نبي مكلم موحد فإذا كان لم يقع الشرك في كثير من آحاد الأمة لم يشركوا كيف ينسب الشرك إلى نبي مكلم عليه السلام هذا يستحيل عقلا ونقلا فهذا الأصل الذي نستمسك به فما جاءنا من قصص أو روايات أو أخبار أيا كان موضعها تعارض هذا الأصل الذي نحن بصدده نردها بملء القين ونحن واثقون أن هذا لا يمكن أن يكون حقيقة قال عليه الصلاة والسلام { سئل عن آدم أنبي هو ؟ قال : نعم نبي مكلم } والله جل وعلا يقول { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} والله أخبره أنه اجتباه عليه السلام صحيح وقع من آدم قضية الأكل من الشجرة نعم لكن تلك معصية صغيرة تقع من أي أحد لكن لا يمكن نسبة الشرك إلى نبي الله آدم .(9/7)
ـ نعود إلى موقف آخر في قصة آدم وحواء: الموقف الآخر أن الله جل وعلا أخبر أنه لما وسوس لهما الشيطان بدا لهما ماوري من سؤاتهما وعلى هذا يقال : إن ستر العورة واجب بل من دلائل الإيمان وقرائن الحياء والبعد عن الفواحش والرذائل وأعداء الملة اليوم ماسعوا إلى شيئ بدؤا به في زعزعة أخلاق هذه الأمة كسعيهم إلى أن ينزع الحياء منها إلى أن يكشف من العورات أكثر مما ينبغي هذا الطريق الذي نهجه أعداء الملة اليوم فكما أن إبليس مقدمهم في كل شر هو الذي وسوس لأبينا وأمنا قال الله جل وعلا { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا }{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ و َعَصَى آدَمُ رَبَّهُ َفغَوَى }(9/8)
هذا الأمر هو الذي ينبغي للمؤمن: أن يتداركه وثمة برامج الآن تقدم عبر بعض القنوات يقصد من خلالها إضعاف هذا الجانب القوي وهو جانب الحياء في الأمة في الدعوة إلى كشف العورات والجمع في مكان واحد مابين الفتيان والفتيات و الرجال والنساء بدعاوى باطلة كتعليم الموسيقى أو تعليم الفنون أو ما أشبهه ذلك التي تتخذ غطاء لتقام المنكرات على الملأ فيستملؤها الناس وتألفها العيون ويصبح الرجل والمرأة لا ينكر أحدهما عن الآخر والعياذ بالله قد تجتمع أسرة أب وأم وأفراد الأسرة كلها على التلفاز على الشاشة ليرون تلك الأمور وكلهم راض مقتنع بما يراه قد يقول قائل أين الذنب هنا الذنب على القائمين على تلك القنوات وهذا غير صحيح فإن الذنب ليس محصورا على القائمين والمنتجين والمنفقين على تلك القنوات وإنما عام في كل من أسهم ولو بخيط إبرة في بقاء تلك الأمور على النحو الذي تقع فكيف تقع تقع بالاتصالات الممزوج الناري الذي تموه به تلك البرامج إنما هو ناجم عن تلك الاتصالات المتكررة من جماهير الناس في العالم العربي كله وهؤلاء عياذا بالله وليعذرني السامع والمشاهد في هذا التشبيه أشبه أولئك القوم أنفسهم بالوزغ الذي كان ينفخ في نار إبراهيم فستر العورة من أعظم دلائل التقوى وفي أفراحنا للأسف ظهر في زماننا هذا تكشف للعورات في مجامع النساء بحجة أنهن نساء بعضهن يقابل بعض وليس في هذا حجة فإن المرأة مأمورة أن تستر عورتها في أي مكان وإنما يظهر لأختها أو من معاشر النساء اللاتي يصاحبنها ماجرت العادة بإظهاره من المرفق إلى الكفين من الركبة إلى القدمين العنق والرأس هذا لا بأس به مما جرت العادة أن تظهره المرأة في خدمتها في بيتها أما غير ذلك فلا يجوز شرعا إظهاره ولا التغني به ولا التمدح فليتق الله كل في نفسه وأسرته وماله وولده(9/9)
نعود للحديث عن آدم وحواء عليهما السلام آدم وحواء عليهما السلام أهبطا إلى الأرض من شؤم المعصية وهذا دلالة على أنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب والله يقول عن قوم نوح : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً } [نوح : 25] أي بسبب خطيئاتهم {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} وهذا آدم نبي مكلم لما عصى الله ونهاه ربه عن الأكل من تلك الشجرة وأكل أخرجه الله جل وعلا من جنته لكنه لم يقابل ربه بالندية وإنما قابله بذل العبودية وهذا الفرق مابين آدم وإبليس فإبليس امتنع عن السجود لما أمر بالسجود وآدم نهي عن أن يأكل من الشجرة فأكل من الشجرة فكلاهما أخطأ مع تفاوت الخطأ لكن إبليس والعياذ بالله لم تقع منه توبة أما آدم سارع إلى التوبة{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } بل جاء في بعض الآثار أن آدم لما أهبط إلى الأرض لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من ربه جل وعلا عليه السلام،
ـ وفاة آدم:(9/10)
عمر آدم ماشاء الله له أن يعمر حتى شعر بدنو الموت فسأل بنيه أنه يشتهي ثمار الجنة فخرجوا من عنده فلما خرجوا من عنده إذا بالملائكة قد نزلت ومعهم أكفانه وحنوطه ومعهم الفؤوس و المساحي والمكاتل وهذا حديث صحيح إلى أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه فلما رأوهم قالوا ما تريدون يا بني آدم قالوا : إن أبانا اشتهى ثمار الجنة فقالت الملائكة قضي أمر أبيكم وعادوا معهم فلما دخلت الملائكة على آدم عرفتهم حواء فلما عرفتهم توارت خلف آدم فقال إليك عني فإنما أوتيت من قبلك وهذا فيه إشارة إلى أن حواء هي التي أشارت على آدم أن يأكل من الشجرة في الجنة فلما رأتهم توارت خلف آدم قال إليك عني فإنما أوتيت من قبلك ثم إن الملائكة قبضت روحه بعد أن خيرته لأن الأنبياء يخيرون ثم غسلته وحنطته وكفنته ثم حفروا له قبرا ثم ألحدوا له ثم نزلوا في قبره ثم نصبوا عليه اللبن ثم حثوا عليه التراب ثم التفتوا إلى بنيه فقالوا هذه سنتكم يا بني آدم قال الله جل وعلا { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } فدفن الموتى ومواراتهم سنه بلا ريب ولا شك وهي نص الله عليها في كتابه وذكرت في الأحاديث وهي الذي عليها ولله الحمد والمنة عمل المسلمين إلى يومنا هذا بقي أن نقول إن آدم عليه السلام قبض لكن روحه في الملأ الأعلى والنبي عليه الصلاة والسلام رأى أبانا آدم في رحلة الإسراء والمعراج رآه في السماء الدنيا وحوله أنسمه " أنفس " أسوده عن يمينه وأسوده عن شماله وهو عليه الصلاة والسلام لا يعرف أباه آدم فكان آدم إذا التفت إلى اليمين استبشر وضحك وإذا التفت إلى الشمال حزن وبكى فسأل النبي عليه الصلاة والسلام جبريل من هذا قال هذا أبوك آدم والأسوده التي عن يمينه نسم بنيه ممن كتب الله لهم الجنة إذا رآهم استبشر وضحك والأسوده التي عن شماله نسم بنيه ممن كتب الله عليهم النار إذا رآهم بكى وحزن ثم إنه آدم سلم على نبينا صلى الله عليه وسلم قائلا أهلا بالابن الصالح والنبي(9/11)
الصالح أهلا بالابن لأنه من ذريته قطعا أهلا بالابن الصالح والنبي الصالح والله جل وعلا أخبرنا في كتابه أنه جعلنا شعوبا وقبائل لنتعارف ثم قال { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ }.
ـ وهذا المبدأ العظيم: قرره النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في خطبه الوداع يوم أن قال أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى فجعل الله تبارك وتعالى أعظم المعايير معيار التقوى الذي يتفاضل به بين الناس عندما يقوم الأشهاد ويحشر العباد بين يدي ربهم تبارك وتعالى فقد آدم في حياته أحد أبنائه وهو هابيل قتله أخاه قابيل وهذا رويت أشعار تنسب لآدم:
تغير وجه الأرض....... وما إلى ذلك
وهذا لا يصح إنما ذكره ابن إسحاق رحمة الله تعالى عليه المؤرخ المعروف لكنه لم يتبين فيه أن هذا لا يمكن نسبته إلى أبينا آدم ولذلك تتبع النقاد ابن إسحاق كما تتبعه ابن سلام الجمحي في طبقات الشعراء وقال إن ابن إسحاق كان مؤرخا وليس من بضاعته الشعر وإنما نقله لتلك الأخبار لا يصح أبدا ولا يمكن نسب تلك الأبيات إلى أبينا آدم.
ـ بقي أن نقول معشر الأخوة:
أن أبانا آدم عليه السلام نبي مكلم أحد أنبياء الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقع في المعصية بقدر الله جل وعلا ثم تاب فتاب الله عليه فأعظم ما يوصى به الناس وينصح به الخلق أن يتوبوا إلى الله جميعا في كل آن وحين فالتوبة وظيفة العمر والله جل وعلا يقول { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.(9/12)
والشيطان عدو جعله الله جل وعلا عدوا لأبينا ولا يمكن له أن يدلنا على خير أو أن يرشدنا إلى بر وهو سيتبرأ من كل من اتبعه يوم القيامة كما حكى الله جل وعلا عنه رزقنا الله وإياكم التوبة النصوح والعمل الصالح والفوز في الدارين والسعادة في الحياتين هذا ما تهيأ إيراده وتيسير إعداده جمعنا الله وإياكم بالأخيار يوم الأشهاد هذا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين ،،
.. تم بحمد الله ..
* * المخبتات * *(9/13)
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته وذلت على وجوده آياته ومخلوقاته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق خلقه أطوارا وصرفهم كيفما شاء عزة وإقتدار. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بعثه ربه بين يدي الساعة هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة فجزاه الله بأفضل ماجزى به نبيا عن أمته اللهم وعلى آله الأخيار وعلى أصحابه الأبرار وعلى من سلك مسلكهم واقتفى آثارهم إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار أما بعد أيها الأخوة المؤمنون...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في أول الأمر أعلن عن هذه المحاضرة بعنوان {المهاجرون إلى الله } ثم لما كانت هذه المحاضرة قريبة عهد بمحاضرتين سبقتا كانتا تتحدثان عن مواضيع إيمانية محضة كان من المناسب التغير دفعا للملل وإبعادا لسآمة .........والتي نستعين الله جل وعلا فيها إطلالة على كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى بعنوان " من معين القرآن " نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص والنفع في الدارين والسعادة في الحايتن معشر المؤمنين لقد أخبر الله جل وعلا عن كتابه أنه أعظم كتاب أنزل وأنه نور مبين أنزله الله جل وعلا رحمة للعباد وحجة على الخلق أجمعين من لدن محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة وقبل أن نعرض على ما دل عليه القرآن ونكشف ما في القرآن من دلالات وما أرشد عليه من عظات يحسن بنا أن نقف على حقائق معينه نود الإلمام بها قبل الشروع فيما دل عليه كتاب ربنا جل وعلا وأول وأعظم تلك الحقائق:(9/1)
أن الله جل وعلا أرسل الرسل من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وكان يؤده بالمعجزات الخارقة حتى يبين لمن بعث إليهم ذلك النبي صدق النبي وحقيقة رسالته فكان الناس في كل أمه يبعث إليها الأنبياء ينظرون في تلك المعجزة بأم أعينهم فيكون ذلك الجيل شاهدا على صدق الرسالة فإما أن يقذف في قلوبهم الإيمان فيؤمنوا وإما أن يحرموا الخير والنفع والهدى فيكفروا عياذا بالله من ذلك كله قال الله جل وعلا { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ } فلما بعث الله جل وعلا رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يبعثه الله لجيل لوحده ولا لأمه مخصوصة وإنما بعثهم لأجيال متعاقبة للناس كافه بشيرا ونذيرا فلم يكن من المناسب أن يكون معجزته صلى الله عليه وسلم شيئا يشاهده أقوام ويغيب عن رؤيته آخرون فأيده الله جل وعلا بهذا القرآن كتابا مفتوحا لكل جيل ولكل من أتى بعده صلى الله عليه وسلم يقرؤونه ويتدبرونه ويتأملونه ويستسقون من معينه وينهلون من رحيقه كما أخبر تبارك وتعالى:{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ? يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ? قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }
الحقيقة الثانية:(9/2)
أن الأصل فيما جاء به الأنبياء والمرسلون منفك عن حقيقة دعوتهم بمعنى أن نبي الله موسى مثلا أيد بالعصا ضمن ما أيد به لكن العصا شيء منفك عن التوراة فموسى لم يأمر الناس أن يجعلوا من العصا منهجا وإنما المنهج في التوراة وعيسى عليه الصلاة والسلام أعطاه الله القدرة على إحياء الموتى لكن إحياء الموتى أمر منفك عن الإنجيل وصالح عليه السلام أُيِّد بالنا قه خرجت من صخرة كما اقترح القوم أنفسهم لكن صالحا عليه الصلاة والسلام لم يدعوهم للناقة وإنما كان يدعوهم لمنهج دعوي آخر أما نبينا صلى الله عليه وسلم فإن معجزته وهي القرآن هي حقيقة ما يدعوا إليه فليس هناك انفكاك بين المنهج وبين المعجزة التي جاءت تأييدا لهذا المنهج فالقرآن هو منهجه وهو معجزته صلى الله عليه وسلم {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) فالقرآن كتاب ربنا جل وعلا أنزله الله جل وعلا في خير ليله هي ليله القدر في خير شهر هو شهر رمضان على خير نبي هونبينا محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة خير ملك هو جبرائيل عليه السلام {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} وقال جل وعلا {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ? إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) إذا تبين هذا نشرع بعد ذلك في إظهار بعض مما دل عليه كتاب الله تبارك وتعالى دل كتاب الله جل وعلا أولا على أن مقام العبودية أرفع المقامات فأرشد القرآن في كثير من الآيات أنه لا اصطفاء أعظم ولا منزلة أعلى من أن يكون العبد عبداً لله جل وعلا على الوجه الذي أراده الله بل إن هذه المنزلة تشرئب إليها أعناق وترقبها أمم ويتمناها الصالحون "لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ.(9/3)
" أثنى الله جل وعلا على نبيه قائلاً "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلََََََََََى عَبْدِهِ " وقال سبحانه"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ...." وأثنى الله على نوح قائلاً"إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُورًا" وأثنى الله جل وعلا على أيوب قائلاً"نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ" فإذا أراد الله جل وعلا بيان منزلة لأحد خلقه أبان أنه كان عبدا صالحاً شكورا أوابا لربه فلا منزلة أعلى من مقام العبودية وإن كان أهل العلم يقولون في تفصيل ذلك على وجه التأصيل العلمي:
إن العبودية إذا أطلقت في الشرع يراد بها ثلاثة أشياء:ـ
يراد بها العبد المعارض للحر فهذا عبد بالشرع .
ـ ويراد بها عبد بالإيجاد وهذا يستوي فيه الخلائق أجمعون ومنه قول الله تبارك وتعالى "إن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً"
عبودية قهر وذل وملك لله تبارك وتعالى يستوي فيها العباد أجمعون مؤمنهم وكافرهم وملائكتهم وجنهم وإنسهم كلهم عبيد لله عبودية قهر. تبقى(9/4)
ـ الثالثة وفيها ميدان التسابق عبودية الطاعه وهذه العبودية تنقسم إلى قسمين عبودية ذل وهوان إذا كانت عبودية لغير الله ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:ـ (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم) ومنها عبودية عز وشرف ورفعه وهي العبودية لله تبارك وتعالى التي قدمنا عنها آنفا أنها تشرئب إليها الأعناق ويرتجي سناها الصالحون. أما العبودية التي وصمناها بأنها عبودية ذل هوان فإن من الناس والعياذ بالله من يعلق قلبه بغير الله فيركب الذلول ويرتقي الصعب وربما سافر من مكان إلى مكان عبودية لغير الله جل وعلا وليس شرطا في العبودية أن تصلي أو تصوم لمن تعبده لكن قد يقع في قلب الإنسان من المحبة والتعظيم إما لإفراد الخلق وإما لأشياء معنوية فينزلها منازل عاليه في قلبه دون أن يشعر فيقدمها على محبة الله دون أن يدري (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ" وليس المقام مقام تسميه ولكن المؤمن إذا تبصر حاله وتفكر في غدوه ورواحه عرف إن كان يعبد مع الله غيره أولا يعبد إلا الله جل وعلا وحده أما عبودية الطاعه لله تبارك وتعالى فإنها تقوم على ثلاثة أركان:ــ
*محبة الله .
*الرجاء في ثوابه.
*الخوف من عقابه.(9/5)
دلت عليها فواتح سوره الفاتحة فـ "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" دعوه للمحبة لأن المنعم يُحَب"الْرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" دعوة للرجاء في رحمته جل وعلا "مَالِكِ يَوْمِ الدِّيِنِ" دعوة للخوف من أليم عقابه وسخطه تبارك وتعالى أعاذنا الله وإياكم منها فإذا اجتمعت في المؤمن المحبة المطلقة لرب تبارك وتعالى مع الرجاء فيما عنده جل وعلا من النعيم والخوف من عذابه الأليم كان ذلك أساسا لأن يكون المؤمن عبدا لله تبارك وتعالى ثم إن الناس في هذه المنازل منازل شتى ودرجات متفاوتة كل بحسب مقدار المحبة في قلبه وبحسب الرجاء والخوف من الله جل وعلا. هذا من أعظم ما دل عليه القرآن تظافرت آياته عليه ...(9/6)
مما دل عليه القرآن أيها المؤمنون " أن الجزاء من جنس العمل " قال الله جل وعلا (هَلْ جَزَآءُ الإحْسَان إلا الإحْسَانُ ) فإن من قواعد سنن الله في خلقه التي لاتتبدل ولا تتغير أن الجزاء من جنس العمل إن كان سيئة سيئة من جنسها وإن كان حسنة كانت حسنة من جنسها بينه قد يقع ذلك حتى في الحياة الدنيا قبل أن يقوم الأشهاد ويحشر العباد بين يديَّ ربهم جل وعلا وسنذكر نماذج جاء بها القرآن أو دلت عليه السنة تبرهن على صدق هذه الدلالة من أعظمها أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام نقل أنه كان من أعظم عباد الله خوفا من الله جل وعلا وخشية من ربه فكلما أمره الله بأمر بادر إليه دون أن يسأل ( إذ قَالَ لهُ ربُّهُ أسْلِمْ قَالَ أسْلمْتُ لِرَبِّ العَالمِينَ * وَوَصَّى بهَآ إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنتُم مُّسْلِمُونَ ) هذا الخوف من الله جل وعلا الذي كان في قلب إبراهيم في الدنيا قال صلى الله عليه وسلم كما في المسند بسند صحيح ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة غرلا فيكون أول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) فلما كان شديد الخوف من الله في الدنيا ويحشر الناس خائفين وجلين من رهبة الحساب والعذاب يطمئنه ربه فيكون عليه الصلاة والسلام أول من يكسى في عرصات يوم القيامة ولا يعني هذا أنه أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم ولكن قد يكون في النهر كما يقول العلماء مالا يكون في البحر كذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنى لله الكعبة بنى لله بيته بوادي غير ذي زرع فلما عرج برسولنا صلى الله عليه وسلم أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور فكما بنى لله جل وعلا بيتا في الدنيا مكنه الله أن يسند ظهره إلى أعظم البيوت إلى البيت المعمور في السماء السابعة فالجزاء من جنس العمل.(9/7)
ـ جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان أحد قادة المسلمين في معركة مؤتة وكان يحمل الراية بيده اليمنى فلما بترت أخذها بشماله فلما بترت شماله أخذ يجمع الراية بين عضديه ما استطاع حتى أستشهد رضي الله عنه وأرضاه والجزاء من جنس العمل يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه الطبراني بسند صحيح من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال :"دخلت الجنة البارحة فإذا جعفر يطير مع الملائكة بجناحيه وإذا حمزة متكأ على ..... ) فلما فقد يديه من أجل الله تبارك وتعالى كان الجزاء من جنس العمل فعوضه الله جل وعلا بجناحين يطير بهما مع الملائكة في جنات النعيم.
ـ موسى عليه الصلاة والسلام أحد أولوا العزم من الرسل سأل الله جل وعلا مقام الرؤيا بعد أن أعطي مقام التكليم فلما تجلى ربه للجبل كما دل عليه القرآن صعق موسى قال الله جل وعلا ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أفاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأنَا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما ( لا تخيروني بين الأنبياء فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فأرى موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فجعل الله جل وعلا في ظاهر قول نبينا صلى الله عليه وسلم جعل مكافئة موسى عندما صعق عندما تجلى ربه للجبل جعله عليه الصلاة والسلام أول من يفيق ويأخذ بقوائم العرش إتماما لما دل عليه القرآن وبرهانا للسنة الربانية أن الجزاء من جنس العمل.(9/8)
ـ الذين يشربون الخمر في الدنيا أعاذنا الله وإياكم منها يلجأون إليها فرارا من الهموم ويحتسونها رغم أنهم يعلمون أن فيها معصية للحي القيوم فينهل بعضهم منها بلا رويه وكل ذلك حرام فهؤلاء يوم القيامة لأنهم أسرفوا على أنفسهم في هذه المعصية وشربوا من الخمر يقول صلى الله عليه وسلم كما روى ابن ماجه بسند صحيح ( من شرب الخمر في الدنيا لم يقبل الله منه صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه وإن مات أدخله الله النار فإن عاد وشربها لم يقبل الله منه صلاة أربعين صباحا فإن مات أدخله الله النار وإن تاب تاب الله عليه ثم قال صلى الله عليه وسلم في الرابعة فإن عاد فشربها فسكر كان حقا على الله أن يسقيه من رغدة الخبال قالوا يارسول الله وما رغدة الخبال قال عصارة أهل النار ) أعاذنا الله وإياكم منها فالجزاء من جنس العمل.
ـ من الناس أعاذنا الله وإياكم من طبع في قلوبهم الكبر يودون أن يختالوا على الناس ويرون أنهم أرفع مقاما وأعظم حسبا وأكرم نسبا ولا يتكئون على شئ من الطاعات في حديثهم... في خطابهم... في قولهم... يلحظ من يكلمهم ماهم فيه من استكبار وعلو يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال يحيط بهم الذل من كل مكان جزاء وفاقا من رب العالمين جل جلاله ) كانوا في الدنيا متعالين متكبرين يظنون أنهم أرفع قدرا و أعلى مكانا فإذا كان في عرصات يوم القيامة وكان أحوج مايكونوا إلى أن يرفعوا رؤوسهم حشروا أذله كأمثال الذر في صور الرجال جزاء وفاقا من الله أسرع الحاسبين.(9/9)
ـ المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله فيرون الموت عيانا يرونه من غير ريبه وكان بإمكانهم أن يمكثوا في بيوتهم ويقعدوا كغيرهم كان بإمكانهم إذا رأوا الموت عيانا أن يفروا فيمكثون باقين محتسبين عند الله فإذا أدخلوا قبورهم لم يفتنوا ولا يسألهم الملكان كما يسألون غيرهم من العباد روى النسائي بسند صحيح ( أن رجلا قال يا رسول الله ما بال الناس يفتنون في قبورهم إلا الشهداء فقال صلى الله عليه وسلم كفا ببارقة السيوف على رأسهم فتنه كفا ببارقة السيوف على رأسهم فتنه ) وقوله صلى الله عليه وسلم ببارقة السيوف إخبار بأسلحة ذلك العصر وإلا فالأمر مطرد كل سلاح عصر يعتبر فتنة للمقاتل في سبيل الله جل وعلا فإذا صبر واحتسب حتى يلقى الله شهيدا في أرض المعركة كان حقا على الله أن ينجيه من فتنة القبر لأنه لم يعد في حاجة أن يسأل عن ربه ودينه ونبيه لأنه لو أراد أن يتذكر وأراد أن يفر لكان بإمكانه أن يفعل ذلك في الحياة الدنيا فلما صبر في الأولى ثبته الله جل وعلا في الأخره وفي حرب الشيشان الأخيرة فقد المسلمون الكثير من شباب الأمة مما لا نزكيهم على الله ولكننا نحسبهم أنهم ماخرجوا إلا ابتغاء رضوان الله والشهادة في سبيله فنسأل الله جل وعلا أن يغفر لهم ويرحمهم وأن ينزلهم في أعلى المنازل وأن يمن على من بقي منهم بالعافية والسلامة وأن يجد لهم تبارك وتعالى برحمته منجأ ومخرجا .
ـ الجزاء من جنس العمل قد يكون دنيويا قبل الأخره فإن عثمان رضي الله تعالى عنه دخل عليه الخوارج في بيته وهو أفضل أهل زمانه رضي الله عنه وأرضاه ولرحمة في قلبه منع الناس من المهاجرين والأنصار أن ينصروه ولم يأذن لأحد أن يحمل سلاحه على الخارجين عليه فدخل عليه أولئك المنافقون حتى قتلوه ثم وجدوا في بيته صندوقا مختوم ففتحوه فوجدوا فيه هذه وصية عثمان :
بسم الله الرحمن الرحيم(9/10)
"عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن النبيين حق وأن الجنة حق وأن النار حق عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله تعالى "
وجه الشاهد:ـ أن هؤلاء قتلوا عثمان فأخبر الصحابة بما كان من هؤلاء الخوارج فلما بلغ سعدا رضي الله تعالى عنه ذلك قال رضي الله عنه وأرضاه تلى الآية (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ثم قال اللهم أندمهم ثم خذهم أي أورثهم الندم ثم خذهم قال بعض السلف: والله الذي لا إله غيره مامات أحد من قتلت عثمان إلا مقتولا فكل من شارك في قتل عثمان أدركه القتل على غير يدي عثمان ومات مقتولا جزاء وفاقا والجزاء من جنس العمل .(9/11)
ـ من الناس جعلنا الله وإياكم منهم من يسمع الأذان للصلاة الفجر فيخرج في الظلمات ولا عبرة بالأضواء لأن العبرة بحقيقة الوقت فيخرج في الظلمات إما على قدميه أو على دابته لا يبتغي إلا الأجر من الله يحتسب عند الله جل وعلا صلاة الفجر حتى يكون صباحه مقرونا بالخير لسجدة لله جل وعلا ويمشي إلى صلاة العشاء في الظلمات فهؤلاء الجزاء من جنس العمل يقول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق والمصدوق ( بشر المشائين بالظلم بالنور التام يوم القيامه ) وما أحوج الناس يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد إلى نور يستعينون به في عرصات يوم القيامه فإن الغدو والرواح والمشي والذهاب في عرصات يوم القيامه لا يعتمد على قوة الأبصار وإنما يعتمد على ما يعطيه الله جل وعلا عباده من نور ( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَالْفَوْزَ الْعَظِيمُ ) هذه أيها المؤمنون بعض النماذج الدالة على أن الجزاء من جنس العمل.
ـ فإذا تبينت هذه الدلالة القرآنية لنا كان حقا علينا أن نتقي الله في غدونا ورواحنا وأن ينظر أحدنا في مسالكه وتعامله مع العباد فإن الأيام دول والدهر ذو عبر ولا بد من وقوف بين يدي الله جل وعلا فلا يغرنك يا أخي غناك أن تستكبر على من كان أفقر منك ولا يغرنك يا أخي منصبك وجاهك على أن تستضعف من هو دونك ولكن العاقل يعلم أن الله جل وعلا لايضيع شيئا عنده .
ازرع جميلا ولو في غير موضعه
إن الجميل جميل حيثما زرع
إن الجميل ولو طال الزمان به
فليس يحصده إلا الذي زرعه
فوالله كلما أعطي عبد من الطاعات فأسرف فيها وبلغ فيها مرتقا عظيما ومنزلا صعبا كان ذلك دليلا وإيذانا بزواله وخرجه من ذلك المنصب.(9/12)
ـ يروى أن البرامكة كما تعلمون كان لهم شأن عظيم في دولة بني العباس وقرب الرشيد آل برمك حتى أصبحوا أثراء لديه فنجم عن ذلك غناهم وعلوا كعبهم وطاعة الناس لهم وكان أحدهم رجلا صالحا يملك بستانا يفئ إليه فدخل الرشيد ذات يوم ومعه وزيره جعفر البرمكي دخل القصر يمضيان فيه سحابة يومهما فلفت نظرهما ثمرة في شجرة عاليه فقال الرشيد لجعفر إرقى على كتفي وأتنا بتلك الثمرة قال بل أنت يا أمير المؤمنين إرقى على كتفي فقال الرشيد لا بل إفعل ما أمرك به فارتقى جعفر على كتف الرشيد والرشيد أمير المؤمنين وقطف الثمرة وصاحب المزرعة ينظر إليهما متعجبا مما يراه فلما خرجا قال الرشيد لصاحب البستان إنني أمضيت في هذا اليوم سحابة في مزرعتك هذه سحابة يومي فاطلب مني ماشئت فقال ياأمير المؤمنين إعفني قال عزمت عليك أن تفعل فقال ياأمير المؤمنين أكتب لي كتابا فيه أنني برئ من البرامكه بخط يدك فتعجب الرشيد وتعجب جعفر لكن الرشيد مع إلحاح الرجل كتب للرجل ما أراد ثم مضى فماهي إلا يومان أو ثلاثة ونسي ماكتب لأنه أمير المؤمنين مشغول بغير ذلك مضت الأيام توالت الأعوام ثم تغير الرشيد على البرامكه كما يعرف تاريخيا "بنكبة البرامكه" فأمر بقتل بعضهم وحبس آل برمك أجمعين فذهب الحرس والجنود إلى ذلك الرجل فقتادوه فقال أدخلوني على أمير المؤمنين فلما أدخلوه أخرج الورقة من جيبه وقال يا أمير المؤمنين لقد كتبت لي عهدا بخط يدك أنني بريء من البرامكه فتعجب الرشيد منه وقال ياهذا ماحملك على ما صنعت قال يا أمير المؤمنين والله مارأيت جعفرا قد وصل إلى أن يرقى على كتفك إلا علمت أنه سيسقط لا محالة.(9/13)
ـ فكلما على شأن الإنسان وبلغ ذروة الاستغناء البشري دل ذلك على قرب زواله إن كان ذلك بموت أو كان ذلك بحادث يزيله عن مقامه ولذلك قال الله جل وعلا (حَتَّى إذَآ أَخَذَتِ الأرْضَ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ) فالعاقل يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه وأن الأيام دول بين الناس ولا يقدم إلا ما يسعده أن يراه في آخرته ولا يتعامل مع الناس إلا بما يحب أن يعاملوه الناس به وإذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا لا إله إلا هو يحكم مايشاء ويفعل مايريد .(9/14)
من معين القرآن ومما دل عليه كتاب ربنا جل وعلا أن الوعد بالنصر لا يعني أن نترك العمل من أجله أن الوعد بالنصر لا يعني أن نترك العمل من أجل تحقيق ذلك النصر ولو كان ذلك النصر وعدا إلهيا أو جاء على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم ودليل ذلك من القرآن أن الله جل وعلا أوحى إلى أم موسى أن ترضعه و أن تلقيه في اليم وقال لها سبحانه وهو أصدق القائلين {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ }. فالله جل وعلا وعد أم موسى أن يرد إليها موسى ومع ذلك مع وعد الله لها لم تقعد عن البحث عنه ولم تتكل على هذا الوعد فقط وإنما ءآمنت وعد الله و ءآمنت بالأخذ بالأسباب والسعي في تحقيقها قال الله جل وعلا عنها :{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُنَ}.(9/15)
نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام دخل عليه ابنه يوسف وهو صغير وقال :{ يَآ أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } فكان يعقوب أعلم الناس بتفسير الرؤيا فعرف من رؤيا ابنه أن ابنه هذا سيبلغ مبلغا عظيما وسيكون ملكا ذا خطب جسيم وأنه سيكون له شأن خلاف إخوته فلما أخبره أبنائه أن يوسف هلك في البرية لم يصدقهم لأنه كان يعلم من وعد الله السابق أن يوسف سيبلغ مبلغا عظيما ومع ذلك مع يقين يعقوب بأن الله سينجز وعده له في ابنه إلا أنه قال لإخوة يوسف : {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَ لاَ تَايْئَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَاْيْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ القَوْمُ الْكَافِرُونَ( فكان حقاً علينا أجمعين وإن كنا نعلم يقينا أن النصرة لدين الله جل وعلا وأن الحضارة الغربية اليوم مهما بلغت ومهما سمت ومهما علت ستكون إلى زوال محض وأن الغلبة لله ولرسوله وللمؤمنين :{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَأِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } لكن ذلك لن يعفينا أبدا من أن نسعى للعمل من أجل نصرة دين الله جل وعلا...
ـ يتكل أناس على أن المهدي سيكون على يديه صلاح الناس ولا ريب أن المهدي في مذهبنا مذهب أهل السنة والجماعة سلك الله بنا وبكم سبيلهم أن المهدي رجل من ذرية الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه اسمه محمد بن عبد الله الحسني العلوي يخرج في آخر الزمان بعد أن ملئت الأرض جورا(9/16)
فيجعل الله جل وعلا على يديه خلاص الأمة فيملىء الأرض عدلا كما ملئت جورا تمهيدا لنزول المسيح عيسى بن مريم كما تظافرت بذلك السنة عن رسولنا صلى الله عليه وسلم فأمر المهدي حق لكن من الضلالة أن نركن في بيوتنا ونفر عن نصرة دين الله جل وعلا فلا نأمر بمعروف ولا ننهى عن منكر ولا نشتغل بدعوة ولا نحرص على تربية أبنائنا ولا نتقي الشرور ولا نسهم في بناء قوة اعتمادا على أن المهدي سيكون على يديه خلاص العالم إن المهدي لن يحارب اليهود والدجال لوحده سيحاربهم بالأمة لا بد قدر الإمكان أن ننشئ واقعا حتى ينشأ فينا المهدي ويخرج كما أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم لكن ينبغي أن نعلم أن النصرة لا تكون بالعواطف ولا تكون بالمنهج الأرضية وإنما النصرة تكون بنص الوحييين بكتاب الله وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم ففيهما الغناة عن تجارب المجربين وعن حياة المجتهدين وعن أتعاب المصلحين مهما بلغوا ومهما علت درجاتهم ومهما عظمت منازلهم.(9/17)
مادل عليه كتاب ربنا جل وعلا أن الابتلاء سنة محظة ربانية لا تبدل ولا تتغير فالله جل وعلا له الملك المطلق يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله لا يسأله مخلوق عن علة فعله كما لا يعترض عليه ذو عقل بعقله ولذلك حتى يكون الناس متمايزون سن الله جل وعلا فيهم البلاء والتمحيص فللبلاء والتمحيص غايات منها أولها بيان المؤمنين من الكافرين تميز أهل الحق عن أهل الضلال { آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت : 2] فيبتلي الله جل وعلا عباده ويمتحن خلقه ويختبر أولياءه حتى يظهر علم الله فيمن هو أهل للجنة وفيمن هو أهل للنار من الغايات الأخر من الابتلاء تطهير العبد وتكفير سيئاته ورفع درجاته وعلو منزلته قال صلى الله عليه وسلم { يبتلى الناس على قدر دينهم } بل قال { أشد الناس بلاء الأنبياء ثم يبتلى الناس على قدر دينهم فإن كان الرجل في دينه صلبا شدد عليه وإن كان في دينه رقة ابتلي بغير ذلك وما يزال البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة } من غايات الابتلاء كذلك التمحيص وإعداد الجيل أو الأفراد لمسؤوليات أعظم فإن جيل الصحابة رضي الله عنهم ليسوا كالأجيال التي بعدهم فقد أناط الله بهم حمل الدين فتعرضوا لابتلاءات وفتن ومحن وتمحيص لم يتعرض لها من بعدهم لأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم أناط الله بهم نصرة رسوله وتبليغ كلمة الله جل وعلا وإحياء السنة ورفع علم الدين فمحصوا في بدر ومحصوا في أحد وفي الأحزاب حتى غدوا رجالا مخلصين يحملون راية الله جل وعلا وينشرون دينه ويبلغون عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله كلمته وهذا الأمر وهو التمحيص والإعداد يكون في الأنبياء والرسل أكثر مما يكون في عامة الناس فنبي الله جل وعلا موسى أراده الله جل وعلا لأن يقف في وجه زعيم أهل الكفر والإيمان والضلال فرعون وعلى أن يقود بني إسرائيل رغم مافطر عليه بنوا إسرائيل من عناد(9/18)
فأخرجه الله جل وعلا من قصر فرعون وهو مدللا يأكل على فراش فرعون ويشرب من شرابه ويرتع في ردهات قصره أخرجه ربه من قصر فرعون إلى أرض مدين ليرعى الغنم فبعد أن كان أميرا أضحى أجيرا من بعد أن كان يطعم ويسقى أصبح لاينال طعامه وسقياه إلا بشق الأنفس فمكث عليه الصلاة والسلام عشر سنين أجيرا عند العبد الصالح على عفة فرجه وإشباع بطنه هذا الابتلاء تمحيص له عليه الصلاة والسلام وتكوين لشخصيتك حتى إذا استوى وبلغ رشده وتم تمامه وبلغ أربعين سنة هيأه الله جل وعلا لأن يقود الناس في عصره فاصطفاه الله جل وعلا على أهل زمانه فلما نجح موسى في الابتلاء هيأه الله جل وعلا لمقام التكليم قال الله جل وعلا { إذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي* إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه : 40] } ثم قال الله الحقيقة كلها قال { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي مامر بك من أيام ومارأيته من كربات أي مامر بك من كربات وما رأيته من ابتلاءات يمشي سبعة أيام لا يجد إلا ورق الشجر عليه الصلاة والسلام ثم يرعى الغنم وهو صفي الله جل وعلا من خلقه ينال من الأذى والتعب والنصب والجوع لأن الله جل وعلا أراده لنفسه أراده لمهمة عظيمة وخطب جسيم ثم لما ينجح في الابتلاء رزقه الله جل وعلا مقام التكليم { يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ(9/19)
وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف : 144] فالذين يأملون اليوم من طلبة العلم وغيرهم أن يكون على يديهم صلاح الناس وأن يكون على يديهم عودة الأمة إلى مجدها العظيم لا بد أن يعلموا أنه لن ينال هذه الراية أحد إلا وقد أخلص لله جل وعلا قلبه فالله جل وعلا أعلم حيث يجعل رسالته فليس كل من طلب الراية ينالها ولا كل من ملك الجياد يسوسها ولكن الله جل وعلا قد أطلع على قلوب عباده ويعلم جل وعلا وهو على عرشه من المخلص من عباده ومن المرائي ومن هو أهل لأن يكون على يديه عوده الأمة وليس القضية قضية فرديه هو كرسي واحد يناله شخص ويحرم منه آخرون ليس الأمر كذلك إن الساحة تحتمل الجميع تحتمل جميع الدعاة وجميع العلماء وليست القضية أصلا من مصبة في العلم الشرعي وحده فقد تكون عودة الأمة على يد ملك صالح أو على يد عابد زاهد أوعلى يد عالم جليل أو على يد هؤلاء جميعا فإن أمة محمد أمة مرحومة كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم فعلى من أراد أن يكون له دور عظيم في نصرة دين الله جل وعلا أن يوطن قلبه على الإخلاص وأن يصبر على الابتلاءات وأن يرضى بقضاء الله جل وعلا وقدره وأن يعلم أن من سنة الله في خلقه التدرج شيئا فشيئا ولا يمكن أن يعطى أحد هبة الله جل وعلا بين عشية وضحاها فقد مر نبينا صلى الله عليه وسلم وهو أرفع الخلق مقاما وأعظمهم مكانة مر صلى الله عليه وسلم بمراحل حتى دخل مكة عليه الصلاة والسلام في عز منيع ونصر من الله جل وعلا بعد عشرين عاما من الجهاد والدعوة صلوات الله وسلامه عليه ، خاتمة المطاف معشر الأحبة أن مما دل عليه القرآن أن من سنن الله التي لا تتبدل و لاتتغير سنة الموت فالموت حتم لا مناص منه لا ينجوا منه أحد لغناه ولا لملكه ولا لجاهه ولا لذريته ولا لغير ذلك قال الله جل وعلا في بيان هذه الحقيقة { ُكلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ(9/20)
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}والموت انفكاك الروح عن الجسد لكن هذا الانفكاك تسبقه أشياء وتكون في ذاته أشياء وتلحقه أشياء عزى الله جل وعلا نبينا بقوله { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} حتى لا يصيبه صلى الله عليه وسلم جزعا من الموت فهو سنة ماضية في الخلق وباقية في الذين تليهم إذا أوشكت شمس الإنسان على المغيب ودنى أجله وحلت ساعة رحيله وكلنا ذلك الرجل بلا ريب بدأ الموت على هيئة سكرات وهذه السكرات قد تكون فترات طويلة وقد تكون أقل إلا أنه لا ينجوا منها أحد ولو لبرهة نبينا صلى الله عليه وسلم حلت به سكرات الموت وهو في بيت عائشة فكان يضع يديه الطاهرتين في إناء فيه ماء ويقول:" اللهم إن للموت سكرات فأعني على سكرات الموت "ويقول :"لا إله إلا الله إن للموت سكرات" وأبو بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه دخلت عليه ابنته عائشة فلما رأت ماحل بأبيها تمثلت بقول الشاعر :
لعمرك مايغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوم وضاق بها الصدر(9/21)
فكشف أبو بكر عن وجهه وقال يابنيه لا تقولي هذا ولكن قولي { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } فسكرة الموت كرباته وأول طرق وصوله إلى بني آدم ثم تنزل الملائكة الموكلة بقبض الأرواح فتحف بالميت دون أن يراه أحد ممن حضر قال الله جل وعلا { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } أي الروح { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أي الناس { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أي إلى الميت { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } أي لا تبصرون الملائكة الذين يحفون بالمحتضر فإذا رآهم أي الميت أو المحتضر فهو لا يخلوا من أحد أمرين إن كان من أهل الإيمان .....(9/22)
ومن كره لقاء الله كره الله لقائه قالت عائشة أو بعض أزواجه يا رسول الله إنا لنكره الموت قال ليس الأمر كذالك ولكن العبد المؤمن إذا حضره أجله جاءته الملائكة فبشرته بنعيم الله فليس هناك شئ أحب إليه مما أمامه فيحب لقاء الله فيحب الله لقائه ون كان كافرا أو فاسقا بشرته الملائكة بعذاب الله وعقابه فليس شئ أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقائه في هذا الموطن يتمنى الإنسان لوعاد ولو برهة من زمن حتى يعمل شيئا من الصالحات تنفعه في تلك اللحظات ـ اللهم أحيينا حياة من تحب لقائه وتوفنا وفاة من تحب لقائه ـ ثم تأخذ الملائكة الروح فلا يشعر من حوله إلا ولصاحبه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فتصعد الروح فإذا صعدت كان من المسنون أن يغمض بصره لأن الروح إذا صعدت تبعها البصر فتمر بالسماوات السبع تنادى بأحسن أسمائها ويشيعها مع كل سماء مقربوها حتى تصل إلى العرش فيقول جل جلاله أكتبوا كتاب عبدي في عليين ثم أعيدوا روحه فإني قد وعدتهم { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } فتعود روحه إلى جسده فأما غير ذلك ـ عافانا الله وإياكم ـ فإن روحه لا يمكث لها أن تصعد قال الله جل وعلا { إن الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فتعود روحه إليه تهوي من السماء إليه قال الله تبارك وتعالى { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} حتى إذا وضع الميت بين يدي من يغسله وتم كفنه والصلاة عليه وحمله الرجال على أعناقهم إن كان مؤمنا تقيا تعود إليه روحه فرحة بلقاء الله جل وعلا فتنادي بصوت يسمع إلا من الثقلين تقول قدموني قدموني لما ترغب فيه من لقاء الله جل(9/23)
وعلا وإن كان غير ذلك فإنها تنادي على نفسها بالثبور ياويلها أين يذهب بها فإذا وضع الميت في قبره فإن في القبر ظلمة وللقبر ضمه وفي القبر فتنة فأما ظلمة القبر فإن الأصل أن القبور مملؤة ظلمة على أهلها فنبينا صلى الله عليه وسلم كانت امرأة تقم المسجد في عهده ففقدها صلى الله عليه وسلم فقالوا يارسول إنها توفيت وخشينا أن نؤذنك أي لم يرد أن نتعبك باعلامك عنها فمضى صلى الله عليه وسلم إلى قبرها وصلى عليها ثم قال:" إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها وإن الله منورها لهم بصلاتي عليهم" صلوات الله وسلامه عليه.
قال العلماء: إن الإنسان ينال من النور في قبره بمقدار عمله وإيمانه وتقواه وقربه من الله جل وعلا أما ضمة القبر فإنه مامن ميت يقبض إلا ويضم قبره عليه وإن لم يشعر به من حوله فإن النبي صلى الله عليه دفن سعد بن معاد رضي الله تعالى عنه ثم قال:" لونجا من ضمة القبر أحد لنجا منها سعد بن معاذ" وروى ابن عدي في الكامل بسند صحيح في حديث أبي أبوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن صبيا قبض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلوات الله وسلامه عليه:" لو أفلت من ضمة القبر أحد لأفلت منها هذا الصبي" ثم بعد ذلك يخفف عنه كل بحسب إيمانه وتقواه ثم تكون فتنة القبر وفتنة القبر سؤال الملكين يسألان كل مقبوض عن ربه ونبيه ودينه فيوفق للصالحات والجواب من كان موفقا للصالحات الدنيا فيحرم من الخير من كان محروما من الخير في الدنيا قال الله جل وعلا { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } .(9/24)
قبل أن نختم أيها المؤمنون إن كل ماذكر يدفع الإنسان إلى أن يسارع في التوبة إلى الله جل وعلا وإن الله جل وعلا قريب مما دعاه سميع لمن سأله رحيم بمن لجأ إليه عفو على من عصاه وهو جل وعلا أرأف من ملك وأرحم من سئل وأجل من ابتغي فباب التوبة مفتوح إلا أن الله جل وعلا أخبر في كتابه أن الروح إذا غرغرت والعذاب إذا نزل بأمة ماقبل الله جل وعلا حينها توبة أحد قال الله تبارك وتعالى { فلما َلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } إلا أن هذه السنة استثنى الله جل وعلا منها فقط قوم يونس لحكمة لا نعلمها كما قال أهل العلم فإن يونس عليه الصلاة والسلام لما حذر قومه العذاب ورجع عنهم وكان ماكان من أمره وابتلاع الحوت له لما شعر قومه بدنوا العذاب منهم وأغمهم العذاب كقطع الليل المظلم خرجوا إلى الصحراء وأخذوا معهم أزواجهم وأولادهم وما يملكون من بهيمة الأنعام ثم فرقوا بين المرأة وولدها وبين البقر وعجلانها وبين الإبل وأولادها وبين الشياه وحنانها فحنت الأمهات إلى الأولاد وحنت الأولاد إلى الأمهات وأخذ الجميع يجأرون إلى الله جل وعلا في ساعة عظيمة يسألون الله جل وعلا أن يرفع عنهم العذاب رغم أن العذاب قد وقع حال ونزل بهم لكن الله جل وعلا رحمة بهم لحكمة كما قلت لاتعلم كشف الله عنهم العذاب رحمة بهم رغم أنهم آمنوا في ساعة اضطرار ولم يؤمنوا في ساعة اختيار قال الله تبارك وتعالى { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } ثم عاد إليهم نبيهم صلى الله عليه وسلم(9/25)
فأسلموا له وأمنوا به كما أخبر ربنا جل وعلا في كتابه { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } من هذا كله من دلائل القرآن نقول أيها المؤمنون إن باب التوبة مفتوح وإننا في هذا العصر تحيط بالمرء المؤمن من الفتن مالله به عليم ولكن الاعتصام كله بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويحسن بنا أن نربي أنفسنا على أن تتعلق بالله جل وعلا فلا تقرأ الأعين إلا بما يرضي الله جل وعلا وهذه منزلة راقية للمؤمنين وقد قال بعض أهل العلم من قرت عينه بالله قرت له كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات أما أن يشرح الإنسان في كل واد ويركع في كل مكان ويأمل أن ينال من شهوات الدنيا يحاول أن يجمع منها ما استطاع فإن ذلك بلا ريب ولا شك سيكون على حساب دينه وعلى حساب آخرته وقد يدفع وقت لا ندم أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ورحمته التي وسعت كل شئ أن يحيينا وإياكم حياة طيبة وأن يرزقنا وإياكم خاتمة حسنة وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه .
*نشرع الآن بإذن الله في الإجابة على أسئلتكم *
س/ هذا يقول إنني أشكوا من قسوة في قلبي فما علاج ذلك ؟ وكيف أتدبر القرآن الكريم وأجد حلاوة ذلك ؟ وكيف أجد لذة مناجاة الله في الدعاء والصلاة وسائر العبادات ؟(9/26)
ج/ لعل شئ من هذا قد مضى في المحاضرة لكن ينبغي أن يعلم أن قسوة القلوب الكل جميعا يشكوا منها وهي والعياذ بالله ليست بدلالة خير لكن على المؤمن أن يعلم أن الجوارح والقلوب وماشابه ذلك أرض وما ينزل عليها من القرآن غيث والغيث لا ينبت في كل أرض فحتى تكون القلوب مهيأة لتدبر القرآن لا بد أن تكون في أول الأمر صادقة مع ربها جل وعلا تريد النجاة لنفسه تريد أن تكرم يوم يهان العباد تريد أن تفوز بظلال العرش يوم يحشر الخلائق هذه الغاية إن وجدت في القلب صادقة وكان المؤمن صادقا مع ربه في رغبته في النجاة فإنه بلاشك سيمهد الله جل وعلا أسباب النجاة لكن إذا كان المرء والعياذ بالله لم تشبع نفسه بعد من الشهوات ولم ترتوي من المحرمات فهو قدم في الدنيا وقدم في الآخرة قدم في الطاعات وقدم في المعصية فهذا قلما يرزق لين القلوب وخشوعها بين يدي الله جل وعلا فالأمر يحتاج إلى عزيمة ويحتاج إلى معرفة تامة بالله جل وعلا فإن العبد كلما كان بالله أعرف كان من الله أخوف .
س/ هذا يقول يسأل اليهود والنصارى عن عدد المصلين من المسلمين هل عدد المصلين في صلاة الصبح مثل عدد المصلين في صلاة المغرب يقول إذا تساوى العدد قوية شوكة المسلمين. فما حكم الأباء الذين يتركون الأبناء يسهرون كل الليل وينامون عند وقت الأذان وتجد الشباب حول المساجد ولكن عند الأذان يذهبون إلى البيت ولا يحضرون إلى المسجد ؟(9/27)
ج/ هذه المقولة نقلت والله تعالى أعلم بصحتها عن بعض زعماء اليهود وسواء صح نقلها أو لم يصح فإن المعركة بيننا وبين اليهود والنصارى معركة عقلية معركة بين الإيمان والكفر الله جل وعلا إذا تخل المؤمنون عن الأسباب المقتضية للنصر عاملهم تبارك وتعالى معاملة الناس فمثلا في معركة أحد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرماة ألا يغادروا الجبل فلما غادروه تخلوا عن سبب النصر وهو السمع والطاعة لأمر الله فاقتضت سنة الله في خلقه أن يعود الأمر إلى كونه دول وسجال بين أهل الكفر وأهل الإيمان قال الله جل وعلا { إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وقال سبحانه { وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } فعلو أهل الإسلام مرتبط كل الارتباط بتمسكهم بدينهم واعتصامهم بحبل الله جل وعلا المتين أما ماذكره السائل عن الأباء وتفريطهم في أبنائهم فإن واجب التربية واجب ملح منذ القدم وهو في هذا العصر أشد وجوبا وأعظم إلزاما لأن الفتن كما قلنا أحاطت بالناس ومسؤولية الآباء في هذا الشأن مسؤولية جسيمة لكن نرى والله تعالى أعلم أن يتخذ الإنسان سبيل التدرج في تربية أبناءه وألا يعنت إلى تنفيرهم من دين الله تبارك وتعالى وأن يحرص على أن يحببهم في طاعة الله جل وعلا ماستطاع إلى ذلك سبيلا .
س/ يقول جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده :"تكون في كل نبوة ماشاء الله ثم يكون فيكم خلافة راشدة على منهاج النبوة" هل المقصود في هذه الخلافة خلافة المهدي أم قبل المهدي سيكون هذه الخلافة ؟
ج/ هذه الخلافة تكون قبل المهدي وربما وقعت في بعض أعصر المسلمين كما وقعت في عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عليه فإن عهد عمر رضي الله تعالى عنه كان قريب من منهاج النبوة وإن كان عمر في وسط ملوك بني أمية.(9/28)
س/ هذا يسأل عن كتاب في السيرة يريدنا أن نرشده إليه ؟
ج/ ليس هناك كتاب يغني عن كتب هذه من المقولات الخاطئة علميا فيوجد في كل كتاب مالا يوجد في غيره والنظرة والاستسقاء من عدة أرويه تكون شخصية متكاملة لكن من الكتب التي لها قدم سبق في السيرة النبوية كتاب " السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة " للدكتور محمد محمد أبو شهبه وكتاب " السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية " لمهدي رزق الله هذان كتابان جيدان في بابهما وغيرهما من كتب السيرة وذلك يمكن الانتفاع به .
س/ نسمع من بعض الأخوة من طلبة العلم أنه لا جهاد في سبيل الله في عصرنا هذا لعدم تمكن ذلك من تفكك المسلمين وبعدهم عن ذكر الله وحكم الله جل وعلا فهل صحيح ذلك أفيدونا أفادكم الله ؟
ج/ لا يمكن أن نقول أنه لا جهاد هذه مقولة من الصعب أن يجرأ طالب علم على أن يقولها في غيره لكن من الممكن القول إن الجهاد في عصرنا الحاضر لم تتكمل عناصره كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين لكن لا يعني ذلك أن من اجتهد من المجاهدين والمقاتلين في سبيل الله جل وعلا وحمل على أعداء الله لمن ثبت كفره كالروس مثلا وجاهدوا في حق الله جل وعلا حق جهاده يبتغون بذلك نصرة دين الله تبارك وتعالى أو الفوز بالشهادة لايمكن أن يرمى هؤلاء بالجهل أو يرموا بالضلالة فهم على خير وإلى خير إن شاء الله تبارك وتعالى لكن يمكن القول إن ساعة القتال الحقيقية ربما لم تحل بعد .
(إن شاء الله نكمل بعد الآذان)(9/29)
س/ هذا سؤال وارد من جهة النساء تقول أنا امرأة ملتزمة ولله الحمد تزوجت من رجل من للتزامه ولدي منه ثلاث بنات ولكن بسبب قرناء السوء انتكس ثم التزم ثم انتكس وسافر إلى تلك الديار و الآن هو عاق لوالديه سيء الأخلاق حلق لحيته قليل النفقة عليهم أي على والديه وكثير اللعن لهم متهاون في أداء الصلاة لا يصليها في وقتها ولا يصلي مع الجماعة ولقد منعته من نفسي من باب الإصلاح والتهذيب وهو يدعوا علي باللعنة أرجوا الإجابة والتوضيح ؟
ج/ أولا تحمد هذه المرأة على صبرها ونسأل الله جل وعلا أن يزدها ثباتا في الدين وأن يقر عينها بإيمان بناتها وبعودة زوجها إلى ماكان عليه من الأعمال الصالحة وطاعة الله تبارك وتعالى أما منعها لزوجها من نفسها فإن الأصل أن المرأة لا تمنع نفسها من زوجها مالم يفرق بينهما تفريقا شرعيا قائما على أصوله وحيث أنه لم يتم ذلك التفريق بعد لا عن طريق جهة الإصلاح ولا عن طريق قاض شرعي ومازالت المرأة في عصمته فإنه ليس لها أن تمنعه من نفسها فإن فعلت ذلك من باب التهذيب وإصلاحه فهو أمر حسن بلاغاية لكن إن رأت من خلال محاولة أو محاولتين أن هذا الأمر لم يغير فيه شئ فإنها تمكنه من نفسها أداء بما أوجبه الله جل وعلا عليها تجاهه والأمر منفك عن الحالة الأولى لأن هذا حق له ومحاربة أهل الشر لا تكون بالشر نفسه فلا تكون بتغير ماأوجب الله جل وعلا علينا من حقوق فإنه يخشى إذا منع من زوجته أن يستمر في معصيته وأن يشعر بعناد من حوله له إلى غير ذلك مما يتوقع من المفاسد فالذي أراه والله تعالى أعلم أن تفصل بين تمكين من نفسها وبين نصحه إياه ودعوته إلى الخير وحثه على الطاعة وتذكيره بأيام الله وماشابه ذلك من وسائل إصلاحه أما ماله من حق الزوجية فهذا حق شرعي له لا يمنعه ماذكرته من صفات لا تمنعه ذلك الحق اللهم كما قلت إلا أن يفرق بينهما وإن فرقت بينهما زال السبب الداعي إلى تمكينها منه.(9/30)
س/ هذا يقول هل خروج المهدي قبل خروج المسيح فبعض الناس ينكرون خروج المهدي فما رأيكم في هذا ؟
ج/ خروج المهدي حقا كما بينت فظاهر السنة كما يقول العلماء إن خروج المهدي يكون قبل خروج المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بل إن ظاهر السنة على أن المسيح عندما ينزل يكون الناس قد أعدوا عدة لصلاة العصر فلما ينزل المسيح عيسى ابن مريم يتأخر المهدي ليقدم المسيح لكن المسيح يرفض ويقدم المهدي فيصلي المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وهو أنه أحد أولي العزم من الرسل يصلي وراء فرد من أمه محمد صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام:" إن منكم لمن ليصلي عيسى بن مريم خلفه".
س/ هل إذا مر يوم ولم يقرأ الإنسان شيئا من القرآن يعتبر هاجرا للقرآن ؟
ج/ لا يعتبر هاجرا لمعنى المطلق لكن يعتبر فيه شيء من التفريط فالقرآن كما ذكرنا في المحاضرة كتاب الله وحبله المتين فينبغي على المؤمن أن يتدبره ويقرأه وإن لم يتمكن من القراءة من المصحف تعبدا فليقرأ ولو يسيرا من حفظه فرارا من قول الله جل وعلا { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } وإن كان هجر القرآن وقراءته مراحل يطول شرحها .
س/ يقول هل يجوز للذي يطلب العلم أن يلقي مواعظ في المساجد ؟(9/31)
ج/ إن لم يلقي طلبة العلم فمن الذي يلقي نحن نقول القاعدة في إلقاء المواعظ تعتمد على شئ واحد أن لا تقول مالا تعلم يتكلم الإنسان في حدود علمه فإذا تكلم الإنسان في حدود علمه لم يبقى لأحد سبيل إليه المهم أن لا نتكلف مالا نعلم { ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وألا يكون في كلامنا همز ولمز في غيرنا وإظهار لنقص غيرنا من العلماء أومن الدعاة وأن نقصد في مواعظنا وخطبنا ومحاضراتنا إصلاح النفس وتغيير الفساد وإحقاق الحق وإزهاق الباطل لانقصد به أن نطفئ زيدا أو أن نحرم عمرا أو نؤخر أحدا فهذه مقاصد دنيويه ليست من دين الله جل وعلا في شئ مع إحترام غيرنا من العلماء والدعاة إذا اختلف معهم في حكم شرعي فواجب عند اختلاف الحكم إحسان الظن بأهل العلم .
س/ هذا يسأل عن المذي وخروجه من الإنسان مايترتب على ذلك من حكم شرعي ؟
ج/ الذي يخرج من ذكر الرجل البالغ ثلاثة أشياء البول والمذي والمني فأما البول فيتعلق به غسل الفرج أعلى الفرج مكان الخروج أو مسحه وأما المذي فيتعلق به غسل الفرج مع ماحوله وأما المني سواء كان باحتلام أو بغيره فإنه يلزم منه غسل الجسد كله فبهذا إن شاء الله تتضح الصورة وخروج المذي ينقص الوضوء ويلزم منه غسل الفرج وما حوله كما في حديث علي رضي الله عنه .
س/ هذا يشكوا من أنه إذا حضر محاضرة ما شعر بالإيمان وعلوه وزيادته في قلبه لكنه إذا خرج عاد إلى المعاصي ؟(9/32)
ج/ هناك فرق بين أن الإنسان إذا سمع محاضرة أو قرأ القرآن أو صلى في الحرم أوسمع تلاوة أحد المشائخ الفضلاء أو ما شابه ذلك ازداد إيمانه وبين أن يعود إلى المعصية كون الإنسان لا يكون على منزلة عالية في الإيمان في وقت واحد هذا حق وكلنا ذلك الرجل كما أخبر ذلك الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم أن حاله تختلف مابين حاله عند النبي صلى الله عليه وسلم وحاله في أهله وذويه ونسائه لكن أن يعود إلى المعاصي هذه مشكلة أخرى هنا يجب على الإنسان أن يتفقد حاله لما لم تؤثر فيه تلك المواعظ إلى درجة تجعله يكف عن تلك المعاصي والخطأ فينبغي عليه أن يتأمل نفسه وأن يصدق مع الله جل وعلا وأن ينظر في الأسباب التي جعلته غير قادر على الانفكاك على المعاصي فيحجب عنها ويتركها ويبتعد عنها حتى تتهيأ له عباده الله جل وعلا على الوجه الأكمل وقد قيل :
إن السلامة من سلمى وجارتها
أن لا تمر على سلمى وواديها
س/ يقول يحس أحد الناس عند صلاتي بعدم البكاء مع الإمام فهل هذا من قساوة قلب أو مرض قلب ؟(9/33)
ج/ هو أنه يستطيع الإنسان أن يبكي في كل فرض ومع كل إمام وعند كل تلاوة هذه منزلة عالية نسأل الله أن يبلغنا وإياكم إياها لكن كذلك ينبغي على الإنسان تمر عليه أشهر أو سنين يدخل المساجد ويقرأ القرآن ويصلي وراء الأئمة ولا تذرف دمعته هذا يحتاج إلى أن يحاسب نفسه لأن البكاء من خشية الله جل وعلا ذكر الله في كتابه أنه من أعظم مناقب الصالحين وأجل صفات المتقين { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً }{ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً* و َيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً*} والمقصود من ذلك أن الإنسان قد تكون فيه معصية والعياذ بالله تحول بينه وبين البكاء من خشية الله فهو في غفلة عنها وهروب منها وإصرار عليها تمنع عيناه أن تذرف و تخشع لله جل وعلا ومثل هذا ينصح إلى أن يأتي المقابر إلى أن يمسح على رؤوس اليتامى أو ما أشبهه ذلك من الأعمال والأفعال والأقوال التي تساعد على البكاء من خشية الله جل وعلا على أنه ينبغي أن يعلم أنه كلما كان البكاء من خشية الله تبارك وتعالى في السر دون أن يراك الناس كان أعظم واجل وأعلى لماذا لأن النفس في مكان الخلوة عادة تكون أجرأ على المعاصي فعندما تبكي في الخلوة دلاله على أنها بلغت مبلغا عظيما في الإيمان نقول إن النفس في الخلوة تكون أجرأ على المعاصي فعندما ترزق البكاء في الخلوة دلالة على أنها بلغت مبلغا عظيما في الإيمان ولذلك قال صلى(9/34)
الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة { سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله "ثم قال في خاتمتهم:" ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه } فهذا الرجل في مكان خالي لو عصى الله لما رأه أحد ومع ذلك دعت قلبه وجوارحه وعيناه أن تدمع من خشية الله تبارك وتعالى فهذا حق لله جل وعلا أن يظله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله .
س/ هذا يسأل عن طريق أوسبيل يمكن له من خلاله أن يحفظ القرآن الكريم يقول أنني أحاول كل يوم وأجل إلى غير ذلك من العوائق ؟
ج /كتاب الله جلا وعلا إن كان في صدر العبد فهذا مقام من العلم والإيمان عظيم فإذا رزق تدبره والعمل به كان ذلك أعظم منزلة وأرفع مقاما،أما سبل وسائل حفظ القرآن الكريم كما أراد السائل فتختلف الناس في طرق حفظه لما هموا بحفظه ولكن هناك من الطرائق: أن يقوم الإنسان به في الليل فإن الإنسان لو جعل لنفسه حزبا أو جزءاً أو ماشابه ذلك ويراجعه في النهار ثم يقوم به في الليل كان ذلك أمكن في حفظ كتاب الله تبارك وتعالى،أن يقرأه على غيره جهراً فإن القراءة على الغير جهراً غالبا يثمر بقاؤه في القلوب وتمكينه في الصدور وذلك حفظه ،كذلك من وسائل حفظ القرآن الكريم أن يتوخى الإنسان ساعات الفراغ كبعد طلوع صلاة الفجر وبعد صلاة العصر لمراجعة كتاب الله جل وعلا وتدبره وتلاوته وقراءة آياته..
س/ هذا أخيرا يسأل أو يطلب المزيد من المحاضرات ؟(9/35)
ج/ قبل أن أعد بهذا جزما لكن لا شك أنه مامن عاقل إلا ويتمنى أن يكون سببا في تذكير الناس بربهم جل وعلا وأن يدلهم على شريعة الله تبارك وتعالى وهذه أمنية كل مؤمن منصف عاقل عالم بما أعده الله جل وعلا من النعيم لمن دعا إليه { إن الله وملائكته وأهل سماواته وأهل أرضه ليصلون على معلمي الناس الخير } لكن قد تكون هناك من الصوارف لبعض الدعاة لبعض العلماء تعوق القيام بهذا الواجب على الوجه الأكمل أو على النحو الأتم وفي هذه المدينة المباركة اعتاد الناس أن تكون محاضراتهم الكبرى في هذا المسجد المبارك فحري بطلبة العلم وهم كثر في هذا المسجد اليوم أن يسعوا في إقامة هذه المحاضرات ولو بدا بعضهم تدريجيا وألا يلتفت إلى عدد من يحضر قلة أو كثرة فإن هذه الأمور بيد الله من صدق مع الله صدقه الله جل وعلا .
س/ هذا يقول هل الأفضل طلب العلم أم الدعوة إلى الله مع أن الدعوة تكون في قليل من العلم ؟
ج/ لا تعارض بين الاثنين بإمكان الإنسان أن يدعوا إلى الله جل وعلا في ساعات من يومه ونهاره ويجعل بعض وقته وبعض ساعات ليله في طلبه للعلم وتحصيله للعلم للعلم الشرعي وعكوفه بين يدي العلماء ومراجعته للمسائل فلا تعارض بين الاثنين بل هناك من التلازم بينهما لأن الإنسان إذا حدث بما علم كان ذلك أبقى للعلم في صدره وأمكن في نفسه فيستطيع بذلك أن يجمع بين مابين أجر الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وبين طلبه للعلم الشرعي وكما قلت لا تعارض بينهما .
هذا ما أردنا بيانه سائلين الله جل وعلا لنا ولكم العفو والعافية وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
تم بحمد الله وتوفيقه
***المخبتات***
al_mokhbtat(9/36)
وقفات مع آيات (2)
[سورة ص]
للشيخ / صالح بن عواد المغامسي – حفظه الله –
درس شهري
يوم الثلاثاء 17/11/1428
بعد المغرب بجامع إمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -
بحي العوالي بمكة المكرمة
*هذا التفريغ بإشراف منتدى القطوف الدانية *
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى ، وقدر فهدى ، وأخرج المرعى ، فجعله غثاءًا أحوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله ، بلغ عن الله رسالاته ، ونصح له في برياته ، فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبيا عن أمته .
أما بعد : أيها المباركون في هذا البلد الحرام ، هذا هو اللقاء الثاني حول تفسير القرآن العظيم ، والسورة التي نحن بصدد التأمل والتوقف مع بعض آياتها هي سورة ص .
وهذه السورة سورة مكية بإجماع على الأظهر ، وإن خالف في هذا بعض أهل العلم لكن الإجماع منعقد قبل مخالفتهم على أنها سورة مكية .
قال ربنا فيها - وهو أصدق القائلين - : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ - كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص:1-3] ، أما الحرف "ص" فهذا من فواتح السور التي أثبت العلماء أن المقصود بها شيء عظيم ، لكنهم اختلفوا في تحقيق ذلك المقصود ، والأظهر – والعلم عند الله – أن هذه الأحرف بمثابة ما يُستفتح به كلام العرب ، كما يقولون العرب : ألا ، أَمَا ، أمَا والله ، ألا والله ، فهذا – والعلم عند الله – أن هذه الحروف أشبه بهذا الأمر .(10/1)
ثم قال ربنا : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص:1] ، لا خلاف أن الواو هذه واو القسم ، وأن الله جل وعلا أقسم هنا بالقرآن ، والقسم هنا قسم تنويه وإظهار لشرف القرآن ؛ بدلالة أن الله قال بعدها : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص:1] ، وكلمة ذو إنما تستخدم في الإضافة إلى الأمر الذي هو ذو بال وذو شأن عظيم ، وكلمة الذكر تحتمل معنيين :
المعنى الأول : أن يقصد بالذكر هنا الشرف ؛ ويدل عليه قول الله جل وعلا في سورة الزخرف : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ } [الزخرف:1] ، أي : وإنه لشرف لك ولقومك .
والأمر الثاني : أن يكون المعنى ، الذكر هنا معناه التذكير ؛ أي : أن القرآن يذكر الناس بالعلم الذي فيه منفعتهم ، كالعلم بأسماء الله وصفاته جل وعلا ، والعلم بالأحكام الشريعة ، والعلم بالجزاء والبعث والنشور .
ولا يَمنع أن يكون المعنى حامل للمعنيين ؛ لأن من قواعد التفسير (أن الآية إذا احتملت معنيين لا تعارض بينهما جاز حملهما على هذين المعنيين ما لم تكن هناك قرينة صارفة لأحد المعنيين دون سواه) .(10/2)
قال ربنا : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص:1-2] ، بل هذه للإضراب ، أي : للانتقال ، وبل تأتي للإضراب اتفاقا ، لكنها تأتي للإضراب إما للانتقال ، وإما للانتقال والإبطال في آن واحد ، ويعرف ذلك بأن تنظر فيما بعدها وما قبلها ، فإن كان ما قبلها من كلام أهل الإشراك وكلام أهل الكفر ، فإن ما بعدها يكون إضرابا إبطاليا له ، وأما إن كان كلا الأمر مسند لله جل وعلا فيكون الإضراب هنا إضراب انتقال ، فهنا في قول الله جل وعلا : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص:1] ، فالقرآن ذي الذكر هذا قسم من الله ، فقول الله جل وعلا : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص:2] محال أن يكون إضراب إبطال ؛ لأن كلمة "والذكر" لا يمكن إبطالها ؛ لأن المتكلم بها هو الله جل جلاله ، فهي مسندة إلى رب العزة ، إلى من تكلم بالقرآن أصلا ؛ وهو الله جل جلاله ، فعلى هذا يصبح المعنى { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص:2] ، هذا نوع انتقال في الكلام ، وهذا كانت تعرفه العرب في كلامها ، ومن تأمل المعلقات وجد أنهم يبدؤونها بذكر الديار والأحبة والفراق ثم ينتقلون إلى مرادهم ، فهذا من جنس كلام العرب الذي تعرفه في أساليبها .
لكن العلماء اختلفوا هنا في جواب القسم في قول الله جل وعلا : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص:1] على سبعة أو ثمانية أقوال ، والأظهر عندي - والعلم عند الله - أن جواب القسم محذوف تقديره : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص:1-2] يصبح الأمر قبلها ليس الذي يقولونه صواب ، أي ما حكاه أهل الكفر في القرآن ليس بصواب أبدًا ، من زعمهم أن القرآن هذا أساطير الأوليين .(10/3)
قال ربنا : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص:1-2] ، ثم قال الله : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص:3] ، يخبر الله جل وعلا أن أمما عدة لا يمكن حصرها ، لا يحصرها إلا خالقها كفرت بالله من قبل ، ومع ذلك أهلكها وأبادها ، كما قال ربنا تبارك وتعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } [هود:100] أي منها قائم ظاهر يراه الناس كالحجر ديار ثمود ، ومنها حصيد أي لم يبق لها أثر وليس لها وسم أو أمر أو علامة تدل عليها أُبيدت بالكلية ، فقال ربنا جل وعلا هنا : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } [ص:3] ، والصناعة النحوية ضرورة في علم التفسير ؛ فكم هنا خبرية وليست استفهامية ، والفرق الجوهري بينهما أن كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب إنما يراد بها الإخبار عن الكثرة ، قال الفرزدق :
كم عَمَّتٍ لك يا جرير وخالةٍ فَدْعَاءَ قد حلبت علي عِشَارِي
فهو لا يريد جوابا إنما يعير جريرا بكثرة من يخدمه – يخدم الفرزدق – من خالات جرير وعماته .
فهنا قول الله جل وعلا : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } [ص:3] ليس المراد منه أن يُجاب ويُعد تلك القرون ، لكن الإخبار عن الكثرة وهذا أوقع في النفس ، فالخلاف الجوهري ما بين كم الخبرية وكم الاستفهامية ؛ أن كم الاستفهامية تحتاج إلى جواب ، وكم الخبرية لا تحتاج إلى جواب ، ويتفقان في أن كلا منهما يصدر به الكلام ، ومبني غير معرب .(10/4)
قال ربنا : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا } [ص:3] من الذي نادى ؟ من أُهلكوا ، متى نادوا ؟ نادوا حين حلول العذاب قال ربنا : { فَنَادَوْا } ، لكن قال الله بعدها : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص:3] لات هذه أصلها لا ، "لا" تعمل عمل ليس ، يقصد بها النفي وتعمل عمل ليس ، والتاء فيها ليست للتأنيث وإنما زائدة ، وهي تدخل في نفي الأزمنة ، فقول الله جل وعلا : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص:3] اسم لات محذوف والتقدير : ولات الحين حين مناص ، أي : ليس الوقت وقت هروب ولا نجاة ولا منجى ؛ لأنهم لا ينادون ولا يستغيثون إلا إذا حل بهم العذاب ، وقد مضت سنة الله جل وعلا في خلقه أن العذاب إذا حل لا يقبل حينها توبة تائب ، إنما كان من استثناء الله لقوم يونس قال الله جل وعلا : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98] ، أما غيرهم قال الله جل وعلا عنهم : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ } [غافر:85] أخبر الله جل وعلا عن إيمانهم قال : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [غافر:85] أي : مضت سننه جل وعلا في خلقه أن العذاب إذا حل ونزل لا ينفع ، فهنا قال الله : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص:3] .
ثم ذكر الله جل وعلا حال كفار قريش – والسورة مكية – قال الله جل وعلا : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [ص:4] ثم جعلوا كِذْبه بقولهم : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5] .(10/5)
كلمة لا إله إلا الله كلمة كريمة على الله جدًا ، وليس هناك كلمة أكرم على الله من هذه الكلمة ، فما خلقت السماوات والأرض ، وما قام سوق الجنة والنار ، ولا كان يوم العرض ؛ إلا ليوحد جل وعلا وحده ويعبد وحده دون سواه ، لكن هؤلاء القرشيين آن ذاك - كفار مكة الأوليين – لم يقبلوا هذا وجعلوا القول بهذا القول كذبًا وسحرًا وافتراءًا كما قال الله جل وعلا عنهم – حكاية عنهم – أنهم قالوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5] فالسور المكية تعنى بثلاثة أمور :
بيان حال الإشراك الذي عليه كفار مكة.
بيان تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم .
بيان إنكارهم للبعث والنشور .
وهذه السورة الكريمة استوفت هذه المواقف الثلاث كلها .
قال الله جل وعلا : { وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:4- 5] ثم قالوا : { مَا سَمِعْنَا } وما هنا نافية { بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } [ص:7] والملة الآخرة هنا تحتمل معنيين :
المعنى الأول : أنهم يقصدون ملة النصارى ؛ لأنه ليس بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وعيسى نبي ، وهذا القول هو قول الجمهور ، ودين النصارى الذي وصل إلى القرشيين كان يقول بالتثليث ، هذا قول ، وعليه الجمهور .(10/6)
قول آخر : أن يكون المقصود بقول الله جل وعلا عن كفار قريش { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } [ص:7] أي ملة آبائهم وأجدادهم ، ويؤيد هذا المنحى ؛ أن كفار قريش قالوا لأبي طالب عند موته : (أترغب عن ملة عبد المطلب) ، فأصحاب هذا القول - أي القول الثاني – هذا دليلهم ، أن الكفار قالوا لأبي طالب : (أترغب عن ملة عبد المطلب) ، فالمقصود هنا قالوا إن قول الله جل وعلا حكاية عن هؤلاء الكفار : { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } [ص:7] يقصدون ملة آباءهم .
وقلت : إن الجمهور على أن المقصود بالملة الآخرة دين عيسى ابن مريم فيما وصل إليهم ؛ لأن دين عيسى ابن مريم وصل إليهم محرفا وهو القول بالتثليث .
{(10/7)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ } [ص:7] أي : يزعمون أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كذب وافتراء ليس له شبهة وليس له دعوى في نظرهم { إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ } [ص:7] ، ثم ذكروا مانعًا آخر ؛ وهو الحسد { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } [ص:8] ، فجعلوا حسدهم لنبينا - صلى الله عليه وسلم - مانعا في قبول الدعوة ، والمرء عياذا بالله أحيانًا يمنعه حسده أن يقبل الحق ؛ فالوليد بن المغيرة كان قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - معظمًا في قومه ، فلما أرادت قريشا أن تعيد بناء الكعبة وقرروا في المقام الأول هدمها ، استعظموا أن يبدؤوا في نقض حجرها ، ولم يجسر منهم أحد أن يقدم على أن ينقض الكعبة ، فقدم الوليد بن المغيرة – هذا قبل النبوة ، قبل بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقدم إلى الكعبة حافي القدمين ، وقال : (اللهم إنك تعلم أن لا نريد هدمه إلا لنعيد بناءه) ، ثم بدأ ينزع أحجار الكعبة ويخلعها من مكانها ، فلما رأت قريش أن الوليد لم يصبه أذى ، تجاسرت واجتمعت وساعدته وأعانته على هدم الكعبة ، مع هذا الشخصية التي تراها الآن قُدر أن يكون حيا يوم بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فغلبه الحسد ؛ كيف ينبأ نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويبعث ويرسل وهو شاب يومئذ قد استوفى الأربعين ، وهو - أي الوليد – له من المال والبنين والعزة والمنعة في قرش كلها وفي خارج قريش ، ومع ذلك لا يأتيه الوحي ويأتي غيره ؟ قال ربنا : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً - وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً - وَبَنِينَ شُهُوداً - وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً - ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ - كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً } [المدثر:11- 16] ، هنا قال الله جل وعلا : { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ(10/8)
لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } [ص:8] قلت في الأول : إن بل يؤتى بها للإضراب الانتقالي وإضراب الإبطال ، هنا جاء إضراب الإبطال ، قال الله جل وعلا : { أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا } [ص:8] هذا قول من ؟ قول الكفار ، قال الله بعدها : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي } [ص:8] أي أن المانع الحقيقي هو شكهم في القرآن ، شكهم في أن هناك بعث ونشور ، فيسمى هنا الإضراب إضراب إبطال .
{(10/9)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ - أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ - أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ - جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } [ص:8-11] ، يستقر عقلا أن من يقدر على الأقوى يقدر على الضعيف ، من يقدر على الأمر الممتنع يقدر على الضعيف ، فالله جل وعلا هنا يقول : إن هؤلاء كفار مكة ليسوا بشيء إذا ما قيسوا بمن مضى من الأمم ومن كان قبلهم ، { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } [ص:12] ذكر الله جل وعلا إخوان لوط وأصحاب الأيكة ثم قال : { أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } [ص:13] أي من مضى من عاد وثمود وفرعون وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك هم الأحزاب حقا ، أولئك هم الممتنعون ، فلما ظهر لهم جليا أن الله أهلكهم ، لن يكون إهلاك كفار مكة بأعظم من هؤلاء ، ويعرف الحصر هنا أن العرب إذا عرفت اسميين متتابعين في غالب أمرها تنعني – بلاغيا – بالتعريف ؛ ما يسمى بالحصر الإستدعائي ، لأن أولئك معرفة قطعا لأنها اسم من أسماء الإشارة ، وأسماء الإشارة أحد المعارف الست ، والأحزاب معرفة باللام ، واللام هنا كما أفادت التعريف أفادت عند البلاغيين يسمونها لام الكمال ، فقول الله جل وعلا : { أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } [ص:13] أي أولئك القوم حقا ، فإذا كان هؤلاء عجزوا أن يردوا عن أنفسهم عذاب الله وسخطه ،فمن باب أولى أن يعجز هؤلاء قال الله تعالى : { أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } [ص:13] .(10/10)
ثم ذكر الله تعالى نبأ نبي من أنبياءه ؛ هو داود عليه الصلاة والسلام قال ربنا : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [ص:17] هذه اصبر جاءت متعدية بحرف الجر على في موضعيين في نفس السورة ، في أول السورة قال الله : { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } [ص:6] وهنا قال الله لنبيه : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [ص:17] ، لكن على في الموضعيين تختلف ، فعلى في الأولى التي ذكر فيها قول أهل الإشراك هذه على تفيد الاستعلاء ؛ أي قالوها من منطق تجبر وتكبر ، أما في قول الله جل وعلا : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [ص:17] فهنا لا تفيد الاستعلاء تفيد المعية ؛ أي اصبر مع ما يقولونه لك ، وليست على بمعنى الاستعلاء .
{(10/11)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص:17] ورد عند البخاري في التاريخ – وليس في الصحيح – من حديث أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر داود قال : ”كان داود أعبد البشر? صلوات الله وسلامه عليه ، قال الله عنه هنا : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ } [ص:17] أي ذا القوة التي جعلها في طاعة الله { إِنَّهُ } أي داود { أَوَّابٌ } أي كثير الأوبة والرجعة والتوبة إلى ربه ، ثم قال الله : { إِنَّا } [ص:18] وهي عائدة إلى رب العزة ، ويراد بهذا الجمع في إنا التعظيم ، ولأن جاز أن يقولها أحد من الخلق فالتعظيم في حقه مقيد ، والتعظيم في حق الله مطلق ، { إِنَّا } عائدة على رب العزة ، { سَخَّرْنَا } ولا يقدر على هذا إلا الله ، { مَعَهُ } أي مع داود إكراما له ، { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ } ماذا يصنعن ؟ { يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } ، والتسبيح من أشرف العبادات ؛ قال الله تبارك وتعالى في كتابه العظيم : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الاسراء:44] فالله جل وعلا يسبح له الحوت في بحره ، والطير في وكره ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الاسراء:44] ، قال الله هنا : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ } [ص:18] من بعد صلاة العصر إلى المغرب { وَالْأِشْرَاقِ } أي من طلوع الشمس إلى الضحى وقت أن تضحى الشمس ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - نبينا كما عند مسلم في الصحيح قال : ” من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة ، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثله أو زاد عليه ? فقال الله جل وعلا هنا : { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ } [ص:18] ، ومع الجبال قال الله جل وعلا : {(10/12)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ } [ص:19] أعطي عليه الصلاة والسلام صوتا عذبا جعله في طاعة الله ، يتلو الزبور فتسمعه الطير فتقف وتردد معه صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا تسخير وفضل عظيم على هذا العبد الصالح ، { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ - وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } [ص:19-20] ولا يمكن أن يقام ملك إلا على بينة من الأمر على وزراء وجنود ودولة وحشم وخدم ، وهذا كله أعطاه الله داود قال الله : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [ص:20] بعض العلماء يقولون إن فصل الخطاب أن داود أول من قال أما بعد ، وهذا بعيد بل إن القول به غريب لأن داود - عليه السلام - لم يكن عربيا حتى يستخدم أما بعد ، وإنما المشهور أن أول من قالها سحبان بن وائل أو قس بن ساعدة الإيادي الخطيبان المعروفان في العرب ، لكن بعيد جدا أن يكون معنى فصل الخطاب أن يكون داود هو أول من قالها ، لكن معنى فصل الخطاب أنه أعطي قدرة على الحكم بين الناس حينما يتنازعون إليه صلوات الله وسلامه عليه ، { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ - وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ - وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [ص:18-20] .(10/13)
ثم قال الله : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ص:21] من حيث الصناعة اللغوية كلمة الخصم تطلق على المفرد وعلى المثنى وعلى الجمع ، بل لا يكون خصما مفردا مثلها مثل كلمة ضيف ؛ لأن الخصم لا بد له من خصيم معه ، لكن كلمة ضيف تطلق على المفرد والمثنى والجمع ، يقول الله : { وَهَلْ أَتَاكَ } [ص:21] والخبر لنبينا - صلى الله عليه وسلم - { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ص:21] وهذا يدل على أن محراب داود كان مرتفعا ، أي مكانا في المنزل اتخذه داود يعبد الله فيه ، { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ - إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } [ص:21-22] وقد يقول قائل كيف نبي الله ويفزع ؟
إن أنبياء الله مطالبون أن يحافظوا على حياتهم ؛ لأن في حياتهم نفع للناس ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ”من يحرسني الليلة ؟? ”هل من عبد صالح من أمتي يحرسني؟? فمرة حرسه أبو أيوب ، ومرة حرسه سعد بن أبي وقاص ، وكان يحرسه العباس ، فلما أنزل جل وعلا قوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة:67] لم يعد - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يتخذ أحدًا يحرسه .(10/14)
فنعود إلى الآية ، ففزع عليه الصلاة والسلام خوفا على حياته ؛ لأن حياته فيها نفع لمن ؟ لغيره ، { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ - إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } [ص:21-22] ، واهدنا إلى سواء الصراط ، جاء الفعل اهدنا متعدي بحرف الجر إلى ، رغم أنه في سورة الفاتحة الله يقول : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة:6] وليس فيها إلى ، فإذا كان الناس على الهداية فلا حاجة أن تقول إلى ؛ لأن المقصود الزيادة ، وإما إن كان الناس على غير الأمر تأتي بإلى ؛ لأن المطلوب أصل الأمر ، فهذان الخصمان لم يكن بأيديهما أصل الأمر ، فلما طلبا قالا : { وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ } [ص:22] ، ثم تكلم أحدهما قال : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ } [ص:23] وكلمة أخي في القرآن :
تأتي الأخوة بمعنى الشقيق ، ومنه قول الله جل وعلا : { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي - هَارُونَ أَخِي } [طه:29–30] فهارون كان شقيقا لموسى .
وتأتي أخي بمعنى الأخوة في النسب ، { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [الأعراف:65] أي أخوهم في النسب .
وتأتي أخ بمعنى الشريك والخليط ، وهي المقصودة هنا { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } [ص:23] أي شريكي ؛ بدلالة أنه قال بعدها : { وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ } أي الشركاء { لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ص:24] .
وتأتي أخي بمنى شبيهي ، قال الله جل وعلا : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف:65] أي شبيهتا في الكفر ، وليس أختها في النسب { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } أي شبيهتا في الكفر ، في العمل ، في الفسق ، في الفجور .(10/15)
فقول الله جل وعلا هنا : { إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ } [ص:23] غالب الظن أن المقصود به الشريك ، لكن لا يمنع أن يكون الأخ في النسب والشريك في آن واحد .
{ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } [ص:23] حمل بعض العلماء كلمة نعجة هنا على أنها امرأة ، وهذا بعيد ، وإن صح في لغة العرب أنهم جاء في بعض أشعارهم كما عند عنترة وعند غيره إطلاقها على المرأة ، لكن الأصل إمرار ظاهر القرآن على ما هو عليه
{(10/16)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } أي ضمها إلي { وَعَزَّنِي } أي غلبني وقهرني { فِي الْخِطَابِ } [ص:23] ، فقال داود - عليه السلام - : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } [ص:24] ثم قال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وهذا مشاهد محسوس { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا } هذه للإبهام تدل على الكثرة { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } وقد سمع عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلا يقول (اللهم أدخلني في الأقلين) فتعجب عمر من دعاءه قال : ( إني سمعت الله يقول : { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } [ص:24] ، وسمعت الله يقول : { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ } [هود:40] ) وذكر كلمة قليل في القرآن في غالب أوضاعه محمود ، فقال الله تعالى هنا على لسان داود : { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } [ص:24] يقول بعض العلماء – وإن كنت هذا لا أجزم به – : إن داود تسرع في الإجابة فحكم دون أن يسمع قول الآخر ، فلما حكم قالوا : إن هذين الخصمين كانا ملكين اختبارا له ، واحتجوا بأن الله قال بعدها : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي اختبرناه ، وظن هنا بمعنى علم { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص:24] خر راكعا بمعنى سجد صلوات الله وسلامه عليه ، هل هذه السجدة من عزائم السجود أو من غير عزائم السجود ؟ الأظهر أنها من عزائم السجود ، لأن الساجد هنا نبي ، والله لما ذكر الأنبياء في الأنعام قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام:90] ، إذا فبهداهم اقتده مع أن الذي سجد هنا داود ، يسمى دليل مركب من جهتين ، فالآية لا تحمل نص داود لكن لما قال الله جل(10/17)
وعلا : { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } [ص:24] فاخبر الله أن داود سجد في هذا الموضع ، وعلمنا من سورة الأنعام أن الله قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام:90] أننا أمرنا بهدي الأنبياء ، علمنا أن هذه الآية من عزائم السجود ، { وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ - فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [ص:24-25] .
ثم قال الله ذكر خبر سليمان ، وخبر أيوب ، وخبر غيرهما من أنبياءه ورسله { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } [ص:45] ، وهذا تكلمنا عنه كثيرا في لقاءات مضت ،ودروس خلت ، هنا أو هناك .(10/18)
ثم قال الله جل وعلا قبل أن يأتي إلى قصة سليمان ، مابين خبر داود وسليمان قال : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص:27] ، إن من أعظم الدين أن يعلم المرء أن الله جل وعلا منزه عن العبث ، وإذا علم المرء أن الله منزه عن العبث وأن الشأن جد ؛ اجتهد في العبادة وطاعة الله ، قال الله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون:115] ، ولما ذكر الله الصالحين من خلقه والمتقين من عباده أخبر أنهم إذا قاموا قالوا حال قيامهم : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191] ، فالله جل وجلاله - أيها المبارك - منزه عن العبث ، وعلى أن يخلق باطلا ، فإذا علمت أن هذه الدنيا القائمة على حياة وموت ، وبعث ونشور ، وتكليف وجزاء ، علمت أن الله منزه أن يخلق هذا باطلا ، فمنها ينجم أن المرء يستعد لطاعة الله وإلى لقاء الله .
قال الله جل وعلا بعد ذلك بعد أن ذكر صفوة رسله التي بيناه ، قال جل وعلا : { إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [ص:70] ثم ذكر قضية إبليس وسجود آدم على ما يلي :-(10/19)
قال الله جل وعلا : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ } [ص:71] ، الملائكة خلق من خلق الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وهم يومئذ صفوف بين يدي ربهم ، وكان إبليس يحمل في قلبه سريرة خبيثة ، لكن متى يعرف من في قلبه سريرة طيبة أو من في قلبه سريرة طيبة ؟ عند التكليف ، كيف يعرف من في قلبه سريرة سيئة أو سريرة حميدة ؟ عند التكليف ، فهو مندرج مع عالم الملائكة ، وعالم الملائكة لا تكليف عليهم ، إنما يسبحون الله جبلة ، فلما كانوا يسبحون الله جبلة ، خلق الله آدم وقال لهم جل جلاله قبل أن يخلقه : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ } [ص:71] ، ومن طين هذه إحدى المراحل التي بينا أن آدم خلق من مرحلة ترابية ، ثم طينية ، ثم فخارية ، قال ربنا للملائكة : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } [ص:72] أي أتممت خلقه ، { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:72] فأمر الله جل وعلا الملائكة بالسجود لآدم في قوله جل وعلا : { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ص:72] ، فلما سوى الله أبانا آدم قال ربنا : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ص:73] ، فكلمة "كلهم" أفادت أن أحدا من الملائكة ما خرج عن هذا الأمر كلهم سجدوا ، وكلمة "أجمعون" أفادت أنهم سجدوا مع بعضهم ، أي في حالة واحدة ، سجدوا جميعا في وقت واحد ، فما الذي أفادته كلمة كل ؟ أنه لم يبق ملك لم يسجد ، والذي أفادته كلمة أجمعون أنهم سجدوا في وقت واحد ، قال الله جل وعلا : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - إِلَّا إِبْلِيسَ } [ص:73-74] هذا الاستثناء يسمى استثناء منقطع فإبليس ليس من جنس الملائكة ، { إِلَّا إِبْلِيسَ } - في آية الكهف - { كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف:50] ، قال الله جل وعلا : { إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ(10/20)
أَنْ تَسْجُدَ } [ص:74-75] من القائل ؟ رب العالمين { أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ - قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ص: 75-76] الله جل وعلا أخبر أنه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال ، وقال بعدها : { فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا } [الأحزاب:72] ، لكن فرقٌ ما بين إيباء إبليس وإيباء السماوات والأرض والجبال ، وهذا من نفائس العلم .
أما أصل المسألة ؛ فإن الخطاب لإبليس كان فرضا ، والخطاب للسماوات والأرض كان عرضا ، أما الكلام للسماوات والأرض كان عرضا ، أما الخطاب لإبليس كان فرضا ، هذا واحد .
امتناع إبليس كان استكبارا { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } [ص: 76] ، أما امتناع الأرض والسماوات والجبال كان استصغارا ، بمعنى أنهم استصغروا أنفسهم أن يقبلوا هذه الأمانة ؛ بدليل أن الله قال بعدها : { فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [الأحزاب:72] ، فقول الله جل وعلا : { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } قرينة على أن امتناع السماوات والأرض والجبال كان استصغارا لأنفسها ، أما قول الله جل وعلا : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ص: 76] على أن إبليس كان استكبارا .
فالأول لم يكن عرضا بل كان فرضا ، والثاني لم يكن فرضا بل كان عرضا بنص القرآن { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب:72] .(10/21)
نعود للآية ، قال الله جل وعلا هنا : { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ - قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ - قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } [ص: 75-77] من أي شيء ؟(10/22)
ليس من الجنة ، آدم ما بعد دخل الجنة ، من السماء هذا قول وهو قوي ، من رحمة الله ، ولا يمكن أن يعاقب أحد بشيء أعظم من أن يطرد من رحمة الله ؛ لأن إذا وجد أحد لا يرحمه الله فمن الذي سيرحمه ؟ ، وإن وجد أحد طرد من رحمة الله لن تنفعه رحمة أحد كائنا من كان ، فالله وحده - يا بني - لا يضر مع رضاه سخط أحد ، ولا ينفع مع سخطه رضوان أحد ، ولا يُجْدِي مع لعنته وغضبه رحمة أحد ، ولا يضر مع رحمته لعنة أحد أو غضبه ، فالشأن كل الشأن أن يرحمك الله ؛ ولهذا قال سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - ”ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته? ، فكل فضل تراه في نفسك هذا من رحمة الله جل وعلا بك ، فقول الله جل وعلا لإبليس : { فَاخْرُجْ مِنْهَا } [ص: 77] هذا ، أي من رحمتي ، أو من السماء وهو قوي ، أو من المنزلة التي أنت فيها وهذا كذلك قوي ، لكن حتى لو قلنا إنها المنزلة أو السماء ؛ فالسكنى في السماء وتلك المنزلة التي كان بها إبليس هي أصلا من رحمة الله ، وكلما أظهر العبد افتقارا إلى ربه أنه محتاج إلى رحمة الله أدركته رحمة الله ، فإذا وقعت في القلب ولو ذرة أنك مستغن عن الله نأت عنك وقصت رحمة الله ، أيوب عليه السلام مكث في البلاء ثمانية عشر عاما ، ثم رد الله إليه عافيته ، { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ص: 42] ، فبعد أن رد إليه أهله وأصبح ثريا وسيدا ، رأى رِجْل جراد من ذهب – رِجْل جراد أي جمع من الجراد – فهبط عليه ، فلما هبط عليه أخذ – وهو نبي الله الثري – يضع الجراد في ثوبه ، يجمعه في حجره ، فناداه الله : (يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى ؟) قال : (بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن رحمتك ) ، ولهذا أمرنا في الصيام أن نبادر بالإفطار ؛ لأن الإنسان إذا بادر بالإفطار كأنه يخاطب ربه بلسان حاله : ما أفقرني يا رب إلى أن تطعمني وتُسْقيني ، وفي كل شأنك أظهر فقرك إلى ربك لعل الله جل وعلا أن يرحمك ، ولا(10/23)
تستدر رحمة الله بأعظم من الاستغفار ؛ قال الله جل وعلا : { لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [النمل: 46] ، نستغفر الله ونتوب إليه .
قال الله جل وعلا : { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ص: 77] أي ملعون ، { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي } [ص: 78] زيادة على الإخراج { إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي } [ص: 78-79] أمهلني { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ص: 79] ، تأني أحيانا رسائل بالجوال يقول بعض الناس فيها : إن الله قد استجاب لإبليس ، ويحتجون بهذه الآية ، وليس فيها احتجاج ؛ لأن إبليس قال : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ص: 79-81] ، فجرده الله من القدرة ، وجعل المشيئة له وحده جل وعلا ، فحتى الوقت الذي اختاره إبليس لم يقبله الله ، فإبليس طلب أن يكون حيا إلى يوم البعث ، أي لا يدركه الموت بالكلية ، ولا يدخل فيمن يصعق عند النفخ ، فقال له الله : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ص: 80-81] والوقت المعلوم هو النفخة الأولى .
{(10/24)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82] ، وقال في موقف آخر حكاه الله في سورة أخرى قال : { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [الأعراف:17] هذا ليس علم غيب هذا ظن ، من الذي ظن هنا ؟ إبليس ، هل أصاب في ظنه أو لم يصب ؟ أصاب ؛ والدليل أنه أصاب ما تراه من واقع الناس ، لكن أعظم دليل على أن إبليس أصاب هو أن الله أخبر أن إبليس أصاب قال الله جل وعلا في سورة سبأ : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [سبأ: 20] ، هنا يقول الله جل وعلا : { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ - قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص: 79-83] من هم المخلصون ؟ هذه فضل عظيم يؤتيه الله من يشاء من عباده ، لكن من صدق مع ربه في سريرته وفي نيته وتمثل قول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة:119] كان من عباد الله المخلصين ، ومن أعظم عباد الله المخلصين أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وفي الذروة منهم نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه .
قال الله جل وعلا : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ - قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 82-85] ، قلنا مرارا إن النيران ثلاثة :-
نار تحرق ولها نور ، وهي نار الدنيا .
ونار تحرق وليس لها نور ، وهي نار جهنم .
ونار لا تحرق ولها نور ، وهي النار التي رأها كليم الله موسى عند جبل الطور .(10/25)
تكلم الله جل وعلا هنا عن جهنم ، وقد وعد الله جهنم أن يملأها ، فقال الله جل وعلا هنا : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ - لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص: 84-85] .
ثم قال الله جل وعلا على لسان نبيه : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [ص: 86-87] أي هذا القرآن الذي أُيِّدْتُ به ، وأنزل علي ، وأتلوه عيكم إنما المقصود الأسمى والأسنى منه أن يكون فيه ذكر للعالمين .
ثم قال الله جل وعلا في خاتمة هذه السورة : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ص: 88] ، أخبر القرآن عن غيبيات ، وهذه الغيبيات منها ما أخبر الله أنه سيكون إلى أمد ومنها ما أخبر الله جل وعلا أنه سيكون ما بعد البعث والنشور ، وكل ما أخبر الله عنه أنه سيقع لابد أن يقع لا محالة ، ومن أعظم ذلك البعث والنشور الجزاء بالجنة والنار .
هذا ما تيسر إيراده حول سورة ص ، وقد بقي وقت كثير وقد تعمدت ذلك ، في الإجابة عن أسئلتكم نصل إن شاء الله تعالى إلى مقصودكم بإذن الله .
? ? ? ?
{ الأسئلة }
السؤال الأول :- هل تطلق الأخوة على أخوة الجنس مثلا نقول أخوة عامة يدخل فيها الكافر والمسلم لأنه من جنس واحد قال تعالى : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } [الأحقاف: 21] ألا يدل هذا على ذلك ؟
الجواب :- هذه أخوة النسب وليست أخوة الجنس ؛ لأن هودا - عليه السلام - من عاد ، { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [الأعراف:85] ؛ لأن شعيبا من مدين من نفس القبيلة .
السؤال الثاني :- هل يجوز أن أقول : اللهم أرزقني الحكمة وفصل الخطاب ؟
الجواب :- جائز أن يقول الإنسان : اللهم أرزقني الحكمة وفصل الخطاب ، ليس في هذا حرج ؛ لأن هذا ليس مما اختص الله به داود ، لكنه لن يرزق كما رزق داود ؛ لأن أنبياء الله في مقام أسمى .(10/26)
السؤال الثالث :- ما هو تفسير الآية { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا } [الجن: 3] من سورة الجن ؟
الجواب :- الجد هنا بمعنى الحظ والنصيب في أصل اللغة ، والمقصود هنا أن الله جل وعلا منزه في علوه ومقامه تبارك وتعالى أن يكون له { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً } ، [الجن: 3] ، أن الله منزه في مقامه وعلوه أن يكون له صاحبة أو أن يكون له ولد .
السؤال الرابع :- ما صحة الفتون الذي ذكره ابن كثير في تفسير سورة طه ؟
الجواب :- حديث الفتون يروى عن ابن عباس ، ولكنه غير صحيح سندا ، وهو حديث طويل يتحدث عن أخبار نبي الله موسى صلوات الله وسلامه عليه ، لكنه غير صحيح سندا ، في بعضه صحة ؛ لأنه تشهد له بعض الأحاديث ، والأظهر أنه مُجمع وينسب إلى ابن عباس على غير أصل .
السؤال الخامس :- يقول الله عز وجل: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال:24] حدثنا فضيلة الشيخ عن معنى هذه الآية .
الجواب :- هذه الآية المقصود منها أنه لا يمكن أن يقع إلا ما أراد الله ، وهي في أصل المسألة تذكير ؛ وذلك أن الإنسان - عياذا بالله - قد يبيت السيئة ، ويقول : أنتهي منها ثم أتوب ، ولنضرب مثالا – إذا أذنتم – ، قد يكون إنسان على موعد محرم ، وهو يعرف أنه محرم ، وكان قبل أن يعطى ذلك الموعد قد بيت أن يتوب ويؤوب ، فإذا جاء الموعد وظفر به وأصبح في مقدوره أن يصل إليه قال له الشيطان : ابقِِِ على نيتك الأولى ، ثم اظفر بهذا الموعد ، ثم تب ، ومن تاب تاب الله عليه .
فالله يقول لعباده هنا : قد تقدم على هذا المحرم ثم تريد أن تتوب فيحول الله بينك وبين التوبة ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال:24] هذا من أعظم معانيها . والعلم عند الله .(10/27)
السؤال السادس :- يقول ابن القيم ( في أن افتتاح هذه السورة بهذا الحرف (ص) في غاية المناسبة من أن تفتتح بـ(ق) أو غير ذلك ؛ لأن هذه السورة يكثر فيها تكرار الحرف (ص) في خصمان ، والخصم ، ومناص ، والأبصار، ومثل ذلك في سورة ق يكثر فيها الحرف ق ) نأمل من الشيخ التعليق على ذلك .
الجواب :- هذا رأي له غفر الله له ورحمه ، وابن القيم هو ابن القيم في علمه ومكانته وجلالته ، لكني لا أرى أن هذا الرأي وجيها أبدا .
السؤال السابع :- ما هي أسماء الكتب الأربعة التي من أدمن المطالعة فيها أصبح عالما ؟
الجواب :- الكتب الأربعة التي قال العلماء : أن من أدمن التأمل والنظر فيها - واشترطوا شرطا آخر - وأن يكون ذكيا يصبح عالما ؛ المحلى لابن حزم ، والمغني لابن قدامة ، والسنن الكبرى للبيهقي ، بقي واحد أظنه الاستذكار لابن عبد البر ، هذا الأخير لست متأكدا منه .
السؤال الثامن : لاشك أن من أفضل الأسباب الدافعة لفعل الطاعات وقراءة القرآن والدعاء حسن الظن بالله ، حدثنا قليلا عن حسن الظن بالله .(10/28)
الجواب :- طبعا ، أنا سأكون معكم واضحا ، الأسئلة يظهر عليها أنها تحاول أن تأخذ الدرس منحى إيمانيا ، وهذا من التكلف الذي نهى الله جل وعلا عنه ، قال الله عن نبيه : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] ، وأنا ، هذا الدرس درس شهري علمي مقصودي الأسمى منه بيان ما في القرآن من لفتات ، وليس المقصود منه أمور أخر ، فاتركوا الأمور الأخر وشأنها اتركوها لله ، إن أتت سينفعكم الله بها ، وإن لم أتت سينفعني الله بها ؛ حتى لا نُفْتتن ، فلا تسأل أسئلة يغلب عليها الصبغة أن تبحث عن منحى إيماني تروم شيئا ، هذا خطأ حتى في تربيتك لنفسك ، وخطأ في فتنتك لشيخك ، فلا يحسن مثل هذا ، وإنما كن رجلا عادي جدا إذا جئت تُدرس أو إذا جئت تسمع ، فليس المقصود أن تسأل الشيخ سؤالا يغلب على ظنك أن الشيخ سيستعبر أو يبكي إذا أجيب عليه وتفرح أنت ، هذه أمور لا ينبغي أن تقع ، لكن يعني تكلمنا في هذا كثيرا ، أنا أريده أن يكون درسا علميا ، وكلما...(10/29)
أنا أجلس على مثل هذا الكرسي من عشرين سنة ، ما تيسر قلناه ، وما لم يتيسر لم نقله ، وقال الله جل وعلا لنبيه : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] ، فلا تسأل أسئلة لا علاقة لها بالموضوع وإنما تدور حول شخصية الملقي ، أتركك من صالح ومن غيره ، أنت في بيت من بيوت الله ، علق قلبك بربك يرزقك الله الخشية والخشوع والإنابة إليه من غير أن يتكلم صالح أو غيره عن مسائل إيمانية أو ما إلى ذلك ، اقرأ في القرآن لا حاجة إلى أن تسمع لمثلي ، اقرأ ثناء الله جل وعلا على ذاته العلية ، اقرأ في القرآن كيف أهلك الله من مضى ، اقرأ في القرآن كيف يرحم الله جل وعلا عباده ، هذا هو النعيم الحق لصلاح قلبك ، { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى - وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا - وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى - وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى - وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى - وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى - وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى - وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى - وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى - فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى - فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى - هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى - أَزِفَتِ الْآزِفَةُ - لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ - أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ - وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ - وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ - فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [(10/30)
النجم: 36-62] ، هذا تقرأه وتقول : سبحان من هذا كلامه ، سبحان من هذا قوله ، سبحان من أنزل هذا القول على نبيه ، سبحان من أنزل هذا القول وتكفل بحفظه ، هذا الذي يحرك القلوب ويحرك الأفئدة ويرزقك الله جل وعلا به الخشوع والإنابة إليه تبارك وتعالى ، أما قول زيد أو قول عمر من الناس ، أو عبرات محاضر أو دمعات فلان أو غير ذلك ، هذه إن صدق فهو له عند ربه ، وإن كذب فالله جل وعلا يحاسبه عليها ، لكن وطن نفسك عن ألا تتلقى شيئا يحرك قلبك أعظم من كلام الله جل جلاله .
السؤال التاسع :- نرجو من فضيلتكم تفسير قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... } الآية [المائدة: 106] ، والآية التي بعدها { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً } [المائدة: 107] فإني والله يا شيخ أشكل علي تفسيرها كثيرا ، فنرجو من فضيلتكم تفسيرها ، وجزاكم الله خيرا .
الجواب : هو على العموم تفسيرها يطول ، وهو مشكل كما قلت ، وهي آية حتى النحويون أشكلت عليهم .
لكن جملةً ؛ لا مصيبة مثل مصيبة الموت كما أخبر الله جل وعلا ، والإنسان قد يكون في سفر ويريد أن يوصي ، فيوصي بوصية ويُشهد عليها إثنان ، ثم إن هذين الشاهدين يطلب منهما تحرير تلك الشهادة ، فإذا أرتاب القاضي أو شك أحد من كُتبوا في الوصية في شهادتهما ، فيبدلان بآخران ربما كان لهما اطلاع على تلك الوصية ، هذه جملة ما تدور عليه الآية ، وأرجع إليها في تفسير الحافظ ابن كثير تجد إن شاء الله ما يملي فؤادك ، إن لم تجده تأمل قول القرطبي فيها في "الجامع لأحكام القرآن" .
السؤال العاشر :- قال الله تعالى في سورة التوبة : { هُوَ أُذُنٌ } [التوبة:61] ما معنى الآية ؟ أو ما تفسير الآية فضيلة الشيخ ؟(10/31)
الجواب :- هذا المنافقون كانوا يرجفون به ، طبعا لازم تفهم بعقل ، هم أرادوا أن الصحابة إذا سمعوا كلمة منهم لا تصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الصحابة - رضي الله عنهم - غيرة للدين إذا سمعوا كلمة من المنافقين ماذا يصنعون ؟ يخبرون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأراد هؤلاء المنافقون أن يرتاعوا في كذبهم دون أن يقوم الصحابة بتبليغ القول ، فقالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أذن ، أي : يسمع لكل أحد ، فقال الله جل وعلا : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } [التوبة:61] ، أي لا يسمع إلا ما فيه نفع للناس ، حتى لو سمع ذمكم وأنكر عليكم فهذا نفع لكم ؛ لأن العبرة بالخواتيم ، العبرة بنهاية الأمر ، العبرة بالمصلحة العامة ، هذا معنى الآية .
السؤال الحادي عشر :- ذكرتكم يا شيخ أن السور المكية تعنى بثلاث أمور ، نرجو منكم أعادتها .
الجواب :- قضية الإشراك ، وتكذيب الرسول ، وتكذيب البعث والنشور ، ولهذا كل نبي دعا إلى هذه الثلاثة ، إلى أن يوحد الله ضد الإشراك ، وإلى تصديقه وأنه رسول ضد تكذيبه ، وإلى الإيمان أن هناك بعثا ونشورا .
السؤال الثاني عشر :- ما الفرق بين مخلَصين و مخلِصين ؟
الجواب :- اسم فاعل واسم مفعول ، لكنها جاءت باسم المفعول على أنها يظهر منها بيان أنه منة من الله جل وعلا عليهم .
السؤال الثالث عشر :- ما المقصود بقوله تعالى في قصة سليمان - عليه السلام - { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } [ص:34] ، ما هو الجسد يا شيخ ؟(10/32)
الجواب :- اختلف الناس فيها ، والأظهر ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ” إن سليمان قال : لأطوفن الليلة على تسعة وتسعين امرأة تأتي كل امرأة بغلام يجاهد في سبيل الله ? ولم يقل : إن شاء الله ، قال عليه الصلاة والسلام : ” فما ولدت منهن إلا امرأة ولدت شق غلام ? فقالوا إن هذا هو المقصود بقول الله جل وعلا : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } [ص:34] أي : بقوله أنه لم يقل إن شاء الله ، { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً } ، لكن هل يطلق كرسي على سرير فراش الزوجية ؟ هذا بعيد ، لكن هذا أفضل ما قيل ، وغير ذلك تلقفه الناس عن بني إسرائيل ، وهو غير صحيح .
السؤال الرابع عشر :- ما هو تفسير قوله تعالى : { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } [ص:6] ؟
الجواب:- القائل كفار قريش ، والملأ أي : أشراف الناس ووجهائهم ، وهم من كانوا حول أبي طالب يحاولون منه أن يثني ابن أخيه - صلى الله عليه وسلم - من أن يدعوا إلى الله ، فلما لم يجدوا عند أبي طالب حاجتهم قال الله : { وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } [ص:6] أي : ابقوا على ما أنتم عليه { إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } أي : أن محمدا يريد أن يغير دينكم ويبدل ما أنتم عليه ، فتواصوا بالصبر ، وقلنا : إنهم عبروا بعلى لدلالة الاستعلاء .
السؤال الخامس عشر :- عندما ذكر الله عز وجل للملائكة أنه سيجعل بي آدم مستخلفين في الأرض ، قالت الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [البقرة:30] ، فكيف عرفت ومن أين استنتجت ذلك ؟(10/33)
الجواب :- قال العلماء إن الأرض كانت قبل بي آدم معمورة بالجن ، وأنه فهمت الملائكة هذا من جنس الجن ، وأن الجن كانت يسفك بعضهم دماء بعض ، وهذا قول للعلماء ولا يعد قطعا في المسألة . والعلم عند الله .
السؤال الخامس عشر :- هل يجب السجود عندما يقع الشخص في فتنة ؟
الجواب :- لا ، لا يجب السجود ، السجود يقع على أحوال :
إما أن يكون للصلاة ، الركن المعروف .
وإما أن يقع سجود سهو .
وإما سجود تلاوة .
وإما سجود شكر ، سجود الشكر عند حلول نعمة أو اندفاع نقمة .
وسجود التلاوة له مواطنه ، وسجود السهو له مواطنه ، وكذلك سجود الصلاة ، ولا يوجد سجود غير هذا .
السؤال السادس عشر :- قد علمنا أن أعظم نعيم في الجنة هو رؤية الله سبحانه وتعالى ، وأن أعظم عقوبة في النار هي الحجب عن رؤية الله تعالى ، فكيف توجهون قولكم : بأن أعظم عقوبة هي الخروج من رحمة الله ؟
الجواب :- إذا خرج الإنسان من رحمة الله فهذا من لوازمه أن لا يرى الله – واضح - ، فيصبح لا تعارض بين القولين ، { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين:15] .
السؤال السابع عشر :- يقول الله سبحانه وتعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر:45] تفسيرها يا شيخ .
الجواب :- هذا إيماني واضح شرحناه في شريط " أهل الله وخاصته " أو في شريط " وما قدروا الله حق قدره " ، ولا داعي لإعادته ، أنت لا يوقعونك في الفخ ، لا تسأل أسئلة إيمانية .
السؤال الثامن عشر :- نرجو أن ترد على ما ورد من إسرائيليات في قصة داود أنه كان عنده تسع وتسعين امرأة .(10/34)
الجواب :- كان الأنبياء من قبل لا يلزم منهم أن يقفوا عند حد ، قال الله تبارك وتعالى في خبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في أنه أباح له النساء : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً - مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً } [الأحزاب: 37-38] ، فقول الله جل وعلا : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ } أي : أن الله شرع وأباح للأنبياء من قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يعددوا من النساء ما يطيب لهم .
على هذا ، قضية سليمان ورد فيه تسع وتسعين امرأة ، أما داود لا أعلمه ، أما ما يقوله بعض الناس – كما ذكره بعض المفسرين – عن قضية داود ، فيستحي المرء أن يقولها في مسجد ويصف بها إما مسجد ، فضلا على أن يوصف بها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ، كل ما قيل في هذا الأمر باطل ، ولا يصح أصلا روايته ، ولا تجوز في ظني ، وأنبياء الله منزهون عن مثل هذا .
السؤال التاسع عشر :- هل يوجد في تفسير حدائق الروح والريحان للهرري بعض التأويل للصفات ؟
الجواب :- لا أعلم شيئا من هذا ، لا أظني أن وقفت على شيء من هذا ، ولا أحب أن أسأل عن أحد ، أنا لا أقيم الناس ، أنا في بيت من بيوت الله اذكر بالله وبسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ما جئت هنا لأقول إن العالم الفلاني فيه كذا ، والعالم الفلاني فيه كذا ، أنا أقل شأنا ، وعندي من الذنوب والخطايا ما يشغلني على أن أقيم عامة المؤمنين ، فكيف أقيم علماءهم ودعاتهم .(10/35)
السؤال العشرون :- فضيلة الشيخ نريد تفسير لهذه الآية ، قال الله سبحانه وتعالى : { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ - رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } [ص:32-33] .
الجواب :- المشهور أن سليمان - عليه الصلاة والسلام - وعرضت عليه الصافنات من الجياد ، فانشغل بها وهو يعُدها للجهاد في سبيل الله ، { حَتَّى تَوَارَتْ } أي : الشمس ، { بِالْحِجَابِ } أي : غابت ، فلما غابت تذكر صلاة العصر ، فقال : { رُدُّوهَا عَلَيَّ } ، فمحال أن يكون المقصود ردوا الشمس ؛ لأن الشمس لا ترد ، { رُدُّوهَا عَلَيَّ } أي : الخيل { فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ } قالوا : إنه قتلها ، فلما قتلها طاعة لله ، أو بتعبير أوضح لأنه رأها ألهته عن الله ، قالوا – أي العلماء - : قال الله بعدها : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص:36] أي : لما ضحى بالخيل من أجل الله عوضه الله جل وعلا عن الخيل بالريح ، وهذا منحى قاله أكثر المفسرين ، وإن كان يبقى في إثباته بالكلية نظر . والعلم عند الله .
? ? ? ?
{ تتمة وقفات مع آيات الحج في البقرة }
نأخذ درس آخر ، الأسئلة كافي ولله الحمد والمنة ، وهي تأخذ منحى إيماني وأنا لا أريده ، لكن كما قلت القضية من هذا المجلس المبارك فهم كلام الله ، فنأخذ آيات في الحج بما أننا على مقربة من الحج (1) .
__________
(1) من هنا إلى آخر الدرس تصرفت قليلا في التفريغ ؛ لأن الشيخ سيشرح كما قال : ( شرح مدرسي ) ، وهو مناسب لمن سمعه ، ولكن لا يناسب تفريغه حرفيا للقارئ ، فأبقيت على ألفاظ الشيخ ، وحذفت أسئلته – حفظه الله – للطلاب وكذلك تكرار الشرح لبعض الأمور. والله الموفق .(10/36)
قال الله تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197] لم يذكر الله هنا أسماء الأشهر ، اكتفى بقول معلومات ، قال في قبلها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة:183] ثم قال : { شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة:185] سماه ، لماذا سمى رمضان ولم يسم أشهر الحج ؟
الجواب : العرب ما كانت تعرف شيء اسمه صيام رمضان ، فعندما تقول : للناس صوموا ، هم لم يسبق أن يصوموا ، يصمون أي شهر ؟ أي يوم ؟ أي أسبوع ؟ فقال الله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [البقرة:185] ، أما الحج قبل أن يبعث - صلى الله عليه وسلم - كانت العرب تحج وتقف في عرفة في يوم 9 ، وترمي الجمار يوم 11 ويوم 12 ويوم 13 ، ويقفون في منى يوم ثمانية ، لكنهم يشركون مع الله غيره ، فبالنسبة للعرب كلهم يعرفون ما هي أشهر الحج ، لكن رمضان لم يكن لهم عهد بالصيام ، فلما ذكر الله المبهم عرَّفه ، قال : { شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة:185] ، لكن هنا قال : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197] ، هذه الحج في الإعراب هنا مبتدأ ، لكن هي في الأصل مضاف إليها اسم قبلها تقديره : زمن الحج ، وقت الحج أشهر معلومات ، لم قال الله : وقت الحج أشهر معلومات ؟
في أول الربع في نفس السورة قال الله جل وعلا : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ } [البقرة:189] قال الجواب : { قُلْ هِيَ } أي : الأهلة { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } ، والهلال يأتي في العام اثنا عشر مرة ، فيظن الناس أن جميع الهلال أشهر للحج ، فهنا خصصها الله ، الإطلاق الموجود في آية { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة:189] خصصه الله هنا قال : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197] أي ليس كل الأهلة للحج .(10/37)
قال : { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197] ، كلمة أشهر جمع قلة ، وفي جمع القلة يختارون أفعُل، وفي جمع الكثرة يختارون فعول ، الآن لما تكلم الله عن أشهر الحج قال أشهر ؛ لأنها ثلاثة ، لما ذكر الله السنة قال : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } [التوبة: 36] ، فعندما أجمع كلمة نجم جمع قلة أقول : أنجم ، وعندما أجمع كلمة نجم جمع كثرة أقول : نجوم ، هنا يقول الله جل وعلا : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة:197] معلومات يعني كل واحد يعرفها ، لكن العلماء مع ذلك اختلفوا في ما هي أشهر الحج ؟ على ثلاثة أقوال :-
القول الأول :- أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وإلى التاسع من ذي الحجة ، وحجة هؤلاء قوية ، وهم يقولون إن الحج يفوت بفوات عرفة ، فهو يقول : لا يمكن أن نسمي اليوم العاشر من أشهر الحج ، وهو إذا فات التاسع لا حج له ، هذا مذهب الشافعي .
قال آخرون : إن الحج إلى يوم العاشر من ذي الحجة ؛ ودليلهم واضح ، قالوا إن يوم العاشر - على الصحيح – سماه الله في القرآن يوم الحج الأكبر ؛ وسماه بذلك لأن أكثر أعمال الحج فيه ، وهي رمي جمرة العقبة ، والنحر ، والحق أو التقصير ، ثم طواف الإفاضة ، وهي أربع عبادات لا تجتمع إلا في يوم النحر ، فهؤلاء قالوا : مستحيل أن يقول الله : { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } [التوبة:3] وتقولون ما هو من أشهر الحج !
والثالث : أنهم قالوا : شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله ؛ لأنهم قالوا : إن الجمع لا يكون أقل من ثلاثة .
قال الله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } [البقرة:198] ، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ”الحج عرفة? فعرفنا أن عرفة وعرفات اسم لمكان واحد ، مرة يقال بصيغة الإفراد ومرة يقال بصيغة الجمع ، يأتي السؤال لماذا سميت عرفة بعرفة ؟(10/38)
قيل : لإن آدم عرف حواء فيها ؛ لأن آدم اهبط في جهة ، وحواء أهبطت في جهة ، وإبليس أهبط في جهة ، وعلى القول إن الحية أهبطت في جهة ، المهم أن آدم يقولون أنه التقاء بحواء في عرفة فعرفها ، هذا واحد .
والقول الثاني : إن جبريل - عليه السلام - علم وعرف أبانا إبراهيم المناسك في عرفة ، فسميت بعرفة .
وقال آخرون – واختاره ابن عطية المفسر صاحب كتاب المحرر الوجيز من أمتع كتب التفسير ، فهو يقول - : إنه اسم وضعي ، يعني ليس له علاقة بأحداث ، وهذا أقرب .
الله يقول : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } [البقرة:198] ، وخير من وقف في عرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قبلها في منى ، خرج من منى ، وفي ثلاث أماكن : في نمرة ، وفي عرنة ، وفي عرفة ، قال جابر - رضي الله عنه - ( فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ) ، نمرة قرية شرق عرفات ، وجد - صلى الله عليه وسلم - من سبقه من الصحابة كبلال وأسامة المسئولون عنه ، نصبوا القبة – الخيمة – في نمرة ، قال جابر ( ثم أتى بطن الوادي ) أي : وادي عرنة ، فخطب وصلى في عرنة ، ثم قال جابر ( ثم أتى الموقف ) والموقف في عرفة ، فقال ”وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف? ، ولم يقلها في نمرة ، ولم يقلها في عرنة ، فأصبح الموقف في عرفة .
قال الله هنا : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } [البقرة:198] ، متى تكون الإفاضة من عرفات ؟
الأمة متفقة على أن الإنسان إذا وقف في عرفة في النهار ، ثم جلس إلى أن تغرب الشمس ، وبعد غروب الشمس توجه – أفاض – إلى مزدلفة إلى المشعر الحرام ؛ هذا أصاب السنة ، لكن ليست المسألة الآن فيمن أصاب السنة ، المسألة فيمن أخطأ ، كيف نحكم عليه ؟
لو أن شخصا وقف في عرفة بعد الزوال لكنه ، خرج من عرفة قبل غروب الشمس ، أما إنه لم يصب السنة هذا بالاتفاق ، لكن ما حكمه ؟(10/39)
قال مالك – رحمه الله – إمام دار الهجرة : من خرج من عرفة قبل غروب الشمس وأتى مزدلفة فلا حج له ، لكن لم يقل أحد بقول مالك رحمه الله على جلالة قدر مالك ، حتى قال ابن عبد البر – إمام مالكي معروف – قال : (ولا أعلم أحد وافق أبا عبد الله في هذا) ، هذا القول الأول .
القول الثاني – وهو قول الجمهور - : قالوا : إن حجه صحيح لكن يلزمه دم ؛ لأن الوقوف بعرفة إلى غروب الشمس واجب ، عندهم يجب أن يقف بعرفة ولو برهة من الليل .
القول الثالث : أن حجه صحيح ولا دم عليه ؛ وهؤلاء دليلهم وحجتهم حديث عروة ابن مضرس ، وعروة بن مضرس رجل من الصحابة من طيء – من حائل – جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر في مزدلفة ، قال : ( يا رسول الله إني أجهدت نفسي وأتعبت راحلتي ، ما من جبل إلا وصعدت عليه ) ؛ لأن هذه أول حجة ، طبعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الناس عقلا ، لو جلس يفصل هذا الجبل جئته ، وهذا الجبل ما جئته...إلى الصبح ، فقال - صلى الله عليه وسلم - بعلمه وتعليمه للأمة قال : ”من صلى معنا صلاتنا هذه? أي صلاة الفجر في مزدلفة ”وكان قبل قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه ? حمل الجمهور هذا الحديث على الإجزاء ، وتمسك بعض أهل التحقيق مثل شيخنا الأمين الشنقيطي – رحمه الله – إلى أن لو خرج قبل غروب الشمس أساء وأخطأ ، لكن لا شيء عليه ، لكن لا ينبغي لعاقل أن يجازف في مسالة خلافية كهذه قال بعض العلماء : لا حج عليه ويخرج قبل غروب الشمس .
{(10/40)
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة:198] ، المشعر الحرام جبل في مزدلفة ، النبي عليه الصلاة والسلام أتي المزدلفة صلى فيها المغرب والعشاء جمع تأخير ، بأذان واحدة وإقامتين - على الأظهر - ، ثم اضطجع ولم ينقل أنه صلى بعدها ، ثم قام - صلى الله عليه وسلم - فصلى الفجر في أول وقتها ، ليس قبل الوقت ، الصلاة قبل الوقت لا تجوز ، لكن أول وقتها ، ثم أتى المشعر الحرام وقال : ”وقفت ها هنا وجمع- أي مزدلفة - كلها موقف? ، وأخذ يدعو إلى أن أسفر جدا ، قبل أن تشرق الشمس صلوات الله وسلامه عليه ، توجه إلى منى فلما أتى بطن وادي محسر أسرع ؛ لأنها ديار عذاب ، حتى أتى منى فرمى جمرة العقبة بسبع حصيات .
الآن يوجد منى ، ويوجد مزدلفة ، ويوجد محسر ، ويوجد عرفة ، هذه أربعة ، تجتمع في أمور ، وتختلف في أمور :
منى مشعر وحرم ، ومزدلفة مشعر وحرم ، الفرق يأتي بين عرفة ومحسر ، عرفة مشعر لكنها ليست حرم ، حل ، ومحسر حرم ؛ لأنه بين مزدلفة ومنى ، لكنه ليس بمشعر .(10/41)
لا يبقى الحجاج في مكان أكثر مما يبقون في منى ، في منى يوجد مسجد اسمه مسجد الخيف ، ومعنى الخيف هو إذا في جبل وفي عند الجبل وادي تجي جهة من الجبل نازلة قليلا ليست في أعلى الجبل وليست في الوادي هذه تسمى الخيف ، يقع مسجد الخيف جبل ثبير الأثبرة هذا فيه منحى منه ينزل لا يصل إلى الوادي ، في سفحه قبل أن ينزل إلى الوادي مسجد يسمي مسجد الخيف ، قال - صلى الله عليه وسلم - ”صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا? صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فالذي يصلي في مسجد الخيف يصلي في مسجد صلى فيه سبعون نبيا ، لكن يؤتى الناس من الجهل ، أنا أعرف خلطاء لنا وأقران وأحبة لنا في المدينة والله لسنا بشيء معهم على ما يقوله الناس فينا ، من دينهم وورعهم حقا لا يعرفهم أحد تقاة ، ويحج بعضهم كل عام ، ولا قط فكر أن يصلي في مسجد الخيف ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع صلواته في منى صلاها في مسجد الخيف .
السؤال الآن متى كان يرمي ومتى كان يصلي ؟
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعد الزوال يرمي ثم يصلي ، طبعا هذا الذي يريد أن يوافق السنة كاملة ، أما الجواز الأمر مفتوح من بعد الزوال إلى ما شئت حتى في الليل ، والناس يختلفون في القوة والضعف ، والذي معه حريم ، والذي معه عجوز ، يختلفون اختلاف جذري وكله والدين سعة ، والدين يسر ، لكن أنا أتكلم كيف رمى نبينا - صلى الله عليه وسلم - .
رزقنا الله وإياكم الفقه في الدين ، وصلى الله على محمد وعلى آله ، والحمد لله رب العالمين .
? ? ? ?(10/42)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولي مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنًا وذكرا ، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعَرف به ودعا إليه ، اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إل يوم الدين .. أما بعد ..
أيها المؤمنون :فهذه تأملات في سورة عظيمة من كلام ربنا تبارك وتعالى هي سورة البقرة ، قال الله جل وعلا في افتتاحها : (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) فالقائل أن ذلك الكتاب لا ريب فيه هو رب العالمين جل جلاله الذي أنزل هذا الكتاب رحمة وحجة وهدى ، لأمة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، افتتح الله جل وعلا السورة بقوله : (الم) هذه من الأحرف المتقطعة الأسلم ترك الحديث عنها ، مع يقيننا أن الله جل وعلا له حكمة عظيمة في الإتيان بها في افتتاح كثير من سور القرآن بلغت 29 سورة أكثرها مكي .
وطرائق افتتاح القرآن تنوعت :
? فمنها الافتتاح بالأحرف المتقطعة .
? والافتتاح بالقسم قال الله : (وَالْفَجْرِ) قال ربنا : (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ) وقال تبارك اسمه (وَالضُّحَى)
? ومنها الافتتاح الثناء على الله جل وعلا ، وهو على ضربين :
أ . إما تنزيه الله عما ا يليق به كم افتتح الله سورة الإسراء وسورة الجمعة وسورة التغابن وسورة الحديد و أضرابها في القرآن.
ب . ومنها الثناء على الله جل وعلا بحمده كما في فاتحة الكتاب وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر .(10/1)
? ومنها الافتتاح بالدعاء قال الله جل وعلا : (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ) وقال ربنا : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ),.
? منها الافتتاح بالأمر قال الله جل وعلا : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
ومنها الافتتاح بالتعليل ولم يقع في القرآن إلا مرة واحدة قال الله جل وعلا (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ).
ومنها الافتتاح بالاستفهام قال الله جل وعلا : (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ) وقال ربنا : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) ، هذه بعض الطرائق التي يفتتح بها كلام رب العالمين جل جلاله .(10/2)
وفي سورة البقرة قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) واللام في قوله جل ذكره وتبارك اسمه " ذلك" المقصود به إظهار العظمة التي يتصف بها هذا الكتاب العظيم ، تنزيها لهذا الكتاب عن ما يفتريه خصوم الدين وأعداء كلام ربنا جل وعلا ، قال الرب تبارك وتعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) كما أن فيها إشعار بأن الأنفس العظيمة إذا أرادت أن تنال من هذا القرآن العظيم ما ينفعها في أمر دينها ودنياها فإنها تحتاج إلى أنفس ترقى إلى معالي الأمور وتشمر ساق الجد وتشمر عن ساق الجد وساعد الاجتهاد في الوصول إلى ما ينفعها في أمر دينها ودنياها قال ربنا : (الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) وفهم بعض أهل الصناعة البلاغية من الألف واللام هنا في قوله جل شأنه أنها لام الكمال ، وهو الكتاب الحق ، وإن كان هناك كتب يستحق أن تسمى كتبا ، كالتوراة والإنجيل والزبور إلا أن القرآن مهيمن على الكتب كلها ، كما أخبر ربنا تباركت أسماؤه ، ( لاَ رَيْبَ فِيهِ) هذا خبر لعل المراد ب الإنشاء ، أي لا ينبغي لمؤمن أن يرتاب في أن هذا الكلام كلام الله ، وأن هذا الكتاب هو الكتاب الحق ، وأن الهدي الذي يتضمنه هو أعظم هدى وأجله قال الله : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) قال الله جل وعلا (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ولم يبين جل وعلا معمول هدى ، لم يذكر في القرآن هنا المعمول ، هدى لأي شيء ؟؟ جاء مطلقا أي هدى لجميع المصالح الدنيوية والأخروية ، الدينية والدنيوية ،فكل مصلحة تتحقق للعباد إنما جاء القرآن بها فالتزامه والتمسك به والسير على(10/3)
منهجه ، وتلاوته والتعبد الله جل وعلا به ، به يفوز الإنسان ويسعد في أمر دينه ودنياه ،فإذا انتقلنا إلى فاتحة هذه السورة إلى قضايا عدة تناولتها السورة فإننا سنقف في هذا المجلس المبارك وقفات مع بعض قضايا تضمنتها هذه السورة المباركة .
أولى تلك القضايا : أن المجتمع المدني قبل هجرة النبي صلى اله عليه وسلم إليها وقبل أن يعرف المسلمون الأولون من الأنصار في المدينة الإسلام كان مجتمعا ينقسم إلى طائفتين :
? مشركون وثنيون وهم الأوس الخزرج .
? وطائفة أخرى : وهم اليهود .
ولا يوجد ثالث من أصحاب الملل بينهما ، فلما أسلم أصحاب البيعة العقبة الأولى والثانية، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، كان الأمر على ثلاث طوائف :
1. مسلمون ، 2. ومشركون ، 3. ويهود .
ثم كانت موقعة بدر فظهر فيها الدين وانكسر فيها سيف الشرك ، وأظهر الله جل وعلا دينه ، (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ) هذه البطشة الكبرى من الله التي وقعت يوم بدر ، انعكست تاريخيا على المجتمع المدني فمن كان يظهر الشرك ورأى اشتداد شوكة المسلمين أخفى ما يعتقده أظهر الإيمان وأخفى الكفر ،فأصبح المجتمع فيه :
? يهود .
? وفيه مشركون قلائل لا يظهرون شركهم .
? وفيه منافقون ، وفيه مؤمنون .
فخبر الله جل وعلا عن هذه الطوائف كلها في فاتحة سورة البقرة ، فأثنى الله جل وعلا في خمس آيات إلى قوله تبارك وتعالى (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) هذا إخبار عن الطائفة التي كانت على الجادة الحقة التي آمنت بنبينا صلى الله عليه وسلم ، والتي قال الله في صدر الآية عنهم (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) .(10/4)
ثم جاء الحديث بما يسمى عند البلاغيين بالمساواة في آيتين عن أهل الكفر ، لأن كفرهم كان ظاهرا ويشمل كفر أهل الكتاب وكفر أهل الإشراك قال الله جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون* خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) قال بعض أهل الفضل : " العلم محله القلب ، ومن وسائله السمع والبصر ، ومن لم يرد الله أن يهديه يختم الله على قلبه ويجعل على سمعه وعلى بصره غشاوة "(10/5)
فلو قرأ متونا وصاحب علماء من لم يرد الله له علما وهداية فلا سبيل له إلى تحقيقه ، وإن أراد الله تعالى به خيرا فكل ما في الأرض جند لله يسوق الله جل وعلا إليه العلم والهدى والنور ، سوقا برحمة منه جل وعلا وفضل ، فربنا جل وعلا يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله ، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله ، ولما تكلم ربنا جل وعلا عن دينه المبين وقرآنه المبين قال : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) وقال جل وعلا في سورة النور : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) إلى أن قال جل وعلا بعد أن ذكر شيء من نوره ، وضرب الأمثال ، وأقام الحجج وأوضح البراهين قال تبارك وتعالى : (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ) فلا سبيل إلى تحقيق أي غاية إلا بالله ، ولا يدفع كل موهوب إلا بالله تبارك وتعالى ، كما قال العز ابن عبد السلام – رحمه الله - : " والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله ، فكيف يوصل إلى الله بغير الله "، فلما قال ربنا هنا : (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ) فلم يكن لأحد قدرة أن يزيل ذلك الختم ومع ذلك يقيم الله جل وعلا عليهم الحجة بعدله قال ربنا تبارك وتعالى : (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) فذكر الله جل وعلا هنا طائفة الكفار بعد أن ذكر من قبل طائفة أهل الإيمان ، ثم جاءت الآيات تبين حال أهل النفاق ، ممن أظهروا الإيمان لحصنوا دنياهم (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أي وقاية كما قال الله جل وعلا في سورة المنافقون ، فهنا أخبر(10/6)
الله بعد ذلك في سورة البقرة بعض من أحوال أهل النفاق ومازالت أخبارهم تأتي في القرآن تباعا حتى فضحهم الله الفضيحة كلها في سورة التوبة ، كما هو محرر ظاهر لكل من تدبر التفسير في موضعه .
والمقصود: ذكر الله هذه الطوائف كلها ، فلا يستطيع أن يعاقب أهل الكفر ، والمنافقين ولا أن يثيب المؤمنين المتقين إلا الله تبارك وتعالى وحده ، والمؤمن إذا تلا مثل هذه خاف على نفس وإن أثنى عليه المثنون ، ولو مدحه المادحون ، فإن الناس ليس لهم ملك إلا الظاهر ، والله جل وعلا وحده يتولى السرائر ويوم القيامة يكشف المستور ويبعث من في القبور ، ويضحى العبد كما هو عريان في بدنه عريانا في أعماله ، يكشف كل شيء الله جل وعلا : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) اليوم يقف العباد ويحشر الأشهاد بين يدي ربهم تبارك وتعالى ، والله جل وعلا حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما ، وربنا تبارك وتعالى أحرم الراحمين وأكرم الأكرمين ، ورب العالمين ومع ذلك لابد من مجاهدة النفس إلى أن يحين الأجل وينتهي العمل قال الله تبارك وتعالى لنبيه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) فهذه القضية من أعظم ما تضمنته سورة البقر .(10/7)
مما تضمنته سورة البقرة بعد ذلك أن الله قال وهو أصدق القائلين : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وفق ترتيب المصحف هذه أول آية في القرآن ذكر الله جل وعلا فيها الأمر بعبادته ، مع أنه قال في الفاتحة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ثم بين جل وعلا ما يدعو المؤمن إلى أن يعبد ربه ، أي يقيم الله الحجة ويوضح السبيل ويهدي عباده ، قال ربنا وهو الغني عنا كل الغنى : (َ أَيُّهَا النَّاسُ) وهذا نداء عام ، أما قول اله تعالى في آيات أخر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فهذا نداء كرمة وهنا نداء عام ، قال بنا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) فالله تبارك وتعالى وحده هو الخالق والله تبارك وتعالى وحده هو الرازق، وما دام المرء يعلم أنه لا أحد يخلق إلا الله ولا أحد يرزق إلا الله ، فوجب لزاما أن لا تصرف العبادة إلا لله (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) وأقام الله جل وعلا الحجج على عباده ، بأنه وحده الخالق ووحده تبارك وتعالى الزارق ، هو الرازق وحده ، والخالق وحده ، فجب أن تفرض العبادة له دون سواه تبارك وتعالى ، ولا يشرك معه أحد كائنا من كان ، فقال ربنا هنا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ) ثم أقام الحجة قال : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ثم بين جل وعلا بعض من أدلة البعث والنشور ، وكان أهل الكفر لا يؤمنون بالله ولذلك من أعظم القضايا القرآن عامة قضية إثبات البعث والنشور (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ)فأخبر جل وعلا أن من دلائل البعث والنشور أنه هو الذي بدأ الخلق ، وإن جاء مجملا في البقرة جاء مفضلا في غيرها ،(10/8)
قال الله جل وعلا :( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) ، وقال جل وعلا في ق: (أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أخبر جل وعلا أن من أدلة البعث والنشور أنه هو الخالق الذي بدأ الخلق جل جلاله ، ثم أقام الله جل جلاله حجة أخرى ، وهي أنه خلق من هو أكبر منه وأعظم منكم خلقا قال هنا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء) ومعلوم أن خلق السماء والأرض أكبر من خلق الناس كما جاء في صريح القرآن في غافر : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) وهذه هي الحجة الثانية ، ثم جاء إيماء إلى الحجة الثالثة في أن الله جل وعلا قال : (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) هذا الإجمال فصلته آيات أخر قال الله جل وعلا : (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فأخبر جل ذكره أن المتأمل في إحياء الأرض وقد رزق عقلا سليما وقلبا مقبلا على ربه سيستدل بمثل هذا على أن الله جل وعلا قادر على البعث والنشور، وكفار قريش الأوائل وسائر من كفر يرون هذا عيانا ، ومع ذك يبقى الكبر في قلوبهم فيُمنعون بقدرة الله جل وعلا ولحكمته من أن يتحقق لهم مراد أنه أصلا لا حول ولا قوة إلا بالله ، وقد حرر هذا المعنى عظما في سورة الفاتحة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .(10/9)
والمقصود أن الله تبارك اسمه وجل ذكره قال : (اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ) فأخبر جل وعلا عن إحياء الأرض وهذه من أعظم قضايا القرآن كما حررنا وقد جاء منصوصا عليها في سورة البقرة وفي غيرها .(10/10)
ثم جاء من قضايا سورة البقرة قضية خلق آدم عليه السلام الذي نسبنا الله جل وعلا إليه كما قال جل وعلا في أربع مواضع في الأعراف:( يَا بَنِي آدَمَ) وقال جل ذكره في الإسراء : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) فنسبنا ربنا وهو خالقنا إلى أبينا آدم عليه السلام ،أخبر الله جل وعلا عن ذلك في قرآنه العظيم بقوله : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ) والملائكة : خلق من نور ، مقدمون على خلقنا ، من حيث الإيجاد كانوا أقدم منا خلقا ، أقدم من خلق أبينا آدم عليه السلام ، فالملائكة يتفقان مع الجن بالنسب إلينا أننا جميعا لا نرى الفريقين ، لا نرى الملائكة ولا نرى الجن ، ونتفق نحن و الجن نشترك في أننا مكلفون ، ويختلف الملائكة في أنهم غيروا مكلفين ، قال صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور وخلق آدم مما ذكر لكم " وجاء في القرآن : (وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) هنا يقول ربنا : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَتَعْلَمُونَ) كلمة " خليفة " هنا فهم منها بعض الفضلاء من العلماء ولذلك يقولون فيما يحررونه : أن آدم والإنسان عموما الناس جنس الإنسان خليفة الله في الأرض وهذا فيه نظر كبير ، لأن كلمة خليفة في الغالب للاستعلام اللغوي أن يكون الخليفة من جنس من سبقه ، من كان سلفا له ، ومعلوم أن الله خالق وآدم عظم أو قل عليه السلام إنما هو مخلوق وعبد لله جل وعلا فلا يقال لآدم ولا في غيره أنه خليفة الله ، لكن عندما يقول المسلمون الأوائل عن أبي بكر رضي الله عنه أنه خليفة رسول الله ، فالنبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر كلاهما مخلوق ، كلاهما من البشر فلهذا ذهب بعض أهل العلم أن هناك أمة من الجن كانت(10/11)
تسكن الأرض قبل آدم ، فقول الله جل وعلا : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) أي بعد الجن ، وهذا يحتاج إثباته أن هناك أمة من الجن كانت تسكن الأرض هذا يحتاج إلى نقل صحيح ولم أقف على شيء منه ، تخريج آخر قاله الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى عليه - : " إن خليفة هنا وإن جاءت اسم جنس مفرد إلا أن المراد به الجمع والمعنى أنني سأجعل من آدم أجعل له ذرية له يخلف بعضهم بعضا " كما قال الله : (خَلاَئِفَ الأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا ، وهذا القول كأسلوب لغوي شهد له القرآن فإنه جاء في القرآن أن يطلق اسم الجنس المفرد ويراد به الجمع ، قال الله جل وعلا في سورة القمر : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) فجمع ثم قال : (فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) وأفرد كلمة نهر وهي اسم جنس يراد به الجمع أي إن المتقين في جنات وأنهار ، بدليل قول الله جلا وعلا في آيات أخر : (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) فإذا جمع هذا إلى هذا ، والقرآن يصدق ويعضد بعضه بعضا تبين تحرير المعنى والذي يظهر والعلم عند الله أن قول الحافظ ابن كثير هذا أقرب الأقوال إلى الصواب .
((10/12)
إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) ثم أخبر الله جل وعلا أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم و هذا السجود سجود تحية ، لا سجود عبادة ، فإن الملائكة وهم يسجدون يعبدون الله بهذا السجود لأن الله هو الذي أمرهم وهو في الوقت نفسه تحية وإكرام وجلال لآدم عليه السلام لأن الله جل وعلا أمره أن يجلوه ويكرموه فنحن جميعا نتوجه إلى الكعبة في صلاتنا ونحن لا نعبد الكعبة لكننا نتوجه إلى الكعبة لأن الله أمرنا أن نتوجه إلى الكعبة ، وليس المقصود أن آدم كان قبلة للملائكة ، هذا غير مقصود أبدا لكن المقصود إظهار الشبه من وجه ، وهو أن الملائكة سجدوا لآدم سجود تحية كما سجد إخوة يوسف ليوسف ، فإن سجودهم له كان سجود تحية وإلا لا يعقل ولا يمكن أن يقال أن يعقوب عليه السلام سجد لابنه سجود عبادة ، هذا لا يمكن أن يقوله عاقل أبدا ، والمقصود أبى إبليس واستكبر ، والآن انظر أيها المبارك كيف أن النوايا لها أثرها على الأعمال ، فالله يقول : (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) وقال في : (مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ* قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ) هنا قال في البقرة : (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) والمقصود من ذلك جملة أن إبليس امتنع والله جل وعلا أخبر في خاتمة الأحداث أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال ، وقال ربنا وهو أصدق القائلين قال : (فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا) من الذي أبين أن يحملنها ؟؟ السماوات الأرض والجبال ، ومع ذلك لم يأتي تثريب عليها ، وجاء التثريب كله على إبليس والفرق من وجهين :(10/13)
الوجه الأول : أن الأمر للملائكة بالسجود لآدم وكان إبليس معهم كان فرضا ، أما مسألة الأمانة على السموات والأرض والجبال فكانت عرضا ، وشتان بين العرض والفرض .
الأمر الثاني : الذي يجب التنبه إليه أن إبليس امتنع وأبى استكبارا ، أما السموات والأرض فإنها امتنعت استصغارا ، أي إبليس امتنع لأنه يرى أنه أكبر من هذا الأمر ، ولهذا قال الله : (إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ) وأما السموات والأرض والجبال فإن الله قال : (فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) فقوله تبارك أسماؤه وجل ثناؤه :(وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) قرينة على أن امتناعهم كان استصغارا أي نهم رأوا في أنفسهم أنهم أقل شأنا من أن يقبلوا ذلك العرض ، نعود للآيات ، فامتنع إبليس خلص العلماء من قصة خلق آدم وما كان بعد ذلك من قبل أحد أبناء آدم وأخيه إلى أن أصول الخطايا ثلاثة :
1.الكبر . 2.والحرص ، 3.والحسد .
فما من معصية يقولون عصي الله بها إلا ويعود أحد أسبابها إلى واحد من هذه الثلاثة :
1. إما لكبر في القلب (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
2. وإما لحرص : فإن آدم عليه السلام أكل من الشجرة تشهيا ، فحرصه على أن ينال كل ا في الجنة وأودى به بقدر
الله إلى أن يخرج من الجنة ، فإن الله جل وعلا قال له : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) ومع ذلك جاءه الشيطان وقال له : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) فكان حرصه من أن ينال من تلك الشجرة ويطعم سببا بقدر الله في أن يخرج منها .
3. وأما الحسد : فإن إبليس كما كان متكبرا كان من أسباب امتناعه حسده لأبينا آدم أن الله أسجد له ملائكته ، وكما
وقع من قابيل لما قتل أخاه هابيل .(10/14)
والإنسان العاقل الذي يريد ما عند الله يتحرر من الكبر ويتحرر ما استطاع من الحقد ويتحرر ما الحرص من الحسد ، وقد قيل إن في الجسد مركب فيه الحسد لكن الكريم يخفيه واللئيم يبديه ، ولهذا جاء الحسد مقيدا في القرآن قال الله جل وعلا : (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ).
من هذه الآيات كذلك من قول الله جل وعلا : (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) قال العلماء :
"هذه الآية أصل في الإمامة " ، أي اجتماع الناس على إمام ، وهذه مسألة البحث فيها طويل لكننا نجملها بإجمال :
? بعض الفرق يرى أن الإمامة واجبة بالعقل لا بالنقل .
? وبعضهم يرى أنها واجبة بالنقل دون النقل.
? والصواب أنها واجبة بالنقل والعقل .
وأن الإمام المسلم إما أن يجتمع عليه أهل العلم والعقل ، كما كانت خلافة الصديق أو أن يوصي له من قبله كخلافة الفاروق ، أو أن يغلب على الناس بسيفه كخلافة عبد الملك ابن مروان لما قهر الحجاج ابن يوسف وأذعن المسلمون آن ذاك له ، أما بعض الفرق الضالة كالإمامة الإثنى عشرية من الشيعة فإنهم يقولون: " إنها واجبة بالعقل ما تحديد الإمام فإنه يجب بالنص ، والسماع " ولذلك قالوا بإمامة علي رضي الله عنه وأرضاه ومن تبعه من ذريته .
طائفة أخرى اسمها الكيسانية كانوا يرون أن الإمامة محصورة في أربعة قال كثير عزة :
ألا ن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء ... علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء ... وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء
وكل ذلك لا يقوم عليه دليل لا من عقل ولا من نقل ، ما دام مردود عقلا فيجب أن يرد عقلا في الغالب .(10/15)
والمقصود من هذا أن المسلم ينبغي أن يعلم أنه لابد للناس من إمام يسوسهم بأمر الله تبارك وتعالى ، يقام بوجوده تقام الحدود وينصب الشرع ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، والسع والطاعة له في غير معصية الله ، دين وملة وقربة ، نسأل الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل .
مما تضمنته سورة البقرة كذلك : التخويف من اليوم الآخر ، قال الله جل وعلا : (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) إن من أخطأ دنيويا ليوم ثم ثلاثة وسائل بأن ينتصر ولا يثرب عليه وينجوا من الخطأ الذي تلبس به :
فأولها : أن يأتي أحد فيشفع له .
والثاني : أن يكون له نصير يغلب من ناوأه .
والثالث : أن يكون له مال فيفدي نفسه بسبب ذلك الخطأ .(10/16)
وهذه الثلاث لا طرائق للتخلص من الآثام والأخطاء في الدنيا إلا واحد منها ، لكن في الآخرة نفى الله جل وعلا ذلك كله ، فقال تباركت أسماؤه : (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) فإذا انتفت الأسباب كلها وجب العودة والأوبة إلى رب العالمين جل جلاله ، قال ربنا تبارك وتعالى لما ذكر أهوال اليوم الآخر في الدخان قال : (وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فيتعلق المؤمن بربه تبارك وتعالى وبما شرع جل وعلا من الأسباب ويبحث عن أسباب رحمة الله لعل الله جل وعلا أن يناله برحمته ، والله تبارك وتعالى لما ذكر أهل الجنة قال : (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) وجاء في خبر الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة أحد بعمله ، قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتداركني الله برحمته " فنجم عن هذا نفي وإثبات لكن المنفي في القرآن غير المثبت في السنة ، فالمنفي في القرآن باء العوض وهي المثبته في الآية ، (وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالكم أما المنفي في الحديث فهي باء العوض أي ليست أعمالنا عوضا عن دخول الجنة ، فالجنة أكبر عطية أكبر من أعمالنا ، و قال الله نفس السورة محذرا من أهوال اليوم الآخر : (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ) وكلما زاد يقين المؤمن بلقاء الله زاد إقباله على الطاعة ، وكلما قل في قلبه اليقين والإيمان بلقاء الرب تبارك وتعالى قل الإقبال على الطاعات وأصبح المرء مسرفا على نفسه بالمعاصي لأنه لا يرقب حقيقة أنه سيلقى الله جل وعلا ذات يوم، ولهذا قال الله : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ(10/17)
كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ) وأخبر الرب تبارك وتعالى بهذا في آيات عديدة في أكثر من سورة من كلامه العظيم.
من القضايا التي ذكرها الرب تبارك وتعالى في سورة البقرة قضية تحويل القبلة ، وقضية تحويل القبلة وقعت بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، والمشهور المحفوظ عند أهل السير والعلم عند الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يستقبل البيت والشام أي بيت المقدس في وقت واحد فيصلي صلى الله عليه وسم بين الركنين ، اليمانيين فلما أذن له بالهجرة وهاجر ومكث قرابة ستة عشر شهرا كان صلى الله عليه وسلم تأدبا مع ربه ، لا يسأله صراحة وإنما كان يقلب طرفه في السماء ، فأنزل الله جل وعلا (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) فكمال أدبه عليه الصلاة والسلام في مثل هذه المسألة الشرعية مع ربه تبارك وتعالى أكرمه الله جل وعلا بأن أد الله إليه مراده ومقصوده صلوات الله وسلامه عليه من غير أن يسأل ومعلوم أن الإنسان كلما رزق أدبا في التعامل مع من فوقه ، ومع من حوله إجمالا كان ذلك ألصق بدلائل القرآن والسنة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم في هذا قدم السبق ، كما له صلى الله عليه وسلم ذلك في كل فضل صلوات الله وسلامه عليه فأنزل الله قوله :(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) وهذا البيت الذي أقسم الله جل وعلا به في قوله جل اسمه وتباركت أسماؤه قال : (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) وقال عنه : (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ) ارتبط ارتباطا وثيقا بحياة المسلمين فنحن نصلي ونتجه بوجوهنا إلى الكعبة ،( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، ننحر الهدي وجوبا أو استحبابا فنستقبل(10/18)
بنحرنا البيت الحرام ، ونأتي الحج ولا نحج إلى مكان إلا إلى البيت الحرام ، (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وندفن موتانا ونتذكر قول نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل : "والمسجد الحرام قبلتكم أحياءا وأمواتا " فنوجه موتانا إلى القبلة ، إلى الكعبة التي أمرنا الله جل وعلا بالتوجه إليه ، وهذا يدلك أيها المؤمن على أن الله جل وعلا جمع قلوب عباده المؤمنين في كل مكان حول بيته العظيم ، حتى تتحد القلوب إن تعسر ، أو ضاق علينا أحيانا في بعض أزمنة المسلمين أن تتحد أجسادهم وتقرب ديارهم بعضهم من بعض ، سيكون في توجههم إلى قبلة واحدة أجمع لشتاتهم وأدلة على أن هذا الدين جاء لجمع كلمتهم وسلامة قلوبهم وتوحيد صفوفهم ، فالحمد لله الذي جعل كتابنا واحدا ، وقبلتنا واحدة ، ونبينا واحدا ، وألزمنا الهدى والنور تبارك اسمه وجل ثناؤه ، وهذه الكعبة من الناحية التاريخية يقال إنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والشيخين أبي بكر وعمر ومن بعدهما إلى خلافة بني أمية كان يصلى من جهة المقام فقط ولا يصلى حول البيت من الجهات كلها ، إنما من جهة المقام ، فلما ولي مكة خالد ابن عبد الله القسري جمع الناس وجعلهم يصلون من البيت كله ، أي من جميع جدران البيت ، من جميع جهاته الأربعة ، فسأل عطاء ابن أبي رباح عن هذا قال : " أجد له شاهدا في كلام الله ثم تلى رحمه الله تعالى قول الله تبارك وتعالى : (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) " واستمر عليه عمل المسلمين إلى يومنا هذا ، والمقصود أن هذا البيت جعله الله مثابة للناس ، فالذي نريد أن ننيخ المطايا عنده أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه والمؤمن ينبغي عليه أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في سائر أقواله وأعماله ، والتوحيد هو الأدب كله ، لأن من أعظم الأدب أن لا يعبد مع الله جل وعلا غيره ، هذا هو الدين الذي جاءت به الرسل وأنزل به الكتب ،(10/19)
ثم تكون ذلك في أمور أقل من ذلك وهذا يختلف الناس فيه ، هذا له فيه سبق وهذا متأخر وهذا متقدم وهذا بين بَيّن ، والمقصود أن المؤمن يكون عظيم التأدب مع شعائر ربه تبارك وتعالى قال الله : (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، وقف صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب فدخل رجل فجعل يشكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم جدب الديار وقل الأمطار وقال : اسق لنا ، فرفع صلى الله عليه وسلم يدعو واستسقى وأمطرت السماء برحمة من الله ، فدخل رجل هو أو غيره من نفس الباب من الجمعة المقبلة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحدثته الأمطار من انقطاع السبل وتعثر الناس وقال يا رسول الله : (أدعو الله أن يمسكها عنا ) وكان صلى الله عليه وسلم عظيم الأدب مع ربه ، فلم يقل عليه الصلاة والسلام اللهم امسك عنا رحمتك ، لأنه يعلم أن الغيث رحمة وليس من الأدب مع الله أن يخاطب الله بهذا ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: " اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية منابت الشجر " وأخذ يشير بيده صلوات الله وسلامه عليه قال أنس: "فوالله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها ".
سلوا قلبي غداة سلة وثاب ... لعل على الجمال له عتاب
وسؤل في الحوادث ذو صواب ... وهل ترك الجمال له صوابا
أخي الدنيا ترى دنياك أفعى ... تبدد كل آونة إيادا
فمن يغتر بالدنيا فإني ... لبثت بها فأبليت الثيابا
لها ضحك القيام إلى غبي ... ولي ضحك البليد إذا تغابا
جنيت بروضها وردا وشوكا ... وذقت بساعدها شهبا وصابا
فلم أرى مثل حكم الله حكما ... ولم أرى مثل باب الله بابا
أبا الزهراء قد جاوزت قدري ... بمدحك بيد أن لي انتسابا
فما عرف البلاغة ذو بيان ... إذا لم يتخذك له كتابا
مدحت المالكين فزدت قدرا ... وحين مدحتك اجتزت السحابا(10/20)
صلوات الله وسلامه عليه ، رزق الصحابة الأدب مع الله ، والأدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم ، ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو ابن عوف ليصلح بينهم فتأخر فقام بلال رضي الله عنه للصديق أأقيم وتصلي قال : نعم ، فصلى الصديق ، قبل أن يركع ، دخل صلى الله عليه وسلم وشق الصفوف حتى صلى وراء ألبي بكر ، فأحدث الناس ما ينبه به الصديق على أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم ، فتأخر رضي الله عنه وأرضاه فأشار إليه صلوات الله وسلامه عليه أن اثبت مكانك ، فرفع يديه يدعوا كيف أ النبي أقره أن يصلي به ، ثم رجع ، فصلى صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من صلاته قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ فقال أعظم هذه الأمة أدبا بعد نبيها : قال : "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ".(10/21)
وكان ثمة باب في الجهة الشمالية أو الشرقية وأظنه الشمالية من المسجد قال صلى الله عليه وسلم وقد رأى كثير من الناس يأتون من ذلك الباب ، قال :" لو تركنا هذا الباب للنساء "، فسمعه عبد الله ابن عمر والنبي قالها لا أمرا قال : "لو تركنا هذا الباب للنساء " قبض ابن عمر رضي الله عنهما وهو فوق الثمانين وسكن المدينة ومع ذلك لم يدخل في حياته كلها من ذلك الباب أبدا مع قول نبينا صلى الله عليه وسلم : "لو تركنا ذلك البابا للنساء " وهذا جماعه قوله جل وعلا : (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) والإنسان كلما عظم شعائر الله ، زاده ذلك رفعة عند ربه ، وإن من أعظم ما يطلبه المؤمن لنفسه تزكية لها ورفعه في درجاتها أن يتأتى لأمر الله وأمر رسوله صلى الله وعليه وسلم وأن يكون إقدامه وإحجامه كل ذلك لله ،إن خطى خَطى بمعنى مضى في سبيله أو رجع عن قواه ، وينسبون إلى عمر خبرا في مثل هذا آخره أنه أذعن لفتية إن صح الخبر القصة فيها شيء من الغرابة ولكن موقف عمر صحيح المعنى وإن لم يصح الخبر ، ساقه حافظ بعد ذلك بقوله :
وما أنِفت وإن كانوا على حرج ** من أن يَحُجَك بالآيات عاصيها
فعندما يذكرك بالله من هو ظاهر الأمر أنه أقل منك شأنا ، وأنت تقبل ذلك التذكير تأدبا مع ربك العزيز الكبير جل جلاله وهذه قضية قلنا من إرشادات قول الله جل وعلا : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .(10/22)
من القضايا التي جاءت في هذه السورة المباركة : أن الرب تبارك وتعالى ذكر فيها مواقف هي في علم البيان هي أقرب منها من علم الوعظ هنا لما ذكر الله السياق قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) ثم قال : (شَهْرُ رَمَضَانَ) لما ذكر الحج جل شأنه قال : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) ولم يقل جل وعلا ما هي أشهر الحج ، لأن العرب كانت تعرف الحج عبادة كانوا قد أخذوها عن أسلافهم إلى إبراهيم عليه السلام ، فيعرفون أشهره ولهذا قال الله (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) منتشر خبرها بين الناس لا يكاد يجهلها أحد أما رمضان فلم يكن عند قريش شهرا يصومونه ويمنعون أنفسهم الطعام والشراب فيه فبينه جل وعلا قال : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وقال (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ذكر الله جل وعلا في سورة البقرة الدين والوصية فقال جل ذكره : (مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) ومعلوم أيها المبارك أن قضاء الدين وقضاء دين الميت مقدم على إمرار وصيته مع أن الله قدم الوصية هنا على الدين ، وذلك لأن الدين يجد من يطالب به ، فإن الدائنين إذا سمعوا أن زيدا من الناس مات أقبلوا على ورثته يسألونه حقهم ، أما الوصية فإن المساكين في الغالب لا يدرون أن زيدا أو عمرو من الناس أوصى لهم شيء ، فقدم الله الوصية هنا تقديم من يقصد بذلك التقديم شدة العناية بها ، ذكر الله جل وعلا عبادة العجل من قبل بني إسرائيل وقال تبارك وتعالى : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) والقرآن تكلم عن عبادة بني إسرائيل للعجل لكنه لا توجد آية في القرآن قال الله فيها (ثم اتخذتم العجل إلها ) وإنما يقول (اتخذتم العجل ) ولا يقول " إلها" وهذا من طرائق القرآن في بيان شناعة الأمر أي أنه لا يتصور عقلا أن أحدا يعرف الله ثم يعبد عجلا مكن دونه ، فأغفل(10/23)
القرآن ذكر كلمة إله هنا عمدا ليبين لكل أحد شناعة الأمر الذنب ارتكبه هؤلاء الذين عبدوا العجل من نبي إسرائيل .
من هذه المواقف البلاغية في القرآن نزدلف إلى أعظم آية في القرآن وهي في سورة البقرة وهي آية الكرسي وبها نختم ، قال الله في آية جمعت كثير من ما لله تبارك وتعالى من جلائل الصفات قال ربنا : (الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لفظ الجلالة "الله" قال بعض أهل الفضل: إنه اسم الله الأعظم ، وقالوا إن من حججهم لهذا الباب: أن هذا الاسم لم يتسم به أحد ، قال ربنا : (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) وهذا استفهام استنكاري أي لا يُعلم ولا يوجد أحد تسمى بهذا الاسم ، ثم إنه يسمى الرب تبارك وتعالى تضاف بعض أسمائه إلى لفظ الجلالة لكن لفظ الجلالة لا يضاف إلى غيره ، فمثلا تقول : الله هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ، لكن لا تقول : أن الرحمن هو الله كذا وكذا وكذا . فيبدأ باسم الجلالة كما قال الله جل وعلا : (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ)( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) وهذا من أدلتهم والعلم عند الله .
ويرون في كتب الأخبار أن إمام النحو الشهير سيبويه لما ألف الكتاب قسم فيه المعرفة إلى ستة أقسام :(10/24)
1.العلم ،2. والمعرف بأل ،3. والضمائر ،4. وأسماء الإشارة ، 5.والأسماء الموصولة ،6. والمعرف بالإضافة ، فلما جاء إلى العلم جعل اسم الله علم الأعلام ، فذكروا أنه لمات رحمه الله وقد مات صغير في الرابعة والثلاثين رأي في المنام قيل له : "ما فعل بك ربك ؟ قال : أكرمني لأنني جعلت اسمه علم الأعلام "، وأكرر في مثل هذه الأخبار أنها صحت أو لا تصح فلا ريب أن لفظ الجلالة هو علم الأعلام بلا مرية ، قال الله جل وعلا : (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) معنى أي لا إله بحق إلا هو أما آلهة في الأرض تعبد من دون الله كثيرة ، لا تعد ولا تحصلا وقد كانت حول الكعبة أكثر من 360 صنما لكن كلها باطلة ، كما قال الله حكاية عن يوسف : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم).
(اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) والله جل وعلا يقال في وصفة حياته : حياة لم يسبقها عدم ، ولا يلحقها زال .
القيوم : الرب تبارك وتعالى مستغن عن كل أحد، وكل أحد مفتقر كل الفقر إلى الله . فنحن نؤمن جميعا أن ربنا جل وعلا مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته ، ونؤمن أن الله جل وعلا غني عن العرش وغني عن حملة العرش، وغني عن خلقه كلهم والخلق أجمعون فقراء كل الفقر شاؤا أم أبوا إلى ربهم تبارك وتعالى ، بل كما قال بعض العلماء كابن خزامة وغيره: " والله ما رجل في عرض البحر إلا لوح بأفقر إلى الله منك وأنت في بيتك "، فكلنا فقراء كل الفقر إلى الله .(10/25)
قال ربنا : (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) من الأسئلة التي تأتي على الذهن عندما يقرأ المؤمن هذه الآية ويكثر السؤال عنها أنهم يقولون : " ما كان هناك من حاجة إلى أن ينسى النوم ، ويكفي أن يقال لا تأخذه سنة ، لأن إذا ثبت أن الله لا تأخذه سنة هذا في السؤال من باب أولى أن لا يأخذه نوم ، وهذا سؤال أو اعتراض في غير محله ، والدليل أنه اعتراض في غير محله أنه قد يأتي النوم من غير سِنة ، أنه قد يأتي النوم أحيانا جملة واحدة من غير سِنة ، فقع في النوم من غير سنة ، فلهذا جاء القرآن بنفي السنة والنوم ، عن ربنا تبارك وتعالى ، هذا واحد.
الأمر الثاني : أن الإنسان قد يقدر أن يدفع عن نفسه السنة ولو أتته لكنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه النوم .
فلهذا قال الله : (لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ) وكرر عام النفي ، حتى يبين أنه جل وعلا منزه عن كل نقص وقد جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فينا بأربع كلمات :" إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، بيده القسط يخفضه ويرفعه ، حجابه النور ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبوحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .
((10/26)
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) هذه اللام لام الملك ، لكنها أيها المبارك تمام الملك المطلق ، لأننا لو قلنا هذا القلم لمن ؟ وأجبت عنه فقلت لي هذا اللام ملكي ، لكن هذا الملك ملك صوري ، إما أن يبيد القلم قبلي وإما أن أموت ويبقى القلم وكل أحد من الدنيا يملك شيئا قل أو عظم وإما أن يفنى ما بيده ، أو أن يموت هو عنه ، وهذا كل ملك في الأرض هو ملك صوري ، آتانا الله إياه وأما الملك الحقيقي المطلق فهذا ملك لله ، فإذا كان يوم القيامة وحشر الناس وقاموا يحشرون " بُهْمًا " معنى بُهْمًا: ليس في أيديهم شيئا غير ممولين ، فينتفي الملك الصوري ولا يبقى الملك الحقيقي ، والملك الحقيقي حررنا من قبل أنه لمن ؟ أنه لله هذا معنى قول الله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ) ومعنى قول الله :( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) فقول ربنا (لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) إذا علمت أن كل شيء بيد الله وجب أن لا تسأل أحدا غير الله ، وأن تفزع القلوب إلى خالقها ، وتزهوا بارئها ، وتقدم بين يدي الله من الاستكانة والخضوع ما تستدر به رحمة ربها ، ألا ترى أن إخوة يوسف لما أخطئوا عليه وقبل أن يعرفوا شخصه قالوا يتوسلون إليه بالانكسار قالوا : (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ) أي مدفوعة (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) فأثر فيه ، فكيف إذا سكنت جوارحك وخشع قلبك وذرفن عينك وعثرت جبهتك لأرحم الراحمين ، كيف تكون عطايا الله لك، وجب على المؤمن أن يجعل من قلبه منكسر بين يدي خالقه جل وعلا وأجل وأعظم ما يكون الانكسار في ظلمات الأسحار بين يدي الله الواحد القهار ، قال(10/27)
الرب جل اسمه تباركت أسماؤه قال : (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) قال أحد الصالحين : " دخلت الحجر حجر الكعبة فوجدت رجلا وسماه ساجدا يقول في سجوده : " عبيدك في دارك ، مسكينك في بيتك " يتوسل إلى ربه تبارك وتعالى . ونحن والله عبيد لله مساكين بيد يديه ، ليس لنا إلا ما أعطانا ربنا نقول ونحن مؤمنين اللهم إنا لا نملك لأنفسنا حلا ولا طولا ولا حياة ولا موتا ولا نشورا ، ولن نستطيع أن نأخذ إلا ما أعطيتنا ، ولا أن نتقي إلا ما وقيتنا ، فوفقنا ربنا لما تحب وترضى من القول والعمل ، والمقصود: أن دلالة الملكية هنا تجعل من قلبك ينكسر بين يدي الله (لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) من تمام ملكه جل وعلا وعظمته أنه لا يشفع في ذلك الموقف لا تقع الشفاعة إلا بإذنه ، ومعلوم أن شفاعة منها ما هو منفي ومنها ما هو مثبت ، في تفصيل معروف لكن غاية الأمر هنا أن يقال : إن الأمور كلها لله فعندما يشفع من يشفع ، يشفع بإذن من الله ورضوان ، وعندما يشفع في أحد فإنما يشفع برضوان من الله ، جل وعلا وإذن لمن شفع ، كما قال ربنا( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى).
((10/28)
مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) الله جل وعلا علم ما قد كان وما يعلم ما يكون ، ويعلم ما هو كائن ، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون ، قال الله عن أهل معصيته : (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) نحن نعلم أن أهل الكفر لن يردوا إلى الدنيا لكن ربنا يقول : (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) فهو جل وعلا يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون ، لما خطى موسى عليه السلام إلى الخضر يأخذ عنه العلم وحملتهم السفينة قبل أن يكسر الخضر اللوح جاء عصفور ونقر في البحر نقرتين ثم مضى فقال الخضر لموسى :" يا موسى ما بلغ علمي وعلمك أو ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من البحر" ، والملائكة قالت بين يدي ربها : (سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) فمن رام علما يجب أنم يقع في قلبه أولا : أنه لن يعلم إلا ما علمه الله ، وإذا علمنا أن الله يعلم الغيب وجب التوكل عليه ، وإذا وجب التوكل عليه وجبت عبادته جل وعلا حتى يصدق توكلنا عليه قال الله جل وعلا يجمع بين هذا وهذا : (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون) ثم قال الله : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) اختلف في تعريفه والأظهر أنه موضع قدمي الرب تبارك وتعالى ، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) أي لا يعجزه حفظهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وهو جل وعلا علي في(10/29)
ذاته علي في صفاته علي تبارك وتعالى في قهره لباده وهو جل وعلا في السماء قد استوى على عرشه بائن عن خلقه ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، ختم الله أيها المباركون سورة البقرة بدعاء الصالحين الذي يثنون فيه على ربهم تبارك وتعالى ، ومن طرائق القرآن أنه يعلم المؤمنين كيف يدعون ربهم قال الله : (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) هذه الخواتيم سورة البقرة قال صلى الله عليه وسلم : "من قرأ خواتيم سورة البقرة في ليلة كفتاه " فالمؤمن يكسر قلبه ويهذب نفسه ويربي أبناءه على أن يدعو بالدعاء الذي ختم الله جل وعلا به سورة البقرة في تلاوتها كما بين نبينا صلى الله عليه وسلم .
ختاما أيها المباركون والله ما كان لمثلي أن يتكلم بين يدي شيخنا العلامة الدكتور عبد الله ابن عبد الرحمن الجبرين وفقه الله ، لكن نقول كما قال من سبقنا :
نسير خلف ركاب المجد ذا عرج ... مأملا غير الذي يقضي به عرج
فإن ظفرتم به من بعد ما سبقوا ... فكم لرب السماء في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعا ... فما على أعرج في ذاك من حرج(10/30)
أيها المؤمنون : من الناس من يعلم بكلامه كما نتلبس بذلك نحن أحيانا، ومن الناس من يعلم بكلامه وبسلوكه بين الناس ونحن لا نريد أن نزكي أحدا في بيت من بيوت الله لأن المساجد بنيت لرفع لذكر الله لكن الذي لا إله إلا هو ما أملت يوما أن أتكلم في مجلس فيه شيخ مشايخنا وفقه الله ، لكن هذا فضل من الله محض وأنا أعقل من أن أرد فضل الله ، فالحمد لله على فضله ، وأسأل الله أن يزيد شيخنا رفعت في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك أن تزيد شينا عبد الله ابن جبرين رفعة في الدنيا والآخرة ، اللهم زده رفعت في الدنيا والآخرة ، اللهم زده رفعة في الدنيا والآخرة ، ثم أيها المباركون يتكلم زيد يتكلم عمرو تحضر محاضرة تسمع شريطا هذا من وسائل ترقيق قلبك ، وتعليم دينك وهو حق ، ولكن كن على ثقة أنه لا يهدي إلا الله ، قال الله عن نوح : (وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ) فالمؤمن يعلم أن الهداية كلها بيد الله وأن الفضل كله بيد الله يؤتيه من يشاء ، فأعظم من حضور محاضرات وهو عظيم أن تمتثل بين يدي ربك في موضع يغلب على ظنك أن لا يراك أحد فيه ، فانكسار القلب في تلك المواطن بين يدي الله والإلحاح على الله جل وعلا في الدعاء هذا من أعظم أسباب الثبات على الدين .
أسأل الله أن لا يقبض أرواحنا إلا وهو راض عنا ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .(10/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
تفريغ محاضرة
للشيخ : صالح بن عواد المغامسي
" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
الحمد لله الذي لا يبلغ منحته قول قائل ولا يجزي بآلائه أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب غيره ولا إله سواه وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بلغ عن الله رسالته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزا به نبي عن أمته صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعرف به ودعا إليه ..
أما بعد أيها المباركون :
فإن الرب تبارك وتعالى تعبدنا بهذا القرآن العظيم فهو معجزة نبينا صلوات الله وسلامه عليه الخالدة إلى أبد الدهر:
جاء نبينا بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جدد يزيدهن جلال العتق والقدم
ألا وإن مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران " وبهذا المسجد المبارك نقف معكم تأملات مع سورة آل عمران ، وهي سورة مدنية ، قال ربنا تبارك وتعالى في أولها : بسم الله الرحمن الرحيم { الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) } وهذه الحروف المتقطعة اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً لكن الذي يعنينا هنا أن يعلم أن الله جل وعلا افتتح سور القرآن بعشر طرائق :
*إما أن تبدأ السورة بالحروف المتقطعة كما في البقرة وآل عمران ومريم .. وأشباهها .
* وإما أن تبدأ السورة بالاستفهام قال ربنا { هل آتى على الإنسان حين من الدهر } وقال جل ذكره { هل أتاك حديث الغاشية } .
* وإما أن تبدأ السورة بالجملة الخبرية قال ربنا { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } وقال { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }
*وإما أن يأتي للنداء قال تباركت أسمائه وجل ثنائه { يا أيها الناس اتقوا ربكم } وقال { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وقال جل ذكره { يا أيها النبي اتق الله } .(10/1)
* وما أن تبدأ الآية بالتعليم وهذا لم يرد إلا في موضع واحد قال الله جل وعلا { لإيلاف قريش } .
* وإما أن تبدأ السورة بالدعاء قال تباركت أسمائه { ويلٌ للمطففين } وقال { تبت يدا أبي لهب وتب } وهذا كله دعاء .
هذا بعض ما دل في القرآن على أنه قد افتتح به ومن ذلك :
*الثناء على الله جل وعلا وهو على ضربين عند العلماء : إما الثناء على الله جل وعلا بما أنعم وهذا ما ذكره الله جل وعلا في الفاتحة { الحمد لله رب العالمين } وبالأنعام { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } وبالكهف { الحمد لله الذي أنزل على عبد الكتاب } .
وإما أن يأتي الثناء بالضرب الثاني : وهو تنزيه الله جل وعلا عمالا يليق به قال جل وعلا { سبح اسم ربك الأعلى } وقال { سبح لله ما في السموات وما في الأرض } وقال { يسبح لله ما في السموات وما في الأرض } .. إلى غير ذلك من السور المفتتحة بالتسبيح .
هذا أولا حول مقدمة سورة آل عمران ..
ثم قال ربنا تباركت أسمائه وجل ثنائه { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } القرآن أيها المؤمن كله عظيم لكن عظمته على ضربين : * ضرب أعلى وهو حديث الله عن الله .
" والضرب الآخر هو الكلام عن غير الرب تبارك وتعالى ، فأعظم ما في القرآن حديث الله تبارك وتعالى عن ذاته العلية من الآيات التي تُعرف بالخالق الباري جل شأنه ومن هنا قال الله جل وعلا { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ }
فنقول أيها المؤمنون أما لفظ الجلالة فإن الأظهر من دلائل القرآن والسنة أنه هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى لقرائن عده من أجلها أمران :(10/2)
" أن غير هذا الاسم يضاف إليه هذا الاسم فلا يُعرف إلا به فلا يقال إن من أسماء الرحمن الرحيم العلي الكبير الله ، لكن يقال من أسماء الله الرحمن الرحيم العلي الكبير ، هذه قرينة .
" والقرينة الثانية : أن لفظ الجلالة الله لم يأذن الله شرعاً ولا قدراً أن يتلبس به أحد وأن يقول إنني أنا الله ، حتى فرعون وهو أعتا الجبابرة قال { أنا ربكم الأعلى } والنمرود قال { أنا أحي وأميت } وقريش سمت هبل واللات والعزى لكن لم تسمي الله ، فصرف الله جل وعلا عن التسمية باسمه كذباً حتى الجبابرة والأكاسرة والقياصرة عبر التاريخ قال الله جل وعلا في سورة مريم { وما نتنزل إلا بإذن ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا، رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } أي ليس هناك أحد تسمى بهذا الاسم فهذان قرينتان من الدلائل ـ والعلم عند الله ـ ولا نجزم على أن لفظ الجلالة هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى ، كما أن الألف واللام فيه ثابتة فإننا إذا دعونا ربنا ومن أسمائه الرحمن نقول يا رحمن ومن أسمائه الغفور لكننا نقول يا غفور من أسمائه الصبور ونقول يا صبور لكننا إذا ناديناه جل وعلا دعوناه باسم الجلالة فإن الألف واللام باقية فيه فيقال يا الله ، هذه بعض القرائن حول اسم الله الأعظم ، ثم قال ربنا جل وعلا { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } والرب تبارك وتعالى من أسمائه الحسنى " الحي" وحياة الله جل وعلا توصف بأنها حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال وكل أحد كائن من كان قد سبق حياته عدم وسيلحق حياته زوال { كل من عليها فان ،ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } فالله جل وعلا وحده الحي الذي لا يموت " القيوم" أي أن جميع خلقة بلا استثناء فقراء إليه فقر اضطرار وهو جل وعلا غني عن كل أحد ، بل إنه جل وعلا مستوٍ على عرشه والله جل وعلا مستغنٍ عن(10/3)
العرش وعن حملة العرش وعمن يطوف حول العرش ، لكن العرش وحملة العرش ومن يطوف حول العرش والخلائق أجمعون كلهم فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى فهذا معنى قوله جل شأنه { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } .
والله تبارك وتعالى هذان اسمان عظيمان من أسمائه الحسنى لكن له جل وعلا أسماء حسنى قال - صلى الله عليه وسلم - عنهن:" مئة إلا واحدة من أحصاهن دخل الجنة " وسمى الله جل وعلا ونعت أسمائه بأنها حسنى بأربعة مواضع من كتابه :
قال جل وعلا في الأعراف { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها }
وقال تباركت أسمائه وجل ثنائه في الإسراء { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعون فله الأسماء الحسنى } .
وقال جل ذكره وتبارك اسمه في سورة طه { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى }
وقال جل ذكره في خاتمة الحشر { هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى }
فله جل وعلا أسماء حسنى وصفات علا فيها يتعبد ويدعى ـ جعلنا الله وإياكم ممن يتعبده بما شرع ـ جل ذكره .
{(10/4)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } المقصود به القرآن بلا شك ثم ذكر الله جل وعلا إنزال التوراة والإنجيل ولكنه لم يذكر على من أنزلت قال { وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ } لأن شيوع أنها أنزلت على موسى ـ أي التوراة ـ والإنجيل على عيسى أمر لم يختلف فيه أحد فلم يذكر الله جل وعلا هنا على من أنزلت التوراة وعلى من أنزلت الإنجيل وإن كان العلماء يفرقون بينهما أن التوراة يقول بعض أهل العلم : أن الله جل وعلا كتبها بيده وهذا ظاهر القرآن قال جل ذكره { وكتبنا له فيها من كل شيء } في خبر التوراة عن موسى عليه السلام ، أما الإنجيل فالمشهور أنه منزل تنزيل مثله سائر الكتب ، والمقصود من ذلك كله أن الله جل وعلا هو الذي أنزل هذه الكتب على أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، هذا ما يتعلق بفاتحة السورة .
ثم قال ربنا تبارك وتعالى { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } ثم قال جل ذكره والصواب جعل الواو عاطفة جملة على جملة أو استئنافية لكنها تُعطف على لفظ الجلالة فيقال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا قال - صلى الله عليه وسلم - " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله " وهذه القلوب لا يمكن أن تنهل من معين أعظم من القرآن .. الله لما ذكر قرآنه العظيم أخبر أن منه آيات محكمة وآيات متشابهة ، فالمحكم ما لا يقبل إلا تأويل واحد الظاهر البين .(10/5)
والمتشابه : ما يقبل عدة تأويلات ، ولما كان الإيمان قائما على التصديق جعل الله جل وعلا في القرآن آيات متشابهات ليبتلينا الرب تبارك وتعالى هل نأتي إلى المحكم فنعمل به وللمتشابه فنرده للمحكم ونؤمن به أم يصبح أن الإنسان إذا راء المتشابه دخل في قلبه الزيغ ورد المحكم وهذا ما صنعته النصارى فإن الله قال في كتابه العظيم عن عبده عيسى ابن مريم { وكلمته ألقاها إلى مريم وروحاً منه } وقام مصدقاً بكلمة من الله عن يحيى فهذا من متشابه القرآن الذي تعلقت به النصارى وقالوا إن القرآن يقول : إن عيسى ابن الله ، لأن القرآن كلام الله والله جل وعلا قال عن يحيى { ومصدقاً بكلمة منه } والكلمة هو عيسى ، لكن هذا المتشابه إنما يقع عنده أهل الزيغ لأنهم لو ردوه للمحكم فإن الله قال عن عيسى ابن مريم { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } فهذه آية محكمة تبين أن عيسى ابن مريم ما زاد على كونه عبداً أنعم الله جل وعلا عليه لأن آل عمران سورة نزلت أولاً وأعظم الأمر في الرد على نصارى نجران عندما وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال ربنا { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ } محكماً ومتشابهاً { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } المحكم والمتشابه والرسوخ في العلم له أربعة قرائن لمن أراد أن يعرف من الراسخون في العلم ؟
الرسوخ في العلم له أربع قرائن أولها: أن يتعامل مع ربه جل وعلا بالتقوى .
وأن يتعامل العبد مع الناس بالتواضع .
وأن يتعامل مع الدنيا بالزهد فيها .
وأن يتعامل مع النفس بالمجاهدة.(10/6)
فإذا نفذ عبد ما بينه وبين الله التقوى وما بينه وبين الناس التواضع وما بينه وبين الدنيا الزهد وما بينه وبين نفسه المجاهدة حق له من رزق علماً أن يقال عنه أنه من الراسخين في العلم ، قال ربنا { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } ثم قال الله { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } هذا من لطف الله جل وعلا بعباده لأن هذه الآية جمعت أمرين جمعت التلقين والوصف وهذا من أجل الدلائل على كرم الله أنه يعطي العطية ويمدح عليها ، فالله جل وعلا يقول { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } وجعل هذا القول والذكر والدعاء منقبة وهو في حقيقة الأمر أن الله جل وعلا يعلمنا كيف ندعوه فأثنى علينا جل وعلا على الصالحين من عباده بما علمهم إياه ونظير هذا في القرآن أن الله جل وعلا ابتلى أيوب عبده بالبلاء فمكث أيوب في البلاء ثمانية عشر عاماً فعلم الله أيوب أن يصبر ورزقه في قلبه الصبر ثم مدحه الله جل وعلا على شيء أعطاه الله إياه ولا يقدر على هذا إلا الله ولا يفعله إلا الكريم ، الكريم وهو الله لأن صفات المخلوقين لا يمكن بحال أن تصل إلى صفات الخالق فالله جل وعلا { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فلما أعطى أيوب الصبر مدح أيوب على صبره قال في خاتمة الحديث عنه { إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب } وهنا يقول جل ذكره يعلم عباده كيف يدعوه قال { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِن اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } .(10/7)
ثم من آيات آل عمران أن الله قال { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
الله جل وعلا خالق الخير والشر لكنه ذكر الخير هنا وحده ليعلمنا الله جل وعلا الأدب في الخطاب معه ليُعلم عباده الأدب في الخطاب معه { بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } والملك الموجود في الدنيا اليوم ملك صوري مهما بلغ ، لأن الملك قسمان : ملك حقيقي ، وملك صوري .(10/8)
والملك الحقيقي لا يكون إلا لله ، أما غير الله جل وعلا ممن ملكه الله سواء قلنا الملك المعروف وهو الحكم أو قلنا ما دون ذلك ما يملكه الناس من أموال وعقارات علت أو دنت فهذا كله ملك صوري فما من أحد حكم أم ملك أو ترأس إلا نزع منه ملكه أو مات هو عن ملكه ولهذا بعض خلفاء بني العباس لما أجبر على ترك الخلافة وضع خده على الأرض وقال : " اللهم يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه " فكل أحد يملك شيء من الدنيا ـ عقارات أو أموال ـ يملكها ملكه لها ملك صوري إما أن تتركه أو يتركها فإذا كان يوم القيامة وحشر الناس حفاة عراة غرلا بهما زال الملك الصوري أما الملك الحقيقي فلم يكون موجوداً أصلاً فيحشر الملوك والأغنياء والأثرياء وكل من كان يملك في الدنيا ولو حبة خردل يحشر وليس معه شيء فانتفى بذلك الملك الصوري فلم يبقى إلا الملك الحقيقي ولهذا قال الله جل وعلا { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } وهذه ليست إلا لنفي الملك الصوري وإلا حتى الملك اليوم الآن قبل يوم القيامة الملك لله ، والله جل وعلا يقول في خاتمة الانفطار { والأمر يومئذ لله } حتى اليوم الأمر لله لكن المقصود الأمر الصوري ، والملك الصوري ينتهي فلا يبقى إلا الملك الحقيقي والملك الحقيقي قد بينا أنه لربك تبارك وتعالى وحده دون سواه فملوك الدنيا من فوارق ملكهم عن ملك ربهم أنهم إن أعطوا نقص ما بأيديهم وقل ما في خزائنهم ، أما ربنا جل وعلا فيعطي ولا ينقص من ملكه شيء " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم و إنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحداً فسألوني فأعطيت كل ذي سئل مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر " هذا ما ذكره الله جل وعلا حول آية الملك .(10/9)
ثم قال ربنا جل وعلا في السورة هذه قال { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سميت السورة باسم أهل بيت صالح لأن السورة كما حررنا نزلت في الرد على نصارى نجران ، والقرآن عظيم في دعوته فبدأ الله جل وعلا قبل أن يثبت أن عيسى عبد ، بدأ الله جل وعلا بالثناء على أهل بيت يعظمه النصارى حتى يبين الله جل وعلا لهم أن المقصود الهداية في المقام الأول فقال ربنا { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى } أي اجتبى واختار { Pyٹ#uن وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } ، أما آدم فهو أبو البشر وقد نسبنا ربنا إليه { يا بني آدم } وخاطبنا في القرآن بهذه النسبة وقد أعطاه الله جل وعلا خصائص لم يعطها أحد من الخلق ، وهو أن الرب تبارك وتعالى خلق آدم بيده وهذا لم يقع لأحد من البشر واسجد له ملائكته ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها ، فهذه أربع خصائص كانت لآدم ولم تكن لغيرة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : هل كان آدم نبياً ؟ قال :" نعم كان نبياً مكلما أدخل الجنة "
وأصول الخطايا ثلاثة : الكبر والحسد والحرص ، فجاءه إبليس من باب الحرص قال { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فغلبه من جهة الحرص فأكل من الشجرة كما أخبر الله ثم إن الله جل وعلا لحكمته وبقدرته أهبطه إلى الأرض ثم تاب عليه لما تاب عليه جل وعلا اصطفاه بعد أن منّ عليه بتعليمه كيف يتوب قال الله { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } ولم يقل الله في البقرة ما هي الكلمات لكنه قالها جل شأنه لها في الأعراف { قال ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين }(10/10)
وأما نوح عليه السلام فهو أول رسل الله إلى الأرض وقد سماه الله جل وعلا في القرآن عبداً شكوراً { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } .
قال الله { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ } فأما إبراهيم فهو خليل الله تبارك وتعالى نسب الله الملة إليه ملة أبيكم إبراهيم ، قدم جسده للنيران وقدم ولده للقربان وقدم ماله للضيفان وقدم قلبه للرحمن فهو أكمل الخلق بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعطاه الله جل وعلا رقة قلب { قال رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم } وهذا كله استطراد لكن قال الله جل وعلا بعدها { وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } فهذه بيوت زكاها الله جل وعلا بالإيمان والعمل لصالح ورفع درجاتها بما منحهم من عطاء وفيض إلهي من لدنه جل ذكره ثم كما قلنا في الأول أثنى عليهم بما أعطاهم قال { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } .(10/11)
ثم ذكر الله جل وعلا خبر مريم وهو خبر شائع ذائع لا يحتاج إلى تفصيل لكننا سنقف عنده عند حالين ، الحال الأولى : أن أم مريم لما حنت للحمل كان الدافع لها أن تسأل الله أن تحمل هو أن يكون مثلها مثل قريناتها وتريد أن ترزق ولداً تريد أن ترزق أحد تستأنس به هذه البغية وهي بغية شرعية طبيعية كل النساء يفعلها وكل الأباء، فلما حملت وتحقق المنشود تغير الحال فلم تعد تريد الولد للاستئناس ولم تعد تريد الولد لئن يخدمها إذا كبرت فقالت { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } أي حظي من هذا الحمل لا أريده وإنما أريد من هذا الحمل أن يقع خادماً في المسجد لله أما أنا حظي منه لا أريده وهذه منزلة عالية جداً لا يكلف ولا يطالب بها كل أحد وإلا لو كان الأمر عادياً ما أثنى الله جل وعلا على آل عمران وأتى بأعظم سور القرآن وسماها بآل عمران هذه الحالة الأولى .(10/12)
فلما حملت ووضعت غاب عن خلدها أنه يمكن أن يكون الحمل أنثى لكنها لأنها نذرت ذلك لله كنت تتفق مع شعورها وأملها وغايتها { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } فهي تعلم يقيناً أن المرأة والفتاة لن تقوم بالأمر كما يقوم به الرجل فلما فقدت الأمر الذي ليس بيدها وهو كونه ذكر أو أنثى لجئت إلى الأمر الذي بيدها تقرباً إلى الله قالت { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } ومعنى مريم بلغتهم " خادمة الرب" فهي لما فاتها الولد فاتها الذكر وعجزت عنه وهذا ليس بمقدورها لجئت للشيء الذي من مقدورها فأسمته مريم تقرباً إلى الله وهذه منزلة عالية في الصلاح { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } ثم أن مريم هذه نشأت تنشئة صالحة كما لا يخفى فكفلها عبد يقال له زكريا من خيار بني إسرائيل نبي مرسل بنص القرآن هذا النبي المرسل كان مسئولاً عنها قيماً عليها فهو الذي يأتيها بالطعام لكنه كان يفاجأ أنه يجد عندها طعاماً لم يأتي به فقول بعض المفسرين أنه يوجد عندها طعام الصيف في الشتاء وطعام الشتاء في الصيف هذا لا يقبل لا عقلاً ولا نقلاً لأن الفاكهة في غير زمنها لا تجدي ولا تنفع ولا يصبح لها منقبة وهذا لا يعني زكريا في شيء لكن الذي أذهل زكريا أنه هو القيم فكان ينظر من باب أنه تكفل بها دون بني إسرائيل فخاف عليها أن يكون أحداً قد تسلط عليها وتولى أمرها فهو المسئول عن إطعامها فيجد عندها طعاماً لم يأتي به فحتى يقطع الطريق على الشيطان من أين أتى لها هذا الطعام ؟ واجهها بالأمر { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تبقى قضية هنا وهو أن الله جل وعلا قال لمريم بعد أن حملت بعيسى ووضعت { قال وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطب جنياً }(10/13)
فأمرها جل وعلا أن تهز جذع النخلة مع أنه جل وعلا وهي في محرابها كان الطعام يأتيها من غير حراك منها ومن غير سعي في الرزق لأن مريم في المرة الأخيرة ـ في الثانية ـ وهي مع ولدها كانت تحمل هم الولد فدخل في قلبها شيء مشروع من الحياة الدنيا أما عندما كانت في المحراب لم يكن الدنيا تخطر لها على بال لم يكن أمامها إلا ذكر الله فكان الرزق يساق إليها سوقاً وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء قال الله جل وعلا بعدها { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } هذا ما يتعلق باصطفاء الله جل وعلا لبيت آل عمران ، بعد ذلك قال الله جل وعلا { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } قالت لها الملائكة ا سمه المسيح عيس ابن مريم ففهمت عليها السلام أنه محال أن يكون من زوج لأنه لو سيكون عيسى من زوج لما قالت لها الملائكة عيسى ابن مريم فلما جاءها الملك { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ولم تتوقع أن يأتي من زوج ولم تفهم من الخطاب الملائكي أنها ستتزوج لأن الملائكة نسبت عيسى إليها ولم تنسبه إلى أب { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أما أمران عظيمان تفرد الله جل وعلا(10/14)
وحده بهما : الخلق والرزق فلا أحد يخلق إلا الله ولا أحد يرزق إلا الله وقد جمعهما الله في آية واحدة قال الله { يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض } فهذه آية في طريق الاستفهام الإنكاري أي لأحد يخلق غيره ولا أحد يرزق غيره { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقناالعلقة مضغة فجعلنا المضغة عظاماً } ثم قال الله جل وعلا { فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } فلا أحد يخلق غيره وبما أنه لا أحد يخلق غيره لا أحد يرزق غيره { أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور ، أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجو في عتو ونفور } وقال جل شأنه { وما من دابة إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } { وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم } فلا أحد يخلق غيره ولا أحد يرزق غيره وما دام لا أحد يخلق غيره ولا أحد يرزق غيره وجب ألا يعبد غيره جل شأنه ، هنا قال الله جل وعلا { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وكل من عرف الله حقاً لا يمكن لقلبه أن يتعلق بأحد غير الله وهذا هو ما يمتاز به أهل التقوى ـ جعلني الله وإياكم منهم إن من عرف الله لا يمكن أن يركن إلى غيره ولا يمكن أن يلجئ إلى غيره ولا يمكن أن يقنط من رحمة ربه قال الله جل وعلا { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فخلق عيسى عليه السلام من أم من غير أب وخُلقت حواء من ضلع آدم لم تتدخل في خلقها أنثى وخلق سائر الناس من ذكر وأنثى وخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى خلقه الله جل وعلا بيده فجاءت الأمور الأربعة المتصورة بقضية الخلق ولله الأمر(10/15)
من قبل ومن بعد يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد
قال الله جل وعلا في سورة آل عمران { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } من باب العلم التاريخي اختلف من الذي بنا الكعبة أولا ً والذي يظهر والعلم عند الله ويجتمع فيه النصوص ولا تتعارض أن أول من بنا الكعبة الملائكة بنتها لآدم لأننا لو قلنا أن خليل الله إبراهيم عليه السلام هو أول من بنا الكعبة أي أن الكعبة لم تكن قبله ليُحدث ذلك إشكالا كبيراً لا جواب عليه وهو أنه يعني بالضرورة أن الأنبياء لم تكن تحج قبل إبراهيم وأن الحج لم يكن يعرف في الأنبياء إلا بعد إبراهيم وهذا بعيد جداً وقد دلت آثار على أن أنبياء الله جل وعلا حجوا إلى البيت قبل خليل الله إبراهيم فيظهر والعلم عند الله أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد قال الله في البقرة { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا }(10/16)
سنذكر بعض الفوائد تاريخياً في الأمر : الجزاء من جنس العمل هذا نص القرآن { وجزاء سيئة سيئة مثلها } { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } وإبراهيم رفع القواعد من البيت مع ابنه إسماعيل فرآه نبينا - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المعراج قد جعل أسند ظهره إلى البيت المعمور صلوات الله وسلامه عليهما ، وعلى المؤمن أن يعلم أن التجارة مع الله رابحة بكل المقاييس " يا ابن آدم اعمل ما شئت فإنك ملاقيه وأحبب من شئت فإنك مفارقه وكن كما شئت فكما تدين تدان" فإبراهيم هو الذي رفع القواعد وهو أفضل الخلق بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا البيت بناه خليل الله إبراهيم ثم قذف الله في قلوب العباد تعظيم البيت وهيبته حتى آل الأمر إلى أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ودخل مكة عام الفتح فأمر بالأصنام أن تخرج فوجد فيها صورة لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال عليه السلام "قاتلهم الله مال شيخنا وما للأزلام "، قبل فتح مكة أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً أن يدخل البيت وسدانة البيت في بيت عثمان بن أبي طلحة فنهاه عثمان ومنع النبي عليه السلام أن يدخل الكعبة فقال له عليه الصلاة والسلام :" كيف بك إذا كان المفتاح بيدي أضعه حيث أشاء " فقال عثمان : إذاً ذلت قريش وهانت يومئذ ، فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة يوم الفتح بعد أن أخرج ما فيها من أصنام صلى في البيت ركعتين ثم قبل أن يخرج من البيت وهو آخذ بعضدتي الباب أنزل الله جل وعلا عليه قوله { إن الله يأمركم أن توأدوا الأمانات إلى أهلها } فاستقبله علي ـ رضي الله عنه وارضاه ـ فقال : يا نبي الله اجمع لنا السدانة مع السقاية وكانت السقاية في بني عبد المطلب فعمل - صلى الله عليه وسلم - بالآية وقال أين عثمان فأتاه عثمان بن أبي طلحة فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتاح الكعبة وقال :" خذوها بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم " فهي إلى اليوم سدانة(10/17)
البيت في بني شيبة لأنه لا أحد يجرؤ أي أحد يؤمر على مكة لا الأمويون ولا العباسيون ولا العثمانيون ولا الدولة المباركة اليوم على نزع المفتاح من أصحابه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لا ينزعها منكم إلا ظالم " البيت أمر الله جل وعلا بالحج إليه ولم يأمر الله بأن يقصد بيتاً للحج إلا الكعبة من هنا أخذ جماهير العلماء على أن مكة أفضل من المدينة وذهب بعض العلماء وهو المشهور عند المالكية إلى أن المدينة أفضل من مكة فأما أدلة القائلين بأن مكة أفضل فظاهرة لوجود الكعبة والله يقول { وليطوفوا بالبيت العتيق } ولأن الله لم يأذن لبيت أن يحج ويقصد إلا بيته ولأن الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة .(10/18)
أما الذين قالوا إن المدينة أفضل فحججهم ما بين مقبولة وبين راجحة عندي ـ والعلم عند الله ـ وأعظم الأدلة على أن المدينة أفضل أن الله جل وعلا اختارها لئن يموت فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلزومه عليه السلام المدينة فيما بقي من عمره مع علمه عليه السلام أن مكة فتحت وهو الذي فتحها وأن الدافع من الخروج منها قد زال بدخول أهلها في الإسلام وأصبحت تحت إمرته عليه السلام فمع ذلك مكث فيها بمقدار ما يصلح أحوالها وجعل عليها " عتاب بن أسيد" فلما حج مع صبيحة فجر الرابع عشر عاد قافلاً إلى المدينة ، ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام يدفنون حيث يموتون ويخيرون عند الموت فرضي - صلى الله عليه وسلم - أن يبقى في المدينة حتى وفاته ودفن فيها فهذه من أعظم أدلة من قال إن المدينة أفضل من مكة ، ولهم دليل يسمى دليلاً مركبا وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " موضع السوط خير من الدنيا وما فيها ، قالوا وقد قال ": - صلى الله عليه وسلم - ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " قالوا فإذا كان موضع السوط خير من الدنيا وما فيها فما عسى أن يقال في الموضع الذي هو ما يسمى بالروضة ما بين البيت والمنبر فهذا كله من الجنة فهو مرجح إلى أن المدينة خير من الدنيا وما فيها هذا الدليل الآخر ، ثمة دليل دل عليه القرآن ، القرآن عندما تقرأ فيه ويقرأ فيه أي أحد حتى لو كان رجلا بسيط الفهم ويسمع قول الله جل وعلا { أن اشكر لي ولوالديك } { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } ففهم الناس كلهم أن حق الوالدين عظيم لماذا ؟ لأن الله قرن حق الوالدين بحقه مع الفارق العظيم بين حق الوالدين وحق الله لكن الله قرن ما بين حق الوالدين وحقه جل شأنه ليعلم عظيم حق الوالدين ، نفس الأمر قاله جل وعلا في سورة(10/19)
الحشر { والذين تبوءوا الدار والإيمان } ومعلوم أن الدار بالإجماع هي المدينة والذين تبوءوا الدار هم الأنصار سكان المدينة الأولون فقال جل وعلا أن أهلها أخلصوا دينهم لله لأن الإيمان منصوبة لعامل محذوف دل عليه المعنى أي والذين تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان وهذا متفق مع سنم العرب في كلامها كما هو مشهور فجعل الله جل وعلا من مناقب الأنصار أنهم أخلصوا لله دينهم وأنهم سكنوا المدينة فجعل سكناهم للمدينة منقبة لهم فقال جل ذكره { والذين تبوءوا الدر والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم } الذي يعنينا بعد هذا العرض التاريخي من الذي ينبغي أن يفهم من القضية كلها أن تعلم أن الله جل وعلا قسم المؤمنين إلى ثلاث أقسام ولا يوجد قسم رابع:
فالقسم الأول : المهاجرون الأولون قال الله تعالى { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم يبتغون فضلاً من الله ورضوان } وقال في التوبة { والسابقون الأولون من المهاجرين } ولا أنا ولا أنت من المهاجرين الأولين .
القسم الثاني : الأنصار قال الله { والذين تبوءوا الدار والأيمان من قبلهم } و يقصد به الأوس والخزرج ولا يتعداهم إلى غيرهم وقال جل وعلا في التوبة { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } .(10/20)
فلم يبقى إلا قسم ثالث : من لم يدخل فيه خرج من الإيمان قال الله { والذين تبوءوا الدر والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في أنفسهم حاجة مما أوتوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } انتهى القسمان ثم قال { والذين جاءوا من بعدهم } هذه يدخل فيها أنا وأنت إن خلصت النية { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين بالإيمان ربنا ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } فإذا اشرأبت أعناق الإنسان إلى الله حرمه قدراً إلى أن يكون من المهاجرين وحرمه قدراً أن يكون من الأنصار فلم تبقى إلا الثالثة من لم يقم بها لا حظ له في القرآن لأن الله قال في التوبة { السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } قال بعدها { والذين اتبعوهم بإحسان } فالذين اتبعوهم بإحسان يفسرها قول الله { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا } و القرآن عظيم ومن سنن القرآن أن المؤمن لا يقدم أحداً على نفسه لأنه لا يوجد أحد يقدر على عذاب الله حتى يقدم غيره عليه ولهذا قال الله عنهم { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } فينبغي للمؤمن أن يكون قلبه محباً لإخوانه المؤمنين يحب أبويه وجيرانه وأهل قرابته وكل مسلم من حيث العموم { ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا } ثم قال { ربنا إنك رؤوف رحيم } يوجد أيها المبارك رأفة ويوجد رحمة ، الرحمة قد يؤتاها الإنسان مع بلاء فهي ليست خيراً من كل وجه إنما هي خير بعاقبتها ، أما الرأفة فهي أشد الرحمة وهي خير من كل وجه ـ الرأفة خير من كل وجه ـ عندما يؤتى للقاضي بزانٍ غير محصن أو زانية غير محصنة يحكم عليهم بالجلد فنذهب نشهد ، هذا الحكم فإقامتنا للجلد على الزاني أو الزانية رحمة بهم لأن فيها تطهير لهما ولا يبقى لهما يوم القيامة شيء لأنهم عوقبوا(10/21)
وأقيم عليهم الحد فالحد وإن آذاهم الجلد إلا أنه رحمة بهم باعتبار المآل ولهذا قال الله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وما قال رحمة لأننا لو رأفنا بهم لما جلدناهم لأن الرأفة خير من كل وجه ولهذا قال الله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } ولم يقل ولا تأخذكم بهما رحمة في دين الله لأن جلدنا إياهم رحمة بهما فالرأفة أشد من الرحمة .
والله جل وعلا من أسمائه الحسنى أنه رؤوف وهو يقول جل وعلا { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوف بعده من الله } الآن يخبر الله عن هؤلاء لأن الله تبارك وتعالى يشتري منهم النفس والمال والثمن العوض الجنة ، وأنفسنا وأموالنا في الحقيقة ملك لمن ؟ ملك لله والجنة على عين الحقيقة ملك لمن ؟ ملك لله فالله جل وعلا يشتري ملكه بملكه ـ يشتري ملكه بملكه ـ فأنفسنا وأموالنا الذي يشتريها هو مالكها أصلا وخالقها من قبل والجنة التي يعطينا إياها ثمن هي ملكه جل شأنه وهذا من دلائل رأفة الله جل وعلا بالعباد ـ هذا من دلائل رأفة (8) تبارك وتعالى بعباده ـ(10/22)
هذا ما يمكن أن يقال حول قول الله جل وعلا { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } أول بيت بمعنى أول بيت للعبادة ثم بعده المسجد الأقصى ، وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - كم بينهما قال:" أربعون عاماً " والصلاة بالمسجد الحرام بمئة ألف والصلاة في المسجد النبوي بألف والصلاة بالمسجد الأقصى على الصحيح بمئتين وخمسين صلاة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على الصحابة وهم يتدارسون فضل الصلاة في المسجد النبوي والمسجد الأقصى فقال - صلى الله عليه وسلم - :" نعم المصلى هو ـ أي المسجد الأقصى ـ وصلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه " والحديث رواه الحاكم بسند صحيح فدل على أن الصلاة في المسجد الأقصى بمئتين وخمسين صلاة والعلم عند الله .(10/23)
في خاتمة السورة قال الرب تبارك وتعالى : { إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } هذا من ثناء الله جل وعلا على الأخيار من عباده أنهم يتفكرون في خلقه ومن طرائق التفكير الشرعي الصحيح أن ينظر الإنسان في الخلق أياً كان فينظر نقصهم فيستدل بنقصهم الذي يراه على أن الكمال المطلق لله فإن رأيت الميت تقول ـ سبحان الحي الذي لا يموت ـ والعرب تمثل للجمال بالقمر والقمر يخسف ويذهب نوره حتى تعلم أنه مهما بلغ جماله فهو مخلوق والله جل وعلا وحده الخالق ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - ملئ وجهه نوراً من النبوة ومع ذلك شج رأسه وكسرت رباعيته ودخل المغفر في وجنتيه وسال الدم عليه صلوات الله وسلامه عليه فإذا راء الصحابة ذلك عرفوا أن وجه الله وحده هو الوجه الذي لا يحول ولا يزول ، فالله جل وعلا له وحده الوجه الأكرم والاسم الأعظم والعطية الجزلى ولا يبلغ مدحته قول قائل ولا يجزي بآلائه أحد جل ذكره وعز شأنه والمقصود { إِن فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا } فالله جل جلاله منزه كل التنزيه عن العبث { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } ثم قال الله عن عباده الصالحين أنهم يقولون (سبحانك ) وكلمة سبحانك لا تقال إلا للرحيم الرحمن جل شأنه ولا يقال عن أحد من الخلق كائنا من كان لا يخاطب بلفظ سبحانك(10/24)
أبداً هذه مثلها مثل لفظ تبارك لا يطلق إلا على الله ، سبحه هنا عباده الصالحون والله ذكر في القرآن أنه سبح نفسه قال جل ذكره { سبحان الذي أسرى بعبده } وتسبحه ملائكة قال جل ذكره { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } وذكر جل وعلا أن الرعد يسبح بحمده قال جل وعلا { ويسبح الرعد بحمده } وأخبر جل وعلا أن الجبال تسبح له { يا جبال أوبي معه } أي مع داود ، وأخبر جل وعلا أن الطير يسبح وأخبر جل وعلا أن أنبياءه يسبحونه قال الله تبارك وتعالى { فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشيا }(10/25)
على هذا ذكرها الله جل وعلا بعد أن فصل في آية شملت لفظ (شيء) وشيء عند العلماء أعم العموميات قال جل وعلا { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } هنا قال الله سبحانه { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } النار أعاذنا الله وإياكم منها مأوى الظالمين جعلها الله جل وعلا داراً لمن عصاه ولا ينجي من النار إلا ربها تبارك وتعالى وسؤال الله الإجارة منها ـ أجارني الله وإياكم منها ـ فهؤلاء الصالحون يستغيثون بربهم قائلين فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } ثم ذكروا حالهم { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا } هو النبي - صلى الله عليه وسلم - { يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ } و أعظم ما وعد الله جل وعلا عليه عباده الصالحين الجنة قال الله جل ذكره { كان على ربك وعداً مسئولا } أي أن عباده الصالحين يسألونه إياه الجنة ، والجنة دار أعدها الله جل وعلا لأوليائه الصالحين يستفتحها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثم الصالحون الأمثل فالأمثل ..(10/26)
ذكرنا أن الجنة أعظم موعود وعده الله جل وعلا عباده الصالحين قال جل ذكره { كان على ربك وعداً مسئولا } أي وعداً يسأله عباده إياه وثمة أشياء رحمة بنا لم يجعلها الله جل وعلا في الجنة فالجنة لا موت فيها ولا نوم لأن النوم أخو الموت ولا حر فيها ولا برد ولا ليل ولا نهار ولا جوع ولا ظمأ ولا خوف ولا حزن وأهلها خالدون فيها أبدا كما أخبر ربنا تبارك وتعالى عن أهل طاعته بقول { خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } قلنا يستفتحها نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيطرق بابها فيقول له الخازن من أنت فيقول أنا محمد فيقول الخازن أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك فيدخلها - صلى الله عليه وسلم - ثم الأنبياء ثم الصالحون من الأمم كلها على علم الرب تبارك وتعالى بهم وصلاحهم قال الله بعد تلك الآيات { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ ¼çny‰Yم حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ } هذا النزل ، النزل : أول ما يقدم للضيف من الطعام وقد دلت السنة الصحيحة على أن زيادة كبد الحوت هو أول نزل أهل الجنة ثم ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ثم سئل - صلى الله عليه وسلم - ما شرابهم(10/27)
عليها بعد إذ فقال :" عيناً فيها تسمى سلسبيلا " ثم قال الله جل وعلا { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } هذا من إنصاف القرآن فإنه قدر لبعض من كان على دين موسى أو على دين عيسى أن يدخل في دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وينبغي أن يعلم كدرس إيماني للنفس أن الهداية بيد الله يؤتيها الله جل وعلا من يشاء فأنت ترى بعض الناس يأتي من أصقاع الأرض إلى هذه البلاد ليعمل بحثاً عن الرزق وهو على ملة غير الإسلام فيكون قدومه خير كثير له فربما رزق الإسلام وهو لم يأت أصلاً من أجله وهذا يجعلك تعلم أن حقاً أن الهداية بيد الله وحده فالله جل وعلا من كرمه أنه يعطي العبد فوق ما يؤمل فبلقيس خرجت من أرض اليمن إلى أرض الشام تريد الحفاظ على ملكها ومع ذلك أكرمها الله جل وعلا بالإسلام وهي لم تخرج من اليمن لتنشده لكن لرحمة الرب تبارك وتعالى بها ذكر الله جل وعلا هنا أن من أهل الكتاب من وفق لئن يؤمن بما أنزل إليهم في الأول وبما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أشهر أولئك " عبدالله بن سلام " وهو يهودي كان يسكن المدينة فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة جاءه قال فلما رأيت وجهه - صلى الله عليه وسلم - عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ثم سأله ـ أي سأل عبد الله بن سلام ـ النبي - صلى الله عليه وسلم - أسئلة قال : لا يعرفهن إلا نبي فأجابه صلوات الله وسلامه عليه فآمن وبعض العلماء يقول أنه هو المعني بقوله جل وعلا { و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } آية الأحقاف وعندي أن هذا بعيد لأن سورة الأحقاف مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة(10/28)
لكن قد يجاب عن هذا بأنه ربما هذه الآية قد تأخر نزولها عن السورة كاملة ، ومنهم من يقدر له الإسلام مثل كعب القرظي وكعب هذا كان من بني قريظة فلما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل حكم سعيد بن معاذ في قتل بني قريظة أسلم كعب هذا وكان صغيراً دون البلوغ فأسلم وقدر له بعد ذلك أن ينجب ابن يقال له محمد ، ومحمد بن كعب القرظي أحد أئمة التابعين في علم التفسير رغم أنه ـ جده يعني ـ كان يهودي لكن كما قلنا الهداية بيد الله ومن دلائل ورع هذا الإمام أن مالاً كثيراً جاءه فجأة فتصدق به إلا قليلاً فعاتبه الناس قائلين له لو أبقيت هذا المال لولدك فقال لأنه يعرف الله حقاً قال: أدخر هذا المال لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي " أو أجعل و ربي لولدي، أجعل هذا المال ذخراً لي عند ربي وأجعل ربي ذخراً لي عند ولدي وهذا من دلائل العلم ، والعلم بالله جل وعلا وحسن الظن به تبارك وتعالى فهؤلاء أشهر من آمن من أهل الكتاب قال الله جل وعلا { ك`دB÷sمƒ "!$$خ/ !$tBur tAج"Ré& ِNن3ِs9خ) !$tBur tAج"Ré& ِNحkِژs9خ) tûüدèد±"yz ! ںw tbrçژtIô±o" دM"tƒ$t"خ/ "!$# $YYyJrO ¸xٹخ=s% ڑپح´¯"s9'ré& ِNكgs9 ِNèdمچô_r& y‰Yدم َOخgخn/u' cخ) ©!$# كىƒخژ| ة>$|،إsّ9$# } ثم ختم الله هذه السورة المباركة بقوله { $ygoƒr'¯"tƒ ڑْïد%©!$# (#qمYtB#uن (#rçژة9ô¹$# (#rمچخ/$|¹ur (#qنخ/#u'ur (#qà)¨?$#ur ©!$# ِNن3ھ=yès9 ڑcqكsخ=ّےè? } فهذا إجمال بعد تفصيل لأن الصبر والمصابرة والرباط كلها داخلة في تقوى الله جل وعلا وأحسن ما قيل في تقوى الله" أن تعمل لطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله "(10/29)
هذا أيها المباركون جملة ما يمكن أن يقال عن سورة آل عمران شرحناه أو قلناه إجمالاً بما يتناسب في المقام ، تارة نقف وقفات إيمانية وحين نقف وقفات علمية والله جل وعلا وحده هو الموفق ، وقد قلت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :" اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران " فيحسن بالمؤمن أن يكون له عناية عظيمة بهاتين السورتين الكريمتين يقرأهما ويتدبرهما ويقوم الليل بهما فهذا من أعظم المنجيات وأجل الطاعات ، جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
هذا ما تيسر إراده وأعاننا الله على قوله وهو وحده الموفق ومنه القبول والله هو المستعان
وصلى الله على محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين
*************
تفريغ أختكم في الله
أم هتوف(10/30)
وقفات مع سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها المؤمنون إن الصحوة الإسلامية المباركة وهذا المد الإسلامي العظيم الذي أضحى منتشراً في أرجاء المعمورة كلها لهو بشير وإرهاص حق لعلو كعب الإسلام وعودة المسلمين إلى ما كانوا عليه من مجد تليد يوم سادوا الدنيا يوم أن كانوا رعاة للأمم طبقوا دين الله جل وعلا فمكن الله تبارك وتعالى لهم في الأرض وأقام لهم هذا الدين الذي سادوا به الخلائق أجمعين ولا ريب أن الدروس العلمية والمحاضرات الدينية تجلو بها البصائر وتنار بها القلوب ويستقيم بها وضع المسلمين لأنها تجعل المؤمنين على بصيرة في أمور دينهم وأمور دنياهم وأنى لهم أن يسودوا الأمم وهم في دركات الجهل ولذلك جعل الله تبارك وتعالى العلماء شاهدا على أعظم مشهود ألا وهو توحيده تبارك وتعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)) ولقد كان سبقت منة الله وفضله وهو ذو الفضل العظيم أن من علينا بمحاضرة عنون لها آنذاك بوقفات مع سورة الكهف فلما رأينا أن الحق تباركت أسماؤه وجل ثناؤه على رغم ما نحمله من تقصير عظيم نفع بتلك المحاضرة أقواما وأرشد بها آخرين استعناه تباركت أسماؤه وجل ثناؤه في دروس علمية يكون منطلقها كتاب الله المبين وتكون وقفات مع سور هذا الكتاب المبين الذي هو البوابة العظمى لخيري الدنيا والآخرة كيف والله جل وعلا حذر العباد من التفريط فيه حتى لا يعضوا يوم القيامة أصابع الندم على ما اقترفته أيديهم من عدم استرشادهم بهذا الكتاب المبين (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ(10/1)
رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53)) أيها المؤمنون وهذا الدرس الأسبوعي بإذن الله نستفتحه هذا اليوم بعنوان ما علمتموه وقفات مع سورة هود والوقفات كما بينا في وقفتنا الأولى مع سورة الكهف ليست ضربا من التفسير المحض ولكنها وقفات عقدية ودعوية ولغوية وإلى غير ذلك من الوقفات التي تُستلهم من كتاب الله الكريم وقد تكون الوقفة مع مقطع من آية وقد تكون مع آيات متتابعة وقد تكون مع آية بأكملها.
فأما الوقفة الأولى هذا اليوم في سورة هود فمع قول الحق تباركت أسماؤه: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء (7))(10/2)
العرش أيها المؤمنون سقف المخلوقات وهو أعظمها على الإطلاق والله جل وعلا كان عرشه على الماء قبل أن يخلق الخلائق كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر بن العاص قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله قدَّر مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) ثم لما خلق تبارك وتعالى السماوات والأرض وقدَّر فيها أقواتها وبارك فيها استوى تبارك وتعالى على عرشه قال جل ذكره: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)) واستواؤه تبارك وتعالى على عرشه استواء معلوم لكن كيفيته بالنسبة لنا مجهولة فالله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لكنه وهو الحي القيوم أخبر أنه استوى على عرشه فهو قطعا مستو على عرشه بائن عن خلقه وهو تبارك وتعالى مع ذلك مستغن عن العرش ومستغن عن الخلائق أجمعين وجميع الخلائق فقيرة إليه تبارك وتعالى وهذا العرش سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ولما كان العرش بهذه العظمة كان لابد أن يكون الملائكة الذين يحملونه ملائكة عظام في الخلقة قال صلى الله عليه وسلم: (أُذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قدماه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام يقول سبحانك حيث كنت) وهذا هو العرش وقد ورد ذكره في القرآن كثيرا ولقد تأملت الكتاب المبين فوجدت الله جل وعلا إذا أراد أن يثني على نفسه أخبر أنه تبارك وتعالى رب لهذا العرش قال جل ذكره: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)) وقال تبارك وتعالى: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ(10/3)
إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)) فسبحان من وسعت رحمته الخلائق وسبحان من استوى على عرشه وجاء في السنة ذكر قوائم العرش كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فهذا دليل على ذكر قوائم العرش في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهذا العرش كما بينا هو سقف المخلوقات ومنه تتفجر أنهار الجنة لقد بين الله تبارك وتعالى في غير ما آية من كتابه أنه استوى على هذا العرش بعد خلق السماوات والأرض (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)) هذه هي الوقفة الأولى وهي وقفة عقدية مع قول الله جل وعلا: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء (7))
الوقفة الثانية مع قول الله تبارك وتعالى في ذكره في سورة هود لنبأ نبي الله نوح و نبأ نبي الله إبراهيم و نبأ نبي الله لوط عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم(10/4)
أما نوح فهو شيخ الأنبياء والمرسلين وأطول أنبياء الله ورسله عمرا عمَّره الله جل وعلا كتب له العمر الطويل حتى إنه تجاوز الألف عام مكث من هذه المدة تسعمائة وخمسين عاما فقط في دعوته لقومه دعاهم ليلا ودعاهم نهارا دعاهم سرا ودعاهم جهارا دعاهم ضعفاء ودعاهم وجهاء دعاهم ترغيبا ودعاهم ترهيبا ومع ذلك كله والهداية بيد الله ما آمن معه إلا قليل كما قال الله جل وعلا: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)) وقد قيل إن هذا القليل كانوا اثني عشر رجلا فلما خَبَر قومه وابتلاهم وعاشرهم جيلا بعد جيل لكثرة ما عاشه بينهم خاف على القلة الذين معه أن يضرهم طغيان الكفرة فقال دعوته الشهيرة التي حكاها الله في القرآن: ((وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) )فاستجاب الله جل وعلا دعوته ولكن الله قدم الاستجابة هذه الدعوة لأمور أن الله تبارك وتعالى أوحى إليه أن يصنع الفلك فأخذ يصنع سفينة بالغة المنتهى في كبرها فكان يمر عليه أولئك الأقوام من قومه فما كانوا يسألونه ما ينفعهم لم يقولوا له يوما يا نوح ما الذي يدل على الجنة ولم يقولوا له يوما يا نوح ما الذي يباعد من النار ولم يقولوا له يا نوح ألا تذكرنا بربك ولكن كما قال الله جل وعلا: (َوكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ) رحم الله نوح بادلهم بالمنهج الرباني وجزاء سيئة سيئة مثلها: (قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فكان يسخر منهم وكانوا في سخريتهم يقولون: تصنع سفينة تمشي على اليبس لا يدرون ما أعده الله جل وعلا عليهم من سخط وعذاب0 (.......(10/5)
) بعد ذلك أخبره الله جل وعلا أن يضع له أمارات يعلم بها مقدم الطوفان ((حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) حتى يبقي الله على الحياة في الأرض لا تنقطع انقطاعا تاما وإنما تعود كرة أخرى بعد أن ترسو سفينة نوح على الأرض ((قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وهذه قول الله جل وعلا ((وَأَهْلَكَ )) أحدثت التباسا عند نبي الله نوح سيأتي بيانه فيما بعد فلما ركب نوح في السفينة وأخذ الموج يرفعها حينا ويضعها حينا والموج كأمثال الجبال من عظمته قال الله تبارك وتعالى عنه: (وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (41)) أي جريانها وسريانها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) وهي أي الفلك ((وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ )) هنا أخذت نوح الشفقة والأبوة الحانية على ابنه فأخذ يناديه (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42)) مع أن الله جل وعلا أخبره أنه ليس للظالمين مكان في الفلك إلا أنه أصح ما قيل في تفسير هذه الآية أن نوح تعارض عنده أمران الأول أن الله جل وعلا أخبره أن يأخذ أهله معه والثانية أن الله جل وعلا نهاه أن يكون للظالمين مكان في السفينة فكأنه عليه الصلاة والسلام والعلم عند الله رجح الأمر الأول فلذلك خاطب ابنه بما جاء منصوصا في الكتاب قال (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) فقال ذلك الابن (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء ) فقال الأب العالم بشريعة الله وبما عند الله: (قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا(10/6)
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)) وهنا نقول في هذه الآية العظيمة فائدتين عظيمتين ينبغي لكل مؤمن أن يدركها الأول أنه من أعظم ما يمكن أن يبتلى به العبد ألا يشعر بالخطيئة ولا يشعر بالذنب ولا يشعر بالمعصية فيتقلب في المعاصي والكفر وما دون ذلك مما حرمه الله والعياذ بالله دون أن يشعر بذلك كله بل إنه يعتقد أنه الرجل الأكمل والرجل الأمثل دون أن يشعر بحرارة الذنب ودون أن يدرك بالمآل و المصير إلى الله جل وعلا وهذا والعياذ بالله ممن ضرب على قلبه الران والمصيبة الأدهى أن الله جل وعلا ربما عاقبه وعجل له شيئا من العقوبة في الدنيا حتى يسترجع الأمر فيكون والعياذ بالله لا يدري أن تلك العقوبة لذلك الذنب وإنما يستمر على ما هو عليه ولا يشعر أصلا بتلك المعصية وهذا ما حدث من ابن نوح فإنه ظن أن الطوفان مسألة أمطار موسمية تأتي في حين أو مسألة مما جرت بها سنن الله الكونية والأمر خلاف ذلك ولذلك قال ذلك الشيخ الجليل نبي الله نوح قال لابنه: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ) أي المؤمنين (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي بين الأب وابنه (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي كان ذلك الابن ممن كتب الله عليهم أن يغرقوا أي كتب الله جل وعلا عليهم الكفر البواح.(10/7)
ثم لما أذن الله جل وعلا أن تستقر تلك السفينة قال الله تبارك وتعالى: (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) فلما استقرت السفينة على الجودي ((وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) تذكر نوح مآل ابنه ففزع إلى الله جل وعلا (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ )) أي أنت وعدتني أن تنجي أهلي وإن ابني من أهلي ثم استدرك لأن المسألة عنده مسألة اجتهاد قال: (وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)) وهذا استدراك منه عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم هنا أخبره الله جل وعلا بجلاء الأمر على حقيقته فقال له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ثم بين لماذا هو ليس من أهله رغم أن الله يعلم أن ابن نوح من صلبه ولكن الله قال له إنه ليس من أهلك لأن الأخوة ليست أخوة النسب ولكن الأخوة أخوة العقيدة قال((إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )) وفي قراءة إنه (( عَمِلَ غير صالح )) وأيا كان الأمر فالمقصود أنه كان على الكفر ومن هنا يعلم أن ما يجمع المؤمنين تباعدت أماكنهم أم تقاربت تنوعت جنسياتهم أم اتفقت فصل بينهم بر أم فصل بينهم بحر هو قول لا إله إلا الله فمن جاء بها فهو مؤمن له ما للمؤمنين وعليه ما عليهم ومن كان مؤمنا وجبت أخوته ثم يعامل بحسب معاصيه لكنه لا يخرج من أخوة الإيمان إلا بكفر بواح جاء الشرع المطهر وليس اجتهاد زيد ولا عمرو ولا ظن سيئ من زيد ولا عمرو جاء الشرع المطهر أن فعله ذلك كفر بواح قال الله جل وعلا: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ (46) وهذا دليل على ما ذهبنا إليه من أن المسألة كانت من نوح اجتهادا (فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) وقول الله جل وعلا: (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) دليل(10/8)
صريح على أن الإنسان لا حرج عليه أن يؤدب بشيء من الشدة من هم تحت يده فإن الله جل وعلا أدب نوحا وهو نوح ذو المقام الأعلى والله وصفه في القرآن ((إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) أدبه بهذه الآية قال: (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وقال الله جل وعلا في محمد صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الناس دينا وعلما وإيمانا قال (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2)) وقال تبارك وتعالى: (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43))
ورحم الله من قال:
قسا ليزدجروا ومن يك حازما ****فليقسو أحيانا على من يرحم
فإن القسوة والحزم أحيانا أمران مطلوبان يحتاج إليهما من أعطي ولاية الناس أو ولاية قوم تحت يده أو أراد أن يربي ابنه أو يربي أقواما آخرين من أعطي أي سلطة كانت فإن في التأديب ردع للظالم وحث على المستقيم (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) ) ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى نوح أن سفينته ستقر وأن الله جل وعلا سيعطيه من الخير والبركات (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)) هذا بإيجاز ما أورده الله جل وعلا عن نبيه شيخ الأنبياء نوح عليه الصلاة والسلام ونحن ذكرنا هاتين الفائدتين لأن القرآن ذكر الله جل وعلا أنه مثان أي يتكرر قصصه وأوامره ونواهيه تتكرر فربما عرجنا على قصة نوح في سورة أخرى فأخذنا منها أمور غير ما أخذنا هذا اليوم حتى تكون أعم فائدة وأقرب إلى الذهن والصواب والله أعلم.
ثم الوقفة الثالثة مع رسل الله وملائكته الذين حلوا أضيافا على خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام(10/9)
إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أقرب الناس شبها بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والله جل وعلا ميز هذا النبي الكريم بأمور عدة من أعظمها وأجلها أن الله حصر كل نبوة بعده في ذريته قال الله جل وعلا: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) اللهم إلا عيسى بن مريم لأنه أصلا ليس له والد أما غير ذلك فإنه ما من نبي بعث بعد إبراهيم إلا وهو من نسل نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإبراهيم لما كان مع زوجته سارة جاءته رسل الله جل وعلا جبرائيل وميكال وإسرافيل وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم مروا على إبراهيم عليه السلام مروا به لأمرين :(10/10)
ليبشروه بالولد وليخبروه بأنهم قدموا لهلاك قوم لوط قال الله جل وعلا ((وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى )) وقول الله جل وعلا (( رُسُلُنَا )) هذه إضافة تشريف فإن الله أضاف هؤلاء الرسل إليه تبارك وتعالى وهي إضافة تشريف قال جل ذكره )) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى )) أي البشرى بغلام ((وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ (69) ) ظن إبراهيم أول الأمر أنهم ضيوف(( فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ )) فقربه إليهم قياما بواجب الضيافة قرب إليهم العجل ليتناولوه وليأكلوه أداء لحق الضيافة ومعلوم أن الكرم من أجل الصفات التي يتحلى بها العباد ولذلك قال صلى الله عليه سلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وقد كانت العرب في جاهليتهم تعنى بهذه الصفة عناية عظيمة ويتنافسون فيها ولكن لم يكن يفعلونه لله فلذلك لم ينجيهم قال صلى الله عليه وسلم لما سألته عائشة عن عبد الله بن جدعان وكان رجلا مضيافا كريما في الجاهلية (قالت: يا رسول الله أينفعه عمله ذاك؟ قال: لا يا عائشة إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) أي لم يكن عبدا مؤمنا فلما قربه إليهم كانوا ملائكة والملائكة فطروا على عدم الأكل وعدم الشراب فلم يكن يمدوا أيديهم ليأكلوا شيئا مما قدمه إليهم فلما رآهم (( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ )) أي إلى الطعام ((َنكِرَهُمْ )) أي شك فيهم (( وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً )) هنا طمنوه ((قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) ) فلما قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط ضحكت امرأة إبراهيم فرحة وغضبا لله جل وعلا أن قوم لوط سيهلكون قال الله جل وعلا: (وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ (71)) وقول الله جل وعلا ((قَآئِمَةٌ )) هذا كان من عادات العرب أن زوجة الرجل تقوم على رؤوس(10/11)
الأضياف إمعانا في تكريمهم فلما سمعت من الملائكة أنهم قدموا لهلاك قوم لوط ضحكت وهذا أظهر ما وقفت عليه في تفسير الآية أما غير ذلك فظاهر العلم والله تعالى أعلم أنه بعيد عن الصواب فلما ضحكت بشرها الله على لسان ملائكته بالولد وكانت امرأة لم تلد (فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)) لم يقل الله جل وعلا فبشرناه على إبراهيم لأن إبراهيم كان قد رزق إسماعيل قبل هذا الحدث وكان سن إسماعيل على الصحيح في ذلك الوقت أربعة عشر عاما فلذلك خص الملائكة سارة بهذه البشارة (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) أي أن إسحاق سينجب ولدا يسميه بعد ذلك يعقوب وهذا إمعان من الله في بشارة تلك المرأة فلما قرت أعين إبراهيم بالبشارة تعجبت أولا تلك المرأة من هذه البشارة فقالت: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً (72)) ذكرت سببين تمنعانها من الولد أولا أنها عجوز وجاءت عجوز على صيغة المذكر لأن وزن فعول عند العرب يجتمع فيه المذكر والمؤنث يقال امرأة عجوز ورجل عجوز ولا يؤنث أبدا قالت: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ) وكذلك زوجي ليس رجلا شابا قالت: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)) لأنها قاسته بالأمور الدنيوية وما جرت به السنن (قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73)) وهذا مما فضل الله جل وعلا به إبراهيم ولذلك أنا وأنت وغيرنا من المؤمنين نقول في دعائنا اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد الله جل وعلا سبقت منه المباركة لآل إبراهيم وأهل بيته (رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73))) فلما انتهت(10/12)
البشارة وانتهى أثرها والتعجب منها وفيها دلالة على أن فضل الله واسع وأن من ابتلي بهذا الأمر لا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من فضله فإن الله جل وعلا بيده مقاليد السماوات الأرض وأمره تبارك وتعالى بين الكاف والنون لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء فلما قال جل وعلا: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ (74)) أي الخوف الذي أصابه أول الأمر (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) )) إبراهيم لما ذهب عنه ما أصابه أول الأمر أخذ يجادل أولئك المرسلين في قضية إهلاك قوم لوط لأنه أخذته الشفقة والحنان عليهم لكنهم أخبروه أنهم رسل وأنهم لا محالة مصيبون لأمر الله جل وعلا وأن هذا أمر الله وقدره الذي لا يرد وأنه يكون ما كان إنما بسبب ذنوبهم وما جنوه من معاصي (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75))
((10/13)
وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)) انتقل الملائكة عليهم الصلاة والسلام من أرض إبراهيم إلى أرض لوط ومعلوم أن لوط هاجر من الأرض التي كان فيها إبراهيم بعد أن أذن له إلى قرية أخرى فلما جاءوه وجاءوه في سورة شباب حسان ورأوا ما جبلهم الله عليه من حسن خاف عليهم من قومه لأنه خبر قومه وابتلاهم وعرف ما جبلوا عليه من تلك الفاحشة البغيضة الشهوانية الحيوانية التي كانوا عليها (( وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ )) أي يوم قاس شديد أتاني روعه وألمه (( وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ )) فلما علم القوم من قومه بخبر أولئك الضيوف وقيل إنهم عرفوا عن طريق امرأته وكانت امرأة كافرة كما جاء ذلك في صريح الكتاب (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)) فلما قدموا جاءوا والعياذ بالله فرحين مستبشرين يريدون أن يصلوا إلى تلك الفاحشة البذيئة قال الله يحكي صنيعهم (وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) فذكرهم بالله واستنفر فيهم الشيم ومكارم الخلق دون أن يجدي فيهم شيئا (قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78)) ما من سبيل يقرع به قلبهم إلا طرقه تريدون الزواج هؤلاء البنات بنات (...(10/14)
) أو بنات القرية أنا أزوجكم وأسعى في تزويجكم إن كان فيكم شيم وعقل أليس منكم رجل رشيد إن كنتم تعلمون أن هناك ربا يعاقب ويثيب ألا تخافونه وتتقونه وتخشونه لكنهم والعياذ بالله طبع على قلبهم الران فأخذوا وكان هذا قبل أن يفتح لهم لوط الباب يطرقون الباب بشدة يريدون الدخول هنا طمأنت الملائكة لوط وأخبروه أنهم رسل من الله (قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ (81)) وقبل أن نمضي في تفسيرها نخبر أنهم لا زالوا يطرقون الباب حتى خرج لهم جبرائيل فضربهم بطرف جناحه قبل الهلاك فضرب الله على أعينهم فطمست فأخذوا ورجعوا يتحسسون الحيطان ويتوعدون رسل الرحمن ويقولون إذا كان الصباح فلنا ولهم شأن ولكن الله رد كيدهم في نحرهم قال الله جل وعلا (قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)) وفي هذه الآية فوائد عدة أولها عظم شناعة هذه الفاحشة التي مخالفة لفطرة الله التي فطر الله العباد عليها ولأنها فيها من الغلظة والفظاعة ما هو أعظم من الزنا ولذلك قال العلماء إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اتفقوا على قتل الفاعل والمفعول به إن كان على رضا ولكنهم إنما اختلفوا في قضية كيف يقتل وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) ويحمل قوله صلى الله ليه وسلم والمفعول به على من فعل به رضا ثم فيه دلالة على شرف الليل فإن الله نجا لوطا وأهله ليلا أما أولئك الأقوام فإن الله أهلكهم صباحا (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81))) قيل إن الملائكة(10/15)
لما قالت للوط إن موعدهم الصبح لوط استبطأ العذاب قال أين نحن من الصبح فقالت الملائكة (( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ )) حتى تمضي سنن الله جل وعلا في الكون وهنا نقول إن الله جل وعلا كان يعلم أن قوم لوط على تلك الفاحشة ورسوله يعلم ولكن الله تبارك وتعالى أراد أن يقيم الحجة عليهم بأولئك الملائكة حتى يكونوا ينادون بها على مرأى من أعين نبيهم حتى لا يبقى في قلب ذلك النبي حسرة أو شفقة أو شيئا في صدره على قومه حتى تتضح الحجة وهكذا تبارك وتعالى يؤتي من يشاء من فضله ويعذب من يشاء بعدله تبارك وتعالى فقط ولا يعذب أحدا جل وعلا بظلم منه جل وعلا عن كل ظلم وبهتان فلما سرى لوط عليه الصلاة والسلام وابنتاه من القرية كانت معه في أول الأمر زوجه ثم إنها التفتت لتقوم الحجة عليها وحتى لا يبقى في قلب لوط شيئا من الحزن على زوجته وحتى يكون أدعى في ذهاب شيء من صدر ما في البنتين على أمهما فلما أراد الله إهلاك القرية رفع جبرائيل تلك القرية جمعاء إلى السماء ثم قلبها ظهرا على وجه حتى سمعت الملائكة نباح كلابها وصوت الديكة منها قال الله جل وعلا: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ أي معلمة وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)) وقول الله جل وعلا (( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ )) دلالة على أنه قد ينال من صنع صنيعهم يناله من الأمر ما نال أولئك الأقوام ولأنه مستوجب لسخط الله جل وعلا وعقابه من آل أو فعل تلك الفاحشة والآية عموما فيها دلالة على أن المعاصي سبب إهلاك الأمم قال الله جل وعلا: (َفكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم) فإنما يحل بأقوام ما يحل بهم إنما بسبب ذنوبهم وخطاياهم وما يكون منهم من معاصي يحاربون الله بها تبارك وتعالى والله جل وعلا غيور على نعمه غيور أن تنتهك محارمه هذا(10/16)
أيها المؤمنون الوقفة مع قصة نوح وإبراهيم ولوط عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
أما الوقفة الرابعة أو الثالثة فهي مع قول الله جل وعلا على لسان شعيب مع قومه: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)
أيها المؤمنون الظلم أمر حرمه الله نزه نفسه عنه وحرمه على عباده والبخس هو النقص والناس عامة يدخل فيها الأبرار والفجار المؤمنون والكفار وأشياؤهم عامة تدخل فيها الأشياء المعنوية وتدخل فيها الأشياء الحسية ولذلك لا يحق لأحد أن يظلم أحدا أيا كان ذلك المظلوم ولو كان شخصا كافرا ولذلك بعض الإخوة عفا الله عنهم قد يغلب عليهم الحماس ويتعاملون مع من يخالفهم في العقيدة أو من يغلب على الظن أنهم كفار فلا يتورعون في ظلمهم أو بخسهم حقوقهم وهذا مناف لصريح الآية قال الله جل وعلا: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)(10/17)
والناس كلمة عامة كما بينا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لمعاذ وهو يوصيه لما بعثه إلى اليمن قال له )) واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب )) قال أهل العلم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ واتق دعوة المظلوم ولم يقيد صلى الله عليه وسلم لم يقل المظلوم المؤمن وإنما أطلقها بمعنى أنه يدخل فيها المظلوم المؤمن والمظلوم الكافر وبخس الناس أشياءهم متنوع فمن الناس من يبخس الناس أشياءهم في الكيل والميزان وفيه جاءت الآية ومن الناس من يسيء الظن بالناس من يسيء الظن بالغير ومن بخس الناس قد تسأل عن عبد فلا تخبر إلا بأسوء ما فيه وأنت تعلم أشياء كثيرة حسنة فيه وهذا قد ينتشر عند النساء خاصة فلربما سألت امرأة امرأة أخرى عن فتاة تريد أن تنكحها لأحد بنيها فتسألها عنها فيكون بينها وبينها غل أو حسد أو شيء من ذلك فلا تخبر إلا بأسوء ما تعلم فتقول لا تصلح قصيرة جدا وقد يكون في المرأة من المحاسن والجمال ما يذهب عيب القصر ولكنها لا تذكر تلك المحاسن ولا ذلك الخلق ولا ما فيها من دين ولا ما فيها من جمال في وجهها أو غير ذلك تكتفي بكلمة القصر بخسا لها حقها وقد يسأل طالب علم عن داعية أو عن عالم لا يحبه أو لا يراه مناسبا لشيء في نفسه فيذكر أسوء ما فيه يقول هذا يدعو إلى كذا أو هذا فيه كذا أو هذا لا يتكلم إلا في الإيمانيات أو هذا لا يعرف إلا في الفقه أو هذا لا يحسن إلا مسائل الحيض والنفاس أو هذا لا يتكلم إلا عن الجهاد أو هذا أو هذا يتخذ صفة يظنها ذريعة لإيصال ظن سيء بعباد الله جل وعلا وقد يسأل معلم عن مدير فلا يذكر عنه إلا أسوء ما فيه حينما يدخل المدرسة يقفل دفتر الدوام وقد يكون في المدير صفات عدة حسنة لكن لشيء في صدر المسؤول لا يقول إلا أسوأ ما علم ولا ريب أن هذا ينبئ عن دسيسة وخبيئة غير سليمة وغير صحيحة إن محبة المؤمن لإخوانه المؤمنين وحسن الظن بهم أمر جاءت به الشرائع وأمر دعت إليه مكارم(10/18)
الأخلاق وأمر فطر الله العباد أو العباد الخلص عليه وإن حسن الظن بالمؤمنين أمر عظيم كما أن إساءة المرء ظنه بنفسه أمر موجب وموصل إلى مراتب الكمال وبخس الناس أشياءهم كما بينا أمر نهى الله تبارك وتعالى عنه وحذر منه كما في صريح الآية (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) والظلم أيا كانت صفته وأيا كان أمره أمر حرمه الله جل وعلا ووعد الله عليه الوعيد الشديد ولا ريب أن أعظم الظلم أن يجعل العبد لله ندا وهو خلقه سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك).
أما الوقفة الخامسة أيها المؤمنون فمع قول الله تبارك وتعالى: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا)(10/19)
الآية صدرت بفعل أمر موجه أصلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والخطاب شامل لعموم الأمة قال الله جل وعلا لنبيه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ (112)) إن الاستقامة ترك المعهودات ومخالفة الرسوم والعادات وهي أمر عظيم يوفق الله جل وعلا إليه من شاء من عباده وعد الله تبارك وتعالى عليها الحسنى ووعد الله جل وعلا عليها البشارة عند الاحتضار (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30)) (نَحْنُ ) هذا قول الملائكة لهم (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32)) فهذا مجمل بشارات الملائكة عند ساعة الاحتضار لذلك العبد الذي كان مستقيما والاستقامة تتطلب أمورا ثلاث استقامة القلب واستقامة اللسان واستقامة الجوارح فأما استقامة القلب فاستقامته على التوحيد وإفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة وحده واللجوء إليه في الضراء وشكره تبارك وتعالى في السراء والعلم يقينا أنه وحده تبارك وتعالى بيده الأمر والنهي وبيده تبارك وتعالى الضر والنفع وأنه ما من عبد كائنا من كان عظمت سلطته أو حقرت كبرت سلطته أو صغرت لا يملك لأحد لا لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ولكنها أسباب ومسببات والأمر أولا وأخيرا بيد الله تبارك وتعالى وحده له الخلق وله الأمر تبارك الله رب العالمين فهذه استقامة القلب أما استقامة اللسان فاستقامته تتطلب أمورا عدة أولا أن يستقيم على ذكر الله جل وعلا واللهج بذكره سبحانه وتعالى وشكره وقراءة كتابه وعدم الخوض فيما حرمه تبارك وتعالى من غيبة المؤمنين والسعي بينهم في النميمة والسعي في النيل من أعراضهم وما إلى ذلك من(10/20)
الأمور التي حرمها الله جل وعلا ويكون مخرجها اللسان وقد جاء في الأثر أن العبد يؤتى به يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تبارك وتعالى فيقول يا ربي لا أريد شاهدا إلا من نفسي فيختم الله جل وعلا على لسانه فتنطق جوارحه فتقول كل جارحة فيه تخبر بما صنعت تقول العين أنا إلى الحرام نظرت وتقول الأذن أنا إلى الحرام استمعت وتقول اليد أنا إلى الحرام تناولت وتقول القدم وأنا إلى الحرام مشيت حتى يقول الفرج عياذا بالله وأنا فعلت وفعلت عندها يقول المَلَك الذي على اليسار الموكل إليه كتابة السيئات يقول أنا واطلعت وكتبت فيقول الملك الذي على اليمين وأنا اطلعت وشهدت فيقول أرحم الرحمين ورب العالمين وأنا اطلعت وسترت ثم يقول للملائكة يا ملائكتي خذوه ومن عذابي أذيقوه فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني أما استقامة الجوارح فإن اللسان والجوارح من بيئة عما يضمره العبد في قلبه لذلك كان عثمان رضي الله عنه يقول: ما خبأ أحد خبيئة ولا أسر أحد سريرة غير سليمة إلا وأخرجها الله على فلتات لسانه تظهر والعياذ بالله على فلتات اللسان يحاول أن يداريها يوما أو بعض يوم شهرا أو سنة لكن لا بد أن تخرج منه كلمة تنبئ عن تلك السرائر ولذلك قال جل وعلا لنبيه عن حال المنافقين قال: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ) أي أنهم مهما بلغوا وكتموا وأظهروا لك الإيمان وأخبروا النفاق إلا أنه سيخرج من فلتات لسانهم ما يدلك على أنهم قوم منافقون ورحم الله القائل :
كل امرئ صائر يوما لشيمته *** وإن تخلق أخلاقا إلى حين(10/21)
فإن ثوب العارية لا يكسي ومن تزين بما ليس فيه وأظهر للناس ما ليس من سرائره لا بد أن يفضح ولا بد أن يعرف فلذلك يبدأ الإنسان أولا بإصلاح السرائر ثم بعد ذلك ينتج عنه إصلاح الظواهر ويوم القيامة إنما الأمر مرده إلى السرائر قال الله جل وعلا: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)) لإنه عليها المحاسبة وكم ممن يعمل عملا يظهره إلى الناس ليس له عند الله تبارك وتعالى قدر ولا يزن عند الله جل وعلا جناح بعوضة لسوء سريرته أعاذنا الله وإياكم من ذلك كله. والاستقامة وإن كانت أمرا منشودا إلا أنه ثق يا أخي لن يبلغ أحد منتهاها ولذلك قال الله جل وعلا في سورة فصلت: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) قال العلماء: عطف الله بالاستغفار على الاستقامة حتى يُجبر النقص لأنه تبارك وتعالى يعلم أنه لا يمكن لأحد أن يسلم في حياته كلها من كل ذنب لا بد من هنة لا بد من لمم لا بد من نقص على هذا جبل العباد ولكن العبد المؤمن الحصيف العاقل من يواري هذا ويداريه ويمحوه بذكر الاستغفار واللجوء إلى الله جل وعلا والتوبة إليه ولذلك قال تبارك وتعالى: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: (سددوا وقاربوا) وقال صلى الله عليه وسلم: (فاستقيموا ولن تطيقوا) ولكن الإنسان يسدد ويقارب ويحاول أن يبلغ درجات الكمال ويسعى إلى الكمال وهو عزيز ولكنه يسعى له بأن يجبر نقصه بالتوبة والاستغفار وبصحبة الصالحين وبما يعينه على أن يكون عبدا مستقيما.(10/22)
ولذلك من أعظم أسباب الانتكاسة أن بعض العباد إذا منَّ الله جل وعلا عليه بالهداية ومضى فيها دهرا من الزمن ثم غلبه الشيطان حينا وهم بمعصية وفعلها وكانت منه وانتهى أمرها يقول ما أنا خائف منه وقعت فيه إذاً بما أنني أسأت فسأعود إلى ما كنت عليه وهذا مدخل شيطاني رهيب فيترك ما كان عليه من عمل صالح ويلجأ إلى ما كان عليه والعياذ بالله من فجور وعصيان فيبطل عمل نفسه بنفسه والمؤمن الحصيف العاقل إذا داهمه شيء من ذلك وكان منه أمر من هذا لجأ إلى الله جل وعلا واستغفره ومن ذا الذي ما ساء قط ولماذا كانت التوبة أصلا ولما كان الاستغفار أصلا إن كان هناك عباد لا يفسدون وإن كان هناك عباد لا يجترحون المعاصي ولا يأتي منهم ذنب والله جل وعلا يقول: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) ثم قال عنهم: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ (32)) مع أن الله نعتهم في الأول بأنهم اصطفاهم فالمعصية لا أظن أن يسلم منها أحد بل لا أقول لا أظن على يقين تام لا يسلم منها أحد حتى الأنبياء والمرسلين أصح أقوال أهل العلم والله تعالى أعلم أنهم غير منزهين عن الصغائر قال الله جل وعلا في حق أبينا الأكرم آدم عليه السلام قال جل الله وعلا: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) لكنه تاب إلى الله قال الله جل وعلا: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) ) فإن كانت منك المعصية أيها الأخ المؤمن فاعلم أن الحل واحد لا ثاني غيره أن تتوب إلى الله جل وعلا وتستغفره قال الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)) فالاستغفار أمر مطلوب(10/23)
ولا غنى للعبد المستقيم على شرع الله جل وعلا منه.
الوقفة السادسة مع قول الله تبارك وتعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114))
ورد في سبب نزول هذه الآية كما أخرج البخاري وأحمد ومسلم رحمة الله على الأئمة أجمعين وغيرهم بألفاظ متفاوتة ومتقاربة أن رجلا قبَّل امرأة قابلها في بستان وجاء في بعض الروايات أن رجلا قدم إلى النبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها ما يفعل الرجل بزوجه قبلتها ولزمتها إلا أنني لم أجامعها فاصنع فيّ أمر الله أو الرواية قريبة من هذا المعنى فسكت عنه صلى الله عليه وسلم فورد أن عمر قال: عبد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ثم إنه صلى فريضة مع النبي صلى الله عليه وسلم غالب الظن عندي أنها صلاة العصر فناداه صلى الله عليه وسلم قال أين السائل بعد الصلاة فلما قدم قال أنا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: أصليت العصر معنا قال: نعم يا رسول الله قال: اذهب فقد غفر الله لك خطيئتك ثم تلا عليه الآية (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (114))فقال الصحابة: يا رسول الله أله خاصة أم للناس كلهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل للناس كافة.(10/24)
هذا الحديث بما أنه مرتبط الآية قف معه أيها المؤمن تجد فيه فوائد عظيمة أولها سعة رحمة الله جل وعلا ولو أن الرحمة وكلت لي وإليك لضننا بها قال الله جل وعلا: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً (100)) فالحمد لله أن الرحمة من عنده وسبحان من وسعت رحمته كل شيء ثم يا أخي انظر كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموقف عليه الصلاة والسلام لما أخبره الرجل بصنيعته وأنه قابل امرأة في بستان وحصل ما حصل لم يجلس على كرسي ولم يلق محاضرة يخبر فيها بوجود منكرات ولم يأمر أبا بكر أوعمر أو غيرهما بأن يذهبا ويداهما ذلك البستان ولم يسأل الرجل أصلا عن تلك المرأة لا من هي ولا من أبوها ولا كيف قابلتها وهل كان عن رضاً أو كان عن قوة لم يسأله عنها تماما ولم يلق للناس أنه يوجد بستان يجتمع فيه منكرات وقد يقول قائل إنك أي بهذا القول تضيع فريضة عظيمة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إننا نقول ببساطة وبذهن إن شاء الله صريح واضح للدين إن الأمور واحد من اثنين إما عبد جاهر بالمعاصي حتى تعدت معاصيه ذاته إلى غيره فأخذ الناس ينظرون إليه فأخل بشرائع الله وعطل مظاهر الدين فهذا ينصح أولا ثم إن لم ينصح يوكل أمره إلى السلطان ومن يمثل السلطان في هذا الأمر هو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر الثاني شيء تلاحظه أنت بنفسك لنفرض أنك دخلت يوما إحدى المستشفيات فوجدت ممرضة تداعب أحد المرضى بكلام لا يليق فليس من المعقول أن تمشي في كل مجلس وتحدث بهذا الخبر أو تكون رجلا ممن أتاك الله الصدارة للناس فتقول هذا في محاضرة أو في درس لأنك إن قلت هذا الذين سيجتمعون لك واحد من اثنين إما أبرار فقد كتبت عليهم الحسرة لكثرة ما يشاهدون ويسمعون وإما فجار فتجدهم غدا أو بعد غد مرابطون في ذلك المستشفى يحاولون أن ينالوا من تلك الممرضة ما(10/25)
أخبرتهم عنه ولكن الحل الأمثل أن تذهب إلى مسؤول أو تبعث غيرك يكون له علاقة بالمسؤولين في المستشفى فتخبرهم بطريق مباشر أو غير مباشر بالأمر حتى يتم علاجه إن كثيرا من الأمور إخراجها للناس لا يساهم في حلها وإنما يكون سببا في نشرها ولذلك قال الله جل وعلا في سورة النساء: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي لو ردوه إلى الله والرسول وما تركوه للناس يعني عبرة ليس من حق الناس أجمعين أن يعلموا كل شيء فإن النبي صلى الله عليه وسلم الجيل الذي كان بين يديه أعظم جيل على وجه الأرض جيل الصحابة ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يواري في غزواته لا يخبرهم أين مقر الغزوة إلا اللهم في غزوة تبوك لطول المشقة أخبر الصحابة بالمكان الذي يتوجه إليه أما غير ذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يخبر الصحابة بأين يتوجه وذلك لحكم نبوية لا تخفى على أحد وكذلك هذه الأمور ليس من السلامة أن تخبر الناس بكل شيء تراه في المجتمع المؤمن لأنك بذلك تثبط الهمم وتوهن العزائم وتجعل الأبرار والمؤمنين الأخيار ييأسون من المجتمع لو أن كل امرأة أخبرت بما تراه وكل رجل أخبر بما يراه ويسمع لظن الناس بأنفسهم شرا ولطغى على الناس الهلاك وقد قال صلى الله عليه وسلم من قال عن المؤمنين أنهم هلكوا فهو أهلكهم ولها روايتان فهو أهلكهم أي سببا في إهلاكهم أو فهو أهلكُهم أي أشدهم هلاكا ولكن الأمور تعالج بالحكمة وبالتأني وما لا يكون اليوم يكون بعد غد وما لم يكن بعد غد يكون بعد سنة علام العجلة؟ إن الصراع بين الحق والباطل صراع أزلي من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة والنبي صلى الله وعليه وسلم وهو أعظم المصلحين في الأرض وفي السماء عليه الصلاة والسلام مات وهناك أناس مؤمنون وهناك أناس كفار فإن لم يتم الأمر على يد النبي صلى الله وعليه وسلم أتراه يتم على يدي أنا أو على يدك أنت وكلانا من الضعف بما هو معلوم ولا يعني هذا أن نثبط المؤمنين ونمنع الدروس(10/26)
ونمنع المحاضرات ونقول للناس لا داعي للوعظ والإرشاد ولكن الوعظ والإرشاد والنصح والإصلاح وفق ما جاء به الشرع المطهر ووفق ما أمر الله به ووفق ما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ورب كلمة أجلت قولها كان فيها من النفع أعظم من الأول نبي الله جل وعلا يوسف دخل عليه إخوته فقالوا له وهو على كرسي الوزارة قالوا له إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل جاهروه بالسرقة وهو على كرسي الوزارة وهم قوم غرباء كان بإمكانه أن يبطش بهم كان بإمكانه أن يسجنهم كان بإمكانه أن يخبرهم من هو لكنه عليه الصلاة والسلام بما أوتي من حكمة سكت قال الله جل وعلا: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ )) والذي أسره يوسف في نفسه قاله الله في القرآن: (قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77))) حتى هذه وهي حق لم يقلها يوسف لهم قالها يوسف في نفسه لكنه لما أجل هذا القول دهرا من الزمن قال لهم بعد ذلك بعزة المؤمن الحكيم العاقل: (قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)) وكذلك المؤمن الحكيم نسأل الله أن يبصرنا وإياكم بدينه ثم نقول وإن كنا ذهبنا بعيدا عن الموضوع لكن نسأل الله أن يعفو عن الزلل (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ (114))الله جل وعلا جعل الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء وجعل السيئة بواحدة لا تضاعف أبدا لا في مكة ولا في غيرها والمشهور عند الناس أن مكة تضاعف فيها السيئات وهو خطأ وإن نسب هذا القول إلى حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن اجتهاد ذلك الصحابي لا يمكن أن يقاوم آية صريحة محكمة قال الله جل وعلا: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) ولكن السيئات في مكة تضاعف(10/27)
كيفية ولا تضاعف كمية فأقول إن الله جعل الحسنة بعشرة والسيئة بواحدة فلذلك قال ابن مسعود: (ويل لمن غلبت آحاده عشراته) أي من غلبت سيئاته حسناته والله جل وعلا لما علم أن العباد لا يسلمون من الأذى من ارتكاب السيئات شرع لهم الحسنات التي تكفر بها السيئات والله جل وعلا وإن خص الصلاة في هذه الآية إلا أن هناك أمورا جليلة كثيرة تمحى بها السيئات (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ) حث الله على الصلاة لأنها من أعظم ما تكفر به السيئات ولأنها العبادة العظمى ولأنها من أعظم وسائل القرب إلى الله جل وعلا وبخاصة في جوف الليل الآخر سئل عليه الصلاة صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل بعد الصلاة المكتوبة قال: صلاة الرجل في جوف الليل الآخر فأكثروا منها عل الله جل وعلا أن يكفر لكم بها السيئات وعلماء أهل السنة حصروا الأمور التي يكفر الله بها السيئات في ثلاثة عشر موضعا قد يكون من الإطالة ذكرها لكنا نذكر بعضها أولها أن يفعل الإنسان حسنة بعينها وفي هذا الباب تدخل الصلوات، ويدخل ذكر الله جل وعلا قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من قال سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر ثلاثا وثلاثين ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )،
كذلك الصدقة تكفر بها السيئات قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث معاذ: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)،(10/28)
كما أن مما يكفر الله به السيئات دعوة العبد المؤمن لأخيه قال الله جل وعلا سواء كان المدعو له حيا أو ميتا قال الله جل وعلا عن الصالحين: (َيقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) فلو لم يكن في دعائهم لإخوانهم نفع ولا فائدة لما أثنى الله عليهم به في القرآن الكريم، كذلك الصدقة الجارية للعبد الذي سبق عليه الكتاب ومات،
شفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، مغفرة الله تبارك وتعالى ورحمته من غير شيء من العبد وفضل الله الواسع كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد: قال يا رب إئذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال وعزتي وجلالي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله
ومن ذا الذي يمنع فضل الله ورحمته، التوبة (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ (70))،
الاستغفار وقد قلنا الآية السالفة (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ (135)) فهذا بعض مما يكفر به الله جل وعلا السيئات ويمحو الله تبارك وتعالى به الخطايا ((وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
الوقفة الأخيرة أيها المؤمنون مع قول الله تبارك وتعالى: (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123))(10/29)
الناس جبلوا على الإيمان بالأشياء المحسوسة التي يرونها بالعين أما الأمور الغيبية فإن كثيرا من الناس تقبل أنفسهم عن الإيمان بها ولذلك جعل الله جل وعلا أول صفات المتقين الذين أثنى عليهم في أول سور القرآن بعد السبع المثاني وفي أول آياتها هو الإيمان بالغيب قال الله جل وعلا مصدرا سورة البقرة: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)) من هم يا ربنا (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ (3)) فجعل الله جل وعلا الإيمان بالغيب أعظم صفات المتقين والله تبارك وتعالى يعلم الغيب كله ولذلك أسنده لنفسه (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(10/30)
والغيب لغة ضد الشهادة أي ضد الأمر الذي تشهده بعينك أو يشهده معك غيرك ومن الأمور الغيبية التي طولبنا بالإيمان بها أو هي من الأيمان الإيمان بالله فنحن لم نر ربنا ومع ذلك نؤمن به جل وعلا ونعتمد عليه ونتوكل عليه والملائكة الكرام والإيمان بالجنة والإيمان بالنار وبمن سلف من النبيين وبعذاب القبر وبنعيم القبر وكل ما أخبر عنه ربنا جل وعلا وما أخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم فإن تلك كلها أمور غيبية يجب الإيمان بها والله جل وعلا أحاط علمه بكل شيء يعلم الغيب كما يعلم الشهادة بل إن مفاتح الغيب الخمسة عنده تبارك وتعالى عنده علمها قال الله جل وعلا: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)) وقد بين صلى الله عليه وسلم فالقرآن يفسر بعضه بعضا بين عليه الصلاة والسلام كما في مسند أحمد أنه قال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ثم تلا خواتيم سورة لقمان (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (34)) فهذه الخمس هي مفاتح الغيب التي لا يعلمهن إلا الله جل وعلا ولعلنا في وقفاتنا مع سورة لقمان سنعرج على هذه الآية بالتفصيل إن شاء الله تبارك وتعالى وبحمده ثم نقول قال الله جل وعلا تمام الآية: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) والتوكل من أعظم خصال المؤمنين ومن أعظم صفات المتقين وهو الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله جل وعلا والعلم واليقين أن الله جل وعلا بيده الأمر كله أما ترك الأسباب والتفريط فيها ثم بعد ذلك القول بأنني توكلت(10/31)
فإنه أمر جبل عليه أئمة الضلال من أهل الفرق الباطنية وإن الله جل وعلا ذكر نبيا كريما هو موسى عليه السلام لما ذهب يستسقي العلم من الخضر أخبر الله جل وعلا أنه أخذ معه مكتل وأخذ معه زادا فيه حوت ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يلبس اللامة في الحرب وهو بلا ريب ولا شك عليه الصلاة والسلام إمام المتوكلين وأعظم من توكل على الله جل وعلا وما زال الصالحون والأخيار يأخذون بالأسباب وهم مع ذلك في قلوبهم متوكلين على الله جل وعلا يعلمون أنهم لن يصيبهم إلا ما كتب الله جل وعلا لهم.
ختاما أيها المؤمنون نسأل الله أن ينفع بهذه الوقفات وأن يزدنا وإياكم هدى وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا ما علمنا.(10/32)
أ.كمال :أيها الإخوة المستمعون أينما كنتم نحيكم بتحية الإسلام ، مرحبا بكم معنا في حلقة متجددة من برنامجكم " معكم على الهواء " من استديوهات إذاعة المدينة المنورة ، ونلتقي وإياكم إن شاء الله في هذه الحلقة المباركة بكل الشوق والترحيب ، هذه أطيب التحايا من الزملاء من الرياض الزميل عبد الرزاق العليوي ، خالد العويد ، ومن منفذي الفترة ناصر الشايع ، ثامر المبدل ، من المدينة المنورة معكم أعزائنا في كل :
مكان مساعد مخرج : محمد يوسف ، ومخرج معكم على الهواء الزميل: مساعد الجهني ، من الإعداد والتقديم معكم في هذه الحلقة محدثكم: كمال هاشم رشيد ، حياكم الله ، ومرحبا بكم .
أ.كمال :أهلا وسهلا بكم أعزائنا المستمعين، الأخوات المستمعات الكريمات، في لقاء متجدد من برنامجكم " معكم على الهواء" نبث هذه الحلقة في هذا اليوم الأحد ،23من شهر ربيع الأول في عام تسعة وعشرين وأربع مائة وألف من الهجرة النبوية المباركة ، من استوديوهات الإذاعة بالمدينة المنورة ، ونستضيف في هذه الحلقة فضيلة الشيخ صالح ابن عواد المغامسي ، إمام وخطيب مسجد قباء ، عنوان حلقة هذا اللقاء الذي يأتيكم على الهواء مباشرة هو " وقفات مع سورة التحريم" إذا نتحدث إليكم من إذاعة أعزاءنا إليكم من إذاعة القرآن الكريم ومن بلد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن وموضوع الحلقة حول سورة من سور القرآن الكريم ، نلفت نظر الإخوة المستمعين والمستمعات إلى أن طبيعة اللقاء تعني الوقفات مع آيات هذه السورة المباركة ولا يقصد من اللقاء التفسير الأكاديمي المحض لكل آية ، نجدد الترحيب بالشيخ ، ونبدأ مستعينين بالمولى عزوجل هذه الحلقة ، حياكم الله هنا في المدينة المنورة في معكم على الهواء لأول مرة .
الشيخ صالح : حياكم الله أستاذ كمال ، وحيا الله الإخوة المستمعين والأخوات المستمعات ، ونسأل الله جلت قدرته ، التوفيق لما يحبه ويرضاه .(10/1)
أ.كمال : اللهم آمين .. فضيلة الشيخ نريد إطلالة إجمالية حول هذه السورة المباركة ، سورة التحريم .
الشيخ صالح: بسم الله الرحمن الرحيم ..
إن المحمود هو الله جل جلاله ، والمصلى والمسلم عليه محمد وآله ، وبعد ..
فسورة التحريم سورة مدينة إجماعا ، وأكثر أهل العلم مِن مَن لهم عناية بشأن التفسير يقول : "إنها نزلت بعد سورة الحجرات "، ولو تأملنا أستاذ كمال السورة التي قلبها وهي سورة الطلاق ، لوجدنا أن كلا السورتين افتتحت بقول الله جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) .
لكن سورة الطلاق عنيت بما يكون في بيوت المؤمنين عامة وما يقع في البيوت من أحداث وما ينجم عن ذلك من تدخل الشرع ،فجاء فيها : (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) وجاء فيها : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ،وجاء فيها قول الله تبارك وتعالى : (وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى)، وقضية إسكان المرأة حيث يسكن المرء ، وهكذا .
ثم جاء القرآن بسورة التحريم كأنه يفرد الحديث عن أمهات المؤمنين – رضوان الله تعالى عليهن – فشرف مكانتهن جعل لهن صورة يمكن أن يقال أنها حملت حيزا كبيرا من القضايا التي تحدث في بيت النبوة ، ذلك البيت الطاهر العفيف الشريف .
فإذا بَنَيْتَ فخير زوج عشرةً ** وإذا ابْتَنَيْتَ فدونك الأبناء
صلوات الله وسلامه عليه ، وقد قلنا أنها سورة مدنية وعدد آيتها اثنتا عشرة آية .
أ.كمال: فضيلة الشيخ تصدر هذه الآية قول المولى عزوجل : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) وذكرتم أن سورة الطلاق أيضا كانت بهذا الخطاب من المولى عزوجل لنبيه الكريم وهو لفظ يشعر بالإجلال لمقام النبوة ، نريد بيان هذا النداء مقارنة مع نداءات القرآن الأخرى التي وردت في السور الأخر .
الشيخ صالح : نداءات القرآن الأخرى جاءت بحسب المطلوب:(10/2)
فعندما يأتي الخطاب بالعبادة هي حق الله على العباد يأتي قول المولى جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ) فجاء القرآن بنداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وجاء القرآن في آيات الامتنان بذكر بني آدم (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) وجاء القرآن بنداء أهل الكتاب (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء)، وجاء الخطاب القرآني كذلك في بعض أحيانه مخاطبا به الكفار : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا َلا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) كما سيأتي في السورة .
وجاء القرآن بخطاب الذين آمنوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)، وجاء القرآن : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) وهذا كما أوضحتموه وفقكم الله ، فيه إظهار وقام الإجلال لنبينا صلى الله عليه وسلم .
أما إذا أردنا المقارنة فإننا نقول : إنك تلحظ أيها المبارك المتدبر لكلام الله أن القرآن أحيانا يجمع بين نداءين مضت سنة القرآن أن لا يجمع بينهما ، وهذا إذا وجدته في القرآن فإنما يدلك على عظيم الأمر فبيانه بمثال الله يقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء) المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وأمته تبع له ، وقول الرب تبارك وتعالى هنا : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لوحده ، لكن تبين أو تدبر قول الله جل وعلا في حادثة عظيمة وهي حادثة تحويل القبلة قال الله جل وعلا : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الآن تلحظ أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لكن القرآن هنا لم يكتف بهذا الآية التي بعدها (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ) فجمع القرآن في أمر واحد بين نداءين هما :(10/3)
1.نداء النبي صلى الله عليه وسلم ، 2.ونداء الأمة ، وذلك لعظيم الأمر لأن أمر تحويل القبلة كان أمرا عظيما ، قال الله جل وعلا : (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ) فإذا قارنا هذا كله تبين لنا أن القرآن العظيم جاء مخاطبا لفئة المجتمع كلها والناس أجمعين لكن الخطاب يتصدر بحرف النداء (يَا أَيُّهَا) ثم يأتي المنادى بحسب ذلك الطلب كما قلناه آنفا ، والعلم عند الله .
أ.كمال : بارك الله فيكم ، فضيلة الشيخ نلحظ أيضا الخطاب دائما عندما يكون للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يكون بهذه الصفة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) بينما يخاطب بعض الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم بأسمائهم كما ورد في بعض السور .
الشيخ صالح : هذا فيه إظهار جلي لمقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فالله قال في كلامه العظيم : (َيا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وآدم نبي ، وقال : (َيا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا) ونوح نبي ، وقال : (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) ، وقال جل ذكره : (يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي)، وقال تباركت أسماؤه : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) ، لكن ليس في القرآن كله خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بلفظ النبوة أو بلفظ الرسالة ، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ)، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ) إلى غيرها من الآيات ، وقد هذا معدود كما بينه العلماء في مواضعه من إظهار كرامته صلى الله عليه وسلم عند ربه ، وإجلال مقامه ، ورفيع درجته وعلو منزلته ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقيل كل نبي عند رُتْبَتِه ** ويا محمد هذا العرشُ فاستلمِ
والمقصود أنه مقدم الأنبياء ليس المقصود حقيقة العرش .(10/4)
أ.كمال : فضيلة الشيخ صالح ابن عواد المغامسي ضيفنا أيها الأعزاء في هذه الحلقة من برنامجكم معكم على الهواء ، نستقبل اتصالاتكم على تلفونات البرنامج 8400380 وتلفون آخر 8401433، ويبدوا أن معنا اتصال فضيلة الشيخ نستأذنكم .
المتصل : المتصل :حياكم الله .
كمال : بارك الله فيك .
المتصل : هذه الحلقة وهذه السورة ، نقلة من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، نقلة جغرافية نقلة روحية ، وسعداء بسماع صوت شيخنا ونسأل الله أن يبارك في جهوده ، نحسبه والله حسيبه أنه رجل مخلص محب للقرآن الكريم والدعوة إلى الإسلام ، السؤال باختصار يا شيخنا لو تكرمت : يستطيل بعض الناس في الكلام عن بيوت النبي وهديه السيرة العظيمة يلمحون فيها إلى كلمتين جاءت عن بيت نبينا صلى الله عليه وسلم وزوجاته الطيبات الطاهرات في قوله تعالى : (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) يستبيحون أن يتكلون في النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته الكريمات ، وحتى أن بعض هذه الطوائف والعياذ بالله يخرجونهم من الدين ، بسبب هذين الكلمتين ، (وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) نريد أن يوضح لنا شيخنا الجليل الكريم هذه الكلمة وما معناها ، ما معنى هذا التظاهر ، ويدافع معنا عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وضيفه الكريم التي يناله فيه بعض الناس الذين وهذه الطوائف التي لا تتورع عن ذلك ، أسأل الله أن يبارك بجهودكم وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل .
أ.كمال : اللهم آمين شكرا لك أخوي سعد . فضيلة الشيخ يبدوا أننا بوقفاتنا سوف يكون تسلسل منطقي ووقفات معقولة مع كل آية منها إن شاء الله ، فهل تود أن .
الشيخ صالح: سيأتي الحديث عن هذا إن شاء الله .(10/5)
أ.كمال : لكن أود أن أسأل قبل أن نبدأ ونشرع وندخل في الحديث عن هذه السورة المباركة الكريمة المطلع على كتب التفسير يجد أقوالا عدة في سبب نول قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ) نريد جمع شتات هذه الآراء لو تكرمتم وإلقاء الضوء إجماليا عليها .
الشيخ صالح: نستصحب أولا أن الحديث عن بيت النبوة ليس بالأمر الهين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق قدرا ، وأجلهم مقاما صلوات الله وسلامه عليه ، فالحديث عن شخصه عن بيته عن أسرته عن أحوال منزله ، جزافا أمر لا يقوى عليه قلب المؤمن ، ولا يجرأ عليه ، إنما يستصحب الأخبار المنقولة الصادقة ، جملة ما قاله العلماء هنا إذا تدبرها المؤمن يلحظ أنها أخذت ثلاثة أضرب، أو ثلاثة طرائق- وهنا نحاول نعتمد لغة قريبة من الناس – لأن المقصود إفهام الناس .
? بعض العلماء أخذ حديث العسل.
? وبعضهم أخذ حديث الجارية .
? وبعضهم أطلق .
فما معنى حديث العسل ؟ ما معنى حديث الجارية ؟ ما معنى أطلق؟؟
الآية تقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) يفقه كل من يعرف اللغو أن هناك شيء مبارحا حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ابتغاء لمرضاة أزواجه .
السؤال ما الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه ؟
من أخذ قوة السند ، الصحيح حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه العسل وذلك أن صلى الله عليه وسلم كما تقول الرواية أكل أو شرب عسلا عند زينب بنت جحش فاتفقتا حفصة وعائشة على أن يقولا له وجدنا منك ريح مغافير ، تقصدان بذلك أن رائحة كريه منك ظهرت بسبب ذلك العسل تريدان منه أن يتجنب البقاء طويلا عند زينب ، هذا مجال القول .(10/6)
القول الثاني: أن القضية حادثة العسل صحيحة لكن ليس لها علاقة بالآية وإنما أن النبي صلى الله عليه وسلم وطأ جارية قيل أنها مارية في بيت إحدى زوجاته ، فكأنه يقع في نفسها شيء وغضبت ، فحتى يسترضيها حرم على نفسه وطأ تلك الجارية .
أ.كمال : وقيل أنها حفصة .
الشيخ صالح: نعم وقيل أنها حفصة ، فحرم على نفسه تلك الجارية ، هذا منحى .
المنحى الثالث: واختاره الطبري وابن سعدي والبغوي معالم التنزيل ، وهي قضية أن المسألة تطلق إطلاق دون تحديد ، وهؤلاء كأنهم خافوا أن يقتحموا الأسوار ، وحق لهم لكنك إذا تأملتها من ناحية عقلية مع وجود هذه النقول الصحيحة فإنها إلى حادثة وطأ الجارية أقرب منها إلى حادثة أكل العسل لأن النبي صلى الله عليه وسلم تواتر في سيرته ومن لهم معرفة بسننه عليه السلام في حياته حبه للحلوى والعسل استدامة ، ثم إن بعض العلماء يقولون قد يصعب أن نقول إنه تنزل آية من أجل أن يحرم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه العسل ، لأنه لا توجد علاقة قوية ما بين وجود الغيرة عند الزوجة مع قضية أكل العسل وبقائه عند زينب قليلا ، لكن إذا ربطناها بحادثة أنه وطأ الجارية يكون أقرب وإن كان أقل أضعف في السند وإن ورد عن النسائي من وجه يمكن أن يحكم بصحته ، على هذا نختار نحن من ذهب إلى القول بأن القضية تتعلق بمسألة وطأ الجارية أقرب منها إلى أكل العسل ، لكن الجملة بصورة كليه كما قلت نحن نستصحب أننا نتحدث عن بيت سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم لكن جملة هناك نبي كريم أراد أن يرضي زوجاته وحرم على نفسه بعض ما أحله الله .
يبقى التساؤل إن كان الأمر بهذا اليسر لماذا جاء العتب القرآني؟(10/7)
جاء العتب القرآني لأن مقامه صلى الله عليه وسلم ليس كمقام غيره ، هو عليه الصلاة والسلام لا يكون منه شيء إلا لوجه الله وبطريق آخر أنه لا يكون منه شيء إلا بإذن من الله ، فسيرته عليه الصلاة والسلام حياته قراراته كلها بإذن من الله ، فلهذا جاء العتب العتاب القرآني اللطيف في قول الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ )أظهر مقامه وإجلاله ورفيع منزلته عليه الصلاة والسلام (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) ثم تختم الآية بقول الله : (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) هذه الطرائق التي سلكها العلماء في إظهار سبب نزول هذه الآية والعلم عند الله .
أ.كمال : بارك الله فيكم فضيلة الشيخ صالح المغامسي ، في حياتنا الزوجية فضيلة الشيخ والأسرية إجمالا ما الذي يمكن لنا أن نقتبسه من نور هذه الآية التي كانت في مطلع هذه السورة المباركة ؟(10/8)
الشيخ صالح : قولكم من نور هذه الآية قول حسن في مكانه لأننا كما نعلم القرآن كله نور ، قوله جل وعلا : (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ) يجعل فينا معشر الأزواج أن نسعى إلى تطيب خواطر من أمامنا ، فهذا سيد الملة سيد الأمة ، ورسول الملة عليه السلام ، يحرم على نفسه لا على غيره ، لأن التحريم شيء لله ، يحرم على نفسه لا على غيره شيء يحبه وأحله الله له كل ذلك يفعله تطيبا لخاطر زوجاته ، صلوات الله وسلامه عليه ، إذا ينبغي على الأب على الرجل الكبير في الأسرة على الزوجة من جهة على كل من له ألفة مع الناس تخالط، خاصة في البيوت الزوجية الأسرية حتى في الوظائف أن نسعى أن نطيب خاطر من أمامنا ، وأن نجبر كسرهم وأن نختار من الألفاظ والعبارات والأفعال ما نجد من خلاله أننا نجد لأنفسنا مقاما ومكان في قلوب من أمامنا من حولنا الإنسان إذا أختار دائما طريق التصادم طريق التحدي طريق العنف اختيار الكلمات المسكتة ، ودر الأعذار المقبولة ، ومحاولة الظهور بعلو ، هذا وإن هابه الناس وخافوه إلا أنه لن يجد له في قلوبهم مكانة ، وربما حصل فراق قريب بموته أو بغيره ، فيندم الإنسان على ما وقع منه ، وقد قال الله : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وهذا رسول الله ، يطيب خاطر زوجاته صلوات الله وسلامه عليه .
أ.كمال : عليه الصلاة والسلام ، معنا مكالمة فضيلة الشيخ .
المتصل : السلام عليكم .
أ.كمال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المتصل : وأنا أشهد الله على محبة الشيخ في الله .
أ.كمال : جزاك الله خير ، هذا الجميع ما شاء الله عليه .
المتصل : الله يجعلك مفتاح للخير مغلاق شر .
أ.كمال : اللهم آمين .(10/9)
المتصل: عندي استفسار بسيط ، الشاهد في سورة التحريم استفسار فقط ما عبد معلومات أدلي بها ،الآن الشخص إذا جلس مع زوجته ،أو يسمع أحد زملائه يتحدث عن زوجاته مثلا يحرم على نفسه أحله الله جل وعلا ، ويتقرب إلى زوجاته بمنعه على نفسه ، يعني على نفسه من نسائه عليه أو أكل أشياء يحرمها على نفسه كذلك، فأنا أبغى أعرف ما المشهد الشاهد في هذه الأمور نحن المسلمين أو المسلمات في ظل هذه الآية ، يحفظكم الله .
أ.كمال : جزاك الله خير أخي الكريم . وفي ضوء هذه السورة أيضا الكفارة التي سيتناولها الشيخ ويبينها من خلال هذه الحلقة .
المتصل : ........
الشيخ صالح : طبعا للمرء أن يمتنع عن شيء أباحه الله جل وعلا عليه إرضاء لغيره ، مقام النبوة فيه اتباع أما مقام غيره ، فلا يلزم منه الاتباع ، فمثلا شخص ما من الناس يحب نوعا معينا من الطعام ، لكن أهل بيته لا يحبون ذلك النوع من الطعام وقد لا يرغبونه جدا ، فكونه لا يأكل هذا الطعام أمامهم ولا يدخله بيته ، تطيبا لخاطرهم ، فهذا ليس فيه حرج شرعي لكن وقع منه يمين على فعل شيء فقد جاء في القرآن (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) ، كما قال الأستاذ كمال سنعرج على إيضاحها ، والأيمن ثلاثة كما تعلم :
1. يمين لغو :لا حرج فيها (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ).
2. ويمين غموس: ليس لها كفارة لعظم جرمها فهي من الكبائر ، سميت غموس لأنها تغمس صاحبها في النار
عياذا بالله من ذلك .
3. وبقيت اليمين المنعقدة : وهي التي فيها الكفارة والكفارة فيها :
1.إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة . هذه الثلاثة على التخير .
2.لكنه لا ينتقل إلى الصيام إلا إذا عجز عن هذه الثلاث .(10/10)
والمقصود أن جبر خواطر الناس وتطيب بخواطرهم وأهل البيت بوجه خاص أمر مرغوب به شرعا ، ومن العلماء من اختلفوا هل وقع من النبي صلى الله عليه وسلم يمين في هذا أو لم يقع على أقوال عدة ، أوصلها بعض العلماء إلى عشر كما تجده عند ابن العربي في أحكام القرآن والعلم عند الله .
أ.كمال : جزاكم الله خيرا ، فضيلة الشيخ صالح المغامسي قال الله جل شأنه في هذه السورة : (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ) السؤال المتبادر إلى الذهن أولا من هما المرأتان المعنيتان في الآية ؟
الشيخ صالح : المرأتان المعنيتان في الآية لأن جاءت لإثنين : (إِن تَتُوبَا) هما حفصة وعائشة ، رضوان الله تعالى عليهما ، وحفصة معلوم أنهلا ابنة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، وعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خلفاؤه الراشدون أربعة : زوج اثنين وتزوج من اثنين ، هو عليه الصلاة والسلام تزوج حفصة بنت عمر ، وقبلها عائشة بنت أبي بكر ، وزوج فاطمة لعلي ، وزوج رقية ثم أم كلثوم لأمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، فأصبح الراشدون الأربعة كلهم يتصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاهرة من وجه ، اثنان كذا واثنان كذا ، وعلي يتصل به نسبا ، كونه ابن عمه صلوات الله وسلامه عليه .
فالمرأتان كما حررنا هما حفصة وعائشة .
أ.كمال : نلحظ في الآية التنصيص على ذكر جبريل ، ما سب هذه الخصوصية وما المقصود بالآية إجمالا ؟(10/11)
الشيخ صالح : الآن إذا أذنت نعود إلى سؤال الأخ سعد عندما قال : (تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) الرب جل وعلا يقول : (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) طبعا الشيخ سعد في سؤاله الأول الذي أرجأنا الحديث عنه قال : إن بعض الطوائف دخلوا في هذه الآية وقالوا : إن هاتين المرأتين تظاهرتان على النبي صلى الله عليه وسلم ، طبعا الآية جاءت في سياق شرط ، الله يقول : (وَإِن تَظَاهَرَا ) فلا يلزم من ذلك وقوع المظاهرة ، ثم هذه المظاهرة التي وقع شيء منها عبر عنه القرآن بالمظاهرة في نقطة أحررها قبل أن ننتقل إلى هذا ، يجب أن يعرف من يقرأ القرآن كلام الله جل وعلا عن عباده ليس ككلام العباد عن بعضهم البعض ، هذه نقطه مهمة هنا الله جل وعلا يقول : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) هذا ربنا يقول فلا يأتي أحد إنسان ويقول يتحدث عن أبينا آدم ونبي الله آدم عليه السلام آدم عاص ، يقول الله قال عاص ، كلام الله عن عبده ومخلوقه آدم ليس ككلامك أنت عن أبيك ، فهذه نقطة يجب تحريرها ، فلما قال الله جل وعلا يخاطب هؤلاء الأمهات : ( وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) الرب جل وعلا علقها بالشرط أي إن وقع منكم التظاهر ،( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ومعلوم أنه لم يقع التظاهر لأنهما تابا رضوان الله تعالى عليهما ، هؤلاء من أمهات المؤمنين النبي صلى الله عليه وسلم دخل على إحدى عشر امرأة ماتت اثنتان منهما زينب بنت خزيمة وخديجة قبلها في حياته ، وبقيت تسع نسوة مات عنهن صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء الإحدى عشر هن أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وهن أمهات المؤمنين اللاتي هن خير نساء أهل الأرض رضوان الله تعالى عليهن ، إلا ما جاء من ذكر مريم ، وآسيا(10/12)
بنت مزاحم وخديجة الذي سيأتي الحديث عنهن بعد ذلك .كذلك للحديث تتمة إن شاء الله عند قول الله (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ) .
أ.كمال : آخذ المكالمة وأعود إلى مناسبة التنصيص على جبريل .مرحبا
المتصل : السلام عليكم .
أ.كمال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
المتصل : مساكم الله بالخير .أود أسأل الشيخ بسؤال لو سمحت .
أ.كمال : تفضل .
المتصل : بالنسب يا شيخ للتفاسير تفاسير القرآن كثيرة في أكثر من تفسير ، يعني مرات يرد بعض الاختلاف كما يظهر للقارئ من تفسير لتفسير يظهر فرق في التفسير وفرق في المعنى ، نود الشيخ ما ينصح به بالنسب للتفاسير كتفسير ابن كثير ، أو تفسير السعدي، وهذا الشق الأول ، والشق الآخر : للأسف الشديد يظهر من بعض الفرق اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم يعني هل يرد عليهم أو يتركوا يعني و جزاكم الله خير .
أ.كمال : وأنت كذلك ، معنا اتصال .
المتصل : السلام عليكم .
أ.كمال : وعليكم السلام .
المتصل : طاب عطركم ووقتكم أخ كمال .
أ.كمال : سعداء بك .
المتصل : أشهد الله على حب الشيخ كما ذكر الإخوة ولاشك أنكم تعلمون الحديث أن الله إذا أحب عبد نادى يا جبريل إني أحب فلان فأحبه إلى تتمة هذا الحديث وأنا أحسب والله حسيبه أن الشيخ قد وضع له القبول في الأرض.
أ.كمال : الحمد لله .
المتصل : أسأل الله تبارك وتعالى أن يرفع درجته في عليين كما رفع قدره في الدنيا .
أ.كمال : اللهم آمنين .
المتصل : حقيقة يا شيخنا لدي ثلاث نقاط سريعة جدا ، أتمنى من الشيخ أن يأتي عليها :(10/13)
النقطة الأولى : وقد بدأ فيها الشيخ والأسئلة كانت كثيرة وانقطع الحديث حول هذا الموضوع ، أنا أود أن الشيخ يركز على هذه النقطة، وضع بيت النبي صلى الله عليه وسلم كمخبر ، على أساسه يمنكن لنا أن نقيس بمقياس هذا البيت ، فهذا البيت تحدث فيه مشاكل ، تحدث فيه خلافات ، تحدث فيه حلول ، تحدث فيه هزات ، هذه البيوت الأخرى وبيوتنا ليست بمنأى عما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل نحن أكثر تعرضا لهذه الإشكالات نتيجة أننا لسنا قريبين من عهد النبوي من جهة ولسنا في صلاح الصحابة من جهة ، وزوجاتنا لاشك أنهن لسن في صلاح الصحابيات ، ينبغي أن نأخذ من هذا البيت ما يعزز و يعضد بيوتنا جميعا ، هذه نقطة .
النقطة الأخرى : وهي في علم الاجتماع مهمة جدا وهي عرض المشكلة الكثير من الناس يا شيخ يعرض المشكلة لكنه لا يعرض الحل ، وهذه قضية جدا صعبة ، يعني الله عزوجل حين عرض إشكالية تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لما أحل الله له ، وضع له حلا ، وحلولا ليس حلال واحدا ، وهو التكفير عن اليمين إرضاء الزوجة إلى ما هنالك ، أما النقطة الثالثة والأخيرة والتي أريد أن يركز عليها الشيخ وأظنه سيركز عليها وهي التوبة (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) القلب منبع التوبة ومناط التأثر بها ، أرجوا أن يحدثنا الشيخ عن هذه القضية وشكر الله لكم
الشيخ صالح : شكرا أخي عبد العزيز ، جزاك الله خير .
أ.كمال : شكر يا شيخ عبد العزيز .
إذن ستجيب على بعض الأسئلة قبل أن نواصل .(10/14)
الشيخ صالح :الأخ أبو يوسف من الشرقية قال التفاسير ، طبعا كتب التفاسير كثيرة بلا شك وتحمل في طياتها قدرات لأصحابها ، وأنت تعلم أن الله جل وعلا جعل الناس مختلفين في القدرات ولا أقول فاوت وهذه ترى ينبغي أن ينتبه منها من يخاطب الناس أنه لا يقول أنه تفاوت الناس في كذا هذا غير صحيح ، الله نفى التفاوت عن خلقه ، قال تبارك وتعالى : (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ) وإنما يقال اختلاف ، قال الله جل وعلا : (وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أعود إلى ما أنا فيه فأقول : " كتب التفسير تحمل قدرت أصحابها فكل من كان ذا بضاعة لغوية قوية تجد هذا في تفسيره ، ومن كان قويا في الفقه تجد الفقه وأثره ظاهرا في تفسيره ، ومن كان صاحب صناعة حديثية تجد قدراته الحديثية في تفسيره وهكذا ، فلذلك لا تكتفي باقتناء كتاب تفسير واحد لكن إن كون الإنسان يقرأ للفائدة المحضة لا ليعلوا كعبه في العلم فأنصحه بهذه الكتب :
تفسير ابن كثير ، معالم التنزيل للبغوي ، وتيسير الكريم الرحمن لابن سعدي رحمة الله تعالى عليه .
الشق الآخر من سؤاله كان بعض الفرق باتهام بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قلنا إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم طاهرات والله تبارك وتعالى ارتضاهن فالله على كل شيء قدير ، وقد علم مافي القلوب ارتضاهن أزواجا لخير خلقه صلى الله عليه وسلم ، فمن التقدم بين يدي الله ومن الجرأة على الله أن يقدح في أمهات المؤمنين ، بل إن القدح فيهن فراشا كفر ، لأن الله تبارك وتعالى أكرم من أن يجعل بيت نبيه بيتا خائنا فراشا ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها مات النبي صلى الله عليه وسلم بين سخره ونحرها ودفن في حجرتها ، والله لا يختار لنبيه إلا الأكمل ومن قال بغير هذا فقد افترى على الله افتراء عظيما .(10/15)
شيخنا الأخ شيخ عبد العزيز الزهراني من مكة ، قال قضية بيوت النبوة جعلها اللنبي صلى الله عليه وسلم كمخبر هذا حق ، يعني قضية تأسي بأحوال بيوت الأنبياء رجل إذا وجد من زوجته أحيانا علو صوت عليه ، ثم تذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته ، لا شك أنه ينيخ المطايا ، و يهدأ باله ، ويترفق كما كان عمر رضي الله تعالى عنه لما أحدى زوجاته رفعت صوتها عليه فغضب وكان يعيش في مجتمع مكي ويظهر أن نساء أهل المدينة أقوى ، فلما جاء المهاجرات المكيات إلى المدينة تأثرن بما رأينه من نساء الأنصار ، فهذه المرأة بطبيعة خلطة الاجتماعية زوجة عمر أخذت من أهل المدينة شيء من القوة ، فلما راجعت زوجها عمر ، تعجب فقالت كيف لا أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يراجعنه ، مع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يتحمل هذا ويقول عليه الصلاة والسلام يعني في أحاديث كثيرة تبين أن الإنسان يخفض جناحه قليلا لزوجاته ، ويقبل منهن و جاء حديث عند ابن ماجة وإن كان في سنده ضعف لكن معناه صحيح : أنه قال عليه الصلاة والسلام "هُنّ أغلب "أي معشر النساء وهذا أمر يستصحبه المرء .
أ.كمال : وأعتقد أن ذلك في إطار تهيئة البيت المسلم ، والنموذج الأكمل للأسرة السعيدة .
الشيخ صالح : نعم هذا هو المقصود ، وإذا حصل شي تسبب ذلك في جانب ، قال قضية التوبة هذه إن شاء الله سيأتي التعريج عليه في موطنه بإذن الله .
أ.كمال : بارك الله فيكم ، نعود إلى الآية والتنصيص على ذكر جبريل عليه السلام سبب هذه الخصوصية .(10/16)
الشيخ صالح : طبعا التأصيل التفسيري هناك يذكر ما يسمى" ذكر العام بعد الخاص ، وذكر الخاص بعد العام "، الله جل وعلا يقول : (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ) فنص الله على جبريل وهو من الملائكة ثم ختمت الآية بقول الله جل وعلا (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) فذكر جبريل ثم ذكر الملائكة يسمى ذكر العام بعد الخاص ، طبعا التنصيص على ذكر جبريل فيه إظهار لشرفه وعلو قدره عليه السلام ، لكن هناك علاقة بين جبريل وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فالوحي نزل به جبريل ، النبي عليه الصلاة والسلام يمرض من الذي يرقيه ؟ جبريل ، يُسأل النبي صلى الله عليه وسلم ما أحب الأماكن إلى الله ؟ يقول المساجد ، هذه يعرفها ، لكن ما أبغضها إلى الله ؟ يتوقف يقول دعوني أسأل من ؟ جبريل ، يحدث صلى الله ليه وسلم بالحديث أن الشهداء يغفر لهم من أول قطرة ، لكن يستدرك يقول : "إلا الدين "، لماذا الدين؟ ، قال : أخبرني به جبريل ، يفق صلى الله عليه وسلم في أول غزوة له تحت العريش، من يقف معه ؟ جبريل ، يقول كعب ابن مالك :
وفي يوم بدر حين تمحى وجههم ** جبريل تحت لوائنا محمد
وقد قيل كما قلنا في دروس سلفت ، هذا أمدح بيت أفخر بيت قالته العرب .
المقصود من هذا كله تلحظ أيها المبارك قضية الاتصال بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم .وعرج النبي صلى الله عليه وسلم كان بمعية جبريل عليه السلام وجبريل له علاقة في رمضان ، يقول ابن عباس : " كان النبي أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان إذا لقيه جبريل " فجبريل له علاقة .
أ.كمال : يدارسه القرآن .(10/17)
الشيخ صالح : يدارسه القرآن ، علاقة خصوصية ظاهرة لكل من تدبر السنة ، والقرآن جاء بالثناء على جبريل وبيان علو شدة قوته ، فإدخاله في الآية لأنه مولى نصير ظهير للنبي صلى الله عليه وسلم فيه تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه وليس بعد ولاية الله ولاية ، لكن من باب تعاقب الألفاظ ، يصبح من يحاول أن يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم في خوف لأن الله جل وعلا يقول في آيات أخر: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) وكلها في وصف جبريل عليه السلام ، وفي هذا قال حسان :
وجبريل أمين الله فينا ** وروح القدس ليس له ..
أ.كمال : بارك الله فيكم ، ننتقل إلى سؤال آخر ، حتى تكون الوقفات متسلسلة مع هذه السورة الكريمة سورة التحريم ، مع ضيفنا المبارك الشيخ صالح ابن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء ، شيخنا الفاضل أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن هن خير النساء أختارهن الله لأفضل نبي وأكرم زوج ، عليه الصلاة والسلام كيف نجمع بين هذا المعنى الراسخ وبين قوله تعالى : (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ)؟؟ .(10/18)
الشيخ صالح : نعم هذا إشكال وارد ، لكن دعنا نستصحب غيره من الآيات تعلم ويعلم الإخوة المستمعون والأخوات المستمعات أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جملة هم خير جيل وأمثل رعيل وأن الله جل وعلا كما اختار نبيه ليختم به النبوات فقد اختار أصحابه أن يختم بهم أصحاب الرسل ، وهم رضوان الله خير أصحاب ومع ذلك قيل لهم (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) مع علم الله الأزلي أن هذا لن يقع ، إذا لماذا سيقت الآية ؟ سيقت لبيان القدرة الإلهية ، الذي أنشأكم خلقكم جعل فيكم النصر لنبيه قادر على أن يجعلها في قوم غيركم لكن هذا لن يقع ، هنا نأخذ هذا الاستصحاب ننزلها على هذه الآية والله يقول لهذا النبي الكريم ، ويخاطب أزواج نبيه عليه السلام : (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ ) ولن يقع طلاق ، لأن الله يعلم الغيب ، ويعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يطلق أزواجه ، ثم من الذي اختار هؤلاء الأزواج لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ربه جل وعلا ، فعائشة رضي الله تعالى عنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم تزف إليه ، وزينب بنت جحش زوجة النبي من فوق سبع سموات فكلهن بقدر الله اختارهن الله لنبيه ، إذا المعنى الذي قلت أنه معنى راسخ معنى حق في قلوبنا هذا يبقى كما هو وإنما الآية تقول (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ) هذا نوع من التأديب لهن ،لأن الإنسان كلما ارتفع مقامه وعلت منزلته ، وعظم احتفاء الله جل وعلا به كان الخطاب والتأديب بحقه موازيا لمقامه و رفيعه ، وقد قيل :(10/19)
"سيئات الأبرار أخطاء المقربين " المقصود أن الإنسان تقبل منه شيء قد لا يقبل من غيره بالمعنى الدارج كذا كذا لا يحسن أن أقولها بالقرآن ، لكن عموما هؤلاء أزواج النبي فتأديبهن لابد أن يكون الخطاب يوافق منزلتهن رضوان الله تعالى عليهن ، من أجل ذلك قال الله : (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ) ونحن نعلم جميعا أنه لم يقع طلاق ، ولم يقع تبديل ، توفي النبي صلى الله عليه وسلم أنهن أمهات المؤمنين الصحابة رضوان الله تعالى عليهن بعده تعاملوا مع هؤلاء النسوة الأطهار على أنهن أمهات المؤمنين ، وزوجات لنبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة .
أ.كمال : نعم .. أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ، دعنا أيضا نتوقف عند آية من هذه السورة الكريمة القارىء في قوله جل وعلا : (مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ) إلى قوله : (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) يقع في نفسه بعض التساؤلات لما لم يفرق بين تلك الصفات إلا في صفتين الأخيرتين ، وأيضا تساؤل آخر لما قدمت الثيب على البكر ؟(10/20)
الشيخ صالح : كلها تساؤلات مشروعة لأن الذي يقرأ القرآن لابد أن يضع القرآن في ذهنه أسئلة ، طبعا تلاحظ أستاذ كمال الله يقول : (مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ) إلى الآن إلى قوله سائحات على القول أن سائحات بمعنى مهاجرات هذا قول وقيل أنه صائمات، الذي يعنينا أن المرأة ممكن أن تكون مسلمة مؤمنة قانتة تائبة عابدة ومهاجرة في آن واحد ، اجتمع هذه الخصال ، إذ لا تنافي بين هذه الخصال، فلما لم يكن هناك تنافي بين هذه الخصال لم يفرق بينها بحرف العطف واو ، مثلا تقول في رجل رجل صادق غني ذو وظيفة مرموقة ، لا يوجد تعارض بين كونه صادقا وغني وذو وظيفة مرموقة ، لا يوجد تعارض ، فلا يحتاج إلى العطف ، لكن عندما قال الله تعالى : (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً) هناك تنافي المرأة محال أن تكون في وقت واحد ثيبا وبكرا ، فلهذا فرق بينهما بحرف العطف الواو ، والواو عند اللغويين تقتضي المغايرة ، فأصبح مُسْلِمَاتٍ ،مُّؤْمِنَاتٍ، قَانِتَاتٍ ، تَائِبَاتٍ ،عَابِدَاتٍ ، سَائِحَات، ثَيِّبَاتٍ هذه مجموعة ، وهناك أبكار فيهن نفس الصفات : مُسْلِمَاتٍ ،مُّؤْمِنَاتٍ، قَانِتَاتٍ ، تَائِبَاتٍ ،عَابِدَاتٍ ، سَائِحَات ، لكن لا يوجد ثيب وبكر في آن واحد .
أ.كمال : ولكن هذه الصفات فضيلة الشيخ يعني ربما حتى في وقتنا الحاضر قَلّ أن تجدها في امرأة.
الشيخ صالح : قَلّ أن تجدها لكن يوجد أصولها ممكن ، وقد اجتمعن في أمهات المؤمنين .
أما السؤال الثاني: لماذا قدم الله الثيب على البكر ؟ هذا لابد أن يقرأ من هذا الباب، الباب ما هو؟ أن الآن الحديث عن امرأتين وقع منهما في حق النبي صلى الله عليه وسلم شيء وهو الحرص طبعا ، لماذا وقع منهما شيء ؟(10/21)
لازم نجيب على هذا قد لا يكون من الحلقة لكن لأنه مناسب. هذه المرأة الآن لو أن امرأة تزوجت أميرا ،إمام مسجد خطيب ،مديرا لشركة وعنده ثلاث أربع نساء ، لتخافن عليه ، معذورات ، كل واحدة تريد أن تظفر بقلب هذا الأمير، لأنهن زوجاته شرعا ، شيء للحصول عليه يعني معذورات ، لأن هذه مما جبلت عليه المرأة ، فطرة فكيف إذا كان التنازع للوصول إلى قلب سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، فلا ريب أن أمهات المؤمنين جميعا معذورات ، فيما يحدث منهن ، معذورات فيما بينهن، وهذا لا يخرجهن عن الحق رضوان الله تعالى عليهن مازلنا يدرن في دائرة المباحات والأمور التي لا يمكن أن تنفك منها امرأة ، لذلك تعجب أحيانا تقول امرأة تبحث لزوجها عن زوج هذا محال ، ولو وقع ، هذا ما هو مقعول يخالف الفطرة ، الذي يعنينا هنا أنا قلت أريد أن أحرر لكن أعود، من أول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ؟ خديجة بنت خويلد وقد كانت ثيبا ، فقدم الله جل وعلا الثيب هنا لأن أول زوجاته ثيب ، هذا تخريج ، وتخرج آخر وهو أننا قلنا نتكلم أن النساء يتنازعن والنضج في الثيب أكمل منه من البكر ، البكر تريد غنج تريد دلال تريد التقرب يقع منها تصرفات أقل نضجا في مجمل النساء ، والثيب أقرب إلى النضج والكمال ، والموقف الآن موقف يحتاج إلى كمال يحتاج إلى عقل إلى رشد إلى تأني فقدت الثيبات على الأبكار .وبالجملة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج إلا بكرا هي عائشة والباقيات ثيبات فتلاحظ أن الآية جاءت لعموم الحال ، الموافق لشخصية نبينا صلى الله عليه وسلم ، والعلم عند الله .
أ.كمال : بارك الله فيكم أيها الأعزاء ، فاصل و نواصل معكم في هذا اللقاء المبارك مع فضيلة الشيخ صالح ابن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة حول وقفاته في سورة التحريم ، ابقوا معنا ونتواصل إن شاء الله معكم .(10/22)
أ.كمال: مرحبا بكم مجددا أيها المستمعون الكرام والأخوات المستمعات الكريمات معنا في برنامج معكم على الهواء من استديوهات الإذاعة بالمدينة المنورة ، في هذه الحلقة التي نلتقي فيها بفضيلة الشيخ صالح ابن عواد المغامسي إمام وخطيب مسجد قباء بالمدينة المنورة في هذه الوقفات مع سورة التحريم من سور القرآن الكريم ، مجددا نرحب بك فضيلة الشيخ فحقيقة كانت وإضاءات جميلة جدا ، والتواصل من قبل الإخوة المستمعين والمستمعات كبير هناك بعض الأسئلة من بعض الأخوات بعيدا عن هذا الموضوع نوعا ما ، أخت سائلة تتساءل حول أذكار حصن المسلم هل هي صحيحة أو يتم حفظها ، يعني ربما أجبنا سريعا حول هذا .
الشيخ صالح : حصن المسلم كتاب لأخينا الشيخ سعيد بن وهف القحطاني ، وفقه الله تعالى ورعاه ، وقد نفع الله تعالى بهذا الكتاب خلقا كثيرا ، نرجوا الله تعالى أن يتقبل من الشيخ هذا العلم ، والذي أعرفه أن الشيخ يتحرى الصحيح في تلك الأذكار ، وأما حفظها هذا الأصل لكن لا يلزم بها كل أحد ، لأن الذي يتعبد بحفظه ضرورة هو القرآن .
أ.كمال : سور القرآن تسأل توقفي أم اجتهادا من الصحابة ، وطبعا لا أدري بعض الأسئلة .
الشيخ صالح : المسألة خلافية لكن الأرجح عندنا أنها توقيفية ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : اجعلوا الآية في مكان كذا وضعوا السورة في مكان كذا فالأصل الذي يترجح أن ترتيب السور القرآن ترتيب توقيفي وأن زيدا رضي الله تعالى عنه لما أوكل إليه الشيخان جمع المصحف رتبه بما استقر عند الصحابة من ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم له .
أ.كمال : عليه الصلاة والسلام ، أخيرا سؤال يعني أنه غير واضح لكن تقول : هل هناك ربط بين معاني كل سورة وأخرى أو يعني مسمى كل سورة .(10/23)
الشيخ صالح: على وجه الإلزام لا ، لكن العلماء استقرؤا هذا فبعض الأمور ظاهر فيها الربط ، مثل أن الرب تبارك وتعالى قال في خاتمة طه :(مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) فتأتي السورة التي بعدها سورة الأنبياء وقد قال الله فيها : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ) فقالوا كأنه يحدث تساؤل متى هذا الحساب ؟ فجاءت آيات الأنبياء (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ )، كذلك في الربط بين سورة الفيل وسورة قريش ، الله جل وعلا يقول : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)إلى أن قال (فجعلهم كعصف مأكول) ممكن أن يقال : (لإيلاف قريش) إي إكراما لقريش هذا الربط مقبول ، كذلك تتابع سورة التحريم بعد سورة الطلاق له وجه من الاستقراء صحيح ، لكن لا يلزم ربط ذلك بالمصحف كله .
أ.كمال : مسميات السور فضيلة الشيخ سورة النبي .
الشيخ صالح : سورة النبي لكن الاسم التوقيفي سورة التحريم الثابت ،أما غير ذلك فاجتهاد بعض المفسرين في نقولات عن ابن عباس لكنها لا ترقى إلى مستوى الصحة .
أ.كمال : إذا أيها الأعزاء نتابع معكم هذه الوقفات لضيفنا الكريم فضيلة الشيخ صالح المغامسي مع سورة التحريم ، فضيلة الشيخ نريد أن ننتقل إلى إطلالة لغوية ، ويعني أنتم من من تمضغون الشعر ولكم يعني حتى دراستكم كانت في اللغة العربية ، هذه الإطلالة اللغوية حول قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) ما حقيقة العذر في اللغة ؟
الشيخ صالح : العذر في اللغة : تحري الإنسان ما يمحوا ذنوبه ،وأهل الصناعة اللغوية يقولون إن له ثلاثة أضرب:
الحالة الأولى : أن يقول الإنسان لم أفعل .
الحالة الثانية: يقول : يحاول أن يخرج من القضية يقول فعلت لأجل كذا ، فيذكر ما يخرجه من كونه مذنبا .(10/24)
والحالة الثالثة : أن يقول فعلت ولا أعود .أي يقر ، وهذا الثالث من أنواع العذر هو الذي يسمى التوبة .
فيتحرر من هذا أن كل توبة عذر وليس كل عذر توبة ، فإذا قلت اعتذرت إلى فلان يعني قد أتيت بعذر ، وإن قلت عذرت فلانا أي قبلت عذره ، إن قلت اعتذرت إلى فلان أي أتيت بعذر ، وإن قلت عَذَرت فلان أي قبلت عذره ، وتعرف أستاذ كمال أن العرب في جاهليتها كان منهم شعراء المعلقات والتصق العذر بشعر النابغة الذبياني ، فالنابغة الذبياني له معلقة مطلعها :
يا دار مية بالعلياء في الصمد ** أطوت وطال عليها سالف الأدب
وقفت فيها أصليا كي أسائلها ** عيت جوابا ما للربع من أحد
القصيدة بنيت على أنه يحاول أن يعتذر للنعمان ابن المنذر لما ذكره الواشون عنه وآخر أبياتها :
ها إنها عبرة إن لا تكن نفعت ** فإن صاحبها مشارك نكد
فهذا الرجل أصبح اسمه ملتصقا بالعذر كثيرا ، لأنه فتح فيه بابا واسعا ، وقد كان يقال :"إن أشعر الشعراء النابغة إذا رهب أي خاف لأنه يدفعه ذلك إلى الاعتذار ، وامرء القيس إذا ركب أي إذا أراد أن يصيد ، والأعشى إذا طرب أي إذا شرب الخمر" .
أ.كمال : هل سنواصل الإطلالة اللغوية ؟
الشيخ صالح : الإطلالة اللغوية انتهى ، لكي لا نريد أن نخرج عن روحانية القرآن .
أكمال : هناك اتصالات هاتفية بعد إذنكم .مرحبا أخي الكريم .
المتصل : السلام عليكم ورحمة الله .
أ.كمال : وعليكم السلام .
المتصل : أكلم الشيخ .
أ.كمال : بداية نتعرف عليك .
المتصل : أبو طلال ، من ينبع .السلام عليكم يا شيخنا .
الشيخ صالح : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، حياك الله يا أبا طلال .
المتصل : إني أحبك في الله يا شيخ.
الشيخ صالح : أحبكم الله .
المتصل : نشهد الله على حبك ، و نرجو منك الدعاء للمسلمين جميعا ، وأهمية الدعاء في القرآن .
الشيخ صالح : ابشر يا شيخنا ، الله المستعان .
المتصل : جزاكم الله .(10/25)
أ.كمال : شكرا أبا طلال ، فضيلة الشيخ يعني في سياق قرآني مؤثر يقول المولى جل وعلا في هذه السورة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً) ما المراد بالتوبة النصوح ؟
الشيخ صالح : نعم ، تعرف يا أستاذ كمال الأزمنة ثلاثة :
ماضي ، وحاضر ، ومستقبل .
والإنسان : جنان قلب ، ولسان ، وجوارح .
يريدا الآن صالح وكمال أن يطبقا التوبة النصوح على هذه المفردات التي ذكرناها ، ذكرنا الأزمنة ، إذا وقع من صالح ذنب حتى تكون التوبة نصوح نأتي للأزمنة الثلاث : فالماضي أندم على ما كان مني فيه ، والحاضر أقلع عن الذنب الذي أنا أريد أن أتوب منه ، والمستقبل أعزم على أن لا أعود للذنب مرة أخرى ، وقد قلت أنا في أول اللقاء أنني سأعتمد لغة قريبة من الناس ، الأزمنة ثلاثة : ماضي حاضر مستقبل ، ومن أراد أن يتوب يندم على ما كان منه في ماضيه ، ويقلع في حاضره وقت التوبة ، ويعزم على أن لا يعود إلى الذنب في المستقبل هذه مفردات الأزمنة ، ثم ذكرنا الجنان القلب ، واللسان ، والجوارح ، كيف تكون التوبة نصوح ؟
? يكون في القلب ندم .
? ويكون على اللسان استغفار .
? ويكون في الجوارح ، إقلاع عن المحصية ومسابقة في الخيرات .
يكون في القلب ندم ، ويكون في اللسان استغفار، ويكون في الجوارح إقلاع عن الذنب ، فإذا وجدت هذه كلها مترابطة ، يريد بها العبد إخلاصا في النية والقرب من الله والبحث عن الخاتمة الحسنة ، والسعي إلى رضى أرحم الراحمين ، ورب العالمين ولن يرد بذلك إلا أنه ينخلع من ذنبه ويفيء إلى ربه ، ويعود إلى مولاه ، هذه التوبة الحقة التي تسمى "توبة نصوحا" ، فإذا كان الذنب ملتبس بمظالم الناس فلابد من رد المظالم إلى أهلها .
? ما يتعلق ما بين العبد وربه ، أول ما يقضى فيه الصلاة ، يحاسب عليه العبد أول ما يحاسب عليه العبد
الصلاة .(10/26)
? وأما ما كان بينك وبين الناس فأول ما يقضى في الدماء ، فسأل الله العفو والعافية ، والمعافاة الدائمة في الدين
والدنيا والآخرة وهذا نداء مؤثر كما قلت ، وهذا رب العالمين جل جلاله يقول وهو الملك الأعلى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) وهذا نداء كرامة (تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً).
ثم يبين فوائد التوبة النصوح فيقول : (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) هنا (يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم) السبب في دخول النار المعاصي ، فإذا كفرت المعاصي ومحيت زال السبب الذي من أجله يستحق العبد النار ، ثم يأتي موضع التقريب وهو دخول الجنة (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) الأنهار : هذا من التفسير الإشاري وبالجملة غير مقبول لكن نأخذ منه اقتباسات الأنهار ماء .
أ.كمال : والأمر جائز شرعا ؟
الشيخ صالح : جائز مقيدا ، الأنهار ما فيها ؟ فيها ماء والله يقول : (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) إذا ذكر الماء هنا يشعرك أيها المؤمن وأنت تقرأ القرآن بالحياة الأبدية لأن الماء عنوان حياة يعني الطير عندما يحف حول مكان تعرف أن فيه ماء ، اضح
كحماءم الطير حواما على الماء **
أ.كمال : جُرْهُم عندما .(10/27)
الشيخ صالح :جرهم عندما جاؤا ، بارك الله فيك استحضار تاريخي فتحت رائع ، عندما جاؤا إلى إسماعيل الآن عندما تقرأ في القرآن تحتها الأنهار يشعرك بالماء يأتي الاستدعاء الثقافي الذاتي القرآني الحديدي سمه ما شئت ، وكله صحيح ، في أنه إذا في ماء يعني حياة أبدية ، رغم أننا متفقون على أن الحياة أبديتان من غير التفسير لإشاري لأن الله يقول : (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) لا يأتي أحد يقول لا داعي لهذه الدائرة الكبيرة ، نعم كلامه صحيح لكنن نقول أنه يستأنس به وإلا المقصود ثابت نصا في القرآن (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) فالجنة لا موت فيها ولا خروج منها أدخلنا الله وإياكم ومن يستمع إلينا الجنة .
أ.كمال : اللهم آمين ، بارك الله فيكم .معنا اتصال فضيلة الشيخ، مرحبا .
المتصل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أ.كمال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، محبكم في الله عبد الرحمن الحسين من الدلم .
أ. كمال : أهلا وسهلا بك أخ عبد الرحمن ، حياكم الله .
المتصل : أسلم على الشيخ صالح ، أسأل الله .
أ.كمال : الشيخ يبتسم ويبدوا أن هناك معرفة وعلاقة .
المتصل : أسأل الله أن يغفر للجميع ، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة ، يارب .
الشيخ صالح : آمين .
أ.كمال : اللهم آمين .
المتصل : وأنا أتمنى من الشيخ صالح حفظه الله ورعاه وحماه وعلى النار حرمه، أن يبين لنا الطرق الموصلة للتدبر بكتاب الله عزوجل ، والأمر الثاني يا شيخ كأني بكم لم تقفوا عند قول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ و َأَهْلِيكُمْ نَاراً) فأتمنى من الشيخ أن يقف عند هذه الآية .
الشيخ صالح : أبشر، وأسلم عليك وعلى أهل الدلم خاصة ، إن شاء الله سنزورهم قريبا ، كما سنزور غيرهم من محافظات في بلادنا .
المتصل : حياك الله يا شيخ صالح ، وبارك الله فيك ، أسعدك الله .
الشيخ صالح : فلم تطلبه أعطيناك إياه ، لو سألتنا إياه لأخرناه.(10/28)
المتصل : الله يجزاك الجنة ووالديك ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أ.كمال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، معنا اتصال آخر .
المتصل : السلام عليكم ورحمة الله .
أ.كمال : وعليكم السلام .
المتصل: حياك الله يا شيخ ، ركان الرفد من الخرج .
أ.كمال : أهلا وسهلا .
المتصل : أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجزيك ويجزي الشيخ صالح ، ويجزي كذلك القائمين على هذه الإذاعة خير الجزاء وأن يثيبكم ويجمعنا وإياكم في جنات النعيم ، من باب المصادفة الدلم والخرج متقاربين فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى وإن شاء الله زار الشيخ جزاه الله خير بما أنه وعد إن شاء الله يزور الخرج .
أ.كمال : لكن من سبقك لم يطلب .الشيخ يقول هناك شروط لقبول الدعوة .(10/29)
المتصل :جزاك الله وخير ، يا شيخ تنبيه مهم الحقيقة أقول محبة النبي صلى الله عليه وسلم من ملتزماتها العظيمة جدا ، محبة زوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، خاصة أنها ذكرت في هذه الصورة العظيمة ، وإذن لابد أن نحب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ونقدرهن ونقدر لهن قدرهن ونعظمن كما عظمهن الله تعالى وعظمهن الرسول صلى الله عليه وسلم ولعلي ألتفت أو ألفت انتباه الإخوة جميعا ، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وأن تكون هذه لفتة مباركة في آخر الآيات قال الله سبحانه وتعالى : (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ولعل أول من يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه زوجاته رضوان الله تعالى عنهن ، وكذلك أصحابه رضي الله تعالى عن الجميع ،فويل ثم ويل لمن تكلم في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أو تكلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وأرضاهم ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى ، وأن يغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين بمنه وكرمه ، جزاكم الله خير الجزاء .
الشيخ صالح : شكرا يا أخ راكان ، جزاك الله خير على هذه المداخلة الممتازة .
المتصل : وإياكم .
أ.كمال : تفضل يا شيخ .
الشيخ صالح : بالنسب للأخ عبد الرحمن قال الطرق الموصلة للتدبر طبعا ثمة طرائق مطلوبة في كل شيء :(10/30)
هو إخلاص النية وحسن القصد ، هذا عظيم ، سؤال الله ذلك ،هذان مطلبان يرادان في كل مقصود ، ثم بعد ذلك العلم بلغة العرب ، والتدبر فيما دونه صالح الأسلاف من أئمة الدين ، وإن في شأن التفسير خاصة هذا من أعظم ما يوصل إلى تدبر القرآن ، كذلك الشيخ راكان يتكلم عن قضية محبة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تكلمنا عنه قليلا ، وهو أدلى كلم طيب في الباب وهو أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك تلزم محبة زوجاته ، صلوات الله وسلامه عليه، وأمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن ولا يتصور مؤمنا حقا يعرف الله واليوم الآخر ، تدبر القرآن وقرأ السنة ، نهل من معين الأحاديث وبعد ذلك يفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته ، ويتقدم بين يدي الله ويختار لنبيه ما لم يختاره له ربه ، أو يبعد ويقصي من أختارهم الله أزواجا كأمهات المؤمنين ، أو أصحابا مثل أصحابه رضوان الله عليهم عن مقام نبينا صلى الله عليه وسلم هذا جهل بالدين وجرأة على الله ومخالفة لنصوص الكتاب ، نسأل الله السلامة والعافية ، ونقول كما قال الله جل وعلا عن الأخيار من قبل : (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) .
أ.كمال: بارك الله فيكم ، فضيلة الشيخ يقول المولى عزوجل في هذه السورة :(يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) تساؤل عن متى يكون هذا الدعاء؟ ، وأيضا حبذا لو كان هناك إطلالة إيمانية شاملة لهذا الدعاء .(10/31)
الشيخ صالح : في هذا الدعاء أيها المبارك ، له زامن وله باعث ولم مكان فأما الزمان فيوم العرض ، وأما الباعث فإنه يكون عندما يطفئ النور الذي يعطاه المنافقون ، فعندما يطفئ النور الذي يعطاه المنافقون في أول الأمر يحدث فصل ، يقول ربنا : (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ) هذا فاصل حسي ، لما وقع الفاصل الحسي قبله أن نور أهل النفاق أطفئ ،فعندما يطفأ نور أهل النفاق يفزع المؤمنون إلى ربهم يقولون : (َقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لكن الذي نريد أن نسوقه لمن يتدبر القرآن حقا ، الآن لاحظ الآية الله يقول عنهم : (أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) ما فائدة كلمة " لنا " هنا ؟ الفائدة أن الإنسان أحيانا قد يملك شيئا لا ينتفع به فخوفا منهم أن يقع ذلك يوم القيامة أسروا ، وقالوا : (أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) فمثلا يبني أحد الناس الأثرياء مبنى سكنيا فارها في منطقة مثلا كأبها ، مصطاف أبها مصطاف بالاتفاق في مكان مرتفع ، ثم إن هذا الرجل بعد أن بناه ، أصابه مثلا مرض في صدره ربو فنهاه الأطباء أن يأتي الأماكن المرتفعة ، فأضحى أهله في الصيف وذوه وقرابته وأصدقائه يذهبون إلى مقره إلى منزله الذي يملكه ، وينتفعون بسكناه وهو لا ينتفع به ، فهو يوجد ملك لكن لا يوجد انتفاع لذلك قال أولئك الصادقون يوم القيامة خوفا من أن يصلوا إلى هذه المرحلة التي لا يبتغون يقولون : (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ) نريد نورا نتفع عبه ، لأن الصراط مدحضة مزلة ، كما قال عليه الصلاة والسلام والخوف الشديد ينتابهم حين يرون أهل النفاق يطفأ ما في أيديهم من نور ، ولهذا أهل النفاق يقولون : (انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) فيقولون لأهل الإيمان : (أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) وأهل الإيمان صادقون في الدنيا صادقون في الآخرة ، لا يقولون لا ،( يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ(10/32)
قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ) فيذكرون كيف أنهم فتنوا أنفسهم ، فجاءت " لكن " استدراكا ، أنكم كنتم معنا بأجسادكم ،ترثوننا نرثكم نقيم عليكم شعائر أهل الإسلام لأنكم تظهرون الإيمان ، لكن يوم القيامة العبرة بالسرائر (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) فلذلك لا ينفعكم ذلك الإيمان الذي اتخذتموه جنة في الدنيا وأنتم كافرون في الأصل ، انظر إلى الصدق (أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى) هكذا المؤمن يقول الحق ثم يستدرك ويبين الجواب إجمالا ، والمقصود : (رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهم يريدون أن يظهروا ضعفهم وحاجتهم ، وتذللهم بين يدي ربهم ، فلم يقولوا استعطافا يبينوا فيه أنهم أهل لأن يتم لهم النور ، وإنما جعلوا من محض القدرة الإلهية استعطفوا ربهم بقولهم : (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
أ.كمال : التمام يكون بعد نقصان .
الشيخ صالح : نعم .
أ.كمال : يعني (أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا) هناك نور لكن .
الشيخ صالح : نقصان لهم أو لغيرهم بل ذهبت بالكلية كما حررنا .
أ.كمال : بارك الله فيكم يا شيخ معنا اتصال .
المتصل : السلام عليكم .
أ.كمال :وعليك السلام أخي الكريم .
المتصل : فهد ، من الزلفي .سؤالي يا شيخ قال تعالى مخبرا عن يوسف والنسوة : (وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) فمن هول المشهد قطعن أيديهن ، ويقول الله تعالى في آية كريم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا) والمعروف عندنا أن الرعب إذا تملك من الإنسان لم يستطيع أن يفعل شيئا لا فرار ولا غيره ، فلماذا في سورة يوسف لم يستطيعن وهنا في الآية الكريمة قدم الفرار على الرعب .
الشيخ صالح : أبشر .
المتصل : جزاكم الله خير .
أ.كمال : وأنت كذلك . إذا تجيب على التساؤل .(10/33)
الشيخ صالح :الأخ فهد من الزلفى أولا أحيه ، وأسأل الله أن يوفقنا وإياه ، طبعا طرح ، تساؤل عن قول الله تعالى (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) الجواب يا أخ فهد المواقف قسمان :
مواقف جلال . ومواقف جمال .ولهذا الله جل وعلا يوصف بأن له كمال الجلال وكمال الجمال ، فكمال الجمال : يحدث في القلوب تأثيرا يصيب الدهشة ، وتأثير الجلال : يحدث تأثيرا في القلوب يصيب بالرعب ،فهؤلاء النسوة الموقف الذي رأينه كان موقف جمال لا موقف جلال ،وإنما أكبرن جماله فلهذا دهشن ، وانشغلن برؤيته عن ما في أيديهن ، ولهذا قال الله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) فقوله (إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) قرينة على أن الموقف موقف جمال .
أما في سورة الكهف فإن الموقف موقف جلال رعب ، طبعا كثير من الناس يتساءلون كيف المفروض أولا يصيبهم الرعب ثم يصيبهم الفرار ؟ كأن الموقف من شدته أحدث في نفوسهم إنصرافا ، قبل أن يتملكهم الرعب ، أي حتى الرعب لم يعد بعد يخالط قلوبهم إلا واتخذوا قرار الفرار من هول ما رأوا ، هذا أفضل ما قيل والعلم عند الله .
أ.كمال : معنا اتصال يا فضيلة الشيخ .
المتصل : السلام عليكم ورحمة الله .
أ.كمال :وعليكم السلام ورحمة الله .
المتصل :أولا فضيلة الشيخ صالح المغامسي أشهد الله أني أحبك في الله .
الشيخ صالح :أحبك الله .
المتصل :أنا شركة الشركة طلب مني مالا لكي أشتغل بعد ما اشتغلت بعد فترة وجيزة وانفصلت من العمل ، والآن أنا فتحت مشروع وكلمت واحد من الشباب يقول إنت الآن بدأت فلوس ربا وكذا والمشروع هذا ما يجوز أنك تفتحه لأن الفلوس فلوس ربا ،هذا سؤالي و جزاك الله .
الشيخ صالح : ماذا يقصد بربا ، أنت اشتغلت في شركة مباحة ، لكنك دفعت مالا من أجل أن تصل إلى الشركة ، صح ؟؟(10/34)
المتصل : أيوا ، وهو كلمني قال ادفع فلوس عشان تشتغل معي .
الشيخ صالح : صاحب الشركة أخذ منك مبلغ من المال ؟
المتصل : مسئول في الشركة .
الشيخ صالح : يعني أشبه بالرشوة مثلا ؟؟
المتصل : هو قال أدفع فلوس واشتغل معي .
الشيخ صالح : دفعت أنت فلوس ثم اشتركت، ثم فصلت .
المتصل : اشتغلت أربع شهور خمس شهور ، حوش مبلغ كدا حولت مشروع وتركت الشركة .
الشيخ صالح : المال ليس إثما ، يعني ليس إثما عينا ، ومادام ليس إثما في عينه فمشروعك الأخير لا علاقة له بالأول ، أنت إذا كان الموضوع لم يتبين لي إلى أي حد طب منك المال لكن أسوء الاحتمالات أنه رشوة ، ويكون عليه إثم عليك وعليه ، بعد ذلك قيامك بالمشروع لا يعد محرما ، وامضي فيما أنت فيه ، واعتنى بغناء الله تبارك وتعالى لك وامضي في مشروعك ، ولا يقال ما بني على باطل فهو باطل ، لا ينطبق هذا على ما أنت عليه ، أسأل الله أن يوفقك ، وأن يغنيك بحلاله عن حرامه ، وأن يغنيك بفضله عمن سواه .اسمك راشد أسأل الله أن يرزقك الرشد في الدنيا والآخرة
أ.كمال : آمين ، فضيلة الشيخ نواصل الوقفات والوقت بدأ يزحف كثيرا نحو أذان المغرب بالتوقيت المحلي بمدينة الرياض ، ختم الله جل وعلا هذه السورة المباركة بثلاث آيات فيهن ضرب الأمثال سنتعرض لهذه الخاتمة المباركة عبر ثلاثة محاور إذا سمحتم ما المراد من ضرب هذه الأمثال أولا ؟ وماالذي تعنيه ؟(10/35)
الشيخ صالح : الله جل وعلا جعل في القرآن موعظة لقلوب عبادة المتقين الأبرار ، وثمة طرائق جاءت في القرآن ينجم عنها أعظم الهدى للناس ومن ذلك ضرب الأمثال ، فضرب الأمثال يراد به تقريب الأمر للصالحين والمتقين ، ومن ذلك أن الآية تتحدث عن نسوة وهن أمهات المؤمنين ، فختمت الآيات بالحديث عن نسوة ، فضربت أمثال المقصود منها أن الإنسان إيمانه الحق في قلبه ، فلو أجبره ظرف ما على يقع مؤمنا بين يدي كفار فإن الإيمان إذا كان في قلبه متأصلا فلا يضره قربه من الكفار ، هذا مثاله : امرأة فرعون ، كما أنه على الضرب الآخر أن الإنسان إذا مليء قلبه كفرا بالله وبعدا عن الله ونفاقا في دينه فمهما قرب من الصالحين ومهما غدا معهم جنة ووقاية لنفسه فإن ذا لم ينفعه عند الله جل وعلا كما هو لحال في امرأة نوح وامرأة لوط ، والمقصود من ضرب المثلين كله أن الرب تبارك وتعالى يضع أمام النساء على وجه الخصوص قدوات ينظرن إليها ويتأسين بها ، ويبين الله جل وعلا أن العبرة كل العبرة بالإيمان به تبارك وتعالى وأن يكون القلب مذعنا لله جل وعلا مؤمن به ذا يقين عظيم للخالق ، محبا لربه وموالاه ، أما صلته بمن حوله فهذه تحكمها ظروف كثيرة ولا يمكن جمع الناس على حال واحد ، فقد وقع النجاشي مثلا في بلد كان أهلها لا يؤمنون بالتوحيد ، وقد يوجد كعبد الله ابن أبي ابن سلول ظروف سياسية أجبرته على أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، لقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ويحضر خطبته مع ذلك لم ينفعه ذلك شيئا ، فالمقصود من ضرب الأمثال عموما إظهار الطريق المحجة ، وإقامة الحجة على العباد .
أ.كمال : ما سبب التنصيص بأربع الشخصيات من النساء التي وردت في الآيات الثلاث ، ولو أعطينا نبذة بسيطة من كل واحدة منهن .(10/36)
الشيخ صالح : نعم ، لاحظ الآن هناك امرأة نوح ولا أريد أن اسميها قال بعض المؤرخين أنها لكن لا دليل عليه نسكت كما لم يذكر الله ، وامرأة لوط ، وهناك مريم ، وهناك آسيا بنت مزاحم امرأة فرعون ، هذا الضرب إذا تأملته وجدته على النحو التالي :
مريم لا زوج لها ، وآسيا لا ولد لها ، وامرأة نوح وامرأة لوط لها أولاد ، إذا الأمثلة مضروبة للعموم لكل امرأة فالمرأة إما أن تكون : زوجة أو لا تكون زوجة ، أو تكون زوجة لها ولد ، أو تكون زوجة ليس لها ولد ، فجميع النساء يدخلن في القضية لا تبقى امرأة خارجة القضية .
الأمر الثاني: مريم عليها السلام ذكرت في القرآن في سبعة مواضع صريح ، في حين أن غيرها لم يذكر كثيرا يعني بعضهن ذكر كامرأة فرعون وامرأة نوح وامرأة لوط لم يذكرا ، إلا امرأة لوط ذكرت في قضية عموما : (إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) هذا أمر .
كذلك نلحظ في هذا السرد التاريخي لهن أن امرأة نوح وامرأة لوط الخيانة كانت خيانة في الكفر ، بمعنى أنها أظهرت الإيمان لزوجها وهي كافرة ، هذه خيانة وليس خيانة فراشا كما حررنا في أول اللقاء فمحال أن يجعل الله من إحدى زوجات أنبيائه خائنة له فراشا لأنها هذا يعتريه بمثل ما يعتريه وأنبياء الله منزهون مبرؤون بتبرئة الله لهم عن ذلك كله ، لأنهم أكمل الخلق عليهم السلام ، كذلك مريم عليها السلام قلنا لم تتزوج ، وامرأة فرعون تزوجت ، امرأة فرعون قال بعض المؤرخين إنها ليست التي التقطت فرعون قالوا لأن الزمن بينهما قرابة ثمانين عاما وليست الذي التقطت موسى قالوا إن الزمن بينهما قرابة ثمانين عاما ، وهذا عندي بعيد ، وأرجح والعلم عند الله أنها هي التي التقطت موسى لأن سياق القرآن واحد ولم يأتي تفريق بينها .(10/37)
امرأة نوح وامرأة لوط لم يستفيدا شيء من إيمان زوجهما ، وامرأة فرعون لم يضرها شيء عناد وكفر زوجها ، ومريم عليها السلام ، نشأت في بيت صالح ثبت على ما كان عليه الصالحين وهي مثال لمن ينشأ في أسرة خيرة كيف يحافظ على ذلك الخير .
أ.كمال :بارك الله فيكم ، المحور الثالث والأخير حول النسوة اللاتي وردن في هذه الآيات قال الله تعالى في حق أمرة نوح وامرأة لوط (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) وقال الله في حق مريم (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) نلحظ أنه لم يقل " ادخلا النار مع الداخلات " ولم يقل أيضا في حق مريم " وكانت من القانتات " يعني بحكم أنها أنثى ما توجيه هذا السياق في القرآن الكريم ؟
الشيخ صالح :هناك توجيهان :
0 توجيه يقول – وهؤلاء أصحاب هذا التوجيه نريد أن ينفك المسألة- قالوا :المسألة نزلت تغليب ، والتغليب بلا شك ظاهر في القرآن ، وعندي أن هذا بعيد .(10/38)
0والأكمل أن يقال ما يلي وسأحاول قد المكان تقريبه لمن يسمع ، الآن الأصل كما يعلم كل أحد أن المرأة تبع لزوجها هذا أمر ينطيق عليه جميع الشرائع ولذلك أنت ترى في الحضارة المعاصرة مثلا المرأة تنسب إلى زوجها مثلا حتى مثلا فتنسب إلى بيت زوجها لأن هذا متفق عليه أن المرأة تبع ، وكذلك في الدين الله جل وعلا يقول (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ) والذرية تأتي من الزوجة من الأهل ، واضح هذا ،إذا وضح هذا نلحظ أن امرأة نوح و أمرأة لوط المؤمنون والمؤمنات خارج البيت النبوي ، خارج بيت نوح وخارج بين لوط آمنوا على العموم يعني وتبعوا نوحا ومع ذلك هي التي المفترض أن تكون تابعة لزوجها لم تؤمن فلما لم تؤمن يا أستاذ كمال هذه المرأة سواء كانت امرأة نوح أو امرأة لوط لم تؤمن كأنها خرجت من التبعية لزوجها فكأنها تقول أنا أشبه بالرجال أنا شخصية مستقلة ليست امرأة اتبعك أيها الزوج أيها النبي فلما تبنت هذا الموقف مع نبيها وزوجها في المقام الثاني عاملها الله معاملة الرجال أنت تقولين أنا شخصية مستقلة وهذا النبي أنا لا أريد أن اتبعه إذا ادخلي النار مع الداخلين مع الرجال ، لا حظ " مع " .
أ.كمال : مع قومك.(10/39)
الشيخ صالح : مع قومها ، لكن مع الداخلين يعني مع الرجال ، يعني كأنك أنت تريدين أن تنفكي من تبعية زوجك تريدين أن تصبحي كأنك رجلا مستقلا إذا أنت مع الرجال الذين في النار ، في حين قال في مريم ، ما قال " مع " قال "من" قال (وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) المرأة نتفق جميعا بنص السنة أن يعتريها من النقص ما يمنعها من كمال العبادة ، " مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ " يعتريها حيض يعتريها نفاس يمنعها من كمال العبادة ، والرجل المؤمن التقي النقي لا يأتي بشيء عارض يمنع من كمال العبادة ، الرجال كمال العبادة والقنوت عندهم من حيث الجملة أكمل لأنه لا شيء يعتريهم بخلاف المرأة ، هذه الصديقة كان إذا جاءها الإعتراض القدري من حيض ولم يأتها نفاس إلا مرة واحدة فإنها عليها السلام كانت تعوض ذلك بالاجتهاد في العبادة، حتى أصبحت تنافس الرجال في العبادة ،تنافس الرجال في ماذا ؟تنافس الرجال في الوصول إلى مراتب الكمال ، ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء " وعد منهن مريم فالمرأة هذه لما خلعت عن نفسها في الطاعة فقط رقة الأنثوية ولم تعتذر بما يعتريها ما يعتري النساء من نقص ، ولحقت بركب الرجال ووصلت حد الكبار من الرجال من أهل الصلاح الذين لا يمنعهم شيء من العبادة ، قيل لها "وكانت من القانتين " ولا حظ بتعبير القرآني لم يقل " مع " لكي لا يحصل الاختلاط ، قال " وكانت من القانتين "أي معدودة فيمن وصل إلى مرحلة الكمال في القنوت ، بمعنى الطاعة ، في طاعتهم لربه تبارك وتعالى ، هذا الذي يتحرر لي ، وقد قلته بلغة بسيطة ، لكن المقصود ليس إظهار بلاغة المقصود نفع العباد .
أ.كمال : لا فض فوك ، أحسنت وبارك الله فيك ، معنا اتصال .
المتصل : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
أ. كمال :السلام عليكم .(10/40)
المتصل :جزاكم الله خير على هذا البرنامج ، ونشهدك يا شيخ أننا نحبك في الله ، أنا لدي استفسار لكن خارج الموضوع ما أدري إذا في إمكانية .
الشيخ صالح : تفضل تفضل .
المتصل :الاستفتاء بخصوص المشاغل الخياطة الرجالية هل أتحمل وزر في موضوع إسبال الثوب إذا فتحت مشغل رجالي .
الشيخ صالح : نحن
المتصل : بما يخص المشاغل الرجالية هل أتحمل وزر وإسبالها وإطالة الثياب ، بالنسب للزباين ؟
الشيخ صالح : نعم ، إن شاء الله ما تتحمل ، ولكن تخبره بذلك .
المتصل : علما بأني سأضع الدليل الحديث بشكل لا فت داخل المحل .
الشيخ صالح : لا تتحمل شيء .وقد لا يحسن نشرها للناس ، لكن من حيث الجملة لا تتحمل شيء .
المتصل : الله يجزاك خير ، ونطلب منك الدعاء يا شيخ .
الشيخ صالح : الله المستعان ...
أ.كمال : اتصال آخر بعد إذنك يا شيخ .
المتصل : السلام عليكم .
أ.كمال : وعليكم السلام .
المتصل :أبوعبد الله من الدمام ، قد تكونوا مررتم على لآية ولكن ما سمتعتها (عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ) ولماذا نص على المسلمات مع أنه لا يمكن أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلمة يعني مقام النبوية هذا سؤال ، والسؤال الآخر : قوله سائحات ما معناها ؟
أكمال : الشيخ طبعا تعرض يمكن لم تسمع من بداية الحلقة .
الشيخ صالح : سائحات بمعنى مهاجرات عل الأظهر ، وقيل بمعنى صائمات ، وأما النص على مسلمات فالآية تتكلم عن شرف هؤلاء النسوة ولا شرف أعظم من الإسلام فبدأ به ، لأنه الظاهر ، وأما القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن له أن يتزوج إلا مسلمة هذا فيه نظر ، لأنه يوجد في دليل شرعي يمنع من أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم كتابية ، بل لما تزوج صفية ، ارتاب الناس هل كانت مسلمة أو لا .
أ.كمال : في سؤال آخر .
المتصل : نعم ، لكن أليس هذا مدخل بعض الفرق في لمز أمهات المؤمنين .(10/41)
الشيخ صالح : إذا جاء الإنسان يجيب أن يحرر من الضغوط الخارجية ، فالحق لا يحتاج إلى مواراته لأن أحد من الناس أو طائفة من الناس الفرق تلبسن به وجه ، لا يهمنا من فهم خطأ نحن نأتي بالدين كما أنزل ، ونقول القرآن كما أنزل ، ونذكر السنة كما صحت فإذا تلبث بها أحد من وجه لو أراد أن نخاف من هذا ونخاف من هذا كمن يقشر شيء خوف من كذا خوف من كذا فلا يبقى معه شيء لكن أقدم الدين كما هو فضلالهم على أنفسهم إذا سقمت أفهامهم وأصاب الدغل قلوبهم فهم لا أسف عليهم لكن نحن نقدم الدين كما جاء، الله جل وعلا يقول مسلمات فنقول مسلمات وليس في هذا لمز لأمهات المؤمنين قد بينا أن هذا لم يقع فالله جل وعلا أختارهن أزواج لنبيه صلى الله عليه وسلم والله أعلم ما يختار لنبيه ، ولم يقع شيء من هذا الطلاق والله يعلم أنه لن يقع ، ولم يقع شيء من هذا.
المتصل : جزاك الله خيرا .
.كمال : شكرا يا أبى عبد الله ، أيضا الشكر لجميع المتصلين ، وسعداء بكم فضيلة الشيخ ، الوقت بدأ يدركنا ، سورة توقفتم عندها وقفات مضيئة حقيقة ، والسورة كما تعرضتم في بداية هذه الحلقة تتناول شؤون تشريعية في ديننا تعالج قضايا وأحكام تتعلق ببيت النبوة وبأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ،وذلك في إطار تهيئة البيت المسلم والنموذج الأكمل للأسر السعيدة ، قبل أن نختتم هل من كلمة أخيرة فيما يتعلق بالاستفادة من هذه السورة ، فما يتعلق بحياتنا الاجتماعية والأسرية .
الشيخ صالح : القرآن نور وجعله الرب تبارك وتعالى هدى وموعظة لعباده المتقين وأوليائه الصالحين .
? منهم من ينظر إليه نظرة تشكيك نسأل الله العافية .وهؤلاء لا يرفع الله لهم رأسا .(10/42)
? وأما من أقبل إليه إقبال من يعلم أن هذا كلام الله ووعده ووعيده ، ونور أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، أتاه الله جل وعلا الفضل العظيم والخير الوفير ، وقد قال الرب تبارك وتعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) وهذه سورة كريمة سورة عظيمة من سور القرآن
الكريم لا صالح ولا غيره يستطيع في أيام ولا لليالي أن توفيها حقها وأن يخرج ما فيها من قبسات لكن هذا جهد المقل ، ووفق ما نملكه من آليات وإلا فكلام ربنا أجل من أن يكون فهمه وفحواه كلها في قلب رجل واحد ، والعلم عند الله .
أ.كمال : يبدوا يا فضيلة الشيخ أن الأحبة كثيرون ، معنا اتصال يشير الزملاء في اتصال ؟؟ انقطع الإتصال ، لكن الحمد لله كنا حريصين على استقبال جميع الاتصالات قدر المستطاع ، كان هناك ولله الحمد والشكر يعني في تواصل مع هذه الحلقة ، لكم أسلوبكم المميز وما شاء الله برنامجكم المتعددة والسلاسل العلمية والحلقات تلفزيونيا فضائيا ، يعني الكثير الحمد لله المواضيع التي تعرضتم لها كان فيما يتعلق بالسيرة النبوية وتأملات قرآنية والقطوف الدانية ، والأيام النضرة في السيرة العطرة وغيرها كثير تلك المواضيع لتي مكنكم المولى عزوجل التعرض لها ، الاتصال عاد مرة أخرى نأخذ اتصال .
المتصل : السلام عليكم .
أ.كمال : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، نشهد الله على حب الشيخ في الله .
الشيخ صالح : أحبكم الله .
المتصل : ودي أسأل الشيخ ما هو رأيه في قول من يقول أن القرآن ليس معجزا بذاته وإنما هو معجز بأمر خارجي ويقول أن العرب قادرون على أن يأتوا بقرآن لكن الله صرفهم عنه ، وهل قال بهذا القول أحد من أهل العلم .(10/43)
الشيخ صالح : هذا القول ينسب إلى إبراهيم النظام أحد أئمة المعتزلة قال : ( بأن العرب قادرين بأن يأتوا بمثل هذا القرآن لكن إعجازه في أنه الله جل وعلا صرفهم عن أن يأتوا بمثله ) وهذا القول من إبراهيم النظام قول مردود ، بل رده بعض أئمة المعتزلة ـ كالجاحظ وأضرابه من أئمة المعتزلة الذين يوافقون إبراهيم النظام في أصول المذهب ومعدودون معه أنهم من المعتزلة عندهم كتب يردون فيها على إبراهيم هذا لأن القرآن ليس معجزا في ذاته ولكن الله جل وعلا صرف العرب عنه ، والحق أن الله جل وعلا جل أن الرب سبحانه وتعالى جعل القرآن معجزا في ذاته فالقرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم تضمن إعجازا لغويا وعلميا ، بل هو معجز في كل شيء ، فهو كلام الله تحدى الله العرب فيه أن يأتوا بسورة من مثله بل ببعض سورة بل ببعض آية ، بل قال جل وعلا : (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أما أن يوجد عالم معدود من علماء أهل السنة وعرف له قدر في القرآن قال بهذا القول فلا أعرف أحدا قال به ، ولو قال به أحد لرد قوله عليه .
أ.كمال : بارك الله فيكم فضيلة الشيخ ، يبدوا أننا سنختتم هذه الحلقة لأنه تقريبا وقت صلاة المغرب قد يحين بعد دقائق معدودة ، سعدنا بكم وسعدنا بهذه الوقفات التي كانت نبراس مضيئا لنا في حياتنا الأسرية والاجتماعية ، كلام ربنا كله نستقي منه وننهل منه هذا المعين الذي لا ينبض بحول الله ومشيئته .(10/44)
الشيخ صالح : أشكر لكم أستاذ كمال وأشكر لأخي سعادة المخرج ولمساعديه ، وللأخوة الفضلاء في الرياض ، ولمن أكرمنا لأن استمع إلى مثلنا من الإخوة المستمعين والمستمعات ، ينبغي أن يعلم كل أحد أن القرآن فهمه فضل يؤتيه الله من يشاء وإنما الشأن كل الشأن بعد فهمه في العمل به ، فنسأل الله أن لا يخيب رجائنا فيه ، وأن لا يكلنا إلى أحد من غيره ، وأن لا يفتننا بمحبة الناس لنا ، وأن يجعلنا خيرا مما يظن بنا الناس في ويغفر لي ما لا يعلمون عني الناس وهو كثير ، ونسأل الله جل وعلا أن يسترنا جميعا بستره ، وأن يرزقنا الله من فضله الواسع ، وستره الجميلة وأن يعطينا جميعا من عطائه الطيب إن ربي لسميع الدعاء ، ونحن في بلدة مباركة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل نحن كما ترى في وادي مبارك وادي العقيق نسأل الله أن يغفر لنا ويستر عيوبنا وأن يرحم حالنا وعجزنا وضعفنا وكل ذلك عندنا ، وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(10/45)
أ.كمال :عليه الصلاة والسلام سعدنا بكم أيها الأعزاء يا من تابعتم هذا البرنامج معكم على الهواء من هنا من استوديوهات الإذاعة في المدينة المنورة الحلقة كما أشار فضيلة الشيخ من آبار علي بالقرب من وادي العقيق هناك جهود مباركة بحمد الله تبارك وتعالى أن تبدأ حلقاتنا المقبلة بإذن الله ومشيئته من أستوديو الحرم في المسجد النبوي الشريف ، هناك جهود إن شاء الله سوف يدرها القائمون على هذه الإذاعة المباركة لتحقيقها في مستقبل الأيام لا شك أن هناك جهود كثيرة من الإخوة القائمين على هذه الإذاعة وهنا في استوديوهات الإذاعة لتحقيق هذا الأمل المنشود بحوله تعالى ، نشكركم على حسن المتابعة لقاء متجدد يجمعنا بكم إن شاء الله سيكون ربما من أستوديو المسجد النبوي الشريف في حلقتنا القادمة في الشهر القادم ، هذه أطيب التحايا من الزملاء الذين أسهموا في نقل هذه الحلقة إلى مسامعكم لقاء متجدد يجمعنا ، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(10/46)
في مقدمة هذا اللقاء نتقدم بالشكر الجزيل لشيخنا فضيلة الشيخ صالح بن عواد المغامسي على مجيئه وتكبده مع كثرة أشغاله وارتباطاته فأسأل الله عز وجل أن لا يحرمه الأجر والثواب فليتفضل شيخنا مشكوراً مأجوراً ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيهِ وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك لهُ وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبدهُ ورسولهُ صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابهِ وعلى سائر من اقتفى أثرهُ واتبع منهجهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين ..
فحياكم الله في هذا الدرس العلمي الذي عنوانهُ {{ وقفاتٌ علمية مع سورة الزخرُف }}
والطريقةُ سيقرأ أخونا الشيخ عبد المجيد ثم نُعلّق مع كل وقفه وأُعيد وأُكرر أن الدرس وقفات علمية قد يتخللهُ بعضُ الأسئلةٍ لطُلاب العلم الحاضرين لأن المُخاطب بهِ أولاً وأخيراً هم طُلاب العلم .
نعم تفضل شيخ عبد المجيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبدهِ ورسُولهِ نبينا مُحمد وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين
أما بعد
فهذهِ وقفاتٌ علميةٌ مع بعض آياتٍ في سورة الزخرف المقصُود منها الإثراءُ العلمي من هذهِ الآيات المُباركات .
الوقفة الأولى :
وتُعنى بالتعريف بالسورة الكريمة وسبب تسميتها بسورة الزخرف
الحمدُ لله
سورة الزُخرف سورةٌ مكية وهي من سياق سبع سورٍ مُتتابعات تُسمّى هذهِ السور المُتتابعات بسور آل حم كما تُسمّى بديباج القرآن تبدأُ بغافر وتنتهي بالأحقاف كُلهُن مبدوءة بقول الله جل وعلا ( حم )
سبع سور مُتتابعات تُسمى ديباج القرآن لأنها لم تتضمّن أحكاما كُلهُن مكية صُدرت جميعاً بـ ( حم ) بعضُ أهل الفضل يقول الحُواميم والأفضلُ أن يُقال سورُ آل حم ..(10/1)
وسببُ تسميتها بسورة الزخرف لورود كلمة الزخرف فيها وكلمة الزخرف إضافةً إلى ورُودها في هذهِ السورة لبيان حقارة الدُنيا وردت كلمة الزخرف في القرآن قبل سورة الزخرف ثلاث مرات في ثلاث مواضع :.
قال الله جل وعلا في الأنعام : ( يُوحي بعضهُم إلى بعضٍ زُخرف القول غُرورا ) .
وقال تباركت أسمائهُ وجل ثنائهُ في يونس : ( حتى إذا أخذت الأرض زُخرفها وازيّنت ).
وقال تبارك وتعالى في الإسراء : ( أو يكون لك بيتٌ من زُخرف فترقى في السماء ولن نُؤمن لرُقيك حتى تُنزل علينا كتاباً).
وورد كلمة زخرف في الإسراء وفي يونس وفي الأنعام ووردت في هذهِ السورة المباركة وبها سُميّت سورة الزخرف .
الزخرف في اللغة: كمال الزينة مع الحُسن ، وإذا قيل شيءٌ مُزخرف أي شيءٌ مُزين .
أُعيد
ما هي السُور التي تُسمّى ديباج القرآن ؟
سكت القوم
آل حم تبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف وسُميت بآل حم لأن كُلهُنّ تبدأ بـ (حم ) وخلُوها من الأحكام يدلُ على أنها سورٌ مكية ، خلُوها من الأحكام يدلُ على أنها سورٌ مكية .
نعم
الوقفة الثانية :.
مع قول الله تعالى ( إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون )
وسيفُصّل الشيخ حفظهُ الله حول معنى الفعل جعل في القرآن .
تسمعون بالمعتزلة وهي فرقة تقول ــ تُنسب للإسلام ــ تقوم على بنود خمسة مُعتقدات خمسه عندهم :
نقول تعرفون المعتزلة وأنا هنا أتكلم درس علمي لا ينفع يا بُني أن تقول المعتزلة ضُلاّل المعتزلة بعيدون ، نعم المعتزلة ضُلاّل بعيدون متفقُون لكن لن تستطيع أن تُدافع عن رأيٍ حتى تتصف بصفتين :
1/ تقتنعُ بهِ . 2/ وتفهمهُ .
فلا بُد أن تفهم ما تُدافع عنه ولابُد أن تكون مُقتنعاً بهِ ، فليس كُل شيءٍ فهمتهُ اقتنعت بهِ تفهم الصورة جيداً لكنك لا تقتنع بهم ، تفهم المثال لكنّهُ غير مُقنع .(10/2)
فحتى تكون مُقتنعاً في دفاعك عن أهل السُنة سلك الله بنا وبكم سبيلهُم والرد على المعتزلة لا بُد من أمرين اقتناعُك بمذهبك في طريقة أهل السُنة مع فهمك لأقوالهم وفهمك لأقوال مُعارضيهم حتى تتمكّن .
المعتزلة فرقة لها أمور تقوم على خمس أشياء في الأكثر :
على التوحيد يُسمُنونهُ التوحيد .
والعدل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والمنزلة بين المنزلتين .
من ضمن ما قالتهُ المعتزلة أن القرآن مخلوق وهذا من أعظم خلافهم مع أهل السُنة زعموا أن القرآن مخلوق لهم أدلة منها :
أن الله قال ( إنّا جعلناهُ قرآناً عربيا ) الآية التي بين أيدينا في الزخرف ( حم * والكتاب المُبين * إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً )
ماذا قالوا ؟
قالوا انتُم تُكابرون الله يقول ( وجعل الظُلمات والنُور )
ما معنى (وجعل الظُلمات والنُور ) ؟
خلق الظُلمات والنور. والله جل وعلا يقول ( خلق منها زوجها ) ويقول في آية أُخرى ( وجعل منها زوجها )
ما معنى ( وجعل منها زوجها ) ؟
خلق منها زوجها .
فيقولون في مخاطبتهم لنا علام الكبر الله يقول (إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً) وجعل بمعنى خلق فلماذا تُناكفون وتقولون إنّ القرآن غير مخلوق ، هذا الإشكال ؟
ما العلم ؟
حل الإشكالات هذا .
قبل أن نتكلم عن الفعل جعل نأتي بنظائر حتى لا تُصبح المسألة مسألة عاطفة ، في أفعال وكلمات في اللُغة لا يظهر معناها إلا من سياق الجملة لا يظهر معناها إلا من سياق الجملة ، بمعنى أنها في كل سياقٍ لها معنى في كل سياقٍ لها معنى ولن أقول أمثلهُ فصيحة أنتُم عرب .
الآن أنت واقف وزميلُك يستعجل بك هيا نذهب الموعد فات قلت لهُ أنظرني ،
ما معنى أنظرني ؟ ــ أجيبوا ــ
أمهلني جاء ذكرُها في القرآن ( أنظرُونا نقتبس من نوركم ) ما معنى ( أنظرُونا نقتبس من نوركم ) ؟
أمهلُونا أنتظرُوا علينا حتى نصل إليكم ناخذ منكم نور .
وأضح طيب .(10/3)
الآن تطرح قضية على زميلك يأتيك رجل وأنت عندك ابنه فتاة فيقول لك أُريد أن أخطُب ابنتك منك فقُلت لهُ سأنظُر في الأمر ما معنى سأنظُر في الأمر ؟
أُفكّر فيهِ نظرتُ في الأمر أتفكرُ فيهِ إذاً نظر الأولى غير نظرَ الثانية واضح .
مع أن الفعل واحد وهو ماذا وهو نظر لكن نظرتُ في الأمر عندما تعدت بحرف جر غير نظر من غير تعدٍ لازم هذيك أصبحت بمعنى أمهلني وهنا أصبحت أتفكر وأتدبّر .
قال الله جل وعلا ( أولم ينظُرُوا في ملكوت السماوات والأرض ) يعني يتدبرُوا .
نأخُذ مثال ثاني :
تقول لرجُل إلى ما تنظُر فقال لك أنظُر إلى تلك الكتابة المُعلّقة حلقات كذا وكذا طبعاً أنا ما أشوف المهُم أن مكتوب حلقة الظاهر ما فهمت ما يقول صالح نظرتُ إلى النظر بعين الباصرة الحقيقة بعين الباصرة تقول نظرتُ إليك أي أبصرتُك والفعل هو نفسهُ الفعل ماذا ؟ نظر . واضح الآن طيب .
الله جل وعلا يقول ( لتذكرُوا نعمة ربكم إذا استويتُم عليهِ ) ما معنى استويتُم عليهِ ؟
ركبتُم علوتم .
ويقول وهو أصدقُ القائلين في القرآن ( ولمّا بلغ أشدهُ واستوى ) هل في عاقل يقول ولمّا بلغ أشدهُ وركب ، ما معنى استوى ؟
كمُل نضُج .
ويقول جل وعلا : ( ثم استوى إلى السماء فسوّاهُن سبع سماوات ) هنا ليست بمعنى علا وليست بمعنى كمُل بمعنى انصرف إلى وقصد ، والفعلُ واحد استوى لكن من استعمالهِ عرفنا أن لهُ عدة معاني واضح هاذي .
قلت جنّب العاطفة تماماً
الآن نعود فننظُر لاستخدامهِ في القرآن حتى نحكُم عليهِ فنقول إذا تأملنا الفعل جعل في القرآن وجدنا لهُ أحوالاً تقريباً ثلاثة :
// حالٌ بمعنى خلق وهذا إذا تعدى إلى مفعولٍ بهِ واحد إذا تعدى الفعل جعل إلى مفعولٍ بهِ واحد يُصبح بمعنى خلق قال ربُنا ( وجعل منها زوجها ) أين المفعول ؟ زوج .(10/4)
وقال جلّ وعلا ( وجعل الظُلمات والنور ) أين المفعول ؟ الظُلمات لا يأتي أحد يقول النور النور معطوفه مفعول بهِ واحد فإذا جاء الفعل جعل مُتعدياً إلى مفعول بهِ واحد يُصبح بمعنى خلق .
// وقد يتعدى إلى أكثر من مفعول فإذا تعدى إلى أكثر من مفعول لا يلزم أن يُصبح بمعنى جعل يُصبح بمعنىً يدُل عليهِ السياق قال الله جل وعلا ( وجعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن إناثا ) من الذين جعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن إناثا ؟
المشركون زعموا أن الملائكة إناثاً ثم قالوا أنهُم بناتُ الله تعالى الله عمّا يقول الظالمون علواً كبيرا
الآن هل أحد يفهم أن معنى (وجعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن إناثا) أنهُ معناها أن القرشيون خلقوا الملائكة ــ أجيبوا ــ في أحد يفهم كذا مُستحيل ولا القرشيون أرادوا هذا لكن معنى جعلوا هنا سمّوا ما معنى جعلوا ؟ سمّوا .
أين الدليل ؟ الدليل القرآن يُفسّرُ بعضهُ بعضاً قال الله تعالى ( وإنّ الذين لا يُؤمنون بالآخرة ليسمّون الملائكة تسمية الأُنثى ) وهو قولهم ( وجعلوا الملائكة الذين هم عبادُ الرحمن إناثا ) واضح .
الله جل وعلا يقول على لسان أهل الإشراك في ردهم على نبينا صلى الله عليه وسلم لمّا جاء بالتوحيد قالوا كما قال الله في ص ( أجعل الآلهة إلهاً واحدا ) هل أحد فهم أن معنى قول قُريش كما حكى الله في كتابهِ ( أجعل الآلهة إلهاً واحدا ) أن قُريش تقول إنّ مُحمداً صلى الله عليهِ وسلم خلق الآلهة وخلق ربهُ هذا لا يقول بهِ أحد جعل هُنا ليست بمعنى خلق وإنّما بمعنى صيّر وأتخذ .
نعود الآن نُطبق على الآية التي بين أيدينا
( إنّا جعلناهُ قرآناً عربياً )
عربياً صفة أخرجها لأنها من التابع والتابع يأخُذ حُكم المتبوع لا علاقة لنا بهِ ( إنّا جعلناهُ قرآناً) كم مفعول ؟ ما في علم إلا بلُغة اثنين الهاء وقُرآناً ( إنّا جعلناهُ قرآناً ) أي صيرناهُ قرآناً عربياً واضح .(10/5)
فهُنا ليست بمعنى خلق إنما صيّر وكونهُ مُصيّر لا يعني أنهُ مخلوق هذا بحسب حالهِ من قبل ، فنرجع إلى بقية القرآن ماذا قال عن القرآن ؟
قال ( إنّا أنزلناهُ في ليلة القدر ) وقال ( تنزيلٌ من الرحمن الرحيم ) وقال ( وإنّهُ لتنزيلُ رب العالمين )
ففهمنا أن القرآن منزلٌ غيرُ مخلوق .
واضح فبهذا يُرد على قول المُعتزلة أن جعل بمعنى خلق واضح الآن .
قُلنا تتعدى إلى كم ؟؟؟ إذا تعدت إلى مفعول واحد بمعنى خلق ،، وإذا تعدت إلى مفعولين ننظر إلى السياق فأحياناً تكون بمعنى سمّى وأحياناً تكون بمعنى صيّر واتخذَ ثم يكون ذالك المُصير والمُتخذ بحسب حالهِ من قبل .
ومُحكم القرآن يُثبت أن القرآن مُنزلٌ غيرُ مخلوق ومن أدله أُخرى إحنا سنرُد على المعتزلة و إلا فالأدلة أكثر :
أن الله جل وعلا من صفاتهِ أنهُ يتكلم بما شاء متى شاء إذا شاء والكلامُ صفةٌ من صفاتهِ والكلامُ في الذات كالكلام في الصفات ، والكلام في الصفات كالكلام في الذات ، فكما أن للهِ ذاتاً ليست كذات غيرهِ فلهُ جل وعلا صفات تليقُ بجلالهِ وعظمتهِ ليست كصفات غيرهِ وهو جل وعلا يتكلمُ بما شاء فالكلامُ صفةٌ من صفاتهِ والقرآن من كلامهِ بنصّ كلامهِ قال جل وعلا ( فأجرهُ حتى يسمع كلام الله ) الله يقول (حتى يسمع كلام الله ) فثمّ القرآن كلامهُ ولا محيد عن كلام ربنا والعرب تقول أو أهل الأصول يقولون :
والاجتهادُ في محل النصِ
كتارك العينِ ــ لماذا ؟ قُلتها مراراً في الدرس هذا
والاجتهادُ في محل النصِ
كتارك العينِ لأجل القصِ
ترى أيُها المباركون العلم فهم وأنتُم بإذن الله أفهم مني بس فقط أنا عارف ماذا أريد أن أقول وأنتم تعرفون لا تدرون الدرس عن ماذا .(10/6)
ليس الفرق يعني أنتُم أي شخص لو جاء يتكلم مكاني في شيءٌ يعرفهُ سأقف أنا كما تقفون أنتُم فلا تعجل في العلم يعني لا يُصيبك شيء من اليأس والا بس العلم يحتاج إلى صبر مهما قبل أن أنتقل للوقفة الثانية أنا أعطي فائدة في قضية الصبر :
السيل من النُقط ــ قبل أن أشرح والاجتهادُ في محل النصِ ــ بس يحتاج إلى حتى تجمّعهُ
تعرفون أبا حنيفة رحمةُ الله تعالى عليه إمام عظيم كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة بعد ذالك يتيم أُمهُ كانت تقول لأبنها الذي هو يعقوب أبو يوسف كنيتهُ يأبى يوسف مُكنىً وهو صغير لأنهُ يتيم تأتيه عند حائك خياط تبيه يتعلم هذا يعطيه دانق دانق ما يُذكر في ذاك الزمان ريال هلل ريال قروش الآن دانق في اليوم بس أهم شيء يجيب أكل لقمه في ذالك اليوم وراضية أبو حنيفة كأنهُ جلس عندهُ مرة مرتين توسم فيهِ الزكاة صار ياخذُهُ من الحائك يضعهُ في الحلقة صار خصام بين أم الولد بين أم أبي يوسف وبين أبو حنيفة فجاءت أمام الناس أنت ما ضيع ولدي إلا أنت و .. سبتهُ قال أبو حنيفة من مثل أبو حنيفة في الفراسة قال اذهبي عني يا رعناء أن ابنكِ يأكُل ــ ذحين شوف فقير يتيم ضعيف ما عنُ دانق جالس في حلقة الشمس فلقتهُ ــ قال إن ابنكِ يأخذُ الفالوذج بدهن الفستق ،، الفالوذج نوع من الحلوى في ذالك الزمن ما يوجد إلا عند الأثرياء أما الفالوذج بدهن الفستق ما يوجد إلا في بيت الخليفة مرتين ثلاث أربعة في السنة ما يوجد ما حد شاف .
الآن تقرأ في كتب حقت الطبخ تشوف في القنوات في تلك الأزمنة بالسماع قالت والله إنك شيخٌ خرب لأنها هي تنظُر إلى أمامها لأنهُ ولد ضعيف جالس ما يتيم ويقول لها رجل كامل قواه العقلية إن ابنك يأكل الفالوذج بدهن الفستق .
مات أبو حنيفة ، ماتت الأم صار أبو يوسف قاضي القُضاة هو يحكي ماذا يقول ؟(10/7)
يقول والله جلستُ مع الرشيد أمير المؤمنين على مائدتهِ فجيْ بطعامً لا أعرفهُ فقربهُ الرشيد مني وقال يا أبا يوسف كُل قُلت ما هذا يا أمير المؤمنين قال هذا لا يُصنعُ عندنا إلا قليلاً كُل منه هذا فالوذج بدهن الفستق ، قال فضحكت فتعجب الخليفة قال ما يُضحكُك ؟ قال خيراً يا أمير المؤمنين ، قال أخبرني وأخبرهُ بالقصة قال أنا كُنت يتيم وحصل كذا وكذا وقال أبو حنيفة أني أنا جالس أكل فالوذج بدهن الفستق فقال الرشيد رحمة الله تعالى عليه هارون قال لقد كان أبو حنيفة يرى بعيني عقلهِ ما لا يراهُ غيرهُ بعيني رأسهِ .
فكُل مجدٍ تُريدهُ لا بُد فيهِ مع التقوى إلى الصبر والله أعلم .
نعم .
الوقفةُ الثالثة :.
مع قول الله تعالى ( وإنّهُ في أم كتاب لدينا لعليٌ حكيم )
وستُعنى هذهِ الوقفة بالمعنى اللغوي لكلمة أُم مع بيان الآية إجمالا .
الله يقول وإنهُ عائد الضمير على من ؟
على القرآن ( في أمُ الكتاب لدينا لعليٌ حكيم )
في يا أُخي أم الكتاب اللوح المحفوظ ، ما أُم الكتاب ؟ اللوح المحفوظ .
وفيهِ أقدار بيد الملائكة مكتوبة بيد الملائكة وبعضُ أهل العلم يقول إنّ ما في أم الكتاب لا يقبل التبديل وهذا حق الذي في أم الكتاب في اللوح المحفوظ لا يقبل التبديل
أمّا المكتوب بيد الملائكة فرُبما أصابهُ بعضُ التبديل وهذا نقول لهُ شواهد قال الله تعالى ( يمحو الله ما يشاءُ ويُثبت وعندهُ أم الكتاب ) ( يمحو الله ما يشاءُ) فيما بين يدي الملائكة (ويُثبت وعندهُ أم الكتاب) أي اللوح المحفوظ .
ما معنى قول الله : ( وإنّهُ في أم كتاب لدينا لعليٌ حكيم ) ؟
نبدأ باللغويات :
الأُم في اللُغة إزاء الأب ، ما الأُم في اللُغة ؟ إزاء الأب ويُطلقُ في حقيقتهِ على الوالدة التي ولدت ثم أنتقل إلى إطلاقها على أكثر من ذالك :(10/8)
تُطلق على الوالدة القريبة وهي أُمك مُباشرةً ،، وعلى الأُم البعيدة وهي مثل الجدات ولهذا يُقال عن حواء أنها أُمنا لأنها ولدتنا أجمعين وإن كانت ولادة غير مُباشرة بعضُ اللغويين كالخليل ابنُ أحمد يقول إن الأُم كُل شيءٍ ضُمّ إليهِ ما حولهُ فهو أم .
أُعيد
كُل شيءٍ ضُمّ إليهِ ما حولهُ فهو أم هذا من الناحية اللغوية .
أمّا كلمة أم في القرآن فوردت على معانٍ عدة نذكرُ بعضاً منها :
1/ وردت بمعنى الأُم التي ولدت ومنهُ قول الله تعالى ( فرجعناك إلى أُمّك كي تقرّ عينُها ولا تحزن ) ولا ريب أن أُم موسى هي التي ولدته هذهِ واحدة .
2/ ورد في القرآن الأُم بمعنى أصلُ الشيء قال الله تبارك وتعالى ( هُنّ أُم الكتاب ) أي أصلُ الكتاب .
3/ وجاءت بمعنى المآل قال الله تعالى ( فأُمهُ هاوية ) أي منقلبهُ إلى الهاوية .
هذهِ كم ؟ ثلاثة .
4/ وجاءت بمعنى الضئر ما الضئر ؟ المُرضع قال الله جل وعلا ( وأُمهاتكُم اللآتي أرضعنكُم ) ليس أُمك التي ولدتك وإن الأُم الضئر هنا المُرضعة هذي كم ؟ أربعة .
5/ وجاءت الأُم مقصُود بها مكة قال الله جل وعلا ( لتُنذر أُم القرى ) .
6/ وأُم الكتاب هي ماذا ؟ الفاتحة أم الكتاب هي الفاتحة .
7/ وأُطلق ذالك كذالك على أُمهات المؤمنين اللاتي هُنّ أزوجُ من؟ نبيُنا صلى الله عليه وسلم .
هذا معنى كلمة أُم في اللُغة على وجه التوسُط..
قال الله تعالى : ( وإنّهُ في أم كتاب لدينا لعليٌ حكيم ) للُعلماء رحمهُم الله قولانِ في معنى الآية :
** قولٌ يقول معنى قولهِ ( وإنّهُ في أم كتاب لدينا لعليٌ حكيم ) أي أن هذا القرآن منسوخٌ في اللوح المحفوظ منسوخ أي مكتوب في اللوح المحفوظ ويدلُ عليهِ قول الله جل وعلا ( فلا أُقسُم بمواقع النجوم وإنهُ لقسمٌ لو تعلمون عظيم إنهُ لقرآن كريم في كتابٍ مكنون لا يمسّهُ إلا المطهرون )
وقولهُ جل وعلا ( بأيدي سفرة كرامٍ بررة ) هذا شواهد .(10/9)
** وقال آخرون ليس المقصود أنهُ منسوخٌ في اللوح المحفوظ وإنما المقصود أن ذكرهُ في اللوح المحفوظ ذكرٌ عليٌ وجلي .
والمعنى الأول والعلمُ عند الله أقربُ للصواب .
نعم
الوقفة الرابعة :
مع قول الله تعالى ( أفنضربُ الذكر عنكُم صفحاً أن كُنتُم قوماً مُسرفين )
وسيُبينُ فيها معاني الضرب في القرآن .
كلمة الضرب في اللُغة تأتي بمعنى النوع والصنف ، وتأتي في اللُغة بمعنى الرجُل الخفيف اللحم القليل اللحم .
قال طرفه :
أنا الرجلُ الضربُ الذي تعرفونني
خشاشٌ كرأس الحية المتوقدِ
علمياً هل يجوز الاستشهاد بقول طرفه أو لا يجوز ؟
يُستشهد بهِ لأنهُ من العصر الجاهلي لكن لو قُلنا في الاستشهاد قال المُتنبي أو قال أحمد شوقي لا يجوز الاستشهاد لأنهم بعد زمن الاحتجاج ، والاحتجاج تقريباً إلى مئة وعشرين سنة .فالجاهليون أقوى حجة بشعرهم فعندما نحتاجُ إلى شيءٍ نستشهدُ بهِ نرجع إلى شعر ماذا إلى شعر الجاهلية .
نعود فنقول هذا في اللُغة .
أما في القرآن فقد ورد الضربُ على معانٍ منها :
السيرُ في الأرض ــ من يأتي بالآية ؟ ــ تفضل
( فإذا ضربتُم في الأرض ) السفر أحسنت
غيرُها
( وآخرون يضربون في الأرض ) أحسنتُم
( فأضربوا فوق الأعناق ) هذهِ التي بعدها ( لا يستطيعون ضرباً في الأرض ) أي سيراً في الأرض هذهِ واحدة .
وتأتي الضرب بمعنى الإيذاء ويكون في القرآن على نوعين ضربٌ بالسيف وهي ما قال أخوكم قبل قليل ( فأضربوا فوق الأعناق ) واضح أنها بالسيف ،،
ويكونُ بالسوط أو بالشيء اليسير أو باليد ومنهُ قول الله تعالى في تأديب النساء ( واضربُهن ) .
وتأتي ضرب في القرآن بمعنى الالتصاق واللزوم قال الله تعالى ( ضُربت عليهم الذلة ) وقال جل ذكرهُ ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ).(10/10)
أمّا هنا ( أفنضربُ الذكر عنكُم صفحاً ) أي أفنُعرض والمقصودُ من الآية أن القُرشيين أسرفوا على أنفُسهم في الذنوب وردوُا كلام الله وكلام رسُولهِ فالله جل وعلا يقول لهم إنّ إعراضكُم ليس مسوغاً أن نترُك إنذاركُم ( أفنضربُ الذكر عنكُم صفحاً ) صفحاً هاذي صفحة العُنق والإنسان إذا أعطى صفحة عُنقهِ لأحد كأنهُ أعرض عنه وإعطاؤك صفحة العُنق لشيء يكونُ بأحد سببين :
إمّا كبراً وهو الأغلب .
وإما تغافُلاً وهو الأقل .
لكنهُ يقع يقع إمّا كبراً وإمّا تغافُلاً يعني يكون الشيء موجود وأنت تتغافل عنهُ لا تعلم عنه .
لكنّ العُلماء هنا اختلفوا في معنى الذكر على قولين :
// قال بعضهم ( أفنضربُ الذكر عنكُم صفحاً ) أي القرآن والمواعظ والذكر.
// ونُسب إلى ابن عباس رضي اله تعالى عنهما أنهُ أراد أن معنى الذكر هنا بمعنى ذكرُ العذاب أي أفنتركُ عذابكم لكونكم كُنتم مُسرفين .
و أياً كان المقصود فإنّ المعنى من الآية إجمالاً يُقارب قول الله جل وعلا ( أيحسبُ الإنسانُ أن يُتركى سُدى ) قريبٌ من قول الله جل وعلا ( أيحسبُ الإنسانُ أن يُتركى سُدى )
نعم
الوقفة الخامسة :
( وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجُلٍ من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك نحنُ قسمنا بينهُم معيشتهُم في الحياة الدُنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ ليتخذ بعضهُم بعضاً سُخريا ورحمتُ ربك خيرٌ مّمّا يجمعون )
(ليتخذ بعضهُم بعضاً سُخريا ورحمتُ ربك خيرٌ مّمّا يجمعون )
الآن تتعلم من الآية أعاننا الله وإياك كيفية الرد على المُخالف .
القرية إذا وردت في القرآن بمعنى المدينة والله يقول هنا ( وقالوا ) أي القرشيون (لولا نُزّل هذا القرآن على رجُلٍ من القريتين عظيم)(10/11)
يقولون إنّ مُحمداً نشأ يتيماً وأولى أن لا يُنزّل القرآن على يتيم وكانوا يقولون يزعمون أنهُ كان ينبغي ــ سوء أدب مع الله ــ أن يُنزّل القرآن على رجُلٍ عظيمٍ من القريتين وقصدُوا بالقريتين مكة والطائف ، وقيل أنهم قصدُوا بالرجلين عروة ابن مسعود والوليد ابن المغيرة أياً كان المقصود من الرجال .
هم يقولون أن مُحمداً لا يستحقُ أن يُعطى النبوة والرسالة ويُختم بهِ الأنبياء فالله جل وعلا كيف رد عليهم ؟
قال( وقالوا لولا نُزّل هذا القرآن على رجُلٍ من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك ) هذا استفهام إنكاري ثم قال بعدها ( نحنُ قسمنا بينهُم معيشتهُم في الحياة الدُنيا )
الآن هم هؤلاء القائلون بهذا القول يعترفون أن الذي وزّع الأرزاق وقسّمها هو من ؟ هو الله .
القرشيون مؤمنون أن الذي قسّم الأرزاق وجعل هذا غنياً وهذا فقيراً وهذا حُراً وهذا عبداً وهذا خادماً وهذا مخدوم وهذا سيداً وهذت تابعاً يؤمنون أن الذي يفعل هذا هو الله ويؤمنون أن الأرزاق من الله فالله يقول لهم ( نحنُ قسمنا بينهُم معيشتهُم في الحياة الدُنيا ).
فإذا كان الله جل وعلا ــ هذا المقصود من الآية ــ مسائل الرفق العادي لم يكلها إليكم فكيف يكل إليكم تقسيم النبوة فهمتُم .
إعطاء النبوة أعظم من إعطاء الأرزاق وقسمة النبوة بين الخلق أعظم من قسمة المعيشة فالله يقول لهم أنتم مقرون أن الأرزاق إنّما قسّمها بينكم هو الله فكيف يُعقل أن تنسبُ إلى الله وتُطالبُ بشيءٍ لا يُمكن أن تنالوه فإذا كان الله لم يكل إلى أحدٍ من خلقهِ أن يُقسّم أرزاق الناس طعاماً وشراباً وإيواءً وسُكنى فكيف يكلُ الله إلى غيرهِ أن يُقسّم النبوة والنبوة أعظم من أرزاق الناس واضح .
( نحنُ قسمنا بينهُم معيشتهُم في الحياة الدُنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ )
كما هو ظاهر اختلاف المال .
(ليتخذ بعضهُم بعضاً سُخريا)(10/12)
سُخرياً هذي بمعنى الخدمة مبرأة من الاستهزاء مبرأة من ماذا ؟ من الاستهزاء .
يعني المقصود أن الله جل وعلا جعل الناس بعضهم لبعضٍ خدم حتى تقوم الحياة فما تُحسنهُ أنت لا يُحسنهُ غيرك وما يُحسنهُ غيرك لا تُحسنهُ أنت لكن تأمل قول الله (نحنُ قسمنا بينهُم معيشتهُم في الحياة الدُنيا) نبه الأدنى على الأعلى نبه بالأدنى على الأعلى .
(ليتخذ بعضهُم بعضاً سُخريا)
ثم قال الله ( ورحمتُ ربك خيرٌ مّمّا يجمعون )
أختلف العلماء في معنى الرحمة هنا والذي أراه والعلم عند الله أن المقصود بها الجنة لأنهُ لا يظهر الفرق بين رحمة الله وما يجمعون إلا إذا كان شيءٌ خالد وشيءٌ غيرُ خالد والجنةُ نعيمُها خالد بخلاف متاع الدُنيا فإنهُ مهما عظم فإنهُ غيرُ خالد.
فيُصبح معنى قول الله( ورحمتُ ربك خيرٌ مّمّا يجمعون ) يعودُ على الجنة في أظهر أقول العُلماء .
قبل أن ننتقل للوقفة التي بعدها نسأل عن مسألة معاني كلمة أُم في القرآن ؟
حاول لا تقرأ لا تُراجع راجع ذهنياً حتى لو ما تُجيب ترى هذا العلم يعني حاول تعني بهِ
تفضل .. من الضئر ؟المُرضعة ،، أُم القرى ما هي ؟مكة .
مُقابل للأب الوالدة ،، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كلكم بدأتُم بالأسهل ،
أصلُ الشيء ( وهُنّ أُم الكتاب ) أحسنت
،، المصير والمآل ( فأمهُ هاوية )على قول هذا .
وقلنا إن الضرب في اللُغة ما هو يأتي على معانٍ منها ::
..... لا هذا في القرآن الآن أنا أتكلم في اللغة النوع وقُلنا غير النوع صح النوع،،
قليلُ اللحم مثلُك يعني الرجل القليل اللحم، قال طرفة :
أنا الرجلُ الضربُ الذي تعرفونني
خشاشٌ كرأس الحية المتوقدِ
وطرفة أحد شُعراء الجاهليين وقُلنا يُستشهد بقولهِ مات صغيراً كم عمرهُ؟ 28 ، 26 .
من غيرهُ من شعراء الجاهلية ؟
عنترة مطلعُ مُعلّقتهِ ؟:
هل غادر الشُعراء من مُتردمٍ
أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
أين كان يسكن ؟ في الجُو القصيم حالياً يعني عين الجوى يقول :(10/13)
هل غادر الشُعراء من مُتردمٍ
أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمِ صباحٍ دار عبلة واسلمي
غيرهُ ؟
أمرؤ القيس ، مطلع مُعلقتهِ ؟
قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ اللوا بين الدخُولِ فحوملِ
غيرهُ؟
أنا أتكلم عن المُعلّقات لبيد ابن ربيعة ، ما الذي يمتاز بهِ لبيد عن بقية شعراء المعلّقات ؟
أدرك الإسلام فأسلم
الحمدُ للهِ الذي لم يأتني أجلي
حتى أكتسيتُ من الإسلامِ سربالا
عُمّر طويلاً يقولون أنهُ وصل إلى 140 عام أو أقل أو أكثر المُهم جاوز المئة حتى ملّ
أنت الحين تخرُج المسجد يُقابلك واحد يجي يسلم عليك أول كلمة يقولها كيف حالك ؟ صح هو طفش من كلمة كيف حالك يقول:
ولقد سأمتُ من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيدُ
ومُعلّقتهُ أقوى المُعلّقات لُغةً نعود يكفي هذا منهُم الأعشى ، ومنهم غيرُ ذالك نكتفي بهِ ونأخُذ وقفةً أُخرى
نعم يا عبد المجيد
الوقفة السادسة :.
مع قول الله تعالى ( ولنّ ينفعكُم اليوم إذ ظلمتُم أنّكُم في العذاب مُشتركون )
حيث تُعنى الوقفة ببيان أحول النار أعاذنا الله منها .
النار هي الخزيُ الأعظم وما فرّ هارب من شيءٍ مثل النار وكلُ بلاء دون النار فهو ماذا ؟ عافية لأن الخزي الأكبر في النار .
هنا الله جل وعلا يُنكل بأهل النار قائلاً : ( ومن يعشُ عن ذكر الحمن نُقيض لهُ شيطاناً فهو لهُ قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهُم مُهتدون * حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين )
ثم قال الله : (ولنّ ينفعكُم اليوم إذ ظلمتُم أنّكُم في العذاب مُشتركون )
المقصود من الآية أن أهل النار عياذاً بالله محرومون حتى من التأسي .
ما معنى التأسي ؟(10/14)
التأسي والتسلي أن يرى الإنسانُ مُصيبة غيرهِ فيتعزى بها عن مُصيبتهِ وهذا من أعظم ما يُهوّن مصائب الدُنيا وأيُ أحدٍ في الدُنيا لديهِ مُصيبة أو أراد أن يرى أحداً أعظم منهُ لوجد ، أو أحداً نظيراً لهُ في مُصيبته لوجد تقول الخنساء وقد فقدت أخاها صخراً :
يُذكّرني طلوع الشمس صخرا
وأذكرهُ لكُل مغيب شمسِ
ولولا كثرةُ الباكين حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن
أُسلي النفس عنهُ بالتأسي
فمن أعظم ما يُخفف المصائب التأسي أن الإنسان يتذكر أن مثلُ هذهِ المُصيبة لكنّ الله جل وعلا حتى هذا النوع يحرمُ أهل النار منه فلا يجدون تأسيه قال الله : (ولنّ ينفعكُم اليوم إذ ظلمتُم أنّكُم في العذاب مُشتركون ) .
مع أن الاشتراك في المُصيبة ينفع في الدُنيا أو لا ينفع ؟
ينفع لكنّ عذاب الآخرة عياذاً بالله لو أشترك فيهِ أهلُ الأرض جميعاً لا ينفع إذاً ما المعنى والمقصُودُ من الآية ؟
نفي وجود التأسي في أهل النار .
نعم
الوقفة الأخيرة :.
مع قولهِ تعالى ( ولمّا ضُرب ابنُ مريم مثلاً إذا قومك منهُ يصدّون )
حيث تُعنى الوقفة بما يلي :
أولاً :بيانُ ضارب المثل.
ثانياً : الجمعُ بين الإفراد والجمعِ في الآيةِ التي بعدها .
ثالثاً : إظهارُ المعنى الأرجح لقولهِ سُبحانهِ ( وإنّهُ لعلمٌ لساعة فلا تمترُنّ بها ).
(واتّبعونِ هذا صراطٌ مُستقيم).
هذه الآيات نختم بها وهي هامةٌ جداً في أن تتصورها علمياً لا يمكن فهم القرآن بغير السُنة بغير السيرة ،
سورة الزخرف قُلنا إنّها سورة مكية من السور المكية سورة مريم وسورة مريم فيها ثناءٌ على من ؟ على عيسى.
أُعيد
من السور المكية سورة الزخرف و من السور المكية سورة مريم و فيها ثناءٌ على عيسى وإخبارٌ أنّ النصارى عبدة من ؟ عبدة عيسى مع ثناء الله على عيسى واضح .
من السور المكية سورة الأنبياء قال الله في الأنبياء ( إنّكُم وما تعبُدون من دون اللهِ حصبُ جهنّم أنتُم لها واردون )(10/15)
كان هناك صراع ما بين النبي صلى الله علية وسلم والملأ من قُريش فذات مرة كان هُناك رجلٌ قرشي اسمهُ عبدُ الله ابنُ الزُبعرا عبدُ الله هذا أسلم بعد ذالك ــ يعني حتى لا أحد يقع فيه ــ أسلم بعد ذالك لكنّهُ قبل إسلامهِ كان بليغاً فصيحاً رجُلٌ ذو جدل فجلس مع المكيين فالمكيون يقولون إنّ مُحمد صلى الله عليه وسلم يقول ( إنّكُم وما تعبُدون من دون اللهِ حصبُ جهنّم) فقال لقُريش الوليد وأبي جهل قال سكتُّم ؟ قالوا سكتنا ، قال لا تعرفون تردون قالوا كيف نرُد !، قال مُحمد ألم يُثني على عيسى قالوا نعم ، قال مُحمد يقول إنّ الآلهة ومن يعبُدها في النار نحنُ نرضى أن نكون مع ألهتنا في النار إذا كان عيسى مع من يعبُدهُ أين ؟ في النار فيكفينا فخراً بكلامهِ أن نكون نحنُ وألهتنا والنصارى وعيسى في النار وكلامُ مُحمدٍ مُتناقض ـ هذا كلامهُ هو ــ يقول لكم إنّ عيسى نبي ومُرسل ومُصدّق ويقول في نفس الوقت إنّ عيسى في النار ففرح القُرشيون بكلامهِ وضجّوا .
الآية فيها قراءتان :
قال الله تعالى : ( ولمّا ضُرب ابنُ مريم مثلاً إذا قومك منهُ يصِدّون ) بالكسر ( ويصُدّون ) الضم معناها يضجّون بالحديث .
فإذا قُلنا أن الآية بقراءة ( يصُدّون ) أصبحت منه أي بسببه .
وإذا قلنا (يصِدّون) بالكسر تُصبح منه هنا أي عنهُ أي يُعرضون عنه .
نعود
لمّا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا وفرح القُرشيون أنزل اللهُ جل وعلا قولهُ : ( إنّ الذين سبقت لهُم منّا الحُسنى أُولئك عنها مُبعدون ) مع أنهُ ليس لعبد الله ابن الزبعرا حُجّة فيما قال لأن الآية لأن تتكلم عن غير العاقل ( إنّكُم وما تعبُدون) .
نأتي الآن للآية
الله يقول ( ولمّا ضُرب ابنُ مريم مثلاً ) من الذي ضرب المثل ؟
عبد الله ابن الزبعرا السهمي ضرب المثل بعيسى .
قال الله (إذا قومك منهُ يصدّون )
أي يضجّون يصدون أي يُعرضون عنك .
((10/16)
وقالوا ) أي في مثلهِم ( أألهتُنا خيرٌ أم هو ) يعني نقبل أن يكون ألهتُنا مثلُ عيسى في الحال قال الله ( ما ضربُوه لك إلا جدلاً ) لأنهُ لا يقوم حُجّة لأن (ما) في قول الله تعالى (إنّكُم وما تعبُدون من دون اللهِ) تدلُ على غير ماذا ؟ على غير العاقل .
لكن يبقى إشكال أين الإشكال ؟
الإشكال إنّ الله قال ( ما ضربُوه ) والواو واو الجماعة ونحنُ قُلنا أن اللي ضرب المثال من ؟ واحد هو عبدالله ابنُ الزبعرا ، كيف الجمع الجمع أن يُقال هناك أمران :
الأمر الأول :
أن العرب جرى في كلامها أنها تُطلقُ الفرد وتُريدُ الجماعة وتُطلقُ الجماعة وتُريد الفرد عندما نقول أن العرب في كلامها تُطلقُ الجماعة وتُريدُ الفرد لابُد من ماذا ؟ لابُد من مثال
لمّا يأتي إنسان يجلس على كُرسي ويقول هذا أسلوب العرب في كلامهم وكُل ما مرّت آية أسلوب العرب في كلامها هذا ما يكفي يأتيك طالب يقول أين الدليل ؟ لأن العلم لا يقوم على العاطفة .
العرب تُطلقُ الجمع وتُريدُ الفرد قال قائلهم :
بسيف بني عبسٍ وقد ضربوا بهِ
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالدِ
معنى البيت : كان هناك رجُل اسمهُ ورقاء ابنُ زُهير جاء رجلٌ اسمهُ خالد فقتل زُهيراً ووالدُ من ؟ والدُ الرجُل الذي اسمهُ ورقاء فغضبت قبيلتهُ بنو عبس فجاء ورقاء هذا ينتقم لأبيه وأخذ السيف وهو رجُل واحد وأراد أن يضرب خالداً لكنّ السيف نبأ ، ما معنى نبأ ؟ أخطأ لم يُصب والعربُ تقولُ لكُل سيفٍ ما أحسن أدبكُم لكُل سيفٍ نبوة و عالمٍ هفوة ولكُل صديقٍ جفوة ولكُل جوادٍ كبوة .
فالجواد إذا عثر قال كبا والصديق إذا بعُد يُقال جفا والسيف إذا لم يُصب يُقال نبأ والعالم إذا أخطأ يُقال هفا ولا يسلم أحدٌ من ذالك .
نعود
معنى القضية :هذا يُريد أن يسخر من بني عبس فجمع ما بين الأمرين الذين يُريد إثباتهُما في القصة قال :
بسيف بني عبسٍ وقد ضربوا بهِ
تكلم عن الجماعة ثم أفرد قال :بيدي ورقاء ورقاء رجلٌ واحد .(10/17)
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالدِ
يعني ما أصاب رأس خالد فهذا من الأدلة على أن العرب تذكرُ الجمع وتُريد بهِ الإفراد .
والأمر الثاني:
قُلنا إنّ العرب تفعل هذا أن الإنسان إذا أيد قولاً يُصبح كالمُشارك فيهِ والجاهليون فرحوا بقول عبدالله ابن الزبعرا فكانوا شُركاء معهُ في القول قال اللهُ جل وعلا ( إن انبعث أشقاها ) وقال ( فعقرُوها ) فذكر فرداً وذكر جماعة لأنهُم كانوا راضين عن صنيع من عقر الناقة واضح.
الذي ضرب المثل هو عبدُ الله ابن الزبعرا قال الله ( ولمّا ضُرب ابنُ مريم مثلاً إذا قومك منهُ يصِدّون ) ( وقالوا أألهتُنا خيرٌ أم هو ما ضربُوه لك إلا جدلاً بل هُم قومٌ خصمون)
ثم قال الله بعدها بآيتين :
( وإنّهُ لعِلمٌ لساعة) وفي قراءة ( وإنّهُ لعَلَمٌ لساعة ) وفي قراءة(إنّهُ لعِلم ) المشهورة عندنا
( وإنّهُ) الضمير في أنهُ يعود على ماذا ؟ يعود على عيسى هذا أرجح الأقوال ولا ينبغي أن يُقال بغيرهِ وإن كان بعضُ العُلماء قال بغيرهِ لكنّهُ بعيد جداً فنُبقيه على عيسى .
( وإنّهُ لعِلمٌ لساعة) يحتملُ معنيين :
// الجمهور على أن معنى ( وإنّهُ لعِلمٌ لساعة) أي أنهُ أمارة وعلامة من علامات الساعة أي نزول عيسى علامة من علامات الساعة وهذا يُؤيدهُ القرآن وتُؤيدهُ السُنة .
// وقال آخرون وهو منسوبٌ أظنّهُ لمُجاهد أو لغيرهِ لكنّهُ بعيد قال أن المعنى قُدرة عيسى على إحياء الموتى دلالة على قُدرة الله في إحياء الناس لأن الذي أعطى عيسى القُدرة هو من ؟ هو الله لكنّ هذا القول قُلنا بهِ لأن بعضُ العُلماء قال بهِ لكنّهُ بعيد والصواب أنهُ أمارة من أمارات الساعة .
الآن أُعيد
قُلنا ضاربُ المثل واحد وحكاهُ الله عن الجماعة وهذا يتأتى لكم سبب ؟
لسببين لهُ شواهد من أمرين الشاهد الأول : أن من أساليب العرب أن تُطلق الفعل على الجماعة وتُريد بهِ الفرد.
والأمر الثاني أن من كان موافقاً لقول يُعدُ مُشاركاً فيهِ .(10/18)
هذا ما تيسّر وقفة علمية إذا كان هُناك أسئلة يا شيخنا يوسف لا بأس **
أحسن اللهُ إليك وكتب الله أجرك ورفع اللهُ قدرك يا شيخ كثير من الأسئلة يا شيخ تسأل بما أنّ الدرس علمي يسألون عن طريقة طلب العلم وخاصةً في اللُغة العربية وفي التفسير ويسأل كثير من الأخوة عن دروس الشيخ فدروس الشيخ موجودة في مُنتدى محاسن التأويل وأيضاً مُنتدى نورين موجودة الدروس التي ألقاها الشيخ
فهذا سؤال شيخ يقول أحدُ الأخوة أنا شابٌ جديد على الزواج لأنني بعد الزواج تركت الدروس العلمية فما نصيحتكم لي في الطالب ؟؟
هذا يتصل أفضل هذا سؤال شخصي يعني قد لا يهم الجميع وقد يكون لشاب يعني ظرفٌ مُعين يُعالج إذا عرفناه، أما قضية الطلب الطلب يحتاجُ إلى شيءٍ من التعب لكن إذا كان هُناك في الدرس يعني أُناس جادون في طالب التفسير فمن هذا اليوم يقتنون كُتباً سأقولها يقرأونها بشغف كثيراً ويًُحررون منها مسائل {{ البرهان في علوم القرآن لزركشي }}
{{ المُحرّر الوجيز لأبن عطية }} هذا تفسير
{{ شرح المُعلّقات السبع لزوزني }}
قدر الإمكان يقرأ في كتاب الشنقيطي رحمةُ الله تعالى عليهِ {{ أضواء البيان للشنقيطي }}
خمسّ{{ بتفسير ابن كثير }}
نبدأ بهذهِ الخمس ست أشهُر بعد ست أشهُر نتكلم عن مرحلة ثانية في الطلب إنّ شاء الله تعالى .
أحسن الله إليك يقول ما تفسير قول الله عز وجل ( ليس لك من الأمر شيء )؟؟؟
إي نعم الأمر كلهُ للهِ إلا ما أعطاهُ لنبيهِ وليس لأحدٍ من الأمر إلا ما أعطاهُ الهُ إياها .
أحسن الله إليك هذا السؤال الأخير لأني أعرف أن الشيخ مشغول ورآه برنامج ولكن يقول هذا يا شيخ كما تعلم أنهُ سيُقام مُلتقى بعنوان سفينة النجاة في نهاية هذا الأسبوع يوم الجُمعة وكم يحتاج الإنسان المُستقيم مثل هذهِ المواضيع يا شيخ كلمة تُوجههُا للشباب في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومشايخ هذا الزمان؟؟؟(10/19)
الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر لا يخفى على أمثالكُم أنهُ شعيرة عظيمة بها قوامُ الدين ويحتاجُ إلى أُمور :
أولها : القناعة بأنه حاجةُ الناس إلى هذا.
ثُم الطريقة المُثلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر .
الحماس وحدهُ لا يكفي بل لا ينبغي لوحدهِ لابُد أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المٌُنكر مصحوباً بالعلم والذي فهمتهُ من الشيخ يوسف وفقهُ الله أن هناك عُلماء أفاضل سيُشاركون في هذا تجدون عندهم إن شاء الله الخير العميم .
بس أنا أُريد أن أخرُج من المسجد قبل أن يُؤذّن حتى لا أدخُل في النهي ترى يعلم الله أنهُ يُشرفني أن تحضرُوا لي ويُشرفني أن أُلقي درساً عليكُم ويُشرفني أن أُسلّم عليكم لكن أنا عندي برنامج في القناة وأُريد أن أنصرف سريعاً و إلاّ والله فخرٌ لمثلي أن يُسلّم ويُصافح أمثالكُم ثم إن النهي شرعاً الخروج من المسجد بعد الأذان فأنا أُريد أن أنصرف قبل أن يُؤذن حتى لا أستطيعُ بعد ذالك أن أُخالف الشرع وأمشي ..(10/20)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق آدم من طين ، و أسجد له ملائكته المقربين ، و أشهد ألا إله إلا هو وحده لاشريك له ، ولي الصالحين ، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أرسله على حين فترة من الرسل،ودروس من الكتب ، هدى به من الضلالة وعلم به من الجهالة ، أغنى به من العيلة و كثر به من القلة ، اللهم صل وسلم و بارك و أنعم عليه و على آله و أصحابه ، اللهم وعلى من اقتفى أثرهم و اتبع نهجهم و سلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد أيها المؤمنون فهذا هو الدرس الثاني من دروس التفسير تحت العنوان الأكمل و الشامل وقفات قرآنية.
وهذا اليوم ليلة الأربعاء ليلة الثاني عشر من شهر رجب لعام ألف و ربع مائة و خمسة عشر للهجرة.هي
وقفات مع سورة ص(10/1)
وهذه السورة الكريمة ، سورة من سور القرآن الكريم صدرها الله جل و علا بحرف هو "ص" ، وهي لها مثيلات في القرآن صدرنا وكنا فواتح تلك السور ، حروف متقطعة ، و لعله كما هو معلوم ، أظهر ما قيل في هذه الحروف أن مرد علمها إلى الله جل و علا ، و التوقف في بيانها لعله أبرأ و أكمل و أفضل .و العرب لها ثمانية و عشرين حرفا و هذه الثمانية و العشرون حرفا ، رتبت أحيانا كما تدرس اليوم : ألف ، باء ، تاء ..(10/2)
الخ ورتبت قديما على قاعدة قولهم ، أبجد ، هوز ،الخ ورتبها الخليل بن أحمد الفراهيدي بحسب مخارجها من الحلق فبدأ بالعين ، وسمى معجمه معجم العين ، و أيا كان ذلك الترتيب فإن من هذه الحروف تتكون لغة العرب التي أنزل الله جل و علا بها القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم قال الله جل ذكره { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } و قال جل ذكره {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } ثم صدر الله تبارك و تعالى هذه السورة بالقسم فقال جل ذكره{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ *بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أخبر جل ذكره أن هذا القرآن الذي تدعو إليه و ترشد إليه و تأمر الأمة أن تتبعك عليه إنما هو فيه ذكر لأسماء الله الحسنى و صفاته العلى ، فيه ذكر لخيري الدنيا و الآخرة ، فيه ذكر لما يصلح للعباد في أمر دينهم و في أمر دنياهم {{ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ }} وكون هؤلاء الملاء من الكفار يعرضون عن ذكرك هذا ، هذا نقص فيهم ليس في الكتاب الذي أنزل عليك { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } ، أي في منعة و استكبار و مجادلة من الحق منعتهم أن يتبعوه و أن يسترشدوا به و قد قيل إن نفر من قريش قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته ، قدموا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم و أخذوا يخبرونه بما كان من أمر ابن أخيه ، وما فرق الناس عليه حسب زعمهم هم ، فلما لام أبو طالب نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم و أخذ يعاتبه و يسأله على ما كان منه ، قال ياعماه إنما دعوتهم إلى كلمة تدين لهم بها العرب ، و يسودون بها العجم ، فقال أبو طالب مستفهما وما هي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم (( لا إله إلا الله)) هنا انتفض الملاء من قريش ، و أخذوا ينفضون ثيابهم و يقولون{أ َجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }[صـ : 5] ،(10/3)
وهذا يدل على سعة إدراكهم لأنهم علموا المعنى الحقيقي لا إله إلا الله ، ولأنهم علموا معناها وعلموا أنهم لايستطيعون تطبيق ذلك المعنى على الوجه الأتم لأنه يعني البراءة من كل مظاهر الشرك ، التي كانوا يصنعونها و يفعلونها و يزعمون أنه حق قاوموا تلك الكلمة ، بقولهم {أ َجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }و تكاتفوا على الباطل و اجتمعوا عليه و حث بعضهم بعضا عليه قال الله جل و علا {{وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا }} أي أشرافهم {{ أَنِ امْشُوا وصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }} و إنها لكلمة تجعل في القلب رنة أسى ، إذ كان هؤلاء و هم أهل باطل و عباد وثن ، ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ومالا ينفعهم ، يعبدون أصناما لاتقدم و لاتؤخر بل إنها لا تنطق أصلا كما قال الخليل إبراهيم {{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ }}و مع الباطل الذي هم فيه كانوا متكاتفين و يزعمون أنهم يؤيد بعضهم بعضا ، ويوصي كل خل منهم خليله بأن يصبر على هذا الأمر الذي كانوا عليه {{وصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ }} ثم ذكروا ما يدعوهم إلى الصبر وذكروا ما يرونه سببا في بقائهم على ذلك الدين الباطل فقالوا {{ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * ما سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ }}وهذه الآية فيها دليل صريح على أن التقليد المحض غير المبني على برهان و لادليل و لابينة إنما التقليد لمجرد التقليد و الإمعة في القول و العمل أمر مرفوض مذموم في ذاته ، فإن هؤلاء الأقوام قالوا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ، أي لا نحن أدركنا آباءنا و لا آباؤنا أدركوا أجدادهم على هذا الأمر و إنما نشئوا جيلا بعد جيل على ملة الكفر {{ ما سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ }} ،(10/4)
فزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أمر مختلق من عنده وما ذلك إلا لكبر في أنفسهم ثم نال صلى الله عليه وسلم منهم ماناله قبله ، إخوانه النبيين ، فإنه ماجاء أحد بحق كما قال ورقة ابن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء أحد ، بالحق من عند الله إلا وحورب من أئمة الكفر ، وهذا الأمر من لدن آدم من يوم أن بعث الله على الصحيح نوحا إلى أن تقوم الساعة ، و الصراع بين الحق و الباطل قائم ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالدين القويم من ربه أنف أولائك الأقوام و حاربوه و اتهموه بالتهم التي لا أساس لها فتارة يزعمون أنه ساحر و تارة يزعمون أنه كاهن و تارة يزعمون أنه كذاب إلى غير ذلك من الإختلاقات التي وصفوا بها أكمل البشر على الإطلاق ، محمد صلى الله عليه وسلم ومن هنا تعلم أن قدح الناس فيك إن كان مبنيا على باطل أمر لايضر و أمر لايقدم و لايؤخر ، لكن المهم أن توصف بشيء من الحق ، أما أن يتجرأ عليك سفهاء الناس ، أو سقطاء الناس أو الرعاع الذين لا يميزون بين حق و لاباطل فقد تعرض لهذا الأمر محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله إخوانه من النبيين عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم و لهذا صبر صلى الله عليه وسلم على قولهم و على آذاهم حتى بلغ دين الله كما هو معلوم على الوجه الأكمل ، ثم إن هؤلاء الأقوام حجَّهم الله جل و علا بأمور عدة قالوا فيما قالوه {{ َأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا }}، يقولون هذا مستغربين لأي سبب ، و لأي مزية يخُتَص هذا الرجل بالنبوة ، و الحكمة و إنزال القرآن ، وهنا غاب عن رشدهم أمر ، لا ينبغي أن يغيب عن أحد ، إن أي أمر يمنحه الله جل وعلا لعبد إنما هو فضل من الله و رحمة ، وليس لي و لا لك أن يمنع رحمة الله جل و علا قال الله تبارك و تعالى{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }فالله تبارك و تعالى هو صاحب الفضل وهو صاحب المنة و له تبارك و(10/5)
تعالى الأمر من قبل ومن بعد ولذلك قال الله تبارك و تعالى ، يرد على أولائك الأقوام ، لما قالوا { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} قال الله تبارك و تعالى { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } أي هل بيد هؤلاء الأقوام خزائن رحمة الله فيعطون من شاءوا و يحرمون من شاءوا ، حتى لا يكون لك حظ و لانصيب من قسمتهم و الجواب طبعا لا ، ليس لهم و لا لغيرهم خزائن رحمة الله تبارك و تعالى ، ثم قال الله جل و علا قامعا إياهم بالحجة { أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} أي إن كانوا يملكون السماوات و ما فيها و يملكون الأرض و ما فيها ، وما بينهما فليرتقوا فيها وليمنعوا رحمة الله من أن تصيبك و أنى لهم ذلك بل هم من أضعف خلق الله جل و علا قال الله تبارك و تعالى و {{ َخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }} فإن مردهم إلى ضعف ، بل مردهم إلى جيفة قذرة و هؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعا و لاضرا فضلا على أن يمنعوا رحمة الله أن تصيبك أو أن تنالك ، يا نبينا يا محمد صلى الله عليه وسلم .(10/6)
ثم لما كان هذا الأمر في أول الدعوة و كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من أذى قومه حتى إنه عليه الصلاة و السلام كما في الصحيح عرض نفسه على شيوخ القبائل لما قالت له عائشة يا رسول الله ما أشد ما لقيت من قومك ؟ قال يا عائشة إن أشد ما لقيت من قومك يوم العقبة عندما عرضت نفسي على فلان و فلان و فلان فصدوني ، فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب و هذا مكان بين مكة و الطائف ، فلم أستفق إلا و إنا بقرن الثعالب بعد أن انطلق ، صلى الله عليه وسلم مهموما على صدره ثم قال فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب و إذا بسحابة قد أظلتني فإذا فيها جبريل فعرفته ثم فسلم علي ، ثم قال يا محمد هذا ملك الجبال بعثه الله إليك لتأمره بما شئت ، فقال ملك الجبال سلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال إن الله بعثني إليك لتأمرني بما شئت فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، وقد كلن صلى الله عليه وسلم في ذروة الهم مما رآه من قومه ومع ذلك قال ، وهو الرحيم الرءوف بالأمة عليه الصلاة و السلام قال لا : إني لأرجو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا .(10/7)
وإنها من أعظم الدلائل على سعة رحمته صلى الله عليه وسلم و على سعة أفقه و على النظرة البعدية للداعية ، فمن تصدر للدعوة إلى دين الله جل و علا ينبغي ألا يكون حدود نظره أنفه ، و إنما ينظر إلى مستقبل الأيام ، و إلى من يدعوه ، رب صغير مررت عليه بجوار المسجد لا يصلي ، لو أغلظت له القول ، لما صلى أبدا و لكن لو ألنت له القول ، ولو لم يصلي في تلك اللحظة ، التي ذهبت فيها ، لو قابلته بعد سنين لتذكر لينك و رقتك معه ، و قبل رأسك ربما و أخبر ك أن الله جل و علا من عليه بالهداية ، ولكن الناس طبعوا على العجلة قال الله جل و علا {{ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً }}أقول من شدة ما رآه صلى الله عليه وسلم من أذى قومه ومن تكالبهم عليه ، حتى إنه كان يمشي في أسواق مكة ، فيمر به الرجل و يناديه مناداة ملاطفة يطوي في طيها الخبث يقول يا أيها الذي أنزل عليه الذكر فيلتفت صلى الله عليه وسلم مستبشرا فإذا استبشر و نظر إلى من سأله قال له ذلك الشيطان المارد من الإنس إنك لمجنون قال الله جل وعلا.{ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ومع ذلك كله و غيره صبر صلى الله عليه وسلم ليكون حجة على العالمين و ليكون صلى الله عليه وسلم إماما للصابرين من العلماء و الدعاة بعده صلوات الله و سلامه عليه بكرة و أصيلا.أقول في هذا الخضم عز الله ، جل و علا نبيه صلى الله عليه وسلم وسلاه بخبر إخوانه من النبيين قبله حتى يكون له عليه الصلاة و السلام أسوة فيمن مضى من النبيين و حتى يعلم أن هذا الطريق الذي هو عليه قد مر على من قبله من النبيين و إن كان هو عليه الصلاة و السلام أكملهم و أعظمهم إيمانا إلى غير ذلك من صفات الكمال التي آتاها الله هذا النبي المعصوم .(10/8)
فقال جل ذكره { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ..} أي فاصبر على ما يقولون لك ، ثم ماذا ؟ {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }
ذكر الله جل و علا لنبيه نبيا من أنبياء بني إسرائيل قبله و هو داوود عليه الصلاة و السلام والعجيب أن قصة هذا النبي الكريم عليه الصلاة و السلام جاءت بها السنة حتى قبل مولده فقد أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لما خلق آدم ، مسح على ظهره فأخرج من ظهره ذريته إلى يوم القيامة فرآه بين يديه فقال يا رب من هؤلاء ؟ قال الله جل و علا له هؤلاء ذريتك إلى يوم القيامة .
فجعل الله بين عيني كل فرد من تلك الذرية وبيصاً بين عينيه ، فرأى وبيصاً ـ أي نورا ـ بين عيني داوود أعجبه قال ياربي من هذا ؟ فقال الله جل و علا له ( هذا فرد من أمتك يكون في آخر الزمان ـ طبعا بحسب الدهر كله ـ يكون في آخر الزمان يقال له داوود ، قال يا ربي كم جعلت عمره ، قال الله تبارك و تعالى ستين عاما ، فقال آدم يارب زده من عمري أربعين سنة ، قال صلى الله عليه وسلم فلما جاء ملك الموت إلى آدم قال بقي من عمري أربعين سنة فقال له ملك الموت ألم تعطها ابنك داوود ، قال صلى الله عليه وسلم" فنسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ آدم و خطئت ذريته ، وجحد آدم فجحدت ذريته ".(10/9)
فهذا خبر داوود عليه الصلاة و السلام في السنة ، وأول ظهوره عليه الصلاة و السلام أنه كان فردا في الجيش الذي حارب به طالوت جالوت ، فمعلوم أن الله جل و علا سلط الملوك الجبابرة على بنو إسرائيل فترة من الزمن ، ثم إن الله تبارك و تعالى اصطفى طالوت منها هؤلاء ملكا عليهم قال الله تبارك و تعالى{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } فقاتل طالوت ببني إسرائيل ملوكا الجبابرة ،كان يوم ذاك داوود شابا أزهر من ضمن جنود طالوت ، فلما كانت أرض المعركةقتل داوود جالوت بإذن الله جل وعلا ، وقد ذكر المفسرون أن داوود عليه السلام قتل جالوت بمقلاع كان في يده ، و المقلاع حبل ليس بالطويل يوضع في آخره حجر ،ثم يعقد عليه ثم الرامي يلفه مرة مرتين ثلاث ثم يرميه بقوة إلى الخصم فيصيبه ، فقيل إن داوود عليه الصلاة و السلام قتل جالوت بهذه الطريقة ، حتى قيل إنه مر على حجر ، فقيل إن الحجر كلمه و قال ياداود خذني معك ، فأخذه ووضعه في كمه ، فلما كانت أرض المعركة فعل به ما فعل كالذي سمعت .(10/10)
و هذا المقلاع أعاد شباب الانتفاضة اليوم ، و رجالها و أطفالها في لأرض فلسطين أعادوا سيرة المقلاع من جديد ، فإن المتأمل في شاشات التلفاز أو في أوراق الصحف أو في غيرهما إذا نظر على اللقطات التي يظهر قليل منها عن أخبار المؤمنين في أرض فلسطين ، يجد أن كثير من أطفال الانتفاضة يحملون بيديهم مقلاعا يحاربون به بني إسرائيل ، وهذا شيء من التذكير بما كانت عليه الأمة سلفا من مجد سابق ، و الحق أن هؤلاء الفتية على قلة ما في يدهم و على قلة عددهم ، و على عظمة من يقاومونه ظاهريا ، و إلا هم عبدة الطواغيت و أحفاد القردة و الخنازير ، إلا أنه رغم كل مظاهر التأييد التي تلقاها إسرائيل ، إلا أن هؤلاء الفتية قدموا للعالم خلال أكثر من سنين عديدة صورة حقيقية للمؤمن إذا كان في عز و شموخ و إباء ، إنه بحجر و مقلاع و ما شابهه يحارب طواغيت الكفر و أئمتهم أسال الله جل و علا في لحظتنا هذه أن يؤيدهم بنصره و أن يظهر على يديهم دينه .(10/11)
ثم إن داود ذكر الله لما آل الأمر إليه أتاه الله تبارك و تعالى الملك ، بعد طالوت و أتاه مع الملك النبوة و الملك يظن بعض الناس أن الملك أمر مذموم و الصواب الذي ينبغي أن يعقل بكل هدوء ،أن الملك نعمة و فضل من الله جل و علا ، ولو كان الملك مذموما في ذاته لما آتاه الله النبيين من قبل قال الله تبارك و تعالى{ َآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ }و أخبر تبارك و تعالى أن سليمان كان ملكا ، وقد كان كثير من الصالحين و المخلَصين في الأرض آتاهم الله جل و علا الملك ، و الله تبارك و تعالى {وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } لأنه لابد للناس من رئيس يسوس أمورهم تقام به الحدود و تسد به الثغور و يظهر به دين الله و تعلن به شعائر الحق هذا أمر لا انفكاك للمسلمين منه و لذلك كان الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه يقول: لأن يحرم الناس القطرة ستين عاما خير لهم من ليلة بلا إمام ، لأنه إذا غاب السيد و الرئيس المطاع أصبحت الأمر فوضى ، و و تسلط أهل الباطل على أهل الحق و أصبح لا يستطيع أحد أن يقيم لله العبادة و لا أن يقيم لله حدودا .(10/12)
الشاهد وهو أن من مواهب الله و فضله على نبي الله داود أن الله تبارك و تعالى آتاه الملك وقد عد الله في هذه الآيات آلاءه و فيئه و نعمه على هذا النبي الكريم ، فقال تبارك و تعالى { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }و ذا الأيد بمعنى/ ذا القوة في بدنه و طاعته فقد آتاه الله جل و علا قوة في بدنه و قوة على إتيان الطاعة و لذلك قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين و غيرهما قال ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود و أحب الصيام إلى الله صيام داود )) ثم فسر صلى الله عليه وسلم فقال في صلاته (( كان ينام نصف الليل و يقوم ثلثه و ينام سدسه) و قال في الصيام (( كان يصوم يوما و يفطر يوما )) و لاريب كونه يصوم يوما و يفطر يوما و يصلي كل يوم ثلث الليل يدل هذا على قوة أعطيها ذلك النبي الكريم ، أعانته على عبادة الله جل و علا ،{ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي كثير الرجوع إلى الله فلما تسمع و اسمع أن الله جل و علا من على نبي و أثنى عليه بقوله { إِنَّهُ أَوَّابٌ } فدليل على أن الرجوع إلى الله فضيلة عظمى ، فالذي ينبغي أن نحرص عليه جميعا أن نكثر من الرجوع إلى الله جل و علا بالتوبة و الاستغفار و الإكثار من الطاعات و مصاحبة الصالحين في كل حين لا تنتابك الغفلة أكثر من ذكر الله جل و علا لعل الله تبارك وتعالى أن يكتبك من الأوابين ، إنه أواب ثم عد الله جل و علا مزية أخرى خص بها هذا النبي الكريم قال { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ }من الله على داود بصوت رخيم جميل و آتاه الله جل و علا الزبور ، فكان يردد الزبور و خفف الزبور على لسانه ، حتى قال صلى الله عليه وسلم إنه كان يأمر بالدابة فتُسرج ، فيقرأ الزبور كاملا مما خُفف على لسانه قبل أن تسرج الدابة أي قبل أن ينتهي خدمه و حشمه من إسراج الدابة له ،(10/13)
و هذا من فضل الله جل و علا عليه ، فكان عليه الصلاة و السلام إذا ردد الزبور ورتله و قرأه تجاوبت معه الجبال الصم و الطيور البهم ، حتى إن الطير يقف عن الطيران و يجتمع صافات أي مجموع يردد مع داود عليه الصلاة والسلام ما يقوله ، وحتى الجبال و هي صماء لا تعقل و لاتتكلم إذا رتل عليه الصلاة و السلام زبوره ، وذكر الله جل و علا فيه ، جاوبته تلك الجبال فضلا من الله جل و علا لهذا النبي الكريم { إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ }أي من الجبال و الطير { لَّهُ أَوَّابٌ } أي يردد معه قوله و ذكره و تلاوته لآيات الله تبارك و تعالى .وهذه فضل من الله جل وعلا و سيأتي التعليق عليها{ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } شد الملك ،يكون بكثرة الوزراء و كثرة الجنود ، وقوام العدد و قوام العدة و ما إلى ذلك مما يصلح به الملك فإن الله جل و علا مكن لداود في الأرض وشد ملكه بما آتاه من وزراء و جنود لايحصى لهم عدد.قال الله جل و علا {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } حتى قيل إنه كان يتعامل مع الحديد كالعجين في يده وهو أول من صنع الدروع قال الله تبارك و تعالى{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ }ي دروعا تسبغ عليه عورته إذا حارب فلا تصيبه كثير من الأذى في الحروب من السهام ، و المدى و غيرها من أدوات الحرب في ذلك العصر .(10/14)
ثم قال الله تبارك و تعالى {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} الحكمة هنا الصحيح أنها النبوة و فصل الخطاب أي القدرة على الفصل بين الخصوم و قيل البلاغة في القول و قيل وهو بعيد أنه أول من قال أما بعد و هذا فيه نظر لأن داود عليه الصلاة و السلام ولم يكن عربي حتى يقال إنه أول من قال ( أما بعد) و لكنه قول مذكور في بطون الكتب و الله تعالى أعلم بصحته .هنا نقول أيها المؤمنون بعد هذه الوقفات مع هذا النبي الكريم الذي عز الله بقصته نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن نستنبط أمورا عدة:(10/15)
إن الله جل و علا يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر قال الله تعالى {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الله يبتلي بالنعم كما يبتلي بالنقم .آتى الله داود قوة صرفها في الطاعة والعبادة ،آتي الله داود صوتا رخيما جميلا صرفه في تلاوة كتاب الله جل و علا أتى الله داود فصل الخطاب صرفه في الحكم بين الناس بالحق آتى الله تبارك و تعالى غير ذلك من النعم إلى داود كلها وظفها ذلك النبي الكريم في رفعة دين الله جل و علا ،ولهذا ينبغي أن يقال إن من أفاء الله عليه نعم معدودة كانت أو واحدة عظيمة كانت أو قليلة ينبغي أن تصرف في دين الله جل و علا الملوك و الأمراء و ذووا السلطان ، ومن أفاء الله عليهم بمثل هذا ينبغي عليهم وجوبا أن يصرف ملكهم و غمرتهم و سلطانهم و مسؤوليتهم في رفعة شأن دين الله جل وعلا، هذا هو الهدف الأسمى الذي ينبغي أن يسعى كل مؤمن من أجله ، المؤمن التاجر ، الذي أفاء الله جل و علا عليه بالأموال ، و النعم الكثيرة ينبغي أن يصرف هذه النعمة في رضوان الله جل و علا ، يتفقد فقراء المسلمين ، يسهم في العمل الدعوي ، في توزيع ألأشرطة و المذكرات و النشرات النافعة المفيدة التي يكون فيها الخير أكثر من الشر ، يسهم في الأعمال الإغاثية المتجاوز لحدود هذا البلد ، للمسلمين المستضعفين المغلوبين على أمرهم في كل مكان .(10/16)
الشاب القوي الذي آتاه الله جل وعلا فراغا و صحة ينبغي أن يسهم في دين الله جل و علا و أن يوظف قوته .اجعل من نفسك و لو وقتا يسيرا تهبه لله تبارك و تعالى ،من أجل أن تحمل شيئا من هم دين الله العظيم ، من أجل أن تسهم في رفعة دين الله تبارك و تعالى لا تنم الليل إلا و قد أرقت أحوال المؤمنين في كل مكان أرخص الدماء دماءهم أضعف الناس هم ، و ما ذلك إلا لأنني أنا و أنت كل منا تنصل من مسؤوليته وكل منا يقذف بالمسؤولية على الأخر حتى خلت الساحة ممن يحملون هم الإسلام و ممن يحملون مسؤولية رفعة دين الله جل و علا ، وغدا المسلمون أمما و شيعا كل حزب بما لديهم فرحون .كما أنه ينبغي أن يعلم أننا في حاجة لكل مؤمن و لوكان يحمل من الخير مثقال ذرة ، أما قضية تصنيف الناس حتى قول ملتزم و غير ملتزم و الله الذي لا إله إلا هو ، إن في النفس منها حاجات كثيرة .أبو محجن الثقفي ، إن صح أنه صحابي رضي الله تعالى عنه ، رضي الله تعالى عنه من باب الدعاء إن لم يكن من الصحابة ، هذا الرجل كان في جيش سعد في معركة القادسية ، وكان مقيدا في السلاسل بحجة أنه شارب للخمر ، وقد نقل عنه أنه قال يوصي بنيه أن يسقوا على قبره الخمر إذا مات فإني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها .(10/17)
امرأة سعد و كانت زوجة للمثنى بن حارثة ، من قبل لم تفرط في قدرة بين يديها ، فكت قيده ، و المسألة الآن ليست مسألة خمر و لا ميسر ، فذهب و حارب في صفوف المسلمين وفعل بالفرس ما فعل حتى ظنوه رجلا من الجن يحارب مع المؤمنين فالمقصود كل من في قلبه لا إله إلا الله ، نحن اليوم محتاجين إليه لأنكم ترون ما أصاب الأمة من ضعف ووهن وعجز ، وماذلك إلا لأن لكل شخص يعتقد أنه سيبدأ من الألف من جديد ، الآن المفروض أن نبدأ بالموجود بالمحسوس و نرقع و نلمم ما يمكن ترقيعه و تلميمه ، ثم إذا علت شوكة الإسلام و علت عزته هناك إن كان أمر أو بدأ رأي ، لا بأس أن يعمل به أما أن نحرم أنفسنا من إخواننا المؤمنين ، بحجة مظهر أو حجة مخبر أمر غير مقبول ، صحيح أن المجاهرين بالفسق و الأقل صلاحا لا يصدرون و لايعطوا القيادة ولا يطلب منهم إرشاد الناس ، لكن من الممكن الاستفادة منهم ولو بشيء يسير منهم في رفعة في دين الله جل و علا ، و أنا أذكر و الله يعلم في هذا المسجد عندما أعدنا بناءه ، والله جاءني شخص ، لو صنفنا الناس على ما يقولون ملتزم و غير ملتزم ليس فيه من مظاهر الالتزام الظاهر و لا مثقال ذرة ومع ذلك ترك عندي مائتي ألف ريال قال اجعلها في بيت من بيوت الله ثم خرج و أنا إلى الساعة لا أحفظ إلا اسمه الأول و لا أدري حتى ما اسمه الآخر . لكنني لا أريد من الشخص أن يعمل حتى يبلغ مرحلة من الكمال ، نصل بذلك إلى مرحلة لا يعمل فيها لدين الله أحد مع الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قمع أهل الفسق ، و أهل الزيغ يكون البناء و الأخذ من الناس أحسن ما فيهم حجر من هذا و لبنة من هذا شيئ فشيئ حتى يكتمل بناء الأمة ، أسأل الله جل و علا أن يبلغ الأمة منازلها العظيمة التي كانت عليه و على العكس تماما مما قلناه إن بعض الناس قد يستثمر نعم الله عليه في أمور تجلب سخط الله جل و علا .(10/18)
كثير من المغنين الذين فاقت شهرتهم و ذاعت ، لا ريب و لا جدال أن أصواتهم جميلة و أصواتهم رخيمة و إلا ما دخلوا عالم الغناء لكن هذه النعمة لم يحسنوا توظيفها و إنما وظفوها في محاربة الله جل و علا ، و لا ريب أن من الأمور التي لا تقبل أن يحارب العبد ربه بنعمة أنعمها الله جل و علا عليه .الممثلات الذين فتنوا المؤمنين في المشرق و المغرب منحهن الله قدرا من الجمال ، هذا من باب الإخبار بما نسمع لا من باب الإخبار بما نرى ، منحهن الله جل و علا قدرا من الجمال ، لكنهن لتغلب الشيطان عليهن استثمروه في معصية الله جل و علا ، وقد ورد أن أبا حازم وهو أحد أئمة السلف حج ذات يوم إلى البيت العتيق فلما كان في رمي الجمرات وجد امرأة في قمة الجمال قد كشفت عن وجهها ووقفت وترك أكثر الشباب الرمي و أخذوا ينظرون إليها ، فجاء إليها و قال يا أمة الله اتق الله و استتري فقد فتنت الناس عن نسكهم ، فقالت تلك المرأة وهي من جنس هؤلاء الممثلات اليوم أخبرته أنها لم تأت للحج ، ولكنها أتت لفتنة الناس بجمالها ،
قالت من الائي لم يأتين يبغين حجة ***ولكن ليقتلن البريء المغفلا(10/19)
وصحت الرواية أو لم تصح كثير من الناس يمن الله جل و علا عليه حتى بخفة الدم و الظرافة في المجلس فالعياذ بالله لا يجد شيء يضحك به الناس حتى يقولوا عنه إنه خفيف الدم و رجل ظريف، إلا السخرية بدين الله جل و علا ، أو السخرية بمن يحملون شعائر الله أو السخرية بتقليد العلماء أو الدعاء أو السخرية بمظاهر و لبس المستقيمين على شرع الله جل و علا ، فكونك ظريف و خفيف دم أمر نعمة من الله جل و علا ، لم تكن رجلا ثقيلا غير مرغب و لامحبوب ، ولكن من السفه العظيم أن تسخر تلك الموهبة على قلتها في محاربة الله تبارك و تعالى و للاستخفاف بدينه و حصر هذا الأمر طويل جدا لكنني أضع إشارات و ملامح على الطريق و كلكم أبصر منا و أعلم تقيسون عليها ما ينفعنا و المؤمنين في أمر ديننا و دنيانا ..هذه الوقفة مع نبي الله تبارك و تعالى داود(10/20)
أما الوقفة الثالث فمع قول الله جل و علا : {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ *و َخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }داودعليه الصلاة و السلام ذكر الله جل و علا أنه ابتلاه بالنعم ، و أيوب عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله جل و علا بالضر ، و كلا من داود و أيوب نجح في الابتلاء فأما أيوب فإن الله جل و علا ابتلاه بمرض أثقله ظاهرا وباطنا ، و عان منه ما عانا حتى قال بعض الأئمة من المفسرين (لم يسلم منه إلا قلبه ) عليه الصلاة و السلام و مع شدة الكرب و طول الدهر و كثرة التقلب على فراش الأمل و تخلي الصديق و غياب الرفيق و طول الليل و السنين المتتابعة في ألم لا يعلمه إلا الله ، و تخلي الزوار و انقضاء من يأتي لقضاء حاجته و نسيان الناس لأمره ثمانية عشرة عاما في البلاء و ليست ثمانية عشرة يوما ، لا تفتح له أبواب المستشفى ، ليتقرب أصحابه و أقرباؤه إليه بأنواع من الحلوى و صحف تسلي غربته ، ولكنه وحيد طريح فراشه لم يبق له إلا زوجته و صديقان له حتى إنه مسه ما مسه ومع ذلك عليه الصلاة و السلام من أدبه ما نسب كل ذلك إلى الله و هو يعلم أن الأمر بيده قال ربي{ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } أي أدب أجل و أعظم مما أدب الله به هذا النبي عليه الصلاة و السلام ، العبد المجتبى نبي الله أيوب .(10/21)
صبر عليه الصلاة و السلام في البلاء ثمانية عشرة عاما ، حتى قال بعض الأئمة من المفسرين إن زوجته خرجت ذات يوم لتخدم عند بعض الناس علها أن تأتيه له بطعام فلما علم الناس أنها زوجة أيوب خافوا على ظنهم الجاهل أن تنقل إليهم العدوى فامتنعوا من استخدامها ، فعملت عند قوم من الأشراف ،حتى رفضوها ثم بعد ذلك باعت إحدى ضفائر شعرها و اشترت بما باعته طعاما لأيوب فقدمته بين يديه فأكله ، فلما كان اليوم الثاني لم تجد أحدا يستخدمها ، فذهبت و باعت ما تبقى من ضفائر شعرها ، و اشترت به طعاما و قدمته بين يدي أيوب ، فأقسم عليه الصلاة و السلام ألا يأكل منه حتى تخبره من أين لها الدراهم التي اشترت بها الطعام ، فخلعت تلك المرأة خمار رأسها فإذا برأسها محلوق ، قال العلماء فلما رأى الضر الذي مسه و الضر الذي مس زوجه ، لجأ إلى كاشف الضر إلى الواحد الأحد الفرد الصمد قال ربي {إَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } تعالى ربنا و تقدس ، استجاب الله تبارك و تعالى إليه ، و كلمه ربه جل و علا و لعل الظاهر أن الله كلمه بواسطة ملك فقال له ربه و لم يحله إلى أحد من خلقه{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }، لم يكلفه أن يذهب إلى طبيب ، بل وهو في مكانه ، لعظمة من لجأ إليه ، وهو في مقره و مكانه لم يقم حتى من فراشه ، الأرض التي بجواره ركض بها برجليه تنفيذا لأمر الله جل و علا ، ومع ذلك لما ركض فإذا الماء ينبع فشرب منه فبرئ باطنه و اغتسل فبرئ ظاهره ، قال الحي تباركت أسماؤه و جل ثناؤه {{ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ }} ليبرأ ظاهرك {{ وَشَرَابٌ }} ليبرأ باطنك. {{(10/22)
هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ }} ثم إن الله جل و علا ، يداه ملأى سحاء الليل و النهار ، لا ينفذ ما عنده زاده على ما طلب قال الله جل و علا {{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا }} هذه يا أخي لأيوب {{ وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ }} هذه يا أخي لمن صنع صنيعة أيوب و لجأ إلى الله جل و علا في السر و العلن و علم أن الله وحده و تحت وحده ضع ما تشاء من الخطورط يعلم أن الله جل و علا وحده هو الذي يكشف الضر و أن الطبيب و المستشفى وما إلى ذلك أسباب لاتضر و لاتنفع ، و بيد الله وحده مقاليد السموات و الأرض ،وكم من مريض أنفق على علاجه ملايين لم يكتب له العلاج و كم مريض أييس منه الطبيب ودعا الله جل و علا فكشف الله جل و علا عنه ضره .قال الله جل و علا : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } وكان قد حصل بين أيوب وزوجه شيء إن صح التعبير من سوء التفاهم و إلا فالمرأة كانت صالحة ، محسنة إليه و لذلك أقسم أيوب و نذر أن الله إذا شافاه أن يضربها مائة جلدة ، فأخبره الله جل و علا بقوله ، رحمة بتلك المرأة على ما قدمته ، قال الله جل و علا {{ و َخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً }} أي أخلاطا {{ و َخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ }} أي بدلا أن تضربها مائة ضربة متتابعة ، خذ مائة عصا ، فاجعلها في حزمة واحدة ،و اضربها بها مرة واحدة إنفاذا لنذرك و تخفيفا على تلك المرأة {{ و َخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ } ثم قال الله جل و علا آية ينبئ فيها ثناؤه على ذلك العبد الصالح قال {{ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }{ إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } أي بلوناه و اختبرناه ثمانية عشر عاما فصبر فتمت له من الله الحسنى وشهد الله جل و علا له بالصبر .(10/23)
فلما تجاوز هذه المرحلة شهد الله له في المقام الأعلى ، قال الله جل و علا {{ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }}أيها المؤمنون إن مقام العبودية أعظم مقام يمدح الله جل و علا به أحدا من خلقه ، و العبودية نوعان عبودية قهر و عبودية متعلقة بالعبادة.فأما العبودية العامة و هي عبودية القهر هذه يدخل فيها الناس جميعا أبرار و فجارا مؤمنون و كفارا ، قال الله جل و علا {{ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً }} و قال تبارك و تعالى قبلها {{إن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً }} فجميع المؤمنين و جميع الكفار و جميع الأبرار و جميع الفجار عبيد لله تبارك و تعالى ، لا يخرجون عن أمره و لو مثقال ذرة أما العبودية الخاصة الواردة هنا ، فإنها من نوع العبودية الخاصة التي هي مقام عظيم تتفاوت الناس فيه و كلما كان الإنسان لله أطوع و من الله أخوف ، قائما بأوامر الله مجتنبا نواهيه ، كان راقيا في هذا السلم ، وهذا السلم على ذروته و قمته محمد صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة و السلام :" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله و رسوله" قال الله جل و علا {{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ }} وقال الله تبارك و تعالى {{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }} و قال جل ذكره {{ لن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }} والله جل و علا أثنى على داود في الأول ، في الآية التي شرحناها {{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ }} و هنا لما كان من أيوب ما كان من عمل صالح و صبر على البلاء طاعات متتابعة أثنى الله جل و علا عليه بهذا الثناء العظيم الذي باقي يتلى على لسان المؤمنين الأطهار إلى أن تقوم الساعة قال الله جل وعلا {{إِنَّا وَجَدْنَاهُ(10/24)
صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }فهذا مجمل قصة أيوب وفيها دلالة ظاهرة لا تغيب عن أحد ، أنه ينبغي أن يستقر في قلبك و قلبنا جميعا أيها المؤمنون أن الله تبارك الله و تعالى بيده وحده النفع و الضر و بيده وحده المنع و العطاء و أن زيدا أو عمرا على سلطانه أو دنا كثرت أمواله أو قلت عظم جاهه أو حقر ، أيا كان أمره إنما هو سبب يصيب و يخطئ يجرى على يديه أمر أو لايجرى على يديه أمر و الأمور كلها بيد الله تبارك و تعالى فاسأل الذي لا تنقضي خزائنه و افزع إليه في ثلث الليل الآخر خاصة وفي كل آن وحين و اسأله تبارك و تعالى من خيري الدنيا و الآخرة لا تستحقرن شيئا و لا تستعظمن شيئا و اعلم أن ما عند الله تبارك و تعالى خير و أبقى و أن الدعاء و الذلة و الانكسار بين يدي الله و سيأتي بيانه في الأسبوع القادم في وقفات مع سورة مريم سيأتي بيان مسألة الذلة و الانكسار بين يدي الله جل و علا ، الشاهد : كل هذه تجعلك قريبا من الله تبارك و تعالى و تجعلك قريبا من عوفه و رحمته و الله ذو الفضل العظيم.(10/25)
-( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} إلى آخر السورة ذكر الله جل وعلا في هذه الآيات قصة خلق آدم وما كان من إبليس عليه لعائن الله تترى إلى يوم القيامة .الله تبارك و تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون , وهو تبارك وتعالى غني بحمده عزيز حكيم لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض . لا يُسأل كما بينا عما يفعل و هم يسألون ، وقد اقتضت حكمته جل وعلا أن يخلق آدم بيده وأن يأمر ملائكته بالسجود لهذا المخلوق سجود تكريم لا سجود عبادة .
والله تبارك وتعالى خلق آدم على ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى :
ممكن الاصطلاح على تسميتها بالمرحلة الترابية و هي دليلها قول الله جل و علا { ..خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }من قبضة قبضها ربنا جل وعلا من جميع الأرض فكانت مخلطة فلذلك في الناس السهل والحزن والأسود والأبيض وما ترونه من اختلاف الناس .
ثم هذا التراب مزج بالماء حتى أصبح طيناً وهذا قول ربنا في سورة الصافات { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ }}(10/26)
ثم هذا الطين ترك مدة حتى جف و أضحى كالصلصال بحيث لو قرعته لأحدث صوتاً وهذا قول ربنا في سورة الرحمن : {{ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }} , ثم إن الله جل و علا ، نفخ في هذا الجسد الذي خلقه وهو جسد آدم نفخ فيه تبارك وتعالى من روحه فلما نفخ فيه من روحه ، أمر الملائكة بأن يسجدوا سجود تكريم كما بينا لآدم عليه السلام { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فقول الله جل و علا { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } هذا أمر و سيأتي بيانه فيما بعد ،{ فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } الملائكة سجدوا لله جل و علا وكان من الحاضرين عند الأمر إبليس فامتنع عن السجود قال الله جل وعلا : { ِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) فخاطبه ربه : {{ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }} {{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ }} زعم إبليس أن مادة النار خير من مادة الطين وهذا قياس خاطئ , فإن من النار السفه والطيش وإن من الطين السكينة والركادة كما هو معلوم .
هذه الآية لكون الاستثناء جاء بعد ذكر الملائكة ذهب فريق من أهل العلم إلى أن إبليس في هذه الآية و غيرها ،هو من الملائكة , ولا ريب أن هذا قول مرجوح , و الراجح : أن إبليس من الجن لأربعة أمور أو أربعة أدلة :
الدليل الأول :
أن الله جل وعلا وصف الملائكة:{{ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }} و إبليس هنا عصى الله جل وعلا و لم يأتمر بأمره ، هذه واحدة .
والثاني
أن الله جل و علا أخبر أنه خلق آدم من طين و إبليس اعترف بنفسه قال{ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } و الملائكة خلقت من نور كما هو معلوم فدل على أنه من الجن.
والدليل الثالث :(10/27)
أن إبليس عليه لعائن الله تترى إلى يوم القيامة نحن ذكرنا دليلين الدليل الأول أن إبليس اعترف بنفسه أنه مخلوق من نار والدليل الثاني أن إبليس عليه لعنة الله جل وعلا عصى الله تبارك وتعالى والدليل الثالث جاء مصرحاً به في سورة الكهف قال الله تبارك وتعالى{ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ }(10/28)
ولعل الدليل الرابع قد غاب فسبحان من وسع علمه كل شيء فهذه أدلة على أن إبليس كان من الجن و لم يكن من الملائكة .فلما امتنع و استكبر طرده الله جل و علا من المحل السامي وهو السماء و من المقام الرفيع وهو الرحمة { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } فلما ضمن اللعين أنه باق إلى يوم الدين ، بعد أن يئس من رحمة الله طلب من الله البقاء { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } فلما قال الله له { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } و علم أنه باق ، أخبر ربه بأنه سيتسلط على آدم و ذريته ، و الله جل و علا قد علم هذا في الأزل ، فلما علم أنه باق خالد { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ومن هنا يعلم أن العداوة بين إبليس و أبينا آدم عداوة قديمة منذ ذلك اليوم الذي أمر الله فيه الملائكة أن تسجد لآدم فأخذ إبليس أمران: الأول / الحسد على ما كان من فضل الله لآدم و الثاني / الكبر الذي منعه من أن يسجد لأمر الله جل و علا .نعود إلى ما قلناه في الأول و هو أن قول الله جل و علا ، { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } ، فعل أمر :الله جل و علا له أوامر و له نواهي و الواجب تنفيذ أمره و ترك نهيه لكن من باب التقعيد ترك الأمر أعظم من اقتراف النهي أعيد ترك فعل الأمر أعظم جرما من فعل أمر نهيت عنه .(10/29)
و الدليل أن الله جل و علا أمر إبليس أن يسجد لآدم ، و نهى آدم أن يأكل من الشجرة ، فأما إبليس فلم يستجب للأمر و كذلك آدم عليه الصلاة و السلام أكل من الشجرة و لم ينفذ النهي ، قال الله تعالى { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }، لكن الله جل و علا ، تاب على آدم ، ولم يتب على من ؟ على إبليس ومن هنا يُعلم ما ذهب إليه جمع من العلماء إلى أن ارتكاب النهي أهون من ترك فعل الأمر ، و إن كان الإنسان مطالب في كلا الحالتين بأن ينفذ أوامر الله جل و علا و أن يجتنب نواهيه ، وحتى اتضحت الصورة لو أن إنسان أمره الله بالصلاة و كلنا مأمور بها ترك هذا الأمر ، هذا أعظم من أن يشرب عبد الدخان ، لأن شرب الدخان أمر نهيت أن تفعله ، فشربك للدخان داخل في باب فعلك لأمر نهيت عنه ، ولكن تركك للصلاة داخل في باب تركك لأمر أمرت أن تنفده ، ولكن هذا ينظر فيه مع النصوص الشرعية ،لأن لكل أمر ضابطه ، وهناك كبائر و هناك صغائر ، وهناك لمم ، ولننا نذكر ماهو من مسائل التقعيد.(10/30)
ثم قال الله جل و علا : قال إبليس { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فقال الله تبارك و تعالى له -( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ )فالحق والحق أقول أي فالحق صفتي و الحق قولي ، فذلك جاءت الأولى مرفوعة على أنها خبرلمبتدأ محذوف أو لمبتدأ له خبر مرفوع و الثانية و الحق أقول على أنها مفعول به مقدم للفظا الفعل أقول فيصبح معنى الآية فالحقُّ وصفي و الحقَّ قولي فالحق والحق أقول ماهو ؟ { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ،الله جل و علا خلق دارين جنة و نار ، أعد الجنة لأوليائه وأعد النار لأعدائه و لمن عصاه ،و الله تبارك و تعالى سبقت منه الكلمة أن يملأ النار و يملأ الجنة ، فأما الجنة أيها المؤمنون فإنها قطعا لا تمتلئ، ولذلك يخلق الله جل و علا من سعة رحمته ، لها خلقا ثم يدخلهم الجنة إنفاذا لوعده و رحمة من الله جل و علا ، لايضيق الجنة على أهلها .
و أما النار فإن الله لا يعذب إلا بعدله ويرحم تبارك و تعالى بفضله فإنه يضع فيها الجبار تبارك و تعالى قدمه حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط ، أي يكفي يكفي و بهذا تكون كأنها امتلأت أو تكون امتلأت حقيقة .قال : -( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(10/31)
ثم قال الله لنبيه يؤدب أولائك الأقوام من الملأ من قريش : {{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }} أي أنا لا أتكلف الصنعة ، و لا آتي بشي من عندي و لا أتكلف له أمرا يحاول أن أنال به غيري أو أنافس فيه شخصا آخر، ولكنه فضل من الله و هداية لكم ، قال تبارك و تعالى {{ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ }} {{ إِنْ هُوَ }} أي القرآن {{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ }} أي ولتعلمن خبره و نبأ ذلك القرآن بعد أن يحل العقاب و يحل ما أخبر ووعد الله تبارك و تعالى به ، عندها يعلم حقيقة نبأ ذلك القرآن على الوجه البين حين لا يرتاب الكافرون ، عندما يكون أآخر عهدهم بالدنيا و أول عهدهم بالآخرة .
هذا أيها المؤمنون ما أردنا بيانه في وقفاتنا مع سورة"ص" ، أسأل الله العظيم الجليل جلت قدرته أن ينفع بما قلنا وأن يعيننا و إياكم على أمر ديننا و دنيانا و صلى الله على محمد و على آله و صحبه و سلم .
ما تبقى أيها المؤمنون نقضيه في الإجابة على الأسئلة .
س/ هذا أخ كريم يقول ما الحكمة وما شروطها ؟(10/32)
اختلفت أقوال أهل العلم رحمهم الله في تفسير الحكمة .فأحيانا تأتي بمعنى الكتاب و أحيانا تأتي بمعنى السنة و أحيانا تأتي بمعنى النبوة هذا في القرآن .ولكنها إذا أطلقت فإن المراد بها وضع الأمور في نصابها الصحيح أو على الأصح قيل إن المراد بها القول النافع و العمل الصالح .و أيا كان التعريف فإنه قريب بعضه من بعض ، أما شروطها فإن للحكمة شروطا متعددة ، وهي في الغالب ثلاثة : العلم و الحلم و الأناة أما العلم فدليله قول الله جل و علا { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } و الإنسان إذا كان لا يعلم ما هو المقبول و ماهو المردود، وما هو الصحيح و ماهو السيئ و ماهو الحق و ماهو الباطل ، وماهو الراجح و ما هو المرجوح ، من أين له أن يفصل في الأمور ، و من أين له أن يدرك و أن يبين للناس ، حقيقة ما يسألونه عنه فلذلك أول شروط الحكمة العلم الشرط الثاني الحلم ، و الحلم صفة بين أمرين بين الغضب و بين البلادة من الناس من يغضب لأدنى كلمة و من الناس من لا يتحرك لأي كلمة ، الحلم فضيلة بين هاتين الرذيلتين ، و هذا الحلم يحتاج المرء معه أحيانا لأن يكون جهولا ، ولذلك قال النابغة الجعدي
و لاخير في حلم إذا لم تكن له ***بوادر جهر تحمي صفوه أن يكدرا(10/33)
وقد قيل أنه لما قال هذا البيت من الشعر قال له النبي صلى الله عليه وسلم (لا فض فوك ) وقيل إن النابغة الجعدي عاش بعد ذلك عمر طويلا بلغ مائة و خمسين عاما ، ومع ذلك لم تسقط له سن ببركة هذا الدعاء النبوي ، الشاهد منه :عند حرمات الله جل و علا يجب أن تغضب وعند الأمور التي تكون بين و بين فتجمل بالحمل لأن الله جل و علا وصف به الأخيار إن إبراهيم لأواه حليم ، وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أشج بني عبد القيس وقال له "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ، الحلم و الأناة" الأمر الثالث من شروط الحكمة هو التأني وكما أن الحلم فضيلة بين رذيلتين ، فكذلك التأني فضيلة بين رذيلتين هما العجلة و البلادة و البطء الشديد و لكن هذا الأمر ليس على إطلاقه فإن الإنسان بين أمرين إما دنيوي ، و إما أخروي فأما الأخروي الذي جاءت به الشرائع فينبغي للعبد أن يعجل فيه قال الله جل و علا : {{ َعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }} وقال الله تبارك و تعالى يمدح آل زكرياء { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ }، و أماغير ذلك فإن المرأة يحتاج أن يتلبس بزينة الحكمة و أن يتبين صلاح الأمور و أن يعرف مخرجه و مدخله و لا يتكلم في أمر حتى يكون على بينة منه .
س/ هذا أخ يقول ما معنى قول الله جل و علا {{ فَظَنَّ َ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ }}؟(10/34)
هذه الآية الكريمة ذكرها الله جل و علا ، على ما أذكر الآن في سورة الأنبياء في نبإ نبي الله يونس عليه الصلاة و السلام قال الله جل و علا { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }} قد يبدو لأول وهلة أن المراد بقول الله جل و علا فظن أن لن نقدر عليه ، أن نبي الله يونس غلب على ظنه أو على علمه أن الله لن يستطيع أن يفعل به كذا و كذا و لا ريب أن هذا كفر و لا يمكن أن يقوله آحاد المؤمنين فضلا عن نبي أرسله الله جل و علا لتبليغ رسالته ، ولما كان القرآن يفسر بعضه بعضا ، فقد ورد في القرآن بيان هذا المعنى قال الله تبارك و تعالى {{ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ و َأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ }} أي ضيق عليه رزقه فيحمل معنى ألآية على أن يونس عليه الصلاة و السلام غلب على ظنه أن الله جل و علا لن يضيق عليه و لم يعاتبه على ما كان منه من تركه لقومه لما تركهم على ما هم عليه و غضب منهم كما أخبر الله جل و علا وخرج بعد أن يئس من دعوتهم ولجأ إلى الفلك ، و استهم مع أصحابه ، وكان آخر الأمر أن ابتلعه الحوت ، وماكان من فضل الله جل و علا عليه ، فهذا بيان قول الله تبارك و تعالى {{ فَظَنَّ َ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ }}
س/ هذا أخ كريم يقول : ما تقولون في قول بعض مؤلفي الكتب بأن عرش الشيطان في مثلث برمودا كما ورد في كتاب حوار مع جني مسلم وجزاك الله خيرا .(10/35)
الله ورسوله ، ذكر صلى الله عليه وسلم أن عرش الشيطان في البحر أو شيئا من ذلك ، ولكن الأمور الغيبية التي لم يرد فيها نص قطعي ، من الله و رسوله صلى الله عليه وسلم لا يحسن الجزم بها لأننا إن جزمنا بها اليوم ثم بدا لنا غير ذلك ، ماذا نقول لمن أقنعناهم في الأول ، أمر أخبر الله به و أخبر به صلى الله عليه وسلم على وجه واضح صريح بين لا تتردد لحظة في الإخبار به لأنك تعتمد على أساس عظيم ، وهو قول الله و قول رسوله ،أما غير ذلك فلا بأس أن تقول ربما يحتمل من الممكن أن يكون مثلث برمودا أو غيره عرشا للشيطان ، أو ما إلى ذلك تحمل عليه بعض الإخبار التي جاءت عن الله و رسوله ، لكن إخبارك هذا لا تنسبه إلى الله و لا تنسبه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم و لا تخبر به على صيغة الجزم و القطع ، و لكن أخبر به على غلبة الظن لأنه لا يعدو كونه أمرا نظريا اجتهاديا قابلا لأن يكون صوابا و قابلا لأن يكون خطأ ، ولذلك الجهل بالحكم ، و الجهل بالدين قد يورد الإنسان في أمور المهالك مثلا الله جل و علا حرم الزنا فقد يأتي داعية ليقنع شخصا من ملة أخرى بأن الله حرم الزنا ، فيسأله ذلك الرجل لم حرم الله الزنا ، فيه لذة و فيه و فيه و يذكر يعضا من الأمور التي يجدها الزاني من لذة عاجلة في زناه ، فقد يهم ذلك الرجل و يقول إن الله حرم الزنا ، حتى لا تختلط الأنساب ، نعم إن الله حرم الزنا لحكم عديدة منها واحده من العشرات حتى لا تختلط الأنساب ، ولكن لا تحصل هذه الحكمة في هذا الأمر وحده ، لأنه سيقول لك إذا لو زنيت بامرأة عقيم ما فيها حرج ، ما فيها اختلاط نسب ، ولو أن امرأة ، رجلا عقيما زنا بامرأة ليس فيه خلط نسب إذن الزنا في هذه الحالة جائز ، فالكلام و الإخبار عن الله و رسوله و المحاجة عن دين الله تحتاج إلى علم متين و على اطلاع واسع.
* * *
تم بحمد الله
رحيل الغد(10/36)
وقفات مع سورة ق
صالح بن عواد المغامسي
من صفحة الشيخ صالح المغامسي بموقع صيد الفوائد
http://saaid.net/Doat/almgamce/index.htm
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته ، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الخلق بما فيه ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله , نبي شرح الله له صدره ، ورفع الله له ذكره ، ووضع الله عنه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد .
عباد الله :
فإن سورة ( ق ) سوره مكية النزول طالما قرأها وتلاها وبين أسرارها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة جمعته على منبره حتى حفظ بعض الصحابة هذه السورة من فيه الرطب صلوات الله وسلامه عليه . ولما كان لا هدي أكمل من هديه ولا طريق أقوم من طريقه فإنه حري بكل من رغب في إتباع السنة والتماس الهدي النبوي أن يشرع بين الحين والآخر في ذكر ما في هذه السورة من عظيم الآيات،وجلائل العظات، وبالغ التخويف من رب العالمين جل جلاله لعباده.
أيها المؤمنون :
لا أحد أعلم بالله من الله تبارك وتعالى , ولا أحد أدل على الطريق الموصل إلى جنانه والمبعد عن نيرانه منه تبارك وتعالى ولهذا أقسم الله جل وعلا في صدر هذه السورة بالقرآن وختم هذه السورة بقوله جل شأنه : {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق45] .(10/1)
وإن المؤمن إذا كان على الفطرة قويماً مستقيماً على منهاج محمد صلى الله عليه وسلم كان لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن . بالقرآن يجاهد المؤمن قال الله جل وعلا : { وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً } [الفرقان52] . وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً}[الإسراء79] . وبالقرآن يخوف من عصى الله { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} .
جعله الله جل وعلا شرفاً لهذه الأمة في الدنيا والآخرة {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف44] والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي أتاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم .
ثم أخبر تبارك وتعالى أن أعظم العجب الذي انتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أظهرهم يعرفهم ويعرفونه فقالوا مستكبرين كما قال الله جل وعلا : {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق2] وهذه العلة في الرد هي العلة التي امتطتها الأمم من قبل فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسولهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله جل وعلا بشراً رسولاً فأخبر الله تبارك وتعالى أنه لو قُدّر أن ينزل الله جل وعلا ملكا لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم كما بقي في الأول ورسولنا صلى الله عليه وسلم كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث تعرفه بأمانته وعفافه وطهره صلوات الله وسلامه عليه تعرف منشأه ومدخله و مخرجه فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه صلوات الله وسلامه عليه .(10/2)
بل الأمر رحمة من الله محضة يضعها الله حيث يشاء قال جل ذكره : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف31] فقال تبارك وتعالى مجيب لهم : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف32] فاقتضت رحمة الله جل وعلا وحكمته و مشيئته أن يكون محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين ولله جل وعلا الحكمة البالغة و المشيئة النافذة {بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق2] .
وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة وأعظم ما اعترضوا عليه إنكارهم للبعث والنشور وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت سيكون لها بعد ذلك مبعث ونشور كما أخبر الله تبارك وتعالى عنهم فقالوا : {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } [ق3] فقال الحق جل جلاله وعظم سلطانه : {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [ق4] .
قال صلوات الله وسلامة عليه : ( إن بني آدم خلق من عجب الذنب منه خلق وفيه يركب فكل جسد بني آدم يبلى في قبره إلا عجب الذنب ) . أجساد الشهداء أجساد حفاظ القرآن أجساد الصالحين أجساد غيرهم من الخلق أجمعين كُلها تبلى إلا أجساد الأنبياء قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي قالوا : يا رسول الله كيف نصلي عليك وقد أرمت فقال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ) فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح وبقي ما غيرها من الأجساد عرضه للبلاء والذهاب كما أخبر الله تبارك وتعالى ظاهراً في كتابه وكما بينته السنة الصحيحة الصريحة عن الرسول الهدى صلوات الله وسلامة عليه .
{(10/3)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } ذلكم هو اللوح المحفوظ .
{ حَفِيظٌ } أي محفوظ لا يتغير ولا يتبدل , حفيظ لا يشذ عنه شيء , حفيظ كتبته الملائكة بأمر من الرب تبارك وتعالى فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد تبارك وتعالى .
ثم ذكر جل شأنه بعض من عظيم خلقه وجلائل صنائعه فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله تبارك وتعالى ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا تبارك وتعالى قال الله جل وعلا عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران191 ]فما عظمة المخلوق إلا دلالة على عظمة الخالق . وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه .
والله تبارك وتعالى ما من مخلوق إلا والله جل وعلا خالقه ومدبره فقير كل الفقر ذلك المخلوق إلى الله والله جل وعلا غني كل الغنى عن كل مخلوق خلق العرش وهو مستغني عن العرش خلق حملة العرش وهو جل وعلا مستغني عن حملة العرش خلق جبريل و ميكائيل و إسرافيل وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو جل وعلا مستغنى كل الغنى عنهم وهم أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى .
{(10/4)
اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة255] فحياته جل شأنه حياة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال وقوله جل وعلا { الْقَيُّومُ } أي قيوم السموات والأرض احتاج كل أحد إليه واستغنى جل وعلا عن كل أحد سواه لا إله إلا هو رب العرش العظيم .
ثم ذكر جل وعلا بعد ذلك الخصومة التي بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش اعترفوا أول الأمر أن الله هو خالقهم ثم قالوا إن الله غير قادر على أن يبعثنا فقال الله جل وعلا : {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ }[ ق15 ] .(10/5)
فهم متفقون على أننا قد خلقناهم أول مرة لكن اللبس الذي في قلوبهم والشكك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور قال الله جل وعلا مجيباً العاص ابن وائل لما أخذ عظاماً بالية ووضعها في كفة ثم نفثها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه " ، قال الله مجيباً له : {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [يس81] آمنا بالله الذي لا إله إلا هو قال الله : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ثم قال جل وعلا : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق16] وهذا قرب الله جل وعلا من عباده بملائكة بذلكم الرقيبين الذين يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال . الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر ثم يلتقيان مع صاحبهما بين يدي الله بين يدي من لا تخفى عليه خافية فطوبى لعبد كانت سريرته خيراً له من علانيته .(10/6)
قال الله جل وعلا : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } وهذا بيان للأول أي : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }حين يتلقى المتلقيان {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب الله له من الحياة حتى يواجه سكرت الموت وكلما تلفظ به أمر مسطور مكتوب لا يغيب قال الله سبحانه : {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق19] أي تفر فلا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك قال الله : {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } .
وقف الصديق رضي الله عنه يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته فقالت الصديقة رضي الله عنها ابنته عائشة لما رأت أباها يواجه سكرت الموت تردد قولاً قديماً لحاتم طي :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ***إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف الصديق وهو في سكرة الموت عن غطاءه وقال : " يا بنيه لا تقولي هذا ولكن قولي كما قال الله : { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }" .(10/7)
وسكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد فإذا خرجت سميت روحاً وإذا بقيت ما زالت نفساً وهي لحظات يواجهها كل أحد ولو بدا لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله ويشتد الموت على الأنبياء لأن الموت مصيبة والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين وأولياء الله المتقين وإن لم يبدو ذلك ظاهر للعيان لمن كان محيطاً بالميت لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله بها عليم , ثم يخففه الله جل وعلا فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية الرب تبارك وتعالى بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة كما قال الله جل وعلا في فصلت : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت30 ] .
{(10/8)
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } [ق19] أي مرت على الناس أهلة وأهلة وهم في قبورهم ثم انتهى الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق22] فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله به عليم وفي حياة البرزخ ينكشف الكثير من تلك الغيبيات وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين يرى الإنسان ما كان يسمعه ويقرأه و يتلوه من كلام لله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به من الغيبيات يراه ماثلاً بين عينيه قال الحق جل شأنه : {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } وهنا يقول قرينه ذلك الشيطان الذي أوكل إليه " والواو واو عطف " {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ق23] .
فيكون الخطاب الرباني : {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ق26] .
أيها المؤمنون :
لا ذنب يُلقى الله جل وعلا به أعظم من الشرك وهذا لا يغفره الله أبداً أما المؤمنون فإن أول ما يُنظر فيما فعلوه ما بينهم وبين الله هو الصلاة فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو إلى ما سواها أضيع .
وأول ما ينظر إليه بين الناس والآخرين مسألة الدماء فأول ما يقضي به بين الخلائق الدماء . في الدماء أول ما يقضي به بين العباد لما يتعلق بحال بعضهم ببعض والصلاة أول ما ينظر فيه مابين العبد وبين ربه , والشرك ذنب لا يغفره الله حرم الله جل وعلا على أهله الجنة .(10/9)
ثم قال الله جل وعلا : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } [ق32 ] المؤمن في طريقه إلى الله جل وعلا يقول الله عنه : {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد4 ] ينتابه الحزَن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة والصغر من قبل تنتابه أمور كثيرة و مطالب عظام يزدلف حيناً إلى طاعات يقع أحياناً في المعاصي يستغفر ما بين هذا وذاك يفقد أمواله يفقد أولاده يخاف يحزن إلى غير ذلك مما يشترك فيه أكثر الناس فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله جل وعلا ويُيمّن كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم .
قال الله جل وعلا : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} . { هَذَا } أي الذي ترونه {مَا تُوعَدُونَ } أي ما كنتم توعدونه في الدنيا {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} . { أَوَّابٍ } دائم التوبة والإنابة و الاستغفار لله جل وعلا حفيظ لجوارحه أن تقع في الفواحش مما حرم الله مما ظهر منها أو بطن {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} .
ذكر الله جل وعلا النار قبلها وأنها يلقى فيها حتى تقول قطٍ قطٍ أي يكفي يكفي قال الله جل وعلا قبل ذلك : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق33 ] .(10/10)
ما القول الذي يقال لهم يقول لهم العلي الأعلى : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق34] والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا ولأجل ذلك يُلقى ويذهب عنهم يوم القيامة قال الله جل وعلا : {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق35 ] وأعظم ما فسر به المزيد رؤية وجه الله تبارك وتعالى .
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضله أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..
***
الحمد الله وكفى والسلام على عباده الذين اصطفى ، ثم قال جل ذكره : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق37 ] .
و إن من دلائل العقل والاتعاظ والإيمان أن ينظر الإنسان في الأمم الغابرة والأيام الخالية فينظُر إلى صنيع الله جل وعلا فيمن عصاه ورحمته تبارك وتعالى فيمن أطاعه واتبع هداه .
ثم ذكر جل وعلا رداً على اليهود التي زعمت أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً فقال جل ذكره ممجّداً نفسه ومادحاً ذاته العلية : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق38] .(10/11)
ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقوله أعدائه {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} ولابد للصبر من مطيه ألا وأعظم المطايا ذكر الله تبارك وتعالى والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء قال الله جل وعلا : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق39] .
ثم قال جل شأنه بعد أن دعا نبيه إلى كثرة الصلاة والذكر على القول بأن التسبيح هنا الصلاة وعلى القول بأنه الذكر المطلق والمقيد وهو أظهر والعلم عند الله {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق41] .
{ وَاسْتَمِعْ } هذا نداء لكل من يقرأ القرآن والمنادي هو إسرافيل عليه السلام والمكان القريب بيت المقدس سمي قريباً لأنه قريب من مكة وهذه السورة نزلت في مكة وليست بيت المقدس عن مكة ببعيد.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ق42] . ينادي أيتها العظام البالية أيتها الأوصال المتقطعة إن الله يدعكن لفصل القضاء فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها ويخرج الناس لرب العالمين قال جل ذكره : {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } [ق45] . سواء جهروا به أو لم يجهروا فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ فقال الله جل وعلا له : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق45] . عوداً على بدء كما أقسم الله بقرآنه العظيم ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا وذلك أن القرآن جعله الله جل وعلا هدى ونوراً لهذه الأمة :(10/12)
جاء النبيون بالآيات فانصرمت ***وجئتنا بحكيم غير منصرمٍ
آياته كلما طال المدى جددٌ *** يزينهن جلال العتق والقدمٍ
فصلوا وسلموا على من أنزل إليه هذا القرآن {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب56] . اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء وارحمنا اللهم برحمتك معهم يا ذا الجلال و الإكرام واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم ووفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك اللهم وفقه لهداك وجعل عمله في رضاك. اللهم وأصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان اللهم من روع أهل مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم فمكن منه وأخذله يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا و آمن روعاتنا . اللهم أستر عوراتنا و آمن روعاتنا . اللهم أستر عوراتنا و آمن روعاتنا ،اللهم إنا نسألك الهدى والتقوى والعفاف و الغنى والفوز بالجنة والنجاة من النار . اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة . اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة . اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة .
عباد الله:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .(10/13)
أسئلة على شريط :"من معين القرآن الكريم"
السؤال الأول:
أكمل العبارات بما يناسبها:.
ـ العبودية إذا أطلقت في الشرع يراد بها ثلاثة أشياء ............و...........و..........،
ـ عبودية الطاعة لله تبارك وتعالى تقوم على ثلاثة أركان .........و ............و...........،
ـ ............... نقل أنه كان من أعظم عباد الله خوفا من الله جل وعلا وخشية من ربه.
ـ أشد الناس بلاء............ثم يبتلى ..............على قدر دينهم،
ـ من أراد أن يكون له دور عظيم في نصرة دين الله جل وعلا فعليه أن يوطن قلبه على ............
وأن يصبر على ...........وأن يرضى ..........وأن يعلم أن من سنة الله في خلقه..............ولا يمكن أن يعطى أحد هبة الله جل وعلا بين ........و......،
ـ إن الإنسان ينال من النور في قبره بمقدار ................و.............وتقواه وقربه من الله جل وعلا،
السؤال الثاني:
ـ ذكر الشيخ حفظه الله أن الجزاء من جنس العمل وضرب لذلك عدة أمثلة اذكر اثنين منها؟
ـ للابتلاء غايات ماهي كما ذكرها الشيخ حفظه الله؟
ـ ماهو جواب الشيخ حفظه الله لمن شكى قسوة في قلبه؟
ـ أرشد الشيخ حفظه الله إلى سبل ووسائل حفظ القرآن فما هي؟
*******************
تم بحمد الله جل وعلا..
***المخبتات***(11/1)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين ..
ونقول كما قالت الملائكة بين يدي ربها سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ونقول كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً }طه114) ونقول كما قال ربنا ({أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}الزمر9)
على هذا كله إن من أعظم نعم الله جل وعلى على عباده أن يصرفهم إلى تدبر كتابه الكريم فإن كلام الله جل وعلا كلام لا يعدله كلام (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ{192} نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ{193} عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ{194} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ{195} الشعراء )
وفي هذا اللقاء المبارك سنعرج معكم أيها المباركون على [سورة الواقعة ] نقف فيها مع مواعظ ما أشد أثرها ومع لطائف يحسن أن ندونها ومع أقوال لأهل هذا الشأن جميل أن نحفظها.
سورة الواقعة أيها المؤمنون سورة مكية قال الله جل وعلا في أولها وهو أصدق القائلين: ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3) ) ثم قال جل شأنه: (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7) )(12/1)
أما قول الله جل وعلا (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) فالواقعة اسم من أسماء يوم القيامة دل على هذا هذه الآيات وقول الله جل وعلى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً *فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ [الحاقة : 15]"
وقول ربنا جل وعلا:(إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى كاذبة في هذه الآية: فقال فريق منهم:
1/ إن كاذبة مصدر جاء على هيئة اسم الفاعل كقول العرب عافية بمعنى مُعافاة وقولهم عاقبة بمعنى عُقبى على هذا التحرير يُصبح المعنى ليس لوقعتها كاذبة أي ليس لوقعتها كذب أي أن وقعتها حق لا مرية فيه وهذا القول قول أئمة أهل الشأن يؤيده قول الله جل وعلا:( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً ) النساء ..
و يؤيده قول الله جل وعلا حكاية عن الصالحين من خلقه:( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران : 9]"
2/ القول الثاني أن قول الله جل وعلا (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ):
أن كذب هنا صفة بموصوف محذوف والتقدير إذا كان يوم القيامة(يوم الواقعة) لا تكون هناك نفسٌ كاذبة لما ترى أي لا توجد نفس تُكذب ما ترى ويؤيده قول الله جل وعلا ( فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس : 88]"
لكن الأول أظهر والعلم عند الله.
( لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ (3))
:الاتفاق على أن خافضة رافعة يعود على يوم القيامة إذ أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره [هي خافضة رافعة] ، لكن الإشكال في من الذي يُخفض أو ما الذي يُخفض ومن الذي يُرفع وما الذي يُرفع ,الجواب لهذا عن أهل العلم رحمة الله عليهم في هذا ثلاثة أقوال:
القول الأول:(12/2)
أنها تخفض أهل الكفر إلى النار ويؤيده قول الله جل وعلا :( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ) النساء 145" وترفع أهل الطاعات لأعالي الجنان ويؤيده قول الله جل وعلا :" وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) طه 75 ..
والقول الأخر:
إنها تخفض من كان مرتفعا بطغيانه في الدنيا وهو قريب من القول الأول وترفع من كان الناس يحتقرون منه في الدنيا لإيمانه ، وأصحاب هذا القول يؤيدهم قول الله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ*وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ *عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) المطففين ..
القول الثالث ـ وهو أرجحه عندي والعلم عند الله ـ
أن المعنى: أن هناك أجرام تكون خافضة فيرفعها الله وهناك أجرام تكون مرتفعة فيخفضها الله لشدة أهوال يوم القيامة قال الله جل وعلا :(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ) التكوير : وقال ربُنا:"وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ) التكوير : وقال ربُنا:( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ )النمل 88"
فهذه أقوال أئمة أهل الشأن في هذه الآية وأرجحها كما قلنا والعلم عند الله أنه يتعلق بالأجرام الكونية وكيف أن يوم القيامة يوم عظيم ينجمُ عنه ما ذكرناه وذكره الله حل وعلا من قبل في كتابه خافضة رافعة.(12/3)
ثم ذكر الله جل وعلا بعض أهوالها فقال :( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً{4} وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً{5})ممكن أن يكون "البس" هنا بمعنى سيرت وقد جاء القرآن به قال الله جل وعلا: "{وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ }التكوير3 وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن معنى قول الله جل وعلا : ( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً{4} وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً{5}) على أن البس هنا أنها تصبح كالعهن المنفوش وقد ذكره الله جل وعلا في آيات أخر ..
فإذا أردنا أن نُنيخ المطايا هنا عند الجبال فالجبال خلقٌ من خلق الله يتعجب منها رائيها وقد صح في الخبر الصحيح :
أن الله لما خلق الأرض جعل تميل ثم خلق جل وعلا الجبال عليها رواسي فتعجبت الملائكة من ذلك فقالت أي رب أفي خلقك شيئا أعظم من الجبال قال الله نعم الحديد ، فقالت الملائكة أي رب أفي خلقك شيئا أعظم من الحديد قال الله تبارك وتعالى نعم النار ، قالت الملائكة أي رب أفي خلقك شيئا أعظم من النار قال الله تبارك وتعالى نعم الماء ، فقالت الملائكة أي رب أفي خلقك شيئا أعظم من الماء قال الله جل وعلا نعم الريح ـ لأن الريح تحمل الماء ـ قالت الملائكة أي رب أفي خلقك شيئا أعظم من الريح قال الله جل وعلا ابن أدم يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.(12/4)
ولما كانت الجبال تُرى كان بدهيا أن يسأل عنها الناس قال الله جل وعلا :( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (107) طه" لكن نسفها أخر المطاف وإنما تمر بأحوال وأطوار قبل أن تُنسف قال الله جل وعلا كما مر معنا :"وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً" وقال :"" وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ " فتمر بمراحل وأطوار حتى تصل إلى أن يذهب بالكلية لكن الله جل وعلا أرشد إلى أن الجبال لها وضع أخر كونها من أعظم مخلوقاته فإن النصارى ـ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ـ نسبت إلى الله الولد فرية وبهتانا وكفرا وما عرفوا قدر ربهم جل وعلا فاخبر الله جل وعلا على أن الجبال على عظيم خلقتها تستنكر هذا الأمر وتستعظمه ولا يمكن أن تقرّ به قال الله جل وعلا في مريم :"وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً *وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً *إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً [مريم 89: 93]"(12/5)
ولما أراد الله جل وعلا أن يُبين لكليمه موسى ضعفه وعجزه في الدنيا من أن يرى الله قال الله جل وعلا :"فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف : 143]" وذكر الله جل وعلا نبيه وعبده الصالح داود عليه السلام وذكر ربُنا أنه آتاه صوتا رخيما ثم لما كان يتلو الزبور ويذكر الله جل وعلا كانت الجبال على عظيم خلقتها تتجاوب معه قال ربنا جل شأنه :(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) [سبأ : 10]" وقال جل وعلا في سورة أخرى :(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ *وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ) [صـ 18: 19]"
ولا أعلم حديثا ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجبال في الجنة إلا حديثا واحدا أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أطفال المسلمين في جبل في الجنة في كفالة إبراهيم وسارة يردوهم يوم القيامة إلى آبائهم" هذه الذي أستحضره الساعة من السنة في ذكر الجبال في جنات عدن رزقكنا الله وإياكم إياها ..
نعود لسورة الواقعة :: قال الله جل وعلا :"إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً (6) وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً (7)
ثم ذكر الله جل وعلا أولئك الأزواج وكلمة زوج في اللغة كل فرد إنضم إلى غيره يسمى زوجا و لو كان فردا .
قال الله جل وعلا :( وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً ) ثم فصل :" فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)(12/6)
فبدأ جل وعلا بأصحاب الميمنة حتى يرغب فيهم الراغب ، ثم قال وأصحاب المشأمة حتى يرهب الناس أن يكونا مثلهم ثم قال جل شأنه: السابقون السابقون حتى يطمع أصحاب الميمنة إلى أن يرتقوا بأنفسهم إلى السابقين السابقين قال الله جل وعلا : "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ" وتأمل أيها المبارك لُطف الله جل وعلا بعباده وفضله وإحسانه جل ذكره على خلقه قال تبارك وتعالى:" وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ" ولم يقل المتقربون حتى يُفهم أن ما هم فيه فضل من الله تبارك وتعالى وليس شيئا حصلوا عليه بأنفسهم وإن كان عملهم الصالح وإيمانهم إنما هو في أول الأمر وآخره فضل من الرب تبارك وتعالى.
قال ربنا:"وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ "
ثم ذكر بعض نعيمهم ونعيمهم جاء مفرقا في آيات أُخر لكن مما يعنيننا هنا أن الله قال:" وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14)عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ (18)"
(بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ )جمع جل وعلا الأكواب وأباريق وأفرد الكأس لأن العرب كان في سننها وأعرافها إذا شربت الخمر تشربه على ثلاث أحوال :
إما أن تضعه في أكواب وهو ما لا عروة له ولا خرطوم الإناء الذي لا عروة له ولا خرطوم ويكون كبيرا يسمى كوب فجمعه جل وعلا لأنهم كانوا يضعون فيه الخمرة .(12/7)
ثم قال جل وعلا (وَأَبَارِيقَ ) وهو ما له عروة وله خرطوم فهذا يسمى إبريق ويجمع على أباريق وقد كانوا يضعون فيه الخمر .
ثم قال جل وعلا( وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ) أفردها لأن العرب كانت تشرب في كأس واحد يتناولها الأول و الأخر بعده هكذا في مجلسهم ومجلس شرابهم لكن شتان ما بين مجالس أهل الدنيا ومجالس أهل الأخرة وخمر الدنيا ينغصها أمران :الأول:أنها تنفذ تنتهي والأمر الثاني وهو أجل أن ينغصها أنها تذهب العقل فإذا ذهب العقل حدث من الإنسان الإفتراء والتطاول على ربه والتضييع لدينه ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا أم الخبائث لكن خمر الآخرة
قال الله جل وعلا ( لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ ) أي أنها لا تنفذ وهذا معنى قوله لا ينذفون ولا يسكرون منه وهذا معنى قوله جل شأنه لا يصدعون عنها ولا ينزفون .(12/8)
ثم قال تباركت أسمائه: "( وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ )" وأردف قائلا "( َلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ )" قدم الفاكهة على اللحم ومعروف أن سنن الناس في طعامها أنهم يقدمون اللحم على الفاكهة لكن الفرق بين الحالين أن أهل الدنيا إنما يأكلون في الأصل لسد الجوع أما في جنات النعيم فإن أهل الجنة لا يأكلون لسد الجوع وإنما يأكلون للتلذذ لأن الجنة لا جوع فيها فلا يأكلون لسد الجوع وإنما يأكلون للتفكهه والتلذذ فلما كان أكلهم أن الأصل فيه أنه للتلذذ والتفكه جعل الله جل وعلا الفاكهة مقدمة على عين الطعام قال تباركت أسمائه وجل ثناءه : " َفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ{20} وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ{21} " ونصّ ربُنا وخص لحم الطير دون غيره لأن الناس جرت أعرافهم وتقاليدهم على أنهم يأكلون من بهيمة الأنعام ولحم الطير عزيز لا يناله كل أحد إنما يحصل للملوك غالبا إذا نفروا أو ذهبوا للصيد فاخبر الله جل وعلا أن ذلك الشيء الممتنع في الدنيا عند البعض إنما هو متاح للكل لمن دخل الجنة رزقني الله وإياكم الجنة.
قال الله جل وعلا :( وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) وَحُورٌ عِينٌ )
(حُورٌ) جمع حوراء وهي المرأة البيضاء جسداً و( عِينٌ) جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العينين مع سواد فيها (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)".(12/9)
ثم قال الله جل وعلا مما يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم قال جل شانه:" لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً (26)" ثم أردف جل وعلا في ذكر أصحاب اليمين فقال:" وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30)"
وهي آيات ظاهرة المعنى فالسدر" في جنات النعيم لاشوك فيه والطلح المنضود هو شجر الموز وذكر الله جل وعلا بعض من النعم التي ينعم بها جل شأنه على أهل طاعته من أهل اليمين إلى أن قال.
قال الله جل وعلا :"وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34)" ثم قال:" إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)"
لا خلاف بين العلماء أن قول الرب جل شأنه إن : ( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء) عائد على النساء لكن السؤال هل هذا المذكور يعود إلى شيء قد ذ ُكر من قبل أو لم يُذكر على قولين لأهل العلم :
1/ من حمل قول الله جل وعلا "وفُرش" بمعنى النساء أصبح المعنى عنده قول الله جل وعلا :" إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ " يعود على النساء المذكورين في قوله جل شأنه "وفُرش" فيصبح معنى قول الله تعالى ( وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ )أي مرفوعة قدراً مرفوعة مكانةً مرفوعة منزلةً على أن الفرش هنا بمعنى النساء وهذا معروف في لغة العربي وسنن كلامها .(12/10)
2/ قال آخرون :إنه لا يعود إلى مذكور لكن القرائن والمقام يدل عليه فإن "الفرش " إنما توضع يتفكه به المرء مع زوجته ويتكيء عليها معها فقول الله جل وعلا: " إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء" لا يعود إلى مذكور لكن هناك قرينة تدل على أنه يعود على النساء وهو قول الله جل وعلا :"وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ" لأن الفراش يُطلق على فراش الزوجية في الغالب.
ثم قال الله جل وعلا :( إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ ) الأصل أن الفعل جعل هنا بمعنى صير فإذا قلنا أنه معنى صير خلافاً للمعتزلة "فجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً" لا يمكن أن يُطلق إلى الحور العين المخلوقات في الجنة لأن المرأة على أصل خلقتها تكون بكرا فلا يصبح معنى أن يقول الله جل وعلا فصيرنهن أبكارا وهن أصلا أبكار لكن قول الله جل وعلا: "فجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً" يعود على النساء المؤمنات اللواتي دخلن الجنة وهن ثيبات فقول الله جل وعلا "فجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً" أي صيرناهن نقلناهن من حالة كون إحداهن ثيبا إلى كونها بكرا .
"فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً" عربا أي محببات إلى أزواجهن وأتراب جمع تِرب والمعنى أنهن لدات ذوات أسنان يعني كلهن على سن واحد قال جمهور العلماء ويؤيده بعض الآثار إن المعنى أنهن في سن 33 ـ والعلم عند الله ـ وهذا المعنى القرآني هو الذي سلّه جرير في قوله:
أتصحُ أم فؤادك غير صاحي *** عشية هم صحبُك بالروحِ
تقول العاذلات علاك شيبٌ *** أهذا الشيب يمنعني فراحِ
يُكلفني فؤادي من هواهُ *** ظعائن يجتزعن على رماحِ
عراباً لم يلن مع النصارى *** ولم يأكلن من سمك القراحِ(12/11)
فقول الله جل وعلا (عُرُباً أَتْرَاباً) هذا وصف لما أعده الله جل وعلا لأهل طاعته ، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق دخل على 11 إمرأة لم يكن منهن بكر إلا عائشة والباقيات رضوان الله تعالى عليهن كانت كل واحدة منهن ثيبا ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع فمات إثنتان من زوجاته صلى الله عليه وسلم في حياته خديجة بنت خويلد ولم يكن قد تزوج عليها أحد وزينب الهلالية رضي الله عنها وأرضاها ماتت بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بثمانية أشهر فبقين تسع هؤلاء التسع هن اللواتي نزل في حقهن آية التخيير وهن الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم عنهن وآية التخيير وهن الذين مات النبي صلى الله عليه وسلم عنهن .(12/12)
وآية التخيير ذكرها الله جل وعلا في سورة الأحزاب " -( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً{28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً{29}) [الأحزاب28/29] " فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة وكانت أحب نسائه إليه وقال :" يا عائشة إنني سأخبرك بأمر فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " فقالت يا رسول الله أفيك هذا أستأمر أبوي , ؟ ثم تلا عليها صلى الله عليه وسلم آية التخيير فأختارت الله ورسوله والدار الأخرة ـ لكنها طمعت في أن تنفرد به صلى الله عليه وسلم ولا تثريب عليها ـ قالت لا تخبر أحدا من زوجاتك بما أجبتك به فقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله بعثني معلما ميسرا ولم يبعثني معنتا ولا منتعنتا لا تسألني إحداهن عن جوابك إلا أخبرتها " فأخبرهن صلى الله عليه وسلم واخترنَ جميعا رضوان الله تعالى عليهن النبي صلى الله عليه وسلم والله من قبل والدار الأخرة كما جاء نص القرآن وهؤلاء التسع منهن خمس قرشيات وأربع غير قرشيات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم :عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وجويرية بنت الحارث وهذه من بني المستلق ليست من قريش وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النظير هارونية من ذرية هارون ابن عمران عليه الصلاة والسلام وغيرهن كأم حبيب بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة رضوان الله عليهن أجمعين وليس هذا مقام التفصيل فيه وسيأتي إن شاء الله في سورة الأحزاب .
قال الله جل وعلا :"إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40)(12/13)
قال الله جل وعلا يذكرُ الصنف الثالث :" وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (43) لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
أما قول ربنا "لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ " فإن العرب كما ذكر الطبري في تفسيره في جريان كلامها تأتي في النفي بلفظ كريم فتقول هذه الدار لا واسعة ولا كريمة ، ويقولون هذا اللحم لا سمين ولا كريم ، فكلما نفوا صفة معينة متعلقة بالموصوف أردفوها بقولهم كريم فجاء القرآن على سننهم ونسقهم في الكلام، قال الله جل وعلا ( لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ) ثم قال ربنا:( إِنَّهُمْ )أي أصحاب الشمال:( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً)
وطالب العلم إذا تأمل هذه الآيات مقارنة بالأولين يجد فرقا وما الفرق ؟ أن الله جلا وعلا لم يذكر أسباب تكريم السابقين ولم يذكر أسباب تقريب أهل اليمين ولكنه لما ذكر أصحاب الشمال ذكر أسباب تعذيبهم لما ذكر أصحاب اليمين ذكر النعمة عليهم ولم يذكر لأي سبب أنعم عليهم ولما قال قبلهم عن السابقين ذكر النعمى والفضل عليهم ولم يذكر أسباب حصولهم على ذلك النعيم لكنه عندما تكلم جل شأنه وتبارك اسمه عن أصحاب الشمال عدد الأسباب قال:( إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45)) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)(12/14)
والجواب عن هذا أن يُقال جرت سنة القرآن أن يذكر أسباب العقاب ولا يذكر أسباب الثواب لأن الثواب فضل لا يمكن أن يتوهم القدح في المتفضل به وأما العقاب فمقام عجب لابد أن يُوضح فيه الأسباب حتى لا يُظن بالحاكم والقائم على الأمر ظلم ـ وأظن أن المعنى تحرر في هذا ـ .
قال الله جل وعلا (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ) وليس هذا سبب رئيسي في تعذيبهم لأن الترف لوحده قد لا يصلُ إلى حد الكفر لكن الله قال بعدها (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وهو الشرك ثم قال الله وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ )وما أجمله الله هنا بينه في مقامٍ أوسع في سورة الإسراء فإن أهل الإشراك كانوا يستبعدون البعث والنشور ويجعلونه أمرا لا يمكن أن يقع بحال
-( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ{77} وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ{78} قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ{79})- [يس](12/15)
لكن هذا كله يدور حول التراب قال الله جل وعلا عنهم في سورة الإسراء أنهم استبعدوا أن إذا كانوا عظاما أن يُبعثوا أو إذا كانوا ترابا أن يُُبعثوا ومعلوم أن بني أدم مخلوقون من تراب فليس لهم شأن أن يستبعدوا أن الله جل وعلا يُعيدهم من التراب الذي خلقهم منه لكن الله جل وعلا يُظهر لهم كمال قدرته وجليل عظمته ومُنتهى حكمته قال لهم: " قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) " فلو كنتم حجارة أو حديدا أو أي خلق يمكن أن يخطر لكم على بال لأحياكم الله جل وعلا منه فكيف وأنتم تعودون إلى تراب أي إلى عين ما خلقكم الله جل وعلا منه والأمر كله على الله جل وعلا هين.
قال الله جل وعلا : " أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) " قال الله مجيبا لهم: "قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) "
وهذه الشجرة في النار ومعلومٌ نقلا وعقلا أن النار لا يُمكن أن ينبت فيها شجر لأن الأصل أن النار تحرق الشجر لكن الله جل وعلا قال في الصافات: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ) ـ أي الزقوم ـ (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) وأخبر الله جل وعلا أنه أراد بذلك إختبار العباد في مدى يقينهم وإيمانهم بقدرة الله أو عدم إيمانهم ويقينهم بقدرة ربهم قال الله جل وعلا ( إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ [ 63]إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) الصافات :64 "(12/16)
فمن علم عظيم جلال الله وكمال قدرته يعلم أن الله قادر على أن يمنع النار من أن تصل إلى الشجرة ، والتحريم أيها المبارك في القرآن على نوعين : تحريم شرع وتحريم منع.
فالثواب والعقاب يتعلق بتحريم الشرع ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) "( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ )" هذا ما يدخل فيه الثواب والعقاب.
أما تحريم المنع فلا ثواب ولا عقاب عليه لأنه أمر كوني قدري ليس أمرا شرعيا قال الله جل وعلا "( وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ )" أي منعنا شفتيه من أن تقبل أثداء النساء فالمعنى هنا تحريم منع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم :قالوا يا نبي الله كيف نصلي عليك وقد أرمت قال :" إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " أي منع الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وليس معنى حرم بمعنى شرع لأن الأرض غير مكلفة بالإتفاق لكن المقصود أن الله جل وعلا منعها أن تصل إلى أجساد الأنبياء ، ومنه أيضا أن الله جل وعلا حرّم على النار أن تأكل من ابن أدم مواضع السجود رغم أنها تتسلط على بدنه كله لكن النار تتسلط على بدنه كله بقدر الله وتمتنع عن أعضاء السجود بقدر الله لأن النار كلها مخلوقةٌ من مخلوقات الله لا يمكن لها ولا لغيرها من المخلوقات أن يخرج عن مشيئته وقدرته جلا وعلا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
قال الله جل وعلا " لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ (52) فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) )(12/17)
أما قوله تعالى :( فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) هذا إجمال فسره قول الله جل وعلا ( فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ) والهيم يُطلق ويراد بها أحد أمرين إما أن يكون المراد الأرض الرملية التي مهما سُقيت لا يظهر عليها أثر وقال بهذا القول ابن كيسان وأهل العلم الأكثرون منهم أو جمهور أهل العلم من المفسرين على ان المعنى أن الهيام داء يصيب الإبل فتعطش فإذا عطشت واشتد عطاشها لجأت إلى الماء لترتوي فمهما سقيت لتشرب لا يمكن لها أن ترتوي فتمكث على هذا الحال حتى تسقم سُقما شديدا أو تهلك هذا الذي عليه أكثر المفسرين والهيامٌ داء معروف للإبل كما بينا وقدكانت العرب تنقله حتى إلى الرجال وينقلون عن قيس ابن الملوح الذي فُتن بليلى أنه قال :
وقد خبروني أن تيماء منزل بليلى *** إذا ما الليل ألقى المراسيَ
فهذه شهور الصيف عنا قد انقضت *** فما لنوى ترمي بليلى المراميَ
إلى أن قال ـ وهو موضع الشاهد ـ :
يُقالُ به داءُ الهيامُ أصابهُ *** وقد علمت نفسي مكان شفائها
فقول قيس :
يُقال به داء الهيام أصابه
هو موضع الشاهد أن الهيام العرب نقلته من إصابة الإبل إلى إصابة أفراد الرجال .
قال الله جل وعلا :( فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا )الذي ذكرناه وبيناه وحررناه (نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) والنزل أول ما يُستقبل به الضيف ، قال بعض العلماء رحمة الله تعالى عليهم من أهل الشام قالوا إذا كان هذا هو نُزلهم فماذا سيكون حالهم ـ عياذا بالله ـ بعد أن يستقر بهم القرار في النار لاريب أنه أنكى وأشد وأعظم ـ عافانا الله وإياكم من ذلك كله ـ .(12/18)
قال ربنا :" هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ" ثم أخبر الله جلا وعلا يُخبر بآيات متعاقبات عن عظيم قدرته: أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ (62) "
أي لا يفوتنا فائت ولا يعجزنا شيء "عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ" أي هيئات أخر غير التي أنتم عليها.
ثم ذكر الله جلا وعلا الزرع وما أعده الله جل وعلا للمسافرين : ( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ (73)"أي للمسافرين ،" فذكر الله جلا وعلا الزرع وإنباته والمطر وإنزاله وذكر الله جل وعلا النار وإيقادها وأخبر أن ذلك كله لا يتم إلا بعظيم قدرته وجلال حكمته وليس هذا المقام مقاما مناسبا للتفصيل فيها .
ثم قال ربنا تبارك وتعالى في خاتمة السورة :( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77)"
ما مواقع النجوم ؟
لأهل العلم فيها قولان :(12/19)
1/ قول يقول إن مواقع النجوم مطالعها ومساقطها وأكثر من يتوجه للتفسير والإعجاز العلمي في عصرنا يذهب إلى هذا لكن هذا القول لا يعضده قول الله جل وعلا بعدها:( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) لعلمنا أن كل ما أقسم الله جل وعلا به أو عليه فهو عظيم فلابد أن يكون في قول الله جل وعلا( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)كبير فائدة لم توجد فيما أقسم الله به قبل من مخلوقاته ، فيكون قول الله جل وعلا على القول الثاني (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ) ليس قسما بالمخلوق لأن القرآن غير مخلوق وإنما قسم
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُوم ) أي أن القرآن نزل منجما فلما نزل القرآن منجما أقسم الله جل وعلا بمواقع نزوله فيصبح القسم هنا عند طائفة من أهل العلم ويروى هذاعن ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما ومال عليها الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أول تفسير سورة النجم إلى القول بأن القرآن نزل منجما وهو المعني بقول الله ({وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى }النجم1) وما قاله الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه قوي إلا أننا لا نحفظ في اللغة أن كلمة هوى تأتي بمعنى أنزل وإنما تأتي بمعنى سقط لكن نعود إلى الأية في الواقعة الله جل وعلا ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ )حجة هؤلاء أن الله قال (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) وجواب القسم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) فيصبح المعنى أن الله ذكر أن هذا القسم عظيم لأن الله أقسم بالقرآن على القرآن وهذا مرتقى صعب في الفهم ليس في فهمه في إدراكه لكن في أن يستنبطه الإنسان أولاً وقد قال به القفاز رحمة الله تعالى عليه أحد علماء الشافعية وهو أن معنى الآية أن الله أقسم بالقرآن على القرآن فلما أقسم الله بالقرآن على القرآن كان حرياً أن يُقال بينهما ( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(12/20)
أما اللطيفة في معنى قول الله جل وعلا (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) فإن أي كلام يكرر و يردد يذهب رونقه ومن علم الأدب في مخاطبة الملوك يستحيي أن يجعل كلامه عند الملوك مكرر ويبحث لهم في كل يومٍ عن فائدة جديدة لكن كلام الله يُتلى في المحاريب من أربعة عشرة قرنا ومع ذلك لم يذهب من رونقه شيء لأنه كلام الله ، ولو كان هذا الذي يتلى في المحاريب منذ أربعة عشرة قرنا يسمعه الناس ويرددونه لو كان هذا كلام بشر لملته الأنفس ولسئمته الأذن لكن لما كان هذا الكلام كلام رب العالمين جل جلاله لم يكن لمؤمن أبداً أن يسئم أو يمل من كلام ربه تبارك وتعالى وهذا معنى قول الله جل وعلا (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) أي باق على ما هو فيه من صونٍ ورونقٍ وعظمةٍ وبهاءٍ وهدايةٍ وإجلال لأنه كلام رب العالمين جل جلاله .
قال الله:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (80)"(12/21)
ثم أخبر الله جل وعلا في آية خبرية وليست إنشائية قال:( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ )هذه الآية مسوقة في سياق الخبر لا بسياق الإنشاء يعني لا يأتي أحد ويقول لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر لأن الله يقول : ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) لكن يجوز لنا أن نقول هذا قول جمهور العلماء لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :كمافي حديث عمرو بن حزم :" قال لا يمس القرآن إلا طاهر" فالاستدلال بالحديث لا بالآية فإن اللام في قول الله جل وعلا ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا نافية وليست لا الناهية ولا الناهية هي التي يُراد بها الإنشاء والتكليف والطلب أما لا النافية إنما تسوق خبرا لكن قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله إنما يُفهم من الآية إشارة لا من التصريح أن ما دام أهل السماء لا يمس القرآن منهم إلا طاهر وكلهم مُطهرون فينبغي على أهل الأرض ألا يمس القرآن إلا وهم طاهرون وهذا قول جمهور العلماء وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن يمس المصحف من لم يكن متوضئا لأنهم لا يرون صحة حديث عمرو بن حزم لكن كما قلت ذهب مالك وجمهور العلماء معه على أنه لا يجوز أن يمس القرآن أحد إلا أن يكون طاهرا من الحدثين الأصغر والأصغر .
قال الله جل وعلا :"لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ" ثم قال الله تبارك وتعالى :" أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) "
هذه "رزقكم" تحتمل معنيين :
المعنى الأول: أن تكون بمعنى الشكر وهذا وارد في كلام العرب ويصبح المعنى: وتجعلون شكركم لما أفاء الله عليكم من نعم أنكم تُكذبون بهذا القرآن وهذا قول جيد في السياق لكن الأحاديث وردت في خلافه .(12/22)
والقول الثاني: وهو الذي تؤيده الأحاديث أن المعنى :( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) أَي ما يمطر وينزل عليكم من السماء من مطر ويؤيده حديث مسلم:" مُطرنا بنوء كذا وكذا وآخرون قالوا مُطرنا بفضل الله ورحمته فقال صلى الله عليه وسلم يقول : " الله جل وعلا أصبح من عبادي بي مؤمن وكافر من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال مُطرنا بنوء كذا و كذا فهو كافر بي مؤمن بالكواكب" على هذا حمل أكثر المفسرين معنى الآية والعلم عند الله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
ثم قال ربنا " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) )
لم يرد ذكر النفس هنا فقول الله جل وعلا :( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) لم يُذكر الفاعل للفعل بلغ لكن العلماء متفقون على أنها عائدةٌ على النفس وهذا فصل في لغة العرب أنها تأتي بالكريم ولو لم يكن له ذكر من قبل قال حاتم طي:
أماوي أن المال غاد ورائح *** ويبقى من المال الأحايث والذكر
أماوي أني لا أقول لسائل *** إذا جاء يوما حلّ في مالي النزرُ
إلى أن قال ـ وهو موضع الشاهد ـ :
لعمرك ما يُغني الثراء عن الفتى*** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدرُ
والنفس لم يكن لها كلام ولا قول في قصيدة حاتم وإنما ردهم إلى شيء غير مذكور وهناك شواهد أُخر وقد عقد له أبن خالوية رحمة الله تعالى عليه في كتابه فقه اللغة وسلو العربية فصلا منفصلا .(12/23)
الذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا ( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) بإجماع العلماء يعود على الروح (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وأنتم) أي من حول الميت (حِينَئِذٍ) أي حين تبلغ الروح الحلقوم (وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) تنظرون إلى من؟ إلى الميت (وَنَحْنُ) هذا قُرب الله بملائكته( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) أي إلى الميت (ولكن) حرف إستدراك (ولكن لَّا تُبْصِرُونَ) أي أن من حول الميت لا يُبصر الملائكة و هي تنزع الروح من الميت (ولكن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87)
(فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي لا تُدانوا ولا تُهلكوا ولا تُستعبدوا ما تزعمون ولا لأحد سلطان عليكم كما تقولون ( فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) هذا قول وهو قول الجمهور
وقول أخر وهو أنكم غير مُجازين أيا كان السياق.
(فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا) أي الروح (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) والروح إذا اتصلت بالبدن يقال لها نفس قال الله جل وعلا "ونفس وما سواها" وإذا خرجت من البدن يقال لها روح قال صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مضعون "إن الروح إذا صعد يتبعه البصر" فقال ربنا هنا ( فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين) ولا يستطيع أحد أن يعيد إلى ميت حياة.
قال الله جل وعلا :" تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62){الأنعام}(12/24)
ثم بعد أن بين الله جلا وعلا هذا كله ذكر المآل الجميع بعد أن قسمهم إلى ثلاثة أصناف قال ربنا :( فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) والمقصود بالمقربين هنا والعلم عند الله فيما يظهر أنهم من يدخلون الجنة بغير حساب وهؤلاء هم المنادون أولاً بقول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ* لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) [الأنبياء :-101 102]
(فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ )أي يستريحون من عناء الدنيا و الله جل وعلا خلق الدنيا مطبوعة على الكدر " {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ }البلد4 " فهذا نبي الأمة ورسول الملة صلى الله عليه وسلم يرزق بسبع بنين وبنات يموت منهم ست أمام عينيه صلى الله عليه وسلم ولا يبقى أحد يحي بعده إلا فاطمة رضوان الله تعالى على أبناء وبنات رسولنا صلى الله عليه وسلم أجمعين فرأى صلى الله عليه وسلم أبنائه وبناته يمتن ويموتون وهو حي يرزق ولم يبقى له إلا فاطمة و ماتت بعده بستة أشهر، وشج رأسه يوم أحد وكسرت رباعيته ولما أتم الله له الدين وأظهر له النعمة وقال له :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) جاءته الآيات تخبره بقرب أجله ودنو رحيله صلى الله عليه وسلم "َاذا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) {النصر}(12/25)
فإذا لقي المؤمن ربه جلا وعلا وجد الراحة الكبرى قال الإمام أحمد رحمه الله :لاراحة للمؤمن دون لقاء الله .. ومن يرجو راحة قبل لقاء الله فإنما يبحث عن شيء غير موجود اللهم إلا أن تكون راحته ـ وهذا الذي ينبغي ـ في أنه يرضى بقدر الله قال ربنا " فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً " والحياة الطيبة أن يرضى الإنسان بقدر الله.
(فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ) فأجمل ربنا هنا قال: ( فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) لأنهم يحيون في دار سلام فبدهي أن ينطقوا بالسلام.
ثم ذكر الله جل وعلا العصاة المتمردين على ربهم والخارجين عن طاعته فقال جل شأنه :وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) .
وحتى لا يرتاب مرتاب ولا يشك شاك قال أصدق القائلين جلا جلاله:(إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ )ثم ختم الله جل وعلا هذه الأيات بالوصية العظيمة ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) والمعنى نزه ربك جلا وعلاعما لا يليق به ..
وغاية ما قال آئمة أهل الشأن في هذا الباب أن يقال :
إن الله غني عن طاعة كل أحد فإذا نزّهت ربك عما لا يليق به جل شأنه أنت الذي يشعر بالطهر والنقاء والصفاء وإلا ربُنا جل جلاله لا تنفعه طاعة طائع ولا تضره معصية عاصٍ .
هذا مجمل ما دلت عليه هذه السورة المباركة سورة الواقعة وقفنا معها وقفة إجمالية حاولنا أن نصل بها معكم إلى ما يمكن أن يعيننا على طاعة الله جل وعلا.
نُجمل أيها المباركون من قول الله جل وعلا:( فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ)(12/26)
تصعد الروح إما أن تُنادى بأحسن الأسماء أو بأقبح الأسماء تعود إلى صاحبها تدُب الروح في البدن فيسمع صوت النعال ثم يُقعد فيُسأل عن ربه ونبيه ودينه يوفقُ الله من يشاء من عباده للإجابة ويُخذل من عباد الله من شاء عن الإجابة ثم يمكث الإنسان في قبره حياة برزخ قال ربنا:( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }المؤمنون100 " هل تنفصل الروح أو تبقى متصلة العلم عند الله لكن غالب الظن إنها تنفصل حين وتتصل أحيانا في حياة لا نعلم كُونها قال الله عنها : "وبصرك اليوم حديد" ثم يأمر الله ملك يُقال له إسرافيل أن ينفخ فينفخ فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم يمكث الناس أربعين ثم يأمر الله الملك نفسه أن ينفخ فينفخ فتخرج أرواح المؤمنين من عليين إلى أجساد الناس لا تُخطيء روح جسد خرجت منه وأرواح أهل الكفر من سجين فلا تخطيء روح جسد خرجت منه تدبُ الحياة في الأجساد فيخرج الناس كأنما يقومون من نومهم قال الله "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ*قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ"[يس : 52-51]
يُحشر الناس على أرض بيضاء نقية يُعطى كل أحد نورا فينقسمون إلى ثلاثة أقسام :(12/27)
منهم أقوام يُطفأ نورهم من حين أن يستلموه وهم أهل الكفر ، ويبقى طائفتان يبقى معهم نورهم حتى إذا جائوا على الصراط أُطفيئت أنوار أهل الكفر أهل النفاق قال الله جل وعلا عنهم أنهم ينادون أهل الإيمان:( انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) ويجيبون هم:" ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً" ويمضي أهل الإيمان يجتازون بنورهم على قدر أعمالهم الصراط ثم ينقسمون إلى قسمين قسم يؤذن لهم بدخول الجنة وقسم يُحبسون على الأعراف وإذا حُبسوا على الأعراف رأوا أهل الجنة وهم يدخلونها قال الله جل وعلا :"أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [الأعراف : 47-46] ثم ظاهر القرآن والعلم عند الله أنهم يُؤذن لهم في الجنة ثم ينادي منادي بعد أن يؤتى بالموت على صورة كبش أملح قالوا يا أهل الجنة أتعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت ويقال يا أهل النار هل تعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت فيُنحر بين الجنة والنار ويذبح ويُقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت قال الله جل وعلا "وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ *إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ" [مريم : 40]
هذا ما تيسر إيراده وتهيء إعداده وأعانا العلي الكبير على قوله وما لم نجمله أو نقله أو لم نبينه في قولنا هذا لعل الله جل وعلا يكتب لنا أن نبينه في الإجابة على أسئلتكم هذا والعلم عند الله و صلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين .(12/28)
هل يدخل مؤمنوا الجن الجنة.....................................................3
أرجى آية في كتاب الله...........................................................4
الحرف (كلا) في القرآن...........................................................5
الأدب مع الله....................................................................5
زيد بن حارثة....................................................................7
وإلى مدين أخاهم شعيباً...........................................................8
شاهد ومشهود....................................................................9
رب المشرقين ورب المغربين.......................................................10
يا نارُ كوني بردًا وسلامًا.........................................................11
إن العظائم كفؤها العظماء.........................................................12
هل يدخل مؤمنو الجن الجنة؟
يبحث العلماء هذا الأمر عن الحديث عن قول الله تعالى في سورة الأحقاف (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن) إلى أن قال سبحانه: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) إذ أن الآية التي بين أيدينا غاية ما أفادته عن ثوابهم أن مؤمني الجن يغفر لهم الذنب ويجيرهم الله من العذاب الأليم.(13/1)
فأخبرت الآية عن نجاتهم من النار لكنها لم تصرح بدخولهم الجنة وهذا الاستدلال من الآية يقبل لو لم تكن هناك شواهد وقرائن لا تقبل الرد تدل على أن مؤمني الجن يدخلون الجنة وأظهرها قول الله تعالى(ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: فقد امتن الله على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذا بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا: ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد فلم يكن الله تعالى ليمتن عليهم جزاء لا يحصل لهم وأيضاً فإن كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى).
ثم قال الحافظ رحمه الله: (وقد حكي فيهم أقوال غريبة: فعن عمر بن عبدالعزيز أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا).
وفصل الخطاب عندي أن يقال إن الجن قطعاً من أهل التكليف قال سبحانه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
وما التكليف إلا الإيمان والعمل الصالح وقد وعد الله كل من آمن وعمل صالحاً بدخول الجنة قال سبحانه (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) فهذه الآية ونظائرها في كلام الله يدخل تحتها مؤمن الجن والإنس، ولا نعلم دليلاً يستثني الجن من ذلك العموم ولا دليل أيضاً على قصر نعيمهم في الجنة على هيئة مخصوصة.
على أنه ينبغي أن تدرك أيها المبارك أن الجن وهم المخلوقون من نار تعجبوا من عظيم ما سمعوا وأنصتوا لجليل ما يتلى لما سمعوا القرآن رطباً من سيد الخلق ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كما أثبته الله في كتابه، فما أجدرنا أن تلين جلودنا وقلوبنا لذكر الله كما وصف الله الأخيار من خلقه والمتقين من عباده والعلم عند الله.
أرجى آية في كتاب الله(13/2)
الله جل جلاله يعبد خوفاً وطمعاً والرجاء فيما عنده أحد أركان الإيمان بالله الثلاثة وهي محبته سبحانه والخوف منه والرجاء في فضله وعلى هذا فمما عني به أهل التفسير والتحقيق في أي آية في كتاب الله أرجى.فمن نظر من أهل العلم ما بينه الله في آية المداينة من الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع ولو كان الدين حقيراً كما هو ظاهر الآية قالوا: هذا من المحافظة في آية الدين على مال المسلم مع العناية التامة بمصالح العبد المسلم فكيف إذاً بعناية اللطيف الخبير لعبده المسلم يوم القيامة وهو في شدة الحاجة إلى ربه؟ لا ريب أن ذلك أعظم وأولى.وذهب شيخنا الأمين الشنقيطي - رحمه الله - إلى أن من أرجى آيات القرآن قوله تعالى في سورة فاطر (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخبرات ذلك هو الفضل الكبير** جنات عدن يدخلونها).(13/3)
قال رحمه الله: (والواو في (يدخلونها) شاملة للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق ولذا قال بعض أهل العلم حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين) أ هـ. ونص رحمه الله في الموضع نفسه بأن وعد الله الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ومن أهل العلم -أيها المبارك- من تأمل ما جاء في خبر الصديق مع مسطح بن أثاثة إذ أن أبا بكر الصديق لما أنزل الله براءة عائشة وكان مسطح ممن وقع في عرضها حلف ألا ينفع مسطحاً منافعة وكان ينفق عليه من قبل فأنزل اللطيف الخبير قوله: (ولا يأتل أولي الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) (النور 22). وذهبوا إلى أن ما صنعه مسطح يحط النجم من قدره ومع ذلك عاتب الله الصديق في حقه وعظيم جرم مسطح وما وقع فيه إلا أن الله لم يبطل له ما سلف من عمل فسماه مهاجراً فدل ذلك كما نص العلماء على أن هجرة مسطح في سبيل الله لم يحبطها قذفه لعائشة رضي الله عنها.ومن هنا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن هذه أرجى آية في كتاب الله والحق أن مسلكهم في الاستدلال مسلك حسن وله حظ كبير من العقل والنقل. ومن المهم أن ندرك أن ما وقع من مسطح إنما كان قبل أن ينزل القرآن ببراءة أمنا أما وقد برأه الله من فوق سبع سموات فإن قذفها بعد ذلك كفر بواح فمن هذا الذي يرد على الله قوله؟(13/4)
أما القرطبي رحمه الله فقد ذكر في كتاب القيم الجامع لأحكام القرآن خبراً عن تدارس هذا الأمر بين الصحابة وأن الصديق رضي الله عنه يرى أن أرجى آية هي قول الله تعالى في فاتحة غافر (غافر الذنب و قابل التوب) وسر ذلك أن الله قدم قبول التوبة على غفران الذنوب وفي هذا بشارة للمؤمنين واختار عثمان رضي الله أن أرجى آية هي قول الله في سورة الحجر (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم) بينما يرى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن أرجى آية هي قول الله تعالى(قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله..) (الزمر) ثم قال الامام القرطبي رحمه الله معقباً: وقرأت القرآن كله من أوله وآخره فلم أرى آية أحسن وأرجى من قول الله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
الحرف (كلا) في القرآن
ايراد حرف (كلا) في القرآن يختلف عن ايراد سائر حروف المعاني وذلك ان هذا الحرف الذي يفيد الردع والزجر ورد في القرآن الكريم ثلاثا وثلاثين مرة كلها في النصف الثاني من القرآن ذلك ان القرآن ثلاثون جزءاً لم يرد في الخمسة عشر جزءاً الاولى من القرآن ذكر لهذا الحرف (كلا) ثم تتابع ذكره بدءاً بقوله تعالى في سورة مريم(.. سنكتب ما يقول ويأتينا فرداً) (78).(13/5)
ومن لطيف ما يروى ما ذكر ان الحجاج بن يوسف الثقفي هم يوماً بركوب فرسه فجاءته امرأة تستعطفه في ان يطلق سراح ابن لها فجرى بينهما حديث فقالت في معرض كلامها(والذي حذف (كلا) من النصف الأعلى) تقصد ان الاجزاء الخمسة عشر الاول من القرآن لم يذكر فيها هذا الحرف.فأخذ الحجاج يستذكر حفظه وكان حافظاً للقرآن فلما تبين له صحة قسمها أمر باطلاق ابنها.ونعقب بأن مراد المرأة ظاهر لكن ينبغي ان نعلم ان كل القرآن عال ولو قالت في النصف الاول لكان أولى لكنها ربما راعت سجع الفواصل في كلامها، بقي ان نعلم ايها المبارك ان (كلا) مركبة عند ثعلب من كافة التشبيه و(لا) النافية وقال: وانما شددت لامها لتقوية المعنى وهي عند غيره بسيطة غير مركبة وذهب بعضهم الى انها بمعنى -حقاً -.
وقال آخرون انها بمعنى - نعم - ولا يتحقق لهم اثبات صحة ذلك وجمهور اهل البصرة على انها حرف معناه الردع والزجر لا معنى لها عندهم الا ذلك.وهذا الحرف يكاد لا يكون الا في سورة مكية لانها مما سلف تفيد الردع والزجر والعتو والعناد انما كان اكثره في مكة ولهذا خوطبوا بهذا الحرف كثيراً كما تراه في سور مريم والمدثر والعلق والعلم عند الله.
الأدب مع الله(13/6)
أنبياء الله هم سادة الخلق، ورسل الحق. وسنقف هنا مع آية تُظهر أدب نبي كريم مع ربه جل وعلا.. أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، اذ حكى الله عن قوله (.. فإنهم عدو لي إلاًّ رب العالمين* الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين* والذي يميتني ثم يحيين).فتأمل كيف أسند الخلق والهداية والإطعام والسقاية والشفاء والإماتة والإحياء برب العالمين جل جلاله، وتأدب وهو يخبر عن المرض فأسنده عليه الصلاة والسلام لنفسه، (وإذا مرضتُ) مع يقين إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لن يكون إلاَّ بقدر الله، لكنه هدي الخليل عليه الصلاة والسلام في التأدب مع ربه. فإذا تدبرت القرآن نزلة أخرى ظهر لك أدبه، فتدبر أيُّها الأخ المبارك هذه النماذج المثلى التي صدعت بها هذه الآيات البيّنات، فما أحراك وأنت تدعو إلاَّ أن تقول: اللهم يسّر ولا تعسّر، ولكن أولى وأحرى وأكمل أدبًا أن تقول: (اللهم يسّرني لليُسرى، وجنّبني العُسرى).وتأمل الفارق في الخطابين، والتفاؤل في الدعوتين. جعلك الله من أهل التوفيق، ويسّر لك الخير في كل طريق.. والعلم عند الله.والخضر عليه السلام يوم أن نسب خرق السفينة لنفسه، ونسب ما قام به من خير لربه، قال الله تعالى في سورة الكهف حكاية عن هذا العبد الصالح: (أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردتُ أن أعيبها) ولمّا أخذ يتحدث عن الإفضال للغير قال كما قال الله تعالى حكاية عنه: (وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما). وقريب من هذين قول مؤمني الجن حينما نسبوا الشر إلى ما يُسمّى فاعله تأدباً مع الله، ونسبوا الرشد وأسندوه إلى الله كما في آية سورة الجن (وأنّا لا ندري أشر أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا).
وإلى مدين أخاهم شعيباً(13/7)
ورد ذكر نبي الله شعيب عليه السلام في القرآن عشر مرات، وهو أحد أربعة أنبياء من العرب وهم: هود، صالح، شعيب، محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد بعث الله شعيباً إلى أهل مدينة فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهو شأن دعوة الأنبياء جميعاً عليهم السلام.
ومما يستوقف المتأمل في آيات القرآن في خبر هذا الرسول الكريم أن الله قال في سورة الأعراف (وإلى مدين أخاهم شعيباً) وقال في سورة الشعراء (كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون)
فما السر في أنه وصفه في سورة الأعراف بأنه أخ لأهل مدين، ولم يثبت هذه الأخوة في سورة الشعراء؟
وأحسن ما قيل في هذا أنه لما نسب القوم إلى موطنهم وقبيلتهم (مدين) عد شعيب أخا لهم فقال وإلى مدين أخاهم شعيباً) فهو يشترك معهم في الجد الذي إليه ينتسبون. أما عن تحدث القرآن عن المعتقد الذي كان عليه قوم شعيب وهو عبادة الأيكة أعرض القرآن عن ذكر وصف شعيب بأنه أخ لهم، لأنه عليه السلام وإن كان أخا لهم نسباً فهو من القبيلة نفسها إلا أنه بريء كل البراءة مما يعبدون فلما نسب القوم إلى معتقدهم وآلهتهم الباطلة (كذب أصحاب الآيكة) قال: (إذ قال لهم شعيب...) فلم يثبت له الأخوة هنا لأنه لا إخاء عقدي يجمعه مع عبدة الشجر. والعلم عند الله
يا نارُ كوني بردًا وسلامًا
يذهب اهل الصناعة النحوية الى تقسيم المنادى الى اقسام هي منادى مفرد، ومنادى مضاف، ومنادى شبيه بالمضاف، ومنادى نكرة مقصودة، ومنادى نكرة غير مقصودة، والذي يعنينا هنا انهم في المنادى النكرة المقصودة يبنونه على ما يرفع به.(13/8)
وإعمال هذه القاعدة النحوية في قوله تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) يتبين لنا ان لفظ (نار) في الآية نكرة مقصودة، فيصبح المعنى ان الله جل شأنه خاطب تلك النار دون سائر النيران في الارض عند وقت عزم اولئك الضالين محاولة حرق ابراهيم عليه السلام.والا لو كان النداء عامًا لا يخصص به نارٌ بعينها لاطفئت النيران جميعًا، وهو ما لم يقع اصلًا. وايمانيًا يتضح لكل احد من ذلك كله احتفاء الله بخليله ابراهيم.فما السر في ذلكم الاحتفاء العظيم من الرب الجليل بهذا النبي الكريم؟
لا ريب ان الله اعلم حيث يجعل رسالته، لكن الجواب عن ذلك يمكن اجماله في ان ابراهيم قدم ماله للضيفان، وابنه للقربان، وقدم جسده للنيران، كل ذلك فعله ابتغاء مرضاة الرحمن، الا ترى الى قول الله عن هذا العبد الصالح (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فتأمل يا اخي كرامة العبد عند الله ان اخلص لله نيته واسلم لله قلبه وسار على هديه جل وعلا وشرعته.على اننا نختم بلطيفة مستقاة من آيات قرآنية متعددة وهي ان النيران ثلاثة: نارٌ تضيء وتحرق وهي نارُ أهل الدنيا ففيها منفعة، وفيها مضرة، ونارٌ لا نفع فيها البتة وهي نار جهنم عياذًا بالله منها.. ونار لا تحرق وقد كانت نورًا وضياء وهي النار التي رآها كليم الله موسى وهو في طريقه من أرض مدين إلى أرض مصر، قال ربنا سبحانه: (فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).. والعلم عند الله.
إن العظائم كفؤها العظماء
لا ريب أن سياسة الأمم وقيادة الدول من جلائل التكاليف وعظيم المهام التي لا يقدر عليها كل أحد بلغ كرسي الرئاسة أو تسلم مقاليد حكم. فليس كل من سلك الجياد يسوسها كما يقول الحكماء من الشعراء.(13/9)
فإذا كان الأمر يتطلب النظر والتأمل ثم التحديث والتغيير والتطوير في شأن ألفه الناس دهرًا طويلا، كان ذلك العمل أعظم شأنًا وأجلّ أثرًا ولكن مثل هذه الطرائق لا يسلكها عادة إلا الأفذاذ من الرجال.وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز ملك هذه البلاد يلحظ كل متابع لمنهجه -حفظه الله- في الحكم أنه قائد لا يؤمن بأن يترك للأيام أن تغير ولا للناس أن يألفوا ما هم فيه، سواء كان ذلك لهم أو عليهم. بل هو قائد يأخذ بزمام الأمور نحو وجهتها على نسق فيه الصالح العام للبلاد والعباد. وفي شهرنا المبارك هذا من عامنا هذا يصدر أيده الله مرسوما ملكيا ينظم القضاء ويعيد هيكلة مؤسساته.(13/10)
إن الحكم بما أنزل الله دين لا يقبل الله غيره وهو اليوم أحد عناوين الفخار ورموز الإجلال لهذه الدولة المباركة. لكن الأجهزة الإدارية التي تتولى تطبيق الشرع لا ريب أنها في جملتها صناعة بشرية في حاجة تامة لأن يعاد النظر في هيكلتها بين الحين والآخر.فالقضايا قد تنوعت ومصالح الناس قد تعددت، واتصالنا بغيرنا من الأمم والشعوب قد كثر وكل ذلك له ارتباطه الوثيق بالقضاء فكان في ذلك المرسوم الملكي سير على خطى التميز القائم على تحكيم شرع الله، وفي الوقت نفسه فيه مواكبة العصر وتيسير أمور الناس وإعانة المشايخ القضاة -وفقهم الله- على عظيم ما كلفوا به. إن الوضوح الإداري والسياسي في منهج الملك عبدالله يزيد من قناعة من حولنا ببلادنا، وهذا يشعر كل قادم إليها بأنها ديار لا يخاف فيها ذو حق، ولا مقام فيها لجائر معوج ويحضرني هنا تعقيب لسمو وزير الخارجية يوم أن سئل عقب كلمة الملك عبدالله في مؤتمر القمة العربي بالرياض. لمَ صرح الملك -وفقه الله- بأن العراق يرضخ تحت الاحتلال الأجنبي في كلمته، قال سمو وزير الخارجية ما مفاده «إن الملك يحب أن تسمى الأمور بمسمياتها».ثم توجت هذه الأوامر الملكية بأمر ملكي صدر ليلة أول أمس قضى بإصدار اللائحة التنفيذية لنظام البيعة لاعتماده وتنفيذه، وقد تضمنت هذه اللائحة ثماني عشرة مادة خلصت إلى الارتقاء بنظام البيعة إلى أعلى مصافٍ له، حفاظًا على وحدة البلاد وتحديدًا للمسؤوليات ونهوضًا بعمل المؤسسات. ثم مع هذا الأمر الملكي الرائد يجيء التوجيه الملكي الكريم بإبقاء أبواب المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة مفتوحة أمام الزوار والمصلين على امتداد الساعة طوال العام ليكون هذا التوجيه برهان صدق لما يملكه هذا الملك الصالح من مشاعر صادقة نحو الأمة الإسلامية.(13/11)
لكن تلك المشاعر لا تقف عند حد المجاملة الإنسانية والتصريحات العاطفية بل تتجاوزها إلى روح المبادرة والعمل الدؤوب لصالح المسلمين فهنيئا لنا للعباد ولازوار وساكني بلدة النبي المختار هذا النبأ السار والبشارة الجليلة مع خواتيم شهر كريم، فكل ساكن بالمدينة من حاضر وبادٍ وزائر ومقيم يودّ لو قضى أكثر وقته في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو ما يتحقق له إدراكه اليوم بعد هذا التوجيه الملكي الكريم. لقد نقل سمو أمير المدينة -وفقه الله- وهو يعلن هذا النبأ ويخبر بهذا التوجيه الملكي الكريم، نقل القلوب لفرصة كبرى وسعادة بالغة ممزوجة بدمعات يصعب على المؤمن أن يكفها وقد أذن الملك الصالح أن يدخل المؤمن مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أي ساعة شاء.
ختاما:
أيها الملك الصالح: جعل الله أيامك أعيادًا، وأبقاك للمسلمين ذخرًا وملاذًا، كما أسأله سبحانه أن يتقبل منك أيها الملك الكريم صالح الأعمال وجلائل الأفعال، ووالله إنك لمن يصدق فيهم وفي أفعالهم قول أمير الشعراء:
خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء
**************(13/12)
يسعدني أن أقدم لكم أيها الأعضاء الكرام تفريغ هذه المادة الرائعة
التي أهداها لنا أخونا * الناصح *
الذي أسأل الله له أن يبلغه الدرجات العلى من الجنة
وهي
من روائع شيخنا المبارك
صالح بن عواد المغمسي
حفظه الله
و هي لطالبة العلم خاصة
شملت مجموعة من فرائد الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها طالب العلم
إضافة إلى لطائف الأخبار
و شذرات من الأدب و التي
سعدت جدا بتفريغها
و هاهو تفريغ الجزء الأول من المادة بين أيديكم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً
و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من أقتفى أثره وأتبع منهجه بإحسان
إلى يوم الدين أما بعد
******
فإن هذا خاتمة اللقاءات المتعلقة بدرس بعد صلاة الفجر وهو التأمل في فضل الله تبارك و تعالى
ومعلوم أن المخاطبة به في المقام الأول ، طلبة العلم ، أسأل الله أن يوفقنا و إياكم لكل خير
بالأمس أيها المباركون تأملنا في سورة السجدة ، أما اليوم فسنأخذ متفرقات في القرآن )..كلام محذوف)
لا نقول من أشتات القرآن نقول من أشتات التأويل حول القرآن ،
لا نقول من أشتات القرآن ـ فهذه كلمة لا تليق ـ نقول من أشتات التأويل حول القرآن قدر الإمكان
و أنا أستبطئ في الكلام لعل إخوانكم يدركون إن شاء الله اللقاء و سيكون اللقاء على هيأة فوائد و نسأل إن شاء الله
******
الفائدة الأولى :
استفتح الرب تبارك و تعالى خمس سور من كتابه بالحمد
و هذه السور هي :
قبل أن تكتب توقف و حاول أن تأتي بها أنت..
أولها هو ؟.... الفاتحة
الثاني ؟.... الإنعام
الفاتحة و الأنعام بقي ثلاث ؟
الثالث؟.... سبأ
بعد سبأ مباشرة فاطر.. و بينهما؟
الكهف.(14/1)
إذا ،استفتح الرب تبارك و تعالى خمس سور من كتابه بالحمد ، ليس في القرآن سورة مستفتحة بالحمد إلا هذه السور
أعيدها :
الفاتحة { الحمد لله رب العالمين }
الأنعام { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون }
الكهف :{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا }
سبأ :{ الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير }
فاطر : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير }
هذه الخمس افتتح الله جل و علا فيهها بالحمد
الآن نذكر فائدة تبع لهذا و ليس رقم اثنيين بل تبع لهذا / فائدة صناعية أي المقصود كيف تأخد من آيات القرآن ما ينفعك في الخطاب
الله قال عن أهل الجنة {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [يونس/10]
من هذه الآية مع الآيات التي استفتح الله القرآن بسورة الفاتحة يركب صنعة الحمد فيقال
الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته
الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته
وجعل حمده آخر دعاء لأهل جنته
الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته ، وجعل حمده آخر دعاء لأهل جنته.
يعني يطلب منك كلمة تقولها في حفل أومنبر تخطب عليه تقول مثل هذا :الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته ، وجعل حمده آخر دعاء لأهل جنته.
الفائدة الثانية :
استفتح الله جل و على سورتين من كتابه العظيم *بالأمر بتقوى الله * و تمة لطيفة في هاتين السورتين .الآن ما المطلوب منا ؟
أولا: تحديد السورتين
ثانيا: ذكر اللطيفة
حددوا أنتم السورتين ؟
سورة النساء :{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } [النساء/1](14/2)
نعم سورة النساء ، و الثانية ؟
ذكر احد الطلبة الحضور سورة الأحزاب { يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما }
هذه" يا أيها النبي اتق الله "صح الجواب و لكن أنا أتكلم عن الناس أنا أتكلم عن أمر الناس
أما الأحزاب فلسيت مخاطبة للناس بل خطاب للنبي{ يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما }
سورة الحج : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [الحج/1]
لذلك نضع قيد : استفتح الله جل و على سورتين من كلامه *بأمر الناس بتقوى الله * و قلنا إنهما النساء و الحج
من يستطيع أن يخرج اللطيفة فيهما ؟
اللطيفة الموجودة ، أول شيء استوعب السورة الكتابة أمر بسيط ، سأملي عليك إملاء و أول شيء استوعب السورة
أول سورة في القرآن الفاتحة ، الثاني البقرة الثالث آل عمران و الرابعة النساء
الجزء الثاني من القرآن ، الخمسة عشرة جزءا تبدأ بماذا ؟ أول سورة فيها سورة / مريم / ثم /طه/ ثم /الأنبياء/ثم /الحج / فرابع سورة في النصف الأول أمر الله الناس { يا أيها الناس اتقوا ربكم} و أول رابع سورة في النصف الثاني أمرالله فيها بتقوى الله ، واضح ؟
النساء رابع سورة في الخمسة عشر جزءا الأولى من القرآن ، و الحج رابع سورة في الخمسة عشر جزءا الثاني من القرآن و كلاهما صدرها الله بأمر الناس بتقوى الله . هذه الفائدة الثانية
الفائدة الثالثة
قرأ الإمام في الصلاة
{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [هود/49]
الفائدة :
الغيب الي أطلع الله عليه نبيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
غيب قد وقع و قضى و انتهى ، كإخبارالله نبيه عن الأقوام السابقين مثل نوح و أصحاب الكهف و يوسف و جميع أنبياء الله و رسله ، قسم قد وقع قبل حياته صلى الله عليه و سلم فيخبر الله نبيه عنه(14/3)
القسم الثاني : قسم أخبر الله نبيه عنه ووقع في حياته صلى الله عليه و سلم ، مثاله : قول الله تعالى { سيهزم الجمع و يولون الدبر } متى وقع هذا ؟ في في غزوة بدر ، في حياته صلى الله عليه و سلم
القسم الثالث غيب أخبر الله نبيه عنه و لم يقع إلا بعد وفاته صلى الله عليه و سلم
و هذا الثالث ينقسم إلى قسمين
منه ماقد وقع و منه ما لم يقع . من يفسر هذا ؟
أجاب أحد الطلبة الحاضرين قال : ستفتح أبواب كسرى و أبواب قيصر
قال صلى الله عليه و سلم : / إني أبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا /
وهذا كله قد وقع و منه : فتح بيت المقدس وهذا كله قد وقع ، و أمور لم تقع بعد مثل أشراط الساعة الكبرى و اليوم الآخر و الصراط الميزان ..كلها أخبر عنها النبي صلى الله عليه و سلم و لم تقع بعد .
سؤال : من يعيد هذا كله إجمالا ؟ من يعيد الغيب كله إجمالا ، يستحضره ..دون أن ينظر..؟
الغيب ثلاثة أقسام
القسم الأول : غيب قد وقع قبل حياته صلى الله عليه و سلم و قضى و انتهى
القسم الثاني : قسم أخبر الله نبيه عنه ووقع في حياته صلى الله عليه و سلم
القسم الثالث غيب أخبر الله نبيه عنه و لم يقع إلا بعد وفاته صلى الله عليه و سلم وهو قسمان منه ماقد وقع و منه ما لم يقع
الآن أنتم طلبة العلم هذا الكلام الذي أنا قلته باختصار تأخذه أنت كأصل و تذهب تحضر منه درسا فتأتي للناس بعد الصلاة
وتقول { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } [هود/49]
و تبدأ في الشرح و تقول إن الغيب ينقسم ثلاثة أقسام : قسم قد مضى مثل كذا كذا كذا و تأخذ مثال منه و تذكره بإيجازمثل خبر يوسف خبر أهل الكهف..(14/4)
ثم تقول للناس و قسم منه وقع في حياته صلى الله عليه و سلم مثل أنه صلى الله عليه و سلم قال :" أني لأبصر مصرعهم في بدر " تراجعها في السيرة فتعرف الخبر و تبين للناس أن الرسول الرسول صلى الله عليه و سلم أخبر أنهم سيصرعون فتخبر بهذا ،على أنه وقع في حياته صلى الله عليه و سلم .
و تأتي بالقسم الثالث الذي وقع بعد وفاته صلى الله عليه و سلم مثل : إخباره صلى الله عليه و سلم عن أن سهيل ابن عمر سيقف موقف يدب فيه عن الإسلام ، لما رفض في يوم الحديبية أن يكتب /محمد رسول الله / غضب عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم " يا عمر على رسلك سيأتي عليه يوم سيذب فيه عن الإسلام " . فلما مات النبي صلى الله عليه و سلم وقف سهيل بن عمر ضد المرتدين وخطب في مكة خطبة بليغة وكان من أفصح الناس ، تذكر هذه القصة في السيرة ثم تخبر عن أشياءا لم تقع كأشراط الساعة و تذكر نمودجا و مثال ، فيتكون عندك كطالب علم درس تقوله للناس ، ثم هذا الدرس لو جعلته في كتاب أو في دفتر تزيد عليه كل مرة ستصبح قد أنجزت شيئا جيدا تقوله للناس محسوس .
و الناس يا أخي أهل حيك أهل مسجدك ، إذا عرفوا أن لديك شيئا جديدا تقوله لهم سيجلسون لك ،لأن كل الناس تريد أن تنمي ثقافاتها تريد أن تعرف شيئا عن دينها ، ولكن عندما لاتقول للناس إلا شيئا مكرورا، تردده ليل نهار ، أو تقول وعظا إنشائيا ، قد يكون محمودا في موضع فلابد من الوعظ ، لكن لا يكون محمودا في كل موضع .و الناس لن يقتنعوا بعلمك حتى يروا منك شيئا جديدا.
هذا نموذج و أنا أتكلم عن طلبة العلم في التأصيل في قضية أن الإنسان يتخذ شيئا يأتي به
نعود إلا ما كنا نتكلم فيه
الفائدة الرابعة
قال الله جلا و علا { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } [النساء/163] هذه أصل المسألة
الأنبياء المذكورون المتفق على نبوتهم في القرآن ، خمسة و عشرون نبيا صلوات الله و سلامه عليهم إجمعين ،(14/5)
ذكر الله تعالى منهم ثمانية عشر نبيا في سورة واحدة .
لماذا قلت ثمانية بالفتح و عشرنبيا ، ماذا يسمى هذا عند النحوويين ؟تفضل يا شيخ ..
الجواب كما قال الشيخ ـ يقصد أحد الطلبة الحاضرين ـ مبني على فتح الجزءين يقول الله { سأصليه سقر ، وما أدراك ما صقر ، لا تبقي و لاتذر، لواحة للبشر ، عليها تسعة عشر} إذا وصلت عليها { عليها تسعة عشر } بالفتح ، هذا يقال له مبني على فتح الجزأين لماذا يبنى على فتح الجزأين ، لأنه عدد ماذا ؟ عدد مركب ، لأنه عدد مركب
حتى تعلم أن الصناعة النحوية ضرورية في العلم
نعود إلى ما كنا فيه
ذكر الله تعالى منهم ثمانية عشر نبيا في سورة واحدة
ماهذه السورة ؟
الأنعام
و عرفت الآيات التي ذكرفيها الثمانية عشر نبيا بأنها آيات : تلك حجتنا قال الله تعالى { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم }
كم ذكرنا إلى الآن ؟
واحد
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوب } كم ؟ ثلاثة
{ كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل} أصبح كم ؟ أربعة
{ ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين } { وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين } [الأنعام/85]
هاؤلاء ثمانية عشر نبيا ذكرهم اللته تعالى في الأنعام .
بقي كم ؟
بقي سبع ؟ من هم ؟ طبعا غير المذكورين في الأنعام
في بيتين شعر
في تلك حجتنا منهم ثمانيةمن بعد عشر ، و يبقى سبعة و همو
إدريس هود شعيب صالح و كذاذو الكفل آدم ذو المختار قد ختموا
Œ
صلى الله عليهم و سلم أجمعين
الفائدة رقم 5
خص الله أنبياءه بخصائص ،مشتركة فيما بينهم ، من هذه الخصائص :
أولها و أعظمها ماهو ؟ الوحي
الوحي ، أعظم و أول خصائص الربوبية الوحي ، و قد ذكر الله أكثر صوره في خاتمة سورة الشورى
هذه قضية أساسية أن الوحي أعظم خصائص النبوة
الفائدة رقم 6
الحرف/ كلا/
حرف رجع و جزم(14/6)
وقد ذكر في القرآن ثلاث و ثلاثين 33 مرة كلها في الخمسة عشر جزءا الأخيرة بدأ بسورة مريم
أول ما ذكرت كلا في القرآن في أي آية { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ،أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا ، كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا } [مريم/79]
الذي يحفظه الآن ,هذا أول ماذكركلا في القرآن
الآن نتوقف قليلا ، حتى نخرج أدبيا حتى لا تصيبكم السآمة
يوقول إن الحجاج أراد أن يركب فرسه فجاءته امرأة لها ابن مسجون في سجن الحجاج فأرادت أن تحلف
فقالت( و الذي حذف كلا من النصف الأعلى ) فاسترجع الحجاج ، وكان يحفظ القرآن ، فاسترجع القرآن في لحظات ، فقال صدقت فيما قالت ، أطلقوا لها إبنها .فالنصف الأعلى و لايقال النصف الأدنى بعده ، فالنصف الأول ليس فيه حرف /كلا/ كما بينا قبل قليل ، كله في قسم الخمسة عشر جزءا الأخيرة ، وهذا يدل على أن الحجاج رغم جبروته كان رجلا فصيحا بليغا ، يحفظ القرآن و يستحضره و هي أهم قضية في المسألة قضية استحضار القرآن.
والناس في هذا العصر يتفاوتون فمثلا ترى بعض طلبة العلم ما شاء الله تبارك الله ممكن يقرأ سورة في التهجد أو التراويح لكن إذا جاء يدرس قلما يستحضره ، تجد الآخرعكسه إذا درس يستحضر و إذا قلت له صلي بنا تراويح أو تهجد ، صلوات طويلة قد لا يستحضرالقرآن ن فالله يفتح على بعض الطلبة في شيء، و يفتح على الآخرين في شيء آخرو هكذا .(14/7)
فالذي يعنينا أن الحجاج أحد أمراء بني أمية ثقفي من الطائف ، عرف بسفك الدماء ، اختاره الوليد بن عبد الملك ليكون قائدا لجيشه ثم إبنه الوليد ، فلما مات الحجاج قبل موت الوليد خرج الوليد يجر شعره و ليس المقصود يعدد و لكن المقصود يتحسر على الحجاج و يقول : إن الحجاج جلدة ما بين عيني ، وجلدة ما بين عيني إذا قرأت كتب الأدب تمر عليك هذه العبارة كثيرا ، العرب إذا أرادت أن تعظم شخصا وتبين أنها تعتمد عليه و أنه له مكانة عندها يوقولون فلان جلدة ما بين عيني.
و أظن أن عبد الله ابن عمر قال في رجل اسمه سالم ( وجلدة مابين العين و الأنف سالم )،
فلما مات الحجاج كان عبد الملك يقول إن الحجاج جلدة مابين عيني فقال الوليد إن أبي كان يقول إن الحجاج جلدة ما بين عيني بل و الله إنه جلدة وجهي كله لأن الحجاج خدم عبد الملك و خدم الوليد خدمة عظيمة من خدمته لهم
وهذا من طرائف الأدب :
أنه تزوج امرأة يقال لها هند ، هذا الحجاج ، ثم حصل بينه و بينها نزاع ، فطلقها ، فلما طلقها كانت ذكية جدا أرادت أن تنتقم منه فأوعدت إلى رجل يذكر جمالها عند عبد الملك بن مروان ، فذكر جمالها عند عبد الملك بن مروان الذي هو الخليفة ، فأرسل إليها يخطبها ، فقال أوافق شريطة أن يقود بي الحجاج إليك،و كانت في البصرة و الحجاج في دمشق و عبد الملك في دمشق ، فأمر عبدالملك الحجاج أن يقود إليه زوجته من البصرة إلى دمشق و هي أرادت أن تهينه بهذا ، فأخذ يقود بالركاب وهي على الهودج ، فلما اقتربوا من دمشق أخرجت(14/8)
دينارا ليس درهما و إنما دينارا ، و الدينار يابني أضعاف أضعاف الدرهم و كانت النقود مصكوكة فعبد الملك أول من صك النقود ، مثل الفلوس الآن ، ثم لما قربت من دمشق ، عمدا رمت الدينارثم قالت : (ياجمال .. تنادي من ؟ الحجاج ، قالت لقد سقط مني درهم ما قالت دينار فاتيني به ) فأخذ الحجاج يبحث يبحثـ طبعا ماذا وجد...؟ وجد دينار ، ما أسقطت درها ـ ، فقال إني لم أجد إلا دينارا قالت لقد أسقطت درهما فقال إني لم أجد إلا دينارا قالت هاته هو، ثم أخذته و قالت :
الحمد لله الذي أبدل درهمنا بدينار.
تقصد ماذا ؟
تقصد أن الله عوضها بعبد الملك عمن ؟ عن الحجاج مبالغة في النكاية به
هذا الإطلاع منك على أدب العرب كما / / في عيون الأخبار لإبن قتيبة و الكامل لإبن / /تراه يهذب طباعك و تطلعك على أمور كثيرة من حياة الناس و ينبهك كثيرا كيف تتصرف في كثير من الأمور
******
هذا الحجاج كان له خصم اسمه فيروز عدو له من الخوارج ، قال الحجاج من يأتيني برأس الفيروز أعطيه ألف دينار.
فقام فيروز في الناس و قال : أيها الناس ، إنكم تعرفون كرمي ـ كان ثريا ـ من يأتيني برأس الحجاج أعطيه مائة ألف دينار
يقول الحجاج : والله إنني لما بين خاصتي و إنني أتلفت ميمنة و ميسرة ،خوفا أن تغريهم المائة ألف دينار ،
ثم إن الحجاج ظفر بمن ؟ ظفر بفيروز ، وكان فيروز ثريا عنده غلمان و عبيد و جواري و أموال ، فقال له الحجاج : الآن أخرج لي المائة ألف التي كنت تعد الناس بها ، قال أبشر أيها الأمير .. لكنها متفرقة في الناس ـ يعني أنها ديون ـ دعني أقف في الناس و أطلب ديني .(14/9)
ولم يفطن الحجاج بخدعة فيروز فوافق ، فصعد على ربوة و قال أيها الناس جميع عبيدي عتقاء ، أحرار ـ حتى لا يتسلط عليهم الحجاج ـ و جميع جواري أحرار ـ حتى لا يتسلط عليهم الحجاج ـ وجميع مالي مباح لكم ـ تراه في مكان كذا و كذا روحوا خوذوه ـ و من كان لي عليه ةدين فإني سامحته و لم يبق من الدنيا في يده شيء ، فقال للحجاج هاأنا بين يديك إفعل بي ما تشاء ، ليس معي أي شيء ،
يقولون إن الحجاج غلى غبودين ثم رماه فيه
موضع الشاهد : كيف تصرف هذا مع خصمه ، طبعا أنت لست مكلفا بالناس يدخلون جنة يدخلون النار ، هذه مردها إلى ربي { إنا إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم } لكن ، تستفيد من حياتك اليومية ، كيف تتعامل ؟ كيف لا تُظلم ، كيف لا تُخدع ، كيف تكون قويا في الدين ، كان عمر يقول (لست خبا و لا الخب يخدعني ) و لاسبيل إلى هذا إلا بقراءة أخبار السابقين ، و أنباء الأولين .
قد يدخل بعض الأخبار شيء من الزيادة و المبالغات و النقصان لكن هذا ليس قرآنا يتعبد به ، إنما الإنسان من خلاله يعرف أشياء كثيرة تنفعه
نعود بعد هذه الشدرات من الأدب إلى مسألة القرآن.
الفائدة السادسة
تذكير برابط درس متفرقات
و إلى الجزء الثاني إن شاء الله
الحمد لله الذي جعل حمده أول آية في كتاب رحمته ،
وجعل حمده آخر دعاء لأهل جنته، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
بفضل الله و كرمه أتممت تفريغ الجزء الثاني من درس متفرقات
و أسأل الله العظيم أن يجعله خالصا لوجه الكريم
الفائدة السادسة
قال الرب تبارك و تعالى في القرآن : { يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه
قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} [المزمل4]
موضع الشاهد : أعظم ما يعين على القيام بالأثقال في الدنيا ، في النهار ، قيام الليل
أعيد :أعظم ما يعين على القيام بالأثقال ، في النهار ، قيام الليل(14/10)
من أحسن الوقوف بين يدي الله ليلا ،أعين على مايطلبه نهارا
من أحسن الوقوف بين يدي الله ليلا ،أعين على مايطلبه نهارا
ونبينا صلى الله عيه و سلم لما جاء علي و فاطمة يسألانه خادما قال : ألا أدلكما على خير من
خادم ،ثم قال : إذا أنتما أويتما إلى مضاجعكما فسبحا ثلاثا و ثلاثين ، و احمدا ثلاثا و ثلاثين ، و كبرا أربعا و ثلاثين ، ماذا قال بعد ذلك ؟ قال : فذلك خير لكما من خادم.
فهذه قرينة إضافة إلى الآية إلى أن الذكر في الليل ، وقيام الليل من أعظم ما يعين العبد على أعباء و مشاق و مهام النهار.
هذه الست فوائد تكفي في هذا المقام ، و الآن نجيب على أسئلتكم لأن الأسئلة بعون الله فيها تحقيق لكثير من المطالب ، التي لا يتسنى معنا أن نتحدث فيها.
الأسئلة
يقول : قال الله تعالى : { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل }
ما هما الميتتان ، و ما هما الحياتان ؟
الجواب
هذه الآية في سورة غافر ، { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ، ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير } [غافر]
اختلف في ماهي الميتتان و ما هي الحياتان . و الذي يظهر و العلم عند الله : أن موتة الأولى موتة العدم ، قبل أن نولد و الحياة الأولى الحياة الدنيا و الموتة الثانية الموتتة التي تقع في الدنيا عندما تفرق أرواحنا أجسادنا و الحياة الثانية حياة الآخرة .
***
السؤال الثاني
من نفس الشخص يقول :
عندما وقعت أحداث 11 سبتنبر قال بعض طلبة العلم في سورة التوبة الآية 110 في قوله تعالى : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } [التوبة/110] يقولون : إن عدد أدوار برجي التجارة 110 ، و سورة التوبة في الجزء الحادي عشرو سورة التوبة في السورة التاسعة في المصحف.
***
الجواب(14/11)
طبعا هذا كله باطل، لا أصل له ، و لا يجوز للأحد أن يربط بينهما أرقاما ،
إخواني الله يقول : { لا يزال بنيانهم } يتكلم عن بنيان المنافقين وهو مسجد الضرار { الذي بنوا ، ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم و الله عليم حكيم}
قد يأتي إنسان ، يدخل عليك مدخلا عظيما يقول لك ، العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب ، و هذه قاعدة صحيحة في أكثر أحوالها ، و لكن ينبغي أن تعرف كيف تربط بين قول العلماء العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب ، ما نطبقها على برجي التجارة في نيويورك ، كيف تطبق ؟
أي إنسان حينما يريد أن يبني مسجدا ليضر به الناس نهدمه ونقول مثله مثل مسجد ماذا ؟ مثل مسجد الضرار ، ونتلوا الآية { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم }أما أن يطبق هذا على البرجين ، فيقال رقم 9 و رقم 11 ، هذا قد يقوله من لم يفقه أي مفاتيح لكلام الله و لاعلم له بالتفسير .
يعني هذا ، ما تدار بالعاطفة .
سؤال
هذا يقول : ما معنى قوله تعالى : { لم يطمثهن إنس قبلهم و لاجان }
الجواب
الله يتكلم عن الحور العين ، أنهن عذارى أبكار لم يقربهن أحد من قبل .
***
سؤال
قال الرب تبارك و تعالى
{ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [الواقعة/47]
يقول ياشيخ هذا نبي الله يونس ، كيف يظن أن الله لا يقدرعليه و هو نبي؟
الجواب
مامعنى أن لا نقدر عليه هنا
معناها أن لا يضيق{ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } أي لن نضيق عليه
يعني اعتقد أن احتفاء الله به ، يمنع أن يضيق الله جلا و علا عليه
سؤال
هل صحيح قصة الأعرابي الذي قال للنبي صلى الله عليه و سلم لأن قابلت الله لأحاسبنك؟
الجواب
لاأعلم عن هذا شيئا ..لا أدري
***
سؤال
ماهو أفضل كتاب في الأدب ؟
الجواب(14/12)
إحرص على قراءة عيون الأخبار لإبن قتيبة ، و العقد الفريد لإبن عبد ربه
سؤال
ماهو الكتاب الذي ذكرته في محاضرة عنيزة في شرح سيرة ابن هشام
الجواب
الروض الأنف للسهيلي في السيرة
***
سؤال
هذه إحدى الإخوات السائلات تقول : ما حكم كريمة الحافظ لكتاب الله ، و هل يختلف الحكم إذا حضر وجهاء القوم ، و إذا كان الأمر جائزا لكن المكان الذي سيقام فيه التكريم ، يغلب على الظن أنه ما أسس إلا للصد عن دين الله ، فهل تركه يقاس على ترك النبي صلى الله عليه و السلام ،الصلاة في مسجد ضرار؟
الجواب
هذا فيه تفصيل
نحن في بلد مسلمة ، مؤمنة ،و لا أظن أبدا أنه يوجد أن أحدا اليوم يبني بناء يريد به أن يصد عن دين الله ، محال ..لكن قد يريد به محلا تجاريا حتى.. لو عصى الله فيه؛ فأصحاب المقاهي وأمثال ذالك غير ذلك ممكن..لكن ما يقال أنه صنعه للصد عن ذكر الله.. فرق كبير جدا بين من يصنع مكانا فيه معصية و بين من يصنع مكانا للصد عن ذكر الله ، الذين بنوا مسجد الضرار كانوا كفارا منافقين لا يؤمنون بالله طرفة عين و لابرسوله صلى الله عليه و سلم ، فتحمد هذه السائلة على غيرتها و لكن ينبغي أن تتريث في الحكم على الأشياء و ألا تُحَمل الأمور فوق ما تستحق .
ثم قالت في تفسير المصباح المنير ذكرابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لقول الله تعالى {يوم يحمى عليها في نار جهنم } قال : و لهذا يقال من أحب شيئا و قدمه على طاعة الله عذب به ، وذكر رحمه الله مثالا على ذلك زوجة أبي لهب لما كانت تعينه كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا في جيدها حبل من مسد
قالت هل يقاس على ذلك المشركين الذي استغشوا ثيابهم عند سماع الحق ، بأن الله قطع لهم ثيابا من النار يوم القيامة ؟
الجواب
هذا الأخير استدراك جيد
أما الأول فهذه المسألة يقول بعض العلماء : من أحب شيئا عذبه الله به وقالوا لما زاد حب يعقوب ليوسف تعذب بماذا ؟(14/13)
بيوسف ، و لكن الجانب هذا فيه شيء من الصواب
***
سؤال
كيف نجمع بين قول الله تعالى { ويعلم ما في الأرحام } و بين الطب الحديث الذي يستطيع أن يعلم ماهو المولود؟
الجواب
ما في لغة العرب موصولة ، تعني العموم يدخل فيها كل شيء فقول الله تبارك و تعالى { يعلم ما في الأرحام } أي يعلم هل سيلود خديجا أو كاملا ، هل سيحيي أو لايحيي ، هل شقي أو سعيد ، يعلم الله جل و علا رزقه وأجله ، يعلم الله جل و علا ذكرا كان أو أنثى ، يعلم الله جل و علا كل شيء عنه، أما الطب الحديث يصور وهذا التصويرانتقل به الأمر بقدر الله ، من الغيب إلى الشهادة لأنه أصبح شيئا محسوسا
***
سؤال
ما هوالكثاب الموثوق في قصص الأنبياء ؟
الجواب
خذ كتاب " قصص الأنبياء " للحافظ ابن كثير محققا ينفعك ، و خذ كتاب "الرسل و الرسالات" لعمر الأشقرهذا للتأصيل العلمي للرسل جيد في بابه
كتاب الرسل و الرسالات للدكتور عمر الأشقر
قصص الأنبياء للحافظ ابن كثير خذه محققا
سؤال
هل يصاب العبد بالعين، مع محافظته على الأذكار؟
الجواب
نعم ، ربما يقع هذا
سؤال
قال الله تبارك و تعالى في سورة القمر { إنا مرسلوا الناقةِ فتنة لهم } لماذا كسر لفظ الناقةِ؟
الجواب
للإضافة ، مضاف إليه ، مرسلوا خبر إنا مرفوع علامة رفعه الواو و حذفت النون للإضافة ، الناقةِ مضاف إليه
***
سؤال
يقول كلا هل هي حرف جزر أو زجر؟
الجواب
زجر ، الزاي قبل الجيم ، الظاهر أنا قلتها جزر أولا ، حتى يعلم الناس نقصهم.
***
سؤال
يقول : يا شيخ أنت قلت بالأمس ، أن الله عز وجل قدم الأنعام على الإنسان في موضع الآية في سورة السجدة لكن في سورة عبس قدم الإنسان على الأنعام ؛ قال الله تعالى : { متاعا لكم و لأنعامكم }
مع أنه موضوعها الأكل من يخرجها ؟
جواب
الله ما يتكلم فقط عن ماذا ؟ عن موضوع الأكل ،عن أشياء كثيرة فسرها لبني آدم ،و الخطاب أصلا لهم
سؤال(14/14)
بقول : أنا شخص أرتبك عند إلقاء كلمة أو قراءة القرآن ، ما هي الطريقة المثلى
******
جواب
تعود قليلا قليلا ،عود نفسك ، كل الناس تخطئ ، و أن مع التدرج ستتركه ، و حاول تفيد المعلومة ، لأن الإنسان إذا كان لديه معلومات قلما يرتبك، إلا في الفترات الأول ، في البداية أما في غير ذالك فقلما يرتبك
ويقولون أن واصل بن عطاء أحد زعماء المعتزلة ، كان واصل بن عطاء هذا ما يأتي بحرف الراء ، الراء على لسانه قبيحة ، جبلة خلقة ، و كان يخطب الخطبة بالساعات ، و لايدري أحد أنه ألثغ في الرّاء
،لا يأتي في الخطبة كلها بكلمة فيها حرف راء ، ترى هذا مذهل ، على طول هل منا الآن مثلا من يتكلم دقيقتين ، بكلمات ما فيها حرف راء ، ما أدري !، هذا يخطب خطبة و لا أحد يدري أنه أصلا ألثغ في الرائ، فأي كلمة فيها راء يعرف لها مرادف ، فيتكلم ارتجالا فيأتي بأي كلمة يحتاج يكون فيها راء ، يأتي بكلمة نفسها في المعنى ليس فيها راء يقول : الحمد لله القديم بلا ابتداء ، الباقي بلاانتهاء ،و الخطبة طويلة و يمشي يتكلم و هو لا يأتي بهذا؛ و المعتزلة.أعطوا ورعا لكن لم يعطوا عقولا ، جعلوا عقولهم ـ خيبهم الله حاكمة على ماذا ؟ على النصوص؛ من مشاهرهم واصل بن عطاء
ومن مشاهرهم أيضا عمرو بن عبيد ؛ هذا كان آية في الورع لكنه آية في بلادة الفهم ، يقول لو أن عليا و معاوية احتكما عندي في بصلة ، لما قبلت شهادتهما ،لأن أحدهما لابد أن يكون فاسقا ، ومع قوله هذا المشين و عقيدته الباطلة كان لا يدخل على الملوك ، و لايأخذ عطيات السلطان فمرة دعاه هارون الرشيد أو أبو جعفردعاه إلى قصره وقال له يا عمرو اطلب لي حاجتك قال يا أمير المؤمنين ، حاجتي ألا تدعوني إلى قصرك، و خرج من عنده ؛و طبعا أي ملك أي أمير إلا و يحفه ناس يريدون منه عطايا، وكان غيره من علماء، بعض العلماء حول جعفر ينتظرون العطايا فلما خرج عمرو بن عبيد ، قال أبو جعفر ، بيته المشهور
***(14/15)
كلهم يمشي رويد ****كلهم خافل صيد****غير عمر بن عبيد
***
يعني كل الناس يأتون يتقربون إلي ، يريدون مالا و عطايا غير عمرو بن عبيد ؛هذا الذي أنف و تورع عن أموال الناس
يقع و العياد بالله في أعراض الصحابة و يأتي بعقله و يحكمه على النقول و على نصوص الوحيين
وحتى تعلم أن الهداية بيد الله ، فما نفعه ورعه لما جعل عقله ومنطقه حاكما على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ و المؤمن الحق يجعل من كلام الله و كلام رسوله صلى الله عليه وسلم حاكما على كل شيء و مهيمنا و مصيطرا ، ولا يلوي أعناق النصوص لتوافق هواه أو لتوافق أطروحاته العقليه
سؤال
ما الكتب التي تنصح بها المبتدأ و الذي يجد فيها مثل هذه التقسيمات و الضوابط
الجواب
هذا قد لاتجده في كتب بعينها ، ولكن هذا مع مضي الإنسان في القرآن و تدبره له كثيرا و قراءة في كتب التفسير يستطيع الإنسان أن يجمع أشتات أمور قد نص عليها العلماء في مواضع متفرقة
******
سؤال
هل الجن يتزوجون الإنس استدلالا بقوله تعالى -( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان )-
الجواب
هذه المسألة أنا لاأدري قال فيها بعض العلماء ، لكن أنا لا أعلم قولا صحيحا صريحا في المسألة
سأكتفي بالإسئلة و سأشرح القرآن
وسآخذ عشر دقائق شرح ، نختم بالقرآن أفضل..
قال الله تبارك و تعالى : -( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا - يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا - وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا - أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا )- [الفرقان/24](14/16)
لايدفع المؤمن إلى الطاعة مثل يقينه بلقاء الله ، فلما قد ذكر الله جل و علا في هذه الآيات من لايرجون لقاءه ، فلما لم يرجوا لقاء الله البتة سعوا في الفساد ، و تسابقوا في المعاصي ، قال الله -( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا )- كل من أراد أن يحجب نفسه عن الحق ، لن يعدم عذرا يقوله ، كرجل تدعوه إلى محاضرة فيعتذر بأنها بعد العصر فإن دعيته بعد المغرب، قال لو كانت بعد المغرب لكان أولى و إن دوعته بعد العصر قال لو كانت بعد الفجر لكنت أشرح صدرا ، وكل ذلك فرارا من الحق؛ هذا مثل ضربه الله قال الله جل و علا :( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا)-قال الله جل و علا أن هذا المطلب مطلب عظيم لذلك قال: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا}
أي منعهم من قبول الحق ما في قلوبهم من الكبر؛ و الكبر عياذا بالله من أعظم ما يحجب الإنسان عن الوصول إلى الحق قال الله -( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )- [الأعراف/146]
وينقسم إلى ثلاثة أقسام كبر عن الله ، وهو أعظمها جرما ، و نظيره في القرآن:{ وقال أنا أحيي و أميت } و قول فرعون {أنا ربكم الأعلى}
والقسم الثاني كبر على الرسل : أنؤمن لبشرين مثلنا و قومهما لنا عابدون } و في الزخرف و في الزخرف -( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم )- [الزخرف/31]
وهذان الصنفان كلاهما كفر بالإتفاق
و الصنف الثالث من أنواع الكبر : كبر على الناس ، و هذا قد لايصل إلى الكفر لكن لايمكن لصاحبه أن يصل إلى الجنة ، ابتداء
قال صلى الله عليه و سلم :"لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"(14/17)
و كل حديث ورد في حق المسلمين مصدر بقوله صلى الله عليه و سلم ، لايدخل الجنة لا يحمل على أنه لايدخل الجنة البتة ، لأن مصير أهل التوحيد الجنة ، ولكن يحمل على معنى أنه لايدخل الجنة ابتداء ، -( لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا )- [الفرقان/21] و قال الله ، -( يوم يرون الملائكة } أي هؤلائ المستكبرون يوم يرون الملائكة قال الله بعدها { لا بشرى يومئذ للمجرمين )- [الفرقان/22] لأن المجرمين يرون الملائكة في ثلاث مواضع
الموضع الأول عنما تقبض أورواحهم ، وهذا يوم نكال عليهم
و المرة الثانية: في قبورهم ، و هذا يوم عذابهم الأدنى
و المرة الثالثة : يوم يقوم الأشهاد -( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )- [غافر/50]
لهذا قال الله { لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون ) أي الكفار { حجرا محجورا } أي ما تزعمه يا محمد أمر ممتنع ، أمر لايمكن أن يقع ، دعواك أن هناك بعث و نشور، وقيام أشهاد و حشر عباد ، ليس له صحة البتة و يقولون حجرا محجورا ، ثم قال الله : -( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل] فأثبت الله لهم أعمال ، ثم قال:[ فجعلناه هباء منثورا )- [الفرقان/23] الله جل و علا حكم عدل ، فالكافر إذا عمل صالحا من غير إيمان قصد به منافسة الأقران أو ما كان عليه العرب أو قومه من عادات حسنة ، يثاب عليها في الدنيا ، بالذكر الحسن ، فإذا جاء يوم القيامة لايجد له عند الله شيءا ، و هذا معنى قول الله تعالى :( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )، أي في الآخرة ، فالناس إلى اليوم تذكر عبدالله بن جذعان ، و حاتم الطائي ، وغيرهم ممن أحسن في الدنيا ، لكن هؤلاء من مات على الكفر ليس له عند الله جل و علا مقام ، لذلك أبو لهب عم الني صلى الله عليه و سلم لما جاءته جاريته ثويبة(14/18)
و بشرته بأن زوجة أخيه آمنة ، ولدت مولودا ذكرا ، بشرته بولادة نبينا صلى الله عليه و سلم ، أعتقها ؛ وهذا عمل خير ، لكنه لما بعث النبي صلى الله عليه و سلم كفر به و حاربه قال الله -( تبت يدا أبي لهب وتب )- [المسد/1] و هذا الذي صنعه و هو عتقه لثويبة مولاته ، لأنها بشرته ، جوزي عليه في قبره ، فقد رآه العباس بن عبد المطلب ، رأى أخاه أبا لهب في المنام قال ما صنع الله بك ، قال ما وجدت بعدكم خيرا إلا أنني في كل يوم إثنين ، يخفف عني أسقى من نقرة في إبهامي ، أسقى من نقرة في إبهامي ، هذا نوع من الثواب حتى إذا لقي الله يوم القيامة ليس له عند الله مطلب و ليس له عند الله حاجة و الله حكم عدل لا يظلم الناس مثقال ذرة ، هذا هو معنى قول الله :( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ، أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا )- [الفرقان/24]
و عبارة خير و أحسن ليست على بابها و إنما خير أصلها أخير حذفت الهمزة لكثرة الإستعمال ؛ و أحسن : ليس المقصود أن في النار شيء حسن البتة ، كل ما في النار شر محض ، لكن المقصود عظم حسن أهليه ، ما فيه مقام أهل الجنة ولهذا فقهيا يجب أن يعلم أسلوب العرب في كلامها فالعرب أحيانا تستخدم خير و شر على غير بابها.
ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم " صلاة الجماعة خير من صلاة الفرد بسبع و عشرين درجة" ليس المقصود الإقرار بأن صلاة الفرد تصح من الإنسان أو تقبل منه بلا إثم ؛
ذهب مالك أن صلاة الجماعة غير واجبة بهذا الحديث ، لكن الحديث على سياق لغة العرب ، لايعني بالضرورة أن المسألة ، مسألة أن كلاهما خيرو حسن و كلاهما جائز لكن صلاة الجماعة تفضل ، هذا يفهم من أحاديث أخر،هذا مثله في القرآن ، فليس في النار شيء حسن ، لكن أراد أن يبين عظيم عطايا أهل الجنة( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا )ثم قال الله :(14/19)
-( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن)- [الفرقان/26]
فالملك اليوم و يوم القيامة للرحمن لكن المعنى أن الملك ينقسم إلى قسمين ملك حقيقي و ملك صوري
فكل مانملكه اليوم في الدنيا، ملك صوري فإذا حشر الناس بين يدي الله زال الملك الصوري و لا يبقى إلى الملك الحقيقي و الملك الحقيقي من قبل ومن بعد لله ، هذا معنى قول -(ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا، ويوم يعض الظالم على يديه )- [الفرقان/26]
والعرب تضرب مثلا على هذه السبابة أنها تتحمل ذنبا لم تصنعه
غيري جنا و أنا المعذب فيكم *** فكأنني سبابة المتندم(14/20)
لأن الإنسان يعض عليها و تصنع وزرا ، لكن الله ذكرهنا حال أهل الكفر و حسرتهم بأنهم لايكتفون بعض أصابعهم ، وإنما يعضون على أيديهم بالكلية ، و ليتها بعد ذلك تجدي-( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا قال الله {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } وكل ما مر واضح ثم أنخ مطاياك عند قول الله -(وكفى بربك هاديا ونصيرا )- [الفرقان/31] من هذين الإسمين الكريمين يأخذ الإنسان دعاء ، اللهم اهدني و انصرني اللهم اهدني و انصرني ، ومن هداه الله للطريق الأقوم ثم نصره في طريقه إلى ربه ، هذا هو الموفق المسدد المعان بأمر من الرب تبارك و تعالى ، وكفى بربك هاديا و نصيرا و حري أيها المبارك أينها المباركة أن ترددا هذا في كثير من نوائب الدهر ، تضرع إلى ربك تأول القرآن ، إذا أقدمت على عمل لم تتضح لك معانيه و تخشى الحساد و الشمات و الأعداء فتذكر قول الله { و كفا بربك هاديا و نصيرا } فقل " اللهم إنك قلت و قول الحق { و كفا بربك هاديا و نصيرا } فاللهم اكفني بهدايتك و نصرك ، اللهم اهدني و انصرني ، تسر بذلك على طريق الله و أنت آمن مطمئن واثق من ربك متوكل عليه معتمد على ذاته العليه تبارك و تعالى هذا أيها المباركون ما تيسر إيراده
الأسئلة
يقول كلم الله عز وجل آدم عليه السلام تكليما
الجواب
نعم ،هذا النص" أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن نبي الله أدم أنه نبي مكلم" لكن كل من كلمهم الله كلمهم من وراء حجاب و المشهور أن آدم لم يرى ربه و العلم عند الله و أعتذر عن التقصير و أسأل الله لي و لكم التوفيق(14/21)
بالنسبة ل..ـ و حتى نكون جميعا عبيدا لله ـ لا تبدأ بالسلام على الشيخ قبل الركعتين إن بيت أنك تصلي الركعتين فإبدأ بحق الله قبل حق شيخك حتى من يدخل مسجدإذا أراد أن يأتي إلى فئة ، يصلي تحية المسجد ثم يأتي المجموعة التي يريدها ، لكن من أخطائنا أحيانا أننا نجلس فنأتي إخواننا الذين في الحرم المكي أو المدني ، فنسلم عليهم نصافحهم و نطمئن عليهم ثم نذهب نسنن ، و إذا رأيت أحدا داخل المسجد شيخ أو أحدتريده دعه أولا يؤدي حق الله ، ثم إذا فرغ من حق الله ممكن أن يأتيك يسلم عليك وتذهب أنت إليه ، تسلم عليه ، وفي حديث المسيء صلاته و قد مر معكم كثيرا في الفقه ، الرجل صلى ثم أتى يسلم فقال له الرسول صلى الله عليه و سلم إرجع فصل فإنك لم تصل ، فبدأ بالصلاة قبل ماذا ؟
قبل السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا قعل هذا في حقه صلوات الله و سلامه عليه فمابالك بغيره ؛
و إذا من الله عليكم بزيارة مسجده عليه الصلاة و السلام ، فابدأ أولا بتحية المسجد ثم بعد ذلك يمكن أن تذهب إلى القبر إن أردت السلام عليه صلوات الله و سلامه عليه و لكن لا تبدأ بالقبر ، يؤدى أولا حق الله ؛
ويحسن لطالب العلم أن يعرف هذه الأمور حتى يربى على العبودية
و إذا جاءت فجوة في الصف الأول و أنت في الثاني ، لاتقل لوالدك أو لشيخك تقدم ، فلا يحسن الإيثار في قربات محضة
فلا يحسن الإيثار في قربات محضة و إنما يحسن الإستأثار فأنت أولى تتقدم لأنها قربات محضة لله ،فلا تقدم فيها لا شيخك ولا أباك ، و إنما إبدأ أنت بها.
ومثاله في الحياة الدنيا لو أن أستاذك أو شيخك أو والدك طلب منك طلب أن تصنعه له ،فإن أحلت هذا الطلب إلى غيرك
كأنك تأنف من خدمة ذلك الشيخ أو الوالد، و إن قمت به أنت ، فكأنك تقول لشيخك أو والدك أنني أفرح أنني أخدمك بنفسي.(14/22)
فالعبودية المحضة ، القربات المحضة ،لا تقدم فيها أحد ، فالصف الأول منقبة إن وجدت فيه فرجة لاتقل لفلان تقدم ، أو للشيخ تقدم ، بل تقدم أنت ،حتى تبين لله أنك فقير تحب أن تكون عبدا بين يديه و الإنسان في علاقته مع الناس يمشي بقدر، ولا يبالغ في حب أحد ، ولا تعظيمه ، ولا المبالغة في تقبيل رأسه و ما إلى ذلك
ما في قوبنا يجب أن يصرف كله لله ثم نحب الخلق لحبنا لله نحبهم في الله و لا نحبهم مع الله ، وهذه المسائل و إن كانت بسيطة ، لكن الإنسان يعظم ما عظمه الله بالطريقة التي أمرالله بها أن يعظم.
بعض الدعاة المعاصرين سمعته يقول في شريطيدعو فيه إلى المولد ـ و هذا غياب الفقه ـ و أنا لا أتهم أحدا و لا أخوض في أعراض أحد و لكن اتكلم كيف الرد العلمي : فقال إن الله تعالى يقول : و -( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله )- [الحج/36] ثم قال ، ثم قال الله -( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )- فقال : لايريدون منا أن نحيي مولدا
و الناقة وهي ناقة لو عظمناها لكان قربة إلى الله ، فكيف لا نعظم نبينا ؟ وهذا فيه لبس ،[u] شعائر الله تعظم بالطريقة التي علمنا الله كيف تعظم، [u]
فالبدن كيف تعظم ؟ تعظم بإشعارها بسنامها قيل الذبح ،و تعظم بأنها تذبح تنحر معقولة يدها اليسرى قربة إلى الله ، فنحرها من أجل الله هوماذا ؟ هو تعظيمها ؛ و الحجر الأسود كيف يعظم؟ يعظم بتقبيله أو بالإشارة إليه ، و الصفا و المروة من شعائر الله كيف تعظم ؟ تعظم بالسعي بينهما ونبينا صلى الله عليه وسلم كيف يعظم ؟
و الرسول صلى الله عليه و سلم ، كيف يعظم ؟
يعظم بمحبته و اتباع أمره و اجتناب نهيه و لزوم سنته، أصحابه رضي الله عنهم كيف يعظمون ؟ بالترضي عنهم و الكف عما شجر بينهم و عدم الخوض فيما وقع بينهم رضي الله عنهم و أرضاهم وإجلالهم و حفظ ما قدموه للأمة.(14/23)
كل شيء يعظم بالطريقة التي علمنا الله كيف نعظمه بها و يدخل جملة في قوله تعالى -( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب )- لكن مقام العبودية من أعظم و أجل المقامات بل لامقام حقيقة بدونه، فينبغي للأنسان خاصة في بيوت الله، أن لا يبالغ في تعظيم أحد ، لأنك في بيت من بيوت الله.
حج عبد الملك بن مروان ورأى سالما بن عمر فأراد أن يتقرب إليه على ملإ من الناس وهما يطوفان بالبيت، قال يا سالم سلني حاجتك ..لأن يسمع الناس ؛ قال يا أمير المؤمنين إني لأستحيي من الله أن أسأل أحدا غيره و أنا في بيته ، فسكت عبد الملك فلما خرجا من المسجد تبعه عبد الملك فقال له يا سالم قد خرجنا من بيت الله سلني حاجتك قال يا أمير المؤمنين ، من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة ؟ قال من أمر الدنيا فالآخرة ليس لي عليها سلطان ، قال ياأمير المؤمنين: والله ما سألتها من يملكها ، فكيف أسألها من لا يملكها.
ما سألتها من يملكها ، فكيف أسألها من لا يملكها.
ما سألتها أي هذه الدنيا ، من يملكها ،يعني الله ، فكيف أسألها من لا يملكها.
فمقام العبودية مقام شرف عظيم ينبغي أن يكون الإنسان فيه حريصا عليه إلى أبعد درجة ،حتى يكون لله جل و علاعظمة في قلبك ، هذا الذي يعينك على أن تقوم بين يدي الله في الليل ،أو أن تخشاه في السرائر أو أن تذكره في كل موطن، فليكن شغلك الشاغل قلبا و لسانا وجارحة تعظيمك لربك تبارك و تعالى و لكن هذا التعظيم لابد أن يكون مقرونا بالعمل، لا يكون دعوى فقط كما يصنع غلاة الصوفية لا يقدمون و لايؤخرون و لايذهبون ولا يروحون، يكفيهم في ظنهم فرط محبتهم لله ولكن الله قالجل و علا لنبيه : -( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )- [الحجر/99]
هذا ما أريد أن أؤذب نفسي و إياكم به و صلى الله على محمد وعلى آل محمد
جزى الله شيخنا خير الجزاء و نفعنا بعلمه
لاتنسوني من دعائكم(14/24)
(أعلام الأسلام : للشيخ صالح بن عواد المغامسي )
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً .
اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه .. ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره واشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين بعثه ربه بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعرف به و دعا إليه اللهم وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار وعلى من سلك مسلكهم وأتبع منهجهم بإحسان إلى يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ..
أما بعد ..
أيها المؤمنون فإنه لا أحد أعظم ثناءً من الرب تبارك وتعالى ولا أصدق مدحاً منه جل جلاله .. فمن من الله جل وعلا عليه بذكره ذكراً طيباً وثناءً عاطراً فهذا في المنزلة العليا والدرجات الرفيعة ذلك أن ثناء الله تبارك وتعالى لا يعد له ثناء .. وأي ثناء لمخلوق يعدل ثناء رب الأرض والسماء والله جل وعلا جعل هذا الكتاب المبين الذي أنزله على خير رسله جعل الله جل وعلا فيه ذكراً لأعلام كثيرة منهم الأبرار ومنهم الفجار أعلام على أشخاص وأعلام على أمكنة وأعلام على أزمنة وأعلام على غير ذلك ..
على جنات وانهار وشجرات وثمار كل ذلك ورد في القرآن ..
لكن هذا اللقاء المبارك سيكون مقصورا ً على من منّ الله عليه بالذكر العطر والثناء الحسن من الأعلام المكانية و الزمانية والشخصية بحسب ما يتيسر من الوقت وبما يوفق به الله جل وعلا له من القول ..(15/1)
ينبغي أن يعلم أن المقصود بالعلم هو ذلك الاسم الذي يراد به شيئا بعينه ومن المعلوم قطعاً وضرورة أن اسم الجلالة ولفظ الله تبارك وتعالى علم لا يعدله علم فلفظ الجلالة علم الأعلام قال الله تبارك اسمه { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا و ما بين ذلك وما كان ربك نسيا * رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا }
وقول الله جل وعلا هل تعلم له سميا أي لا يوجد أحد من الأعلام تسمى بلفظ الله على مر الدهور وكر العصور رغم أن لله جل وعلا أعداء لا يحصون لكنهم مكبوتون مقهورون لا ينفذون إلا عن مشيئته .. ولا يستطيعون ابداً وقطعاً الخروج عن سلطانه جل جلاله ..
حفاظاً على الوقت أيها المؤمنون سنقف مع بعض الأعلام(15/2)
أولها : مما أثنى الله جل وعلاعليه في القرآن- طالوت -وهو ملك صالح من ملوك بني إسرائيل كان في زمن بعد موسى عليه الصلاة والسلام والأصل التاريخي أن موسى عليه الصلاة والسلام وأخاه هارون مكثا مع قومهما في أرض التيه بعد أن خرجا من أرض مصر عندما قال الله جل وعلا استجابة لدعاء موسى لما قال : رب افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين قال جل ذكره { فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين } مكث بنو إسرائيل أربعين عاماً في أرض التيه ثم دخلوا الأرض المباركة الأرض المقدسة دخلوها على يد يوشع بن نون على يوشع السلام وهو أحد أنبياء بني إسرائيل بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه حارب يوشع يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة وخاف أن تغيب الشمس يوم الجمعة دون أن ينهي حربه فيضطر المكوث إلى يوم السبت وهوعندهم يوم عيد فلما أبصر الشمس قال لها إنك مأمورة وأنني مأمور اللهم احبسها عني فحبس الله جل وعلا الشمس فغلب يوشع وجنده غلبوا على أعدائهم قبل أن تغرب شمس يوم الجمعة وكانت مدة الحرب ستة أيام ومن هنا تعلم أن ما يسمى بعام النكسة في حرب المسلمين اليوم مع إسرائيل عام 67 مازال الإعلام الإسرائيلي إلى اليوم يسميه حرب الأيام الستة حتى يفيء باليهود إلى ذكراهم التاريخية أن يوشع ابن النون انتصر على الإعداد السابقين في ستة أيام فيقولون أيضاً في زماننا هذا حسب زعمهم انتصرنا على عدونا في ستة أيام مما يدل قطعاً على أن الحرب بيننا وبينهم حرب عقدية قال الله جل وعلا { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم }
والمقصود من هذا أن طالوت حكم بعد ذلك بعد أن تسلط الجبارون على بني إسرائيل اشتكى أولئك الملا من ضعفاء بني إسرائيل إلى نبي لهم لم يسمه الله جل وعلا في كتابه ..(15/3)
واختلف العلماء من المؤرخين فيه والذي يعنينا أنهم لما شكوا إليه أخبره الله جل وعلا أن الله اصطفى وأختار طالوت ملكاً عليهم قال الله تعالى في البقرة { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } فاحتجوا لسببين أن الأمر كان عندهم مقسوم فريق فيه النبوة وفريق فيه الملك ولم يكن طالوت من الفخذ القبلي الذي فيه النبوة وليس من الفخذ القبلي الذي فيه الملك ! ! { قالوا أنا يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه } هذا السبب الأول وهو سبب عنصري ثم نظروا في سبب آخر وهو سبب ظاهر قالوا أنا يكون له الملك علينا ولم يؤتى سعة من المال ونحن أحق بالملك منه فأخبرهم نبيهم أن الله جل وعلا قد اصطفاه عليهم وأن الله زاده بسطة في العلم والجسم
خرج طالوت عليه السلام بالجيش من بني إسرائيل إلى حرب الجبارين فمروا على نهر الأردن والحياة كلها ابتلاءات يقول الله جل وعلا { لقد خلقنا الإنسان في كبد }
و لك أن تتمثل حساً ومعنى أن جيش طالوت إنما يمثل حقيقة مسيرة المرء إلى ربه تبارك وتعالى وقال الله جل ذكره { ولما فصل طالوت بالجنود قال أن الله مبتليكم بنهر } دخلت أنت في الإسلام فيبتليك الله جل وعلا قبل أن تصل إليه تبارك وتعالى إن الله مبتليكم بنهر فقسم الناس ثلاثة أقسام فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه الله يقول" فشربوا منه إلا قليلاً منهم فلما جاوزه"
فانقسم الجيش ثلاثة أقسام فريق شرب وهم الأكثر شربوا شرب شره وهم الأكثر وآخرون شربوا شرب غرفة فهذا لم يثرب عليهم وآخرون امتنعوا والسائرون إلى الله قال الله { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير }(15/4)
خرج الجند فلاقوا جيش جالوت كان داود عليه السلام آنذاك صغيراً مع أبيه مع سبعة أخوة له مع أبيه .. قال الله جل وعلا { وقتل داود جالوت } الله تبارك وتعالى كان يقسم الفضل في بني إسرائيل قوم فيهم الملك وقوم فيهم النبوة لكن منّ على عبده ونبيه ورسوله داود بالملك والنبوة والعلم وأتاه الله جل وعلا ذلك كله قال الله تبارك وتعالى { فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء } ثم قال الله سنة ماضية مازالت إلى اليوم بين الخلائق ..{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} فسنة التدافع بين الخلق سنة ربانية أمم تدفع أمم حتى يقضي الله جل وعلا أمراً كان مفعولاً
الذي يعنينا هنا أن الله جل وعلا ذكر هذا العبد الصالح طالوت ذكر ثناء والله ذكر أعلام أخر صالحة في القرآن أفراد منهم اتفق الناس على نبوتهم ورسالتهم كالأنبياء والرسل وعددهم خمسة وعشرون نبياً ورسولاً صرح الله بأسمائهم في كتابه العظيم وثمة أسماء لأعلام صالحين توقف الناس فيهم لقمان ومريم وحواء وغيرهم اختلف الناس فيهم قال السيوطي رحمه الله تعالى رحمة واسعة :
واختلفت في خضر أهل العقول
قيل نبي أو ولي أو رسول
لقمان ذي القرنين حواء ومريم
والوقف في الجميع رأي المعظم
أي أكثر العلماء على التوقف في هؤلاء هل هم أنبياء أم رسل لكننا نقول بعضهم يحسن فيه التوقف وبعضهم لا يحسن بالعكس نقطع أنهم لم يكونوا أنبياء ولا رسل لدلالات وقرائن كثيرة
هذا أول ما نشرع في بيانه من أعلام القرآن النيرات
ممن منّ الله عليهم بالشرف العظيم والذكر المستطاب في أعظم كتاب(15/5)
الأنصار وهم أهل المدينة الأولون الأوس والخزرج رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ولهذا الفضل قصة طويلة نجملها فيما يلي : الله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار قدم جل وعلا بالأوس والخزرج من أرض اليمن قدم بهم إلى أرض نخل بعد أن تفرق الناس بعد هدم سد مأرب تفرقوا أي بسبأ فكتب للأوس والخزرج أن يفروا وينتقلوا إلى المدينة والأوس والخزرج(15/6)
الأوس بمعنى العطية والخزرج بمعنى الريح الباردة وهما رجلان أخوان لرجل يقال له الحارثة وأمهما امرأة يقال لها قيلة بنت كاهن ولذلك ورد ذكرهم في الآثار ببني قيلة فروا إلى المدينة سكنوها وكانت يوم ذاك مليئة باليهود لأن اليهود هاجروا إليها رغبة في أن يظفروا بإتباع النبي الذي مكتوب عندهم أنه سيخرج في آخر الزمان فمكثوا فيها ما شاء الله لهم أن يمكثوا ثم كما يحدث الصراع ما بين كل متجاورين كانت ثمة حروب تحصل بين أبناء العمومة ما بين الأوس والخزرج وكل منهم له دور ولهم بيوت ولهم أفخذ يعرفون بها بنو عبد الآشهل بنو ساعدة بنو النجار إلى غير ذلك ثم لما من الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم ببعثته أخذ عليه الصلاة والسلام ينتهز قدوم العرب إلى موسم الحج فيعرض نفسه صلوات الله وسلامه عليه على القبائل .. فعرض نفسه على قوم يقال لهم بني عبد الله فيقول لهم يا بني عبد الله إن الله جل وعلا قد أحسن لكم اسمكم فاتبعوني فيعرضوا عنه لما أراده الله به من كرامة للأوس والخزرج .. وكلما عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على قبيلة من القبائل اعرضوا حتى لقي قوماً من الخزرج فقال لهم من انتم قالوا من الخزرج وهذا يا أُخي قبل بيعتي العقبة الأولى والثانية .. قال من انتم قالوا من الخزرج .. فقال صلى الله عليه وسلم أأنتم من موالي اليهود أي من حلفاء يهود .. لأن كلمة مولى تطلق على المِعتق والمُعتق والحليف والنصير وتطلق على الرب جل جلاله قال الله تبارك وتعالى { ثم ردوا إلى الله موالهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } ثم عرض عليهم صلى الله عليه وسلم وتلى عليهم بعض آيات من سورة إبراهيم { وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }(15/7)
و تلى بعض آيات أخر بعدها .. فرق القوم ودخل الإسلام في قلوبهم لما أراده الله من كرامة لهم ، فلما رجعوا إلى المدينة أخبروا قومهم فرجع آخرون معهم في العام الذي بعده فكان في ذلك العام الذي بعده بيعة العقبة الأولى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير رضي عنه وأرضاه ثم عادوا كرة أخرى في الموسم الذي يليه فكانت بيعة العقبة الثانية بايعوه على أن لهم الجنة إذا قضوا ما عليهم وأعطاهم صلى الله عليه وسلم العهد والمواثيق ثم رجعوا إلى مدينته صلوات الله وسلامه عليه وكانت يومئذ تسمى يثرب ثم كتب الله جل وعلا وأذن لرسول الملة ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم بأن يهاجر إلى المدينة فدخلها صلى الله عليه وسلم وبعث إلى أخواله من بني النجار أخوال أبيه فأخذوا يستقبلونه ويحيطون به حتى بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ومنذ ذلك اليوم تواصل عطاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم سماهم الله جل وعلا في كتابه أنصارا جمع نصير كما يقال شريف وأشراف وهذا الاسم اسم رباني منصوص عليه في الكتاب ومنصوص عليه في سنة محمد صلى الله عليه وسلم
قال الله جل وعلا " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ًذلك هو الفوز العظيم ".
الذي يعنينا أن هؤلاء المباركون كانت لهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم أيام مجيده سنعرج على بعض منها
ممن منّ الله عليهم بالشرف العظيم والذكر المستطاب في أعظم كتاب
الأنصار وهم أهل المدينة الأولون الأوس والخزرج رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ولهذا الفضل قصة طويلة نجملها فيما يلي : الله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار قدم جل وعلا بالأوس والخزرج من أرض اليمن قدم بهم إلى أرض نخل بعد أن تفرق الناس بعد هدم سد مأرب تفرقوا أي بسبأ فكتب للأوس والخزرج أن يفروا وينتقلوا إلى المدينة والأوس والخزرج(15/8)
الأوس بمعنى العطية والخزرج بمعنى الريح الباردة وهما رجلان أخوان لرجل يقال له الحارثة وأمهما امرأة يقال لها قيلة بنت كاهن ولذلك ورد ذكرهم في الآثار ببني قيلة فروا إلى المدينة سكنوها وكانت يوم ذاك مليئة باليهود لأن اليهود هاجروا إليها رغبة في أن يظفروا بإتباع النبي الذي مكتوب عندهم أنه سيخرج في آخر الزمان فمكثوا فيها ما شاء الله لهم أن يمكثوا ثم كما يحدث الصراع ما بين كل متجاورين كانت ثمة حروب تحصل بين أبناء العمومة ما بين الأوس والخزرج وكل منهم له دور ولهم بيوت ولهم أفخذ يعرفون بها بنو عبد الآشهل بنو ساعدة بنو النجار إلى غير ذلك ثم لما من الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم ببعثته أخذ عليه الصلاة والسلام ينتهز قدوم العرب إلى موسم الحج فيعرض نفسه صلوات الله وسلامه عليه على القبائل .. فعرض نفسه على قوم يقال لهم بني عبد الله فيقول لهم يا بني عبد الله إن الله جل وعلا قد أحسن لكم اسمكم فاتبعوني فيعرضوا عنه لما أراده الله به من كرامة للأوس والخزرج .. وكلما عرض صلى الله عليه وسلم نفسه على قبيلة من القبائل اعرضوا حتى لقي قوماً من الخزرج فقال لهم من انتم قالوا من الخزرج وهذا يا أُخي قبل بيعتي العقبة الأولى والثانية .. قال من انتم قالوا من الخزرج .. فقال صلى الله عليه وسلم أأنتم من موالي اليهود أي من حلفاء يهود .. لأن كلمة مولى تطلق على المِعتق والمُعتق والحليف والنصير وتطلق على الرب جل جلاله قال الله تبارك وتعالى { ثم ردوا إلى الله موالهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } ثم عرض عليهم صلى الله عليه وسلم وتلى عليهم بعض آيات من سورة إبراهيم { وإذا قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }(15/9)
و تلى بعض آيات أخر بعدها .. فرق القوم ودخل الإسلام في قلوبهم لما أراده الله من كرامة لهم ، فلما رجعوا إلى المدينة أخبروا قومهم فرجع آخرون معهم في العام الذي بعده فكان في ذلك العام الذي بعده بيعة العقبة الأولى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير رضي عنه وأرضاه ثم عادوا كرة أخرى في الموسم الذي يليه فكانت بيعة العقبة الثانية بايعوه على أن لهم الجنة إذا قضوا ما عليهم وأعطاهم صلى الله عليه وسلم العهد والمواثيق ثم رجعوا إلى مدينته صلوات الله وسلامه عليه وكانت يومئذ تسمى يثرب ثم كتب الله جل وعلا وأذن لرسول الملة ونبي الأمة صلى الله عليه وسلم بأن يهاجر إلى المدينة فدخلها صلى الله عليه وسلم وبعث إلى أخواله من بني النجار أخوال أبيه فأخذوا يستقبلونه ويحيطون به حتى بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ومنذ ذلك اليوم تواصل عطاء الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم سماهم الله جل وعلا في كتابه أنصارا جمع نصير كما يقال شريف وأشراف وهذا الاسم اسم رباني منصوص عليه في الكتاب ومنصوص عليه في سنة محمد صلى الله عليه وسلم
قال الله جل وعلا " والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ًذلك هو الفوز العظيم ".
الذي يعنينا أن هؤلاء المباركون كانت لهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم أيام مجيده سنعرج على بعض منها(15/10)
في يوم بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس لأن العهد الذي بينه وبين الأنصار على أن يحموه ما دام داخل المدينة فأخذ صلى الله عليه وسلم يردد أشيروا علي أيها الناس ..أشيروا علي أيها الناس أجابه أبو بكر وعمر وغيرهما وهو يريد الأنصار فقالوا له يا نبي الله امض لما أمرك الله فلو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك كناية عن أي مجهول ومخوف ثم كان ما كان منهم رضي الله عنهم وأرضاهم من البلاء الحسن في يوم بدر فلما كان في يوم أحد أخرج نبيكم صلى الله عليه وسلم سيفا ًبتارا جرده من غمده ونادى في الناس من يأخذ هذا السيف بحقه فقام الزبير وعلي وعمر وهو عليه الصلاة والسلام يحاول أن يحبس السيف عنهم فلما قام سماك ابن خرشه أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه من بني ساعدة من الأوس قال يا رسول الله وما حقه قال حقه أن تضرب به رقاب العدو حتى ينثني قال أنا آخذه يا رسول الله فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السيف فأخذه أبو دجانة وأخرج من جيبه عصابة حمراء فربط بها رأسه فقالت الأنصار ربط أبو دجانة عصابة الموت قال الزبير رضي الله عنه و أرضاه وقد وقع في نفسي ما وقع أنني ابن عمته ومن قريش وأطلب منه السيف فلا يعطيني إياه فيعطيه أبا دجانة فأردت أن أعرف ماذا يصنع الرجل فأخذ الزبير رضي الله عنه يقاتل ويتبع أبو دجانة ليرى ماذا يصنع ..فكان أبو دجانة لا يلقى مشركا ً إلا قتله وفي المشركين رجل كلما رأى جريحا ًمسلما ً أجهز عليه فقال الزبير فدعوت الله جل وعلا أن يجمع بينهما وأن يلتقيا فلتقيا أبو دجانة والرجل المشرك قال فضرب المشرك أبو دجانة بالسيف فاتقاها بدرقة كانت في يده ثم ضرب أبو دجانة الرجل بالسيف فقتله ثم إنه رفع السيف ليضرب به امرأة كانت تحمش الناس وتثيرهم من قريش فلما قرب منها أحدثت صوتا ً و ولوله فعلم أنها امرأة فأمسك السيف فقال أبو دجانة بعدئذ فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اضرب به امرأة ..(15/11)
قال الزبير رضي الله عنه و أرضاه وهو يرى صنيع أبي دجانة في أهل الإشراك ويرى أنه محقا ً في أخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت في نفسي الله ورسوله أعلم ، أي كان النبي صلى الله عليه وسلم على علم عندما أعطى هذا الرجل المبارك والأنصاري المجاهد سيفه صلوات الله وسلامه علي هذا ما وقع من أنموذج إيماني من الأنصار يوم أحد(15/12)
وفي يوم حنين نصر الله جل وعلا نبيه وأفاء عليه السبي و الغنائم والأموال الكثير جدا فقسمها صلى الله عليه وسلم في الناس وفضل بعضهم رجاء أن يتآلف قلوبهم من زعماء العرب آنذاك ولم يعط الأنصار شيئاً فوجدوا في أنفسهم رضي الله عنهم وأرضاهم ما وجدوا وكأنهم تكلموا في ذلك وكان صلى الله عليه وسلم مربياً فاضلاً يعتمد على الوضوح في تربيته لأصحابه فلما أقبل عليه سعد بن عبادة سأله النبي صلى الله عليه وسلم يا سعد ما مقالة بلغتني عنكم وأخبره الخبر قال : يا رسول الله إنهم وجدوا أنك أعطيت فلان وفلان وتركتهم ولم تعطهم شيئاً : قال وما تقول أنت يا سعد فقال رضي الله عنه وأرضاه يا نبي الله وهل أنا إلا رجل من قومي ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام اجمعهم لي في هذه الحظيرة أي في مكان مسور فجمع سعد رضي الله عنه سيد الخزرج جمع الأنصار في تلك الحظيرة فاقبل عليهم صلى الله عليه وسلم يعاتبهم ويقول لهم ما مقالة بلغتني عنكم ، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وهم يقولون لا يزيدوا على أن يقولوا لله ولرسوله المن والفضل ثم قال لهم يا معشر الأنصار أجيبوا ، قالوا ماذا نجيب ؟ لله ولرسوله المن والفضل فقال صلى الله عليه وسلم أما لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا طريداً فآويناك وعائلا ً فأغنيناك ومخذولاً فنصرناك وأخذ يعدد صنيعهم معه عليه الصلاة والسلام وهو أهل الوفاء بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ثم قال يا معشر الأنصار أوجدتم علي في أنفسكم في لعاعة من الدنيا أوكلت بها قوماً أتألفهم إلى الإسلام و أوكلتكم إلى إيمانكم .(15/13)
يا معشر الأنصار أما ترضون أن يعود الناس بالشاء والبعير وتعودون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم فبكى القوم حتى أخضروا لحاهم وهم يقولون رضينا برسول الله قسماً وحظاً ثم لما رأى الرقة التي أصابتهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أنه معهم ولهم قال والله لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار الناس دثار والأنصار شعار
( الدثار ما يلبس على الثوب والشعار ما يلبس الملاصق للجلد)
فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم كرشه وعيبته وشعاره وجعل سائر الناس دثاره صلوات الله وسلامه عليه الناس دثار والأنصار شعار ثم قال اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار
دعى لهم صلوات الله وسلامه عليه وأخبرهم أنهم سيجدون بعده أثره يتنازع الناس الدنيا ولا يكون لهم منها نصيب ولذلك لم يتولى أنصاري أمراً بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقلد ولاية .
و في أخريات حياته صلى الله عليه وسلم لما مِرض مَرض الموت مر الصديق رضي الله عنه والعباس على مجلس للأنصار وهم يبكون فقال الصديق والعباس لهم ما يبكيكم ؟ قالوا ذكرنا مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم منا وهو في مرض نخاف فيه عليه ، فقاما من عندهم ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه الخبر فقام صلى الله عليه وسلم وخرج من بيته رغم مرضه وعصب رأسه حتى يتوقى شدة المرض وصعد المنبر وكان آخر صعدة ورقي له صلى الله عليه وسلم إلى المنبر كان آخر خطبة خطبها فأوصى بالأنصار خيراً وقال عليه الصلاة والسلام يشهد لهم وهذا هو الشرف العظيم وقال أنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم أنهم قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فتجاوزوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم ودعا لهم ثم نزل صلى الله عليه وسلم .(15/14)
هؤلاء جملة أيها الأخ المبارك أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء المباركون قال الله عنهم في كتابه { والسابقون الأولون من المهاجرين } ولا أنا ولا أنتم من المهاجرين وقال جل ذكره { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } ولا أنا ولا أنتم من الأنصار فما بقيت إلا واحدة فمن حرمها فهو محروم قال الله جل وعلا { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان } فالمرء لا يمكن أن يخرج حتى يرضى الله عنه من واحد من هؤلاء الثلاثة
أما الأولى فهم المهاجرون الأولون فقد مضت ولا سبيل إليها ..
أما الثانية وهم الأنصار فقد مضت ولا سبيل إليها ..
بقيت الثالثة وهي قول الله جل وعلا { والذين اتبعوهم بإحسان } أسأل الله بمنه وكرمه وأنا على سفر في بيت من بيوته أن يجعلنا جميعاً ممن قال الله فيهم { والذين اتبعوهم بإحسان }(15/15)
إن المرء ليذكر أقواماً يحبهم وهو يعلم أنه لن يبلغ صنيعهم مثقال ذرة ولكنه يتعزى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي كما في حديث أنس أنت مع من أحببت ونحن نشهد الله وملائكته وحملة عرشه والصالحين من خلقه أننا نحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعاً بلا استثناء ونخص منهم المهاجرين الأولين والأوس والخزرج أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نصروه وأيدوه وبلغوا عن الله مع نبيهم صلى الله عليه وسلم الرسالات بذلوا المهج والأموال وقدموا الأبناء والبنات في سبيل نصرة دين الرب تبارك وتعالى حتى شهد لهم نبي الأمة ورسول الملة أنهم قد قضوا الذي عليهم ولما كان النبي عليه السلام قد علم بعلم الله جل وعلا أن هؤلاء المباركين سيجدون أثرة بعده أي أن الناس لن تحفل بهم كما تحفل بهم أيام محمد صلى الله عليه وسلم جعل لهم صلى الله عليه وسلم موعداً فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار وموعدكم الحوض و الحوض هو حوض نبينا صلوات الله وسلامه عليه وسيأتي الحديث عنه بعد قليل والمقصود أن النبي عليه الصلاة السلام جعل لهم أملاَ وجعل لهم موعداً وهو عليه الصلاة والسلام لا يخلف وعده لأن الله جل وعلا أنبأه بكرامة هؤلاء المباركين عليه ويؤيد هذا كله قول الله جل وعلا { والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } مما لقيه هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن شاعرا يقال له الأخطل من شعراء بني أمية نصراني المعتقد قال يهجو الأنصار:
ذهبت قريش بالسماحة والندى * * * واللؤم تحت عمائم الأنصار
فدعوا المكارم لستم من أهلها * * * وخذوا مساحيكم بني النجار(15/16)
فذهب النعمان إبن بشير رضي الله عنه أرضاه أحد الأنصار إلى معاوية رضي الله عنه وأرضاه وحسر عن رأسه وقال يا معاوية أترى لؤماً قال بل حزم وكرم فأخبره بمقولة الشاعر فوهبه له ثم حصل ما حصل من أحداث تاريخية وسياسية لا يحسن تفصيلها لكن المقصود أنه أولئك المباركين صدق فيهم وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الناس استأثروا عليهم بأشياء كثيرة لكن يبقى لهم المجد المخلد في القرآن والوعد الصادق من رسول الله عليه الصلاة والسلام أن نبيهم صلى الله عليه وسلم وعدهم الحوض وكما كان أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه أنموذجاً إيمانياً في الجهاد بالسيف كان حسان رضي الله عنه وأرضاه أنموذجا إيمانياً بالجهاد باللسان قال له عليه الصلاة والسلام اهجهم وروح القدس معك وكان يضرب له منبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قام أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الخمسة الذين يشبهون النبي الكريم عليه السلام وكان يومئذ مشركاً وأسرف في هجاء رسول الله صلوات الله وسلامه عليه تصدى له حسان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كيف تهجوه وأنا منهم لأنه ابن عمه قال يا نبي الله لأستلك منهم كما تستل الشعرة من العجين قال عليك بأبي بكر فإنه أعلم بأنساب قريش فعلم الصديق حسان انساب قريش فكان حسان رضي الله عنه يذم أبا سفيان ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقع في عرضه و يحوم حوله
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
يعز الله فيه من يشاء
أتهجوه ولست له بكفء
فشركما لخيركما الفداء
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
لسان صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدره الدلاء
هذان انموذجان لمؤمنين من أولئك الفئة المباركة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم
وشباب الأمة الذين يسمعون اليوم عن الأوس والخزرج يرددون قول الموفق المبارك
لئن عرف التاريخ أوس و خزرج(15/17)
فلله أوس قادمون و خزرج
والأمة لم تحرم ممن يقتدي بأولئك الأخيار ويستن بأولئك الأبرار فينصر في هذا الزمن ينصر الله ورسوله ينصر الله بإعلاء دينه وينصر رسوله بنصرة سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه ودون ذلك أمور عظام وصبر على جلائل المهام وإتباع لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولن تجد طريقاً موصلاً إلى الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر }
وقعت في المدينة أو في غيرها مناضرة لشيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه مع بعض الرافضة قال رحمه الله لعلماء هذه البلاد دعوهم لي فلما ناقشهم قال أنا أسألكم بالله أأنتم من المهاجرين قالوا لا وهم صادقون .. قال أسألكم بالله أأنتم من الأنصار قالوا لا وهم صادقون .. فقام يلف عباءته ويقول وأنا اشهد عند الله أنكم لستم ممن تبعهم بإحسان..(15/18)
ماذا بقي ؟ لم يبقى لي ولا لك إلا كمال الإتباع لأولئك الأخيار والمضي على سنة محمد صلى الله عليه وسلم فنحن لا نقول أخبار أولئك المباركين أخباراً تاريخية سردية يحفظها الطلاب . ويكتبونها في المطويات وإنما ينبغي أن ينقلب الأمر إلى عمل وإلى جهد وإلى مثابرة لكن على بينة من الأمر وعلى سكينة وعدم خروج على جماعة المسلمين والتفاف المسلمين بعضهم ببعض والتمسك بهدية وكمال شريعته عليه الصلاة والسلام ذلك المنجي والمقرب إلى الله وكما كان الأنصار علم على الأوس والخزرج فإن من هؤلاء المباركين إعلام لا يحصيهم إلا الله جل وعلا منهم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه اهتز عرش الرحمن لما صعدت روحه - قال ابن القيم رحمه الله هذا واحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما صعدت روحه اهتز عرش الرحمن فرحاً بصعودها إليه فكيف بصعود روحه صلوات الله وسلامه عليه - جاهد في الله حق جهاده لما أسلم هو وسعد بن عبادة نادت الجن في مكة فإن يسلم السعدان يصبح محمد في مكة لا يخشى خلاف المخالفين
(السعدان سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج رضوان الله تعالى عليهما )
هذا الرجل الذي مُجد أيما تمجيد وسابق النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة إلى جنازته كل عمره الذي عاشه ستة وثلاثون عاماً سطر فيها بأحرف من نور أعظم الإيمان وخلائد الأعمال وجلائل المهام في نصرة دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم منهم أبي إبن كعب رضي الله عنه وأرضاه سيد القراء يقول له صلى الله عليه وسلم إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة { لم يكن الذين كفروا } فبكى أبي رضي الله عنه وأرضاه ولهذا أختاره عمر أن يصلي بالناس إماماً في التراويح أيام خلافته رضي الله عنه ومنهم جم غفير ليس هذا مقام التفصيل فيهم لكن المقام مقام ثناء عاطر على من أثنى الله جل وعلا عليهم في كتابه من أولئك المباركين من أنصار محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه(15/19)
العلم الثالث ممن نال الشرف العظيم ذكراً
الكوثر وهو علم على نهر .. والنهر هو الماء العذب وفي الدنيا نهران من أنهار الجنة النيل والفرات .. و الكوثر نهر في الجنة قرأ صلى الله عليه وسلم على أصحابه بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أعطيناك الكوثر*فصل لربك و انحر*إن شانئك هو الأبتر} ثم قال أتدرون ما الكوثر ؟! قالوا الله ورسوله أعلم !! قال نهر في الجنة وعدني الله إياه عليه خير كثير ترده أمتي يوم القيامة .. جعلني الله وإياكم ممن يرد على ذلك الحوض . وقد أشكل على العلماء أن الكوثر نهر في الجنة وأن الحوض في عرسات يوم القيامة أي خارج الجنة والجمع بينهما أن يقال أن هذا الحوض الذي في عرسات يوم القيامة له ميزابان من الكوثر الذي في الجنة يصب في الحوض فيصبح الحوض هو الكوثر و الكوثر هو الحوض كلاهما شرف منحه الله لنبينا صلوات الله وسلامه عليه ترد عليه أمته يوم القيامة قال الإمام القرطبي رحمه الله قال : قال علماؤنا والذين يذادون عن الحوض هم الفرق المفارقة لجماعة المسلمين من الروافض والخوارج والمعتزلة وسائر أهل الظلم والفسق والجور والمعلنون بالكبائر المستخفون بالعاصي الظالمون لخلق الله هؤلاء وأمثالهم عياذاً بالله ممن يذاد ويدفع عن حوض محمد صلوات الله وسلامه عليه ولا توجد للمؤمن من الأماني أمنية أكثر وأعظم من أن يرد حوض نبينا صلى الله عليه وسلم لأن ورود الحوض تمهيد لما بعده تمهيد لدخول الجنة ودخول الجنة تمهيد لنعمة أعظم هي رؤية وجه الله تبارك وتعالى(15/20)
نشأ في أيام بني أمية أمير يقال له عبيد الله بن زياد كان يماري في الحوض ولا يراه حقا ً ويجلس بين قرنائه وحشمه فدخل عليه ذات مرة أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه فقال عبيد الله بن زياد لأبي برزة أأنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الحوض قال أبو برزة لم أسمعه مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع بل سمعته أكثر من ذلك يذكر حوضه صلوات الله وسلامه عليه ودخل عليه أي على عبيد الله بن زياد أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه وجدهم يتمارون في الحوض فقال أنس رضي الله عنه وأرضاه وقد عُمر والله ما ظننت أنني سأعيش إلى يوم أرى فيه من يماري في حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لقد تركت خلفي بالمدينة عجائز لا يصلين صلاة إلا سألن الله فيها أن يسقيهن من حوض نبيهن صلى الله عليه وسلم . فهؤلاء عجائز ركع من أهل المدينة الأولين لا تصلي إحداهن صلاة إلا وتسأل الله أن يجعلها ممن يرد حوض نبيها صلى الله عليه وسلم وهذا دلالة على استفاضة أمر الحوض عندهم لأن المدينة كانت ومازالت مهد السنة النبوية الأول والنبي عليه الصلاة والسلام نقل عنه أكثر من سبعة وخمسين صحابياً رضي الله عنهم وأرضاهم أمر حوضه عليه الصلاة والسلام وقد قلنا مراراً في هذا المسجد وفي غيره وفي شتى الدروس أن الناس يخرجون يوم القيامة عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء والموفق من يسقي حوض نبيه صلوات الله وسلامه عليه
من أعلام القرآن أيها المؤمنون عرفات(15/21)
وهي علم على موضع مبارك قال الله جل وعلا عنه { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام } وعرفات ليست بحرم لكنها مشعر ومزدلفة ومنى مشاعر وحرم في نفس الوقت ووادي محسر الذي بين مناً ومزدلفة ليس مشعراً لكنه حرم لأنه من منى لكنه ليس بمشعر بين منى ومزدلفة أما عرفات فهي ليست حرم "حل" لكنها مشعر عظيم وأي مشعر ذكرها الله جل وعلا في القرآن مجموعة عرفات وجاءت في السنة مفردة قال عليه الصلاة والسلام " الحج عرفة " وقال : وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف " ومناسبة الحديث عن عرفات أن مجمعها أعظم مجامع الدنيا وهذا الموضع المبارك ذكر بعض العلماء أن الله جل وعلا لما خلق آدم خلقه من طينة عرفات فقال ابن الجوزي وغيره " أن أي مؤمن باق على فطرته يجد في نفسه حنيناً إلى عرفات لأن النفس بدنياً جبلة تحن إلى الشيء الذي رُكبت منه وهذه عرفات وقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم خرج من مناً بعد طلوع الشمس وضربت له القبة بنمرة وليست نمرة من عرفات ثم تقدم حتى أتى وادي عرنة وهو ليس من عرفات فخطب وصلى صلوات الله وسلامه عليه ثم أتى الموقف " أي موقف عرفات " فما زال يدعو رافعاً يديه عليه الصلاة والسلام مثنياً على ربه يستطعمه استطعام المسكين رافعاً يديه هكذا حتى غاب قرص الشمس تماماً فهي من أعظم المواطن المباركة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه ذكر ثناء عطر وترغيباً للعباد وحث للخلائق على أن يأتوها ويقفوا فيها كما وقف فيها صلى الله عليه وسلم ثم منها توجه صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة وفي صبيحة يوم العيد جاءه عروة بن مغرس من حائل من جبلي أجا وسلمى قال يا نبي الله إني أجهدت نفسي وأكللت راحلتي ما تركت موضعاً ولا جبلاً إلا إرتقيت عليه فقال صلى الله عليه وسلم حديثه الشهير قال " من صلى معنا صلاتنا هذه أي صلاة الفجر في مزدلفة وكان قد وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه(15/22)
والمقصود أن الوقوف بعرفة ركن الحج الأعظم مع طواف الإفاضة وهذا الموطن العظيم موطن تنزل الرحمات الإلهية والنفحات الربانية فمن وفقه الله جل وعلا للحج فليزدلف إلى الله جل وعلا في ذلك الموقف العظيم وليثني على الرب ثناء عاطراً ومدحاً جلياً وليقل مثلاً اللهم لك الحمد أنت الله لا رب غيرك ولا إله سواك لك الحمد السرمد حمداً لا يحصيه العدد ولا يقطعه الأبد حمداً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . أنت الله لا إله إلا أنت في السماء عرشك وفي كل مكان رحمتك وسلطانك ، تعطي وتمنع وتخفض وترفع وأنت الله لا إله إلا أنت أرجأت موسى إلى أمه ورددت يوسف إلى أبيه وجمعت يعقوب ببنيه أخرجت زمزم فرجاً لهاجر وكرامة لإسماعيل وأيدت نبيك بالوحي والتنزيل أنت الله لا إله إلا أنت تغفر الذنوب وتستر العيوب أنت الله لا إله إلا أنت علام الغيوب وأمثال ذلك مما أثنى الله به على نفسه ثم يصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة وليقل كما حكى الله عن الصالحين { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} هؤلاء بعض الأعلام المباركون في كتاب الله جل وعلا .. ذكرناهم على وجه الإجمال
سائلين الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم التوفيق لما يحبه ويرضاه وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى وأن يوقفنا جل شأنه لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد والحمد لله رب العالمين
تفريغ:: سأبقى همم(15/23)
"الإسراء والمعراج"
"بسم الله الرحمن الرحيم"
الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا وصرفهم كيفما شاء عزة واقتدارا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
فهذا هو اللقاء الثاني من برنامجنا " مجمع البحرين " وموضوع حلقة اليوم " الإسراء والمعراج " ومعلوم لكل أحد أن هذا الحدث يرتبط بشخصية نبينا صلى الله عليه وسلم فهو جزء من سيرته العطرة وأيامه النظرة صلوات الله وسلامه عليه .
والإسراء والمعراج:
حادثة وقعت قبل الهجرة بثلاث سنوات إلا أنه لا يعلم صراحة بسند صحيح اليوم أو الليلة التي حدثت فيها وإن كان بعض العلماء يقول : إنها ليلة السابع والعشرين من شهر رجب لكن الاتفاق على أنها قبل الهجرة بثلاث سنوات أما تحديد ذلك ففيه خلاف بين العلماء لكن كما قلت رجح بعضهم أن يكون ليلة السابع والعشرين وهذا هو المستقر عند جماهير الناس ولذلك نرى في بعض الدول من يحتفل بليلة الإسراء والمعراج في ذلك الوقت بالتحديد ونحن وإن كنا لا نرى شرعية تلك الاحتفالات التعبدية إلا أننا نقول إن الذي جعله يستقر في الأذهان ويعظم ليلة سبع وعشرين من شهر رجب عند الناس أنها وافقة أحداث تاريخية مرتبطة بالمسجد الأقصى فمثلا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى القائد المظفر المعروف فتح القدس بعد معركة حطين ودخل بيت المقدس في ليلة السابع والعشرين في شهر رجب فهذا أكد عند فئام من الناس أنها هي ليلة الإسراء والمعراج وكان ذلك عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة من هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم وكان المسجد الأقصى بذلك قد مضى له إحدى وتسعين سنة وهو رهين الحروب الصليبية أو الأسر الصليبي عند النصارى . الذي يعنينا من هذا كله أن هذا التاريخ الزمني للإسراء والمعراج.
الإسراء والمعراج:(16/1)
جاء في مرحلة أحوج ماكان النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يحتفي به ربه والأنبياء لهم عند الله المقام العظيم والمنزل الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فقد خديجة بنت خويلد زوجته وفقد عمه أبوطالب ثم خرج إلى الطائف رده أهلها فجاءت رحلة الإسراء والمعراج بعد هذه الأحداث الثلاث التي أثرت شيئا ما على معنوياته عليه الصلاة والسلام لكنه في كنف الله في رحمة الله ورعايته فجاءت رحلة الإسراء والمعراج أسري به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهذا جاء ثابت بنص القرآن وجاءت رحلة المعراج ثابتة في السنة متواترة تواتر لفظيا أو معنويا على أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من المسجد الأقصى إلى السموات السبع غسل صدره عليه الصلاة والسلام بماء زمزم ربط دابته البراق عند الحائط صلى بالنبيين إماما عرج به إلى السماء السابعة قابل إخوانه من النبيين في السماء الأولى أباه آدم في السماء الثانية ابني خاله يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم في السماء الثالثة أخاه يوسف في الرابعة إدريس في الخامسة هارون في السادسة موسى في السابعة أباه إبراهيم هذا كله لا نفصل فيه لأنه معروف لكننا الحلقة أو البرنامج أصلا لا يعنى بالسرد التاريخي المحض وإنما يعنى بالفوائد التي تنجم عن هذه الأعيان التي نذكرها الزمانية والمكانية والتاريخية والأشخاص .
فنقول في الإسراء والمعراج ثمة فوائد جمة لا تكاد تحصى من أولها:
ـ فضل بيت المقدس , فضل المسجد الأقصى فإن الله جل وعلا جعل المحطة الأخيرة لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يعرج به إلى السماء جعله بيت المقدس جعله بالمسجد الأقصى فقال سبحانه : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} ومن المسجد الأقصى كان المعراج وهذا يدل على فضيلة بيت المقدس وقد دلت آثار كثيرة على هذا منها:(16/2)
ـ أن نبي الله موسى عليه السلام قلنا مرارا في دروس عدة أنه مات وبنو إسرائيل في التيه قبل أن يدخل الأرض المقدسة فسأل الله جل وعلا أن يدنيه من بيت المقدس ولو رميت حجر حتى يكون قريبا من تلك الأرض المباركة عليه الصلاة والسلام.
ـ والله لما ذكر المسجد الأقصى قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ} فعمت بركة الله جل وعلا على تلك الأرض لأنها مأوى الأنبياء ومثواهم ومنازلهم ومواطنهم أكثر أنبياء الله كانوا من أرض فلسطين.
ـ والصحابة رضي الله عنهم كانوا يعلمون ذلك كانوا يتدارسون فضل الصلاة في المسجد الأقصى ويوم ذاك لم يكن المسجد الأقصى قد دخل أصلا في حوزة المسلمين فكانوا يتدارسونه كما في حديث أبي ذر وهو حديث بسند صحيح عند الحاكم وعند غيره فخرج عليهم صلى الله عليه وسلم فسألوه أي الصلاة أفضل في المسجد النبوي أم في المسجد الأقصى ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : { صلاة في مسجدي هذا بأربع صلوات فيه ولنعم المصلى هو } ومن هنا يتبين لنا أن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة خلافا للمشهور عند كثير من الناس أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة نعم في هذا حديث لكن الحديث الوارد في أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة حديث ضعيف السند أما الحديث الذي ذكرناه آنفا حديث أبي ذر فهو حديث صحيح رواه الحاكم في مستدركه بسند صحيح فنقول إن الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين صلاة .
الصورة التاريخية المنقولة الآن عن المسجد الأقصى:(16/3)
تظهر المسجد وتظهر في جواره مسجدا آخر عليه قبة ذهبية اللون هذا المسجد ليس المسجد الأقصى الذي عليه القبة هذا مسجد قبة الصخرة وهذه القبة الذي بناها عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف لما كان في حروبه مع ابن الزبير فكان الناس يقدمون في الحج إلى الحجاز إلى مكة وكان الزبير في مكة فأراد عبدالملك أن يصرف وجوه الناس عن ابن الزبير فاعتنى ببيت المقدس وصنع القبة على الصخرة على مسجد الصخرة ووضع هذه القبة التي نراها الآن وقد جددت بعضه كثيرا وضع هذه القبة حتى يصرف الناس عن إتيان مكة ويأتون إلى بيت المقدس كل ذلك رغبة في إضعاف خصمه السياسي ألا وهو عبدالله بن الزبير هذا للتفريق في الصور التي نراها ونشاهدها الآن عن المسجد الأقصى بيت المقدس في كل آنٍ وحين في مكاتبنا ودورنا وغير ذلك و في الصحف والمجلات وأمثالها ،الذي يعنينا أن هذا المكان مكان مبارك صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم إماما.
ـ لما صلى به النبي صلى الله عليه وسلم إماما ؟
يقول العلماء كلنا يعلم أن النبي علية الصلاة والسلام آخر الأنبياء عصرا آخرهم دهرا آخرهم مبعثا فصلوا وراءه حتى يبين الله لهم أي الأنبياء ولغيرهم من الناس مكانة هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه فهو وإن كان آخر الأنبياء عصرا إلا أنه أولهم وأرفعهم وأجلهم قدرا وذكرا صلوات الله وسلامه عليه .(16/4)
في احتفاء الله جل وعلا بنبيه في السموات السبع وصعوده عليه الصلاة والسلام والعروج به من السماء إلى سماء هذا رد على أهل الأرض الذين ضيقوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعوته وكذلك كل أنبياء الله لا يتركهم الله جل وعلا لخصومهم وأعدائهم إنما يتولاهم الله ويرعاهم ويعوضهم خيرا وإن كان التعويض وولاية الله تتفاوت من شخص إلى شخص ومن عبد صالح إلى عبد صالح سنة الله في الذين خلوا من قبل لكن النبي صلى الله عليه وسلم يمثل الذروة العليا من عباد الله الصالحين فهو عليه الصلاة والسلام يقول لما ذكر الآذان قال:" سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة للجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد" ـ أي لا تحتمل اثنين ـ "وأرجوا أن أكون أنا هو" صلوات الله وسلامه عليه والمقصود من هذا أن حفاوة أهل السموات لنبينا صلى الله عليه وسلم دليل على رفيع مقامه و علو مكانته عند ربه صلوات الله وسلامه عليه وصل عليه الصلاة والسلام إلى أن تجاوز السدرة المنتهى،(16/5)
وأهل العلم يقولون : إنها سميت سدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها مايعرج من الأرض وظاهر الأمر أن هذه السدرة لا يتعداها أحد أي لا يتعدى مقامها أحد لا يتخطاها أحد فالنبي عليه الصلاة والسلام تجاوزها بقليل حتى وصل إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام وهناك كلمه ربه وناجاه وقربه وأدناه وأفاء عليه من نعمه وأعطاه الصلوات الخمس فرض عليه الصلوات الخمس لكنه لم يؤتي أوقاتها لم يبين له تفصيلا مواطن الصلوات فلما أسمع صلى الله عليه وسلم وبانت الشمس جاء جبريل من رب العالمين جل جلاله جاء بمواقيت الصلاة فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال صلاة الظهر ثم أخذ يعلمه الصلوات في يومين متتابعين يصلي به في أول الأمر في أول الوقت ويصلي به في اليوم التالي في آخر الوقت ثم يقول له : " إن الصلاة مابين هذين " على هذا نقول إن صلاة الظهر هي أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم كفريضة في حياته أول صلاة فرضت على هذا الأمة إن صح التعبير.(16/6)
ـ في رحلة الإسراء والمعراج يطالعنا ماء زمزم فإن النبي صلى الله عليه وسلم غسل قلبه بماء زمزم وقد جاء في حديث حسنه بعض العلماء { أن ماء زمزم لما شرب له} ولهذا كان سلف الأمة من العلماء والقواد وغيرهم يحرصون على الشرب من ماء زمزم بنية فعبدالله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث رحمة الله تعالى عليه الفقيه المعروف لما قدم مكة أخذ ماء زمزم ثم ذكر السند الموصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عليه الصلاة والسلام { ماء زمزم لما شرب له } فقال إن نبيك صلى الله عليه وسلم قال :{ ماء زمزم لما شرب له } اللهم إني أشربه لهول أو لعطش يوم القيامة فشربه . والشافعي رحمه الله كان في أول حياته قبل أن يتفرغ للعلم كان يحب الرمي فلما شرب ماء زمزم غلبت عليه طبيعته آنذاك فشربه رحمه الله للرمي أي حتى يوفق في الرمي فيقول بعدها أبوعبدالله أي الشافعي يقول : كنت إذا رميت عشرة أسهم أصيب في تسع فلربما أصبت في العشرة كلها إذا رميت عشرة أسهم أصيب في تسع منها ولربما أصبت في العشرة كلها . الخطيب البغدادي رحمه الله جاء مكة فشرب ماء زمزم وقال اللهم إني أشربه لثلاث فذكرها الرق يحدث بتاريخه فيها وكان يملي حديثه في جامع المنصور بأسوان ويدفن بجوار قبر بشر الحارث فحقق الله جل وعلا له هذه الثلاث كلها . قال العلماء : فحقق له الطلب العلمي الذي ذكره ثم دفن بجوار قبر بشر الحارث .الذي يعنينا من هذا كله أن ماء زمزم ماء لما شرب له وماء فضله الله جل وعلا فهو همزة جبريل وسقيا إسماعيل وماء أفاء الله به على أهل بيته وعلى أهل بلده الحرام وعلى حجاج كعبته كل ذلك فضل من الله ورحمه وبهذا خص الله جل وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم بأن يغسل قلبه بماء زمزم دون غيره من المياه.
كذلك أصبحت حادثة الإسراء والمعراج:(16/7)
ماده خصبة في عالم المدائح النبوية وفي عالم الأدب والحق أن المدائح النبوية في أصلها الجواز بلاشك وإن كان المدح في عمومه جائز إن لم يكن فيه غلو ولاريب أنه لاأحد أولى ولا أحق بالمدح من رسولنا صلى الله عليه وسلم وقد بعض الشعراء عفا الله عنا وعنهم غلو في هذا غلوا ذميما لا يحسن أن نذكره لكن نقف عند بعض من وفق من الشعراء ونخص شوقي بالذكر في حديثه عن رحلة الإسراء والمعراج وقد تكلم شوقي رحمه الله عن الإسراء والمعراج في قصيدتين من شعره أولاهما في الميمية والأخرى في الهمزية وبكل وفق وقال خيرا ونستأنس ببعض قال رحمه الله في ميميته في مطلعها جزل عفيف رائع:
ريم على القاع بين البان والعلم *** أحل سفك دمى في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسدا *** يا ساكن القاع، أدرك ساكن الأجم
لما رنا حدثتني النفس قائلة *** يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي
جحدتها و كتمت السر في كبدي *** جرح الأحبة عندي غير ذي ألم
يا لائمي في هواه، والهوى قدر *** لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
ثم ذكر الإسراء والمعراج:
أسرى بك الله ليلا في الملائكة *** والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأوك به التفوا بسيدهم *** كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر *** ومن يفز بحبيب الله يأتمم
جبت السماوات أو ما فوقهن جداً *** على منورة درية اللجم
ركوبة لك من عز ومن شرف *** لا في الجياد ولا في الأينق الرسم
مشيئة الخالق الباري وصنعته *** وقدرة الله فوق الشك والتهم
هذا ماقاله شوقي رحمه الله في الميميه،أما ما قاله في الهمزيه :
يا أَيُّها المُسرَى به شرفاً إلى * ما لا تنال الشمسُ والجوْزاءُ
يتساءَلون وأنتَ أَطهرُ هيكل * بالروح أم بالهيكل الإِسراءُ
بهما سَموْتَ مُطَهَّرَيْن كلاهما * روحٌ وريحانِيَّة وبهاءُ
تغشى الغُيوبَ من العوالم كلَّما* طُويَتْ سماءٌ قُلِّدَتْكَ سماءُ(16/8)
أَنت الذي نَظمَ البريَّةَ دينُهُ * ماذا يَقول ويَنظم الشعراءُ
المُصلِحون أصابعٌ جُمِعت يَداً * هي أَنت بَلْ أنت اليدُ البيضاءُ
صلى عليك اللهُ ما صحِب الدُّجى * حادٍ وحَنَّت بالفلا وَجناءُ
واستقبل الرِّضْوانَ في غُرفاتِهم * بجِنان عَدْنٍ آلُك السُّمحَاءُ
صلوات الله وسلامه عليه بكرة وأصيلا . وإن كان لشوقي هفوات وزلات عظيمة جدا في باب العقيدة في بعض أشعاره لكن هذه الأبيات التي ذكرناها من جيد شعره وهي سلسلة في لفظها جيدة في معناها موفقة فيمن قيلت فيه وهل يحسن الشعر في أحد كما يحسن في نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ـ تبقى مسألة فقهيه قليلا بعض العلماء يناقش قضية أيهما أفضل ليلة الإسراء والمعراج أم ليلة القدر؟(16/9)
ونرى أنه لا ينبغي أن نجمع النقاش بين هاتين الليلتين لأن ليلة الإسراء والمعراج ليس للأمة علاقة بهما اللهم إلا من فرحهم لإكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهي ليست ليلة تعبديه لم يتعبدنا الله جل وعلا فيها بعمل ولذلك لم يقل الله عن وقتها لم يخبرنا الله عنها ولم يخبرنا في أي شهر هي ولم يتعبدنا بأن نسعى أن نترقبها بخلاف ليلة القدر فإن ليلة القدر أعطيت لنتدارك أنفسنا ونتوب إلى الله ونتقرب إلى الله بصالح أعمالنا جعلها الله جل وعلا ميزان الرحمة يتنافس فيه المصلحون ويتقرب فيه العابدون ويقوم فيه الصائمون وأمثال ذلك من طرائق الوصول إلى رضوان الله الذي هو قائم في أساسه كله على قيام تلك الليلة {من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقد من ذنبه } على هذا نقول إن ليلة الإسراء والمعراج بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر بلا شك لأنه في ليلة الإسراء والمعراج كلم ربه أما ليلة القدر بالنسبة لنا كأتباع لهذا النبي الكريم أفضل من ليلة الإسراء والمعراج لأن ليلة الإسراء والمعراج غاية الأمر فيها أن نفرح فيها لما كان من تعظيم الله وإكرام الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أما ليلة القدر فقد جعلها الله جل وعلا طريقا موصلا إلى رحمته وإلى جنانه وإلى غفران الذنوب وتعبدنا تبارك وتعالى في أن نسعى للاجتهاد التعبدي فيها وأن نترقبها وأن نتحراها كما دلت على ذلك الآثار الصحاح عن نبينا صلى الله عليه وسلم.
ـ بقي أن نقول معشر الأحبة أن بعض العلماء يناقشون قضية هل أسري بالجسد أو بالروح بالنبي صلى الله عليه وسلم؟(16/10)
وهذا الأمر ظاهر بين كنت لا أحب أن أتكلم فيه لكنني أتكلم فيه من باب سد الذرائع أو قطع الباب وهو أن نقول لا يعقل أن يقال إن الإسراء كان بالروح فقط أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط وهو لو كان كذلك لما كبر وعظم على القرشيين ولما ردوه ولما عنفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله هذا ولا سخروا منه لأن كل إنسان يستطيع أن ينام فيرى ما يرى ويحلق به روحه فيما شاء من العوالم والأفلاك لكن الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح ولهذا قال الله جل وعلا {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } ولفظ عبد يدخل فيه إذا أطلق الروح والجسد قطعا مجتمعتين والمقصود به هنا العبد النبي صلى الله عليه وسلم صلوات الله وسلامه عليه هذا ما تيسر إرادة وتهيأ إعداده عن ليلة الإسراء والمعراج قلناه على بينة من الأمر وقفنا في الأمور التي يغلب على الظن أنها غير مشتهرة أما غير ذلك من الفوائد فقد ضربنا عنه الذكر صفحا لاشتهاره وكنا قد بيناه في دروس شتى ومواطن متعددة والله المستعان وعليه البلاغ وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تم بحمد الله
**المخبتات**(16/11)
الأيام النظرة والسيرة العطرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم
الشيخ صالح بن عواد المغامسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الكون بما فيه وجامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده تقدست عن الأشباه ذاته ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصرًا وأولهم وأرفعهم يوم القيامة شأنًا وذكرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع نهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد .
التعريف بصاحب التصنيف - و بدء الشرح من أول المتن :
فهذا بحمد الله وتوفيقه وعونه أول دروسنا العلمية في التعليق على "الدرة المضيئة في السيرة النبوية" للعلامة عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله تعالى، وإن من التأدب مع أهل التصنيف أن يُذكر ما لهم من فضل وما قدموه لدين الله جلّ وعلا من عملٍ نافع، وصاحب هذا التصنيف الذي بين يديكم أحد أئمة المسلمين الذي عاشوا في القرن السادس الهجري، وكان ذا ورعٍ وعبادة، وممن اشتغل بطلب العلم وتعليمه، وممن عُرف عنهم كثرة التعبد والتماس الأثر، وكان فقيهًا حنبليًا رحمه الله تعالى.(17/1)
ومما يُذكر عنه أنه في يوم وفاته - والخواتيم تدل على أيام الإنسان ومراحله التي مضت - أنه رحمه أصابه المرض حتى لم يقدر على الذهاب على المسجد، فلما اشتد عليه المرض دخل عليه أحد أبنائه فقال له يا أبتاه ما تشتهي؟ قال أشتهي الجنة، ثم إنه صلى الفجر، ثم قال له ابنه يا أبتاه هاهنا دواء، قال يا بني لم يبق إلا الموت –شاعرًا بدنو الأجل-، ثم إنه قال له ابنه مُكررًا له السؤال ماذا تشتهي، قال أشتهي أن أنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى، فدخل عليه جماعة من أصحابه يعودونه فلما سلّموا عليه رد عليهم بصوتٍ ضعيف، ثم أخذوا يتحادثون فيما بينهم فكان العجب أنه وهو المريض الذي يُعاد قال لهم قولوا لا إله إلا الله، اذكروا الله، فيم أنتم تخوضون، فلما قاموا عنه أخذ يُردد لا إله إلا الله ويحرك بها شفتيه حتى فاضت روحه وانتقل إلى جوار ربه.
هذا يدلك على ما كان عليه بعض علماء السلف من البركة، وما أفاءه الله جلّ وعلا عليهم من الفضل، وهذا الفضل الذي بين يديك خاصٌّ بالسيرة العطرة والأيام النضرة لرسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وتعريفًا بجملة من أصحابه، هم العشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وإننا قبل أن نشرع في شرح المتن يجب أن ننبه إلى أمور، إن الإنسان لا يمكن أن يُهيأ(17/2)
له مقام بعد أن يُدرس كتاب الله جلّ وعلا أعظم من أن يدرس سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن نبينا عليه الصلاة والسلام ختم الله به الرسالات، وأتم الله جلّ وعلا به النبوات، وبعثه بين يدي الساعة هاديًا مُبشرًا ونذيرًا، وأمر العباد بمحبته وطاعته والتماس هديه واقتفاء أثره صلوات الله وسلامه عليه، وعلى هذا فإنه ينبغي أن يُقرر شرعًا قبل أن نشرع مُتكلمًا وسامعين في شرح هذه الدرة المضيئة أن نقول: إنه يجب علينا أن نتعلم سيرته صلى الله عليه وسلم لاأن نبز أقراننا ونفوق إخواننا ونترفع على من بين أيدينا، وإنما حتى نتأسّى به صلوات الله وسلامه عليه ونجعله بيننا وبين ربنا فنقتفي أثره، ونلتمس سنته، ونتبع هديه، ذلكم الذي أمرنا الله جلّ وعلا به في المقام الأول، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21].
وقد فطر الله جلّ وعلا كثيرًا من خلقه على محبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد صعد أحد فرجف الجبل فرحًا بصعوده، فقال عليه الصلاة والسلام ( اثبت أُحد فإنما عليك نبيٌ وصديقٌ وشهيدان )، وترك الجذع الذي كان يخطب عليه لما صُنع له المنبر فحنّ الجذع إليه، فقام عليه الصلاة والسلام والتمس الجذع وضمه إليه، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا حدث بهذا الحديث يقول "يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بال قلوبكم لا تحن إليه".(17/3)
وقد أعطاه الله من المزايا والعطايا ما لم يُعط أحدٌ من العالمين، أشار إلى القمر وأومأ إليه فانفلق بإذن الله تأييدًا لرسالته، وأشار إلى السحاب فتفرق إكرامًا لإشارته، إلى غير ذلك مما سيأتي في المتن من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه، هذا كله يدفع المؤمن وطالب العلم في المقام الأول إلى أن يكون عالمًا فقيهًا مُطلعًا على سيرته صلى الله عليه وسلم؛ حتى يدعو الناس إلى هديه عليه الصلاة والسلام فإن الله سد كل بابٍ موصلٍ إليه إلا ما كان عن طريقه صلوات الله وسلامه عليه.
والرسالة والنبوة لا تنال بالسعي ولا بالكد ولا بالعمل ولا بطلب العلم وإنما هي هبةٌ من الله، يقول الله جل شأنه { اللَّهُ َأَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124]، فالله تبارك وتعالى اصطفى هؤلاء الرسل من بين خلقه أجمعين ومنحهم النبوة وأعطاهم الرسالة فكانوا أئمة هدًى ومصابيح دُجى، نشر الله بهم دينه على مر العصور وكر الدهور حجةً من الله تبارك وتعالى على خلقه كما قال الله تبارك وتعالى في سورة النساء { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء: 165].
والمقصود من هذا كله إخلاص النية والسعي قدر الإمكان في فهم سيرته العطرة وأيامه
النضرة صلوات الله وسلامه عليه قبل أن نشرع تفصيلا في ذكرها.(17/4)
وصاحب هذا المتن قال في أوله: أنه موجز وأنه مُختصر، وأن المراد به الإلمام الشامل بسيرته عليه الصلاة والسلام، وسنحاول أن نعرج قدر الإمكان على ما أطلق منها لأن بعض النصوص في المتن كما هو معلومٌ لا يكاد يجهلها أحد، وإنما سنقف على ما يغلب على الظن أنه يحتاج إلى أن يقف الإنسان معه ويبينه لغيره، والله تعالى هو المستعان وعليه التكلان، ونسأل الله أن يرزقنا وإياكم صلاح النية وإخلاص القصد، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه يُبتغى بها رضاه ويُتقى بها سخطه إنه سميعٌ مجيب.
( الحمد لله خالق الأرض والسماء، وجاعل النور والظلماء، وجامع الخلق لفصل القضاء،
لفوز المحسنين وشقوة أهل الشقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة يسعد بها قائلها يوم الجزاء، وصلى الله على سيد المرسلين والأنبياء، محمد، وآله، وصحبه النجباء.
أما بعد:
فهذه جملة مختصرة من أحوال سيدنا ونبينا، المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ، لا يستغني عنها أحد من المسلمين، نفعنا الله بها، ومن قرأها، وسمعها.
نسبه صلى الله عليه وسلم:
فنبدأ بنسبه:
فهو أبو القاسم، مُحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هَاشِمِ بن عبد مَنَاف بن
قُصَيِّ ابن كِلابِ بن مُرَّةَ بن كَعْبِ بن لُؤَيِّ بن غَالِبِ بن فِهْرِ بن مَالِكِ بن النَّضْرِ بن كِنَانَة بن خُزَيْمَةَ ابن مُدْرِكَةَ بن إِلْيَاسَ بن مُضَرَ بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدْنَانَ بن أُدَد ابن الْمُقَوَّم بن نَاحُورَ بن تَيْرَحَ بن يَعْرُبَ بن يَشْجُبَ بن نَابِت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تَارح – وهو آزر – بن نَاحُورَ بن سَارُوعَ بن رَاعُو بن فَالِخ ابن عَيْبَر بن شَالِخ بن أَرْفَخَشْد بن سَام بن نُوح بن لَمْكِ بن مُتُوشَلْخ بن أَخْنُوخ – وهو إدريس النبي فيما يزعمون، وهو أول بني آدم أعطي النبوة، وخط بالقلم ابن يَرْدَ بن مَهْلِيلَ بن قَيْنَن بن يَانِش بن شِيث بن آدم صلى الله عليه وسلم.(17/5)
هذا النسب ذكره محمد بن إسحاق بن يسار المدني في إحدى الروايات عنه. وإلى عدنان متفق على صحته من غير اختلاف فيه، وما بعده مختلف فيه.
وقريش: ابن فهر بن مالك، وقيل: النضر بن كنانة ) (1)
بدأ المصنف رحمه الله كتابه بذكر أن كنية نبينا صلى الله عليه وسلم هي أبو القاسم، والكنية ما صُدِّر بأبٍ وأم أو ابن، كما يقال ابن أم مكتوم، أو ابن أم عبد، أو أبو القاسم، أو أبو حفص، هذه كلها تُسمى كُنى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له من خديجة رضي الله تعالى عنها أولاد ذكورًا وإناثًا، كان له القاسم والطيب المُسمى عبد الله، وكان له أربع بنات، فكان بديهيًا أن الأصل أن الإنسان يُكنى بأكبر بنيه، فكُني صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم، وقد وردت كثيرًا في كتب الأحاديث كما في حديث ثوبان في صحيح مُسلم وغيره "يا أبا القاسم ما أول أشراط الساعة"، إلى آخر ذلك مما ورد هاهنا وهناك في الصحيحين وفي غيرهما مناداة اليهود أو بعض كفار قريش له بأبي القاسم، فهذه كنيته صلوات الله وسلامه عليه.
أما اسمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره النسابون عنه يُمكن تصنيف النسب الشريف إلى ثلاثة أقسام، نسبه صلى الله عليه وسلم منه إلى جده عدنان، وهذا أمرٌ مُتفقٌ عليه، مُتفقٌ على صحة هذا النسب، ومن عدنان إلى إسماعيل مُختلفٌ فيه، ومن إسماعيل وإبراهيم إلى آدم عليه السلام كثيرٌ منه غير صحيح ويمكن أن يُقال علميًا أنه يصعب إثبات وذكره، فعلى هذا يتحرر أن النسب الشريف المذكور ثلاثة أقسام، قسمٌ ثبتت صحته، وقسمٌ مُختلفٌ فيه لكن الصحيح منه أكثر، وقسمٌ مُختلفٌ فيه وأكثره غير صحيح؛ لصعوبة الإثبات.
__________
(1) ... ملاحظة : الكتابة بالخط الأخضر هي المتن .(17/6)
أما النسب الذي هو مُثبت فهو مُحمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هَاشِمِ بن عبد مَنَاف ابن قُصَيِّ بن كُلابِ بن مُرَّةَ بن كَعْبِ بن لُؤَيِّ بن غَالِبِ بن فِهْرِ بن مَالِكِ بن النَّضْرِ بن كِنَانَة صلوات الله وسلامه عليه، كنانة هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( واصطفاني من بني كنانة )، ولذلك توقفنا عنده، والذي يعنينا في هذا المقام أن تعرف أن الله جلّ وعلا اختار هذا النبي ليتم به الرسالات ويكمل به النبوات، فكان حقًا على الله –ولا ممتن على الله- أن يحفظه صلى الله عليه وسلم في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فكان صلى الله عليه وسلم يولد من نكاحٍ إلى نكاح محفوظًا في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء حتى وضعته أمه آمنة بنت وهب من أبيه عبد الله بن المطلب.
وهذا النسب ليس معناه أن جميع آباء النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده كانوا مؤمنين، وهذا لا يدل الواقع التاريخي عليه، نبينا صلى الله عليه وسلم من أباءٍ وأجدادٍ من كان من أهل الفطرة، والله أعلم بهم، ولاشك أن من إبراهيم إلى آدم من كان على غير ملة الإسلام، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم كان محفوظًا برعاية ربه تبارك وتعالى.
وهذا النسب عندما نقول النبي العدناني فإنما ننسبه إلى جده عدنان الذي هو قطعًا من ذرية إسماعيل، وعندما نقول النبي المضري نسبة إلى مُضر الذي هو خصيم ربيعة، فإن مُضر له أخٌ يُقال له ربيعة انفلقت منه العرب فلقتين، المضريون كانوا يسكنون مكة وهم عرب الحجاز، وربيعة من كانوا يسكنون جهة البادية في بادية نجد والعراق، ولما ظهر مسيلمة كان من ربيعة، فكان أتباع مسيلمة يقولون كاذب ربعية يقصدون مسيلمة، ولاصادق مُضر يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم -أخذتهم الحمية-، أو عندما يُقال النبي العدناني أو يُقال النبي المُضري، لكن لا يتعلق بهذين الاسمين أي حكمٍ شرعي.
ويصل بك الأمر حتى تصل إلى هاشم فتقول : صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن(17/7)
عبد المطلب بن هاشم، عندما يصل الأمر إلى جده هاشم يتعلق به أمرٌ شرعي وهو أنه إذا
قيل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المقصود منه بنو هاشم، والحكم الشرعي
الذي يتعلق بهذا النسب هنا أن الزكاة لا تُعطى إليهم كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.
على أنه كذلك يُضاف إلى بني هاشم أن هاشمًا هذا هو ابن عبد مناف، وعبد مناف ترك أربعة من الولد، ترك نوفل وترك عبد شمس وترك المطلب –بدون عبد- وترك هاشمًا، وهذه يجب تحريرها لأنه يتعلق بها مسائل شرعية، فهؤلاء الأربع إخوان من أبيهم الذي هو عبد مناف، قال عليه الصلاة والسلام عندما ننسب ننسب إلى بني هاشم، هاشمٌ هذا له إخوة ثلاثة الذين ذكرناهم، قلنا عبد شمسٍ والمطلب، لما حصل ما حصل في شعب بني طالب وحاصرت قريشٌ النبي عليه الصلاة والسلام في الشعب انضم إليه أبناء المطلب، انضموا إلى بني هاشمٍ في الشعب كافرهم ومؤمنهم، وبقي بنو عبد شمس وبنو نوفل مع قريش ضد النبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم .
هذه الخصيصة لبني المطلب حفظها النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فلما كانت غزوة خيبر وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم وجاءه وفدٌ من بني عبد شمس وبني نوفل، جاءه جبير بن مطعم وجاءه عثمان رضي الله عنه من بني عبد شمس فقالوا "يا نبي الله إنك أعطيت إخواننا من بني هاشم وهذه لا تثريب فيها؛ لأن الله شرفهم بك، وإنك أعطيت إخواننا من بني المطلب ونحن وإياهم شيءٌ واحد"، لأن المطلب أخٌ لنوفل وأخ لعبد شمس، قال صلى الله عليه وسلم ( لا، إن بني المطلب لم يُفارقونا في جاهلية ولا في إسلام، وشبك بين أصبعه )، من هذا ذهب جمهور العلماء إلى أن بني المطلب يدخلون في آل البيت بمقتضى هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه أهم ما يُعرف من فوائد ذكر النسب الشريف على نبينا صلوات الله وسلامه عليه .(17/8)
ثم إذا نزلت قليلا فإن هاشمًا هذا اسمه عمرو، وإنما سُمي هاشمًا لأنه كان يكسر الخبز ويضعه مع المرق ويُسمى عند العرب حين ذاك الثريد ويطعم به الحجاج، وهو الذي سن رحلتي الشتاء والصيف لقريش، وكان اسمه الحقيقي عمرو كما بينت، وقد قيل فيه
عمرو الذي هشم الثريد لقومه *** قوم بمكة مسنتين عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما *** سفر الشتاء ورحلة الأصياف
هذا الذي يُنسب إليه صلى الله عليه وسلم في المقام الأول، ويُقال النبي الهاشمي، وقلنا كما يُقال النبي المضري يخرج بني ربيعة، وعندما يُقال العدناني المقصود نسبته إلى إسماعيل وسيأتي بيان هذا، ثم دون ذلك يكون عبد المطلب –وليس المطلب الأول-، واسمه شيبة، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم وأحد الذين كفلوه كما سيأتي تحريره في موضعه، واسمه شيبة، قيل له شيبة الحمد ، وإنما سُمي عبد المطلب؛ لأن المطلب الذي ذكرناه في الأول أخو هاشم لما جاء المدينة كان شيبة هذا صغيرًا ابنًا لأخيه هاشم، فلما مات هاشم أخذ المطلب شيبة هذا وأردفه وراءه ودخل به مكة، فلما دخل به مكة ظنه الناس من قريش أنه عبدًا للمطلب فأخذوا يقولون عبد المطلب عبد المطلب عبد المطلب حتى غلبت عليه، وإلا فاسمه شيبة.(17/9)
وتظهر فائدة ثانية قلما ينتبه إليها إلا القليل وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مُفتخرًا ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، هذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين والشُرَّاح عندما يأتون إلى ذكر الإنسان أنه لا يُذكر الإنسان أنه عبدٌ لغير الله فيقولون يجوز من باب النسب، ويأتون بهذا الدليل، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، وهذا وهمٌ ممن قاله، لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال ( أنا ابن عبد المطلب) العبودية هنا لم يقصد بها القرشيون عبودية الذل وعبودية التعبد وإنما قصدوا بها عبودية الرق، كما يقول زيدًا من الناس مثلا عبدٌ لبني فلان، عبدٌ بمعنى رقيق ليس أنه يعبدهم.
فقوله عليه الصلاة والسلام ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ) لم يُغير عليه الصلاة والسلام اسم جده ولم يقل أن عبد المطلب لم يكن عبدًا؛ لأنه فهم الوضع الذي ذُكر منه الاسم وهو أن شيبة فهمت قريشٌ أنه عبد للمطلب أي أنه أجير غلام بمعنى عبودية الرق، وحتى نحرر المسألة العبودية أصلا ثلاثة أقسام :
عبودية رق وضدها الحرية، وهذه تُسمى عبودية شرعية والدليل قوله تعالى : {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ }[البقرة:178] .
وعبودية ذل وقهر وهذه يشترك فيها كل الخلق، الملائكة والجن والإنس، كلهم عبيدٌ لله تبارك وتعالى من هذا الباب، عبودية ذل وقهر من جانب الرب تبارك وتعالى، ودليلها من القرآن { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } [مريم: 93] .
العبودية الثالثة عبودية الطاعة، وتنقسم إلى قسمين :(17/10)
عبودية طاعةٍ لله، وعبودية طاعة لغير الله تبارك وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام ( تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة )، والطاعة لله هي التي يتنافس فيها المتنافسون ويشمر فيها العاملون، وهي التي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الذروة منها فكان كما سمّاه الله جلّ وعلا قال { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } [الفرقان: 1]، أرادالله بها هنا عبودية الطاعة.
هذا عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم الأول، من هذا نفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه وأمه عربيٌ من العرب المستعربة .
والعرب أمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أما العرب البائدة فهم ثمود وعاد فهذه أمم عربية كانت موجودة ثم بادت ولم يبق منها على الأرض من نسل، وعربٌ عاربة أي عرب أقحاحٌ جدًا، وهم ذرية يعرب بن قحطان، والمصنف هنا رحمه الله تعالى لم يذكر أن يعرب ابنًا لقحطان، فأهمل قحطان ما بين يعرب والجد الذي يليه، يعربٌ هذا هو جد العرب، ويُسمى العرب هؤلاء بالقحطانيين نسبةً إلى يعرب بن قحطان وهؤلاء هم العرب العاربة.
بقي القسم الثالث وهم العرب المستعربة،
والألف والسين والتاء في اللغة غالبًا ما تعني الاكتساب، تعني الطلب، تعني الاكتساب، مسائل عدة تعني اكتساب الشيء، فعربٌ مستعربة أي ليسوا عربًا في أصلهم وإنما اكتسبوا العروبة، إسماعيل عليه الصلاة والسلام ابن إبراهيم، وإبراهيم لم يكن عربيًا -وإن كان من ذرية سام-، لكنه لم يكن عربيًا، ولذلك تقرأ في القرآن { إِلَى إِبْرَاهِيمَ } بالفتح، ويقولون النحاة ممنوع من الصرف للعلمية وللعُجْمى، أي غير عربي ،(17/11)
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وبالتالي إسماعيل ليس عربيًا، لكن إسماعيل اكتسب العربية من ماذا؟ من جهة زوجته، لأنه أخذ من جُرهم، وجُرهم قبيلة عربية قحطانية، فمن تولد من ذرية إسماعيل وزوجته التي من جُرهم يُسمون عربًا مُستعربة ومنهم نبينا صلى الله عليه وسلم.
فالعرب قحطانيون وعدنانيون ، هذا تقسيم، ويُسمون عرب الشمال وعرب الجنوب هذا تقسيم ، ويُسمون عرب الحجاز هم العرب المستعربة في الغالب، وليس لهذا التقسيم قسيم، يعني إذا قلنا عرب الحجاز لا يوجد له قسيمٌ آخر نحيل عليه، على هذا يُفهم أن العرب أمةٌ تنقسم إلى ثلاثة أقسام، عرب بائدة، وعربٌ عاربة، وعرب مستعربة، ونبينا صلى الله عليه وسلم من العرب المستعربة الذين اكتسبوا العربية من جرهم قبيلة قحطانية نزلت مكة وتزوج منهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام، هذا كله في ذكر نسبه صلى الله عليه وسلم، وقد بينا أهم ما فيه.
ذكر المصنف في جملة ما قرأ القارئ أن إدريس أو من نُبئ وأول من خط بالقلم، وهذا ذكره أبو هلال العسكري في الأوائل، ولا دليل عليها، وإذا أطقنا النبوة فمن الخطأ أن يُقال إن إدريس عليه السلام أول من نُبئ لأن هذا قد يُفهم منه بادي الرأي أن آدم عليه السلام ليس بنبي، والمعلوم شرعًا المقرر في هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سُئل عن آدم أنبيٌ هو؟ قال ( نعم، نبيٌ مُكلم )، فآدم نبي، فالقول أن إدريس أول من نُبئ غير صحيح إلا أن يكون المقصود أول من نُبئ بعد آدم عليه السلام، أما أن يُقال أنه أول من خط بالقلم وما إلى ذلك فلا سبيل ولا دليل إلى إثباته.
قال المصنف في آخر ما قرأنا أن قريش هو ابن فهر، والصواب أنه هو فهرٌ نفسه، أن قريش(17/12)
لقبٌ على فهر، واختلفوا لماذا سُمي قريش، والأظهر أنه كان قادرًا على أن يجمع الناس، كان ذا سلطان، لهذا سُمي قريش، فقريشٌ لقبٌ على فهر غلب عليه ، وليس ابن فهر، ولكن فهر هو قريش على الأرجح من أقوال العلماء، هذا ما يتعلق بالنسب الشريف.
أمه صلى الله عليه وسلم وولادته :
( أمه صلى الله عليه وسلم : وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كِلابِ بن مُرَّةَ بن كَعْبِ بن لُؤَيِّ بن غَالِبِ.
ولادته صلى الله عليه وسلم:
وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام "الفيل" في شهر ربيع الأول لليلتين خلتا منه، يوم الاثنين.
وقال بعضهم: بعد "الفيل" بثلاثين عامًا، وقال بعضهم: بأربعين عامًا. والصحيح أنه ولد عام الفيل )
ذكر المصنف هنا أن أم النبي صلى الله عليه وسلم هي آمنة، ولم يقل أبوه هو فلان لأنه ورد ذكره في النسب الأول، وأفرد الأم لأنه لم يرد ذكرها في النسب الأول ، آمنة بنت وهب هي أم نبينا صلى الله عليه وسلم، وهي من بين زهرة، وبنو زهرة بطنٌ من بطون قريش فتجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده كلاب، آمنة هذه تزوجها أبوالنبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، فلما تزوجها حملت منه بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
ولحكم أرادها الله أن يموت الأبوان قبل أن ينشأ صلى الله عليه وسلم النشأة التي يمكن أن نقول إنها بلغت سن التمييز، فأبوه عبد الله لما تزوج آمنة وحملت به على أظهر أقوال العلماء أن أباه مات وهو حملٌ عليه الصلاة والسلام، كان له أخوالٌ من بني النجار في المدينة –مدينة النبي صلى الله عليه وسلم- فذهب عبد الله هذا لتجارة لأبيه فمات هناك في المدينة، ودُفن في دار النابغة أي في دار النابغة الجعدي أحد شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام وأسلم وحسن إسلامه.(17/13)
الاختلاف وقع فيما ذكره المصنف في قضية متى وُلد النبي صلى الله عليه وسلم، يجب أن تعلم أن المُتفق عليه أنه ولد في الاثنين وفي شهر ربيعٍ الأول، ودائمًا الإنسان في طلب العلم يأخذ ما اتُفق عليه في الأول، وما اختلف عليه يبدأ بعد ذلك بالأقوى، لكن لابد في المسيرة العلمية من شيءٍ قوي تركن إليه، ثم تُخرج الأضعف فالأضعف، فالثابت أنه صلى الله عليه وسلم وُلد في يوم الاثنين وسئل فقال ( هو يومٌ وُلدت فيه )، فهذا قطعيٌ أنه وُلد يوم الاثنين ، وأصلاً لا أعلم أن هناك خلافًا في أنه وُلد في غير يوم الاثنين، الأمر الثاني المُتفق عليه أنه وُلد في شهر ربيعٍ الأول.
الخلاف في أي يومٍ من شهر ربيعٍ الأول وُلد، الذي عليه عامّة الناس في عصرنا أنه يوم الاثنين الثاني عشر ربيع الأول، وقال المصنف أنه في يوم الاثنين الثاني من ربيعٍ الأول، والأظهر -والله أعلم- التي دلت عليه الدراسات المعاصرة أنه وُلد يوم الاثنين التاسع من شهر ربيعٍ الأول، لأن الفلكيين كالعلامة محمود باشا وغيره كالمنصور فوزي وغيره ذكروا أنه لا يمكن أن يكون يوم الاثنين في العام الذي وُلد فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلكيًا أن يكون يوم اثني عشر، وإنما هو يوم الاثنين التاسع من شهر ربيعٍ الأول الموافق في السنة الميلادية الثاني والعشرين من شهر إبريل لعام خمسائة وواحد وسبعين من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام.
لكننا كطلبة علم لا يعنينا هذا، يعني دائمًا الإنسان لا يتعلق كثيرًا بما لا فائدة من ورائه، إنما الذي يعنينا أنه وُلد يوم الاثنين لأنه صامه صلى الله عليه وسلم، لكنه من الناحية التاريخية حتى لو فرضنا أن القول الذي قلناه أنه اليوم التاسع خطأ هذا لا يُغير من الموضوع شيئًا، قد يكون يوم الاثنين التاسع كما قال الفلكيون وهو الذي نعتمده وهو الأظهر، وقد يكون قبله أو بعده، لكنه قطعًا يوم الاثنين من شهر ربيعٍ الأول.(17/14)
وُلد في عام الفيل، جرت العادة عند العرب قديمًا وعند الأمم كلها أنهم يؤرخون بالحدث العظيم، فالنصارى كانوا يؤرخون بميلاد المسيح، فلما كانت العرب أمة لا احتكاك لها بالأمم الأخرى أرخوا بحادثة الفيل،
والفيل قصته شهيرة وهي أن أبرهة نائب النجاشي على اليمن قدم إلى مكة يريد هدم البيت في القضية والقصة والمعروفة حتى وصل إلى وادي مُحتم ما بين مزدلفة ومنى، هناك ناخ الفيل وبرك ورفض التوجه إلى الكعبة -كما هو معلومٌ- وحيث ما وُجِّه توجه إلا إذا ذُهِبَ به إلى مكة، ووكل جلّ وعلا عليهم طيرًا أبابيل، هذا العام لعظيم الحادثة التي وقعت فيه أرخ العرب آنذاك بعام الفيل، لأنه أصبح أمرًا مُميزًا، ولعل هذا شيء خاصاً لحدوث شيءٍ عظيم وهو مولده صلوات الله وسلامه عليه.
المقصود أنه وُلد عليه الصلاة والسلام في عام الفيل، أما القول أنه بعد الفيل أو قبل بثلاثين عامًا أو أربعين عامًا فهذا خلاف الصحيح، وهي أقوالٌ وإن كانت موجودة إلا أنها أقوالٌ مردودة يردها كثرة الروايات التي تُدل على أنه صلى الله عليه وسلم وُلد في عام الفيل.
وفاة والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه، وجده:
( وفاة والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه، وجده: ومات أبوه عبد الله بن عبد المطلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى له ثمانية وعشرون شهرًا. وقال بعضهم: (مات أبوه وهو ابن سبعة أشهر). وقال بعضهم (مات أبوه في
دار النابغة وهو حمل). وقيل: (مات بالأبواء بين مكة والمدينة).
وقال أبو عبد الله الزبير بن بكار الزبيري: (توفي عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن شهرين).
وماتت أمه وهو ابن أربع سنين. ومات جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين. وقيل: (ماتت
أمه وهو ابن ست سنين) )(17/15)
هنا ذكر المصنف يُتمه صلى الله عليه وسلم مع الخلاف في زمن اليتم، فقيل إنه وهو حمل، وقيل غير ذلك كما هو مذكور عندك، والأظهر أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الروايات على أن أبوه مات وهو حملٌ في بطن أمه، وقد يكون مات أبوه بعد ولادته، هذه الروايات كلها موجودة والأظهر كما قلت الرواية الأولى أنه وهو حملٌ صلوات الله وسلامه عليه، وقلنا أن أباه عبدالله مات في المدينة، أما القول بأنه مات في الأبواء بين مكة والمدينة كما هو مكتوب فهذا خلاف الصحيح، والصحيح أن أمه ماتت بالأبواء ، أمه مرضت بالمدينة وماتت بالأبواء صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد دفنه كفلته أمه مدة أربع سنوات وماتت بعد ذلك، ثم كفله جده عبد المطلب إلى ست أو ثمان ، ثم كفله عمه أبوطالب.
الذي يعنينا في هذا المقام في فقه السيرة أن يُفهم أن الله جلّ وعلا لحكمةٍ أرادها أن يعيش نبيه صلى الله عليه وسلم يتيمًا حتى تكتمل عليه منة الله، والله إذا أراد أن يمن على عبدٍ من عباده بشيء جنبه الناس، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قدم ولده للقربان وقدم جسده للنيران، وقدم قلبه للرحمن، فلما هم قومه بأن يلقوه في النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل، وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعبد أهل زمانه، بل أعبد الناس على الإطلاق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان ملك المطر يعلم أن الله لن يُخزي إبراهيم فيحرقه بالنار، وأن الله سينصر إبراهيم لا محالة، ولكن يعلم أن النار لا يطفئها إلا الماء فغلب على ظنه(17/16)
أن الله جلّ وعلا سيأمره أن ينزل القطر على النار يطفئها فيسلم إبراهيم، فعجل ميكال يطأطأ رأسه ينتظر متى يؤمر أن ينزل القطر، ولكن الله جلّ وعلا إكرامًا لإبراهيم خاطب النار بذاته العلية بقوله { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69]، فخرج منها صلوات الله وسلامه عليه بعد أن جعلها الله بردًا وسلامًا معافًاً يمشي على قدميه والناس ينظرون.
ما لا يفقهه الناس هو أنه خرج وليس لأحدٍ من أهل الأرض عليه منة صلوات الله وسلامه
عليه إلا منة الله، وهذه منزلة لا ينالها الإنسان إلا إذا بلغ درجة عظيمة في العبودية، فإن الإنسان إذا تحرر قلبه من غير الله كان أقرب إلى الله، وكلما تعلق قلبه بأحدٍ غير الله كان أبعد من الله جلّ وعلا، ومن أراد الله يرزقه الفلاح الحق الكامل لم يجعل في قلبه أحد غير ربه تبارك وتعالى، يحب بحبه، ويُبغض ببغضه، ويوالي بموالاته، فإن كان هذا القلب لا يعرف إلا الله جلّ وعلا في سرائه وضرائه وليله ونهاره وإقامته وسفره كان رعاية الله جلّ وعلا به أعظم وعنايته به أكمل تبارك وتعالى، وهذا هو المقصود الأسمى من كونه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيمًا لم يرعاه أب حتى إذا بلغ النبوة نسب الناس نبوته إلى أبيه، ولم ترعاه أمه حتى إذا بلغ المجد نسب الناس رعايته وتربيته إلى أمه، قال الله جلّ وعلا مُمتنًا عليه { ألم يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } [الضحى: 6- 8].
ذكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم
الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خُيِّرتَ في الأرزاق والقسم
إن قلت في الأمر ( لا ) أو قلت فيه ( نعم ) فخِيرةُ الله بلا منك أو نعم
يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم
آياته كلما طال المدى جددٌ يزينهن جلال العتق والقدم(17/17)
صلوات الله وسلامه عليه .
رضاعه صلى الله عليه وسلم:
( رضاعه صلى الله عليه وسلم : وأرضعته صلى الله عليه وسلم ثويبة جارية أبي لهب، وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، أرضعتهم بلبن ابنها مسروح . وأرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية )
بعد أن ذكر أنه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيمًا -وبينا الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم نشأ يتيمًا- ذكر المصنف رحمه الله من نلنا شرف رضاعته صلوات الله وسلامه عليه ، ممن أرضعنه بلا شك أمه آمنة، وممن أرضعنه ثويبة جارية كانت لعمه أبي لهب، ولم يكن بالطبع أبو لهب يعلم أن هذا سيكون نبيًا رسولا وأنه سيعاديه، ولكن جاريته ثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، وممن أرضعنه –وهي أكثر من أرضعته- حليمة السعدية المشهورة ، خرجت به إلى بادية بني سعد في قصة نُقلت عنها، أنها جاءت إلى مكة وأخذته صلوات الله وسلامه عليه إلى بادية بني سعد، وتغير حالها وحال قومها مما هو مذكورٌ مشهور في كتب السيرة، أنا قلت أنه في منهجنا في التدريس أن ما كان مشهورًا لا نُعرج عليه، وإنما نُعرج على ما كان مخفيًا يحتاج الناس إلى بيانه، هؤلاء الثلاثة هن اللاتي أرضعنه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من لطف ربه به عليه الصلاة والسلام.
فصل في أسمائه ـ صلى الله عليه و سلم :
فصل في أسمائه:
(روى جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي حَشَرَ الناس، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي ) صحيح متفق عليه )(17/18)
هذا فصلٌ في ذكر أسمائه صلوات الله وسلامه عليه، وتحرير المسألة أن يُقال إن من أسمائه صلى الله عليه وسلم ما يُشاركه فيه الناس مثل محمد وأحمد، فالناس يُسمَوْن بمحمد وأحمد، ولهذا لم يقل صلى الله عليه وسلم في تفسيرهما شيئًا، قال ( أنا محمد ) ولم يُبين، وقال ( أنا أحمد ) ولم يُفصل، لأنها من الأسماء المشتركة التي يُسميها كل أحد، لكن عندما قال ( أنا الماحي ) ( أنا العاقب ) فسر صلوات الله وسلامه عليه، لأن الماحي والعاقب تتعلق بكونه نبيًا ورسولا لا تتعلق بكونه رجلا يُنادى بين الناس.
كونه عليه الصلاة والسلام ماحيًا فللكفر، وعاقبًا أي جاء عقب النبيين عليه الصلاة والسلام، هذا يتعلق برسالته، فلهذا بين ما معنى (الماحي)، وبين ما معنى (العاقب) الذي يُحشر الناس على يديه، بمعنى أنه من أشراط الساعة خروجه صلى الله عليه وسلم، لكنه عندما قال ( أنا محمد وأنا أحمد ) فهذا من الأسماء التي يشترك فيها صلى الله عليه وسلم في أصل التسمية مع الناس.
وأحمد هو الاسم المُسمى به في الإنجيل، ومحمد هو الاسم المُسمى به في التوراة، في التوراة جاء أن اسمه محمد، وفي الإنجيل جاء أن اسمه أحمد.
( وروى أبو موسى عبد الله بن قيس، قال: سمَّى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماءً، منها ما حفظنا، فقال: ( أنا محمد، وأنا أحمد، والمُقَفِّي، ونَبِيُّ التوبة، ونَبِيُّ الرحمة ) وفي رواية: ( ونبي الملحمة ) وهي المقتلة، صحيح، رواه مسلم )(17/19)
أبو موسى هو أبو موسى الأشعري الصحابي الجليل المعروف عبد الله بن قيس، أحد الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن، والحديث كما بيّن المصنف أخرجه الإمام مسلمٌ في الصحيح، وقد ذكر به النبي صلى الله عليه وسلم أسماءً خاصةً به هي محمد وأحمد بالنسبة للنبيين، ومعنى بالنسبة لنبيين لا يوجد نبيٌ من الأنبياء اسمه محمد، ولا يوجد نبي من الأنبياء اسمه أحمد، لكن كلمة نبي التوبة تُطلق عليه وعلى غيره من الأنبياء، ونبي الرحمة تُطلق عليه وعلى غيره من الأنبياء؛ لأن كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا رحمةً وتوبةً للناس، لكن الفرق بينه وبينهم أنه له منها صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر والنصيب الأكمل.
( وروى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، فإذا كان يوم القيامة لواء الحمد معي، وكنت إمام المرسلين، وصاحب شفاعتهم ).
وسماه الله – عز وجل – في كتابه العزيز: { بَشِيرًا } و{ َنَذِيرًا } [البقرة: 119]، و{ رَءُوفًا } و{ رَّحِيمًا } و{ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107] صلى الله عليه وسلم )
الأسماء الأولى التي ذكرها صلى الله عليه وسلم ونقلها المصنف تدل على رفيع مقامه عليه الصلاة والسلام عند ربه، وعلو منزلته، وله عليه الصلاة والسلام خصائص في الدنيا وخصائص في الآخرة، والمقام المحمود خصيصةٌ في الآخرة وهي أعظم خصائصه صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبدٍ وأرجو أن أكون أنا هو ) صلوات الله وسلامه عليه، ونحن نقول كما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام: وابعثه(17/20)
مقامًا محمودًا الذي وعدته، والله جلّ وعلا قال له في الإسراء { وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79]، فالمقام المحمود له صلى الله عليه وسلم.
ولواء الحمد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح ( ولواء الحمد يومئذٍ بيدي )، كل الناس آدم فمن سواه تحت هذا اللواء الذي يحمله صلوات الله وسلامه عليه. المقصود رفيع مقامه وجليل مكانته، ولا نريد أن نفصل فيها أكثر لأنها سيأتي بيانها في فصول قادمة، لكن معلومٌ من الدين بالضرورة مقامه صلوات الله وسلامه عليه بين خلق الله أجمعين ورفيع منزلته وعلو درجته عليه الصلاة والسلام عند ربه.
ثم قال المصنف ( وسماه الله – عز وجل – في كتابه العزيز: { بَشِيرًا } و{ َنَذِيرًا } [البقرة: 119]، و{ رَءُوفًا } و{ رَّحِيمًا } و{ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } )،
هذه الأفضل أن يُقال أنها صفات أكثر من كونها أسماءً، هذه صفات له عليه الصلاة والسلام أكثر من كونها أسماءً، لأن جميع الرسل كانوا مبشرين وكانوا منذرين، وكانوا رؤوفين بأممهم، وكانوا راحمين للعالم أجمع، لكن كما قلنا أن الفرق بينه وبينهم صلوات الله وسلامه عليه أن له المقام الأعلى وأنه أوفر حظًا وأكمل نصيبًا عليه الصلاة والسلام.
فصل: نشأته صلى الله عليه وسلم بمكة، وخروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام، وزواجه بخديجة :
(: ونشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتيما يكفله جده عبد المطلب، وبعده عمه أبو طالب ابن عبد المطلب.
وطهره الله – عز وجل – من دنس الجاهلية، ومن كل عيب، ومنحه كل خُلق جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوا من أمانته، وصدق حديثه، وطهارته )
لا ريب أن الله أعد نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر العظيم منذ الأزل، فكان(17/21)
منطقيًا أن يتعهده ربه جلّ وعلا، والله جلّ وعلا قال لموسى { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه: 39]، فإذا كان في حق موسى فكيف بحق محمدٍ صلى الله عليه وسلم!
والمصنف هنا ذكر ما أفاءه الله جلّ وعلا عليه من إيواء جده أبي طالبٍ أول الأمر، ثم عمه أبي طالب، وكلا الرجلين بذلا جهدًا عظيمًا في كفالة نبينا صلى الله عليه وسلم، أما عبد المطلب فقد كان يقربه منه، وكانت يُفرش له فراش عند الكعبة فيجلس صلى الله عليه وسلم بجوار جده ولا يُعاتبه أحدٌ رغم أن عبد المطلب كان وجيهًا سيدًا مُطاعًا مُهابًا، لكن كانت الحَظْوَة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صبيٌ عند جده عظيمة.
فلما مات كفله عمه أبو طالب، أبو طالب اسمه عبد مناف –على الأظهر-، وهذا العم مات على غير إسلام، لكن ذلك لا يمنع أنه كان من أعظم النصراء لنبينا صلى الله عليه وسلم، ومما يُقال عنه في تعهده بنبينا عليه الصلاة والسلام صغيرًا وكبيرًا أنه كان – والنبي عليه الصلاة والسلام صغيرًا ـ تطلب قريشٌ من أبي طالبٍ أن يستسقي لهم إذا أجدبت الديار – كما نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق- فجاء أبو طالبٌ وحمل النبي صلى الله عليه وسلم – وكان يوم إذٍ صغيرًا أبيضًا- فألصقه بجدار الكعبة، فلما ألصقه بجدار الكعبة أشار صلى الله عليه وسلم بإصبعه إلى السماء وهو صبي، فجاء السحاب من كل مكان فسُقوا حتى سال الوادي، فقال أبو طالبٌ في لاميته بعد ذلك:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(17/22)
هذا من حظوة النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب، فلما كبر بقيت هذه الحَظْوَة كما هي، وكان صلى الله عليه وسلم قد ربّاه الله وتعهده أنه يفقه ماذا يفعل وماذا يصنع من دون أن يعلم أنه سيكون نبيًا، فكان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة من أجل أن يسد العوز والفقر والمسكنة المالية التي كانت موجودة عند أبي طالب حتى لا يكون عبئًا عليه، فلما حوصرت بنو هاشمٍ في الشعب كان أبو طالب – رغم كفره- أحد الذين حوصروا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب.
وبلغ من محبته – رغم الكفر- مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جاء الليل يحمل النبي عليه الصلاة والسلام من مكانه ويضعه في مكانًا آخر، ثم يأتي بأحد أبنائه ويضعه مكان النبي عليه الصلاة والسلام حتى إذا أراد أحدٌ قد بيت النية أن يغتال النبي عليه الصلاة والسلام وهو نائم يغتال ابنه لصلبه ولا يغتال النبي عليه الصلاة والسلام، هذا يفعله كله وهو مشرك، يقول الله في الأنعام { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [الأنعام: 26]، { يَنْهَوْنَ } عن أحدٍ أن يقتل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي أنه لا يقبل أن يدخل في الدين، حتى تعلم أن الهداية مردها إلى الرب تبارك وتعالى.
ويجب على العاقل المسلم أن يستفيد من الأوضاع التاريخية التي يعاصرها، فأبو طالبٍ كان كافرًا فاستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من جاه عمه ومن نصرته، ولم يقل إنه كافرٌ ولا أستعين به ولا ألجأ إليه لأن الأوضاع تختلف من زمنٍ إلى زمن ومن مرحلةٍ نصرة الدين(17/23)
فاعمل به ولا تبالي، لأنه لا يخلو الأمر من مصالح ومفاسد، لكن إذا كان الإنسان يقدم أعظم المصلحتين ويدرأ أعظم المفسدتين فإن المقصود الأعظم نصرة الدين، وقد قبل صلى الله عليه وسلم أن يكون مع عمه وهو كافرٌ يسجد لغير الله في شعبٍ واحدٍ استفادةً من جاه عمه ونصرته، وكان عليه الصلاة والسلام يُثني على عمه وتشفع له عند ربه أن يكون أهون أهل النار عذابًا، هذه الفائدة الأولى.
قلنا في الفائدة الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم استفاد من نصرة عمه أبي طالب، الفائدة الثانية أن الهداية بيد الله، وأن الإنسان قلبه كقلب غيره مُعلقٌ بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وأنت لا تفرح بشيءٍ أعظم من نعمة الهداية، فإن نعمة الهداية التي رزقك الله إياها أو رزقكِ الله إياها يا أختاه حُرمها أبو طالب من نصر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تعلم فضل الرب تبارك وتعالى عليك، ولا ييأسن أحدٌ من أحدٍ وهو يدعوه، ولا يُجزم أحدٌ في أحدٍ وهو يراه، بمعنى مهما رأيت على رجلٍ من الصلاح لا تقطع له بجنةٍ ولا بنار، ومهما رأيت على أحدٍ من سوءٍ وفساد لا تقطع له بجنةٍ ولا نار، إنما الأعمال بالخواتيم.(17/24)
كان عبد الله بن أبي الصرح أحد الصحابة، أسلم قديمًا ثم هاجر إلى المدينة، وكان يجيد الكتابة، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فلما نزلت سورة المؤمنون كان جبريل يمليها على النبي عليه الصلاة والسلام وعبد الله بن أبي الصرح يسمعها منه، فقرأ جبريل على النبي عليه الصلاة والسلام{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } [المؤمنون: 12] فكتبها عبد الله، يقرأها النبي عليه الصلاة والسلام فيكتبها عبد الله، ثم قرأ { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [المؤمنون: 13] فكتبها، ثم أتم الآية، ثم أتم الآية حتى قال { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ } [المؤمنون: 14] فكتبها عبد الله، فقال عبد الله قبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14]، فقال صلى الله عليه وسلم ( هكذا أُنْزلت عليّ ) أو ( هكذا أملاني إيّاها جبريل )، فطبق المصحف – وما كان يُسمى مُصحفًا، سُمِّي مُصحفًا في عهد أبي بكر-، فطبق الورقة التي كان يكتبها وقال: إن كان محمدٌ كاذبًا فأنا أكذب كما يكذب محمد، وإن كان محمدٌ صادقًا فأنا يوحى إليّ كما يوحى إلى محمدٍ، وترك الإسلام وخرج من الدين ورجع إلى الكفر، وأصبح كافرًا حتى كان عام الفتح.
عبد الله هذا أخٌ لعثمان رضي الله عنه من الرضاعة، فلما كان عام الفتح دخل عثمان به على النبي صلى الله عليه وسلم – وكان عليه الصلاة والسلام قد أباح دمه أو هدر دمه- فطلب له العهد – أي طلب له أن يصون دمه- فسكت صلى الله عليه وسلم وهو في ملئٍ بين أصحابه وجعل يحدق النظر فيه مدةً طويلة، فلما ألحَّ عثمان على رسول الله قال ( نعم ) أي أجرناه، فخرج عثمان بأخيه عبد الله خارج معسكر المسلمين،(17/25)
فلما خرجوا قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه ( أما قام منكم من أحدٍ إذ قد رآني قد أبطأتُ عنه فيضرب عنقه )، قالوا يا رسول الله لم نكن ندري ما مرادك، لو أشرت إلينا بعينيك، قال ( لا ينبغي لنبيٍ أن تكون له خائنة الأعين ).
موضع الشاهد هذا الرجل الذي ارتد أصابه الندم على ما كان من الردة، فلما أسلم يعمل من الصالحات تعويضًا عما فات، فلما كانت الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما ترك الفتنة واعتزلها وسكن في عكة في أرض فلسطين، ومكث حريصًا على الصلوات خوفًا من أن يُختم له بسوء، حتى كان ذات ليلة دعا ربه: اللهم أمتني وأنا أصلي الفجر، فلما كانت صلاة الفجر صلى بالناس إمامًا، قرأ في الأولى والعاديات ضبحًا -ولم ينقل الرواة ماذا قرأ في الركعة الثانية-، ثم سلم التسليمة الأولى – لم تتحقق الإجابة- وقبل أن يُسلم التسليمة الثانية فاضت روحه إلى ربه جلّ وعلا وقد مات في صلاة الفجر كما دعا.
المقصود من هذا انظر الرجل كيف تقلب ثم استقر على خير حال، فالقلوب بين يدي الرحمن، هذا أبو طالب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحرب والسلم والسراء والضراء، وأقول الحرب تجويزًا فلم يكن في مكة حرب، ومع ذلك لم يُرزق الهداية، وقد يُرزقها رجلٌ في أقاصي الأرض كما قال الله { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص: 56]، نسأل الله لنا ولكم الثبات على هذا.
( فلما بلغ اثنتي عشرة سنة، خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، حتى بلغ بُصْرَى فرآه بحيرى الراهب، فعرفه بصفته، فجاء وأخذ بيده وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ قال: إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق شجرة، ولا حجر، إلا خر ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب فرده خوفًا عليه من اليهود )(17/26)
هذه رحلة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى إلى الشام وفيها خبر بُحيرى الراهب، لكن قبل بحيرة ما نُقل أن الراهب قال أنه "لما دخل لم يبق حجرٌ ولا شجرٌ إلا سجد له" نقول فيها ما يلي هذه غير ثابتة، وإن ثبتت فيكون تخريجها على أن المقصود بالسجود هنا سجود تحية لا سجود عبادة، إن ثبتت فيكون تخريجها على أن من سجد من حجرٍ أو شجر يكون سجد سجود تحية لا سجود عبادة، لأن الله لا يأذن لأحدٍ شرعًا أن يسجد لغيره تبارك وتعالى، فسجود الملائكة لآدم وسجود أخوة يوسف ليوسف كله كان سجود تحية ولم يكن سجود عبادة، والمقصود منه أنه صلى الله عليه وسلم كان معروفًا في التوراة، وهذا الراهب اطلع على ما في التوراة، فقطعيٌّ أنه عرف فيه من الدلائل ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم سيكون خاتم الأنبياء.
( ثم خرج ثانيًا إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة رضي الله عنها في تجارة لها قبل أن يتزوجها، حتى بلغ إلى سوق بُصْرَى، فباع تجارته )
هذه هي الرحلة الثانية، وكانت كما ذكر المصنف مع ميسرة غلام خديجة، وهذه أحد الأسباب التي أرادها الله تبارك وتعالى حتى يتزوج صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد، ونقف هنا عند خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ونقول علميًا لها خصائص لا يشاركها فيها أحدٌ من أمهات المؤمنين، ولها خصيصة واحدة لا يشاركها فيها أحدٌ من نساء العالمين، فمن الخصائص التي لم يُشاركها في أحدٌ من أمهات المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها وهي حية، فلم يجمع بينها وبين أحدٍ من النساء، والثانية أن الله رزقه منها الولد ولم يرزقه بولدٍ من غيرها إلا ما كان من جاريته مارية أم إبراهيم، هذه الخصائص التي تفردت بها خديجة رضي الله تعالى عنها عن أمهات المؤمنين.(17/27)
أما الخصيصة التي تفردت بها عن نساء العالمين أجمعين أن الله جلّ وعلا بلغها سلامه مع جبريل عليه السلام، وهذه خصيصة لا يُعلم نقلا أن أحدًا من نساء العالمين نالها، رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم – كما في الصحيحين- أنه قال ( إنّي رُزقتُ حبها )، أي حب خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
والمقصود أن هذه كانت هي الرحلة الثانية له صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وخديجة هي أول نسائه، وسيأتي فصلٌ عن نسائه صلوات الله وسلامه عليه.
( فلما بلغ خمسًا وعشرين سنة تزوج خديجة عليها السلام.فلما بلغ أربعين سنة اختصه الله بكرامته، وابتعثه برسالته، أتاه جبريل عليه السلام
وهو بغار حراء – جبل بمكة -، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة، وقيل: عشرًا، والصحيح الأول.)
هذا ذكر ما كان له صلى الله عليه وسلم عند تمام الأربعين، في تمام الأربعين لما قاربها بدأ ما يدل على أن الله جلّ وعلا سيختصه بأمرٍ عظيم، فكان لا يمشي في طرقات مكة إلا ناداه الحجر والشجر "السلام عليك يا نبي الله" فيلتفت يمينًا وشمالا فلا يرى شخصًا ولا خيالا فيتعجب ويمضي، ثم حُبب إليه الخلاء بعد أن أصبح يرى الرؤيا فتقع كفلق الصبح، فحُبب إليه الخلاء فأخذ معه سويقًا وماءً وكان يتحنث ليالي ذوات عدد في غار حراء يتأمل في ملكوت الله، وكل هذا يمضي بقدر الله حتى أتم عليه الصلاة والسلام رأس الأربعين.(17/28)
فلما أتمها جاءه جبريل بالوحي من الله ليعطيه أعظم شرفٍ على الإطلاق وهو أنه خاتم النبيين، ولم يكن عليه الصلاة والسلام قد رأى الملك من قبل لا في صورته الحقيقية ولا في غيرها، كان رجلا من عامة الناس، ما بين هذه اللحظة وهذه اللحظة أصبح خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، جاءه الملك قال: اقرأ، فقال ( ما أنا بقارئ ) أي لا أجيد القراءة، فالملك يردد الطلب، والنبي صلى الله عليه وسلم يردد الإجابة، ثم قال له الملك { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق: 1-5]، الخمس الآيات الأول من سورة العلق، فنزل صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده تتسابق خطواته يَشْكُلُ عليه أمران، لذة المناجاة، والخوف والفزع الذي أصابه مما رآه لأول وهلة.
حتى وصل إلى خديجة رضي الله عنه وأرضاها، فلما أخبرها بما رأى صدقته فأصبحت خديجة أول خلق الله إيمانًا برسولنا صلى الله عليه وسلم، فأصبحت خديجة أول هذه الأمة إيمانًا برسولنا صلى الله عليه وسلم، فضمته وهو يقول ( دثروني دثروني زملوني زملوني )، ولما أخبرها الخبر كانت تعلم أن باطنه وظاهره سواء: فقالت: والله لا يخزيك الله أبدًا، ثم هذا اليمين استدلت عليه بدلائل، قالت: إنك لتعين على نوائب الحق وتحمل الكل وتُقري الضيف، وأخذت تُعدد ما تراه وما تُشاهده من زوجها صلوات الله وسلامه عليه، وأنه أهلٌ للنبوة عليه الصلاة والسلام فلم تُفاجأ أنه سيُنبأ لما علمت رضي الله عنها وأرضاها وهي تعاشره وتخالطه ويأوي إليها من عظيم صفاتها وجليل مناقبه التي فطره الله جلّ وعلا عليها قبل أن يُنبأ.(17/29)
الإنسان إذا خاف يحتاج إلى شيءٍ ثقيل يُمسك جوارحه حتى تقل وحشته، فكانت بدهيًا أن يقول ( زملوني زملوني دثروني دثروني ) لأن الخوف بلغ به مبلغا، فدثرته خديجة فأنزل الله جلّ وعلا عليه قوله { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ } [المدثر: 1، 2] و { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } [المزمل: 1، 2]،
فأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه.
ثم انقطع الوحي فترةً لحكمةٍ إلهية، لما انقطع الوحي لفترة ذهب الخوف وبقيت لذة المناجاة، فأصبح صلى الله عليه وسلم في أعظم الشوق للمناجاة، فلما جاءه الوحي مرةً أُخرى بالقرآن كان صلى الله عليه وسلم في أكمل حال يبلغ رسالة ربه على أكمل وجه.
ثم قال المصنف أنه عاش بمكة ثلاثة عشر سنة هذا هو الصحيح، وغيره شاذٌّ لا يُعوّل عليه، وفي المدينة عشر سنين بعد أن هاجر إليها صلوات الله وسلامه عليه.(17/30)
الصلاة أعظم فرائض الدين، وكان صلى الله عليه وسلم يُصلي قبل أن تُفرض عليه الصلوات الخمس –على الأظهر- ركعتين قبل الغروب وركعتين قبل طلوع الشمس، وكان يُصلي بين الركنين اليمانيين، فالإنسان إذا وقف بين الركنين اليمانيين واستقبل القبلة يُصبح بيت المقدس أمامه، فيكون صلى الله عليه وسلم في آنٍ واحدٍ قد جمع بين استقبال بيت المقدس لأنه شمال مكة، وما بين استقبال الكعبة، يعني لم يجعل الكعبة وراء ظهره، فكان يصلي على هذه الحال. ثم فُرضت عليه الصلوات الخمس في رحلة الإسراء والمعراج، ثم هاجر إلى المدينة فمكث فيها ستة عشر شهرًا ثم أنزل الله جلّ وعلا قوله { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة: 144]، فولى النبي صلى الله عليه وسلم شطر المسجد الحرام، وعلى هذا يُفهم أن ما يُنقل من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني المسجد جاءه جبريل فمحى ما بينه وبين مكة حتى رأى الكعبة فجعل القبلة عليها غير صحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى المسجد كانت قبلته جهة الشمال، ولم تكن جهة مكة جهة الجنوب، وإنما بُدل هذا بعد ستة عشر شهرًا، لكن إن قيل أن هذا حصل بعد التبديل فربما يكون له وجهٌ من النظر.
هجرته صلى الله عليه وسلم:
(ثم هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، وهو كافر ولم يعرف له إسلام.وأقام بالمدينة عشر سنين )(17/31)
صلوات الله وسلامه عليه، ذكر لنا المصنف هنا هجرته إلى المدينة، النبي عليه الصلاة والسلام لما اشتد عليه أذى الكفار رأى رؤيا أنه يهاجر في أرضٍ ذات نخل، فجاء في ظنه أنها أرض هجر ـ الأحساء ـ ، ثم استبان له عليه الصلاة والسلام أنها المدينة نخلٌ بين حضرتين، فهاجر إليه عليه الصلاة والسلام. والهجرة قصتها معروفة، لكن الذي يعنينا في الهجرة كدرس أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هناك أمورٌ تتعلق بكونه نبيٌ يُقتدى به، وأمور تتعلق بكونه نبيٌ له مقامٌ عظيمٌ عند الله، فما كان يتعلق بكونه نبيٌ له مقامٌ عند الله لا علاقة لنا به من حيث الاقتداء، وما يتعلق بكونه نبيًا يُقتدى به هذا الذي لنا علاقةٌ به، وحتى تتضح الصورة نقول أن الله جلّ وعلا أسرى به في برهةٍ من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به في نفس الليلة إلى السماوات السبع، وعاد به ليلتها، ولأنها رحلةٌ لا يتعلق بها اقتداءٌ جعلها الله جلّ وعلا رحلة خارجة عن نطاق البشر، ولذلك لما يتعلق برفيع مقامه، ولا نؤمر نحن بالعروج. أما الهجرة فتتعلق بكونه نبيٌ يُقتدى به، فلما كان النظر إليه صلى الله عليه وسلم هنا على أنه يُقتدى به في هذا الأمر كانت الرحلة أمرًا بشريًا بحتًا أخذ له صلى الله عليه وسلم الأسباب التي يأخذها البشر عادةً فتخفى، ووارى، وخرج في الجهة التي لا يُعتقد أنه سيخرج إليها، وجعل عليًا مكانه على الفراش، واختفى في الغار ثلاثة أيامًا، وأمر من يمسح آثاره بعد صعوده إلى الجبل، ووُضع له الطعام يُذهب به إليه ولم يمت من الجوع، زادٌ مادي، وزادٌ معنويٌ مع الله، وجلس في الغار ثلاثة أيام، ثم مكث تقريبًا أحد عشر يومًا في الطريق معه دليلٌ كافرٌ يدله على الطريق، ومعه مولًى لأبي بكرٍ يعينه في الطعام والشراب، ومعه صاحبه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهذه كلها أسبابٌ مادية، ولو استغنى عن الأسباب أحدٌ لاستغنى عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم.(17/32)
والناس في هذا الباب على ثلاثة فرقٍ، فرقة تترك الأخذ بالأسباب كليةً وتقول: جنونٌ منك أن تسعى لرزقٍ ويُرزق في غياهبه الجنين وهذا باطلٌ لا تدل السنة عليه.
وفرقةٌ لا تعرف الله أبدًا، وإنما تنظر إلى الماديات، وهو ما تمليه العلمانية المعاصرة. وفرقةٌ هداها الله للإيمان وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فتأخذ بالأسباب وتعتمد على الملك الغلاب جل شأنه، وهذا هو هديه صلوات الله وسلامه عليه حتى يقتدي الناس به عليه الصلاة والسلام، هذه هي القضية الأولى.
القضية الثانية بالهجرة أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أيام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كانت الولاة تكتب لعمر فيرد عليها حصل هذا في شعبان، حصل هذا في رمضان، حصل هذا في شوال، فكتبت الولاة الأمراء العمال الذين لعمر كتبوا له إننا لا نفهم منك، أي شوالٍ تقصد؟ أي شعبان، فلو جعلت لنا شيئًا نفيء إليه نؤرخ.
فاجتمع رضي الله عنه الله مع الصحابة واختاروا أن يختاروا حدثًا يُرخون به، فنظروا في ثلاثة أمور، مولد النبي عليه الصلاة والسلام، وهجرته، ووفاته، فأعرضوا عن المولد، وأعرضوا عن الوفاة، واختاروا الهجرة ورأوها أنها يومٌ فرق الله به بين الحق والباطل وأقام به بعده دولة الإسلام، وكان هذا مشورة من عليٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأقره عمر، ثم أجمع المسلمون عليه، وهذا من أعظم الدلائل على عظيم حدث الهجرة في التاريخ الإسلامي.
واستعانة النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أرقيط –على رواية وعبد الله بن أريقد بالدال على رواية، ولا يعنينا هذا الاختلاف- دلالة على أن المؤمن يستعين بما يمكن الاستعانة به إذا احتاج إليه إذا كان المقصود نصرة دين الرب تبارك وتعالى.
وفاته صلى الله عليه وسلم:
((17/33)
وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. وقيل: خمس وستين. وقيل ستين، والأول أصح.وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين حين اشتد الضحى لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لاستهلال شهر ربيع الأول. ودفن ليلة الأربعاء، وقيل: ليلة الثلاثاء )
السن التي مات فيها صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثًا وستين، هذه هي الروايات الصحيحة، وتوجد روايات في الصحيح أنه كان ابن خمسٍ وستين، لكن الصواب أن هذه روايةٌ شاذة في متنها وإن كانت مثبتةٌ في أحد الصحيحين، قال هذا بعض العلماء، وقال بعضهم إنه يمكن الجمع بأن العرب تتجاوز عن الكسر، هذه العبارة أن العرب تتجاوز عن الكسر يمكن إمرارها على القول في رواية بأنه مات ابن ستين سنة، يمكن أن نقول إن من قال إنه مات وهو ابن ستين لم يقصد بها. أما القول على أنه مات وهو ابن خمس وستين صلوات الله وسلامه عليه فلا يمكن تخريجها إلا أن تُرد الرواية، لأنه لا يمكن الجمع ما بين القول بأنه مات وهو ابن ثلاث وستين ومات وهو ابن خمس وستين، وأكثر الروايات الصحيحة والتي دلت عليها الروايات المتعددة وأشياء أخرى وقرائن كُثر على أنه مات صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة.
( وكانت مدة علته اثني عشر يومًا، وقيل: أربعة عشر يومًا.وغسله علي بن أبي طالب، وعمه العباس، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولياه، وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري )
هذا ما يتعلق بوفاته صلى الله عليه وسلم، واعلم أن الأمة لم تُصب بشيءٍ أعظم من وفاته عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال ( تعزوا عن مصائبكم بمصيبتي )، والحديث عن وفاته صلى الله عليه وسلم يحرك القلوب ويثير الشجون، ولكنني مُلزمٌ بالحديث عنه وفق المتن، ثم أتكلم عن الحديث عنه إجمالا.(17/34)
ذكر المصنف رحمه الله تعالى الاختلاف في مدة مرضه عليه الصلاة والسلام وذكر منها ثلاثة عشر يومًا أو أربعة عشر يومًا أو اثني عشر يومًا، والحق أن مدة مرض الوفاة عشرة أيام، وإن كان الأمر في هذا واسع بغير التحديد في بداية المرض، والمحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم، كان أول ما اشتكى وهو راجعٌ من جنازةٍ من البقيع، شعر بصداعٍ في الرأس وحُمّى أصابته معها، ثم لما دخل بيته وجد عائشة قد عصبت رأسها تقول وارأساه، فقال ( بل أنا وارأساه )، هذا أول ما اشتكى المرض صلوات الله وسلامه عليه، وهذا في آخر صفر وأول ربيعٍ الأول.
ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى أن الذين تولوا غسله عليه الصلاة والسلام عليٌّ والعباس وقثم والفضل وشقران وأسامة بن زيد وحضره أوس بن خولي، هذا فيه تفصيل، الإنسان الميت أولى الناس به أهل بيته، والنبي صلى الله عليه وسلم تولى أهل بيته وعصبته من بني هاشم أمر غسله، والذي باشر الغسل مباشرةً عليٌ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، أسند النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميتٌ إلى صدره، والذي كان يقلب النبي عليه الصلاة والسلام لعليٍّ عمه العباس وابنا العباس قثمٌ والفضل، هذان ابنا العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، والذي كان يصب الماء أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه وشقران –واسمه صالح-، وسيتكرر شقران هذا مرةً باسمه ومرة بلقبه، اسمه صالح ولقبه شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.(17/35)
قبل أن يشرع عليٌ رضي الله عنه في غسل نبينا صلى الله عليه وسلم ناداه أوس بن خولي من بني عوفٍ من الخزرج من خلف الدار:يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أدخلتني أشهد غسله، فوافق عليٌّ رضي الله عنه لأن زمام الأمر بيده وبيد بني هاشم، لأن القضية الآن قضية عصبة وليست قضية صحبة، ولذلك لا دخل لأبي بكرٍ ولا عمر، فأذن عليٌّ لأوسٍ أن يدخل وأن يجلس دون أن يُباشر غسل النبي عليه الصلاة والسلام، فأوسٌ شهد الغسل لكنه لم يشارك فيه، شهده رغبةً منه رضي الله عنه وأرضاه أن يحظى بأن يكون ممن يشهد غسل نبي الأمة صلى الله عليه وسلم.
وقلتُ إن الذي باشر الغسل عليٌ فقط، والقثم والفضل وأبوهم العباس يقلبون النبي عليه الصلاة والسلام، وشقران وأسامة يصبان الماء، وعليٌّ مسندٌ رسول الله إلى صدره من غير تجريدٍ من ثيابه وبيده خرقة يغسل بها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول ما أطيبك يا رسول الله حيًّا وميتا. هذا ما ذكره المصنف في غسل نبينا صلى الله عليه وسلم.
( وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من ثياب سحول – بلدة باليمن – ليس فيها قميص ولا عمامة. وصلى عليه المسلمون أفذاذًا، لم يؤمهم عليه أحد )(17/36)
ذكر المصنف بعد ذلك أنه لما فرغوا من غسله كفنوه، وكُفن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثوابٍ سحولية –بلدةٌ في اليمن-، والثياب كانت من قطن، ولذلك جاءت في بعض الروايات أنها من كرسف، والكرسف هو القطن، فكفن عليه الصلاة والسلام في ثلاثة أثواب، أدرج فيها إدراجًا دون أن يخلعوا ما كان عليه من ثيابٍ، ثم شرع المسلمون يصلون عليه، والناس الآن يصلون على الميت جماعةً خلف إمام كما صلى النبي عليه الصلاة والسلام على أموات المسلمين في حياته، صفهم لما صلى على النجاشي، وصفهم لما صلى على غيره، لكن الصحابة رضي الله عنهم لم يصلوا على النبي عليه الصلاة والسلام خلف إمام، وإنما صلوا عليه أفرادًا، هذا معنى أفراد ، هذا معنى أفذاذًا ، كل شخصٍ يُصلي لوحده من غير إمام. والروايات جملة تدل على أن أول من صلى عليه عمه العباس لكون كبير بين هاشم وعم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذوا يصلون عليه عشرة عشرة، فصلى عليه أول الأمر بنو هاشم آله عليه الصلاة والسلام، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه باقي الناس، ثم صلى عليه النساء ثم الصبيان، وقيل الصبيان ثم النساء، والمقصود المتفق عليه أنهم لم يصلوا عليه خلف إمام، وإنما صلوا عليه أفذاذًا –أي أفرادًا-.(17/37)
واختلف العلماء في العلة التي من أجلها صلى المسلمون الصحابة على نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة، وقيل في هذه أجوبة، قيل إن هذا من باب التعبد الذي لا يُعقل معناه، لك أجمل الأجوبة التي قيلت ما قاله أبو عبد الله الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال إن الصحابة صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم أفذاذًا لعظيم قدره وعلى أنه لا يمكن أن يأمهم عليه أحد لمنافستهم على أنه يأمهم عليه أحد، يعني استعظموا أن يأمهم أحدٌ وهم يصلون على نبيهم صلى الله عليه وسلم ولعظيم قدره، هذا تعليل الشافعي رحمه الله، وقال غيره –ولا تعارض بين تعليل الشافعي وتعليل غيره- أنه حتى تكثر الصلاة عليه لكثرة من يصلي عليه أفرادًا، تكثر الصلاة عليه جماعةً بعد جماعة، عشرةً بعد عشرةً، كلهم يصلي عليه فردًا فردًا . هذا من إكثار الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل حتى تكون الصلاة فردية من المصلي إليه صلوات الله وسلامه عليه.
كل هذه أجوبة ذكرها العلماء في سبب أن الصحابة رضي الله عنهم لم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم خلف إمامٍ واحد، وقلنا إن الأمر المتفق عليه أنهم لم يصلوا عليه خلف إمامٍ واحد.
مجموعة فوائد - فصل في أولاده :
كنا قد ذكرنا شيئًا من نسبه عليه الصلاة والسلام ومولده وهجرته، ثم انتهينا إلى وفاته صلوات الله وسلامه عليه، وذكرنا جملةً من الفوائد لعله قد يكون من المناسب استحضار بعضها، فإننا ذكرنا زواجه عليه الصلاة والسلام من خديجة بنت خويلد، وقلنا إن هذه الصحابية الجليلة أم المؤمنين خصّها الله جلّ وعلا ببعضٍ من الخصائص، منها من انفردت به عن أمهات المؤمنين، ومنها ما انفردت به عن نساء العالمين أجمعين،
فما الذي انفردت به عن أمهات المؤمنين؟
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج عليها أحدًا في حياتها.(17/38)
والثانية: أن الله جلّ وعلا رزقه منها الولد. هذا من انفردت به عن أمهات المؤمنين، ثم قلنا إن لها خصيصة ليست لأحدٍ من نساء العالمين، أن الله أمر جبريل أن يُبلغها السلام، وهذه الخصيصة لم تكن لأحدٍ –فيما نعلم- من نساء العالمين.
ثم إننا ذكرنا أن الهجرة حدثٌ يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم كقدوة، وقلنا ما كان يتعلق به كقدوة هذا الذي يُحتذى به، أما ما كان لا يتعلق به كقدوة فهذا يُعلم ويُعرف له قدره عليه الصلاة والسلام، لكن الأمة غير ملزمةٍ به، وذكرنا على هذا مثالا حادثة الإسراء والمعراج.
كما أننا تكلمنا عن أبي طالب، وقلنا إنه ناصر النبي عليه الصلاة والسلام وعضده وكان معه في شعب بني هاشم حينما حاصرت قريشٌ النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا أنه يتعلق بنصرة أبي طالبٍ للنبي عليه الصلاة والسلام فوائد ذكرنا منها فائدتين:
• أن الإنسان يستخدم الوسائل التاريخية المتاحة إذا كان في ذلك نُصرةً للإسلام.
• والثانية الهداية، وقلنا إن كون أبي طالبٍ رغم نصرته للنبي عليه الصلاة والسلام لم يُرزق الهداية يدل على أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، ونسأل الله جلّ وعلا أن يثبتنا وإيّاكم على هديه.
( وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها )
الأصل أن الميت لا يُفرش له شيءٌ في قبره، دفن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من أصحابه ماتوا في حياته ولم يُنقل أنه أُدخل معهم في قبرهم شيءٌ، ولكن هذه القطيفة كان عليه الصلاة والسلام يفرشها ويجلس عليها ويلبسها أحيانًا، فأنزلها شقران الذي هو صالح مولاه معه في القبر، ثم فرشها وجعل النبي عليه الصلاة والسلام عليها، وأصل هذا الكلام الذي ذكره المصنف في صحيح مسلمٍ من حديث ابن عبّاس.
على هذا تتحرر مسألة هل يجوز أن يُفرش تحت الميت قطيفة أم لا؟(17/39)
قال بعض العلماء في الإجابة عن هذا وحكاه النووي عن الجمهور أنه يُكره فعله وأن شقران فعلها دون علم الصحابة لأنه كره –أي شقران- أن يلبسها أحدٌ بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا التعليل الذي ذكره النووي رحمه الله غير صحيح، أو بتعبيرٍ أصح ضعيف، لأننا نقول إن الله جلّ وعلا لا يختار لنبيه إلا الأفضل، فما كان الله ليسمح قدرًا لشقران أن يضع هذه القطيفة تحت النبي صلى الله عليه وسلم والله يكره ذلك، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يكفله ربه ويرعاه ويحفظه ويُحيطه بعنايته حيًا وميتًا، فينجم عن هذا تخريجًا أسهل فنقول إنه يُكره بل قد يصل أحيانًا إلى حد المنع أن يوضع تحت أي ميّت قطيفة حمراء أو قطيفة من أي نوع، وإنما هذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل ما وجه الخصوص هنا، قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأرض حرّم الله عليها أن تأكل أجساد الأنبياء، فلأن الأرض لا تأكل جسده أذن الله قدرًا لشقران أن يضع هذه القطيفة تحت نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يمكن تخريج المسألة بأن الله لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وأن هذا من خصائصه، وممن نص من العلماء على أن هذه خصيصةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وكيع بن الجراح المحدث المشهور، شيخ كثير من السلف كالإمام أحمد وغيره، فوكيعٌ نص على أنها خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر لنا أنه ينجلي الإشكال في المسألة، والله أعلم.
( ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران، وأطبق عليه تسع لبنات، ودُفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة، ثم دفن معه أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما - )(17/40)
أما كون من نزل معه القبر فقد ذكر المصنف رحمه الله أنه نزل القبر خمسة، العباس وقثمٌ والفضل وعليٌ وصالحٌ مولاه الذي هو شقران، وهذا روايةٌ أضعف والصحيح أن الذي نزل القبر أربعةٌ فقط ليس منهم العباس، ذكر المقدسي رحمه الله في هذا أن العبّاس منهم كما ذكره النووي، لكن الصحيح أن الذي نزل القبر أربعة هم قثمٌ والفضل ابنا العبّاس بن عبد المطلب وعليٌّ ومولاه شقران، هؤلاء الأربعة الذين تولوا نزول قبره وإجنانه –أي ستره صلى الله عليه وسلم – دون الناس، هؤلاء الذين نزلوا القبر.
ثم وُضعت عليه تسع لبناتٍ، وقبلها كانوا قد اختلفوا هل يلحدون له لحدًا كما هو صنيع أهل المدينة، أما يجعلون القبر شقًا كما هو صنيع أهل مكة، فبعثوا إلى الاثنين وقالوا: اللهم خِر لنبيك –أي اختر لنبيك-، فالذي ذهب ليأتي بالحفار الذي يشق لم يأت ولم يجده، والذي ذهب إلى بيت أبي طلحة وكان يلحد لأهل المدينة -أي يضع لحدًا في القبر- جاء وحفر القبر للنبي عليه الصلاة والسلام.
وقبل أن يحفروا القبر اختلوا أين يُدفن، وهذا أحد أسباب تأخير دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما أقول أحد الأسباب يدل على أن هناك أسبابٌ أخرى، هذا أحد الأسباب التي دعت الصحابة إلى أن يتأخروا في دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكرٍ رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( ما مات نبيٌّ إلا دُفن حيث يُقبض )، وهذا القول أحد خصائص الأنبياء، وهذا –إن صحّ القول- يقودنا –من باب الاستطراد العلمي- لمعرفة بعض خصائص الأنبياء كفوائد.
الله جلّ وعلا جعل للأنبياء خصائص نذكرها إجمالا:
• منها الوحي، وهو أعظم خصائص الأنبياء، الوحي الذي هو أعظم خصيحة فرق الله بها بني
الأنبياء وغيرهم من الناس.
• الأمر الثاني أنهم يُخيرون عند الموت.
• الأمر الثالث أنهم يُدفنون حيث يموتون.
• الأمر الرابع أن الأرض لا تأكل أجسادهم.(17/41)
• الأمر الخامس أنهم جميعًا رعوا الغنم، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر ( وما من نبيٍ إلا رعاها )، لما جنى معهم الكَبَاث قال ( عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه )، قالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى الغنم، قال ( وهل من نبيٍ إلا رعاها، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ).
• الأمر السادس أنه تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
هذه ستةٌ من خصائص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ذكرناها استطرادًا، وجاء معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام دُفن في الموقع الذي مات فيه –أي في حجرة عائشة-، وهذا مما تناقل تواترًا بين المسلمين وتحرر أنه في المكان المقبور فيه.
ثم قال المصنف ( ثم دفن معه أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما - )
أبو بكرٍ وعمر دُفنا في نفس حجرة عائشة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها –وهذا من الفوائد وفرائد العلم- قد رأت قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم في منامها أن ثلاثة أهلة أو أقمار سقطت في حجرها، فذهبت إلى أبيها أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقصت عليه الرؤيا وكان أبو بكرٍ مما يُعبر، فسكت عنها ولم يجبها أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات عليه الصلاة والسلام ودُفن في حجرة عائشة جاء أبو بكرٍ إلى عائشة وقال لها "هذا أول أقمارك يا عائشة"، ثم دُفن أبو بكرٍ رضي الله عنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم.(17/42)
وكانت عائشة رضي الله عنه تريد أن تدخر ما بقي من الحجرة لها، فلما مات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يموت أرسل ابنه عبد الله يستأذن عائشة في أن يُدفن ما صاحبيه وقال: قل لها عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فدخل عليها عبد الله وقال لها: عمر بن الخطاب يستأذن أن يُدفن مع صاحبيه، فقالت: لأوثرنه اليوم على نفسي وقد كنت أدخره –أي الموضع- لنفسي، فوافقت، فلما رجع عبد الله إلى أبيه كان عمر مازال حيًّا طريح الفراش من طعنة أبي لؤلؤة المجوسي، فلما دخل قال: ما وراءك، يعني يسأل ما الجواب، قال عبد الله ابنه: أبشر بالذي يسرك يا أمير المؤمنين فإنها قد وافقت، فقال عمر رضي الله عنه: والله ما من شيءٍ كان أهم عليّ من هذا الأمر، أن يُدفن مع صاحبيه.
ثم ظهرت عدالة عمر بجلاء فقال: فإذا أنا مت فغسلوني وكفنوني ثم استأذنوا لي منعائشة مرةً أُخرى فإنني أخاف أنها وافقت في الأول استحياءً مني أنني حيٌّ، فلما مات عمر وغُسِّل وكُفن وصُلِّي عليه وحُمل قيل لها وهو محمولٌ على أعناق الرجال: عمر بن الخطاب يستأذن أن يُدفن مع صاحبيه مرةً أُخرى، فوافقت رضي الله عنها فدُفن عمر مع النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وقال بعض المؤرخين بقي موضع جملةٌ من الروايات تدل على أنه سيدفن فيه عيسى بن مريم، والله تعالى أعزُّ وأعلى وأعلم.
قبل أن نُكمل هذا ما تقيدت به في شرح النص الذي ارتبط بالمتن، أما الكلام عن وفاته عليه الصلاة والسلام جملةً فسأسردها إجمالا مُّبينًا بعض ما فيها من فوائد بعد أن انتهينا بما يتعلق بذمتنا الشرعية حول النص. لم يفقد الناس أحدًا أعظم من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقد شعر صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل في حجة الوداع لما أنزل الله جلّ وعلا عليه قوله { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ(17/43)
الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] عرف صلى الله عليه وسلم أن الأمر الذي بُعث من أجله قد تم، فأخذ يودع الناس ويقول ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )، فيخطب ثم يقطع ويقول ( أيها الناس لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وإنكم ستُسألون عني فما أنتهم قائلون )، فيجيبون: نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فيرفع إصبعه الطاهر إلى السماء ثم ينكتها إلى الأرض ويقول ( اللهم فاشهد، اللهم فاشهد ).
ثم رجع إلى المدينة تشرف به الوهاد والنجاد في حتى دخلها، في آخر صفر وأول ربيع حضر جنازةً فلما رجع شعر بصداعٍ في رأسه وحمَّى تُصيبه فدخل على عائشة فقالت: وارأساه، فقال ( بل أنا وارأساه )، فلما شعر بدنو الأجل خرج إلى شهداء أُحد فاستغفر لهم ودعا لهم كالمودع، ثم خرج في ليلة مع غلامٍ له يُقال له أبو مُويْهبة فأتى أهل البقيع فدعا لهم واستغفر لهم وقال ( لِيهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شرٌّ من الأولى )، ثم قال ( يا أبا مُويْهبة إن الله خيَّرني ما بين خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وما بين لقاء ربي ثم الجنة فاخترت لقاء الله ثم الجنة )، فقال له مُويهبة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي اختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال ( يا أبا مُويْهبة إنني اخترتُ لقاء الله ثم الجنة ).(17/44)
ثم خرج يومًا عاصبًا رأسه فخطب على المنبر وقال ( إن رجلا خيره الله ما بين الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة ) فقال أبو بكرٍ: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، وجعل يبكي فتعجب الناس من بكاء أبي بكر، ثم قال عليه الصلاة والسلام ( على رِسلك يا أبا بكر ) ومدح وأثنى على أبي بكرٍ رضي الله تعالى عنه كأنه يُشير إليه بالخلافة من بعده، ثم قبل وفاته بيوم تصدّق بالدنانير، تسعة أو سبعة كانت عنده، ثم أعتق غلمانه تحررًا من قيود الدنيا، ثم لم يُبق إلا بغلته وسيفه وشيئًا يتجمل به الأئمة والملوك بعده.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام في يوم الإثنين الذي مات فيه كُشف ستار حجرة عائشة وأبو بكر رضي الله تعالى عنه يُصلي بالناس فأطل عليه الصلاة والسلام، يقول أنس: يتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وقرت عينه أن الأمة اجتمعت بعده على إمامٍ واحدٍ في صلاتها، فاقترب الناس وكادوا أن يُفتنوا، ثم أُعيد الستار كما كان ورجع صلى الله عليه وسلم إلى حجرته، وخرج أبو بكرٍ فرحًا إلى بيتٍ له بالسُنى حوالي المدينة، وتفرق الناس على الخير.
ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ابنته فاطمة فأسرها أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم قالت: واكرب أبتاه، قال ( ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم )، ثم إنه عليه الصلاة والسلام دخل عليه أسامة وجعل يسأله الدعاء فدعا له دون أن يرفع صوته، وهو نبي الأمة ورأس الملة وسيد الفصحاء وإمام البلغاء، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكرٍ وفي يد عبد الرحمن سواك، فجعل يحرك النظر فيه دون أن يستطيع أن يطلبه من عبد الرحمن ففهمت عائشة مراده فأخذته من أخيها وقضمته وطيبته وأعطته نبينا عليه الصلاة والسلام واستاك.(17/45)
ثم جاءه الملك يُخيره، قال قبل أن يُخير يضع يده في ركوة فيها ماء ويمسح بها وجهه الطاهرة الشريفة ويقول ( لا إله إلا الله، اللهم إن للموت سكرات فأعني على سكرات الموت )، ثم جعل يُخيره الملك وهو يقول ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا )، والملك يخيره وهو يقول ( بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى )، قالها ثلاثًا ثم ماتت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في الملكوت الأعلى والمحل الأسنى صلوات الله وسلامه عليه.
قال حسّان:
بطيبة رسم للنبي ومعهد منير وهل تمحو الرسوم وتهمد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد
معالم لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبرا به واراه في الترب مُلحد
وهل عدلت يوما رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد
وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يُفقد
صلى الإله ومن يحف بعرشه والطيِّبون على المُبارك أحمد
فصل في أولاده:
(وله صلى الله عليه وسلم من البنين ثلاثة:القاسم: وبه كان يكنى، ولد بمكة قبل النبوة، ومات بها وهو ابن سنتين، وقال قتادة: عاش حتى مشى. وعبد الله: ويسمى الطيب والطاهر، لأنه ولد في الإسلام. وقيل: إن الطاهر والطيب غيره، والصحيح الأول.وإبراهيم: ولد بالمدينة، ومات بها سنة عشر، وهو ابن سبعة عشر شهرًا أو ثمانية عشر. وقيل: كان له ابن يقال له: عبد العزى، وقد طهره الله – عز وجل–من ذلك وأعاذه منه )(17/46)
بعد أن ذكر المصنف رحمه الله مولد النبي صلى الله عليه وسلم وحياته ووفاته ذكر جملةً مما يتعلق بأولاده عليه الصلاة والسلام، والأولاد في اللغة إذا أُطلقت يُراد بها الذكر والأنثى سويًا، قال الله جلّ وعلا في كتابه الكريم { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } [النساء: 11]، فتعبير العامّة أن فلانًا رُزق ولدًا على أنه ابن غير صحيحٌ من حيث اللغة، لكنهم يقولون خطأٌ شائعٌ ولا صحيح مهجور، وعلى العموم فإنه عليه الصلاة والسلام رُزق من الأولاد ذُكورًا وإناثًا.
بدأ المصنف رحمه الله بذكر الأولاد، فالأولاد الذين رُزقهم عليه الصلاة والسلام القاسم، وهذا أكبر أبنائه وأول من رُزق على الأظهر، لكنه رُزِقه قبل أن يُبعث ومات وهو صغير، قيل سنتين وقيل غير ذلك، وأيان كان فإنه لم يُدرك النبي عليه الصلاة والسلام وقد نُبئ، وكان يُكنّى عليه الصلاة والسلام كما مرّ معنا بأبي القاسم.
ورُزق عبد الله بعد النبوة، ولذلك اقترن اسم عبد الله بالطيب والطاهر كلقب، لكن عبد الله هذا مات كذلك هو صغير.
ثم رُزق إبراهيم من سُريته مارية القبطية التي أهداها إليه المُقوقس حاكم مصر، أهدى للنبي عليه الصلاة والسلام جارية يُقال لها مارية، فتسراها عليه الصلاة والسلام فأنجب منها إبراهيم، وإبراهيم هذا عاش ثمانية عشر شهرًا، ومات في شوال من السنة العاشرة قبل حجة الوداع، وهو الذي قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه ( وإنّا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ).(17/47)
وكانت له مُرضعة اسمها فاطمة ظئر ترضعه في عوالي المدينة، قال أنسٌ رضي الله عنه "ما رأيتُ أحدًا أرحم بالعيال من رسولنا صلى الله عليه وسلم"، وكان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى عوالي المدينة فيحمل ابنه إبراهيم ويشمه ويضمه ويُقبله، ثم فُجع به عليه الصلاة والسلام بوفاة ابنه إبراهيم فحزن قلبه ودمعت عيناه وقال ( إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ).
وهذا من الدلائل على أن الإنسان مهما علا شرفه وعظم قدره فإنه عُرضةٌ للبلاء، والصالحون أعظم عُرضة، ونبينا عليه الصلاة والسلام إمام الصالحين، بل إمام الخلق أجمعين، فلم يُكتب له أن يعيش له ولدٌ كبير يعضده، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى، وإبراهيم لما رُزقه عليه الصلاة والسلام بعد كِبر سنه مات وعمره ثمانية عشر شهرًا، والله يقول في كتابه { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 4]، وكذلك الناس يُعطون ويُمنعون ويُحرمون ويأخذون، والداعي وطالب العلم والمُوفق والمُسدد في سبيل الله يعلم أن الدنيا أخذٌ وعطاء وصبرٌ وابتلاء، وهذا ما جبل الله جلّ وعلا عليه الدنيا وجعلها سجنًا للمؤمن وجنةً للكافر.
والمؤمن يأخذ من هذا العبر في وفاته عليه الصلاة والسلام ووفاة ابنه، وأنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، ولو لم يظفر طالب العلم بكلمةٍ أعظم من هذه لكفى، لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، أي عناء وأي مشقة تعتريك في طريقك إلى الله تذكر جيدًا أنه لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، لن ترتاح حتى تلقى الله تبارك وتعالى على الإيمان، أما دون ذلك لا يمكن أن يصفو لك أمر، لا القبر ولا القيام بين يدي رب العالمين، النبي عليه الصلاة والسلام دفن سعد بن مُعاذ وقد نزل سبعون ألف ملك من السماء يُشيعونه ثم قال ( لقد ضم القبر عليه ضمة لو نجى منها أحدٌ لنجى منها هذا العبد الصالح ).(17/48)
فالمؤمن لا راحة له حتى يلقى الرب تبارك وتعالى، نسأل الله أن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه.
بناته صلى الله عليه وسلم :
(البنات: زينب: تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها، وأمه هالة بنت خويلد، ولدت له عليًا – مات صغيرًا – وأمامة التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وبلغت حتى تزوجها علي بعد موت فاطمة.
وفاطمة: بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين، ومحسنًا – مات صغيرا – وأم كلثوم، تزوجها عمر بن الخطاب، وزينب، تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب )
ذكر البنات، وذكر هنا بعضًا منهن، بناته عليه الصلاة والسلام أربع، رقية وأم كلثوم وزينب وفاطمة، ذكر المصنف أولهن زينت والأظهر أنها الكبرى، هذه زينب رضي الله عنها تزوجها أبو العاص بن الربيع، وكان مُشركًا في أول الأمر ثم أسلم، وهي التي أهدتها أمها خديجة بنت خويلد قلادة يوم أن دخلت على زوجها. ثم لمّا كانت معركة بدر أُسر زوجها ضمن الأسرى الذين أسرهم المسلمون، فلمّا شُرع الفداء ليفدوا أسراهم أخرجت زينب -وهي بنت رسول الله- هذه القلادة التي أعطتها إيّاها أُمها خديجة لتفدي بها زوجها الكافر العاص بن الربيع، فلما أخرجتها ورأى النبي صلى الله عليه وسلم القلادة التي أهدتها زوجته خديجة أم زينب زينب يوم زواجها دمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه وتحرك قلبه لأنه تذكر أيّام خديجة، والإنسان جبلةً إذا رأى شيئًا يُذكره بشيءٍ قديم يحزن إذا كان أمرًا مُحزنًا ويفرح إذا كان أمرًا مُفرحً
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى فهذا كله قبرُ مالك
هذا عن زينب، زينب هذه ولدت منه –أي من العاص- أمامة، وهي اسم جارية، وهي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحملها، هذا ما يتعلق بزينب.
أما رقية فقد تزوجها عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وستأتي رقية في الورقة الثانية.(17/49)
وأما فاطمة رضي الله تعالى عنها فقد تزوجها عليُّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهي أصغر بناته على قول، والقول الآخر أن الأصغر أم كلثوم، لكن تُلاحظ في المتن أنه المصنف رحمه الله قال ( فولدت له ) أي ولدت لعلي ( الحسن والحسين، ومحسنً )، والنبي عليه الصلاة والسلام لما ولدت فاطمة ابنها الأول دخل على عليِّ وفاطمة قال ( أي ابني؟ ما سميتموه؟ )، قالوا: سميناه حرب، قال ( بل هو الحسن )، فلما حملت بالحسين وولدت قال ( أين ابني؟ ما سميتموه؟ ) قالوا: سميناه حرب، قال ( بل هو الحسين )، فلما ولدت الثالث قال ( ما سميتموه ) قالوا: حرب، كأن حرب هذا اسم كان عليٌّ وفاطمة يحبون أن يُسمُّوه، قال ( لا، بل هو مُحسِّن )، ثم قال سميتهم بولد هارون ( بشّار وبُشير ومُبشر ). مُحسن مات وهو صغير، فمن الذي بقي؟ الحسن والحسين، فهما ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا. ثم قال المصنف ( وأم كلثوم، تزوجها عمر بن الخطاب )، ليست هذه أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم، هذه بنت علي رضي الله عنه من فاطمة، أخت الحسن الحسين، وُلدت في السنة السادسة من الهجرة، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمرها أربع سنوات، وتزوجها عمر رضي الله عنه وأصدقها أربعين ألفًا يريد –لشرفها- أن يحظى بقرابةٍ مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( ورقية: بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها عثمان بن عفان فماتت عنده، ثم تزوج أم كلثوم فماتت عنده، وولدت رقية ابنًا فسماه عبد الله، وبه كان يكنى.
فالبنات أربع بلا خلاف، والصحيح من البنين أنهم ثلاثة، وأول من وُلد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم في الإسلام عبد الله، ثم إبراهيم بالمدينة. وأولاده كلهم من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية، وكلهم ماتوا قبله إلا فاطمة، فإنها عاشت بعده ستة أشهر )(17/50)
ذكر المصنف ما تبقى من البنات، وهن رقية وأم كلثوم، زوجها –أي رقية- من عثمان، فماتت عنده –أي تحته-، ماتت في أيّام عزوة بدر، ولذلك لم يشهد عثمان رضي الله عنه عزوة بدرٍ كان يُمَرِّض زوجته رقية، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم وجدها قد ماتت على الأظهر، ثم زوجه النبي عليه الصلاة والسلام أختها أم كلثوم، ثم ماتت عنده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك لُقب عثمان بذي النورين لأنه تزوج ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال المؤرخون إنه لا يوجد أحدٌ من أهل الأرض جمع الله له ابنتي نبيٍ تحت سقفٍ واحدٍ إلا عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ثم ذكر فاطمة وهي أحب بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه، والإمام الذهبي لمّا ترجم لها في الأعلام قال "هي البضعة النبوية والجهة المصطفوية"، وكانت أشبه الناس مِشيةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها ويجلها ويعظمها وإذا دخلت قام لها ويقبلها ويضمها، كانت قطعةً منه، ويقول ( فاطمة بضعةً مني، يريبني ما رابها، ويُضيرني ما أضرها )، أو كلمةً نحوها.
وأنجب منها عليٌ الحسن والحسين، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يُحب الحسن والحسين حبًّ جمًّا، وكان يضعهما على كتفيه ويُقبل هذا مرة وهذا مرة ويقول ( اللهم إني أحبهما فأحبهما )، وقال ( هما ريحانتاي من الدنيا )، وقطع خطبته وهو المنبر لمّا دخلا عليهما قميصان أحمران يمشيان فيعثران، فنزل من المنبر وقطع الخطبة وتركها ونزل وحملهما ووضعهما بين يديه ثم التفت إلى الناس وقال ( صدق الله ورسول إنما أموالكم وأولادكم فتنة، لقد نظرت إلى ابني هذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما ).(17/51)
ومع ذلك يوجد من الناس سهوًا أو خطأً أو جهلا يتباعد على أن يُسمِّي بالحسن والحسين ويقول إن هذا تقر به أعين الشيعة، والحق لا يُترك إذا تلبس به أهل الباطل، الحق لا يُترك إذا تلبس به أهل الباطل، فتسمية الحسن والحسين تسميةٌ نبوية، لا يمكن أن تُترك لأن أحدًا نُبغضه فعلها، وكذلك ترك الناس تسمية بعض أهل البيت كقثم والعباس والفضل، قلما يوجد هذا بين الناس رغم أنه تسمية بآل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى: 23]، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على حب آل بيته وعلى نصرتهم وعلى موالاتهم في أحاديث كُثر، منها أنه قال ( تركت فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي فإنهما لا يختلفا حتى يردا عليَّ الحوض ).
لكن حب آل البيت يكون مُقيدًا بالضوابط الشرعية، ويكون المؤمن فيه لا مُجافٍ ولا مُغالٍ كما هو ديدن المسلم في سائر أمره والله أعلم.
فصل في حجه وعمره :
( فصل في حجه وعمره : روى همام بن يحيى عن قتادة، قال: قلت لأنس: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم من حجة؟ قال: "حجة واحدة،واعتمر أربع عمر عمرة النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته" صحيح متفق عليه.
هذا بعد قدومه المدينة، وأما ما حج بمكة واعتمر فلم يحفظ، والذي حج حجة الوداع، ودع الناس فيها، وقال: ( عسى ألا تروني بعد عامي هذا ) )
بعد أن ذكر المصنف أولاده عليه الصلاة والسلام ذكر حجه وعمرته، ذكر الحج والعمرة لأنها لا تُفعل عادةً بكثرة، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يصوم ويُصلي بين الناس بشكلٍ يرونه يوميًا، ثم بيّن ما تتالى من حجته وعمرته عليه الصلاة والسلام.(17/52)
النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، عمرةٌ هي التي كانت في عام الحديبية سنة ست، أحرم من ذي الحليفة من المدينة فخرج حتى وصل إلى مكة، فلما وصل إلى مكة وجاء عند الحديبية بركت الناقة، فقال الصحابة: خلأت القصواء، فقال ( والله ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، والذي نفسي بيده لا يسألونني اليوم خطةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إيّاها )، ففقه عليه الصلاة والسلام من هذا زيادةً في فهم عظمة حرمة البيت، وكانت إشارة من الله أنه لن يدخل البيت، وقول الصحابة "خلأت القصواء"، بمعنى بركت وحرمت من غير علةٍ ظاهرة، وقال عليه الصلاة والسلام ( حبسها حابس الفيل ) أي أن بيت الله عظيم.
فطلبت منه قريشٌ ألا يدخل مكة، في صلح الحديبية المشهور وليس هذا وقت شرحه، فقبل عليه الصلاة والسلام ورضي، وهذا الذي يجب أن يفقهه كل من يدعو إلى الله، من يدعو إلى الله لا ينتصر لنفسه، ليس شيئًا تلبست به لابد أن يمضي، المهم أين مصلحة الإسلام، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يُحرم من ذي الحليفة ويقطع كل هذه المسافات حتى يصل إلى مكة، ثم يقبل أن يحل إحرامه ويرجع كما جاء من غير أن يدخل مكة، لأنه رأى –ولو كان هذا فيه شيءٌ يتعلق بذاته- أنه فيه أمرٌ عظيمٌ ومصلحةٌ لمن؟ للإسلام والمسلمين، لأن بعد صلح الحديبية كان فتحًا عظيمًا، دخل كثيرٌ من الناس في دين الله أفواجًا، فأنزل الله عليه وهو عائد { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [الفتح: 1].(17/53)
ولما أمر الصحابة أن يُحلوا إحرامهم لم يقبلوا، أو بتعبيرٍ أصح لم يستجيبوا، ولا يعني هذا أنهم كانوا يُعاندون النبي عليه الصلاة والسلام -حاشاهم-، وإنما قد لايُطيعك من يُحبك، تتغلب عليه حالةٌ نفسية، فلما أمرهم عليه الصلاة والسلام أن يُحلوا إحرامهم لم يفعل أحدٌ، فدخل على أم سلمة فأخبرها بما لقي من الناس، وأم سلمة تعلم محبة الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام فأشارت عليه أن يحلق رأسه وينحر الهدي، فحلق رأسه ونحر الهدي فاستجاب الصحابة لأنهم رأوا أنه أمرٌ واقع فحلقوا رؤوسهم ونحروا هديهم حتى أصابهم الغم وكاد يقتل بعضهم بعضًا.
هذه العمرة لم تتم، لكن المصنف ذكرها كما ذكرها أهل السير من قبل لأنه أحرم بها صلى الله عليه وسلم، كان من شروط صلح الحديبية أن يعود صلى الله عليه وسلم في العام التالي ليدخل مكة، فلذلك دخلها في العام التالي –يعني في السنة السابعة-، أحرم من ذي الحليفة حتى دخل مكة وأقام فيها ثلاثة أيام، فهذه أول عمرة أدّاها النبي صلى الله عليه وسلم كاملةً في الإسلام.
العمرة الثالثة كانت بعد غزوة حنين، بعد أن وقعت معركة حنين نزل عليه الصلاة والسلام إلى الجعرانة -وهي حلٌّ خارج مكة، دخل مكة ليلا ثم اعتمر ورجع في نفس الليلة أو صباحًا، أي رجع عاجلا إلى الجعرانة وأكمل مسيره بعد ذلك إلى المدينة، دخل مكة وأحرم من الجعرانة، ودل على أن الجعرانة ماذا؟ حلٌّ، لأنها لو كانت حرمٌ لما جاز أن يُحرم منها.(17/54)
ابن القيم رحمه الله تعالى أغلظ كثيرًا في زاد المعاد على ما كان يصنعه أهل مكة في أيامه من أنهم كانوا يحرمون من الجعرانة، وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها لأنها وافقت محله، وبعض المالكية يقول إن الجعرانة هي أفضل حلٍّ على وجه الأرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم منها ولم يُحرم عليه الصلاة والسلام من حلٍّ إلا الجعرانة، لأنه أحرم من المدينة والمدينة حرمٌ، وأحرم في الحج من مكة ومكة حرم، ولم يحرم من حلٍّ إلا الجعرانة، هذه فوائد قد يصيب أصحابها ولا يصيبون، لكن يفقهها طالب العلم، هذه العمرة الثالثة.
العمرة الرابعة كانت مع حجته، لأنه حج قارنًا عليه الصلاة والسلام فكانت الحجة قارنةٌ. من هذا يتحرر أن العمر الثلاث كلهن كن في شهر ذي القعدة، حتى عمرة الحج أحرم بها في شهر ذي القعدة لكنه لم يؤديها إلا في شهر ذي الحجة، لأنه ما وصل مكة إلا وقد دخل هلال شهر ذي الحجة.
هذه الأربع عمر التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم.
أما الحج فلم يحج في الإسلام إلا حجة واحدة سُميِّت بحجة الوداع لأنه ودّع الناس فيها، وهي حجّةٌ عظيمة، علم عليه الصلاة والسلام أنه لن يحج غيرها فأعلم الناس أنه سيحج، فقدم المدينة خلقٌ كثير كلهم يريدوا أن يأتمُّوا بحجته عليه الصلاة والسلام، وكان فيها من عظيم الفوائد ما أرجو أن يأتي في فصلٍ آخر لأن الوقت لا يشفع بأن نُطنب فيها، لكنه ذكر فيها كثيرًا من قواعد الدين، وأوصى بالنساء خيرًا، وجعل مآثر الجاهلية تحت قدميه، وأقام كثيرًا من قواعد الإسلام، وبين حرمة الدماء والأعراض والأموال، وهي حجته صلوات الله وسلامه عليه. أما غير ذلك فكله لم يثبت وغير محفوظ، والله أعلم إن كان قد حجّ عليه الصلاة والسلام أو اعتمر قبل الإسلام وهو في مكة، هذا كله غير ثابت، وما نُقل يُنقل بطرائق غير مكتملة السند الذي نستطيع أن نحكم عليه بالصحة.
فصل في غزواته ـ صلى الله عليه و سلم :
((17/55)
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه خمسًا وعشرين غزوة، هذا هو المشهور، قاله محمد بن إسحاق، وأبو معشر، وموسى بن عقبة وغيرهم. وقيل: غزا سبعا وعشرين، والبعوث والسرايا خمسون أو نحوها.
ولم يقاتل إلا في تسع: بدر، وأحد، والخندق، وبني قريظة، والمصطلق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وقد قيل: إنه قاتل بوادي القرى، وفي الغابة، وبني النضير ).
ذكر المصنف هنا رحمه الله تعالى غزواته صلوات الله وسلامه عليه، والفرق ما بين الغزوة والسرية أن الغزوة ما يقودها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، أما السرية أو البعث فكلاهما بمعنًى متقارب، والمقصود منها ما يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل عليه قائدًا من الصحابة دون أن يكون معهم، فالمعركة التي يحضرها صلوات الله وسلامه عليه غزوة، والتي لا يحضرها وإنما يبعث بعثًا تُسمى سرية أو بعث، وكلاهما بمعنًى مُتقارب، فلا يكون صلى الله عليه وسلم مُشاركًا فيها، هذا من باب المدخل للموضوع.
ومعلومٌ أن المصنف يذكر هذه الأمور وهي واضحة، فلا ينبغي لمن يتصدر في الشرح أن يكرر ما يقوله صاحب المتن لأن هذا لا يُسمَّى شرحًا، وإنما نذكر ما وراء هذا المتن، فنقول هذه الغزوات من أعظم الدلائل على جهاده بالسنان كما جاهد باللسان صلوات الله وسلامه عليه، فقد قاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، والعدد الذي ذكرها المصنف عددٌ تقريبيٌّ قد يزيد قليلا وقد ينقص قليلا، وهي كلها في جملتها تدل على ما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه من جهادٍ في سبيل إعلاء دين ربه تبارك وتعالى.(17/56)
والنبيون الذين قبله عليه الصلاة والسلام لم يكن الجهاد مشروعًا لديهم، وإنما شُرع الجهاد من موسى فما بعد، أما قبل موسى فلم يكن الجهاد مشروعًا، وإنما كانت القضية أن النبي يدعو قومه فيختلفون فيه إلى فريقين، يكون أكثرهم غير متبعين وقليلٌ منهم متبعٌ للنبي، ثم إن الله يُهلك من لم يتبع ذلك النبي فينتهون، كما أهلك الله ثمود وأهلك الله عاد وأهلك الله كثيرًا من قوم نوح وكثيرًا من الأمم دون أن يكون هناك جهادٌ ما بين النبي وأتباعه من المؤمنين مع أولئك الكفار.
وإنما شُرع الجهاد في شريعة موسى كما قال الله جلّ وعلا { ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21]، وبعد ذلك في الأنبياء من بني إسرائيل وفي عهد عيسى بن مريم، ثم جاء نبينا صلى الله عليه وسلم فشُرع الجهاد بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، هذا المدخل الثاني.
المسألة الثالثة أو المدخل الثالث في القضية رؤوس الغزوات وأعظمهن وأصولها سبع، وهن على ترتيب وقوعها التاريخي بدرٌ، وأُحدٌ، والأحزابُ -وتُسمَّى أحيانًا بالخندق-، وخيبر، وفتحُ مكة، وحنين، وتبوك، هذه الغزوات التي ورد ذكرها في القرآن، ذكر الله بدرًا في "الأنفال"، وذكر أُحدًا في "آل عمران"، وذكر حنينًا في "التوبة"، وذكر فتح خيبر في "الحشر"، وغيرها، كل هذه السبع نص تعالى عليها أو أرشد إليها أو أشار في القرآن جملةُ إليها، هذه السبع.
من الفوائد العلمية أن بدر إذا أُطلقت يُراد بها بدر الكبرى، وإلا بدرٌ على التحقيق ثلاثة، بدر الصغرى، وبدر الكبرى وبدر الموعد،(17/57)
فأما بدر الصغرى فقد كانت على رأس ثلاثة عشر شهرًا من الهجرة، جاء رجلٌ يُقال له كرز الفهري فأغار على سرح المدينة فتبعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى وادٍ يُقال له وادي صفوان قريب من بدر، النبي عليه الصلاة والسلام لما أغار كرز الفهري على سرح المدينة تبع كرزًا هذا إلى وادٍ قريب من بدر يُسمَّى وادي صفوان، فهذه عند بعض أهل السير تُسمَّى بدر الصغرى.
أما بدر الكبرى فغنية عن التعريف، هي الموقعة المشهورة التي وقعت عند ماء بدر في شهر رمضان، والتي أسماها الله جلّ وعلا بيوم الفرقان.
أما بدر الموعد – وهي غير مشهورة - فهذه ذكرها أبو إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده أبو سفيان يوم أحد، أبو سفيان توعد المسلمين بحرب في العام القادم لما انتصر في أحد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدرٍ في القادم إتمامًا للموعد ولكن أبا سفيان خرج حتى مضى في بعض الطريق ثم رجع مُحتجًا بأن ذلك العام عام جدب، فلم يقع فيها قتال، لكننا نذكرها من باب السرد التاريخي، فيتحرر أن بدرًا تُطلق على ثلاثة، بدر الصغرى، وبدر الكبرى، وبدر الموعد، هذه الثالثة.
المسألة الرابعة في القضية، هذه الغزوات كلٌ منها كان يحمل حدثًا بعينه ينبئ عن عظيم قدره وعظيم جهاده وما الذي يٌقتفى به صلى الله عليه وسلم، فمثلا في يوم بدر قال عليه الصلاة والسلام ( امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين )، كان يقصد بإحدى الطائفتين إما العير التي كانت مع أبي سفيان، وإما النصر على قريشٍ إذا حاربها، قال الله { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال: 7].(17/58)
كان مطمع المسلمين في العير، ومع ذلك – وهذا موضع الشاهد في القضية كلها- أنه عليه الصلاة والسلام ليلة بدر في العريش وقف يدعو ويرفع يديه ويذكر الله ويُثني عليه ويدعوه ويُلح بالدعاء حتى أشفق عليه أبو بكر، مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه سينتصر فإنه قال لأصحابه وهو الصادق المصدوق ( إن الله وعدني إحدى الطائفتين )، وقلنا إن إحدى الطائفتين إما العير وإما النصر، والعير فلتت ومضت، خرج بها أبو سفيان ونجت، فأصبح لا محالة بالنسبة له بتبليغ الله له أنه سينتصر.
ومع أنه يعلم يقينًا أنه سينتصر إلا أنه وقف صلى الله عليه وسلم يدعو، فلماذا وقف يدعو – وهذا أعظم ما دلّت عليه غزوة بدرٍ من فوائد-؟ وقف يدعو حتى يحقق كما التوحيد لربه جلّ وعلا، ويظهر من نفسه كمال العبودية لربه جلّ وعلا، فأظهر صلى الله عليه وسلم في يوم بدرٍ كمال العبودية لله والتضرع وسؤال الله وهو يعلم عليه الصلاة والسلام يقينًا أنه مُنتصر لأنه قال لأصحابه قبل أن يصل إلى العريش ( امضوا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين )، فهو مُتحققٌ من وعد الله له، لكنه فعلها ليظهر عبوديته لربه جلّ وعلا، وهذا أحد أعظم أسباب عُلُوِّ شأنه على جميع الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
في يوم أُحدٍ شُجَّ رأسه وكُسرت رباعيته فقال ( كيف يُفلح قومٌ شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟! ) فأنزل الله جلّ وعلا قوله { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [أل عمران: 128]، وكان الأمر كما أرد الله، فقد وقع ممن شهد أحدًا مع أهل الإشراك أسلم بعد ذلك وكان مُدافعًا عن الدين، وهذا يُذكّر بدرسٍ قديم وفائدة قديمة أن القلوب بيد الله وأن الإنسان لا ييأس من أحدٍ وهو يدعوه، بل إنه يُحاول أن يستثمر من حوله كيف يدعوهم إلى دين الرب تبارك وتعالى.(17/59)
كذلك من الفوائد تواضعه صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة، فقد دخلها مطرقًا رأسه وعلى رأسه المِغفر تواضعًا لربه جلّ وعلا، والعظماء إذا سادوا وحققوا مرادهم يُظهرون لله جلّ وعلا تواضعهم حتى يُعلِم من حوله -بسلوك الحال فضلا عن لسان الحال- أنهم نالوا ما نالوا بما أعطاهم الله تبارك وتعالى إياه، هذه جملة مما يمكن أن يُقال عن فوائد ما ذُكر عن غزواته صلى الله عليه وسلم.
بقي التعليق على ما ذكره المُصنف في آخر هذه الفصل أنه عليه الصلاة والسلام قيل إنه قاتل في غزوة وادي القرى والغابة وبني النضير، وادي القرى وادٍ بين تيْمَاء وخيبر، وخيبر أقرب إلى المدينة من تيماء، وسُمي بوادي القرى لكثرة القرى التي فيه، وهي معركة حصلت بعد غزوة خيبر، هذا ما يتعلق بوادي القرى، أما الغابة فهو مكانٌ غير بعيدٍ عن المدينة، جاءت في سيرة ابن إسحاق ما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريةً إليها، أما بني النضير فإنه قومٌ من اليهود، إحدى قبائل اليهود التي كانت تسكن المدينة، أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها في شهر ربيعٍ الأول من السنة الرابعة.
فصل في كتابه ورسله:
(كتب له صلى الله عليه وسلم:أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فُهيرة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وأُبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شمَّاس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشُرَحْبيلُ بن حسنة، وكان معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك، وأخصهم به )(17/60)
بعد أن ذكر المصنف رحمه الله بعضًا مما يُشير إلى غزواته صلوات الله وسلامه عليه أشار إلى من كان يكتب له عليه الصلاة والسلام، وهذا يسوقنا إلى مسألةٍ مهمة وهي أن الله جلّ وعلا بعث نبيه أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وقد عاش عليه الصلاة والسلام لا يقرأ ولا يكتب أربعين عامًا قبل النبوة، وهذا لحكمةٍ أرادها الله حتى لا يأتي أحدٌ ويقول إن هذا النبي حصل على ما حصل عليه مما يقوله من قرآن بمعرفته بأخبار الأمم السابقة، وهذا أكّد القرآن عليه كثيرًا، قال الله جلّ وعلا { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48]، وقال جلّ وعلا { مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52]، وقال الله جلّ وعلا { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [القصص: 86]. فالنبي عليه الصلاة والسلام حفظه الله من أن يقرأ ويكتب قبل النبوة حتى لا يتسلط أحدٌ عليه ويكون عذرًا لأحدٍ ممن يعترض على دينه بأنه عليه الصلاة والسلام كان يجيد القراءة، قال الله عنهم –أي أهل قريش- أنهم قالوا عنه في سورة الفرقان { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الفرقان: 5]، و{ اكْتَتَبَهَا } أي طلب من غيره أن يكتبها له، فرد الله جلّ وعلا عليهم ذلك كله كما هو ظاهرٌ في القرآن.(17/61)
فلما كان الله قد حفظ نبيه من هذا جعل له كتبةً، والشيء الذي لا يحسنه الإنسان يكله إلى غيره، وليس هذا بنقصٍ فيه، بل هذا من مقومات كمال الأمر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو رأس الملة وإمام الأمة وهو يقود الناس، شرع الله جلّ وعلا له أن يتخذ كتبة يُعينونه على أمره عليه الصلاة والسلام، فيكتبون الوحي الذي ينزل من السماء، ويكتبون كتبه التي يبعثها إلى غيرهم، ويكتبون بعض الأحكام التي وُجدت عندهم، كما في كتاب عمرو بن حزم.
هذا كله قام به ثلة من الصحابة لأن العرب كانت -في الغالب- أمةٌ أمية لا تكتب ولا تحسب، فالذين كانوا يكتبون كانوا قليلا، منهم الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وكان هناك بعض الصحابة جمع المزيّتين، كان خطيبًا للنبي عليه الصلاة والسلام وكان كاتبًا كما هو شأن ثابت بن قيس، وكان من هؤلاء الكتبة من هو مُتميِّز كما يوجد في الطلاب أو الوزراء أو في المساندين لأي حاكمٍ قومٌ مميّزون، كان زيد بن ثابت رضي الله عنه أميز الصحابة في الكتابة، وتعلم لغة يهود، وهو الذي طلب منه الصديق رضي الله تعالى عنه والفاروق بعد ذلك أن يجمع القرآن، فهؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم ثلةٌ من الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودليلٌ على أن العاقل يتخذ من أسباب العصر الذي هو فيه ما ينفعه في أموره خاصةً تلك التي تتعلق بشئون الدعوة.
( وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم:عمرو بن أمية الضمري رسولًا إلى النجاشي واسمه أصحمة، ومعناه عطية، فأخذ كتاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، وأسلم وحسن إسلامه، إلا أن إسلامه كان عند حضور جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه يوم مات، وروي أنه كان لا يزال يرى النور على قبره )(17/62)
ذكر المصنف هنا من بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وبدأ بالنجاشي، قبل أن نشرع فيه هذا نقول إن هذا الطور طورٌ جديدٌ في الدعوة إلى الله، هذه المرحلة تُسمَّى طورٌ جديدٌ في الدعوة إلى الله جلّ وعلا، وهذا الطور وقع بعد صلح الحديبية، كان القرشيُّون يمثلون الوثنية في جزيرة العرب، وكان اليهود يمثلون – بطبيعة الحال- اليهودية، وكانت القوى التي تُحارب الإسلام ثلاثة، اليهود وقريش وغطفان، فلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا في صلح الحديبية انكسرت شوكة الوثنيين فتفرغ صلى الله عليه وسلم للدعوة عمومًا، والله يقول عنه { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107]،
وقال { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [سبا: 28]، وقال صلى الله عليه وسلم ( وكان النبي يُبعث في قومه خاصةُ وبُعثت إلى الناس كافة ).
فكان هذا كله يتطلب طورًا جديدًا ومرحلةً دعوية، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يبدأ بهذا الطور من قديم – مع الحاجة إليه-، لكن المسلم العاقل لا يقيم الإسلام في غيره حتى يقيمه في نفسه، فلما شكل صلى الله عليه وسلم وأقام دولة الإسلام وتخلص من خصومه القريبين تفرغ للدعوة إلى الله جلّ وعلا، والعاقل لا يستعدي الناس عليه في يومٍ واحد ولا يكون جبهاتٍ متعددة تُحاربه لأن هذا أدعى لأن يخسر ويفشل، لكن العاقل يؤمن بالمرحلية في حياته، يؤمن بالواقع الذي يعيشه.(17/63)
فهو عليه الصلاة والسلام لم يُخاطب كسرى ولا قيصر ولا أقيال25 اليمن ولا غيرهم حتى كسر شوكة قريش، كسر شوكتها بصلح الحديبية على أن يستمر الناس عشر سنين ليس بينهم حرب، لما توقفت الحرب كان هذا هو الفتح العظيم الذي بشّر الله به نبيه يوم انصرف من الحديبية { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [الفتح: 1]، فكان هذا سببًا في أن يتهيّأ صلى الله عليه وسلم ليُخاطب الآخرين غير جماعته وعشيرته الأقربين الذين أُمر أن يبدأ بهم أولا وهم قريش الذي هو منهم صلوات الله وسلامه عليه، وهو عليه الصلاة والسلام وهو يدعو إلى الله -كما دعا بالسنان كما مر معنا في غزاته- دعا باللسان واتخذ الأسباب المشروعة في الدعوة التي توافق عصره آن ذاك.
فلما أخبروه –أي الصحابة- أن العرب أو الملوك والسلاطين والأمراء لا يقبلون إلا كتابًا مختومًا لم يُعاند وإنما اتخذ خاتمًا من فضة عليه الصلاة والسلام، جعل له ثلاثة أسطر "محمد رسول الله"، كما في البخاري وغيره، فجعل كلمة محمد أسفل وكلمة رسول في الوسط وكلمة الله –الذي هو لفظ الجلالة- في الأعلى، فأصبح الخاتم نقشه محمد، أعلى منها رسول، وأعلى منها لفظ الجلالة الله، فأصبح يُقرأ من الأدنى "محمد رسول الله"، فحتى في نقش خاتمه عليه الصلاة والسلام تأدب مع ربه جلّ وعلا، ولا يوجد أحدٌ تأدب مع ربه تبارك وتعالى كما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مُتأدبًا مع ربه يعرف لله قدره، وهذا واحدٌ من أسبابٍ كثيرة أفاءها الله عليه جعلته أعظم النبيين وأكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه.(17/64)
لما عُرج به إلى سدرة المُنتهى لم يلتفت يمينًا ولا شمالا لم ينظر إلى أي شيءٍ إلا وِفق ما يُريه الله، فما أراه الله رآه، وما لم يريه الله لم يتحرك منه جارحة واحدة تلتفت من غير أن يؤذن له، ولذلك زكى الله بصره في القرآن فقال الله في سورة النجم { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [النجم: 17]، أي لم يتجاوز حدوده، وكان عليه الصلاة والسلام في كل حاله وآله مُتأدبًا مع ربه جلّ وعلا، وأنت إذا تُريد الرفعة فالرفعة لها أسبابٌ من أعظمها الأدب مع الله جلّ وعلا، وما أورث أنبياء الله ورسله الناس شيئًا أعظم من أدبهم مع الله.
قال الله عن خليله إبراهيم وهو يُعرف ربّه { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } فلما ذكر المرض نسبه إلى نفسه قال { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } ولم يقل فإذا أمرضني تأدبًا مع ربه جلّ وعلا، ثم قال { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء: 75-81]، كل ذلك من كما أدبهم مع الله جلّ وعلا.(17/65)
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يخطب في صلاة الجمعة فدخل رجلٌ يشتكي جدب الديار وقلة الأمطار وقال: يا رسول الله استسق الله لنا، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه يقول ( اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ) فتكون السحاب بأمر الله وأُمطر الناس أُسبوعًا، ثم في يوم الجمعة المُقبل دخل رجلٌ -هو أو غيره- من نفس الباب يشكو كثرة أن السيول قطعت السُبل وفرقت الناس وأضرت بالطرق فقال يا رسول الله كذا وكذا حصل من أثر السيول فادع الله أن يمسكها عنّا، فكان لكمال أدبه في المرة الأولى حينما قال الرجل أغثنا قال ( اللهم أغثنا )، في المرة الثانية قال امسكها عنّا فلم يقل صلى الله عليه وسلم لربه أمسك عنّا رحمتك لأنه يعلم أنها رحمة، قال ( اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ) وجعل يشير بيديه، قال أنس "فوالله ما أشار إلى ناحية إلا اتجه السحاب إليها "، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الأدب يغفل عنه كثيرٌ من الناس وهو يتأدب به مع ربه، كما حظي به النبيون حظي به الأتقياء عبر التاريخ كله، قال الله عن الجن { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [الجن: 10]،
فلما ذكروا الرشد نسبوه إلى الله { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا }، ولما ذكروا الشرّ نسبوه إلى ما لم يُسمَّى فاعله كما يقول النحويون، قالوا { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ } ولم ينسبوه إلى الله مع أن الله خالق الخير وخالق الشر.(17/66)
وكذلك الخضر عليه السلام لما ذكر السفينة وعيبها قال –كما أخبر الله عنه- { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } أسند العيب إلى نفسه، { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ }[الكهف: 79-82]، فلما ذكر الزكاة والرحمة نسبها إلى الرب قال { فَأَرَادَ رَبُّكَ }، ولم يقل فأردت ، ولما ذكر العيب نسبه إلى نفسه قال { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا }، وهذا كله مُندرجٌ ضمن أدب رسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه، وهو أعظم ما يُنقل عنه ويُتأسى به صلوات الله وسلامه عليه.
نعود إلى فقه الواقع الذي كان عليه صلوات الله وسلامه عليه، كتب الكتب وبعث بها إلى الملوك والزعماء يدعو إلى الله ويبلغ رسالة ربه، وهو في كل رسالة يبعثها يختار من يحملها،
والعاقل تدل على عقله ثلاثة أشياء: هديته، وكتابه، ورسوله، بمعنى أنه لو أتاك خطابٌ من أحدٍ أو مرسول من أحد أو هدية من أحد فإنما الكتاب والهدية والمرسول تدلك على عقل من بعثها، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يختار قومًا مُعينين من أصحابه وهو يبعثهم إلى الملوك والرؤساء بما يوافق حالهم –أي حال هؤلاء الملوك-، لأن ليس المقصود التجبر والتكبر وإنما المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجًا.(17/67)
فكان ممن بعث لهم النجاشي، والنجاشي لقبٌ يُطلق على من ملك الحبشة، واختلف في النجاشي الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية إليه هل هو النجاشي الذي هاجر إليه المهاجرون الأوائل؟ قال بهذا قوم، وهل هو غيره؟ قال بهذا قومٌ آخرون – أقصد من العلماء-، والذي يظهر – والله تعالى أعلم- أنه غير النجاشي الأول كما يدل عليه حديث أنس، والله تعالى أعلم.
( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل، فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عنده صحة نبوته، فهم بالإسلام، فلم توافقه الروم، وخافهم على ملكه فأمسك.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، فمزق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مزق الله ملكه ). فمزق الله ملكه وملك قومه.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر، فقال خيرًا، وقارب الأمر، ولم يسلم، فأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مارية القبطية وأختها سيرين، فوهبها لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملكي عُمَان جيفر وعبد ابني الجلندي، وهما من الأزد، والملك جيفر، فأسلما وصدّقا، وخلَّيا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل عندهم حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَليط بن عمرو بن العامري إلى اليمامة، إلى هوذة ابن علي الحنفي، فأكرمه وأنزله، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم، فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي، صلى الله عليه وسلم ولم يسلم، ومات زمن الفتح.(17/68)
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من أرض الشام، قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق، فقرأ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم رمى به، وقال: إني سائر إليه، وعزم على ذلك، فمنعه قيصر.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجر بن أبي أُميَّة المخزومي إلى الحارث الحميري أحد مقاولة اليمن.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المُنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين، وكتب إليه كتابًا يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وصدّق.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل الأنصاري رضي
الله عنهما إلى جملة اليمن، داعيَيْن إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن وملوكهم
طوعًا من غير قتال ).
ذكر المصنف رحمه الله جملةً ممن بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء ذلك العصر، وهذا فيه دلائل من أهمها ما قدمناه مما بذله صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة إلى الله، وفيه فضيلة أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام وأنهم حملوا تلك الكتب والرسائل وأوصلوها إلى أولئك الملوك غيرَ مُبالين من أن يُقتلوا، قاطعين الفيافي والصحراء والجبال والوِهاد، كل ذلك ليُشاركوا في تبليغ دعوة الرب تبارك وتعالى.(17/69)
الأمر المهم في القضية كلها، حاول أن تربط ما بين المتن الذي سمعته وما بين واقع المسلمين اليوم، الناس هم الناس والأحداث هي الأحداث، وإنما يختلف الناس فقط، أولئك الزعماء تعاملوا مع الخطاب النبوي تعاملا متباينًا مُتفاوتًا، فلم يتعاملوا جميعًا تعاملا واحدًا، منهم من قبله وجعله بين عينيه وأسلم، ومنهم من أسلم من غير تقبيل، ومنهم من مزقه، جبَّارٌ عنيدٌ مزّقه، ومنهم من حاول أن يسوس الناس الذين عنده هل يُوافقونه أو لا يُوافقونه، فلما غلب عن ظنه أنهم لا يُوافقونه خاف على ملكه، ومنهم من لم يقبل الإسلام لكنه تأدّب مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعث له بهدية، ومنهم أقوام ليست فيهم قوة آن ذاك كجملة اليمن فبعث إليهم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل، وقد تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذٌ في اليمن، فمُعاذ لم يشهد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
فالآن العالم الإسلامي الذي نعيشه نظرة غير المسلمين من حكومات وشعوب العالم من المسلمين هي نفسها تمامًا نظرة الأوائل في ذلك الزمان، فلا يُعقل أن يكون جميع زعماء العالم وشعوب العالم نظرتها إلى الإسلام اليوم نظرةً واحدة، وهناك من يُحاربه وهناك من يستحيي منه، وهناك من يود أن يدخل فيه لكنه غير قادر، وهناك من يدخل في الدين، فيتفاوت الناس، فالمسلم العاقل –والعاقل في كل شيءٍ كما قلت في مقدمة الدرس- لا يستعدي الناس، يتعامل مع من حوله بذكاء حتى يُحقق مصالحه، لا يهدم الأمر على قومه وعلى نفسه وعلى عشيرته فيضيع الأمر كله أو يتخبط الناس فيه.(17/70)
كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتهز فرصة من حوله فيبعث ذلك الخطاب الذي يسترق به الناس، والله جلّ وعلا بعث موسى وهارون إلى أعظم الجبابرة في عصره وقال { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه: 44]، فأعظم ما يقتبسه المسلمون من السنة أن يعقلوا كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصًا على أن يدعو الناس، النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الأنبياء ثم قال ( وإني لأرجو الله أن أكون أكثرهم تابعًا )، فأعظم رغبةً له عليه الصلاة والسلام أن يكون أكثر الأنبياء استجابةً، وهذا لا يتحقق إلا بالدعوة، فالعاقل الذي يريد أن يُحقق الرغبة النبوية يُسهم في الدعوة إلى الله لا في التنفير من الدين، وقد قلنا إن النبي أخّر مسألة دعوة الملوك حتى يُقيم الإسلام في ماذا؟ في المسلمين، وأنت لن تُقيم الإسلام في غيرك حتى تُقيمه في نفسك.
أما قضية التعامل بالمثل هذه قضية خاطئة، أنت قدم الإسلام كما هو الإسلام، لا تقدم الإسلام كما يريد الأعداء أن يروه، قدم الإسلام كما قدمه جلّ وعلا لنا، مثلا عندنا في المدينة -للأسف- يسكن طائفة، لا داعي للذكر، يسكن طائفة معينة غير أهل السنة، وكنت قديمًا أعمل في الإشراف التربوي، يعني مُشرف على المدارس، فيأتيك معلم يسبهم ليل نهار ويفعل أمور أُنزه المسجد لهم، ثم يقول والله يا فلان –يُخاطبني- يا فلان ما استجابوا ما آمنوا ما تركوا البدع.(17/71)
من الذي تقابله ويمد يده يسلم عليك تسحب يدل وتبصق في وجهه وترميه ولا تهنئه بشيء ولا تعزيه إذا مات أحد ثم تريده أن يدخل في هذا المبدأ الذي تدعو إليه؟! هذا جنون لا يمكن أن يقع، ما فيه عاقل يتبعك وأنت على هذه الحال، لكن قدم الإسلام كما جاء به الله جلّ وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يدخل الناس في دين الله أفواجًا، أما تأتيني أنا أمد يدي لأصافحك وأنت تسحبها وأُرزق بمولود لا تُهنئني ويموت لي ميِّت لا تعزيني ثم تقول لي ادخل في السنة التي أنا أتبعها، أنت لم تقدم السنة كما قدمها نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا مرضٌ في القلب.
النبي عليه الصلاة والسلام بعث عليًّا في حربه مع يهود، واليهود بأسلحتهم في حصونهم، يحاربونه، وغدروا به، وأعطوه شاةً مسمومة، والله لعنهم في القرآن، وهم حاملو أسلحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لعليٍّ ( فادعهم إلى لا إله إلا الله، فلأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم )، ولم يقل له لو قتلت يهودي تدخل الجنة، قال له ( لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم ).(17/72)
فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى مقدمة على شيء، والإنسان الذي يتبع هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم أول أمر ينزع الهوى الذي في قلبه والرغبات الشخصية يرميها وراء ظهره، ثم يجعل نهج محمدٍ صلى الله عليه وسلم بين يديه، هذا هو المحك الحقيقي في اتباع السنة، هل تأتي للإنسان وتسأله أنت مسلم أم كافر؟ قال أنا كافر تقتله وتمضي! هذا لا يمكن أن يأتي به محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن ربه، قال الله عنه { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]، انصرف صلى الله عليه وسلم من بدر وهو مُنتصر فقال بعض المسلمين من الأنصار "إن وجدنا إلا عجائز صُلعى" يقصد كُفار قريش، فقال صلى الله عليه وسلم ( على رِسلِك يا ابن أخي أولئك الملأ لو أمروك لأجبتهم )، أي أنهم أشراف الناس، فلم يُنقص قدرهم صلى الله عليه وسلم.
فكان يدعو إلى دين الله جلّ وعلا، حارب النبي عليه الصلاة والسلام من حال بينه وبين أن يدعو إلى الله، حارب النبي صلى الله عليه وسلم من حال بينه وبين من يدعو إلى الله، وهذا نهج الأنبياء من قبل، موسى يقول { وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } [الدخان: 21]، أي لا تمنعوني أن أدعو الله، فما أحوج المسلمين اليوم إلى من يفقه الدعوة النبوية التي جاء بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن ربه، فهؤلاء الرسل يقطعون الفيافي يبلغون رسالات الله بالحكمة والموعظة الحسنة، هذا كله لا يعني أبدًا أن يُترك الجهاد، فالجهاد ذروة سنام الإسلام، لكن كما قلت حارب الرسول من وقف بينه وبين أن يدعو إلى الله جلّ وعلا.
هؤلاء القوم الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان الصحابة كأبي بكرٍ وغيره يمنع الناس أن يتعرض إلى الذين في الكنائس والدِيَر، يقول لا تتعرضوا لهم، يعني هؤلاء مشغولون بما هم فيه لا يمنعونك من أن تدعو، ادع كما شئت لا يمنعونك، يتركونك تدعو فلم يتعرض لهم المسلمون.(17/73)
والمقصود من هذا كله أن الوضع المعاصر يفرض على من يعقل من علماء المسلمين أن يقول الحق، أما أن يلتمس الإنسان من كلامه رغبة الناس –وهذا من أعظم أخطائنا في الصحوة-، إذا جئت تتكلم لا ينبغي أن تقول ما يريده الناس، ينبغي أن تقول ما هو مراد الله، لأن العلماء هم الذين يقودون العامة، وليس العامة الذين يسوِّرون أقوال العلماء، هذه الكلمة التي يقولوها النقَّاد السينمائيون "ما يريده الجمهور" هذا عند شبَّاك السينما، أما هنا في شرع الله جلّ وعلا فليس الأمر متروك لي ولا لك.
هذا نورٌ أتى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم من ربه فنبلغه كما بلغه نبينا صلى الله عليه وسلم، بلغه بالسنان بالقتل مع من حرمه أن يبلغ دين ربه، وبلغه باللسان والحكمة والموعظة والحسنة مع من لم يتعرض لدعوته لربه جلّ وعلا، حتى قال العلماء إن النبي عليه الصلاة والسلام أقر من أسلم من الملوك على ملكهم ولم يبعث صحابة يسلبوهم الملك حتى لا يُفتنوا، ترك الملوك والرؤساء الذين أسلموا على ملكهم، لأن المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجًا وليس المقصود أن يأتي أحد الصحابة فيرث تلك الأرض ويُصبح زعيمًا على تلك الطائفة، المقصود أن يدخل الناس في دين الله أفواجًا، وأنت ستكون حظيظًا عظيمًا إذا كنت سببًا في دخول الناس إلى دين ربك جلّ وعلا.(17/74)
نعلق كذلك على بعض ما جاء بالمتن وقلت هذا هو الزبدة منه، هرقل هذا عظيم الروم، والآن انظر في أشياء ما هي غيب، لكن تظهر في نصف الحديث تكشف لك أشياء أخرى، كسرى مزق الكتاب، ماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ ( مزّق الله ملكه )، قيصر ما قبل الإسلام لكن ما قال صلى الله عليه وسلم مزق الله ملكه، الآن انظر إلى الواقع، لا يوجد ملك كسراوي كافر، ويوجد ملك للروم كافر، واضح؟، قال صلى الله عليه وسلم ( مزّق الله ملكه ) انتهى ملكه، وبقي ملك الروم كما هو، لماذا لم يدعُ عليهم؟ حتى يبقى قدر الله، فما أراده الله قدرًا لا يجريه على لسان نبيه شرعًا، وهذا من دقائق العلم، ما يريده الله أن يقع قدرًا لا يجريه الله على لسان نبيه شرعًا.(17/75)
الله جلّ وعلا قال في سورة الأنعام –وأنا قلت هذا في محاضراتنا في التفسير الموجودة-، قلنا إن الله جلّ وعلا قال في سورة الأنعام لما ذكر أنه { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [الأنعام: 65]،، فلما قرأ جبريل { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } استجار النبي صلى الله عليه وسلم بربه، هذه الأمة لا يمكن أن تُعذب بالحجارة، لا يمكن أن تُعذب عذاب هالك بالحجارة من السماء، وقال { مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فلا يمكن لهذه الأمة أن يُخسف بها وتنتهي، ثم وجبريل يتلو على النبي صلى الله عليه وسلم { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ما قال صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من ذلك كما قال في الأولين، لأنه لو قالها شرعًا تقع قدرًا، والله قد كتب في الأزل أنها ستقع قدرًا فلم يجريها على لسان نبيِّه شرعًا، قال صلى الله عليه وسلم ( هذا أهون وأيسر )، وأنت ترى الأمة إلى اليوم يُذيق بعضها بأس بعض، تتقاتل، منذ مقتل عثمان إلى اليوم والأمة يذيق بعضها بأس بعض، ولم يقل صلى الله عليه وسلم لمّا نزلت الآية أعوذ بالله من ذلك حتى يمضي قدر الله.
فما أراده الله أن يقع قدرًا لا يجريه على لسان نبيه شرعًا، وما أراد الله منعه شرعًا يجريه على لسان نبيه شرعًا، فقال في كسرا وهو كافر ( مزّق الله ملكه ) فانتهى ملك الأكاسرة، ولكنه لم يقل في هرقل مزق الله ملكه فإلى اليوم أوربا –طبعًا هي الروم- باقي ملكها إلى اليوم، ولن تقوم الساعة حتى تكون الروم أكثر الناس.
أعمامه و عماته و أزواجه ـ صلى الله عليه و سلم :
فصل في أعمامه وعماته:
(وكان له صلى الله عليه وسلم، من العمومة أحد عشر؛ منهم:
الحارث: وهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، ومن ولده وولد ولده جماعة لهم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقثم: هلك صغيرًا، وهو أخو الحارث لأمه.(17/76)
والزبير بن عبد المطلب: وكان من أشراف قريش، وابنه عبد الله بن الزبير، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا، وثبت يومئذ، واستُشهد بأجنادين، ورُوي أنه وجد إلى جنب سبعة قد قتلهم وقتلوه.
وضُباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأم الحكم بنت الزبير، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحمزة بن عبد المطلب: أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وقُتل يوم أحد شهيدًا، ولم يكن له إلا ابنة.
وأبو الفضل العباس بن عبد المطلب: أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وكان أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له عشرة من الذكور: الفضل، وعبد الله، وقثم لهم صحبة، ومات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان ابن عفان بالمدينة. ولم يسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا العباس وحمزة.
وأبو طالب بن عبد المطلب: واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله – أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم – لأمه، وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.وله من الولد طالبٌ – مات كافرًا – وعقيل، وجعفر، وعلي، وأم هانئ – لهم صحبة – واسم أم هانئ فاختة، وقيل: هند. وجمانة ذكرت في أولاده أيضًا.
وأبو لهب بن عبد المطلب: واسمه عبد العزى، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن ولده عتبة، ومُعتَّبٌ، ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، ودرة، لهم صحبة. وعُتَيْبَةُ قتلة الأسد بالزرقاء من أرض الشام على كفره بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم .
وعبد الكعبة، و حِجْلٌ واسمه المغيرة، وضرار أخو العباس لأمه، والغَيْدَاق، وإنما سمي الغيداق لأنه أجود قريش، وأكثرهم طعامًا )(17/77)
هؤلاء كما ذكر صاحب المتن من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل التعليق على هذا يحسن أن تعلم أن الأصل أن العمّ معروفٌ هو أخو الوالد، أن عبد المطلب هو جد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له في أول الأمر إلا ابنٌ واحد، ثم إنه اشتد عليه بعض الخلاف مع زعماء قريش فنذر إن رزقه الله أولادًا يمنعونه أن يذبح أحدهم –هذا في الجاهلية-، فرزقه الله جلّ وعلا أولادًا،
فأراد أن يذبح ابنه عبد الله ثم حصل ما حصل من قضية الاستهام، فُديَ عبد الله بمائة من الإبل، هؤلاء كلهم إخوة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم فأصبح إخوة أبيه أعمامًا له. نعود لأصل الموضوع، أصل الموضوع أن لوطًا عليه الصلاة والسلام، ويحسن لطالب العلم أن يربط بين حياة الأنبياء ويفقه السنن التي يبعث الله جلّ وعلا من أجلها الرسل، الأصل أن لوطًا عليه الصلاة والسلام كان ابن أخٍ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما هاجر لوطٌ ونزل أرض سدُّوم في جهة البحر الميِّت اليوم وجاءته الملائكة في صورة وجوهٍ حسانٍ تام الخلقة وفُتن بهم قوم لوطٍ ودخلوا عليه وراودوه عن ضيفه كما قال القرآن، قال لوطٌ –كما نص الله- { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [هود: 80]، فكان يتمنّى أن يكون له قومٌ ينصرونه على هؤلاء، لأنه لو كان منيعًا لما تجرأ هؤلاء عليه، قال صلى الله عليه وسلم كما في البخاري وغيره ( فما بعث الله بعده من نبيٍّ إلا في منعةٍ من قومه ).(17/78)
فكان للنبي صلى الله عليه وسلم أعمامًا، وبنو هاشم كانوا لهم سيتُ عند القرشيين، هذا كله من أجل حفظ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وقد بيّنا في السابق أن الإنسان قد يستفيد حتى من الكافر، فبنو هاشم مؤمنًا وكافرًا كانوا عصبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وقلنا إنهم جميعًا دخلوا معه الشعب المؤمن منهم والكافر، وقبلوا الحصار لأنهم يشعرون بالأنفة والحميّة لمن يحمونه ولو كانوا يخالفونه، والشاهد من هذا كله، هذه قضية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له أعمامٌ كثيرون، لكن هؤلاء الأعمام أنت لست مُلزمًا بحفظهم، وإنما ذكرهم صاحب المتن من باب التعلم، ولست مُلزمًا كطالب علم بحفظ أسماء الأحد عشر، لكن ما الذي أنت مُلزمٌ به؟ التصور الكامل للمسألة، أن تعلم أن أعمام النبي صلى الله عليه وسلم يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول : قسمٌ لم يُدرك نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومبعثه، وبالتالي عندما لم يدرك النبوة ولم يدرك المبعث يكون مات على ماذا؟ يموت على دين آبائه فهو من أهل الفطرة، يجري عليه ما يجري على أهل الفطرة، لأنه ما أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا قسمٌ أول.
القسم الثاني: أدرك مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن، وهذا يضم اثنين شهيرين، أبو طالب وأبو لهب، فكلاهما أردك البعثة النبوية ولم يؤمن، إلا أن هذا القسم نفسه –أي الثاني- هو نفسه ينقسم إلى قسمين:
• قسمٌ لم يؤمن وناصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو طالب.
• وقسمٌ لم يؤمن وعاد النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينصره وهو أبو لهب، وسُمِّي أبو لهب لجمال خديه ونورهما، واسمه الحقيقي عبد العُزّى، وإنما أبو لهبٍ كنيته، وفي هذا نزل قول الله جلّ وعلا { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} } [المسد: 1، 2].(17/79)
وهذه الآية من أعظم الصور الدالة على أنه لا يمكن لأحدٍ أن يخرج عن مشيئة الله، كيف هي دالة على هذا؟ النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا القرآن من عند الله، وقريشٌ تقول ومن ضمنها أبو لهب هذا القرآن ليس من عند الله، فلمّا قال أبو لهب للنبي عليه الصلاة والسلام تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا أنزل الله على نبينا هذه السورة، فقال عليه الصلاة والسلام يتلوها { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {3} } [المسد: 1-3].
ومعلومٌ أن النار ذات لهب لا يصلاها المؤمن، يصلاها الكافر، فهو يقول للناس وأبو لهب يسمع { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ }، أنا قلت أن فيها دليلا أنه لا يسع أحدٌ أن يخرج على مشيئة الله، فأين الدليل؟ كان بإمكان أبي لهب أن يقول للناس محمد يقول إنني في النار، أنا الآن مؤمن بمحمد حتى يُبطل على النبي القرآن، يعني كان بإمكان أبي لهب أن يقول أمام الناس هذا محمدٌ يقول إنني سأدخل النار، كلام ربه يقول أنني سأصلى نارًا ذات لهب، وهو يقول لكم أن المؤمن لا يدخل النار، فأنا أريد أن أُبطل قرآن محمد فأنا أقول لكم الآن أنا أشهد أن لا إله إلا الله، فكيف أدخل النار؟ إذا محمدٌ كذّابٌ.
هذه على سهولتها لم يستطع أن يقولها، و إلا لو قالها لخرج، لكن الله جلّ وعلا يعلم يقينًا أنه لن يقولها، ولذلك قال الله { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ }، وأنا لا أريد أن أخرج من السيرة إلى التفسير، ولكن من أراد أن يخشع في القرآن فليتدبر القرآن في المقام الأول، وفي القرآن كنوزٌ ليس هذا وقت إخراجها، من رُزق قدرةً على التفسير سيرى شيئًا عجبًا في دلائل قدرة الله، لكن كما قلت لا أريد أن أخرج إلى هذا المنحى المقصود أن أبا لهب لم يؤمن بالرسول – صلى الله عليه وسلم - وعاداه.(17/80)
والقسم الثالث هو من أدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وآمن، وهذا يشمل اثنين فقط رضي الله عنهما وأرضاهما، وهما العباس وحمزة ابنا عبد المطلب، فهذان – حمزة والعبّاس- عمَّا الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الفرق أن حمزة تقدم إسلامه والعبَّاس تأخر إسلامه،
وحمزة رضي الله عنه لم يترك إلا ابنة، وهو أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الشهداء – كما صحَّ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وقاتل قتالا عظيمًا يوم بدرٍ ويوم أحد.
فأراد أحد المشركين ممن وُتِرَ في بدرٍ جاء لغلامٍ اسمه وحشي، وحشيٌّ هذا غلامٌ ليس له ناقة ولا جمل في دين قريش، فقيل له تشتري حريتك بأن تقتل حمزة، فأعد حربةً ومكث في يوم أحد لا يريد أن تنتصر قريش ولا أن ينتصر محمدٌ صلى الله عليه وسلم، المهم عنده أن يفوز بحريته، فاتخذ الحربة وتربص بحمزة ثم رماه بها فقتله، ثم جاءت هندٌ قبل إسلامها فقطعت بعضًا من جسده –رضي الله عنه وأرضاه-، أخذت كبده ولاكتها بفمها، وحصل ما حصل له من التمثيل رضي الله عنه وأرضاه، مُثل به، مُثل به قليلا.(17/81)
ثم إن وحشيًّا هذا أُعتق فاشترى حريّته بقتل حمزة، ثم مرت الأيام ومرت السنون وكل شيءٍ بقدر، ( وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبنيها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعلم بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )، فلما أسلم وحشيٌ، فلما أسلم قصَّ على النبي صلى الله عليه وسلم كيف قتل حمزة، فقال له عليه الصلاة والسلام ( غرِّب وجهك عني )، أي لا أستطيع أن أراك، ولم يرد إسلامه لأن هذا دين، ليس للنبي عليه الصلاة والسلام أن يتحكم فيه، لكن مسألة العاطفة مع العم أمرٌ متروكٌ له، وهو شيءٌ بشريٌ فلم يستطع عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يرى وحشيًّا،وقُدِّر لوحشيٍّ كما قتل حمزة أن يقتل مُسَيْلِمَةَ الكذاب في حرب اليمامة، ولعل هذه تُكفر تلك وإن كان الإسلام يجبُّ ما قبله.
أما العبّاس رضي الله عنه فقد عُمِّر حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أكبر من النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين، فإذا سُئل أيهما أكبر أنت أم رسول الله يتأدب ويقول: هو أكبر مني وأنا أسنُّ منه، يتأدب ويجيب ويقول: هو –أي النبي- أكبر مني وأنا أسنُّ منه، كلمة "أسن" تُشعرك بالضعف، كلمة أكبر تُشعرك بالقوة، فينسب القوة والعلو للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني أكبر مني قدرًا، وأنا أسن منه يعني في السن، ولا يقول أنا أكبر لأن هذا من الأدب في الألفاظ، هذا العبّاس رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
إذًا ينجم عن هذا أنه لم يُسلم من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنان هما حمزة والعبّاس رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.
وعماتُه صلى الله عليه وسلم ست:
(صفية بنت عبد المطلب: أسلمت وهاجرت، وهي أم الزبير بن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أخت حمزة لأمه.(17/82)
وعاتكة بنت عبد المطلب: قيل إنها أسلمت، وهي صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة، وزهيرًا، وقريبة الكبرى.
وأروى بنت عبد المطلب: كانت عند عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي، فولدت له طليب بن
عُمير، وكان من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا، وقُتِل بأجنادين شهيدًا، ليس له عقب.
وأميمة بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رئاب، ولدت له عبد الله المقتول بأحد شهيدًا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد، وزينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وحبيبة، وحمنة، كلهم لهم صحبة، وعبيد الله بن جحش أسلم ثم تنصر، ومات بالحبشة كافرًا.
وبَرَّة بنت عبد المطلب: كانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة، واسمه عبد الله، وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجها بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس، فولدت له أبا عبرة بن أبي رهم.
وأم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب، كانت عند كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كُرَيْز، وهي أم عثمان ابن عفان رضي الله عنه ).(17/83)
بعد أن ذكر المؤلف أعمام النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عمّات النبي عليه الصلاة والسلام، وكما قلنا في الأعمام نقول في العمّات، الذي يلزم منهم المعرفة الإجمالية، ومن يثبت منهن من الست أنها أسلمت إلا صفية، صفية ثبت إسلامها، وهي أم الزبير بن العوام والأخت الشقيقة لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه. وأما عاتكة وأروى فاختلف في إسلامهما، وأروى بعض العلماء يُصحح إسلامها، أما عاتكة فقليلٌ من قال به، وقد قال المصنف إن عاتكة هي صاحبة الرؤيا يوم بدر، والمقصود برؤيا بدر أن عاتكة هذه قبل موقعة بدر رأت في منامها أن رجلا يأتي على مكة ويقول: يا أهل بدر هلم إلى مصرعكم، ثم إن صخرةً جاءت فانفلقت وخرجت منها شظايا فلم تترك بيتًا في مكة إلا أصابته، فلمّا شاع الخبر في قريش –وهذا قبل بدرٍ- جاء أبو جهلٍ إلى العباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: يا بني عبد المطلب أما يكفيكم أن يتنبأ رجالكم حتى يتنبأ نساؤكم، لقول عاتكة أنها رأت كذا وكذا، ثم تحققت هذه الرؤيا وصدّق الله رؤياها ووقع ما وقع في بدرٍ وكان كما قالت هؤلاء الناس أكثرهم صرعى في قليب بدر، ولم تترك بدرٌ أحدًا من قريشٍ إلا قليلا إلا أصابته بسوء وناله من كربها كما هو معلومٌ. فهؤلاء على الإجمال عمّات النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك ننتقل إلى أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن.
ذكر أزواجه عليه وعليهن الصلاة والسلام:
(وأول من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي بن كلاب، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه حتى بعثه الله – عز وجل – فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أصح الأقوال، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين )(17/84)
هذه أولى أمهات المؤمنين، وقد سبق التعليق عليها بما سلف، وهي خديجة بنت خُويلد، وقلنا إن لها مزايا، من مزاياها أن الله جلّ وعلا أبلغها السلام عن طريق جبريل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج أحدًا عليها في حياتها، وأنها رضي الله تعالى عنها وأرضاها رزق الله نبينا منها الولد كما قال عليه الصلاة والسلام، ورزق الله جلّ وعلا نبينا حبها، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها حبًّا جمًّا، تقول عائشة "ما غرت من أحدٍ من النساء ما غرت على خديجة".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة ثم يبعث بها إلى من له علاقة أو قرابة أو معرفة بخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد ورد أن عائشة قالت للنبي عليه الصلاة والسلام "وهل كانت إلا عجوزًا في غابر الأزمان أبدلك الله خيرًا منها" –تقصد نفسها-، قال ( والله ما أبدلني الله خيرًا منها، لقد آمنت بي إذ كفر بيَ الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، ورزقني الله منها الولد ).
وهي إحدى سيدات نساء العالمين كما صحّت بذلك الأخبار وجاءت بذلك الآثار، وهي –كما يظهر- أعظم أمهات المؤمنين قدرًا، رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد سبق الكلام عنها تفصيلا فيما سبق.
( ثم تزوج: سودة بنت زُمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد وُدِّ بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، بعد خديجة بمكة قبل الهجرة، وكانت قبله عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو، وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة فأمسكها )(17/85)
هذه ثاني أمهات المؤمنين سودة بنت زُمعة، وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها بدينة ثقيلة الحركة، ولذلك رخّص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنزل في يوم مزدلفة قبل الناس ومن كان في وضعها، أذن لها أن تخرج من مُزدلفة عند مُنتصف الليل كما هو معروفٌ في كتب الفقهاء، وأذن لها أن تأتي منًى قبله، وقلنا إنها كانت امرأة ثبطة، ثم إنها في آخر أيامها خشيت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم وأرادت أن تكون زوجته في الجنة فقبلت معه أن تمنح ليلتها لعائشة رضي الله وأرضاها.
على هذا أصبح أن النبي عليه الصلاة والسلام اجتمع عنده من النساء تسع، وكان يقسم على ثمان لأن سودة تنازلت عن ليلتها لعائشة رضي الله عنها وأرضاها.
( وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع سنين، والأول أصح، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة وهي بنت تسع سنين على رأس سبعة أشهر، وقيل: على رأس ثمانية عشر شهرًا. ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، أوصت بذلك، سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة سبعٍ وخمسين، والأول أصح، وصلى عليها أبو هريرة، ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرًا غيرها، وكُنيتها أم عبد الله، وروى أنها أسقطت من النبي صلى الله عليه وسلم سقطًا، ولم يثبت )
هذه هي الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله صلى الله عليه وسلم، وهي أمنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكرٍ، ولها خصائص منها:
• أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها، هذا ذكره المصنف.
• أن الوحي لم ينزل عليه عليه الصلاة والسلام في لحاف امرأة غير عائشة.
وقد شاع عنها حديث الإفك المعروف، وأصله أن النبي عليه الصلاة والسلام انصرف من بني(17/86)
المصطلق على غير بعيدٍ عن المدينة لما أناخ الجيش مطاياه –وأنا أقوله بإسراعًا لأنه يتلعق بخبرها رضي الله عنها وأرضاها- خرجت تلتمس عقدًا لها فقدته كانت أمها أم رومان قد أهدته لها، فلما ذهبت تلتمسه مضى الجيش، وكانت امرأة آن ذاك سنها تقريبًا في الرابعة عشر عندما حصلت غزوة بني المصطلق، لأنها حصلت تقريبًا في السنة الخامسة، والنبي صلى الله عليه وسلم تُوفي في العاشرة وقد كان لها ثمانية عشر عامًا، ينجم عن هذا أن عمرها في حادثة الإفك تقريبًا في الرابعة عشر، وكانت امرأة خفيفة اللحم، خفيفة البدن غير مكنزة اللحم، بل إنها كانت قبل أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم نحيلةً جدًا فأشار النبي عليه على أبويها على أبي بكرٍ وعلى أم رومان أن يُطعموها القثاء بالرطب حتى يمتلئ بدنها يسيرًا، ودخل عليها النبي صلى الله عليه
وسلم بالمدينة في شهر شوال عام تسع.
والمقصود لما جاء الذين يحملون الهودج حملوه ولم يخطر ببالهم أبدًا أن أم المؤمنين ليست موجودةً فيه، فحملوا الهودج وذهبوا، فلما ذهبوا جاءت رضي الله عنها وأرضاها ولم يكن في ظنها أن يحدث أمور عظام على تأخرها هذا، ظنت أن الجيش سيفقدها على بعد قليل ثم يعود إليها فأناخت تحت شجرة وتقنعت رضي الله عنها وأرضاها، وكان قد تأخر عن الجيش صفوان بن مُعطلة السُلمي فلما جاء صفوان ورآها عرفها، فلما عرفها رزقه الله وألهمه أن يقول "إنا لله وإنا إليه راجعون"، والإنسان إذا ابتلي قبل أن يقع يوطن نفسه على كثرة أن يقول هذه الكلمة "إنا لله وإنا إليه راجعون"، فقال صفوان كأنه علم أن هذا الأمر لن يتم بسهولة ولن يتركه المنافقون يمضي فقال "إنا لله وإنا إليه راجعون".(17/87)
ثم أناخ بعيره عندها وتنحى فركبت على البعير رضي الله عنها وأرضاها، وقاد صفوان -وهو رجلٌ طاهرٌ- البعير دون أن يكلمها بكلمةٍ واحدة، فلما أشرف على الجيش رآه المنافقون، فقام عبد الله بن أُبي فقال للناس: امرأة نبيكم مع رجلٍ غيره والله ما سلمت منه ولا سلم منها –عياذًا بالله-، فألاك الناس الخبر وهي كل ذلك لا تدري، والله يقول { الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [النور: 23]، يعني لا يعلمون ما يُدار ويُحاك حولهن، فلما رجعت إلى بيتها رضي الله عنها وأرضاها وجدت تغيُّرًا من النبي صلى الله عليه وسلم رغم وجعها، لكنه لم يخطر ببالها أن يكون هذا الأمر، حتى إن أمها أم رومان لم تكن تعلم. ثم إنها خرجت مع أم مسطح لبعض شأنها تقضي حوائجها -ولم يكن الناس قد اتخذوا الكُنُف آن ذلك- فعثرت أم مسطح، فلما عثرت أم مسطح قالت: تعس مسطح، فسكتت عائشة، ثم عثرت مرة ثانية فقالت: تعس مسطح –تسب ابنها-، فتعجبت عائشة، هي تريد أن تفتح الموضوع معها، فقالت لها: عجبًا لك رجلا شهد بدرًا تسبينه، فذكرت لها القصة، فتعجبت قالت:
أو خاض الناس في هذا، ورجعت إلى البيت تبكي، ثم استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تُمرض عند أمها أم رومان فوافق عليه الصلاة والسلام.
فكان أبو بكرٍ رضي الله عنه يجلس على سقف البيت -وهو الصديق الأكبر وأول الناس إسلامًا وخير العباد بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنه وأرضاه-، لكن المؤمن مُبتلى، جالسٌ على سطح البيت يقرأ القرآن، وهو يقرأ القرآن يسمع بكاء ابنته تحت، فينزل فيسمع بكاء عائشة رضي الله عنها فلا يملك إلا أن يزرف دمعة ويقول: والله إنه لأمر ما فعلناه لا في جاهلية ولا في إسلام، يعني الزنا والخوض في الفواحش أمرٌ لا نعرفه لا في جاهلية ولا في إسلام، ثم لا يلبث أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون، ويستحيي أن يُكلم النبي صلى الله عليه وسلم في الموضوع، ويصبر على ما يجد.(17/88)
حدثت أمور بعد ذلك منها اختصام الأوس والخزرج لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، المهم بعد شهرٍ تقريبًا والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيه وحيٌ حتى يعلم الناس أن النبي لا يأتي بقرآن من عنده، لو كان القرآن من عنده لكان أول ما قال أن يُبرئ زوجته، لكنه سكت لأن الله سكت، شهرًا من الأسى قضاه عليه الصلاة والسلام والناس يخوضون في عرض أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها. ثم لما بعد شهرٍ دخل عليها صلى الله عليه وسلم في بيت أبويها وأم رومان وأبو بكرٍ عندها وهي تبكي، فقال لها ( يا عائشة إن كنت قد ألممت بذنبٍ فاستغفري الله )، وأخذ يعرض عليها الأمر، فقالت رضي الله عنها وأرضاها: والله إن قلت أنني بريئة لن تصدقوني ولكن أقول كما قال العبد الصالح –نسيت اسم يعقوب على شهرته- { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ {18} } [يوسف: 18]، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه الوحي، فإذا نزل عليه الوحي تصبب منه العرق كأنه في يومٍ صائف رغم أنه في يوم شاتٍ، ثم قال لها بعد أن نزل عليه الوحي { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } [النور: 11] إلى آخر الآيات في سورة النور المتعلقة بالحدث، قال رسول الله ( يا عائشة أبشري فقد برأك الله )، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاحمديه، فرفضت أن تقوم تدللا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهارًا لمكانتها، وقالت: لا أحمد إلا الله، فنجاها الله جلّ وعلا من حادثة الإفك، وبرأها الله تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات.(17/89)
وبرأ صفوان بن المعطل وقال جلّ وعلا فيما قاله { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } [النور: 26]، ولم يقل جلّ وعلا -وهو أعلم- أولئك مبرءون مما قالوا، قالها في صيغة المضارع ولم يقلها في صيغة الماضي مما يدل على أنه سيبقى في الناس –والعياذ بالله- من يخوض في عرض هذه الطاهرة التي برأها الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات وهو ما هو حاصلٌ من بعض الفرق.
الذي يعنينا براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُسنِدٌ رأسه الشريف إلى صدرها ونحرها رضي الله عنها وأرضاها، وجمع الله بين ريقه وريقها أنها أعطته المسواك قبل أن يموت صلوات الله وسلامه عليه ومات في بيتها ودُفن في حجرتها رضي الله عنها وأرضاها وعن جميع أمهات المؤمنين.
( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفصة بنت عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – وكانت قبله عند خُنَيس بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة، وقد شهد بدرًا. ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، فأتاه جبريل – عليه السلام - فقال: ( إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة ).
وروى عقبة بن عامر الجُهني قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر، فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنتِه بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( إن الله – عز وجل – يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لِعمر )، توفيت سنة سبع وعشرين. وقيل: سنة ثمان وعشرين عام أفريقية )(17/90)
عام أفريقية يعني عام فتح أفريقية، أما حفصة فهي بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما أن عائشة بنت الصديق، فعائشة وحفصة يتفقان في أنهما ابنتا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفصة رضي الله عنها وأرضاها تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة زوجها، وكان أبوها عمر قد عرضها على عثمان فأخبره أنه لا حاجة له في النساء، ثم عرضها على أبي بكرٍ فسكت، فوجد عمر في نفسه شيئًا على أبي بكر، فلما خطب النبي عليه الصلاة والسلام حفصة أفصح أبو بكرٍ عن السبب الذي جعله يمتنع على أن يقبل حفصة عندما عرضها عليه عمر، وقال "النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها".
( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها: رَمْلَةُ بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي بأربعمائة دينار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة، وولي نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاصي. توفيت سنة أربع وأربعين )
هذه أم حبيبة بنت أبي سفيان، كما كانت عائشة وحفصة بنت وزيريه فإن أم حبيبة عندما تزوجها على أنها بنت من؟ بنت عدوه أبا سفيان قبل أن يسلم أبو سفيان، ولا أريد أن أدخل في أم حبيبة أكثر مما أدخل في القضية التي دائمًا نؤكد عليها قضية القلوب وتغيرها، فزوجها عُبيد الله بن جحش خرج من مكة مُسلمًا إلى الحبشة فارًا بدينه، وهناك في الحبشة تنصر ومات على الكفر، فالقلوب بيد الرحمن جلّ وعلا.(17/91)
لكنني سأذكر سببًا واحدًا مهمًّا من أسباب سوء الخاتمة، من أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، أعظم أسباب سوء الخاتمة الخوض في أعراض الناس، كان أحد الصالحين –وأحيانًا أترك الأسماء عمدًا- محبوبًا من طلابه، وهذه ذكرها الذهبي في الأعلام، وذكرها ابن خلان –إن لم أنسَ- في وفيات الأعيان، والشاهد فكان رجلٌ يحسده على هذه المنزلة من طلابه، فكان إذا جاء الشيخ يحدث يقوم هذا ويُشغب عليه في الحلقة، فقام ذات يومٍ والناس مُستمعون للشيخ فقام، وهذا الذي قام حافظٌ للقرآن حسن الصوت به، فلما أغضب الشيخ قال الشيخ: اجلس فوالله إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام , ثم قدر لهذا الرجل الذي شغب على الشيخ أن يزور بغداد رجلٌ من النصارى من السفراء من القسطنطينية من سفراء الروم، فلما أراد الرجوع أحب هذا الذي يحفظ القرآن وندي الصوت به أن يرى بلاد الروم فذهب معه إلى القسطنطينية، فلما ذهب معه إلى القسطنطينية أعجبه عالمهم وترك الإسلام وبقي على النصرانية، ثم إن أحد تجار المسلمين دخل القسطنطينية فرآه وعرفه وكان يعرف جمال صوته بالقرآن، فرآه وهو على باب إحدى الكنائس يهش الذباب عن نفسه، فقال له: يا هذا ما فعل الله بك؟، قال: أنا كما ترى، قال: إنني كنت أراك حافظًا للقرآن فما بقي في صدرك منه؟، قال ما بقي منه ولا آية إلا آيةً واحدة ثم مات –والعياذ بالله- على الكفر، فصدقت عليه مقولة الشيخ لما كان يراه في الحلقة يُشغب عليه أنه قال له: إني لأخشى أن تموت على غير ملة الإسلام.(17/92)
والإنسان إذا سلم قلبه من الحقد على الناس وسلم لسانه من الخوض في أعراضهم كان أدعى إلى أن يُوفق إلى حسن الخاتمة، وقد كان عندنا في المدينة -مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم- رجلٌ يمني، وهذا من دلائل حسن الخاتمة، وقد ذكرت هذا في بعض المحاضرات، كان رجلٌ يمني ليس له علاقة بالناس، يدخل إذا جاء وقت الصلوات ويخرج وليس له أي ارتباط بالناس، وكان لا يقرأ ولا يكتب، فكان إذا دخل المسجد يأتي لأي إنسان ليس عنده شيء –يعني خالٍ- فيأخذ مصحفًا ويُعطيه للرجل الخالي ويقول: اقرأ عليَّ من كلام ربي ويستمع، والناس يعرفونه خاصةً من يُكثر الصلاة في الحرم , فيأتي على هذه الطريقة سنين، حتى كان عام 1418هـ دخل الحرم فرأى رجلا خاليًا فأخذ مصحفًا كالعادة وأعطاه للرجل هذا وقال اقرأ عليَّ من كلام الله، فلما قال له اقرأ عليَّ من كلام الله مرَّ بآية سجدة، لما مرَّ بآية سجدة سجد الاثنان القارئ والأخ اليمني، فانتهى القارئ من التسبيح ورفع رأسه وبقي الأخ اليمني ساجدًا وقبضه الله جلّ وعلا وهو ساجدًا، فمات في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هيأة ليس بعدها ولا أشرف منها هيأة وهي هيأة السجود لرب العالمين.
نحن نتكلم عن الظاهر، أما سريرته فأمرها إلى الله، لا نحكم لأحدٍ بجنةٍ ولا نار، لكن أقول هذا عُبيد الله بن جحش يأخذ زوجته ويفر من مكة إلى الحبشة بدينه ثم يتنصر، ثق تمامًا أنه لا يهلك على الله إلا هالك، دواخل القلوب هي من أعظم أسباب سوء الخاتمة، لكن الله جلّ وعلا أكرم وأرحم أن يكون أحدٌ صادق معه ثم إن الله جلّ وعلا يقدر ويُميته ميتة السوء، لكن من صدقت سريرته تصدق خاتمته، ومن صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، أعيد، من صدق إلى الله فراره صدق مع الله قراره، من صدق إلى الله فراره -أي صادق في أوبته إلى الله- صدق مع الله قراره، أي يبقى مع ربه جلّ وعلا، المقصود بيبقى مع ربه يعني في إيمانه بربه تبارك وتعالى.(17/93)
فلما مات زوجها وتنصر –أي أم حبيبة- أكرمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن طلبها وخطبها وتزوجها عليه الصلاة والسلام وسيقت له من الحبشة.
( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع بالمدينة، وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاة، وقيل: إن ميمونة آخرهن )
هذه أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، لما مات زوجها استرجعت، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واعوضني خيرًا منها، وكانت تقول في نفسها من يخلفني في أبي سلمة، فلما مات خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذرت بثلاث حجج، اعتذرت بأنها مُصبِية -أي لديها صبيان كثيرون-، وأنها غيرة –أي شديدة الغيرة-، وأنها ليس لها عائلٌ يزوجها، فأما التزويج فاختلف في من زوجها وقيل عمر بن الخطاب، وأما كونها مُصبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( هم إلى الله وإلى رسوله )، وأما أنها غيره فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( أنا أسأل الله أن يذهب غيرتك )، فتزوجها عليه الصلاة والسلام , وابنها عمرو بن سلمة الذي طاشت يده بالصفحة وقال عليه الصلاة والسلام له ( يا غلام سم الله كل بيمينك وقل مما يليك ) ابن أم سلمة، وعمر هذا ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم من أبنائها عمر فكان يأكل النبي عليه الصلاة والسلام فطاشت يده في الصفحة، وأنت تسمع هذا الحديث بكثرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( يا غلام سم الله كل بيمينك وقل مما يليك )، هذا قاله لربيبه عمر بن أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها.
((17/94)
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينب بنت جحش بن رئاب بن يَعْمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَد بن عدنان، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها، فزوجها الله إياه من السماء، ولم يعقد عليها، وصح أنها كانت تقول لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: " زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات ". توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع )
هذه زينب بنت جحش التي قالت مُفتخرةً "زوجكن أهليكن وزوجني الله جلّ وعلا من فوق سبع سماوات"، هذه باختصار زينب، النبي عليه الصلاة والسلام كان قبل البعثة تبنّى زيد بن حارثة، فكان يُسمّى عند الناس زيد بن محمد، فلما قال الله جلّ وعلا { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب: 40]، وقال { ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } [الأحزاب: 5] أصبح يُدعى زيد بن حارثة باسمه الحقيقي.(17/95)
زيدٌ هذا تزوج زينب بنت جحش ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تزوجها كانت ترى في نفسها أنها أعلى منه لأنه هو مولى وهي قرشية، فأخبر الله نبيه أن زينب هذه التي هي الآن تحت زيد ستصبح زوجةً لك، أعيد لأن هذه آية شغب حولها المُستشرقون كثيرًا، الله جلّ وعلا أخبر نبيه وزينب تحت زيدٍ أنها ستكون زوجته، فجاء زيدٌ يشتكي زوجته زينب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال له عليه الصلاة والسلام ( اتق الله وأمسك عليك زوجك )، فقال الله جلّ وعلا في كتابه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا {36} وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا {37} } [الأحزاب: 36، 37]. من القائل؟ النبي صلى الله عليه وسلم، من الذي أنعم الله عليه وأنعم عليه الرسول؟ زيد، { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } ما الذي أخفاه في نفسه صلى الله عليه وسلم؟ أنها ستكون زوجتك، { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } ما معنى { مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ }؟ الذي سيظهره الله وسيقع وسيكون وهو زواجك من زينت، { وَتَخْشَى النَّاسَ } تخشى الناس في ماذا؟ تخشى الناس أن يقولوا تزوج محمدٌ ابنة(17/96)
ابنه، ابنة ابنه على ما كانوا يعتقدونه في الجاهلية. { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ } وليس في القرآن ذكرٌ لأحدٍ من الصحابة إلا زيد، وليس في القضية فضلٌ في ذاته، وإنما القضية قضية حادثة عين، فلابد أن يُذكر باسمه حتى ينجلي ما في القلوب، وإلا أبو بكرٍ وعمر وغيرهما ممن هو أفضل من زيد على فضل زيدٍِ لم يُذكر اسمهم صراحة في القرآن، لم يُذكر في القرآن إلا النبيون وثلاث أو أربعة اختلف فيهم كلقمان وعيسى بن مريم لحادثة عينٌ به هو، والنساء لم يُذكر في القرآن إلا مريم ابنة عمران لشرفها وفضلها، والمقصود هذا معنى قول الله جلّ وعلا { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا {37} }. هذا ما يتعلق بزينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها.
( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وكانت تسمى "أم المساكين"؛ لكثرة إطعامها المساكين، وكانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: عبد الطفيل بن الحارث، والأول أصح. وتزوجها سنة ثلاث من الهجرة، ولم تلبث عنده إلا يسيرًا: شهرين أو ثلاثة )
لم تلبث زينب بنت خزيمة بن الحارث عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهرين، وورد في بعض الروايات أنها لبثت عنده ثمانية أشهر، وكونها لم تلبث مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذه المدة اليسيرة لذلك المصادرالتاريخية شحيحة بالكثير من أخبارها، لكن أنت كطالب علم تضمها مع من الآن؟ تضمها مع خديجة لأنها هي وخديجة فقط اللتان ماتتا في عصمته صلى الله عليه وسلم أو في حياته صلى الله عليه وسلم، أما باقي أمهات المؤمنين كلهم ماتوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، أما زينب هذه وخديجة ماتتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
((17/97)
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب ابن عائذ بن مالك بن المصطلق الخزاعية، سُبِيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها، وتزوجها في ست من الهجرة، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين ).
هذه جويرية بنت الحارث الخزاعية، سُبيت في بني المصطلق وكان أبوها زعيمًا، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم تريد أن تدفع ثمن لتخرج من الأسر، جمعت يسيرًا بقي عليها، ودخلت على النبي عليه الصلاة والسلام تطلب منه زيادة مال، فلما رآها جعلها الله جلّ وعلا يطلبها على أنه يساعدها ويتزوجها فوافقت رضي الله عنها وأرضاها، فتزوجها، فلما علم الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها تركوا من بأيديهم من الأسرى من بني المصطلق، فكانت امرأة عظيمة البركة على قومها، ثم جاء أبوها الحارث إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلبها فخيرها النبي عليه الصلاة والسلام ما بين البقاء معه أو بين أن تذهب مع أبيها فاختارت البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم الحارث بعد ذلك وجعله النبي عليه الصلاة والسلام على صدقات قومه.
تابع ذكر أزواجه - خدمه - أفراسه صلى الله عليه و سلم :
كنا قد انتهينا في ذكر أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، وتكلمنا عن أكثرهن، ولم يبق لنا إلا الحديث عن زوجتين من أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.
( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: صفية بنت حيي بن أخطب بن أبي يحيى ابن كعب بن الخزرج النضرية، من ولد هارون بن عمران – أخي موسى بن عمران عليهما السلام – سُبيت في خيبر سنة سبع من الهجرة، وكانت قبله تحت كنانة ابن أبي الحقيق، قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، وتوفيت سنة ثلاثين. وقيل سنة خمسين )(17/98)
هذه صفية بنت حيي بن أخطب زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين، حيي ابن أخطب أحد زعماء يهود، ولما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة رآه حُيَيٌّ فعرف أنه نبيٌّ، واليهود كانت تعرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما قرأت عنه في التوراة، وهي حدثت بعد ذلك –أي صفية– أن أباها وعمّها التقيا بعد أن رأيا النبي عليه الصلاة والسلام،فقال عمُّها لأبيها: أهو هو؟ –يسأل–، قال: نعم أعرفه بوجهه –أو بنعته–، قال: فما في صدرك له؟، قال: عداوته ما بقيت، وهذا مصداق قول الله جلّ وعلا: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ } [البقرة: 89]،
وقال تبارك وتعالى { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146، الأنعام: 20]، أي أن أهل الكتاب يعرفون النبي عليه الصلاة والسلام لا يُخطئون في وصفه كما يعرف الرجل منهم ابنه، والرجل عادةً لا يُخطئ في معرفة ابنه. ثم إنه ذهب إلى خيبر في الإجلاء الأول وهو من بني النضير، فلما ذهب إلى خيبر وقعت معركة خيبر كانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد أن كانت في سبيه، فأصبحت أمةً له، فأعتقها وجعل عتقها صداقًا لها .
واختلف العلماء رحمهم الله – من باب الفائدة الفقهية – هل يكون العتق صداقًا أو لا؟(17/99)
منهم من قال: إن هذا خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: إنه غير ذلك، والذي يعنينا في شرح السيرة هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها، وجعل عتقها صداقها سواءٌ كان هذا خاصًا به أو كان شاملا لأمته.وقد كانت جميلةً رضي الله عنها وأرضاها، وهي من ولد هارون بن عمران أخي موسى ـ على موسى وعلى هارون السلام ـ ، وقد أغضبتها بعض أمهات المؤمنين – وقد مر معنا هذا في الدرس الأول– فجاءت للنبي عليه الصلاة والسلام تبكي فقال لها عليه الصلاة والسلام ( بم تفخر عليك، فإنك ابنة نبي، وعمك نبي ) يقصد موسى ( وإنك لتحت نبي ) يقصد نفسه عليه الصلاة والسلام.ولما تزوجها عليه الصلاة والسلام في منصرفه من خيبر أراد أن يدخل عليها على مقربة من خيبر فامتنعت وأبت، ثم لما تقدم قليلا نحو المدينة قبلت ودخل عليها صلى الله عليه وسلم، فسألها عن المانع الأول فقالت: "خشيت عليك من اليهود"، مما يدل على أنه وقر في قلبها محبة الدين ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خشي أبو أيوب الأنصاري على نبينا عليه الصلاة والسلام يوم أن دخل عليها فبات يحرصه خوفًا أن يكون بها شيءٌ من غدر يهود وهو لا يعلمها، ثم تبين مدى حبها لنبينا صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامها، وبقيت كذلك حتى توفاها الله جلّ وعلا، فهي زوجة نبينا في الدنيا والآخرة رضي الله عنها وأرضاها.
( وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم: ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير ابن الهرم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وهي خالة خالد بن الوليد، وعبدالله بن عباس، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف، وبنى بها فيه، وماتت به، وهو ماء على تسعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، توفيت سنة ثلاث وستين.فهذه جملة من دخل بهن من النساء، وهن إحدى عشرة، وعقد على سبع ولم يدخل بهن ).(17/100)
هذه ميمونة بنت الحارث الهلالية أخت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب، فالعباس رضي الله عنه وأرضاه عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منها الصلاة والصيام والقيام؛ فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، وهي أخت زوجته، أخت أم الفضل، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مُنصرفه من عمرة القضاء في وادٍ يُقال له سَرف على وزن كَتف، وهو وادٍ في مكة، في طريق المدينة
الخارج من مكة إلى المدينة بعد النوارية بقليل يأتي وادي سرف، وهو الآن معمور به بقالات ومحطات تأتي على يمنك وشمالك، هذا الوادي هو وادي سرف الذي تزوج فيه النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث.
وكان من فائدة زواجه بها بالنسبة للأمة أن عبد الله بن عبّاس رضي الله تعالى عنهما تُصبح هذه المرأة خالته فكان يبيت عندها، فإذا بات عندها يرى قيام النبي صلى الله عليه وسلم، فنقل عبد الله بن عبّاس كثيرًا من أخبار النبي عليه الصلاة والسلام لكونه يستطيع أن يدخل على خالته ميمونة بنت الحارث رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وقد ذكر المصنف أنها آخر أمهات المؤمنين موتًا –هذا على قول–، والقول الثاني أن آخر أمهات المؤمنين موتًا هي أم سلمة، إذًَا هناك خلاف في آخر أمهات المؤمنين موتًا هل هي ميمونة أو هي أم سلمة رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن، هذا علمٌ تاريخي لا يتعلق به حكم، كما أنهم اتفقوا على أن زينب بنت جحش هي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم موتًا بعده، ماتت بعد عشرين سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم، فهي أول نسائه لحوقًا به عليه الصلاة والسلام.
يتحرر من هذا كله أمهات المؤمنين، وقد ذكر المصنف في آخر المقال أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على سبعٍ ولم يدخل بهن، وهذا بعيدٌ بعض الشيء، والأشهر أنه على خمس أو أربع ولم يدخل بهن، منهن من استعاذت به ـ ولعل الأصح "استعاذت منه"، فقد ثبت عند البخاري ومسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ(17/101)
سَعْدٍ قَالَ : ( ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا فَلَمَّا كَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ قَالَ قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي...) ـ ومنهن من وجد في كشحها بياضًا، وأخريات لم تثبتهن كتب المصادر إثباتًا جيدًا، لكن الذي يعنينا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسعٍ من النساء، وكان يقسم –كما قلنا بالأمس– لثمان، لماذا؟ قلنا أن سودة وهبت ليلتها لعائشة رضي الله تعالى عنهن جميعًا وأرضاهن.
في عصرنا الحديث ما شغّب المُستشرقون والطاعنون بالسنة في شيء كما شغّبوا في قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتزوج هذا العدد من النساء؟(17/102)
وهذا مما يطول شرحه لكن نقوله على وجه الإجمال، لو كان النبي عليه الصلاة والسلام يريد ما يفهمه الناس من زواجه من النساء لكان إلى الأبكار أقرب منه إلى الثيب، ومع ذلك لم يتزوج بكرًا إلا عائشة، ولم يُثني –يتزوج الثانية– إلا وقد جاوز الخمسين صلوات الله وسلامه عليه، وعاش قرابة ثلاثين عامًا مع زوجته خديجة وهي أكبر منه سنُّا ولم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه، وإنما تزوج لأمورٍ متعددة وأغراضٍ، منها ما يكون إبطالا لحكم جاهلي كزواجه من زينت، ومنها ما يكون نصرةً للدين، فإن العرب في عادتها وأعرافها السابقة كانت ترى أن الصهر يقرب بين بطون القبائل، فكان صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة له خصوم وأعداءٌ في القبائل فكان يتزوج حتى يكسر ثورة غضب واجتماع القبائل عليه حتى يكون له عندهن رحمًا وصهرا فيكون هناك نوع من الحمية بالنسبة لهن أن بناتهن تحت نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ثم إننا نقول إن هؤلاء الأمهات رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن صبرن على شظف العيش، فليس في الزواج منه صلى الله عليه وسلم متاعٌ دُنيويٌّ ظاهرٌ، وإنما المكسب العظيم في أنهن زوجاته في الآخرة، ولذلك كان بيت النبي عليه الصلاة والسلام لو رفعت يدك للمست سقفه، ولو اتكأت على أحد حائطه ومددت قدمك للمست الحائط الآخر من ضيق حجرات أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن.(17/103)
ثم إنهن كما قال الله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا {28} وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب: 28، 29]، فالنبي عليه الصلاة والسلام خيّر نساءه ما بين البقاء معه والصبر على شظف العيش في الدنيا؛ لأن الله خيره هو نفسه من أن يكون ملكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا فاختار العبودية، ولم يختر الملك كما اختارها داود واختارها سليمان عليهما السلام، فبقي صلى الله عليه وسلم عبدًا يشبع ويجوع، ويمرض ويصح، وتجري عليه أحكامٌ عديدة عليه الصلاة والسلام حتى أنه كان يظهر الهلال ثلاث مرات في الشهرين الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يُوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ، فهو أكرم الخلق على الله، فلما سُئلت عائشة عن ذلك –عن طعامهم– قالت "الأسودان، التمر والماء".
فلم يكن مما قاله المستشرقون شيء، وإنما صبرن أولئك الأمهات وقدمن نماذج إنسانية فريدة، ومنهن من اشتهرت بالصلاة والصيام، ومنهن من اشتهرت بحب المساكين، ومنهن من اشتهرت بالعلم، تنوع عطاؤهن حتى يستفيد المجتمع من قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنزل الوحي،
ولذلك قال حسان يذكر حجرات أمهات المؤمنين ونزول الوحي عليها:
بها حجرات كان ينزل وسطه
من الله نور يستضاء ويوقد
فخرجن أمهات المؤمنين يُحدثن بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتهن، هذا ما يمكن التعليق عليه إجمالا، ونحن كما قلت من قبل مُقيدون بالمتن حول زواجه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم من أمهات المؤمنين.
ذكر خدمه صلى الله عليه وسلم :
(أنس بن مالك بن النضر الأنصاري.وهندٌ وأسماءٌ ابنا حارثة الأسلميان. وربيعة بن كعب الأسلمي.(17/104)
وكان عبد الله بن مسعود صاحب نعليه،، كان إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم. وكان عقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقودها في الأسفار.وبلال بن رباح؛ المؤذن. وسعد، مولى أبي بكر الصديق.وذو مِخمر ابن أخي النجاشي، ويقال: ابن أخته. ويقال: ذو مخبر بالباء.وبكير بن شداخ الليثي، ويقال: بكر. وأبو ذر الغفاري ).(17/105)
هؤلاء هم خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنهم قد أصابهم من الشرف ما لا يعلم قدره إلا الله، فإن الله سخرهم رضي الله عنهم وأرضاهم ليكونوا خدمٌ لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أيَّ شرفٍ يكتسبوه، فلذلك كانوا يفتخرون رضي الله عنهم بأنهم كانوا يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم، فخدمته عليه الصلاة والسلام شرفٌ عظيم، وهؤلاء يتفاوت المهام التي أوكلها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، والعاقل إذا تبوأ مكانةً يختلف اصطفاؤه للرجال من واحدٍ إلى آخر، فليس كل الناس يصلح لمهمةٍ واحدة، فقد يُحسن الرجل مهمة ولا يحسن أخرى، ولذلك تفاوتت مهام خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.فأما أنس فهو الذي جاءت به أمه وجعلته وهو صغير ووهبته للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون خادمًا له، وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بكثرة المال والولد فتحققت دعوته عليه الصلاة والسلام لأنس، ولما جاءت خلافة عبد الملك بن مروان وصلت الحجاج بن يوسف على مكة والمدينة آذى الحجاج بن يوسف أنسًا، فكتب أنسٌ رضي الله عنه إلى عبد الملك –وكان يومئذٍ أميرًا للمؤمنين– يشكو تسلط الحجاج بن يوسف عليه، وكان فيما كتبه أنس قال "لو أن رجلا من بني إسرائيل خدم موسى يومًا لعظمته بني إسرائيل، فكيف وقد خدمتُ نبينا صلى الله عليه وسلم عشر سنين"، فبعث عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يكف يده عن أنس.هذا أنسٌ رضي الله تعالى عنه، وقد كان أنس من مهامه يذهب في الحوائج اليومية، يغدو ويروح في الحوائج اليسيرة، وقد نقل لنا أنسٌ ما كان عليه الصلاة والسلام من خلق فقال "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فلم يقل لشيءٍ لم أفعله لِمَ لَمْ تفعله، ولا لشيءٍ فعلته لم فعلته"، وهذا من جميل خلقه وكريم أدبه، وحسن معاملته صلى الله عليه وسلم من الأهل والخدم والموالي وسائر الناس.(17/106)
وممن خدمه عليه الصلاة والسلام عقبة بن عامر، وهذا كان يقود له البغلة، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره لما هبت ريح أمره أن يتعوذ بالمعوذتين { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } و{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } وقال ( ما تعوّذ مُتعوِّذٌ بمثلهما ).
ومنهم بلال وهو مؤذنه، وهذا مشهور.ومنهم ربيعة بن كعب الأسلمي وكان من مهامه أنه يضع الوَضوء للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل هذا تطوعًا، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يُكافئه فقال ( يا ربيعة سلني حاجتك ) ، قال: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة، ولقد وجد ربيعة من الشرف والحَظْوَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والفخر بخدمته له في الدنيا ما جعله يتطلع لأن يكون رفيقه في الجنة، فقال له صلى الله عليه وسلم ( فأعني على نفسك بكثرة السجود )، فدل على أن كثرة الصلوات مما تجعل العبد قريبًا من جوار نبينا عليه الصلاة والسلام.
ومن خدمه عليه الصلاة والسلام بُكير بن شدّاخ الليثي، وكان صغيرًا، وقد نقل الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى عنه قصةً مفادها أن بكيرًا هذا كان يبعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيوت أمهات المؤمنين، فلما بلغ واحتلم جاء للنبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله إنني بلغت مبلغ الرجال فلا تبعث بي إلى(17/107)
نسائك، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من صدقه، وقال له ( اللهم صدّق قوله وبلغه الظفر )، فكانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مُتحققة فيه، فلما كانت ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرج المجاهدون في أصقاع الأرض يحملون لواء الدين، كان ممن خرج أحد الأنصار فترك زوجته، وكأن الأنصاري هذا أوصى بكيرًا بأهل بيته، فكان هناك يهودي يأتي إلى تلك المرأة ويراودها عن نفسها، فقام بكيرٌ فقلته.فلما قتله وُجد هذا اليهودي مُلقًا في أحد أحياء المدينة مدرجًا في دمائه فحُمل، فقام عمر رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين على المنبر فخطب خطبةً ثم قال: أنشد الله كل رجلٍ يعرف عن هذا القتيل شيئًا إلا أخبرنا، فقام بكيرٌ والناس يسمعون وقال: أنا قتلته يا أمير المؤمنين، فتعجب عمر من صراحته وجرأته، قال: ما دفعك إلى هذا؟ فأخبره القصة، فتذكر عمر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتركه ولم يصنع به شيئًا إكرامًا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه جعل دم اليهودي في هذه الحالة أنه مُهدر.والذي يعنينا أن بكيرًا هذا خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، فهؤلاء جميعًا رضي الله عنهم وأرضاهم شرفوا بخدمة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم:
(زيد بن حارثة بن شُراحيل الكلبي، وابنه أسامة بن زيد، وكان يقال لأسامة بن زيد: الحب بن الحب.(17/108)
وثوبان بن بجدد؛ وكان له نسب في اليمن.وأبو كبشة من مُولدي مكة. يقال: اسمه سُليم، شهد بدرًا، ويقال: كان من مُولدي أرض دوس.وأنسةُ مُولدي السراة.وصالح، شقران. ورباح، أسود. ويسارٌ، نوبي.وأبو رافع، واسمه أسلم. وقيل: إبراهيم، وكان عبدًا للعباس، فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه.وأبو مويهبة، من مُولدي مزينة. وفضالة، نزل بالشام.ورافع كان لسعيد بن العاص فورثه ولده، فأعتقه بعضهم، وتمسك بعضهم، فجاء رافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه، فوُهب له، وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.ومِدعم، أسود، وهبه له رفاعة بن زيد الجذامي، وكان من مولدي حِسمي، قتل بوادي القرى.
وكركرة، كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم.وزيد، جد هلال بن يسار بن زيد، وعُبيد.وطهمان، أو كيسان، أو مهران، أو ذكوان، أو مروان.ومأبور القبطي، أهداه المقوقس.وواقد، وأبو واقدٍ، وهشام، وأبو ضميرة، وحنين، وأبو عسيب، واسمه أحمر، وأبو عبيد.وسفينة كان عبدًا لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقته، وشرطت عليه أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم حياته، فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء المشهورون، وقيل: إنهم أربعون.
ومن الإماء: سلمى أم رافع، وبركة أم أيمن، ورثها من أبيه، وهي أم أسامة بن زيد، وميمونة بنت سعدٍ، وخضرة، ورضوى )
ذكر المصنف هنا موالي النبي صلى الله عليه وسلم، والمولى في اللغة تُطلق على أربعة أو أكثر –وهذا من الفوائد–:
· تُطلق على السيد، فتقول للغلام: أين مولاك؟
· وُتطلق على العبد إذا أُعتق فيُصبح ولاؤه لسيده، فيُقال له: مولى بني فلان، أي أن ولاءه لهم، كان عبدًا عندهم ثم أُعتق، وهذه هي التي أرادها المصنف حينما قال ( ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم )(17/109)
· وتُطلق على النصير والظهير، ودليلها من القرآن { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا
مَوْلَى لَهُمْ } [محمد: 11]، أي أن الله نصيرٌ وظهيرٌ للمؤمنين، والكافرين ليس لهم ظهيرٌ ولا نصيرٌ.
· وتُطلق على الرب جل جلاله، ودليلها من القرآن { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ
أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } [الأنعام: 62]، فمولاهم هنا بمعنى ربهم، ليست بمعنى نصيرهم لأن الله ليس نصيرًا ولا ظهيرًا للكفار.
هذه كفائدة لغوية، أما الموالي المقصود بها هنا من كان عبدًا ثم أُعتق، وقد بدأ المصنف بزيد بن حارثة وابنه أسامة، فأما زيدٌ وأسامة فهما حبَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أسامة حبًّا جمًّا، وأسامة هو الذي طلبت قريشٌ منه أن يتشفع عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال له ( أتشفع يا أسامة في حدٍ من حدود الله )، لعلم المخزوميين من قريش بمكانة أسامة عند النبي عليه الصلاة والسلام.(17/110)
وقد كان زيدٌ أبوه أبيضًا، وكان أسامة أسمر اللون، فكان هذا يثير التساؤلات عند الناس، وكان هذا يحدث أسًى في قلبه صلى الله عليه وسلم، أي التساؤلات التي يثيرها الناس من كون أسامة يختلف لونه عن لون أبيه، حتى ناما ذات يومٍ بجوار بعضهما وظهرت أقدامهما دون أن تظهر وجوههما فجاء رجلٌ من بني مدلج له علمٌ بالقفاية والأنساب والأثر، فلما نظر إلى قدمي أسامة وقدمي زيد وهو لا يعرف أن هذا أسامة وهذا زيدٌ ابنه، وإنما نظر إلى الأقدام بعضها سمراء وبعضها بيضاء، قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فتهلل وجهه صلوات الله وسلامه عليه وظهر الفرح عليه ودخل على عائشة تبرق أسارير وجهه وهو يقول ( أما علمت أن فلانا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد فقال كذا وكذا )، لأن الإنسان إلى أحب شيئًا أحب ما يتعلق به وأحب ما يفرحه، وإذا أبغض شيئًا –عياذًا بالله– أبغض ما يتعلق به، فكان صلى الله عليه وسلم مُحبًّا لزيدٍ ومُحبًّا لأسامة، فكان يحب أي شيء يدخل الفرح أو يظهر الكرامة أو الفضل لأسامة ولزيدٍ رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.
فهما موالي النبي عليه الصلاة والسلام، وزيدًا كان عبدًا للنبي عليه الصلاة والسلام أهدته إياه زوجته خديجة ثم أعتقه صلوات الله وسلامه عليه.
وممن ذكر المصنف رحمة الله عليه من الموالي سفينة، واسمه على الأشهر مهران، وأما سفينة فلقبٌ قيل إن النبي عليه الصلاة والسلام أطلقه عليه كما رواه الإمام أحمد بسندٍ حسن، كان يحمل المتاع فألقى الصحابة رضي الله تعالى عنهم متاعهم في ردائه، فكأن الرداء حمل أكثر من المعهود، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( بل أنت سفينة )، كناية على أنه يحمل شيئًا غزيرًا، فقال سفينة: فلو أنني حُمِّلت حمل بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة لحملتها من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
سفينة وإذعان الأسد له :(17/111)
وسفينة هذا أدرك زمن عثمان، وركب البحر فرمت به ألواح البحر، كان مُتكئًا على لوح قارب في البحر فضربتهم الأمواج ورماه البحر إلى أجمة –يعني غابة–، فلما رماه البحر إلى أجمة ضل الطريق فرأى الأسد، فلما أبصر الأسد –والعرب تُسمي الأسد أبا الحارث–، فلما رآه سفينة أخذ ينظر إلى الأسد ويقول: يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطأطأ الأسد رأسه وأقبل على سفينة وحمله على عاتقه وخرج به من الغابة حتى دله على الطريق، ثم رجع قليلا، ثم أقعى على ذنبه، ثم أخذ يهمهم كأنه يودعه،
فهذا كما قال العلماء وحشٌ كاسرٌ وسبعٌ مُفترس لما علم أن الذي بين يديه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تغير طبعه وتغير حاله، فالمؤمنون أولى أن يكونوا أرق قلوبًا وعاطفة مع بعضهم البعض في المقام الأول، لماذا؟ لأن يجمعني ويجمعك شهادة التوحيد ومحبتنا لرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وممن كانوا من موالي النبي صلى الله عليه وسلم كُثر، لكن ذكر المصنف بعضًا منهم، ثم ذكر زيدًا وذكر أسامة وذكر سفينة، وهؤلاء أشهر موالي النبي عليه الصلاة والسلام.
وذكر من النساء أم أيمن، وهي اسمها بركة، وهي إحدى حواضن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها، وهي زوجة زيدٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ذكر أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أول فرس ملكه: السكب، اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه السكب، وكان أغر محجلًا طلق اليمين، وهو أول فرس غزا عليه، وكان له سبحة، وهون الذي سابق عليه، فسبق، ففرح به.(17/112)
والمرتجز: وهو الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له خزيمة بن ثابت، والأعرابي من بني مرة.وقال سهل بن سعد الساعدي: " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندي ثلاثة أفراس: لزاز، والضرب، واللحيف. فأما لزاز: فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف: فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الضرب: فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي.وكان له فرس يقال له: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر، فحمل عليه، فوجده يباع.وكانت بغلته الدُلدُل، يركبها في الأسفار، وعاشت بعده حتى كبِرت وزالت [أسنانه]، وكان يجش لها الشعير، وماتت بينبع، وحماره [عُفَير] مات في حجة الوداع.
وكان له عشرون لقحة بالغابة، يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان فيها لقاح غزار: الحناء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والريا.وكانت له لقحة تدعي بردة، أهداها له الضحاك بن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان.وكانت له مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل. والشقراء.وكانت له العضباء، ابتاعها أبو بكر من نعم بني الحريش، وأخرى بثمانمائة درهم، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعمائة درهم، وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم المدينة رباعية،وهي القصواء والجدعاء، وقد سُبقت، فشق على المسلمين.
وكان له منائح سبع من الغنم: عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف.وكان له مائة من الغنم )
هذه الأخبار جملةً بعضها قد لا يكاد يثبت، لكن الذي يعنينا حرص سلف الأمة رضي الله عنهم ورحمهم الله على كل ما يتعلق بنبينا صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم دوّنوا ما كان يركبه صلى الله عليه وسلم وما كان يملكه من الدواب، وهذا أمرٌ محمودٌ لهم، وقد كان السلف كذلك من عنايتهم بكل ما يتعلق به صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يؤكد ما قلناه من قبل أن من أحب شيئًا أحب ما يتعلق به.(17/113)
أما ما ذكره المصنف فبالنسبة لك كطالب علمٍ لا يلزم حفظ هذا كله، لكن هو المقصود عندما تتذكر الأحاديث تربط الأحاديث الفقهية أو غير الفقهية بما سمعت الآن في السيرة، فمثلا حديث خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرسًا من رجلٍ من بني مرة لم يكن هناك شاهد، فكأنهما اختلفا في أمر فطلب الأعرابي شاهدًا يشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى منه هذا الفرس، لأن النبي عليه الصلاة والسلام اتفق معه على سعر، ثم أن الأعرابي كأنه طمع فقال ما بعتك بهذا السعر أريد سعرًا أرفع، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( إنك بعتني إياه، سبق أن انتهينا من الأمر )، فلم يجد شاهدًا، فجاء خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقال: أنا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتراه منك بكذا وكذا، فلما شهد قال له عليه الصلاة والسلام ( كيف تشهد؟ ) وهو يعلم أنه لم يحضر، فقال: يا رسول الله إنني أصدقك بخبر السماء ـ أو كلمةٍ نحوها ـ أفلا أصدقك أنك اشتريت فرسًا من أعرابيٍّ بكذا وكذا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.(17/114)
وهذا يُسمى –إن صح التعبير– في علم الاجتماع، الإنسان أحيانًا يرزقه الله موهبة انتهاز الفرص الحسنة، وذكرنا على هذا أمثلة من السيرة كأبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل المدينة كان فيها حيَّان عظيمان، الأوس والخزرج، فكان راكبًا على الناقة فيقول له الخزرج: هلم إلى هاهنا يا رسول الله، يقول ( خلو سبيلها فإنها مأمورة )، ويقول الأوس نفس القضية ويقول عليه الصلاة والسلام ( خلو سبيلها فإنها مأمورة )، فلما بركت الناقة وقامت تركها النبي صلى الله عليه وسلم حتى تبرك ولم ينزل، ثم قامت وجالت جولة ثم رجعت وبركت في موطنها الأول، هنا لم ينزل عليه الصلاة والسلام حتى لا يقولن قائل لو نزل عند الأوس لقال الخزرج مال علينا من أول يوم، ولو نزل عند الخزرج لقالت الأوس ذلك وبقي على الناقة. فجاء أبو أيوب الأنصاري، وهذا الذي نتحدث عنه عن انتهاز الفرص، فعمد إلى متاع النبي عليه الصلاة والسلام وأدخله بيته، فلما أدخله بيته حُسم الأمر، فلما جاء الناس المجاورون للأرض التي أصبحت بعد ذلك مسجدًا يقولون: يا رسول الله هاهنا هاهنا قال عليه الصلاة والسلام ( المرء مع رحله )، فظفر أبو أيوب رضي الله عنه وأرضاه بسكنى النبي عليه الصلاة والسلام عنده من دون غيره من الأنصار لتبكيره وانتهازه للفرصة الحسنة هنا.
كذلك خزيمة بن ثابت، كل الصحابة أصلا من أبي بكر فمن دونه –وليس فيهم من يُسمى بالدون– يصدقون النبي عليه الصلاة والسلام بخبر السماء، لكن خزيمة استغل الأمر أكثر من غيره وقال: أنا أشهد، ومعلومٌ لما يُقال هذا الأمر النبي عليه الصلاة والسلام لم يرد شهادته، فظفر بأن شهادته بشهادة رجلين رضي الله عنه وأرضاه، وهذه من المناقب المحمودة في الرجال.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
و إن درت نياقك فاحتبلها فلا تدري الفصيل لمن يكون(17/115)
هذه أسباب يضعها الله تبارك وتعالى في الناس، هذا يصيب وهذا يُخطئ، لكن هذه سنن الله في الخلق، وإذا أراد الله شيئًا هيَّأ أسبابه.
ونقف عند العضباء وهي القصواء لمُسمًّى واحد،
وهي الناقة –إذا صح التعبير– الرئيسة التي كانت تحمل النبي عليه الصلاة والسلام، والتي حملته في الهجرة، وحملته في يوم عرفة، حلمته في الحج وحملته في الهجرة، وهذه الناقة كانت لا تكاد تُسبق، فجاء أعرابيٌّ بقعود فسابق هذه الناقة وسبقها، فلما سبقها شق ذلك على الصحابة، لماذا شق على الصحابة؟، نُعيد نفس القاعدة، إن من أحب شيئًا أحب ما يتعلق به، الصحابة ما الذي يعنيهم أن قعودًا يسبق ناقة؟! لا يعنيهم شيءٌ، لكن شق عليهم وتغير حالهم أن هذه الناقة ناقة من؟ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هنا جاء التأديب النبوي للأمة،
وهذا من أعظم وسائل تربية الناس على التوحيد أن يُربوا عمليًّا، فإن متون التوحيد على جلالة قدرها مما دونه العلماء أمرٌ عظيم لا خلاف فيه، لكنه لا يُدرس التوحيد بشيءٍ أكثر من تدريس كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة التوحيد، الآن ناقة تُسبق أين التوحيد في ناقةٍ تُسبق؟، فلما سُبقت الناقة وتغير وجوه الصحابة قال صلى الله عليه وسلم ( إنه حقٌّ على الله ألا يرفع شيئًا إلا وضعه )، لا يرتفع شيءٌ إلا وضعه الله .(17/116)
هذا هو التوحيد، أين التوحيد؟، الشمس والقمر فتنةٌ للناس، ولذلك كتب الله على الشمس والقمر الكسوف والخسوف حتى يُعلم أنا مهما بلغت قابلة للنقصان، وجهه صلى الله عليه وسلم ليس هناك وجهٌ أشد نورًا من وجهه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يُشج وتُكسر الرباعية وينزل الدم، لأنه مهما بلغ فهو وجه مخلوقٍ، كل من حولك من العظماء يريك الله جلّ وعلا فيهم آية تدل على أنهم بشر تجري عليهم أحكام البشر، انظر إلى جمعٍ من الممثلين والممثلات ممن يوصفون بالجمال، غالبهم يموت بمرضٍ يشوه جماله، حتى آخرهم موتًا، كنت أدرس في المدينة، آخرهم موتًا –ولا أتكلم عن أسماء– عفا الله عنه وغفر الله له، الجنة والنار ليس لنا فيها سبيل، هذا الرجل كان فتنة في زمانه قديمًا لكثيرٍ من الصبايا والنساء، فلما قربت وفاته دخلته أمراض حتى تغير وجهه حتى إن أهله كانوا يخفون وجهه عن الناس، حتى مات ووري في جنازة مستورة حتى لا يرى الناس وجهه بعد أن رأوه أنه كان فتنة في السابق، فسنة الله في خلقه أن كل شيءٍ مهما عظم يعتريه النقص، قال الله جلّ وعلا { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [القصص: 88] ، وقال سبحانه { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن: 26، 27].(17/117)
فكل عظيمٍ مهما ارتقى فينزل، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما ساد الجزيرة ودخل مكة فاتحًا وخطب الناس في خطبة الوداع وبلغ الأمر منتهاه مرض وأصابته الحمَّى وأصبح وهو سيد الخلق الذي جاهد في أرجاء الجزيرة كلها يعجز أن يصل إلى المسجد، ثم كان عليه الصلاة والسلام أفصح من نطق الضاد وأفصح الفصحاء وسيد البلغاء يعجز أن يتكلم ويدعو لأسامة بصوتٍ مرتفع، بل يصل إلى أنه يرى السواك –كما قلنا قبل درسين– ولا يستطيع أن يقول أعطوني السواك، فسبحان ربنا الذي لا شيء مثله، ولا نظير له ولا ند، وهو الذي يرينا عظمته وجلاله وكماله وقدرته، وأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، يرينا هذه الآية في كل غدوة ورواح، لكن المتعظين بتلك الآيات قليل، جعلني الله وإياكم من أولئك القليل.
هذا ما يتعلق سبق القصواء من قبل القعود الذي مع الأعرابي.
مما يتعلق بذكر أفراسه ودوابه عليه الصلاة والسلام أنه كان عليه الصلاة والسلام بشرٌ من الناس، يعيش كما يعيش الناس، يركب كما يركبون، ويمشي كما يمشون، ويفرح كما يفرحون، فلما سبق فرسه فرح، ولما رأى فرسًا أعجبه اشتراه، وقلما نُقل عنه البيع، البيع في حياته صلى الله عليه وسلم قليل، أما الشراء فهو كثيرٌ، فكان يشتري ما كان يعجبه، وكان يأخذ ويعطي ويفاوض ويبيع ويساوم، وسمحًا إذا باع وسمحًا إذا اشترى.(17/118)
فهذا كله يدل على أنه بشر، وقد كان القرشيون يتعجبون في أول الأمر كيف يكون هذا نبيًا ويقولون { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } [الفرقان: 7]، فأخبره الله جلّ وعلا بآياتٍ عديدة أن الدنيا ليست مكافأةً لأحد، ولو كانت مكافأةً في ذاتها فلمنعها الله جلّ وعلا أهل الكفر، فعاش نبيه صلى الله عليه وسلم بشرًا كما يعيش الناس، ونُعِّم أهل الكفر، بعضهم ينعم وبعضهم لا ينعم، تجري على الجميع أحكام الله جلّ وعلا القدرية، ولا علاقة لها بالإيمان ولا بغيره. لكن الآخرة هي دار الجزاء، فالله يقول في "الزخرف" { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33} وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ {34} وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 33–35]، فجعل الله جلّ وعلا الآخرة هي دار التقوى، ولما كان يحمل الّلبِن ويحمل أصحابه اللبن كان عمّار يحمل لبنتين لبنتين، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم عمار أنه يحمل لبنتين لبنتين فقال ( ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية )، ثم قال ( اهتدوا بهدي عمّار )، الشاهد منه لما أراد أن يبث فيهم العلاقة الأخروية قال لهم عليه الصلاة والسلام يدعو ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة ).
فالمؤمن وطالب العلم في المقام الأول لا يجعل من العلم حظًا للكسب الدنيوي، وإنما يجعل العلم الذي علم به سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وفقهه وما إلى ذلك طريقًا إلى الآخرة، وكلما كان للإنسان حظٌ من الدنيا بعلمه قل حظه في الآخرة وقل قبول علمه عند الناس في الغالب.(17/119)
العلامة الألباني رحمه الله تعالى وغفر له لما بُشر بأنه فاز بجائزة الملك فيصل العالمية حاول الصحفيون أن يجعلوا من فوزه بها مادةً ثريةً في الصحافة، واتصل به أحد الصحفيين ليهنئه ويسأله عن مشاعره فقال الشيخ رحمه الله { وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 35]، ثم أقفل الهاتف وأنهى المكالمة، فالعالم الرباني بحق هو من ينشد ما عند الله وأجر الآخرة، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه العلماء وطلبة العلم في المقام الأول.
فبادره وخذ بالجد فيه فإن أعطاكه الله انتفعت
وإن أوتيت فيه طويل باع وقال الناس إنك قد رأست
فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ علمت فهل عملت
وإنما العلم العمل، والله جلّ وعلا يقول { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، هذا أهم ما يمكن أن يكتسبه الإنسان في هذه المقطوعة من السيرة.
ذكر سلاحه صلى الله عليه و سلم و الانتهاء من شرح المتن :
و سنشرع ا إن شاء الله تعالى في ختم الكتاب وإتمامه، وقد يقول قائل: إنه كيف يُعطى في يوم واحد ما أعطى قرابته في أسبوع كامل؛ حتى يزيل اللبس فإن المتبقي من الكتاب أكثره أسماء تتعلق بالعشرة المبشرين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وأما ما يتعلق بصفته صلى الله عليه وسلم فهذا ما سنقف عنده كثيراً .
أسلحته صلى الله عليه وسلم :
قال المصنف رحمه الله: ( وكان له ثلاثة رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، وثلاثة قسي، قوس اسمها الروحاء، وقوس شوحط، وقوس صفراء تدعى الصفراء.وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره مكنه، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل.وكان سيفه ذو الفقار، تنفله يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وكان لمنبه بن الحجاج السهمي.وأصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيف قلعي، وسيف يدعى بتارا، وسيف يدعى الحتف.وكان عنده بعد ذلك المخدم، ورسوب، أصابها من الفلس، وهو صنم لطيء.(17/120)
قال أنس بن مالك: كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، وقبيعته فضة، وما بين ذلك حلق فضة .وأصاب من سلاح بني قينقاع درعين: درع يقال لها: السعدية، ودرع يقال لها: فضة.وروي عن محمد بن سلمة قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين: درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسعدية ).
هذا ما ذكره المصنف النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام المجاهدين، ولا يمكن إن يكون إمام المجاهدين حتى يكون لديه سلاح، وهذه الأسلحة التي ذكرت ونقلت عنه صلى الله عليه وسلم نُقلت بأسانيد تختلف منها ما هو صحيح منها ما هو دون ذلك، لكن جملة قُبلت عند العلماء وتناقلوها هذا الفكرة الأولى في الموضوع.
الفكرة الثانية في الموضوع إذا أردت أن تدون سيفه ذو الفقار هذا السيف الذي كان لا يكاد يفارقه صلى الله عليه وسلم، سيف ذو الفقار هو السيف الذي كان لا يكاد يفارقه صلوات الله وسلامه عليه بمعنى أنه كان يحمله كثيراً ولذلك قال المصنف ( وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد ) فلو سُئلت وأنت درست المتن ما معنى قول المصنف ( وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد ) أي أن هذا السيف قبل معركة أحد النبي صلى الله عليه وسلم رأى في هذا السيف ثلمة رأى فيه ماذا؟ ثلمة يعني شبه كسر، وسيف الإنسان هو الذي يدفع به عن نفسه فأُول في المنام بأنه أحد عصبته، وكان مقتل من ؟ مقتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وموته شهيداً، فالرؤيا التي رآها رأى بقراً تنحر هذا موت أصحابه ورأى في سيفه ثلمة؟ هذا هو مقتل من مقتل حمزة في أي سيف رأى هذه الرؤيا في سيفه ذي الفقار، فعلى هذا قلنا إن سيفه ذا الفقار هو السيف الذي لا يكاد يفارقه.(17/121)
الفائدة الثانية: ما لم يذكره المصنف أن له صلى الله عليه وسلم سيفاً يقال له مأثور ورثه عن أبيه، بمعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث هذا عن أبيه عبد الله أي أن مأثور في الأصل لمن ؟ لعبد الله هو والد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: وهذه هي أهم الفوائد مر معنا يا أُخي السلاح الآن ومر معنا قبله الدواب ومر معنا قبل الدواب الإماء والموالى والعبيد، السؤال أين ذهبت هذه؟ الإماء والعبيد والسلاح والدواب الذي ذكرنها جميعاً تكتب في المتن قال الحافظ بن كثير رحمه الله : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه إنه مات ولم يترك ديناراً ولا درهماً وأن درعه كانت مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، وأن جميع ما ذكر من قبل من
العبيد والإماء والدواب والسلاح قد أنجز التصدق به صلى الله عليه وسلم قبل موته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقه ) الآن انتهينا من قضية سلاحه.
فصل في صفته صلى الله عليه وسلم :
( روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم، مقبلا يقول:أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينشد قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان، حيث يقول: لو كنت من شيء سوى بشر كنت المضيء ليلة البدر.ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولم يكن كذلك غيره ) .
هذا إجمال ما ذكره المصنف هنا قد يكون في الأول بالذات فيه نظر بأن أبا بكر ما يعرف عنه الشعر، لكن جملة مقبولة لأن المعنى صحيح قد لا يصح نسبة هذه الأمور إلى أبي بكر لكن المعني صحيح، ثم جاء عن وصفه صلى الله عليه وسلم من حيث التفصيل قال ( وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض اللون، مشربًا حمرة ).(17/122)
الأبيض إما أن يكون أبيض أمهق كما سيأتي فيكون بياضه غير ممدوح ولكن بياضه صلى الله عليه وسلم كما قال علي كان مشرباً بحمرة أي مخلوطاً بحمرة ( أدعج العينين) المعني شديد سواد العينين.
( سبط الشعر ) معنى سبط الشعر أي أن شعره ليس مسترسل، الآن اليوم العامية يقولون ناعم ليس مسترسلاً ولا ملتوي أي أن شعره صلى الله عليه وسلم ليس مسترسلاً تماماً ولا ملتوي مسترسل ليس مسترسلاً خبر ليس ولا ملتوياً.
( كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة ) والمقصود الشعر الذي من أعلى الصدر إلى أدني السرة دقيق المسربة وليست المشربة مكتوبة في الكتاب بالشين وهي المسربة والمعنى الشعر الممتد من أعلى الصدر إلى أدنى الصدر .
( ليس في بطنه، ولا صدره شعر غيره ) هذا واضحة ( شئن الكفين والقدمين) هذه معناها غليظ أصابع الكفين وغليظ أصابع القدمين.
( إذا مضى كأنما ينحط من صبب، وإذا مشى كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت التفت جميعً) هذه واضحة ينحط من صبب، الصبب المكان العالي.
( كأن عرقه اللؤلؤ، ولَريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، ليس بالطويل ولا بالقصير،ولا الفاجر ولا اللئيم) هذه واضحة جداً .
( لم أر قبله ولا بعده مثله ) من القائل ؟ علي ابن أبي طالب، وفى لفظ أي لعلي بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، خاتم النبوة شعيرات ما بين الكتفين من الخلف إلى جهة الشمال أقرب، خاتم النبوة شعرات من الخلف اجتمع بعضها إلى بعض إلى الشمال أقرب، واضح وهو خاتم النبيين .
( أجود الناس كفا ) كناية عن الكرم ( وأوسع الناس صدرًا ) هذه ظاهرة (وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم )
((17/123)
وقال البراء بن عازب: صاحبي معروف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعًا ) أي لا بالطويل ولا بالقصير ( بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئًا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم ) مربوعاً قلنا واضح ما بين الطول والقصر بعيد ما بين المنكبين هذان المنكبان والمقصود أن صدره وظهره ممتد .
( له شعر يبلغ شحمة أذنيه ) هذه شحمه الأذن ( رأيته في حلة حمراء ) الحلة الثوب المكون من قطعتين، الإزار والرداء ( لم أر شيئًا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم ) لم هذه أداة نفي جاء بعدها بقط لأنه نفى شيئاً ماضي ولو أراد أن ينفي شيئاً في المستقبل يأتي بأبداً .
( وقالت أم معبد الخزاعية في صفته، صلى الله عليه وسلم ) أم معبد أين رآها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ رآها أين ؟ أم معبد في الهجرة في طريقه من مكة على المدينة مر على أم معبد، أم معبد امرأة من خزاعة كان عندها خيمتان تكري الأضياف فمر النبي صلى الله عليه وسلم عليها ونزل ضيفاً عندها وجاءت معها قصة الشاة المعروفة :
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمة أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به وأفلح من أمسى رفيق محمد
هذه أم معبد رأته وكانت خزاعية فصيحة فلما جاء زوجها سألها فأجابته بالتالي:
((17/124)
رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة ) هذه ثجلة وصعلة تحتاج إلى شرح لم تعبه ثجلة، الثجلة الضخامة في البدن والصعلة صغر الرأس، فهو عليه الصلاة والسلام ضخم إلى حد لا يعاب ولا صغير الرأس إلى حد يعاب به (قسيمًا، في عينيه دعج ) أي سواد ( وفي أشفاره غطف ) الأشفار شعر الجفن ( وفي صوته صحل ) أي في صوته بحة، الصحل هو ماذا ؟ البحة ( وفي عنقه سطع ) تقصد نور تقصد أن عنقه منير ( وفي لحيته كثاثة ) هذه واضحة أي كثرة ( أزج أقرن ) أما كونه أزج فالمعنى أن خيط الجفن هذا دقيق قليلاً، أما قولها أقرن هذا لا يقبل فإما أن يكون خطأً منها وإما أن يكون خطأً من الرواة الذين نقلوا قالت ( أزج أقرن ) فإما أن يكون خطأً منها وإما أن يكون خطأً ممن من الرواة؛ لأن معنى أقرن أن يكو ن هذان ملتصقان بعضهما ببعض الحاجبان إذا اتصلا يسمى أقرن بمعنى مقترنين وهذا عيب مذموم عند العرب قديماً وهو لا يعيب الرجل إذا وجد فيه؛ لأن هذا خلق لكن الله جلّ وعلا لا يجعل نبيه بهذا الأمر وسيأتي وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أزج في غير قرن سيمر معك أظن المصنف تعرض له هذا محفوظ وما أدري إن كان المصنف ذكره أو لا أزج في غير قرن، فقولها أزج أقرن إلا أن تكون قصدت شيئاً لم أفهمه أنا، واضح إذا؟ كم تخريج الآن ؟ ثلاثة.
الأول : أن يكون خطأ ممن؟ من أم معبد.
والخطأ الثاني أن يكون ممن ؟ من الرواة، والخطأ الثاني يكون في فهمنا نحن لكن الصواب الذي لا محيل عنه أن الرسول لم يكن أقرن واضح .
((17/125)
أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء ) وهذه ظاهرة ( أجمل الناس، وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ، لا نزل ولا هذر، كأن منطقه خزرات نظم تحدرت ربعة لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين ) تتكلم عن من الغصنين الأخرين؟ أبو بكر وعامر بن فهيرة ( وهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال؛ أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود ) ما معنى محفود ما معنى محشود ؟ المحفود من يعظمه أصحابه ومن حوله ويسارعون في طاعته هذا معنى محفود.
محشود: أي يجتمع إليه الناس ( لا عابس، ولا مفند ) التفنيد الصد الرد التهجين، ومعنى لا عابس، ولا مفند، أي جميل المعاشرة لا يهجن أحداً ولا يحتقره.
( وعن أنس بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان ربعة ) مستحيل طبعاً أن تكون ربعة لماذا؟ خبر كان ما يكون مرفوعا منصوبا ( كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن) هذه مرت معنا ( ولا بالقصير المتردد، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم ) الآدم الأسمر الآدم من يميل إلى السمرة أي أن بياضه صلى الله عليه وسلم كما قلنا مشرباً بحمرة والأبيض الأمهق الكريه البياض.
فائدة مَن من الأنبياء كان يميل إلى السمرة؟ موسى ولذلك الله قال أن يده بيضاء من غير سوء.
موسى كان أسمر ( ليس بجعد، ولا قطط، ولا سبط، رجل الشعر ) هذه مرت معنا أي ليس مسترسلاً .
((17/126)
وقال هند بن أبي هالة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب ) المشذب يعني الطويل ( عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون ) مر معنا أي بياض معقول ( واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير ) ماذا؟ ( في غير قرن ) كما أثبتناه في الأول ( بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين) العرنين الأنف، العرنين الذي ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه ( كث اللحية، أدعج العينين ) مرت ( سهل الخدين، ضليع الفم ) أي كبير الفم وكان عنوانا
عند العرب على الفصاحة والبلاغة ( أشنب ) يعني جميل الفم ( مفلج الأسنان ) الثنايا كان فيها فلجة لم تكن متلاصقة ( دقيق المسربة ) هذه مرت معنا ( كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنًا متماسكًا، سواء البطن والصدر ) ما معنى سواء البطن والصدر، هذه ظاهرة بتعبير البطن يعني فرق ما بين البطن والكرش كل إنسان له بطن لكن ليس كل إنسان يوصف بأن له كرش، إذا البطن برزت يسمى كرش، أما إذا لم تبرز فهي بطن لأنه لا يوجد إنسان ليس له بطن.
( سواء البطن والصدر مسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس ) الكراديس رؤوس العظام أي عظم هذا أو هذا في الركب يسمى كراديس ( أنور المتجرد ) المتجرد أي المواطن التي لا شعر فيها تظهر كأنها نور هذا معنى أنور المتجرد أي المواطن التي لا شعر فيها من جسمه تظهر كأن لها نور ( موصول ما بين اللبة والسرة) اللبة هذه الفتحة الذي في أسفل الصدر في أسفل الرقبة هذه اللبة ( موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط ) معنى هذا أن باقي الجسم من الأمام ليس فيه شعر ولذا قال ( عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك ) مما سوى ذلك من ماذا؟ من الشعر .
((17/127)
أشعر الذراعين والمنكبين ) في الذراع والمنكب كان أشعر صلى الله عليه وسلم (عريض الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شئن الكفين ) مرت ( والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين ) هذه خمصان الأخمصين معناها الأخمص هو الذي ينطوي شيء من القدم في باطنها يعني أي إنسان الأصل أنه أخمص في جهة من القدم ما تصل إلى ماذا؟ ما تصل إلى الأرض، لكنه هذا الذي طبيعة الإنسان لكن ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أخمص أي أن قدمه كانت سواء ( ويمشي مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونًا، ذريع المشية ) ذريع المشية أنه مشيته ماذا متباعدة ( إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا خافض الطرف ) أي النظر ( نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، ) كناية عن ماذا؟ التواضع ( جل نظره الملاحظة ) أي ما يدقق ( يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام ) صلوات الله وسلامه عليه.
هذه الصفة الخُلقية والآن طبيعي أن يأتي إلى الصفة الخَلقية.
قال ( فصل في أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.
قال على ابن أبي طالب رضي الله عنه ستمر معنا أشياء لا حاجة إلى الشرح وإنما سأتكلم بعد ذلك إجمالاً ( كنا إذا احمر البأس، ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أسخى الناس ما سئل شيئاً قط فقال: لا ، وكان أحلم الناس )
إلا أن سخاؤه متى يظهر في أوجه؟ في رمضان، إذا لقيه جبريل ( وكان أحلم الناس، كان أشد حياء من العذراء في خدرها لا يثبت بصره في وجه أحد، وكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم، وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد، والقريب، والبعيد، والقوي، والضعيف عنده في الحق واحد ).(17/128)
وهذا أمر لا خلاف فيه فالله جلّ وعلا زكى بصره، وزكى قلبه، وزكى لسانه، وزكى خلقه فأين زكى الله لسانه؟ { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3].وأين زكى الله قلبه؟ { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[ النجم:11].
وأين زكى الله بصره؟ { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى }[النجم:17].
وأين زكى الله خلقه؟ { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم:4] هذه إجمالاً وجاءت مفصلة في آيات أخرى .
( وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهيه تركه، وكان لا يأكل متكئاً، ولا يأكل على خوان ) ما الخوان؟ المائدة التي يوضع عليها الطعام يعبر عنها أحيانا بالطاولة.
( قال أنس رضي الله عنه كما في الصحيح ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان قط ) ( ولا يمتنع من مباح، إن وجد تمراً أكله وإن وجد خبزاً أكله وإن وجد شواء أكله ) وهذا يدل على عدم التكلف، يعني لا يرد موجوداً ولا يطلب مفقوداً
( إن وجد خبز بر أو شعيراً أكله، وإن وجد لبناً اكتفى، أكل البطيخ بالرطب ) ما البطيخ ؟ المقصود
بالبطيخ هنا الخربز، أين الدليل على أنه الخربز؟ ثبت عنه صلى الله عليه وسلم هذا البطيخ جاءت بثلاثة روايات.
جاءت برواية ( أكل البطيخ بالخربز ) وجاءت بنقل عن عائشة ( أكل البطيخ الأحمر بالخربز ) ( أكل البطيخ الأصفر بالخربز ) .وجاءت برواية أوضح ( أكل الخربز بالرطب ) .
علله لماذا أكل البطيخ بالرطب ؟ لماذا أكل البطيخ بالرطب ؟ ما الفرق ؟ لماذا جمع ما بين الخربز والرطب؟حار والبطيخ بارد، وقال صلى الله عليه وسلم ( نكسر حر هذا ببرد هذا وبرد هذا بحر هذا )
( وكان يحب الحلواء والعسل.(17/129)
قال أبو هريرة رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة ) ولا يأكل الصدقة خاصة به؟ هو وآل بيته، ويكافئ على ماذا؟ ( ويكافئ على الهدية )، إذا أخذ هدية يكافئ عليها، وأغلب أحواله أن يرد الهدية بأكثر منها.
( لا يتأنق في مأكلٍ ولا ملبسٍ، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويعود المرضى.
وكان أشد الناس تواضعًا، يُجيب من دعاه من غنيٍّ، أو فقيرٍ، أو دنيء، أو شريف ) لا يفرق.
( وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحتقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكًا لمُلكه.
وكان يركب الفرس، والبعير، والحمار، والبغلة ) هذا كله دليلٌ على عدم التكلف، ( ويُردف خلفه عبده، أو غيره، لا يدع أحدًا يمشي خلفه، ويقول ( خلوا ظهري للملائكة ).
ويلبس الصوف وينتعل المخصوف، وكان أحبُّ اللباس إليه الحبرة، وهي من برود اليمن، فيها حُمرةٌ وبياض ) الحبرة الثياب المقلمة ذات الخطوط، وهي من برود اليمين، فيها حمرة وبياض.
( وخاتمه فضةٌ، فضه منه، يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر.وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض كلها، فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها.(17/130)
وكان يُكثر الذكر ويُقل اللغو، ويُطيل الصلاة ويُقصر الخطبة.أكثر الناس تبسُّمًا، وأحسنهم بشرًا، مع أنه كان متواصل الأحزان دائم الفكر .وكان يحب الطيب، ويكره الريح الكريهة.يستألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحدٍ، ولا يجفو عليه.يرى اللعب المباح فلا ينكره، يمزح ولا يقول إلا حقًّا، ويُقبل معذرة المُعتذر إليه.له عبيدٌ وإماءٌ، لا يرتفع عليهم في مأكلٍ ولا ملبس.لا يمضي له وقتٌ في غير عملٍ لله، أو فيما لابد له ولأهله منه.رعى الغنم، وقال: ( ما من نبيٍّ إلا وقد رعاها ).وسُئلت عائشةُ –رضي الله عنها- عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن"، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه ) صلوات الله وسلامه عليه.
( وصحَّ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "ما مسستُ ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممتُ رائحةً قطُّ كانت أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، ولا لشيءٍ فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيءٍ لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا؟".
قد جمع الله له كما الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله علم الأولين والآخرين، وما فيه النَّجاة والفوز، وهو أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا مُعلِّم له من البشر، نشأ في بلاد الجهل والصحاري، آتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، فصلوات الله عليه دائمةً إلى يوم الدين ).
هذا كله ظاهر، ولا أعتقد أنه يحتاج إلى تعليقٍ.
فصلٌ في معجزاته صلى الله عليه وسلم :
(فمن أعظم معجزاته، وأوضح دلالاته "القرآن العزيز" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، الذي أعجز الفصحاء، وحيَّر البُلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سور مثله، أو بسورة، أو بآية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون، والملحدون ).(17/131)
القرآن الكريم معجزة نبينا الخالدة، وهو مُعجزٌ في لفظه ومعناه، قال شوقي رحمه الله:
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيمٍ غير منصرمِ
( وسأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُريهم آيةً فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فرقتين، وهو المراد بقوله تعالى { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر: 1].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلك أمتي ما زُوي لي منها ). وصدَّق الله قوله بأنَّ مُلك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال )، وهذا فيه نظر، فليس المقصود المشرق والمغرب تحديدًا، وإنما المقصود انتشار الدين في كل مكان.
( وكان يخطب إلى جذعٍ، فلما اتخذ المنبر وقام عليه حنَّ الجذع حنين العشار، حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يُسكت، ثم سكن.ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة )، واختلف العلماء في معنى نبع الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام على قولين، القول الأول: أن يكون الماء نبع فعلا من بين أصابعه، أي خرج من بين أصابعه، القول الثاني: أن يكون المعنى أنه ببركته عليه الصلاة والسلام لما وضع أصابعه تكاثر الماء ببركته عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نبعٌ حقيقيٌّ من أصابعه، والقول الأول هو الأظهر إذ لا مانع يمنعه وعليه الأكثرون، الأكثرون مِن مَن؟ من العلماء، هناك أشياءٌ تُحذف لدلالة المعنى عليها.
( وسبَّح الحصى في كفه، وثم وضعه في كف أبي بكرٍ، ثم عمر، ثم عثمان، فسبَّح.
وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل.وسلَّم عليه الحجر والشَّجر ليالي بُعث.
وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو صلى الله عليه وسلم بعده أربع سنين. )، الذي مات معه مَن؟ بشر بن البراء رضي الله عنه.
( وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري فمسحها فبرأت من حينها.(17/132)
وأخبر أنه يَقتل أُبي بن خلفٍ الجُمحيَّ يوم أحد، فخدشه خدشًا يسيرًا فمات.
وقال سعد بن مُعاذ لأخيه أمية بن خلف: "سمعتُ محمدًا يزعم أنه قاتلك"، فقُتل يوم بدرٍ كافرًا.
وأخبر يوم "بدرٍ" بمصارع المشركين؛ فقال: ( هذا مصرع فلانٍ غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلانٍ غدًا إن شاء الله )، فلم يعدُ واحدٌ منهم مصرعه الذي سمَّاه.
وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.
وقال لعثمان: إنه سيُصيبه بلْوى؛ فقتل عثمان.
وقال للحسن بن عليٍّ: ( إن ابني هذا سيدٌ، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين ) فكان كذلك.
وأخبر بمقتل الأسود العنسيِّ الكذاب ليلة قَتْلِهِ، وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن، وبمثل ذلك في قتل كسرى.
وأخبر عن الشيماء بنت بُقيلة الأزدية أنها رُفعت له في خمارٍ أسود على بغلةٍ شهباء، فأُخذت في زمن أبي بكرٍ الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.
وقال لثابت بن قيس بن شماس: ( تعيش حميدًا، وتُقتل شهيدًا )، فعاش حميدًا، وقُتل يوم اليمامة شهيدًا.
وقال لرجلٍ ممن يدَّعي الإسلام وهو معه في القتال: ( إنه من أهل النار )، فصدَّق الله قوله بأنه نحر نفسه ).
جماع هذا علميًّا أن يُقال: الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولا: غيبٌ يتعلق بالأمم والقرون الغابرة، ومثاله إخباره عن يوسف، أصحاب الكهف، قوم نوح، قوم عاد، هذا كله إخبارٌ عن غيبٍ سبق، كإخباره عن أهل الكهف، وإخباره عن يوسف وإخوته، وإخباره عن غير ذلك مما سلف.
الثاني: إخباره عن غيبٍ وقع في حياته قبل أن يموت، مثل إخباره بالذي قتل نفسه، و إخباره بمقتل قريش يوم بدر، ومقتل الأسود العنسي، هذا كله حصل في حياته صلى الله عليه وسلم.(17/133)
الثالث: إخباره بغيبٍ وقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، مثل ( إن ابني هذا سيدٌ ) هذا وقع بعد وفاته، و قصة سراقة بن مالك أنه لبس سوار كسرى، وأشراط الساعة ستقع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
هذا خلاصة ما يمكن أن يُقال في الغيب الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
( ودعا لعمر بن الخطاب، فأصبح عُمر فأسلم.ودعا لعليٍّ بن أبي طالب أن يُذهب الله عنه الحرَّ والبرد، فكان لا يجد حرًّا ولا بردًا.ودعا لعبد الله بن عبَّاسٍ أن يُفقهه الله في الدين، ويُعلمه التأويل، فكان يُسمَّى الحبر والبحر لكثرة علمه.ودعا لأنس بن مالكٍ بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يُبارك الله له فيه، فوُلد له مائة وعشرون ذكرًا من لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها.وكان عتيبة بن أبي لهبٍ قد شقٌّ قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يُسلط الله عليه كلبًا من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام.وشُكي إليه قحوط المطر وهو على المنبر فدعا الله عزّ وجلّ وما في لسماء قزعة، فثار سحابٌ كثيرٌ أمثال الجبال، فمُطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شُكي إليه كثرة المطر، فدعا الله عزّ وجلّ فأقلعت وخرجوا يمشون في الشمس.
وأطعم أهل الخندق –وهم ألفٌ- من صاع شعيرٍ أو دونه، وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.
وأطعم أهل الخندق أيضًا من تمرٍ يسيرٍ أتت به ابنة بشير بن سعدٍ إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة.
وأمر عمر بن الخطاب أن يُزوِّد أربعمائة راكبٍ من تمرٍ كالفصيل الرابض، فزوَّد، وبقي كأنه لم ينقص تمرةً واحدةً.وشهد الذئب بنوَّته ).
شهادة الذئب بنوته رواها الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه.
(ومرَّ في سفرٍ ببعيرٍ يُستقى عليه، فلما رآه جرجر، ووضع جرانه فقال: ( إنه شكا كثرة العمل وقلة العلف).(17/134)
ودخل حائطًا فيه بعيرٌ ) الحائط أي البستان ( فلما رآه حنَّ وذرفت عيناه، فقال لصاحبه ( إنه شكا إلىَّ أنك تجيعه وتؤدبه ).
ودخل حائطًا آخر فيه فحلان من الإبل، وقد عجز صاحبهما عن أخذهما، فلما رآه أحدهما جاءه حتى برك بين يديه، فخطمه، ودفعه إلى صاحبه، وفلمَّا رآه الآخر فعل مثل ذلك ).
هذه كلها أخبر تدل على ما سخره الله جلّ وعلا له صلوات الله وسلامه عليه.إلى أن قال في آخر صفحة ( وخرج على مائة من قريشٍ وهم ينتظرونه فوضع التراب على رؤوسهم ومضى ولم يروه.وتبعه سراقة بن مالك بن جُشعم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه، فساخت يد فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له، فدعا له، فنجاه الله.وله صلى الله عليه وسلم مُعجزاتٌ باهرةٌ، ودلالاتٌ ظاهرةٌ، وأخلاقٌ طاهرةٌ، اقتصرنا منها على هذا تحقيقًا ).
وفي الختام أوصيكم ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى وسلامة الصدر لجميع المؤمنين، والسعي بالعمل بما نعلم، لعل الله جلّ وعلا أن يبلغنا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة.
هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(17/135)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له اعترافا بفضله وإذعانا لأمره خلق فسوى وقدر فهدى ، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا ، وشفيعنا محمدا عبده ورسوله أدى الأمانة وبلغ الرسالة ، ونصح الأمة حتى تركها صلوات الله وسلامه عليه على المحجة البيضاء والطريق الواضحة الغراء ، لايزيغ عنها إلا هالك . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وعلى من اقتفى آثارهم ، واتبع منهجهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها المؤمنون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وإليكم أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، على أن جمعنا في بيت من بيوته نستذكر دينه ، ونتدارس شرعه ، ونلهج بذكره فسبحان ربنا يوفق لطاعته ، ثم يجزي على توفيقه وسبحان ربنا يهدي إلى الرشد ، ثم يثيب على هدايته فله وحده جل وعلا المنة والفضل من قبل ومن بعد وله وحده ـ تبارك وتعالى ـ الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير
معاشر المؤمنين
إن من الحقائق المسلمة أن الإسلام هو الدين الأوحد ، الذي تعبد به الخلائق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة دون سائر الملل والنحل ابتغاه الله جل وعلا لنفسه ، وارتضاه لعباده وشرعه لهم ( شرع لكم من الدين ماوصى به نوحا والذي أوحينا إليك وماوصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ).
ثم أيها المؤمنون :
من هذه الحقيقة يتضح أن كل أمر يقتبس من مشكاة الإسلام ، فلا بد أن يكون متميزا على ماسواه متفردا مستعليا على ماعداه لأنه مقتبس من مشكاة الإسلام المبني على هدي الوحيين الكتاب والسنة .
فإن قال قائل :
ماتقولون في تقهقر مسلمي العصر ؟ وتخلفهم عن ركب الحضارة ، وتقدم الأمم الكافرة ؟
قلنا مجيبين :(18/1)
إن ممايقع فيه سُذَّاج الناس ، وفلاسفة الغرب ، وزنادقة الشرق أنهم يقيسون حضارة الغرب بواقع المسلمين اليوم ولا يقيسونها بالإسلام كمنهج متكامل ، وإنما يقيسونها بحال المسلمين وماهم عليه الساعة من بعد عن دين الله جل وعلا متناسين أن هذا التقهقر والتخلف الذي أصاب أمة الإسلام اليوم ، إنما أصابها لبعدها عن دين الله جل وعلا .
ورحم الله القائل :
أبيت اللعن ما أدركت ديني
ولو أدركته لرأيت دينا
فكم يُعزى إلى الإسلام ذنب
وكل الذنب ذنب المسلمينا
على أن من أعظم المصائب التي أصبنا بها أن هناك من أبناء جلدتنا ، وممن يتكلمون بلغتنا، لم يقف بنا الأمر مع أولئك الكفار الظاهرين ، وإنما ظهر فينا أقوام والعياذ بالله مازالوا يطعنون في دين الله تبارك وتعالى ، ويهمزونه ويلمزونه متناسين أنه من عند الله جل وعلا فصرنا وإياهم كما قال الأول .
دعوت على عمرو فمات فسرني
فعاشرت أقواما بكيت على عمرو
فسبحان الله !
ما أجرأهم على الله !
وما أحلم الله الكريم العظيم عنهم !
وإنا لله وإنا إليه راجعون .
أيها الأحبة :
إننا نتحدث هذه الليلة عن البيت المسلم ، وهذا يطرح تساؤلات عدة عند كل من يسمع عنوان المحاضرة ، أو أن يريد أن يفقه تفاصيلها .
لم كان هذا العنوان ؟
ولم كان هذا الحديث ؟
فنقول مجيبين: أننا نتحدث عن البيت المسلم ، لأن رعاية البيت المسلم وعناية المسلم بأهل بيته هذا أيها المؤمن من هدي الأنبياء ، ومن سنن المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
حكى الله تبارك وتعالى عن نوح أنه كان حريصا أشد الحرص رعاية وهداية ابنه. ( يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين *قال سئاوي إلى جبل يعصمني من الماء )
فلما غرق مازالت الرحمة في قلبه لأهل بيته ( فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين )(18/2)
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الحنفاء ومن أعظم رؤوس ملة الإسلام صلوات الله وسلامه عليه كان رفيقا شفيقا حريصا على أن يهدي أباه للإسلام فكان اللسان الذي يتكلم به مع قومه خلاف الخطاب الذي يوجهه لأبيه ، لأن عنايته بأبيه كانت أعظم وأشد . ولذلك حكى الله عنه قوله : ( يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولايبصر ولايغني عنك شيئا .......) إلى آخر الآيات التي وردت وأثبتت كيف أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان حريصا على هداية أهل بيته وفي مقدمتهم أبوه آزر . ثم إن إبراهيم لما من الله عليه بالظهور والإستظهار في الأرض في مرض موته كان حريصا أن يبقى عنايته بأهل بيته أمرا مستمرا . فجمع بنيه في مرض موته كما أخبر الله عنه ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
ونقل الله جل وعلا في كتابه العظيم حكاية عن لقمان ذلك العبد الصالح أنه كان حريصا بأهل بيته ، فكان يقرب ابنه ويناجيه ويدعوه ويقول : ( يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم )
هذا من مواعظ ووصايا لقمان لابنه ،ثم انتقل الأمر واستقر إلى هدي سيد الخلق . إلى رأس الملة وإمام الأمة صلوات الله وسلامه عليه فامتثل عليه الصلاة والسلام أمر ربه بقوله : (وأنذر عشيرتك الأقربين ) فكان صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يبلغ الدعوة إلى أهل بيته في المقام الأول ، وإن كان حرصه صلوات الله وسلامه عليه على الأمة جمعاء أمر لاينكره إلا جاحد كافر لايعلم من الدين ومن أخبار السيرة النبوية إلا القليل .
فنقول أيها المؤمنون :(18/3)
من هديه صلى الله عليه وسلم دعوة أهله ، ولذلك من تأمل السيرة النبوية العطرة ، وتلك الأيام الزاهرة وجد أن من أوائل المسلمين خديجة بنت خويلد ، وعلي بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة فهذه زوجته ، وهذا ابنه الذي تربى في بيته ، وإن كان ابن أخيه نسبا ، وذلك مولاه وربيبه في الأصل زيد بن حارثة . فكان أولئك القوم من أوائل المسلمين لأن الدعوة أصلا انطلقت من بيته صلوات الله وسلامه عليه . وكذلك كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ من أول الرجال إسلاما لأنه كان الخليل المصاحب لنبينا صلوات الله وسلامه عليه .(18/4)
مما يدفعنا للحديث عن البيت المسلم أيها المؤمنون : أن البيت المسلم في هذا العصر أصبح مرمى وهدفا لسهام أهل الكفر ، أصبح مرمى وهدفا لرماح ومكر وكيد أولئك الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر مما أضحى حالهم لايخفى على أحد من رؤوس الكفر و الإلحاد والزندقة والعلمنة في الشرق والغرب ، الذين يريدون أن يقوضوا في البيت المسلم أركانه . ويهدموا بنيانه ، ويضيعوا إيمانه ، ويفسدوا فتياته وفتيانه . فعمدوا والعياذ بالله عمدوا إلى الأفلام الخليعة ، وإلى الأغاني الماجنة ، وإلى الروايات الفاضحة . ولجأوا إلى الدعوة إلى الحريات ، والدعوة إلى المساواة ، والدعوة إلى التنكر التام لكل موروث ، والدعوة إلى التقليد الأعمى وجعلوا من الغرب إلها يعبد من دون الله ظن الناس أن العبادة تنصرف في هيئات الصلاة ، والصيام ، وقد يحب الإنسان رجلا يجعله لله تبارك وتعالى ندا ، وقد يحب الرجل حضارة قوم حتى يؤمن بها ويسلم لها . فيترك ماشرع الله وماسن الله ـ جل وعلا ـ لعباده وأوليائه فيعرض عنه ، ويقبل على حضارة كافرة وعلى مايزعم أنها أعطيات العصر وأطروحاته فيفر إليها ويستسلم لها . وربما عبدها من دون الله وهو لايشعر (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) فهذا الأمر يجعل الحديث عن البيت المسلم أمرا ملحا وأمرا لابد منه في هذا العصر على الأقل . لأن ذلك المكر وذلك الكيد الذي دعوا إليه إنما هو في الحقيقة ألوية خفاقة وشعارات براقة في ظاهرها ، ولكن وراءها الشر المستطير لأنها تدعوا إلى إبليس وجنده ( قال أرءيتك هذا الذي كرمت عليَّ لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا *قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاءً موفورا*واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليه بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا*إنَّ عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا )(18/5)
سلك الله بنا وبكم طريق عباده الصالحين .
أيها المؤمنون :
نتحدث عن البيت المسلم ، لأننا نرى أن من المسوغات الشرعية للحديث عنه أن بيت المسلم أعظم قلاعه وآخر حصونه فإذا هدم هدمت هذه القلاع ، وقوضت هذه الحصون أثمر ذلك ـ والعياذ بالله ـ عن الضلالة وعن الزيغ بعد الرشاد .
والمسلم مطالب بسد هذه الثغرة سدا عظيما لايؤتى الإسلام ـ أيها الأخ الكريم ـ من قبلك في بيتك لأن هذا البيت الذي أنت فيه مسؤول عنه أمام الله تبارك وتعالى .
ونتحدث عن البيت المسلم لأنه لايوجد مؤمن تقي على مانعلم إن كان مؤمنا بالله حقا إلا وهو يود أن يرزقه الله الجنة فالجنة غاية الأماني ، ومنتهى الآمال ، ومع أن المؤمن يسعى لئن يرزقه الله الجنة هو كذلك حريص على أن يرزقه الله وأهل بيته الجنة .
فما أسعد المؤمن إن قرن الله بينه وبين أهل بيته في جنات النعيم قال تبارك وتعالى : (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ومآألتناهم من عملهم من شئ كل امرئ بما كسب رهين ) والله تبارك وتعالى يقول : ( أفلم يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر ألوا الألباب*الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق*والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) إلى أن قال جل وعلا : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )(18/6)
نتحدث أيها المسلمون عن البيت المسلم ، لأننا نعتقد جازمين أن رعاية المؤمن لبيته ، ورعايته لأولاده على وجه الخصوص ينشأ عن ذلك جيل مؤمن ، وينشأ عن ذلك نشئٌ صالحين يقومون بتأدية الواجب في أمة الإسلام. فهذا هو الطريق الحق للإصلاح وللدعوة إلى الله وللسعي في إعلاء كلمته. أما أن يبدأ الإنسان من قمة الهرم ، فيسعى في سفك دماء المسلمين ، وتقويض مصالحهم ، وتأجيج العامة وإثارة الدهماء . وما إلى ذلك من الطرائق التي ماأنزل الله بها من دين ولابرهان ولاسلطان ، هذا ما أمر الله به ولم يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وإننا نعوذ بالله أن نظن في أنفسنا أننا أعظم هديا أو أشد فكرا أو أنجح طريقة من قول لله الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يقول ربنا تبارك وتعالى (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ) إن من لم يعجبه قول الله وقول رسوله هدي الله وهدي رسوله فلا أعجبه شئ قط لأنه إنما يسعى إلى الباطل ولن يسعى إلى الحق في شئ . فعناية المؤمن ببيته وإصلاحه لأهله وزجته وأولاده ينشأ عنه ذلك الجيل والنشئ الصالح الذين يقدمهم ذخرا لأمة الإسلام وسندا لدعوة سيد الأنام صلوات الله عليه وسلم .
ثم نقول أيها المؤمنون :
ما المعنى المراد من البيت المسلم ؟
كلمة البيت إما أن تطلق فيراد بها ـ معشر الأحبة ـ الجدران والحيطان ، الشرفات والأورقه، الغرفات والمجالس.
وهذا نظيره قول الله جل وعلا : ( إن بيوتنا عورة وماهي بعورة ) على لسان المنافقين . وقصدوا أن البيوت والجدران والحيطان التي يسكنونها مكشوفة للعدو ، ومنه كذلك يحمل قول ميسون زوج أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه .
لبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إلي من قصر منيف
وكلب ينبح الطراق دوني
أحب إلي من قط أليفِ
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف(18/7)
فإنها قصدت أن مضارب قومها في البادية أحب إليها من بيت أمير المؤمنين ،ولم تقصد أن العشرة مع معاوية أسوأ لديها من العشرة مع رجال قومها .
وقد يطلق البيت أيها الأحبة يراد به أهله ،سكانه ، يراد به عمّاره ومن هذا قول الله جل وعلا في كتابه :"فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين* فما وجدنا فيها غير بيت من الممسلمين"
جزم أهل التفسير على أن المعني به لوط وبنتاه صلوات الله وسلامه عليه ،فالله نجى لوطا وبنتيه ولم ينج الجدران والحيطان والغرف والأمكنة التي كان يسكنها لوط عليه السلام .
وأحيانا تضاف كلمة أهل إلى كلمة بيت فيكون المقصود البيت وعمّاره ومن هذا قول الله جل وعلا :"يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيرا"
وقول الله على لسان أخت موسى :"وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون*وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون".قلنا في مقدمة المحاضرة كان من مشكاة الإسلام....... أن يكون متميزا تميزا كلياً عن بيوت الكفروالشرك والإلحاد و يكون متميز تميزاً جزئيا عن بيوت عصاة المؤمنين الذين لم يخرجوا من ربقة الإسلام ولا من حظيرة الدين ولكن لهم من المعاصي والآثام مالهم وهذا الأمر أو هذا الجزء يكون بمقدار ما استسقى ذلك البيت من منهج الله ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن لبيوت المسلمين مايميزها وأعظم ما يميز البيت المسلم ذلك الإيمان الذي يضفى على البيت ويجلل أهله حتى تراه على مُحياهم وعلى عيونهم فقد ترى الرجل وأهل بيته لا تجد ما يجمعهم من العروق أو مايجمهم من الدماء قد يكونوا في الهيئة مختلفين ولكنك ترى وميضا من نور وقبسا من الهداية على مُحياهم فتعرف من النظر إليهم أنهم أهل بيت واحد. ذلك يا أخي أن الله جل جلاله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب .(18/8)
ـ إذا أردت أن تعرف مقام رجل عند الله جل وعلا فانظر إلى الإيمان في قلبه وانظر إلى مدى إقباله على الله ، إقباله على الطاعة فذلك مكانته عند ربه .رأى الحسن البصري أقواما يعصون الله جل جلاله فنظر إليهم وبكى ثم قال :قال هانوا على الله فعصوه ولو عزُّوا عليه لعصمهم الله جل وعلا إذا أحب عبدا عصمه عن السيئات أحجمه عن اقتراف الذنوب وهذا يدل عل أن الله تبارك وتعالى يحبه أما إذا أمهل الله العبد وجعله يستغرق في المعاصي،أما إذا أطلق الله لعبده العنان وجعله يرتع في المعاصي فإن ذلك يدل على هوان ذلك العبد على الله أسأل الله لي ولكم في هذا المقام العافية من ذلك كله.
فنقول إن أعظم مايميز بيوت المسلمين ذلك الإيمان الذي يجلل ذلك البيت ويظهر على محيا أهل ذلك البيت ولذلك ورد أن نصارى نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ النبي صلى اله عليه وسلم يجادلهم بالتي هي أحسن في قضية إثبات أن عيسى لم يكن يوماً قط ولداً لله قال الله بعدها " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين" دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين أهل بيته وأخرجهم ليباهل أساقفة نجران من النصارى وقال إذا أنا دعوت فأمنوا ورد في بعض الآثار أن أولئك الأساقفة لما رأوا نور الأيمان على محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته قال بعضهم لبعض إن هذه الوجوه لو سألت الله أن يزيح الجبال عن أمكنتها لأزالها فكيف تباهلونهم؟؟؟
فامتنعوا عن مباهلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وقبلوا بالجزية كما هو معروف مشتهر في السيرة .(18/9)
والمقصود أن هذا الإيمان الواقر في قلوب البيت هو أعظم مايميز بيوت المسلمين عما سواها وهذا الإيمان له ثمرات تجعل من هذا التميز أمراً عاليا مستعليا على غيره ومن أعظم ذلك المسارعة إلى الطاعات والمسابقة إلى الخيرات ،الله جل وعلا أثنى على آل زكريا بقوله:"وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين" وأثنى على داود وآله بقوله:" اعملوا ءآل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور" ولا ريب أيها المؤمنون أن المسلمين عالمهم وعامتهم متفقون على أنه مامن شيء بعد الشهادتين أعظم من المحافظة على الصلاة في وقتها فمحافظة أهل البيت الواحد على الصلاة في وقتها من أعظم الأدلة على أن هذا البيت بيت مسلم لأن الصلاة عماد الدين أمر الله بها في أكثر من مائة آية في كتابه الكريم على ما أحفظ الساعة وندب الله جل وعلا إليها خلقه أجمعين بلا استثناء وأوجبها الله حضرا وسفرا وأوجبها الله صحة ومرضا وأوجبها الله حربا وسلما "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" فبمقدار أخذ أهل البيت وإقبالهم على هذه الطاعة يدل ويعرف تميزهم عن غيرهم من بيوت المسلمين لذلك من البيوت والعياذ بالله من يسمعون الآذان بعد الآذان والنداء بعد النداء والصلاة بعد الصلاة ولا ترى منهم والعياذ بالله من يقوم ويخرج إلى المسجد ليعفر وجهه لله جل جلاله فإذا حلت بهم النوازل ونزلت بهم المصائب رفعوا أكف الضراعة والدعاء إلى الله سبحان من تناقض الموقفين ! لو عبدته في السراء لأجابك في الضراء وإن كان الله جل وعلا قد يجيب بعض عباده وإن لم يكن له من الخير شئ ( وإذا مس الإنسان ضر دعانا لجنبه أو قاعدا قائِما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ( قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ) أعاذنا الله وإياكم من ذلك فنقول إن الصلاة يجب أن يحرص رب الأسرة في المقام الأول على أن يجعل من نفسه لأبنائه قدوة في السعي إلى(18/10)
الصلاة .
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نعلم أنه طعن وهو في المحراب في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفل سرته رضي الله تعالى عنه فتراجع إلى الخلف وجسده يثعب دما وينزف جراحا أين ذهب والله لم يذهب إلىقسم الطوارئ ولم يقل للناس اقطعوا صلاتكم فإني مطعون وقف رضي الله تعالى عنه وأرضاه في الصف وقدم عبد الرحمن بن عوف للصلاة و........رضي الله تعالى عنه قائما في الصف يصلي مع المسلمين فلما كلمه الناس قال تلك الكلمة العظيمة:(18/11)
قال لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ، لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة فإذا كان هذا الصحابي الجليل يصلي جماعة وهذا حاله .ومن الناس و العياذ بالله من يغضب إذا تسابق أبناءه إلى إيقاضه للصلاة صلاة الفجر أو صلاة العصر وينزل غضبه وسخطه على أهل بيته كيف تجاوزوا الحدود واقتحموا غرفة النوم كيف تجرأ هذا الابن على أن يحرك قدمي أبيه ويدعوه إلى الصلاة وكان من المفروض أن يحمد الله على أن أخرج من صلبه ابنا يدعوه إلى عبادة الله تبارك وتعالى ويذكره بشعائر الدين ولذلك ترى البيت المحافظ على الصلاة ترى ذلك منعكسا حتى على الغرف وعلى الجدران وعلى الحيطان ترى في البيت سجاده مطويه ورداء امرأة تقيه ترى مصحفا قد وضعت وسطه علامة تدل على أنه قد قرئ فيه منذ قريب أما تلك البيوت التي لا تعرف الصلاة لا تجد في غرفات البيت وعند حيطانه إلا أعقاب السجائر وأوراق البلوت وما إلى ذلك من الدلائل على أن في هذا البيت تنتهك حرمات الله تبارك وتعالى وكما ينبغي على الوالد أن يجعل من نفسه قدوة في صلاة الفرض ينبغي عليه أن يجعل منها قدوة في صلاة الليل .(18/12)
دخل صلى الله عليه وسلم فهو الأسوة و القدوة دخل على علي وفاطمة وهما راقدان على فراشهما لم يناما بعد فقال ألا تستيقظان ألا تصليان فقالا يا رسول الله أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثها بعثها فخرج صلى الله عليه وسلم مغضبا يضرب على فخذه ويقول : ( وكان الإنسان أكثر شئ جدلا ) فرعاية الرجل لأهل بيته وتفقدهم إياه في قضية الصلاة على وجه الخصوص إنما يدل دلاله جلية على تميز ذلك ذلك الأب وذلك الراعي في بيته على أن أهل هذا البيت مسلمون قريبون من الله جل وعلا وكما ينعكس أداء الصلاة على نواحي البيت وأورقته ينعكس على حتى على الأطفال إذا زرت أخا لك في الله عُرف عنه صلاته وقرب إليك أبناؤه لتداعبهم وتكلمهم تجد أن الطفل عفويا يقوم بحركة الصلاة ـ ودخلت والله بيوت بعض أبنائها يرفع يديه كأنه قائم في صلاة الوتر ـ فتعرف مباشرة أن هذا الابن لم يأتي بهذا الشئ من عنده وإنما حاك أبويه أو أحدهما أو حاك أخا من إخوانه . وبعض البيوت عافانا الله وإياكم تدخلها فيقرب إليك الأبناء والبنات فإذا هم يتمايلون ويتراقصون طربا ، وكل يحكي وينبئ عما يراه وكل يحكي وينبئ عما يراه وهذا أمر معروف مشتهر لأن الابن جبل على الإقتداء والاقتفاء بأبيه أو بأمه أو بكبار أهل بيته .
ـ كذلك أيها المؤمنون مما يميز البيوت المسلمة وينبغي أن تكون عليه التآخي والمحبة هذه الدنيا غالبا هي أسباب الخصام بين الناس.
فإن تجتنبها تجتنبها بعزة
وإن تجتذبها نازعتك كلابها(18/13)
هذا أمر لا يختلف عليه اثنان والبيوت المسلمة ينبغي أن تبنى على المودة والمحبة والرحمة ( ومن ءآياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ولكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم فمن بعض أفراد الأسر من إذا حدث بينه وبين أحد إخوانه في البيت خصام أو جدال عارض جعل منه أمرا كبيرا فوسع الفجوة واشترط على أهل بيته ألا يكلموا فلان وأخذ يرى من معه ومن ضده فاتسع الخرق على الراقع وضاق الأمر على من يريد أن يصلح بينهم واتسعت الفجوة ولم يبقى للإصلاح موطنا ولا سبيلا . الكبار أيها الأحبة العظماء في الناس مثل هذه الأمور لا يتنازلون إليها يترفعون على أن يجاري أحد من بيتهم أو من غير بيتهم في السباب والشتائم . الكبار فقط الربانيون فقط هم الذين يحتوون هذه المشاكل ويتقبلون أن يتنازلوا عن بعض حقوقهم وقد قالت العرب في أمثالها
إذا عز أخوك فهن
أي تنازل قليلا لأنه إذا أنت أمير وأنا أمير كما قد قيل فمن يسوق الحمير لابد للناس من أن يتنازل بعضهم عن بعض والتنازل إنما يقوم به من هو أعظم شأنا وأقرب إلى الله جل وعلا
ولا أشكوا تلون أهل ود
ولو أجدت شكايتهم شكوت
إذا جرحت مساؤهم فؤادي
صبرت على الإساءة وانطويت
ورحت إليهم طلق المحيا
كأني ماسمعت ولا رأيت
ولا والله ما أضمرت غدرا
كما قد أضمروه ولا نويت
ويوم الحشر موقفا وتبدوا
صحيفة ماجنوه وما جنيت(18/14)
ولكننا نكون أحسن حالا ونقول حتى يوم الحشر نسأل الله أن يغفر لهم ويعفوا عنهم ولانريد من أحد حاجة ـ على هذا ينبغي أن ينشأ المسلمون ـ والحق أننا نعتب على بعض الشباب الملتزمين قلة الفقه في دين الله تبارك وتعالى فحصروا الدين في العبادات في الصلوات والصيام وإن كانت في الدين من المقام الأعلى المعروف ولكنها قطعا ليست الدين كله لذلك ينبغي أن يعرف الشاب المسلم دوره ومسؤوليته في البيت فمن الشباب من يظلم زوجته ويظلم أولاده بحجة بره لوالديه ، ومن الشباب من يكون فيه العكس فيظلم والديه بحجة حديث قوله صلى الله عليه وسلم ( خيركم خيركم لأهله ) فيظلم الوالدين فإن كلمته ، قال يا أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( خيركم خيركم لأهله ) وإذا ظلم زوجته على حساب والدته وأرشدته ، قال نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : ( الزمها فثم الجنة ) قال ( ففيهما فجاهد ) الذي ينبغي أن يعرف أولا لايمكن أن يكون في أوامر الله تعارض ، و لايمكن أن يكون في نواهي تناقض ، التناقض والتعارض في ذهن هذا الشاب وليس في دين الله تبارك وتعالى من شئ إنه صلى الله عليه وسلم قيد الطاعة بقوله : ( إنما الطاعة في المعروف ) فلا يجوز أن تظلم الزوجة على حساب الوالدين ولا يجوز أن يظلم الوالدين على حساب الزوجة ، ولكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه كما أمر الله وكما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فمن غضب بعد ذلك فإنما غضب من الحق ولم يغضب من الباطل ، وقلنا إن القاعدة إن من لم يرضيه الحق لا يرضيه شئ وقد قيل والمريض القلب تجرحه الحقيقة ، فالربانيون الذين يسترشدون بهدي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم يتبع المنهج الواضح الذي بينه الله وبينه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في التعامل مع الزوجة في التعامل مع الوالدين . في التعامل مع الأولاد .(18/15)
والمقصود أنه ينبغي أن يعم البيت المسلم التآخي والألفة والمحبة ومن أسباب قيام هذا التآخي أن يؤدي كل شخص في البيت حقه على الوجه الأكمل ، فمن الناس من تراه خلف وراءه والدين لا يسأل عنهما ، وزوجة مهملة ، وأولاد في الشارع ضائعين ، ثم يذهب إلى فرح أو إلى زواج ويثني ركبته ليحدث الناس عن إعفاء اللحية وتقصير الثوب فيرمي دين الله جل وعلا بما ليس فيه ترك ما هو أعظم وأخذ يحدث الناس فيما هو أهون وإن كان ليس في دين الله شئ هين بالمعنى المعروف ، ولكن المقصود أن هناك أولويات وأهم ومهم وينبغي إلى العبد أن يعرف أن الدين يؤخذ جملة أو يترك جملة أما أن تأخذ من الدين ما تقدر عليه أنت وتترك من الدين مالا تقدر عليه ومالا يوافق هواك فإن هذا مرضا في نفسك وليس نقصا في دين الله تبارك وتعالى ، كذلك أيها الحبة مما يعين على التآخي والمحبة بين المسلمين أن يترفعوا عن النبز بالألقاب ، غالبا في بعض البيوت تجد كل شخص في الأسرة له نبز معين يناديه إخوانه به يافلان ويافلان حتى أضحى أمرا مشتهرا والله جل جلاله يقول : ( قل لعبادي يقولوا للتي هي أحسن ) لماذا ياربنا ؟ ( إن الشيطان ينزغ بينهم ) لما ينزغ بينهم ؟ ( إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) عدوك لايمكن أن يريد بك الخير أبدا ، فالترفع عن مثل هذه الأمور أمر واجب ، مع أنه أحيانا تجد هذا الشاب الذي ينبز إخوانه في البيت تجده خارج البيت في أدب وكمال ويستحي أن يقول لصاحبه يافلان بل يكنيه يدعوه بأحب أسمائه إليه فسبحان! الله كيف يوزعون خيرهم على الناس ويحرمون أهل بيتهم من خيرهم والظن والأولى بهم أن يجمعوا خيرهم في أهل بيتهم ولغيرهم فالمسلم عنده المصداقية في التعامل مع كل أحد قريب كان أو بعيدا ، ثم نقول أيها المؤمنون إن مما يميز بيوت المسلمين كذلك الحياء الحياء يقول عنه صلى الله عليه وسلم ( شعبه من شعب الإيمان)(ولا يأتي إلا بخير ) ولاريب إن الحياء في النساء أوكد منه في(18/16)
حق الرجال ولما كان الحياء جانبا عظيما وركنا منيعا في حياة المرأة المسلمة لجأ دعاة الرذيلة وأعداء الإسلام إلى تقويض ذلك الأمر وهدمه في بيوت المسلمين لجأوا إليه لأنهم يعلمون أن المرأة إذا فقدت حيائها هان عليها أن تصنع كل شئ هان عليها أن تقتحم أي لجج. هان أن تنتهك محارم الله تبارك وتعالى . فلجأوا ـ والعياذ بالله ـ بكلمات معسولة ودعاوى كاذبة وأراجيف ليست من الحق في شئ إلى أن تفقد المرأة حيائها زاعمين أن ذلك هو التطور وما تقتضيه متطلبات العصر وما يقتضيه......(18/17)
في ركب الحضارة وما إلى ذلك من الكلمات الموهومة والأراجيف الكاذبة كما بينا سلفا ونحن نظن والله تعالى أعلم أن الناس كلما خرجوا عن الفطرة ونظروا إلى الحضارة المعاصرة فقدوا شيئا من الفطرة والقبول عند الناس وبيان ذلك : أن الحضارة فيما أعتقده حضارتان حضارة بالمعنى التقليدي المعروف الشائع بين الناس وحضارة بمعنى محاكاة أهل الغرب وتقليد أولئك الذين انسلخوا من الأخلاق والقيم والمبادئ هذه الحضارة الثانية حضارة لايمكن أن ينالها الإنسان إلا بأن ينسلخ من الفطرة التي فطر الله عباده عليها ولذلك لو رأيت امرأة تعيش في الصحراء في مضارب قومها تحتطب طيلة النهار ثم إذا أقبل المساء حملت مااحتطبته على رأسها وأقبلت على مضارب قومها تريد بيتها فلربما رأت رجلا عارضا عابرا فإذا رأته ارتعدت فرائسها وتغير لونها وربما ألقت ذلك الجهد التي كانت تعمل فيه طيلة يومها ألقته على الأرض ولربما فرت هاربه حياء وحشمه وخوفا أن تظن بها الظنون أو تنكشف لها عورة أو أن تبدوا منها سوءة ، هذا الذي دفعها لأنها ما عرفت ولا رأت ولم تعكف أمام شاشات التلفاز لترى نساء الغرب كيف يتقمسن وينسلخن من المبادئ والقيم وما دعا الله جل وعلا من الستر والحياء والحشمة وقد يكون فيمن رأى ذلك من الحياء والحشمة لا ينفى عنه بالكلية لكنه لا يكون في ذلك المستوى في مستوى امرأة لم تعرف ذلك الأمر ولم تره ولم تعود عيناه على رؤيته وفي هذا قال أبو الطيب :
من الجآدل في زي الأعاريب
حمر الحلى والمطايا والجلابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ضباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجب(18/18)
فالتكلف هو الذي يجعل المرأة تنسلخ من حيائها شيئا فشيئا حتى أن هناك من البرامج التلفازية التي تبث في بعض القنوات من يأتي بامرأة قد أسلمت شعرها ورأسها بين يدي رجل تزعم أنه يصفف لها الشعر فيتمايل في رأسها ميمنة وميسرة ليوهم الناس ومن يرونهم من معاشر المؤمنين الغافلات يوهموهم أن هذا هو عين الحضارة وعين التطور وما ساد أمثال هؤلاء وما برزوا إلا لغياب الرجال الغيورين الناصحين ، وثق تماما أنه لا يخلوا مكان من حق إلا ويملى بباطل ، ولا يخلوا مكان من سنة إلا ويملى ببدعة ، ولا يخلوا مكانا من رجال غيورين إلا ويملى بأشباه الرجال ، وهذا شبيه بما تعرفه العرب في قصصها ورواتها أن كليب وائل كان أعز العرب وأمنعهم حما وحصنا وكان هذا الرجل في الجاهلية يأتي بالجراء من الكلاب فيرميها في الصحراء فأينما نبحت تلك الكلاب أصبحت حما له لا يسعى أحد فيه إلا بأذنه فكانت العرب تظرب به المثل في العزة فيقولون في أمثالهم :
أعز من كليب وائل
ثم إن هذا قتل كما هو معروف في حرب البسوس كان قومه أيام حياته عندما تحل بالقبيلة المصائب والنوازل والحروب يجتمعون كمجلس للقبيلة فيأتي كليب هذا يقول الرأي ويصوت عليه ويدعوا له ولا أحد يجادله ولا أحد يمانعه ولا أحد يستطيع أن يقول له هذا نعم هذا حق وهذا باطل فلما مات ساد بعده أقوام عدة حتى إنه عندما تجتمع القبيلة في المجلس ا كالعادة سابقا عندما يجتمعون فيعرضون المشكلة كان في السابق أيام كليب لا يتكلم أحد فلما مات لا يسكت أحد كلهم يتكلمون وكل يعلو صوته لأنهم فقدوا ذلك الرجل العزيز فلما رآهم مهلهل ربيعة أخو كليب قال بيته المشهور :
ذهب الخيار من المعاشر كلهم
واستب بعدك يا كليب المجلس
وتشاور أمر كل عظيمة
لوكنت حاضرا أمرهم لم.....(18/19)
فهذا والأمر الذي ذكرناه سواء لما غاب الرجال الغيورون غاب الرجال الذين يمنعون الحمى ويحفظون الحرمات ويحفظون العار لما غابوا ساد أولئك الأراذل وانتشر أولئك الفساق وأصبحوا يقدمون عبر التلفاز وعبر غيره ما يشتهون من دواعي الحرمات ودواعي العلمنة ودواعي انتهاك ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وأحسن من هذا كله أن الله جل وعلا أخبر في كتابه ودعا تبارك وتعالى دعا إلى الحياء والعفة والحشمة عبر القصص القرآني فأخبر تبارك وتعالى عن ابنه شعيب وكيف أنها قدمت على موسى تمشي على استحياء قال الله جل وعلا (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا )وأخبر الله تبارك وتعالى عن مريم وحيائها وعفتها لما رأت جبرائيل في هيئه رجل استعاذت بالله مباشرة (قالت أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا)أي إن كنت تقيا فتركني ودعني في سبيلي وهذا الذى ينبغي أن يحرص عليه نساء المؤمنين ونحن نقول إن هذا الحياء إنما يظهر على المرأة في زيها ولبسها يظهر على البيت المسلم في أفراحهم يظهر على البيت المسلم فيما ينظرون إليه ويستمعون إليه فإن كانت الأسرة المسلمة ذات حياء وحشمه انعكس ذلك على الأفراح فلم يكن في أفراحهم أغاني ماجنة ولارقص متعكس ولادعوات إلى الرذائل والتخنع وما إلى ذلك من أسباب(18/20)
الفجور وترى بناتهم في زي ساتر ومحتشم وإن كان الأمر والعياذ بالله عكسيا رأيتهم في أفرحهم لا يبالون من يدعون ومن يتركون ورأيت نسائهم وبناتهم لا يبالون ماذا يلبسن وماذا يرتدين مما أمر الله به أمر أو مما نهى الله جل جلاله عنه ومهمة رب الأسرة تتضح هنا بجلاء فالرجل في مثل هذه الأمور ينبغي أن يكون حازما ولا يعني الحزم أن يصل الأمر إلى حد العنف لكن سددوا وقاربوا وإظهار الحزم في هذه المواطن هو عين الحكمة لأنه ينبغي على المؤمن أن لا يكون ديوثاً سببا في دعوة أهله إلى الفجور وسكوته على باطلهم ولعل الوقت يسعفنا ويبارك الله فيه في ذكر ما يميز بيوت المسلمين ونعتذر عن الاسترسال في القول فنقول رابع ما يميز بيوت المسلمين المسلمة رعاية الأبناء وتربيتهم تربيه إسلامية صادقه وهذا والله بيت.... والخيط المفقود والغائب المنشود لأنه يجب على المسلم أن يعنى عناية تامة ببيته وأولاده ورعايتهم وتنشئتهم تنشئه اسلاميه وأول ما ينبغي عليه :أن يؤمن هو أولا بأهمية هذه الرسالة .
قف دونا رأيك في الحياة مجاهداً
إن الحياة عقيدة وجهاد(18/21)
إذا كان إيمان العبد ضعيف العبد وإيمان العبد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم هش لين من الطبعي أن لا يكون لديه الدافع الكبير والعظيم إلى أن يعنى بأولاده وتربيتهم وتنشئتهم تنشئه اسلاميه كذلك ينبغي على المؤمن أولاً أن يعرف بماذا يبدأ وبماذا ينتهي وماذا يقدم وماذا يؤخر؟ فأول ما ينبغي أن يعنى به أن يغرس في قلوب الناشئة حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم فأما حب الله فهو والله المنزلة التي شمر إليها العاملون وسعى إليها المؤمنون وأزهق أعمارهم وأفنى أوقاتهم فيها الأخيار المباركون لأن حب الله ينجم عنه كل خير وبغض الله كفر وإلحاد وشرك وبوار وخلود في نار جهنم يقول الله جل وعلا (ومن الناس من يتخذ من دون أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءآمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب)كيف يحب أبناءك ربهم جل جلاله ؟! ذكرهم بنعم الله ذكرهم بآلاءه اتلوا عليهم بعض آياته اقصص عليهم قبل النوم فضل الله ونعمه على زيد وعلى عمرو وما أكثر نعم الله وفضله والحذر أن تخبرهم عن النار وعن الجحيم وعن العذاب والسطوة لأن أفق الابن في ذالك السن لا يساعده على أن يفهم على أن الله أراد أن يخوف بذلك العصاة والملحدين والمشركين وربما ذهب ذهنه وفكره إلى أمور لا تليق بذات الله تبارك وتعالى .(18/22)
ثانياً :ينبغي أن يغرس في قلوب الأبناء محبة رسول الله صلى الله وسلم وهذا أمر يجب أن نحرص عليه أجمعين لأن حب رسول الله دين وملة وقربة لايماري في هذا اثنان فإذا كان العبد مسرورا ومحبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومات على التوحيد فإنه يرجى له الخير العظيم لحديث أنس أن أعرابيا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قال : وما أعددت لها قال ما عددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم أنت مع من أحببت قال أنس والله ما فرحنا بعد إسلامنا بشئ أعظم من فرحنا بهذا الحديث ، ومما ينبغي أن ينشأ عليه الأبناء الأمر بالصلاة والأمر بالأذكار المشروعة والأمر بالآداب الإسلامية لما في الصحيحين من حديث عمرو بن سلمة ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي أن يدا عمرو تطيش في الصفحة فقال يا غلام سم الله وأكل بيمينك وأكل مما يليك قال : عمرو فما زالت تلك طعمتي بعد أي من بعد أن دعاني إليها وحثني عليها وأرشدني إليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وما ينبغي أن يبني عليه الناس أبناؤهم أظنه معروف مشتهر ولكنني سأركز على الجانب الذي يمنع بعض الآباء من رعاية أبنائهم من الآباء كما أسلفت من يكون الإيمان ضعيف في قلبه وفاقد الشئ لا يعطيه .
إذا كان الغراب دليل قوم
دلهم على جيف الكلاب(18/23)
الأمر الثاني : أن تغلب عاطفة الأبوة أو عاطفة الأمومة على تعظيم أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول الأب إن للنجاح فرحة وإن للتفوق بهجة فلامانع من أن أبعث ولدي إلى ديار الكفر فربما اشترى له التذاكر وهو يعلم يقينا أنه هذا الابن يسافر إلى ديار الغرب للفحشاء والفجور ومع ذلك والعياذ بالله يعينه على معصية الله تبارك وتعالى لماذا ؟ لأن إعظام الله في قلب هذا العبد ليس في المستوى المطلوب يظن أنه بعاطفة الأبوة وسماع عاطفة الأمومة يحقق الغرض المنشود لابنه وكان ينبغي أن يعظم أمر الله في قلبه أعظم من محبته لولده ، وبعض الناس يظن أنه إذا عظم الله خسر الناس ووالله إنك لن تكسب الناس إلا إذا عظمت الله جل وعلا . كان هناك قاضيا من القضاة يكنى بأبي محمد في عهد الدولة العباسية فكانت البصرة وكان والي البصرة يومئذ الأمير عيسى ابن موسى فجاءت امرأة واشتكت الأمير أي الوالي على عند القاضي فبعث القاضي بحاجبه إلى أمير البلدة يستدعيه فبعث الأمير إلى القاضي يقول له : كيف أجلس مع امرأة في مجلس العامة فلما جاء الحاجب ليخبر القاضي بهذا سجنه القاضي فلما علم الأمير أرسل لصاحب الشرطة وقال له ابعث إلى للقاضي أبي محمد وكلمه في هذا الأمر فجمع صاحب الشرطة حاشيته وقدموا على القاضي وأخبروه فقال تسعى في معصية الله وسجنه مع الحاجب الأول فلما جاء الليل قام الأمير وأفرج عن صاحب الشرطة وعن بقية الحرس فلما علم القاضي في الصباح بهذا الشأن قال والله ماطلبنا القضاة من بني العباس وإنما اكرهونا عليه إكراها فركب دابته يمم شطر بغداد يريد أن يعتذر للخليفة من القضاء فلما علم الوالي خاف على منصبه منصب الأمارة فرجع ووقف للقاضي في الطريق وأخذ يستعطفه أن يرجع كرة أخرى قال لن أرجع إلا بشرطين :ـ
*ترد جميع من أطلقت سراحه .
*وتقف أنت مع المرأة في مجلس القضاة.(18/24)
فقال الأمير : نعم خوفا على منصبه فرجعوا وأدخلهم السجن فلما وقف الأمير أمام القاضي قال إن كان دعواها صادقة فأنا تنازلت وإن كانت دعواها كاذبة فأنا وهبتها تلك الحديقة فرارا من الوقوف في مجلس القضاء فلما أخذت المرأة حقها وانصرفت ـ انظر هنا إلى المصداقية في التعامل وإلى الفقه في الدين ـ لما أخذت المرأة حقها وانصرفت قام هذا القاضي وقدم مشروبا إلى الأمير وقال أهلا وسهلا بأمرائنا وأجلسه في صدر المجلس فتعجب الأمير قال : ما هذا يا أبا محمد قال كذلك أمرنا أن نصنع بالخصوم وهكذا أمرنا أن نصنع بالأمراء فلما خرجوا قال عيسى ابن موسى تلك الكلمة الشهيرة التي دوت في أذن التاريخ خرج من عند أبي محمد وهو يقول من عظم الله أذل الله له عظماء خلقه من عظم الله أذل الله له عظماء خلقه وهذا أمر لا يجادل فيه اثنان كان مالك رحمة الله تعالى عليه يعظم الله فلا يجلس في مجلس الحديث إلا وقد توضأ وتطهر حتى نقل عنه أنه لدغته العقرب ما لدغته واستحيا أن يقطع حديثا لأن فيه قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فلما دخل مالك على أبي جعفر المنصور وعند أبي جعفر أبناؤه كان أبناء أبي جعفر يرتعدون فرقا ويختبؤن خلف أبيهم هيبة من مالك رحمه الله تعالى عليه فنقول للآباء لو عظمت أمر الله ونهيت ابنك عن هذا الأمر لأكبرك ابنك في عينيه ولأجلك في قلبه لكنه والله يسافر إلى ديار الغرب والشرق ويقول بلسان العامة ـ وعذرا إن قلناها في مسجد ـ يقول أبوي.....(18/25)
أروح أجي ما يكلمني في شئ وثم إن الخطأ الأكبر ربما يابني الأقدار بيد الله ربما يا أخي لا يرجع إليك ابنك فماذا يكون حالك لو بلغت عبر برقية أو عبر الهاتف بنعي ابنك ونعاه الناس إليك كيف يكون حالك وقد قدمته إلى المعاصي وبوءت بإثمه وإثمك ( هاأنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ) ولكن ينبغي على الأب أن يعظم أمر الله قبل أن يعظم عاطفة الأبوة وقبل أن يعظم عاطفة الأمومة وقبل أن يجنح أن يحاكي الجيران وأبناء الأصدقاء وما يفعله ذوي الجاه وذوي الثراء فإن الحق أحق أن يتبع ، كذلك مما نجده مانعا في قيام الناس بهذا الواجب أن بعض الناس يدب إليهم اليأس يقولون الحمد لله هذا آخر الزمان وفتن ومعروفة والهادي فيها الله يكبر ويعقل من الكلمات هذه ويترك الحبل على الغارب دون أن يضع شئ وينسى أن الله جل جلاله سيسأله عما استرعاه عليه حفظ أم ضيع أنت قل ما عليك بعد ذلك ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( ما على الرسول إلا البلاغ ) لكن لا يعفى أحد من القيام بالمسؤولية كل قدر استطاعته وقدر ما كلفه الله جل وعلا به .(18/26)
ثم إن من مميزات البيت المسلم أيها المؤمنون : الصبر على أقدار الله جل وعلا نحن نعلم يقينا أن هذه الدنيا صحة مشوبة بسقم وسرور ممزوج بألم تضحك وتسر يطبق فيها إخبار الله لقدرته ( وأنه هو أضحك وأبكى *وأنه هو أمات وأحيا*وأنه هو أغنى وأقنى ) فالناس غني وفقير ضاحك وباك مسرور ومحزون شقي وسعيد وما إلى ذلك من الفوارق من الأسر من تسأل الله ليلا ونهارا نعمة الولد ومن الأسر من تسأل الله جل وعلا رزقا ومالا لأفواه أبنائها الذين لا يحصى لهم عدد ومن الأسر من رزق أبناء وهو يتضرع إلى الله يسأله البنات ومن الأسر من رزق البنات وهو يتضرع إلى الله أن يرزقه ابن ومن الأسر من فيهم ذاعاهه ومن الأسر من إذا قارب الشهر الانتصاف لم يجد في جيبه ولا في بيته ولافي مدخره ما يعينه على بقية مصروفه ثم يستذكر قول الله جل وعلا ( وكائن من دابة لاتحمل رزقها الله يرزقها وإياكم ) فيصبر على قدر الله وهناك أنواع كثيرة من الابتلاء لا يحصى لها عدد من الناس من لا يجد له مكانا ولاقدرا بين أسرته من الشباب من يهمز ويلمز ويسخر منه ويستهزأ به بين والديه وبين أهله لأنه أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم كل هذا يحتاج إلى صبر على أقدار الله جل وعلا والسعيد من علم أن الله تبارك وتعالى خلق كل شئ بقدر ويوفي الصابرين يوم القيامة أجرهم بغير حساب ، ورد في مسند أحمد " أن الله تبارك وتعالى تقول له الملائكة يوم القيامة ربنا نحن عبادك وخزنة سماواتك والمسبحين بقدسك أدخلنا الجنة قبل المؤمنين فيقول تبارك وتعالى لا لا ثم يدخل الفقراء المستضعفين في الأرض المؤمنين فيقول إنهم كانوا عباد يؤمنون بي ولا يشركون بي شيئا يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء " كم في هذا الناس اليوم والله كثيرا مما أعلم أنا فقط وما يعلمه غيري أكثر من الناس من لا يستطيع أن يهدي ابنه هدية النجاح من الآباء من لا يستطيع أن يقدم لأهل بيته طعامين في يوم واحد(18/27)
ومنهم كثير ومنهم من لا يستطيع أن يقوم بعلاج ابنه وإن كان هناك المعونة من الدولة والمعونة من الناس والمعونة من أهل الخير والمعونة من أهل الثراء لكن أن يكون هناك فقراء وهنا أغنياء شئ لابد منه وإلا لنتفى الفتنة وانتفى الابتلاء وانتفى الاختبار وهذا يخالف سنن الله الكونية التي لاتتبدل ولا تتغير في عهد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كان هناك أغنياء وهناك فقراء عبد الرحمن بن عوف مات ثم قسم الذهب الذي تركه بالفؤوس .(18/28)
وكان رجال من أهل الصفة قائم أحدهم لا يستطيع أن يقوم لحظات معينه إنما يسقط من شدة الجوع ليبتلى الله هؤلاء بهؤلاء ولكنني أركز على قضية أن أهل البيت المسلم ماذا يصنعون ؟ يصبرون يمشي الرجل لا يقول للناس أبنائي اتعبوني فعلوا بي مطالبهم كثير ه ويشكوا الله إلى خلقه والمرأة لا تمشي بين جاراتها وتقول فلان مقصر فلان مايدخرلنا رزق فلان يفعل ويفعل ويترك لا ينبغي هذا أبداً إبراهيم عليه السلام لما وضع هاجر وإسماعيل جاءهم بعد مده فلما طرق البيت سأل عن إسماعيل فقالت له زوجته إنه خرج في الصحراء قال فما حالكم ؟قالت في شر حال طعام قليل وأخذ تشتكي إليه فقال إذا جاء فاقرئيه منى السلام وقولي له غير عتبة بابك فلما عاد إسماعيل كأنه أنس شيئا قال هل جاءكم من أحد قالت نعم جاءنا شيخ كبير هذه هيئته قال ما قال لكم قالت سألنا عن حالنا فأخبرته أننا في شر حال قال أوصاك بشئ قالت نعم أوصاني أن أخبرك بأن تغير عتبة بابك قال ذلك أبي أوصاني أن أطلقك فانصرفي إلى أهلك ثم عاد إبراهيم كرة أخرى بعد أن تزوج إسماعيل امرأة أخرى من جرهم فلما طرق الباب لم يجد إسماعيل فسأل عنه فقالت في الصحراء قال ما حالكم قالت في أحسن حال وأخذ تثني على الوضع القائم في البيت فدعا لهما إبراهيم بالبركة ثم قال إذا جاء فاقرئيه منى السلام وأصيه أن يبقي عتبة بابه فلما جاء إسماعيل حصل ما حصل في الأول قال أوصاك بشيء قالت نعم أوصاني بأن أخبرك أن يقرئك السلام ويأمرك أن تبقى عتبة بابك قال ذاك أبي أوصاني أن أبقيك موضع الشاهد: أن التعاون بين أفراد البيت الواحد يعين على نوائب الدهر ولا ينبغي أن يتحمل المسؤولية فرد واحد ولكن التآخي والمحبة والتعاون والتكاتف يعين على نوائب الدهر مع احتساب الأجر عند الله جل وعلا وحتى في المصائب الطارئة كفقد الولد أو فقد الوالدة أوفقد عزيز ينبغي أن يكون في بيت المسلمين الإيمان واليقين الكامل بلقاء الله جل وعلا مر صلى الله(18/29)
عليه وسلم على قبر وعنده امرأة تبكي فقال لها عليه الصلاة والسلام اتقي الله واصبري قالت إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي فلم ولى صلى الله عليه وسلم أخبروها بأنه رسول الله فجاءته واعتذرت إليه قال إنما الصبر عند الصدمة الأولى كذلك ينبغي على كل من ابتلى بشئ من هذا أو قدر له أن يبتلى به أن يعلم أن ما عند الله خير وأبقى وأن لله ما أعطى ولله ما أخذ كان هناك صحابياً يترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له فقال عليه الصلاة والسلام لذلك الصحابي يا فلان أتحب هذا أي ابنك قال: يا رسول الله أحبك الله كما أحبه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقده ذات يوم فقال عليه الصلاة والسلام ما صنع فلان قالوا يا رسول الله مات ابنه فلما لقيه صلى الله عليه وسلم قال ما فعل ابنك قال مات يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام وهو الصادق المصدوق:أما يسرك أنك لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك يأخذ بردائك فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم لنا كلنا قال بل لكم كلكم.(18/30)
فهذا الحديث وأمثاله يعزي المؤمنين تعزى بالله فإن في الله عوضاً عن كل مفقود وخلفا من كل أحد والسعيد من ابتلي فصبر وانعم عليه فشكر وأذنب فاستغفر خاتمة ما يميز البيوت المسلمة العدل وبالعدل قامت السماوات و الأرض والعدل بين الزوجات ممن كان عنده أكثر من واحده أمر مفروض شرعاً قال الله تبارك وتعالى يأمر بالعدل ويدعوا إليه:((فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة))دلالة على أن العدل شرط مطلوب وإن كان العدل المطلق أمر يكاد يكون في ضرب المستحيلات ولذلك قال الله جل وعلا:((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)) وكما يجب العدل بين النساء يجب العدل بين الأبناء ومن الآباء غفر الله لهم من يصرف محبته وعطاياه وهواه وتدليله لواحد من بنيه هذا المتفوق هذا الذي فيه الأمل هذا الذي سيفعل وسيترك وهذا الذي سيكون له شأن أما فلان وفلان من أبناءه فإنه مضرب الذكر عنهم صفحا ويهمزهم يلمزهم وينتقصهم أمام الناس وهذا علاوة على أنه أمر محرم كذلك أيها(18/31)
الأحبة فيه من معصية الله جل وعلا مافيه لما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير" أن أباه قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنني نحلت ابني هذا غلام فاشهد عليه فقال: صلى الله عليه وسلم أكل بنيك نحلته مثل هذا قال : لا. قال : فاشهد على هذا غيري "وفي رواية فإني لا أشهد على جور " وفي رواية أخرى أتريد منهم أن يكونوا في البر سواء قال : نعم ، قال : فذلك إذا كما تريد من أبنائك أن يكونوا كلهم بارين بك كذلك الأبناء يريدون منك أن تكون معطيا بارا قائما بحقوقهم أجمعين " كما أن التفاضل بين الأبناء يورث العداوة والشحناء والبغضاء بينهم ولذلك قال إخوة يوسف ( اقتلوا يوسف أو طرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ) لأن وجه أبيهم في الأول كان مصروفا إلى يوسف عليه الصلاة والسلام أكثر من غيره من إخوته . عذرا أيها الأحبة إن أطلت وعفوا إن قصرت فما أردت إلا الخير ما استطعت فالله جل وعلا أسأل أن يبارك لي ولكم فيما نقول ونسمع وبعد رفع الآذان إن شاء الله تعالى سنجيب عن الأسئلة ووفقنا الله وإياكم لكل عمل صالح رشيد وجنبنا الله وإياكم سطوة يوم الوعيد وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
إن الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعوداً على بدء:
س /هذه سائلة تقول هل يجوز للمرأة أن تذهب إلى فرح يوجد به من المعاصي مالله به عليم من موسيقى وطبول وتبرج فاضح فكيف تعمل إذا كان هذا كان هذا الزواج من الأقارب الخاصة وجزاكم الله خيرا؟
&/ مثل هذه الأفراح لا يجوز حضورها أبداً لأن حضورها من التعاون على الإثم والعدوان واستماع ما حرم الله جل وعلا أن يستمع ولكن إذا كان لأهل الدعوة صلة رحم توجب الوفاء بهم فإن على المرأة أن تتخذ واحدا من أمرين إما أن تحضر العرس أو الفرح قبل أن يشرعوا في تلك الملهيات ثم تعتذر إليهم وأحب إلي أن تعتذر إليهم بأنهم عصوا الله ذلك الذي منعها من برهم حتى يعلموا مردود معصية الله جل وعلا عليهم(18/32)
والحل الثاني :أنها تنتظر بعد انتهاء الفرح ثم تأخذ شيئا من الهدايا وتقدم به على أصحاب الدعوة وتعتذر إليهم وتهدي إليهم لتبين أن أهل الإيمان و أهل الإسلام لا يقصرون في واجب وإنما يمنعهم من ذلك من انتشر من المعاصي وما سادها من الفتن والله تعالى أعلم.
س/هناك بيت نظنه ملتزم ولا نزكي على الله أحدا ولا يوجد بينهم الملهيات الحديثة كالتلفاز وغيره ولكن هناك بعض المسليات بما يسمونها مثل لعبة الورقة يلعبها الصغار و الكبار و في أثناء الفراغ وخصوصا في العطلة الصيفية فماذا نقول لصاحب هذا البيت؟
&/هو فاتني أن أنبه إلى مسالة مهمة يا إخوة لا يحمل كلامنا على مالم نقصده ليس معنا أن من اختل فيه شرط ممن قلناه أنه ليس بيت مسلم لكننا نتكلم عن البيت المسلم الأمثل الأكمل هذا واحد أما جوابنا على هذا السؤال فإن اللعب تختلف في حلها وحرمتها وأنا يبدوا لي في هذا الأمر قاعدة إذا كانت اللعبة تعتمد على حظ فهي إلى الحرام أقرب وإذا كانت اللعبة ليست فيها شئ من الحظ بمعنى ليس فيا زهر ليس فيها شئ من ....... هذه إذا كانت ليس فيها شئ من هذا تعتمد على القدرات فقط كلعبة التنس وما شابه ذلك وكرة القدم وبعض الألعاب التي في البيوت هذه أقرب إلى الحل وإلى الإباحة ولا أرى في الشرع ما يمنعها أماالعطله فإنه ينبغي أن يعلم أن الأبناء لا ينبغي كرههم على الدين كرها لكن ضيق الوقت في المحاضرة حرمنا من أن ننبه على بعض الأمور ،الله ذكر أولاد الأنبياء فقالوا :"أرسله معنا غدا يرتع ويلعب "فلا حرج على المؤمن أن يأخذ أبناءه يرتعون في غيرما حرم الله جل وعلا لكن الحرج أن يدعوهم أو يقرهم على مافيه معصية ظاهرة لله تبارك وتعالى .
س/ يقول ماحكم من زوج ابنه وهو يعلم أنه لا يصلي وهل تجاب دعوته والحظور عنده وماذا علينا إذا حضرنا لعدم قطع صلة الرحم وجزاكم الله خيرا؟(18/33)
&/الصلاة أعظم أركان الدين والخلاف في أن تارك الصلاة دون جحود يكفر أو لا يكفر مسألة خلافية بين العلماء مذهب جمهور العلماء أنه لا يكفر ومذهب أحمد وإسحاق بن راهويه ومن تبعهم من الأئمة وأهل الفتوى أنه يكفر وبما أن المسألة كما هو معلوم لمن تدبر الشرع أن فيها خلاف ظاهر بين أهل العلم وهي من مسائل الدين الكبرى فلا نرى أنه يقطع بالكلية لأنه يبقى على الظن أنه لم يخرج من الإسلام قط بناء على فتوى من قال بأنه لا يكفر من أهل العلم ولكن إذا كنا نعلم أن في حضورنا له تأييداً له على هذا الأمر لا نحضر ولكن إن كنا نعلم أن في حضورنا تغيير لبعض المنكرات وإعانة له على أن يراجع نفسه في هذا الذنب العظيم حضرنا لأن وراءه أمر خير ورشيد.
س/لقد ابتلاني الله بجيران وأقارب يضربون أولادي ويكسرون سيارتي ولقد أثر ذلك على بيتي من كثرة المشاكل فما هوالحل؟
&/يقول عمر بن الخطاب مرووا ذوا القربات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا فإن استطعت أن تنتقل من ذلك الحي وتحتسب ذلك عند الله هذا أولى وأبر وأذهب للمشاكل وإن لم يكن فعليك بالصبر وحاول مع العقلاء في الأسرة الثانية قدر الإمكان شيئا فشيئا أن يخفف من هذا الأمر لكن لا تتعرض للصغار ولا تنزل إلى مستوى أخلاقهم وأفعالهم فإنهم يفعلونه عن جهل في الغالب.
س/هذا يقول إنني أبر أمي ولكن تعاملني بأخلاق سيئة ماذا أعمل معها ؟
&/لو سألتنا عن آحاد المسلمين لقلنا لك اصبر فماذا وقد سألتنا عن أمك اصبر أكثر وأكثر وأعلم أن هذا من الطرائق إلى الجنة قال يا رسول الله لي ذوي قربات يمنعونني وأعطيهم وكذا وكذا قال كأنك تسفهم المل أي الرماد الحار هذا هو الذي فيه الأجر وهذا هو الذي فيه القربى من الله تبارك وتعالى وإلا إذا كافأ الإنسان من يكافئه هذه واحده بواحده ولكن الخير في أن نتقرب إلى الله فيمن يمنعوننا حقنا ومع ذلك نتقرب إلى الله جل وعلا بآداء حقوقهم .(18/34)
س/يقول لقد ذكرت حديث ما ذكر عن يخفف عن أبي لهب وفرحته بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذا الذي يستشهد به ذكر طائفة من الناس على المولد فكيف الرد على من يقول بذلك وجزاك الله خيرا؟
&/نحن نقول هذا دين لا مجاملة فيه لأحد ولا مداهنة فيه لزيد ولا لعمرو ولا لبيئة ولا لأقوال أحد ، الحق يجب أن يعلم يرضى زيد يغضب عمرو ليس من شأننا الحق يجب أن يعرفه الناس يجب أن يربي الناس ،بعض الناس مثلا يقول أنا ما اسمي الحسن والحسين لماذا عافاك الله؟ قال حتى لا يحسبوا إني شيعي يا أخي أنت أولى بهذا من الشيعة الشيعة دعاوى باطلة الرافضة دعاوى كاذبة أهل أهل السنة أولى بأن يسموا الحسن والحسين والعباس والفضل هؤلاء قرابة نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك المولد باطل شرعا ليس هناك دليل على أن المولد أمر جائز شرعا فحديث أبي لهب ليس فيه لكل عاقل عالم ما يدل على شرعية المولد هذا الحديث كان معروفا بين الصحابة مشتهرا بينهم العباس نفسه رواه لما العباس لم يفعل المولد؟ لأنه ليس في الحديث ما يدل على المولد فأنا لا أخفي هذا الحديث خوفا من أن تأتي طائفة تفهمه خطا من يفهم خطا لا يحرمني من إظهار الحق نحن نقول الحق أينما كان إذا رأينا أن في قوله مصلحة شرعية وإنما نخفيه فقط إلى أمد إلى وقت محدد حتى لأن كتمان العلم لا يجوز ولكن أن نذهب بالدين كله لا نتكلم عن الرسول حتى لا يقال إننا من أهل الموالد لا نسمي الحسن والحسين حتى لا يقال أننا رافضة لا نفعل كذا حتى لا يقال تركنا الدين كله للناس نحن نفعل ماهو حق وما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وإن شابه تلك الحسنه ما يفعله غيرنا من أهل البدع والضلالة أو من أهل الكفر والإلحاد .
س/هذا يقول فضيلة الشيخ أجد أنني مقصر في حق الله وأقع في المعاصي بسهولة فهل دعوة جديدة لي فهل دعوة لي ولأمثالي من العصاة لنستغفر الله؟(18/35)
&/والله أنا أدعوا نفسي قبل أن أدعوك وأدعوا كل مؤمن أن يؤوب إلى الله جل وعلا وأن يعلم أن التوبة وظيفة العمر وأن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وأن الله غني عن طاعة كل أحد غني لا تضره معصية أحد كائنا من كان يقول جل وعلا في الحديث القدسي عند مسلم من حديث أبي ذر :"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا"
فالمقصود أننا أنا وأنت أيها الأخ المؤمن في حاجة إلى رحمة الله في حاجة إلى أن نقي أنفسنا ذل أنفسنا ذل الفضيحة يوم العرض على الله في حاجة على أن نقي أنفسنا ناراً تلظى أخبر الله جل وعلا على أن أهلها خالدين فيها أبدا الآبدين في حاجة إلى أن نستمطر رحمة الله ونستدفع نقمه الله بالإقبال على طاعته والأعراض عن معصيته .
س/ماهي الأشرطة التي تنصح أن تكون في بيت المسلم؟وماهي الكتب ومارأي فضيلتكم في الأشرطة المرئية "أشرطة الفيديو الدينية"؟
&/ننصح بكل شريط فيه تذكير بالله ودلالة للسنة ودعوة إلى الله جل وعلا من أشرطة علمائنا ودعاتنا المشهورين وغير المشهورين ففي كل خير.
وأما الأشرطة المرئية فمعلوم أن النظر إلى الفيديو ليس من جنس الصور التي حرمها الله أو حرمها رسوله صلى الله عليه وسلم فلا حرج أبدا أن يرى المسلم من الأفلام الدينية ما يدل على الخير أو يعينه على الرشد .
بعض الأسئلة فيها شئ من التكرار ، ولكن نحن نبحث عن الأسئلة التي تكون في الإجابة عليها نفع للجميع .
س/ فضيلة الشيخ مار أيك إذاكان أهل بيت لا يصلون هل يجوز إذا كان بينهم شاب ملتزم أن يأكل معهم ويجلس معهم مع أنهم يكرهون الملتزمين ويقولون إنهم كذا وكذا وهو لم يقم من ناحية الدعوة " بعض الكلمات غير مفهومه " ؟(18/36)
& / إذاكان هؤلاء أهل بيته يعني أمه وأبوه إخوانه فله أن يأكل ويشرب معهم نحن والله تعالى أعلم نرى أن تارك الصلاة لا يصل إلى مرحلة الكفر الأكبر المخرج من الملة فعلى ذلك نقول أنه يجوز مؤاكلتهم ومشاربتهم هذا الذي تبين لنا من دين الله تبارك وتعالى ، أما إنهم يكرهون الملتزمين فهذا من سوء فكرهم وظنهم واعتقادهم ومن سوء فقهم في دين الله تبارك وتعالى وربما كان مثل هذا الأمر وبال عليهم ولكن إن كانوا أهل بيته وخاصة أصحابه عليه أن يرشدهم ويدعوهم إلى ماهو خير لهم .
س/ ماحكم الصلاة في قميص النوم أو ثوب قصير لا يستر البدن أو بالعباءة أو ما إلى ذلك؟
&/ ستر العورة معلوم أنه واجب من شرائط الصلاة وأما الصلاة في قميص النوم إذا كان ساترا في البيت فلا حرج أما في المساجد فإن تركه أولى لعموم قول الله جل وعلا :( يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد )
س/ يقول ماحكم التلفزيون ؟
&/هذا سؤال قديم التلفزيون آلة يعرض فيها الخير فهو خير يعرض فيه الشر فهو الشر لكن بلاشك تركها وعدم شرائها وبقائها في البيت أولى وأكمل وأصلح بلا ريب ولا يحتاج هذا إلى تردد أبدا .
هذا ما تيسر قوله والإجابة عليه من الأسئلة حتى لا نكثر عليكم ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم العون والتوفيق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد .
وأخيرا نسأل الله الإخلاص والقبول في القول والعمل
أخواتكم/
المُخبتات(18/37)
الجزاء من جنس العمل
مما دل عليه القرآن أيها المؤمنون " أن الجزاء من جنس العمل " قال الله جل وعلا (هَلْ جَزَآءُ الإحْسَان إلا الإحْسَانُ ) فإن من قواعد سنن الله في خلقه اللتي لاتتبدل ولا تتغير أن الجزاء من جنس العمل إن كان سيئة سيئه من جنسها وإن كان حسنة كانت حسنة من جنسها بينه قد يقع ذلك حتى في الحياة الدنيا قبل أن يقوم الأشهاد ويحشر العباد بين يديَّ ربهم جل وعلا وسنذكر نماذج جاء بها القرآن أو دلت عليه السنه تبرهن على صدق هذه الدلاله من أعظمها أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام نقل أنه كان من أعظم عباد الله خوفا من الله جل وعلا وخشية من ربه فكلما أمره الله بأمر بادر إليه دون أن يسأل ( إذ قَالَ لهُ ربُّهُ أسْلِمْ قَالَ أسْلمْتُ لِرَبِّ العَالمِينَ * وَوَصَّى بهَآ إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنتُم مُّسْلِمُونَ ) هذا الخوف من الله جل وعلا الذي كان في قلب إبراهيم في الدنيا قال صلى الله عليه وسلم كما في المسند بسند صحيح ( يحشر الناس يوم القيامه حفاة......فيكون أول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ) فلما كان شديد الخوف من الله في الدنيا ويحشر الناس خائفين وجلين من رهبة الحساب والعذاب يطمئنه ربه فيكون عليه الصلاة والسلام أول من يكسى في عرصات يوم القيامه ولا يعني هذا أنه أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم ولكن قد يكون في النهر كما يقول العلماء مالا يكون في البحر كذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنى لله الكعبه بنى لله بيته بوادي غير ذي زرع فلما عرج برسولنا صلى الله عليه وسلم أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور فكما بنى لله جل وعلا بيتا في الدنيا مكنه الله أن يسند ظهره إلى أعظم البيوت إلى البيت المعمور في السماء السابعه فالجزاء من جنس العمل.(19/1)
ـ جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان أحد قادة المسلمين في معركة مؤته وكان يحمل الرايه بيده اليمنى فلما بترت أخذها بشماله فلما بترت شماله أخذ يجمع الراية بين عضديه ما استطاع حتى أستشهد رضي الله عنه وأرضاه والجزاء من جنس العمل يقول صلى الله عليه وسلم كما رواه الطبراني بسند صحيح من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال دخلت الجنه البارحه فإذا جعفر يطير مع الملائكه بجناحيه وإذا حمزة متكأ على ..... ) فلما فقد يديه من أجل الله تبارك وتعالى كان الجزاء من جنس العمل فعوضه الله جل وعلا بجناحين يطير بهما مع الملائكة في جنات النعيم.
ـ موسى عليه الصلاة والسلام أحد أولوا العزم من الرسل سأل الله جل وعلا مقام الرؤيا بعد أن أعطي مقام التكليم فلما تجلى ربه للجبل كما دل عليه القرآن صعق موسى قال الله جل وعلا ( وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أفاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأنَا أوَّلُ المُؤْمِنِينَ ) قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما ( لا تخيروني بين الأنبياء فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فأرى موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) فجعل الله جل وعلا في ظاهر قول نبينا صلى الله عليه وسلم جعل مكافئة موسى عندما صعق عندما تجلى ربه للجبل جعله عليه الصلاة والسلام أول من يفيق ويأخذ بقوائم العرش إتماما لما دل عليه القرآن وبرهانا للسنة الربانية أن الجزاء من جنس العمل.(19/2)
ـ الذين يشربون الخمر في الدنيا أعاذنا الله وإياكم منها يلجأون إليها فرارا من الهموم ويحتسونها رغم أنهم يعلمون أن فيها معصية للحي القيوم فينهل بعضهم منها بلا رويه وكل ذلك حرام فهؤلاء يوم القيامه لأنهم أسرفوا على أنفسهم في هذه المعصيه وشربوا من الخمر يقول صلى الله عليه وسلم كما روى ابن ماجه بسند صحيح ( من شرب الخمر في الدنيا لم يقبل الله منه صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه وإن مات أدخله الله النار فإن عاد وشربها لم يقبل الله منه صلاة أربعين صباحا فإن مات أدخله الله النار وإن تاب تاب الله عليه ثم قال صلى الله عليه وسلم في الرابعه فإن عاد فشربها فسكر كان حقا على الله أن يسقيه من رغدة الخبال قالوا يارسول الله وما رغدة الخبال قال عصارة أهل النار ) أعاذنا الله وإياكم منها فالجزاء من جنس العمل
ـ من الناس أعاذنا الله وإياكم من طبع في قلوبهم الكبر يودون أن يختالوا على الناس ويرون أنهم أرفع مقاما وأعظم حسبا وأكرم نسبا ولا يتكئون على شئ من الطاعات في حديثهم... في خطابهم... في قولهم... يلحظ من يكلمهم ماهم فيه من استكبار وعلو يوم القيامه يقول صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ( يحشر المتكبرون يوم القيامه كأمثال الذر في صور الرجال يحيط بهم الذل من كل مكان جزاء وفاقا من رب العالمين جل جلاله ) كانوا في الدنيا متعالين متكبرين يظنون أنهم أرفع قدرا أو أعلى مكانا فإذا كان في عرصات يوم القيامه وكان أحوج مايكونوا إلى أن يرفعوا رؤوسهم حشروا أذله كأمثال الذر في صور الرجال جزاء وفاقا من الله أسرع الحاسبين.(19/3)
ـ المجاهدون في سبيل الله يقاتلون في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله فيرون الموت عيانا يرونه من غير ريبه وكان بإمكانهم أن يمكثوا في بيوتهم ويقعدوا كغيرهم كان بإمكانهم إذا رأوا الموت عيانا أن يفروا فيمكثون باقين محتسبين عند الله فإذا أدخلوا قبورهم لم يفتنوا ولا يسألهم الملكان كما يسألون غيرهم من العباد روى النسائي بسند صحيح ( أن رجلا قال يا رسول الله ما بال الناس يفتنون في قبورهم إلا الشهداء فقال صلى الله عليه وسلم كفا ببارقة السيوف على رأسهم فتنه كفا ببارقة السيوف على رأسهم فتنه ) وقوله صلى الله عليه وسلم ببارقة السيوف إخبار بأسلحة ذلك العصر وإلا فالأمر مطرد كل سلاح عصر يعتبر فتنة للمقاتل في سبيل الله جل وعلا فإذا صبر واحتسب حتى يلقى الله شهيدا في أرض المعركه كان حقا على الله أن ينجيه من فتنة القبر لأنه لم يعد في حاجة أن يسأل عن ربه ودينه ونبيه لأنه لو أراد أن يتذكر وأراد أن يفر لكان بإمكانه أن يفعل ذلك في الحياة الدنيا فلما صبر في الأولى ثبته الله جل وعلا في الأخره وفي حرب الشيشان الأخيره فقد المسلمون الكثير من شباب الأمه مما لا نزكيهم على الله ولكننا نحسبهم أنهم ماخرجوا إلا ابتغاء رضوان الله والشهادة في سبيله فنسأل الله جل وعلا أن يغفر لهم ويرحمهم وأن ينزلهم في أعلى المنازل وأن يمن على من بقي منهم بالعافيه والسلامه...
ـ الجزاء من جنس العمل قد يكون دنيويا قبل الأخره فإن عثمان رضي الله تعالى عنه دخل عليه الخوارج في بيته وهو أفضل أهل زمانه رضي الله عنه وأرضاه ولرحمة في قلبه منع الناس من المهاجرين والأنصار أن ينصروه ولم يأذن لأحد أن يحمل سلاحه على الخارجين عليه فدخل عليه أولئك المنافقون حتى قتلوه ثم وجدوا في بيته صندوقا مختوم ففتحوه فوجدوا فيه هذه وصية عثمان
بسم الله الرحمن الرحيم(19/4)
"عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن النبيين حق وأن الجنة حق وأن النار حق عليها يحيا وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله تعالى "
وجه الشاهد:ـ أن هؤلاء قتلوا عثمان فأخبر الصحابه بما كان من هؤلاء الخوارج فلما بلغ سعدا رضي الله تعالى عنه ذلك قال رضي الله عنه وأرضاه تلى الآيه (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) ثم قال اللهم اندمهم ثم خذهم أي أورثهم الندم ثم خذهم قال بعض السلف: والله الذي لا إله غيره مامات أحد من قتلت عثمان إلا مقتولا فكل من شارك في قتل عثمان أدركه القتل على غير يدي عثمان ومات مقتولا جزاء وفاقا والجزاء من جنس العمل .(19/5)
ـ من الناس جعلنا الله وإياكم منهم من يسمع الأذان للصلاة الفجر فيخرج في الظلمات ولا عبرة بالأضواء لأن العبره بحقيقة الوقت فيخرج في الظلمات إما على قدميه أو على دابته لا يبتغي إلا الأجر من الله يحتسب عند الله جل وعلا صلاة الفجر حتى يكون صباحه مقرونا بالخير لسجدة لله جل وعلا ويمشي إلى صلاة العشاء في الظلمات فهؤلاء الجزاء من جنس العمل يقول صلى الله عليه وسلم وهو الصادق والمصدوق ( بشر المشائين بالظلم بالنور التام يوم القيامه ) وما أحوج الناس يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد إلى نور يستعينون به في عرصات يوم القيامه فإن الغدو والرواح والمشي والذهاب في عرصات يوم القيامه لا يعتمد على قوة الأبصار وإنما يعتمد على ما يعطيه الله جل وعلا عباده من نور ( يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَالْفَوْزَ الْعَظِيمُ ) هذه أيها المؤمنون بعض النماذج الداله على أن الجزاء من جنس العمل.
ـ فإذا تبينت هذه الدلالة القرآنيه لنا كان حقا علينا أن نتقي الله في غدونا ورواحنا وأن ينظر أحدنا في مسالكه وتعامله مع العباد فإن الأيام دول والدهر ذو عبر ولا بد من وقوف بين يدي الله جل وعلا فلا يغرنك يا أخي غناك أن تستكبر على من كان أفقر منك ولا يغرنك يا أخي منصبك وجاهك على أن تستضعف من هو دونك ولكن العاقل يعلم أن الله جل وعلا لايضيع شيئا عنده .
ازرع جميلا ولو في غير موضعه
إن الجميل جميل حيث مازرع
إن الجميل ولو طال الزمان به
فليس يحصده إلا الذي زرعه(19/6)
ـ يروى أن البرامكه كما تعلمون كان لهم شأن عظيم في دولة بني العباس وقرب الرشيد آل برمك حتى أصبحوا أثراء لديه فنجم عن ذلك غناهم وعلوا كعبهم وطاعت الناس لهم وكان أحدهم رجلا صالحا يملك بستانا يفئ إليه فدخل الرشيد ذات يوم ومعه وزيره جعفر البرمكي دخل القصر يمضيان فيه سحابة يومهما فلفت نظرهما ثمرة في شجرة عاليه فقال الرشيد لجعفر إرقى على كتفي وأتنا بتلك الثمره قال بل أنت يا أمير المؤمنين إرقى على كتفي فقال الرشيد لا بل إفعل ما أمرك به فارتقى جعفر على كتف الرشيد والرشيد أمير المؤمنين وقطف الثمره وصاحب المزرعه ينظر إليهما متعجبا مما يراه فلما خرجا قال الرشيد لصاحب البستان إنني أمضيت في هذا اليوم سحابة في مزرعتك هذه سحابة يومي فاطلب مني ماشئت فقال ياأمير المؤمنين إعفني قال عزمت عليك أن تفعل فقال ياأمير المؤمنين أكتب لي كتابا فيه أنني برئ من البرامكه بخط يدك فتعجب الرشيد وتعجب جعفر لكن الرشيد مع إلحاح الرجل كتب للرجل ما أراد ثم مضى فماهي إلا يومان أو ثلاثه ونسي ماكتب لأنه أمير المؤمنين مشغول بغير ذلك مضت الأيام توالت الأعوام ثم تغير الرشيد على البرامكه كما يعرف تاريخيا "بنكبة البرامكه" فأمر بقتل بعضهم وحبس آل برمك أجمعين فذهب الحرس والجنود إلى ذلك الرجل فقتادوه فقال أدخلوني على أمير المؤمنين فلما أدخلوه أخرج الورقه من جيبه وقال يا أمير المؤمنين لقد كتبت لي عهدا بخط يدك أنني بريء من البرامكه فتعجب الرشيد منه وقال ياهذا ماحملك على ما صنعت قال يا أمير المؤمنين والله مارأيت جعفرا قد وصل إلى أن يرقى على كتفك إلا علمت أنه سيسقط لا محاله.(19/7)
ـ فكلما على شأن الإنسان وبلغ ذروة الإستغناء البشري دل ذلك على قرب زواله إن كان ذلك بموت أو كان ذلك بحادث يزيله عن مقامه ولذلك قال الله جل وعلا (حَتَّى إذَآ أَخَذَتِ الأرْضَ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَ لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ) فالعاقل يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه وأن الأيام دول بين الناس ولا يقدم إلا ما يسعده أن يراه في آخرته ولا يتعامل مع الناس إلا بما يحب أن يعاملوه الناس به وإذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا لا إله إلا هو يحكم مايشاء ويفعل مايريد .
منقول بتصرف
شريط:من معين القرآن الكريم.
للشيخ :صالح المغامسي....(19/8)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأشهد إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين أخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجّلهم يوم القيامة شأنا وذكرا صلى الله عليه وعلى اله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :(20/1)
فإن الأيام لا بد لها أن تقضى وأن الليالي لا بد لها أن تنتهي وأن الأعمار لا بد لها أن تطوى والله جل وعلا أراد بنا أشياء وأمرنا بأشياء وليس من الحكمة أن ننشغل بما أراده بنا عما أمرنا به والله تبارك وتعالى إذا أخبر أن الدنيا فانية وأن الأعمار ذاهبة فإن أيام العبد ولياليه ما شغلت بشيء أعظم من تدبرها لكلام ربها جل جلاله وتأملها في آيات القرآن العظيم إما أن تتلوه وإما أن تتدبره وإما أن يمن الله عليها بالجمع بين الاثنين قال جل ثناؤه وتباركت أسماءه { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين َقالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فإذا أراد الله بعبد خيرا ألزمه كتابه المبين يتلوه ويتدبره يقرأه في النهار ويقوم به يّدي ربه في الليل قال جل ثناؤه وتباركت أسماءه { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} وذكر الله جل وعلا نتفاً من أخبار أهل طاعته وأولياؤه أنهم تجتمعون يوم القيامة في الجنة كما يجتمعون في الدنيا قال الله جل وعلا عنهم { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ(20/2)
الرَّحِيمُ} فمنن الله جل وعلا على بعض خلقه أو على خلقه عامه فيما سخره لهم أو على أفراد من عباده كل ذلك تضمنه بعض آيات الكتاب العزيز قبل الشروع والازدلاف إلى ذلك فنقول والله المستعان:
إن وجود المنن يدل على وجود المنان جل جلاله كما أن عظمت المخلوق تدل على عظمة الخالق وعظمة المصنوع تدل على عظمة الصانع فإن وجود المنن على العباد دلالة على أن هناك رب لا رب غيره ولا إله سواه والله تبارك وتعالى له على عباده المنة السابغة والحكمة البالغة وهو تبارك وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا شريك معه ولا رب غيره ولا وزير له تنزه وتقدس عن الصاحبة والولد لا يتعاظم شيئاً أعطاه يده سحاء الليل والنهار { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } فهو تبارك وتعالى رب ذو فضل كريم العطاء واسع السخاء ولا يمكن أن تكون هناك منن حتى يكون هناك رب عظيم جليل كريم رحمن رحيم يهب ويعطي يخلق ما يشاء ويختار والعلم بأن الله جل وعلا هو وحده المنان القادر على أن يهب من أعظم ما يجعل العبد عرضة لرحمة الله ونفحاته وعطاياه ومننه تبارك وتعالى قال الله جل وعلا { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون َبَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(20/3)
الأمر الثاني الذي ينبغي أن يعلم أن الله كما أنه رب ذو فضل فإنه جل جلاله حكم ذو عدل أن الله لا يظلم الناس مثقال ذره وإن تكُ حسنه يضاعفها ويأتي خيراً مما أُخذ من العبد فهو جل وعلا حكم عدل قبل أن تشرع في فهم منن الله جل وعلا على عباده يجب أن تفقه أنه لا يضيع عند الله شيئا قال يوسف عليه السلام يمدح ربه ويثني عليه كما حكا الله عنه في كتابه { إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وربنا يقول {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ } أن يعلم أن القرآن العظيم فيه من البلاغة وفيه من الإعجاز ما يحتوي على الإعجاز في لفظه والإعجاز في معناه فكما يخبر الله عن المنن إظهاراً أحيانا يخبر عنها جل وعلا من باب الإضمار أحيانا فالإظهار يكاد يعرفه كل أحد وما أضمره الله جل وعلا من منن على بعض عباده هذه التي ينبه لها العلماء ويسابق فيها الأخيار الذين منّ الله عليهم بالقدرة والعطاء على أن يتدبروا كلام ربهم تبارك وتعالى ، مقول من دلائل إعجازه القرآن مثلا أن الله ذكر في كتابه المشرق والمغرب ذكرهما مفردين وذكرهما على هيئة التثنية وذكرهما على صيغة الجمع وكل ذكر لهما كان يوازي السياق العام الذي جاء فيه ، لما ذكر الله جل وعلا عبادته والتوجه إليه في الصلاة وهو حق له مطلق تبارك وتعالى لا يشاركه فيه أحد قال سبحانه { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} فأفرد الله ذكر المشرق وأفرد ذكر المغرب ولما ذكر جل وعلا الانقطاع إليه والتبتل إليه وذكر وحدانيته وأنه لا رب غيره ولا إله سواه قال سبحانه لنبيه { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فذكرهما الله جل وعلا على هيئة الأفراد لأن السياق والمنح العام للآيات يتطلب هذا ولا ملزم على الله ، فلما خاطب الله(20/4)
الثقلين الجن والأنس وقال جل ذكره { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّار ٍفَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وكان الخطاب للاثنين ثناء جل وعلا المشرق والمغرب ولم يذكرهما مفردين كما فعل في الأولين قال جل ذكره { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْن فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ولما ذكر سبحانه تفرق الناس على نبينا (صلى الله عليه وسلم ) واختلافهم فيه أي القرشيين هذا يصدقه وهذا يكذبه والمكذبون له هذا يقول أنه مجنون وهذا يقول أنه ساحر وهذا يقول أنه كاهن وهذا متوقف فيه قال جل ثناؤه وتبارك أسمه { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِين أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} فجمع جل وعلا حتى يناسب اللفظ القرآني يناسب السياق العام والمنح الذي جاء فيه الأيه لما كان كفار قريش متفرقين في فهم القرآن في فهم الرسالة جاء الخطاب القرآني متفرقاً { فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُون} وما يقال عن هذا السياق يقال كذلك عن التقديم والتأخير في كلام رب العزة جل جلاله ، ذكر الله جل وعلا أولي العزم من الرسل في سورتين من كتابه ، ذكرهما في الأحزاب وذكرهما في الشورى قال في الأحزاب { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا } فلما ذكر الله جل وعلا فضيلة الرسل بدأ بنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أشرف الرسل صلوات الله وسلامه عليه فقدمه ثم ذكر الأنبياء حسب ظهورهم التاريخي { وَإِذْ أَخَذْنَا(20/5)
مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } على هذا كان ظهورهم التاريخي عليهم الصلاة والسلام فلما أراد الله ذكر الدين وأن الدين قديم قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبدأ الله بنبينا عليه الصلاة والسلام وإنما بدأ بنوح لأنه أول من بعث بالرسالة وأول رسل الله إلى أهل الأرض فقال جل ثناؤه { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} فذكر الله جل وعلا أول الرسل ولم يذكر أشرفهم وسيدهم لأن الكلام عن الدين فالمقام الأول وليس الكلام عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ذكر الله جل وعلا في كتابه الوصية والدين والفقهاء متفقون على أن الدين مقدم في إنجازه على الوصية ومع ذلك قال الله تبارك أسمه وجل ثناؤه { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فقدم الوصية على الدين لأن الدين يوجد من يطالب به أما الوصية فالغالب لا يعلمها الفقراء فلا يطالبون بها فقدم الله جل وعلا ما حقه الاهتمام على ما يمكن تأجيله وإرجاؤه وهذا كله أيها الأخ المبارك مندرج في بلاغة القرآن وإعجازه اللفظي كما هو معجز في معناه ولا ريب أنه كتاب من عند رب العالمين فلا غرر ولا عجب أنه يكون بهذا الأمر ، الأمر الرابع أن يعلم العبد أن الله تبارك وتعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب فإن العطايا والمنن إنما تكون إذا كانت عطايا دينيه إنما تكون على قدر ما الرب جل وعلا من عظمه وإجلال في قلب ذلك العبد والأنبياء والمرسلون يدركون مقامهم عند الله لأنهم يعلمون مقام الله في قلوبهم فهذا والد الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مرة عليه أيام لم يكن أحد على الأرض يعبد الله غيره فكان يعرف ما له عند الله جل وعلا من رفيع(20/6)
المقام فلما ابتلي بأبيه قال لأبيه { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ثم قال يبين مقامه عند الله { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } أي أنني أعلم من ربي أنه يحتفي بي وله عنده مقام عظيم لأن إبراهيم يعلم ما في قلبه من تعظيم وإجلال ومحبه وخوف من الله جل وعلا ، فمن أراد المقام الرفيع عند الرب تبارك وتعالى والعطايا الدينية فإن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن يحب ، فمن أراد أن يكون له عند الله جل وعلا المقام الرفيع فليكون لله جل وعلا العظمة في قلبه والمحبة والإجلال والخوف والعبادة والتقوى وكل ما أمر الله به تبارك وتعالى وهذا من أعظم ما تستدر به نعم الله وتستدفع به النقم أعطانا الله ووهبنا وإياكم من نعمه ودفع الله عنا وإياكم من النقم أكثر مما نخاف ونحذر.
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقهمْ عَذَابَ الْجَحِيم }(20/7)
العرش أيها المؤمنون سقف المخلوقات والله جل وعلا مستوي عليه استوى يليق بجلاله وعظمته ومع استوى الله جلا وعلا على العرش فإن للعرش حمله يحملونه قال سبحانه{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } هذه طائفة ثم قال { وَمَنْ حَوْلَهُ } هذه واو عطف والعطف يقتضي المغايرة أي من حول العرش غير حملة العرش فحملة العرش يحملون العرش ومن حول العرش يطوفون حول العرش والذين يحملون العرش ومن حول العرش كلهم مخلوقون عبّيد مقهورون لرب العالمين جل جلاله يسبحون بحمده ويكثرون من ذكره قال الله عنهم { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } عظم علمهم بالله فعظم فرقهم من الرب تبارك وتعالى عظم علمهم بالخالق سبحانه وتعالى فعظم إجلالهم له جل وعلا عرفوا ربهم فخافوا منه والعبد كلما كان بالله أعرف كان لله أتقى ومن الله أخوف قال ( صلى الله عليه وسلم ) : مررت ليلة أعرج بيّ وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تبارك وتعالى ، فهو ( صلى الله عليه وسلم ) يقول: أما وأني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشيه ) فما دام ( عليه الصلاة والسلام ) أعلم الخلق بالله فهو قطعاً ( صلوات الله وسلامه عليه ) أشد الخلق لله خشيه يقول سبحانه { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } نقول كما قال الله إن حملة العرش ومن حول العرش والعرش الله جلا وعلا مستغني عن ذلك كله وحملة العرش وسائر الخلق فقراء كل الفقر إلى الرب تبارك وتعالى والله جل وعلا وحده له الكبرياء والعلو فكتب على عباده أن يسجدوا له ، والسجود أعظم ذلة من حيث الموطن والموقع ، وكلما ذل الإنسان لربه وعرف أنه ما من نعمه إلا والله وليوها وما من نقمة إلا والله قادراً على أن يدفعها ، كلما علم أن الله وحده { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } كلما تيقن أن الله يخلق ويرزق(20/8)
ويعطي ويمنع ويخفض و يرفع وأنه لا يستحق أن يعبد أحداً بحق إلا هو سبحانه وأن الله جل وعلا وحده له رداء العزة والكبرياء وأنه لا يطلب شيئاً إلا بالله ولا تدفع نقمه إلا بالله ولا ينال مرغوب إلا به سبحانه وتعالى ، كل من تيقن بذلك دل ذلك على علمه بربه تبارك وتعالى وهو الذي فيه وعليه قضى أنبياء الله حياتهم ( صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ) قال نوح {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} وقال أخرهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } ثم بين جل وعلا في هذه الأيه أن هولاء الملائكة يحملون العرش وما حملة العرش إلا طائفة من الملائكة ، والملائكة خلق من خلق الله خلقهم الله جلا وعلا من نور ليسو شركاء لله ولا أندادا ولا بنات لله ولا أولادا إنما هم عبيد من عباده وخلق من خلقه يأتمرون بأمره ويقفون عند نهيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون منهم من أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي وهو جبريل ومنهم من أوكل الله جل وعلا عليه جريان السحاب وتوزيع الأمطار على الأقطار وهو ميكال ومنهم من أوكل الله إليه النفخ في الصور وهو إسرافيل ومنهم من أوكل الله إليه قبض الأرواح وهو ملك الموت وغيرهم آخرون كُثر قال الله جل وعلا عنهم { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو } منازلهم الأولى هي السماء وعبادتهم التي لا يفترون عنها أنهم يقولون (( سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم )) وجاء في بعض الآثار أنا منهم من هو ساجد لله منذ أن خلقه الله ومهم من هو راكع لله منذ أن خلقه الله ، فإذا كان يوم القيامة يقبضون على هذه الهيئة ويحيون على هذه الهيئة فإذا رفعوا رؤوسهم رأو(20/9)
وجهه ربهم تبارك وتعالى فيقولون عند رؤية وجهه العلي الأعلى سبحانك ما عبدنك حق عبادتك .
قال سبحانه يبين فضل الإيمان { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } فأنت في هذا البيت في بيت من بيوت الله لأنك أردت ما عند الله من الأجر وعقدت أناملك بالتسبيح ولهج لسانك بذكر الله ودخل الإيمان في قلبك وكل ذلك بفضل الله تستغفر لك ملائكة السماء يستغفر لك حملة العرش فالإيمان جمع بينك وبين سكان السموات العلى والكفر يفرق بينك وبين أقرب الناس إليك قال الله جل وعلا عن أبن نوح { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقد كان الخليل على كرامة عظيمة من الله { سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } فالخليل إبراهيم المنزلة العالية والاحتفاء العظيم في الملكوت الأعلى ومع ذلك لما كان أبوه كافراً لم ينشئ أي علاقة ، علاقة نفع ما بين إبراهيم وأبيه ، ينتفع صغار المسلمين من موتاهم إلى قيام الساعة بدعاء إبراهيم لهم نقول في دعاءنا للأموات الصغار (( اللهم ألحقهم بكفالة أبيهم إبراهيم في الصالحين )) فينتفع هؤلاء الصغار بكفالة أبيهم إبراهيم ولا ينتفع أبو إبراهيم نسباً بكرامة إبراهيم عند ربهم فالإيمان جمع بيننا ونحن في الأرض مع ملائكة السماء وهم في السموات العلى والكفر عياذاً بالله يفرق ما بين المؤمن وأي كافر أخر حتى يعلم أنه لا وشائج ولا صله تربط بين المؤمن والأخر أعظم من رابطة الإيمان قال سبحانه { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ(20/10)
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } إن الإنسان لا تحمل فوق ظهره شيئاً أنكى ولا أعظم من حمل الذنوب قال جل وعلا { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } وقال جل وعلا { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } و بعد أن ذكر موسى قال { فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فما تُقرب إلى الله شيئاً بعد توحيده أعظم من استغفاره جل وعلا وملائكة السماء وحملة العرش على وجهه الخصوص ومن حول العرش يستغفرون لكل مؤمن ومؤمنه – نسأل الله جل وعلا أن نكون ممن ينالهم بركة ذلك الاستغفار { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقر عين المؤمن إذا أمسى يثوي إلى أهله والتف حوله والداه وزوجته وبنوه وبناته وحق له أن تقر عينه بهذا ، ولهذا يجد المغتربون من الناس كمداً في صدورهم إذا أوو إلى منازلهم ولم يلتقوا بأهليهم ويسألون الله أن يطوي عنهم أيام الغربة ، لكن القرار الحق والفرح الكامل والبهجة التامة يوم أن يلتقي المؤمن بوالديه وزوجته وأبناءه وبناته في جنات النعيم قال الله عنهم { وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي(20/11)
وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولن يقدم أحداً لوالديه أو لولده من بعده شيئا ًهو ذخراً أعظم لهم من العمل الصالح فإن العبد إذا كان صالحاً نفع الله بصلاحه والديه وذريته من بعده ، ربما جعله الله جل وعلا ممن يشفعون في عرصات يوم القيامة وهذا أمر مستقراً شرعاً له أدلته الظاهرة في الكتاب والسنة وإنما نمر به هنا ألماماً – نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل ذلك النعيم- قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة يحدث عن أهل النار وهي الخزي الأعظم والخسران الأكبر قال جل جلاله { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أهل النار يقولون يومئذ { رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ } موته ونحن أجنه في بطون أمهاتنا فنفخت فينا الروح والموته الثانية يوم قبض الأرواح وهي الموته المكتوبة على كل أحد { وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} الحياة الأولى عندما نفخت فينا الروح فكنا أحياء في بطون أمهاتنا الحياة الأولى حياة الدنيا والحياة الأخرى يوم بعثهم الله جل وعلا من مرقدهم كما قال الله في يس{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} فإذا اعترفوا بهذا يقولون هل إلى خروج من سبيل خروج من النار وعودة للدنيا علهم يتقون ولن يتقوا قال الله جل وعلا في الأنعام { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فإذا قالوا ذلك ذكرهم الله جل وعلا(20/12)
بأعظم معصية لهم إلا وهي الإشراك بالله وأن نفوسهم والعياذ بالله كانت تبتهج وتفرح إذا ذكر مع الله غيره وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم الذين لا يؤمنون بالأخره فمن أراد أن يعرف أين قربه من الله فليرى كيف حاله إذا ذكر الله جل وعلا وحده . اللهم أنا نجئر إليك أن تعيذنا أن تقر أعيننا أو تطمئن قلوبنا إلى أحد غيرك.
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطئا وَأَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}(20/13)
والتبتل و الانقطاع إلى الله جل ذكره من أعظم أسباب التوفيق بل أنه من أجل مقامات الصديقين وأعظم منازل السائرين في دروب إياك نعبد وإياك نستعين فإن الله تبارك وتعالى جعل من الانقطاع إليه سنه ماضيه في الأخيار من خلقه والأفذاذ من عباده والأتقياء من الصالحين قال الله لخير الخلق { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } وهذا الانقطاع إلى الله جل وعلا كما بينا منزلة عظيمه ذكرها الله جل وعلا في سورة الزمر في مواطن متفرقة فذكرها تارة بالتصريح وذكرها تارة بالتضمين فقال جل وعلا بالتصريح { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وقال { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } وقال جل ذكره { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فهذه الآيات وما أشبهها ومثيلاتها في هذه الصورة دعوة للمؤمن إلى أن ينقطع لربه والانقطاع إلى الله معناه إن الإنسان لا تقر عينه بشيء أعظم مما تقر عينه بالله وما يكون من الله كل شيء كان مقرباً إلى الله قرة عينك به هذا إحدى معاني الانقطاع إلى الرب جل وعلا وهذا ينجم عنه صدق التوكل على الله جل وعلا وسيأتي بيانه تفصيلاً في قوله جل وعلا { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } والآيات في هذا الشأن كثيرة لكنها تنصب على محور واحد وهو أنه لا أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعا وما دام لا أحد غير الله يملك ضراً ولا نفعا فلا يجب على القلب المؤمن أن ينقطع إلى غير الرب تبارك وتعالى(20/14)
وهذه من الحقائق العظيمة التي أرادها الله جل وعلا أن تثبت في قلوب عباده المؤمنين ولذلك الناس فريقان : فريق إذا ذكرت الله وحده عنده وكان حديثك معه فيما يتعلق بقدرة الله وجلاله وفضله وكمال عزته كان فرحاً مسروراً مستبشراً وآخرون -عياذاً بالله وأجارنا الله وإياكم من ذلك - وإن أنتسب إلى الملة لكنه يحب أن يذكر مع الله غيره حتى إذا ذكر الأولياء والصالحون والأتقياء الذين في قبورهم لا يفرح إذا ذكرت أن لله وحده القدرة وإنما يستأنس إذا ذكرت إن للأولياء والصالحين من الأنبياء أو من الملائكة أو من الأتقياء لهم قدوة ولهم مكانه فينقل أقاصيص مكذوبة عنهم تستبشر نفسه وتفرح إذا ذكر مع الله جل وعلا أحد ذو قدره قال الله جل وعلا { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} قال السيد الألوسي – رحمه الله – أحد علماء السنة في العراق قال : وقد وجدنا هذا في بعض أهل زماننا إذا تكلم عن الله وكمال قدرته جل وعلا وحده ضاقوا بنا ذرعا وإذا ذكرنا ما للموتى من الصالحين في قبورهم مالهم من قدرات وما أعطاهم الله جل وعلا من عطايا يحسبونها موجودة وهي ليس فيها إلا الوهم ظنوا بنا الظنون وأنكروا علينا الأمر وهذا كله – والعياذ بالله – من عدم كمال الانقطاع إلى الله جل وعلا ومن أنقطع قلبه إلى الله جل وعلا وحده علم أن أي أحد من الخلق لا يمكن أن يملك لنفسه فضلاً لغيره ضراً ولا نفعا ، ولقد قلنا مراراً في دروسنا أن الشافعي – رحمه الله – أهمه أمر ذات يوم فرأى في منامه من يقول له يا أبا عبدالله قل في دعائك : ((اللهم أني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعا ولا موتاً ولاحياةً ولا نشورا ولن أستطيع أن أخذ إلا ما أعطيتني ولن أتقي إلا ما وقيتني فوفقني لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية .(20/15)
)) ففرج الله عن ذلك العبد الصالح همه بعد أن ذكر هذا الدعاء. موطن الشاهد منه أنه لا يملك الضر والنفع إلا الله فما دام الأمر إلى ذلك فإن أعظم مقامات التوحيد أن يفر المؤمن إلى الله جل وعلا وينقطع إليه وحده دون سواه كما قال العبد الصالح { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } مما دلت عليه هذه السورة الكريمة من قضاياها أن الله جل وعلا ما ابتلى أحد بذنب أو بلاء أو عقوبة أعظم من قسوة القلب قال وهب بن منبه – رحمه الله - : (( ما أبتلى الله قوم بشئ أعظم من قسوة قلب )) قال الله جل وعلا { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } ومن هنا أختلف العلماء في بيانها نحوياً ولغويا لكن الأظهر كما أختاره الطبري – رحمه الله – أنها بمعنى ( عن) فيصبح معنى العبارة [ فويل للقاسية قلوبهم عن ذكر الله ] ومعنى قوله جل شأنه [ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم عن ذِكْرِ اللَّهِ] قال العلماء في بيانها جملةً إذا كان القلب معرضاً عن الله ملتفتاً إلى غيره فهذا قلبٌ قاسيٍ وإذا كان القلب مقبلاً على الله معرضاً عن غير الله فهذا هو القلب اللين وما أبتلى العبد بشئ أعظم من أن يتمثل ويتعلق بالأشباح والصور من دون الرب تبارك وتعالى ويعرض عن الله يجد أنسه وفرحته في مجالس لا يذكر الله جل وعلا فيها طرفه عين ، يجد فرحته وأنسه في مواطن يُعصى الله جل وعلا فيها جهاراً ، يجد أنسه ورغبته وحياته في سفر بعيد عن مواطن يرفع فيها الآذان وتقام فيها الصلوات .(20/16)
أما الذين ألان الله جل وعلا قلوبهم فإنهم وإن قرت أعينهم بعض الشيء ببعض المجالس المباحة إلا أن أعينهم وقلوبهم لا تقر بشئ أعظم من مواطن يذكر الله جل وعلا فيها فلما ذكر الله قسوة القلب والله رحيم بعباده أردف جل وعلا قائلاً ببيان أعظم ما يلين القلوب فقال جل ذكره { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } فبين جل وعلا أن أعظم ما يلين القلوب هو ذكر الله جل وعلا وأعظم ذكر للرب تبارك وتعالى تلاوة آياته وتأملها وتدبرها وهو ما نحن فيه هذه الساعة تقبل الله منا ومنكم صالح أعمالنا.
{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم}(20/17)
وجمهور أهل التفسير على أن هذه الآية أرجى آية في كتاب الله قالوا: أضاف الله جل وعلا العباد إلى ذاته العلية وأخبر بأنهم مسرفون في الذنوب ثم أخبر جل وعلا بعد ذلك كله أنه يغفر لهم وهذا من أعظم القرائن على أن هذه الآية هي أرجى آية في كتاب الله وقد قال بعض أهل العلم : إنه آية مدنيه نزلت في وحشي قاتل حمزة ، فإذا كان قاتل حمزة قد غفر الله له مع أن حمزة كان أسد الله محبباً مقرباً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمه وفي ذات الوقت أخوه من الرضاعة فقبل الله جل وعلا توبته وإنابته فما بالك بغير ذلك من الذنوب فالله جل وعلا أرحم الرحماء لذلك قلنا أنه ذو فضل لكنه جل وعلا حكماً ذو عدل لا يظلم الناس مثقال ذره وهذا ذكره الله في السورة فإن الله ذكر أهل الكفر فقال { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } ثم بين عدله جل وعلا قال { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} هنا ميز جل وعلا بين المعرضين عنه وبين المقبلين عليه وذكر أعظم صفات المقبلين عليه فقال جلا ذكره { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فمعنى الآية إجمالاً : إن هذا الموصوف بهذه الصفة من عباد الله وإن كان أكثر أهل العلم يقول : أنها تنطبق على عثمان ( رضي الله تعالى عنه وأرضاه ) كما حكي ذلك عن ابن عمر وغيره ، لكنها عامه في ألامه كلها .(20/18)
عبداً يقف بين يديّ الله قانتاً وهذا القنوت جاء في الآية مبهم لكن السنة بينت قال (( صلى الله عليه وسلم )) كما أخرج الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن بسند صحيح من حديث تميم بن أوس الداري ( رضي الله عنه ) قال: من قرأ بمئه آية من القرآن في ليله كتب له قنوت ليله " من قرأ بمئة آية في ليله من القرآن كتب له قيام ليله " فإيما عبد أراد بقيامه بين يدي الله أن يرجو رحمة الله لا هم له إلا أن يرحمه الله وفي ذات الوقت يتلو مخافةً من عذاب الله وتلا مئة آية من القرآن أو يزيد في ليله واحده ولو في عدة ركعات كتبه الله جل وعلا من القانتين وهذا سياق مدح عظيم من رب العالمين تشرئب إليه الأعناق وتنقطع دونه أمور الوصال قال الله { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا } قدم الله السجود على القيام لأن العبد لا يكون في موضع هو فيه أقرب إلى الله جل وعلا من موضع السجود فلهذا قال سبحانه { سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } الذين يعلمون أن الله إله وحده أحق أن يعبد والذين لا يعلمون أن الله ألاه واحد فلم يعبدوه إنما يعرف الفرق بين الأمرين والتفريق بين الحالين من كان ذا لب وعقل وإنصاف و لهذا قال جل ذكره وتبارك اسمه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } والقضية بعمومها كما بينا أن الله رب ذو فضل وحكماً ذو عدل ، وحكماً ذو عدل قال الله جل وعلا في آخر السورة { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم} أي بين أهل الكفر وبين أهل الإيمان قُضي بينهم بالحق ولم يقل الله جل وعلا بالعدل هنا لأنهم دخل الجنة من كان له ذنوب وأخرج من النار من كانت له ذنوب ، والجنة والنار مخلوقتان لله تبارك وتعالى ، هو خالق الجنة وخالق النار(20/19)
يدخل من يشاء الجنة بفضله ويدخل من يشاء النار بعدله ولا يسأله مخلوق عن علة فعله ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله جعلني الله وإياكم ممن كتب الله لهم الحسنى من قبل .
ومن البشارات أيها المؤمنون أن يكتب الله جل وعلا لأحد من الناس قبولاً في الأرض ومحبةً من الناس وذكراً طيباً قال (( صلى الله عليه وسلم )) : " هذا عاجل بشرى المؤمن "
لكن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من السرائر يصنعها العبد وقد قدمنا إن رجلاً من الصالحين يقال له أبو عثمان النيسابوري كان محبوبا من الناس ففي أخريات حياته جاءه رجل فقال له يا أبا عثمان انك لست إماماً ولا خطيبا ولا00ولا00وانني أجد الله قد وضع لك قبولاً في الأرض ومحبة فا أسألك بالله ألا أخبرتني با أرجى عمل عملته في الدين فوافق الرجل على أن يخبره شريطة إلا يحدث به الناس إلا بعد موته فحدث به السامع بعد موته 0 قال يا هذا انه جاءني رجل ذات يوم أظنه من أهل الصلاح فقال لي إني أريد أن أزوجك ابنتي فقبلت فلما دخلت عليها فإذا هي عوراء شوهاء عرجاء لا تحسن الكلام وليس فيها من الجمال مثقال ذرة فلما رأيتها رضيت بقضاء الله وقدره فأقمت معها خمسة عشر عاماً فتنت بي وليس في قلبي نحوها من الهوى والميل مثقال ذرة لكنني كنت صابراً عليها أحسن إليها ولا اخبرها عما في قلبي إجلالاً لله تبارك وتعالى حتى توفاها الله جل وعلا .(20/20)
وكان من تعلقها بي أنني تمنعني أن اذهب للمسجد والى أقاربي وأصدقائي تريدني طوال اليوم والنهار أن أكون معها فأطيعها في كثير من الأحيان ولم اخبر بهذا احدً ولم اشتكي أمري إلى احد غير الله وفعلت ما فعلت إجلالا لله فإن كان الله يقول كتب لي قبولاً فإني أرجو الله أن يكون بسريرتي هذه فمن أعظم ما تتقرب به إلى ربك أن يكون بينك وبين الله جلا وعل سريره لا يعلمها أحد من الخلق تدخرها لنفسك بين يدي الله في يوم أحوج ما تكون فيه إلى ما يكسي عورتك ويطفئ ظماك ويجعلك تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله ، فإن أعمال السرائر إذا أخلص العبد لله النية وكان له عمل سواء عملاً عبادياً محضاً بينه وبين الله أو عملاً ذا تعداً بينه وبين الخلق كإحسان لوالده أو قياماً على أرمله أو عطف على يتيم أو غير ذلك مما شرع الله مما لا يمكن لي ولا لغيري أن يحصيه فجعلته سريره تدخرها بينك وبين الله كان ذلك من أعظم البشارات لك تأتيك بشارته في الدنيا فبل الاخره الم يقل نبيكم (( صلى الله عليه وسلم )): يا بلال إنني ما دخلت الجنة إلا ووجدت دف نعليك أمامي وتعجب (( صلى الله عليه وسلم )) يدخل الجنة في منامه ورؤيا الأنبياء حق فكلما دخلها يسمع صوت خشخشة نعليّ بلال ( رضي الله عنه وأرضاه ) فأخبرني يا بلال بأرجى عملاً عملته في الإسلام ؟ فقال يا رسول الله إنني ما كتب الله لي وضوءً قط توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا و صليت لله ما شاء الله لي أن أصلي .(20/21)
فهذه سريره وأن أظهرها بلال بعارض لكن عظمتها في مداومتها وأحب العمل إلى الله جل وعلا أدومه وكلما ابتلي الإنسان ببلاء ونجح في الابتلاء كان ذلك بشارة من الله له بالثبات يوم القيامة يوم تزل الأقدام والله كما قلت في الأول حكماً ذو عدل لا يمكن أن يهبك هبه ومنزله حتى يؤهلك بالوصول إليها إذا الله أنزلك منزله أعطاك ما يعينك على الوصول إليها إما بالفقد وإما بالعطاء ، يعني أما تفقد شيء فتصبر وإما يوفقك الله لعملاً صالحاً فتصنعه .
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(20/22)
لكل من يسمع ليّ أو لغيري ولكل من يقرأ لنا أو لغيرنا لا تعود نفسك أن يرق قلبك إلى شيء أعظم من القرآن كل حياة لقلبك لو سمعت مئات المحاضرات والله الذي لا إله إلا هو لا تعدل آية واحده من كتاب الله ، الله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} المؤمن لا يريد شيء أعظم من رضوان الله ورضوان الله لا ينال بشيء أعظم من حب كلام رب العالمين جل جلاله ومن أعظم ما أثنى الله به على أولياءه والصالحين من خلقه أنهم تتصفون بثلاث صفات – رزقنا الله وإياكم إياها بإخلاص – إذا تليت عليهم آيات الله وجلُ القلب واقشعرار الجلد وذرف العين قال الله موسى وهارون وإبراهيم وإدريس وإسماعيل ومريم وابنها في سورة مريم فذكرهم بصفات متفرقة ثم أجمل قال { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} والأشياء بالتعود وأعظم ما ينصح به الإنسان ليحي قلبه أن يقوم بين يديّ الله في الليل ثم يأتي لآيات أثنى الله فيها على ذاته العلية ولا يوجد كلام أجمل وأعظم تأثيراً من ثناء الله على نفسه وإخبار الله عن ذاته بما انه لا أحد أعظم من الله فلا كلام أعظم من كلام الله وبما أنه لا أحد أعظم من الله فلا أحد أعلم بالله من الله هذه الأمور القواعد أحفظها جيداً لا أحد أعظم من الله ولا كلاماً أعظم من كلام الله ولا أحد أعلم بالله من الله فإذا جئت تقف بين يديه(20/23)